قضايا

عبد الله الفَيفي: وساوس اللُّغويِّين.. بين التأصيل والعصرنة!

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إنَّ الأصل في اللُّغة أنها وسيلة تعبير، وهي كائنٌ اجتماعيٌّ حيٌّ، ينمو بحياة الإنسان ويتطوَّر بتطوُّرها. وقد ناقشنا في المساق السابق شاهدًا على عدم مراعاة طبيعة اللُّغة تلك ووظيفتها، من خلال ما راج ويروج من تشنيعٍ على من يستعمل صفة «يتيم» لمن فَقَدَ أُمَّه، وتقريع مَن قال ذلك، والزعم أنَّه لا يوصف باليُتْم من فَقَدَ أُمَّه، وإنَّما ذلك في عالم البهائم! قائلين: اليتيم: مَن فَقَدَ أباه فقط، وأمَّا مَن فَقَدَ أُمَّه، فهو العَجِيُّ، أو المنقطع، ومَن فَقَدَ الأبَ والأُمَّ فصِفته: اللَّطيم! وذكرنا أنَّ هذه الكلمات لا تعدو صفات، جاءت لتصوِّر واقع الحال قديمًا، والحال متغيِّرة. فلقد كان الأبُ قديمًا هو الراعي؛ فإذا فُقِد تيتَّمت الأُسرة جميعًا. وما كانت كذلك الأُمُّ؛ لحال المرأة عمومًا في تلك الأزمنة. وهذا واقعٌ قد تغيَّر اليوم. بل إنَّه لم يكن واقعًا شاملًا لجميع الأزمنة والبيئات والظروف في الماضي نفسه. ومعنى كلمة (يتيم)، في الأصل: المفرَد، الخالي من مُعِينٍ ونَصير. هذا هو الأصل؛ فمن انفرد عمَّن يَعُوْلُه ويَعتمد عليه، فهو يتيمٌ لُغةً، حقيقةً أو مجازًا. كما أوردنا ما يقوله أحد الأعراب القدماء جِدًّا، وهو (حُمَيْدُ بن ثَوْر الهِلالي، -30هـ= 650م)(1)، والرَّجُل يُعَدُّ صحابيًّا، وهو شاعرٌ مُخَضْرَمٌ، لكنه، مع الأسف، لا يُحسِن العَرَبيَّة السليمة، بمقاييس أولئك المُتَفَيْهِقَة من المحدثين؛ إذ يقول:

يَظَــلُّ بِــهِ فَــرْخُ القَطـاةِ كَـأَنَّهُ

 يَتيمٌ جَفَتْ عَنْـهُ المَراضيعُ راضِعُ

فيُسمِّي مَن فَقَدَ أُمَّه، فجفتْه المرضِعات: «يتيمًا»! واستمع أيضًا إلى شاعر آخَر يشير إلى أنَّ (اليتيم) من فقدَ والديه، فيقول:

يَتيمٌ جَفاهُ الأَقْرَبونَ فَجِسْـمُهُ 

 نَحيلٌ وعَهْدُ الوالِدَيْنِ قَـديمُ

قد يقال إنَّما هذا شاعرٌ مجنون، ولا حرج عليه؛ فهو (مجنون لُبنَى، قيس بن ذُرَيح، -68هـ= 687م)(2).  ولذا مهَّدَ لجنونه اللُّغوي هذا قائلًا:

إلَى اللهِ أَشْكو فَقْدَ لُبْنَى كَما شَكا 

إلـَى اللهِ فَقْـدَ الوَالِدَيْنِ يَـتـيـمُ

ولو لم يكن مجنونًا لقال: «كَما شَكا إِلى اللهِ فَقْدَ الوَالِدَيْنِ لَطِيْمُ»، لا «يتيم»!  لكنه مجنون، مرفوعٌ عنه القلم، ولا شَرْهَةَ عليه! ويكرِّر جنونَه مجنونٌ آخَر معاصرٌ له، ولعلَّه كان أجَنَّ منه، وهو (مجنون ليلَى، قيس بن المُلَوَّح، -68هـ= 688م)(3)، فيقول: 

