قضايا

علاء اللامي: إشكاليات أركون المنهجية بمنظار العلوي (3)

3- خرافة الصراع الطائفي "السُني الشيعي" يقسم التاريخ الإسلامي

الصفر المنهجي ونرجسية الباحث

في نقده لأبحاث الراحل محمد أركون، يسجل الراحل هادي العلوي سلبية منهجية مهمة في أبحاث زميله هي اشتراكه مع كتاب أوروبيين وعرب في خطأ شائع لكنه مقصود أكثر مما هو متعلق بالسهو، مع أن احتمال السهو وارد، وهو الانطلاق من الصفر بحثيا. ويعني بالصفر البحثي الانطلاق من تجربته التأليفية وإهمال المتراكم من النصوص ذات العلاقة. وخصوصاً لدى تصديه لنقد الاستشراق الكلاسيكي لتوطيد ما يسميه أركون (فكر ناقد يصحح المسلمات السالفة عن الإسلام، أي تناول الإسلام من جديد)، الأمر الذي يعني إحراق مكتبة كاملة من المجلدات المنتجة طوال قرن كامل، وإلغاء مدارس وتيارات وإنجازات بحثية مهمة تحت ذريعة ما يسميها العلوي "العصبية المنهجياتية"، أي ما يمكن ان نسميه "النرجسية التأليفية" التي تعتمل في نفس الباحث، فتخل بنزاهته البحثية ودقته المنهجية.

وفي هذا الصدد نجد، أن أركون يلتقي مع الجوهر العام لما يقوله العلوي فيكتب ناقدا هذه العصبية المنهجية في واحدة من صورها الأكثر كاريكاتورية وهي نزعة التخصص الأوروبية المبالَغ بها كثيرا (نلاحظ أن كل باحث علمي ينغلق الآن داخل جدران اختصاصه الضيق، ويدافع عنه كأنه عرينه الخاص. ثم يقوم بالبحوث التجريبية، ويراكم معلومات كثيرة عن مجال اختصاصه، ولكن من دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة ويتساءل عن جدوى هذه المعلومات أو مغزاها العميق/ ص 18 /الفكر الأصولي واستحالة التأصيل/ أركون)

ولا ينسى العلوي أن يفرق هنا، بين "الانضباط العلمي" و"الدقة العلمية" فالأول هو مطلب أيديولوجي يتمسك به الباحثون الغرضيون أو الذرائعيون، حزبيين كانوا أو أشباه حزبيين. والثاني هو مطلب علمي لا ينبغي التخلي عنه أو التهاون فيه. كما يكرر أركون أخطاء باحثين ذوي نزعة أورومركزية واضحة، حين يكرر ويعدل وجهات نظر من قبيل القول بأن العالم الفكري للإنسان القروسطي يهيمن عليه وفي كل المستويات مفهوم وجود الله كخالق كامل القدرة. أي أنه يحدد الأفق المعرفي لكل فكر وأن المعقولية – كما يرى أركون بحسب العلوي - في العلم والفكر تحدد في زمن مُقَدَّر من الله ورمزي، و"أن العقلانية والملاحظة والتجربة التي يشهد عليها تاريخ الفكر والعلم العربسلامي يجب أن لا تُفهم خارج سياقها الفكري. ص 168 محطات".

ولنا على هذا المأخذ الذي يسجله شيخنا العلوي عدة ملاحظات: فأولا نحن لم نقع على أفكار بهذا الوضوح في مؤلفات أركون المترجمة، غير أننا لا نستبعد ورودها بشكل من الأشكال وصيغة ما. وثانيا، فنحن نعتقد أن الدعوة لفهم العقلانية والملاحظة والتجربة التي يشهد عليها تاريخ الفكر والعلم العربسلامي داخل السياق التاريخي الفكري هي دعوة صائبة علميا و ديالكتيكيا، أما وصفها من قبل العلوي بأنها "سياسية أكثر منها دراسية"، وتشخيصه للهدف منها بأنه إنكار الإنجاز العلمي والفكري للحضارة العربية الإسلامية، ورفض الإقرار بمكانة الثقافة الشرقية – وبضمنها العربسلامية – والإصرار على إبقائها خارج قاموس الثقافة العالمي، وشطب التراث من ذاكرة العرب المعاصرين لتسهيل اندماجهم في الغرب كأتباع فهو كلام إتهامي مبالغ فيه، ويحتاج إلى فحص وتدقيق؛

زحزحة التراثات الإبراهيمية

فالمطلع جيدا وبتمعن على أغلب أبحاث أركون، يشهد أن هدفه التطبيقي -وليس المعلن بلسانه فقط- كان إدماج التراث العربسلامي وأجزاءه العقلانية خصوصا ضمن سياقات الثقافة العالمية وهو بهذا المسعى لا يبتعد كثيرا عن مسعى الباحث الماركسي الشهيد حسين مروة. إن أركون هو صاحب مفهوم "إحداث الزحزحة في "التراثات" الثلاثة الإسلامية واليهودية والمسيحية، وإدماجها في سياق بحثي عقلاني نقدي واحد"، كما عبر عن ذلك في مؤلَفه " أين هو الفكر الإسلامي؟ / دار الساقي" حين صرَّح موضع ذاك برغبته أولا في زحزحة الإشكالية الإسلامية الخاصة بالقرآن من أجل التوصل إلى مقاربة أنثروبولوجية للأديان المدعوة بأديان (الوحي).

كما أراد – ثانيا - دفع الفكرَين، اليهودي والمسيحي، إلى القيام بالزحزحة نفسها من أجل دمج البحث القرآني داخل بحث مشترك حول المكانة الإناسية "الأنثروبولوجية" للخطاب الديني الحامل للوحي. كما أراد – ثالثا - تبيان الأضرار الناجمة عن اختزال الظاهرة الدينية إلى مجرد صيغ عابرة وزائلة واستلابية. ثم أن هذه المآخذ لا تخلو هي نفسها من المحتوى الأيديولوجي والأفكار المسبقة التي يساعد غالبا على ترسيخها وانتشارها سوء الفهم والترجمة من قبل المتلقي أو سوء التعبير عن الفكرة من قبل الباحث المعني.

ولكن نقد العلوي لفكرة أركون عن سيادة مفهوم وجود الله في العالم الفكري "القروسطي" صائبة وتخرج عن هذا الإطار. فتاريخ الفكر الصيني مثلا يخلو من موضوعة ومفهوم "الله" كما عرفته ووصفته الديانات الإبراهيمية السامية الثلاث التي يختصرها العلوي في كلمة "اليهمسلامية" أي اليهودية والمسيحية والإسلامية، وبالتالي فهذه الفكرة الأركونية خاطئة وقاصرة ومحدودة إطاريا.

ولتوضيح هذه المعلومة المفاهيمية نقول بأن المطلق الإبراهيمي "الله" يختلف تماما عن المطلق الصيني في "التاو" بل هو منعدم كمقولة ومفهوم في الفكر الصيني القديم والجديد. المطلق الصيني أقرب إلى هيولي أرسطو، فليس ثمة مفاهيم من قبيل خالق ومعبود ورب واحد أو مجموعة أرباب هنا، بل توجد سلسلة الثنائيات المتقابلة المعبر عنها بالين واليانغ، الذكر والأنثى، والسالب والموجب، والفاعل والمنفعل، ضمن مدرسة وفكر التاو "الصراط". ومن الطريف هنا أن نذكر أن المرادف الحرفي لكلمة "الله" في اللغة الصينية كما يخبرنا العلوي هو "رئيس المسلمين"! وثانيا، لأن الفكر الإسلامي وبضمنه علم الكلام، لم ينشأ بالارتباط مع مشكلة الإلوهية. فعلى سبيل المثال، نجد أن علم الكلام "الجبري" بدأ بتأسيسه أنصارُ الأمويين حين تبنوا "الجبرية"1 لتبرير سياسات دولتهم الاستبدادية في طور تأريخي انعدمت فيه الدول غير الاستبدادية. وثالثا، فنحن نجد أن جميع مؤسسي علم الكلام المضاد للجبرية سواء كانوا من القدرية أو من غيرها ذبحهم الأمويون لاشتراكهم في ثورات وتمردات مسلحة ضدهم.