إلَـى اللهِ أَشْكو حُبَّ لَيْلَى كَما شَكا

  إلَـى اللهِ فَقْـدَ الوَالِـدَيْنِ يَتيمُ

*

يَتيــمٌ جَفــاهُ الأَقْرَبــونَ فَعَظْمُـهُ

  كَسيرٌ وفَقْـدُ الوَالِدَيْنِ عَظيمُ

وكأنَّ هذا المجنون قد سطا على جنون سابقه. أو قُل: سطا الرُّواة فخلطوا بين الشِّعرين. أو أنَّ تلك من الصيغ الشِّعريَّة في النظم الشَّفوي، التي حدَّثنا عنها الألماني (جيمس مونرو)، في كتابه «النَّظْم الشَّفوي في الشِّعر الجاهلي»، الدالَّة على أنَّ هذا التعبير كان من متداول الشِّعر النَّمَطي، واللُّغة المألوفة، الذاهبة إلى أنَّ صِفة (يتيم) تُطلَق على: من فقدَ والدَيه أو أحدهما، كما نألف في لُغتنا اليوم، ولا تثريب في ذلك.

على أنَّ شاعرًا آخر يبدو عاقلًا- أو على الأقل غير مجنون، في ما نعلم، والله أعلم- وهو (الحَكَم بن عَبْدَل الأسدي، -100هـ= 718م)(4)، يقول:

ولستُ بـذي شَـيخَين يلتزمانِهِ

  ولكنْ يتيمٌ ساقطُ الرِّجلِ واليَدِ

ونقول: بل الجنون تَصوُّر أنَّ ما بقي على ألسنة العَرَب، بمحكيَّاتهم إلى اليوم، إنَّما اخترعوه اختراعًا من تلقاء أنفسهم، ولم يتوارثوه عن آبائهم، مذ كان أوَّلهم،  إلى عصرنا. وهو الشاهد على لسان العَرَب القديم، لا ما دَوَّنه لنا اللُّغوي، إذ يُقطِّع أوصال العَرَبيَّة، فينتقي انتقاءً، ويهمل، أو يجهل. 

لكن ما العَجِيُّ؟ وما اللَّطيم؟

العَجِيُّ: الرضيع؛ وهو عَجِيٌّ فَقَدَ أُمَّه أم لم يفقدها.  وهي كلمةٌ ما زالت مستعملة في بعض اللَّهجات، كلهجتنا في (جبال فَيْفاء)؛ يقولون: أَعْجَتْ الأُمُّ رضيعها، تُعْجِيْه: أي أَرْضَعَتْهُ. ولهذا الاختلاط عند اللُّغويِّين تجدهم أحيانًا يُسمُّون مَن فَقَد أُمَّه عَجِيًّا، وفي الوقت نفسه يُسمُّونه يتيمًا، بيد أنَّه يأتي منهم من يُصِرُّ على حَصْر صفة (اليتيم) في فاقد الأب.  قال (ابن منظور)(5)، أو بالأصح نقلَ: «يقال للَّبَنِ الذي يُعاجَى به الصَّبيُّ (اليَتيم)، أَي يُغَذَّى به: عُجاوَةٌ، ويقال لذلك (اليتيم الذي يُغَذَّى بغير لبن أُمِّه): عَجِيٌّ.»  فإذن هو: يتيم وعَجِيٌّ معًا!  وهذا هو الصحيح، فهو يتيم: فاقدٌ لأُمِّه، عَجِيٌّ، بمعنى: رضيع بغير لبَنها هاهنا.  فلماذا عقَّد المتنطِّعون الأمر وضيَّقوا على الناس واسعًا؟!