المشكلات الزائفة والأخرى الحقيقية

أما السياسي حقا، والطافح بالرائحة الأيديولوجية المغرضة، فهو ذلك التقسيم لمشكلات العالم الثالث والذي ينسبه العلوي لأركون ويقسمها بموجبه إلى قسمين: مشكلات يسميها زائفة وهي تلك الخاصة بمقاومة الهيمنة الغربية وتطوير أيديولوجيات الكفاح والمقاومة من أجل الاستقلال والتنمية والحداثة من دون إلحاق أو تبعية، ومشكلات يسميها أساسية وحقيقية تتعلق بالعجز عما يصفه أركون استيعاب المعرفة الغربية التي "يجب أن تتكامل بالتحرر من خرافة الشرق المقاوم للغرب"، إذ يبدو أن ما يهم أركون بالدرجة الأولى هو الهم المعرفي والثقافي عالميا وليس الاستغلال والهيمنة الاقتصادية والثقافية والأمنية وتأبيد التخلف والاستبداد وحروب الإبادة التي يشنها المركز الغربي ضد شعوب العالم الأخرى في الجنوب العالمي  قبل وبعد حربين "عالميتين" ضاريتين. وعلى هذا يمكن القول إن نقد العلوي للجانب المعرفي من تقسيم أركون للمشكلات العالمية العامة محق وصائب وضروري.

يكرر أركون أيضاً مقولات الاستشراق التقليدي بخصوص التوتر والصراع الطائفي بين السُّنة الشيعة في التاريخ العربي. وقد ناقش هذه الموضوعة "الخرافة" ضمن ما سماه "الانقطاع بين الإسلام السُني العربي والإسلام الشيعي الفارسي".

وبهذا الصدد يسلط العلوي نقده التاريخي على الأمور المفصلية التالية:

فهو يدحض مقولة "الإسلام السُّني العربي" بوصفه المهيمن في عصرنا الراهن من خلال الإحصائيات الموثوقة والتي تقول إن السُّنة العرب يشكلون من الناحية الديموغرافية نسبة بسيطة من الإسلام السُّني الممتد في قارات آسيا وأفريقيا. وأن هناك أمما غير عربية، عديدها السكاني بمئات الملايين من المسلمين السُّنة كالفلبين وإندونيسيا والهند.

كما أن هناك صعوبة جدية في مسألة التحقيب الزمني لظهور الطائفتين الشيعية والسُّنية ما يهدم أركان هذه النظرية الاستشراقية. إضافة إلى أن الصراع الذي أعقب ظهور المسلمين السُّنة كطائفة، لم يكن مع المسلمين الشيعة فحسب، بل مع جميع الفرق والطوائف الإسلامية الأخرى كالخوارج والمعتزلة والأشاعرة من منطلق أن المذهب السني هو مذهب الدولة والمذاهب الأخرى مذاهب المعارضة غالبا. إن الصراع الذي حكم تاريخ الحضارة الإسلامية لم يكن الصراع الطائفي بين الشيعة الفرس- لنلحظ عَرَضا أن هذا الخطاب يلغي وجود الشيعة العرب تماما - والسُّنة العرب، وكلا الفريقين لم يكن له وجود كياني قبل عصر الخليفة المتوكل العباسي والإمام الباقر (خامس أئمة الشيعة الاثني عشرية)،  بل بين الدول وبين المعارضات، بين الحكام والشعوب، وهو صراع طبقي بحت انتهى أحياناً بغلبة الثوار في مطارح محدد جغرافيا فأشادوا الدول الجديدة والمجتمعات المساواتية "المشاعية" كمجتمع "المعشر القرمطي" في جنوب العراق وشرقي العربيا "الجزيرة العربية"، مثلما أدى أحيانا الى نجاح الثوار والمتمردين في بناء دول إمبراطورية لا تختلف كثيرا عن الدولة التي ثاروا ضدها كما هي الحال في الدولة الفاطمية بمصر والأموية في الأندلس. وقد أدى أيضا في حالات فشل الثورات والتمردات إلى ترسيخ حكم السائدين طبقيا أو الغزاة الأجانب وقد يتخذ شكل سيادة حكم تحالفي بين أولئك وهؤلاء.

الصراع السني الشيعي لا يقتسم تاريخ الإسلام

إن نفي تاريخية مقولة "الصراع السني الشيعي يقتسم تاريخ الإسلام" لا يعني إنكار وجود الانقسام الفِرَقي المذهبي في المجتمعات الإسلامي في العصر الإسلامي. ولكننا هنا ننظر لهذا الشكل المذهبي للصراع على انه غلاف أيديولوجي مناسباتي لصراع اجتماعي أعمق غورا. تقدم لنا التجربة العراقية التاريخية في القرن الحادي عشر الميلادي مفاتيح مهمة في السنوات الأولى التي تفجر فيها الصراع ذي الشكل والأدوات الطائفية بين سنة وشيعة (والمقصود هنا الشيعة الإمامية الاثني عشرية وليس الطوائف الشيعية الأخرى كالزيدية أو الفاطمية الإسماعيلية ...) في عاصمة الخلافة بغداد منذ القرن الرابع الهجري الحادي عشر الميلادي.

وعلى هذا فإن مقولات من قبيل " الشيعة كانوا دائما الكيان المعارض الأهم للسلطة السياسية القائمة في التاريخ الإسلامي، كما يقول علاء طاهر مثلا في كتابه "نشوء الدور السياسي للمدن ص 190". فالكاتب هنا لا يسمي أي شيعة يقصد أولا، والشيعة بكل أنواعهم لم يكونوا الطرف المعارض والمتمرد على الدولة الوحيد بل كان هناك العباسيون والخوارج بمختلف فرقهم وغيرهم، وهناك أيضا الشيعة الفاطميون الإسماعيليون الذين تحولوا من المعارضة الى حكم دولة مستقلة بهم. أما القول بأن "الشيعة استمروا ثائرين في السرد والعلن ضد الدولة لأنهم كانوا يقيسون كل حاكم بما عندهم من مقاييس الإمامة فيرونه ناقصا غاصبا" كما يقول علي الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين ص 256" فليس صحيحا البتة، فهو لم يحدد أي فرقة من الشيعة يقصد أولا، وحتى إذا كان يفهم من كلامه انه يقصد الشيعة الإمامية الاثني عشرية فهو مخطئ لأن هؤلاء مالوا الى المسالمة وفضلوا القلم على السيف بعد كارثة كربلاء ولم يصطدموا بالدولة حتى نهاية سلسلة أئمتهم الاثنا عشر. وقد انصب جهد أئمة الشيعة الاثني عشرية على تأسيس فقه طائفة مسالمة منذ عهد إمامهم علي بن الحسين "السجاد" وابنه محمد الباقر، وقد بلغ ذروته في عهد ابنه جعفر بن محمد صاحب المذهب الفقهي المعروف باسمه؛ أما الثوار الحقيقيون فقد كانوا في غالبيتهم من ذرية الحسن بن علي ومنهم محمد النفس الزكية.

أما حين نتكلم عن صدامات الشيعة والسُّنة كجمهورين لطائفتين متخاصمتين فنحن نلاحظ عبر الرصد التأريخي بأن هذا العداء والاستقطاب الطائفي لم يكن ليستعر  ويتحول إلى صدامات مسلحة بين البغداديين إلا في حالة دخول غاز أجنبي على مسرح الأحداث، وكأننا أمام صورة تراثية قديمة لما حدث قبل عقدين تقريبا حين دخل الغزاة الأميركيون المشهد العراقي، فتفعلت كل العداوات والأحقاد الطائفية والعرقية ودخل المجتمع في حالة انتحار داخلي واسع النطاق شجع عليه المحتل واعوانه في الأحزاب والجماعات السياسية المتحالفة معه او التي تراهن على التحالف معه لاستعادة الحكم الذي فقدته وتحولت الدولة الواحدة الموحدة إلى ثلاث دويلات طائفية عرقية مستقلة فعليا ولكل منها قيادتها وحصتها من الموازنة المالية ومن المؤسسة التشريعية والأمنية والسلطة التنفيذية والقضائية ولا ينقصها إلا الاعتراف الدولي وعضوية الأمم المتحدة.

إن رصد الصدامات بين البغداديين الشيعة والسنة في القرن الحادي عشر الميلادي وخلال الصراع بين البويهيين الشيعة والسلاجقة السُّنة للسيطرة على العراق العباسي يؤكد لنا هذا المعنى الجوهري والقائل إن الصراع آنذاك بين الفرقتين البغداديتين أو الجمهورين كان أقرب إلى الصراع الفولكلوري الشعبي مما هو صراع ديني وطائفي ومذهبي إلا لناحية الشكل الخارجي. لقد كانت تلك الصدامات أقرب إلى صدامات بين مشجعي فريقين لكرة القدم أو لمطربين شعبيين مشهورين بفعل التحريض والحضِّ الخارجي. وتراثيا نضع أيدينا على حوادث من ذلك العهد توحد فيها المتصارعون المتصادمون من الشيعة والسنة ضد شرطة الدولة العباسي ودخلوا في طور آخر من أطوار العراك والصراعات العنيفة وهكذا.