أمَّا اللَّطِيم: فمشتقُّ من اللَّطْم، وهو ضرب الوجه.  ومن معاني اللَّطِيم عند العَرَب: من الخيل الذي يأخذ خدَّيه بياضٌ. وقيل غير ذلك. واللَّطيمُ من خَيْلِ الحَلْبة: التاسع من سوابق الخيل، وذلك أنَّه يُلْطَم وجهُه فلا يدخل السُّرادِق. قالوا: واللَّطيمُ: الصغيرُ من الإِبل الذي يُفْصَل عند طلوع نجم سُهَيْل، وذلك أَن صاحبه يأخذ بأُذُنِه ثمَّ يَلْطِمه عند طلوع سُهَيْل، ويستقبله به، ويَحْلِف أن لا يذوق قطرة لَبَن بعد يومه ذلك، ثمَّ يَصُرُّ أَخلافَ أُمِّه كلَّها ويَفْصِله منها. وقيل إنَّ اللَّطيم: الفصيل، إذا قَوِي على الركوب لُطِمَ خَدُّه عند عَيْن الشمس، ثمَّ يقال: اغْرُبْ! فيصير ذلك الفصيلُ مؤدَّبًا! ويُسمَّى لَطيمًا. وواضحةٌ التصوُّرات الأُسطوريَّة وراء هذه الممارسات والتسميات، وإلَّا ما علاقة (سُهَيْل)، و(عَيْن الشمس) بهذا؟ ولماذا يُلطَم عند طلوعهما؟ وكيف يصير الفصيل مؤدَّبًا بذلك؟!  وأردفوا: اللَّطيم: الذي يموت أبواه، والعَجِيُّ: الذي تموت أُمُّه، واليتيم: الذي يموت أبوه.(6)  فالطِّفل الذي مات أبواه يوصف باللَّطيم لأنه مُلَهَّد، غالبًا، معنَّف، مضطهَد، وربما تعرَّض للَّطم بالفعل، كفصيل الإبل.  فليس للمعنى علاقةٌ بموت الأبوَين، من حيث هو؛ غير أنَّ من مات أبواه، كان تعرُّضه للظُّلم أكثر ممَّن مات أحدهما.  وقد يكون مَن مات أبوه فقط لَطيمًا أيضًا.  ولذلك نهَى «القرآن» عن قهر اليتيم: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ، فَلَا تَقْهَرْ».  ولو صحَّ القول: إنَّ مَن مات أبواه ليس بيتيم، إذن لصار قول الرسول عن فضل «كافل اليتيم» لا يشمله، مع أنَّ حاله أسوأ من حال من فقد أباه فقط، وهو أحرى بالكفالة.

-2-

 في مقابل هذا ما يقع من بعض مجامع اللُّغة العَرَبيَّة- تحت شِعار العَصرنة- من تسويغ بعض الاستعمالات المعاصرة، التي لا أصل لها صحيحًا ولا وجاهة لُغويَّة ظاهرة.  من ذلك أن تسمع قول المعاصرين، مثلًا: «بالكاد تجد من الناس من لم يتجرع مرارة الفراق»، فإذا مَجْمَع اللُّغة العَرَبيَّة بمِصْر يهبُّ متطوِّعًا لإقرار اللفظ «بالكاد»، على أنه مصدر من الفعل المهموز «كَأَدَ»، بمعنى «شَقَّ»، و«صَعُبَ» بعد تسهيل همزته؛ ويُشار، طبعًا، إلى ما في كُتب اللُّغة من أنَّ الكأد المشقَّة، وعقبةٌ كَؤودٌ: شاقَّةُ المصعَدِ، وتكأَّدني الشيءُ وتكاءدني، أي شقَّ عليَّ... إلخ. والحقُّ أنَّ مستعمِل عبارة «بالكاد» لا يخطر في ذهنه هذا التخريج اللُّغويُّ البرجعاجيُّ البعيد عن المعنى، الذي إنَّما تمخَّض عن نزوعٍ إلى التماس التسويغ للدَّوارج المعاصرة، بأيَّة سبيل، وإنْ بلا درسٍ ولا تمحيص. ولا ندري إلى أين سيصل بنا المَجْمَع في إجازاته للعامِّي والأعجمي، بلا مسوِّغات تُذكَر؟!(7)  فأمَّا (الكأد) بمعنى المشقَّة، فتعبيرٌ مستعمَلٌ في كثيرٍ من العاميَّات المعاصرة، كما هو في العَرَبيَّة الفصحى، كقولهم عن الأمر إنه «كايد»، أي شاق، و«تكاوَدَه الأمر»، أي كَأَدَه وشَقَّ عليه، ونحو ذلك.  وأمَّا عبارة «بالكاد» فلا تبدو علاقة لها بهذا.  وإنَّما تبدو محرَّفة تركيبًا من أداة المقاربة العَرَبيَّة: «كادَ».  فعبارة «بالكاد تجد من الناس من لم يتجرع مرارة الفراق»، معناها: «تكاد لا تجد من الناس من لم يتجرع مرارة الفراق». وليس للكَأْد من مساغ في هذا السياق؛ وكأنَّ الباحث قد بحث فوجد أنه من الكائد أن يجد من الناس من لم يتجرَّع مرارة الفراق.  وليس هذا أيضًا من قبيل المجاز، كما قد يَحتجُّ بعضهم؛ لأنَّ المتحدِّث عَرَبي- مهما فسدت لُغته- ولا يُتصوَّر أن يشطح تلك الشطحة السابحة في السماء ليتكلَّف ما تكلَّفه المَجْمَع الموقَّر، ولو من باب المجاز! 