النزعات الطائفية ببغداد القرن 11م

ومن هذا القبيل ما تخبرنا به كتب التراث ومنها كما يوثق د. محمد فياض في كتابة "التشيع الشعبي في العراق" بما حدث سنة 363 هـ / 973 م "عندما أفلست الخزينة العامة وحاول أحد الأمراء البويهيين (الشيعة) ويدعى بختيار أن يعوض هذا النقص فوضع يده على إقطاع سبكتكين قائد الأتراك والممثل لأهل السنة فما كان من الأتراك إلا أن ثاروا واستولوا على المدينة (بغداد) وأخرجا بختيار وحدثت صدامات في المجتمع حيث تحزب عوام السنة لسبكتكين لأنه كان سنيا وثار عوام الشيعة متحزبين لبختيار وحدث الصدام العنيف بين الطرفين الذين تم استقطابهم وسفكت الدماء..."2. والكيد أن جمهور الفريقين لم يتوقف عند حقيقة أن البويهيين الفرس والسلاجقة الأتراك كانوا غزاة محتلين متغلبين على الخلافة العربية الإسلامية بقوة السلاح!.

مثال آخر من الكتاب ذاته حيث ينقل لنا د. فياض عن كتاب ابن تغري "النجوم الزاهرة ج5 ص 68" وكتاب ابن الجوزي "المنتظم ج15 ص 325" وكتاب " تاريخ الإسلام" للذهبي وغيرها ... ينقل لنا التفاصيل المعبرة وذات الدلالات الطبقية التالية: حيث حدث الصِّدام سنة (441 هـ/1049 م) بين السنة والشيعة ببغداد وكان صداما شرساً حتى قال عنه ابن الجوزي "وجرى بين أهل السنة والشيعة ما يزيد عن الحد من القتل والجراحات". فقام أهل الكرخ بهدم الأسوار من مناطق قريبة وبنوا بآجرها سورا يحصنون به الكرخ، وما أن رأى أهل السنة ذلك حتى دفعهم إلى بناء سور على سوق القلائين وكالعادة رأى الكبار في تصرفات العامة ما يخدم سياساتهم فبدأت عجلة الدعم المادي من الأتراك في الدوران من خلال توفير الأدوات والأموال وبدأ الطرفان في النكاية لبعضهم فهدموا أسوار بعضهم واستخدموا الآلات الموسيقية في حالة كرنفالية من النكاية والعناد. وكان منطقياً أن يشتعل الصدام بين الطرفين حتى اشتد الأمر وتساقط الجرحى والقتلى من الطرفين. وتطورت الأمور واستخدم الدين كالعادة في السياسة، فصدحت المآذن المذهبية مثل كل صِدام فكانت المآذن السُّنية تصدح بـ "الصلاة خير من النوم" والشيعية بـ "حي على خير العمل". وتعطلت الأسواق وتدخل صاحب الشرطة أبو محمد النسوي للسيطرة على الأمراء وبالفعل قتل جماعة من الطرفين، ولكن ذلك لم يهدئ الوضع بل زادت الأحداث سخونة وتطورت إلى إحراق البيوت والمحلات واستغل العيارون حالة الفوضى الضاربة في المجتمع. واستمرت الحال حتى بداية العام التالي 442 هـ / 1050م. وتحرك صاحب شرطة بغداد ليضبط الامور وقتل جماعة من الطرفين وهنا حدث امر عجب: وتلاقى الأضداد وتصالح السنة والشيعة ووقفوا كلهم ضد ما اعتقدوه تعسفاً من السلطات او ضد شخص مكروه لدى الطرفين هو النسوي صاحب الشرطة واتفقوا على قتله وقاموا بالفعل بالتنفيذ فتفرق دم السلطة المتمثل في صاحب الشرطة بين الضدين من العناصر الشعبية السُّنية والشيعية في مشهد له دلالاته الشعبية البالغة الأهمية!.

أما اللقطات التي تمثل غرابة بدورها هي أن أهل السنة سمحوا للشيعة بالآذان بأذانهم الشيعي في مناطق السنة وكذا فعل الشيعة وسمحوا للسنة بالأذان بأذانهم في مناطقهم. والأكثر غرابة من كل هذا هو اختلاط الفريقين وذهابهم مجتمعين لزيارة مشهد الأمام علي ومشهد الحسين بن علي. وتزداد الأمور غرابة وطرافة حيث مر الجميع في أحياء بعضهم البعض ونثر أهل الموضعين الدراهم أثناء مرورهم من حاراتهم وكأننا في مشهد من مشاهد كرنفالات الانتصارات أو الأعياد الكبرى. فاستقرت الأوضاع ورخصت الأسعار، ولكن هذا الصلح لم يدم طويلاً فانفجر الوضع انفجارا مروعاً في العام التالي". 3 وهنا أيضا فالدلالات واضحة وكلها تؤكد أن ما يسميه بعض الباحثين المعاصرين من "صراع سني شيعي كان يقتسم تاريخ الإسلام والمسلمين" لا يتعدى هذه الصدامات المناسباتية التي يغذيها ويسعرها الوجود الأجنبي الغازي (البويهي والسلجوقي قديما والاحتلال الأميركي حديثا) والتي مهما بلغ عنفها فهي تبقى قشرية ومشروطة بظروفها ولا تنسحب بالتالي كظاهرة تغطي تاريخ الإسلام والمسلمين. دع عنك أن المسلمين الشيعة يبقون أقلية وسط بحر الغالبية الإسلامية السُّنية التي تناهز نسبتهم الثمانين بالمئة مثلما يبقى العرب السنة أقلية في بحر الإسلام غير العربي في العالم المعاصر.

يمكننا هنا ان نستنبط المزيد من الاستنتاجات والقناعات المتعارضة مع فكرة "الماهية الصراعية الطائفية الشيعوسنية للتاريخ الإسلامي" التي يقول بها أركون وزملاؤه الغربيون والعرب ومن ذلك:

-إن التعددية الدينية والطائفية ليست نبتا شيطانيا بل هي جزء جوهري من تاريخ المشرق العربي السامي منذ العصر السومري في بلاد الرافدين وهي لم تتحول إلى حالات التنازع العنيف إلا تحت تأثيرات طارئة وظروف خاصة من أهمها الغزو الأجنبي، ولكنها لم تتحول إلى صراع طائفي مستدام يقسم تاريخ الإسلام والمسلمين.

-إن الصراع الحقيقي الذي يستغرق تاريخ الإسلام والمسلمين منذ ظهور الإسلام كان صراعا طبقيا اجتماعيا بين السادة والعبيد، بين الأغنياء والفقراء، بين الحاكمين والمحكومين وعبر سلسلة متواصلة من الثورات والانتفاضات والتمردات المسلحة والحروب الأهلية على امتداد الدول العربية الإسلامية العباسية شرقا والفاطمية وسطا والأموية غربا حتى نهاية العصر الإسلامي. وهو صراع - كما أسلفنا - لا يختلف من حيث جوهره هذا عن الصراعات التاريخية في الأمم الأخرى.. يتبع.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

........................

هوامش الفصل الثالث

[1] -الجَبْرية أو المجبرة: فرقة كلامية ضمن التراث الإسلامي جوهر عقيدتها هو أنها تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخير لأنه لا قدرة له على اختيار أفعاله. وقد شجعت الخلافة المورية هذه الفرقة حتى صارت او كادت فرقتها الفلسفية الرسمية لأنها تبرر كل ارتكاباتها باسم الجبر والقدر الإلهي المحتوم على البشر. وعكسها تماما الفرقة القدرية والتي تؤمن بأن الإنسان مخير لا مسير ويمكنه اختيار وتقرير أعماله. والطريف أن فرقة القدرية تعني عكس اسمها فهي لا تؤمن بالقدر المحتوم وقد عومل فلاسفة وعلماء هذه الفرقة بقسوة بلغت حد التصفيات الجسدية لمؤسسيها معبد الجهني البصري الذي أمر بقتلة عبد الملك بن مروان وغيلان الدمشقي الذي أمر بقتله هشام بن عبد الملك. أما الوسطيين بين الجبريين والقدريين فهم الأشاعرة الذين يعتبرون عقيدتهم وسطا انتقائيا بين القدرية والجبرية، ولكن المعتزلة والماتريدية اعتبروا أن الأشعرية بمثابة جبرية لأنهم حسب رأيهم رفضوا العقيدة الصحيحة المتمثلة في الإرادة الحرة. وكذلك استخدم الشيعة (الزيدية والاسماعيلية والإمامية الإثني عشرية) مصطلح الجبرية أو المجبرة متهمين بها الأشعريين والحنابلة. مع أن الحنابلة والسلفيين عموما ينتقدون جميع الفرق الكلامية مثل القدرية والجبرية والمرجئة والجهمية المعتزلة.

2 - فياض د. محمد –التشيع الشعبي في العراق – ص 105 – دار روافد للنشر والتوزيع – ط1 – القاهرة – 2016.

3- المصدر السابق ص 340.

في المثقف اليوم