لقد كان علماء العَرَبيَّة القدماء كثيرًا ما يسألون الأعراب وغيرهم: عمَّ يقصدون ببعض استعمالاتهم؟ فيُجرون بذلك بحوثًا شِبْه استقرائيَّة ميدانيَّة. وذاك هو المنهج السليم، ولم يكونوا غالبًا، ولاسيما أوائلهم، يحكمون في معاني الألفاظ والفروق اللُّغويَّة وهم في بُروجٍ مُشيَّدة، بعيدين عن الناس في لهجاتهم اليوميَّة واستعمالاتهم الدارجة، مفترضين فرضيَّات لُغويَّة تجافي الحِسَّ اللُّغويَّ السليم، وفهم مقاصد المتحدِّثين، كما يفعل بعض لُغويِّينا المعاصرين.

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1) (2010)، ديوان حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي، تحقيق: محمد شفيق البيطار، (أبو ظبي: هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث)، 313/ 2.

(2) (2004)، ديوان قيس بن ذُرَيح (مجنون لُبنَى)، عناية: عبدالرحمن المصطاوي، (بيروت: دار المعرفة)، 111.

(3) (1979)، ديوان مجنون ليلى، تحقيق: عبدالستار أحمد فراج، (القاهرة: مكتبة مِصْر)، 190.

(4) الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبَّاس وإبراهيم السعافين وبكر عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 2: 274.

(5) (6) يُنظَر: لسان العَرَب، (عجا)، (لطم).

(7)  يشار هنا، مثلًا، إلى ما أجازته لجنة الألفاظ والأساليب بمَجْمَع اللُّغة العَرَبيَّة في (القاهرة)، يوم السبت 9 سبتمبر/أيلول 2023، من استخدام لفظ «التِّرِنْد trend»، قالت: وجمعها «ترندات«، لتضاف إلى معجم العَرَبيَّة.  وكأنَّ هذا فتحٌ لُغويٌّ عظيمٌ انشغل به المَجْمَع في شأن مصطلح عِلمي عويص، ما كان عنه من مناصٍ ولا بديل، يعلم الله وحده كم أنفق «مَجْمَع الخالدين« فيه من البحث والنقاش والوقت حتى توصَّل إلى تلك الإجازة الإنجاز!  وهذا الإفلاس نفسه هو ما أصبح في حينه «ترندًا« على منصَّات التواصل الاجتماعي في العالم العَرَبي، بين مستهجن ومحتفل بهذه المناسبة السعيدة بالمولود الجديد!

 

في المثقف اليوم