قضايا
أكرم عثمان: رأس المال النفسي.. الثروة المنسية في المنظمات

تخيل معي رحلة يكون همها جمع الثروة والمال، لكنها تفتقد إلى روح الحياة التي تنبض بالعطاء والنظرة الإيجابية إلى البشر من حولها. كم تكون قاسية تلك الرحلة حين يهمش أناس فاعلون في محطاتها وأماكن تواجدها، ولا يعطون وزناً أو قيمة، رغم أنهم اللاعبون الحقيقيون في جميع المشاهد كلها، لذا ينظر في عالم الأعمال إلى أن كثيراً من المؤسسات تركز على رأس المال دون غيره، وتغفل عن أهم ثروة تملكها: رأس المال النفسي للموظفين. فهذه الكنوز لا تقاس بالأرقام، إنما هي قوة كامنة ومحرك أساسي للإبداع والإنتاجية وبناء الانتماء والولاء.
وتبدأ خسارة هذا الاستثمار النفسي من لحظة شعور الموظف بأنه لم يعد ذا قيمة، عندما يعامل بغلظة وقسوة وسلطة مركزية سلبية، فيفقد الاحترام والتقدير لشخصه وجهوده، وينكر جميله ومواقفه النبيلة التي بذلها في عمله. يتجاهلون ما أفناه من عمره في خدمة المنظمة، يبني معها أحلامها، ويسهر الليالي ويتعب في نهاره حتى تقف شامخة قوية، تشع نوراً وتبلغ نجاحات مذهلة، بينما يبقى هو في مكانه بلا حراك نحو التدرج إلى مناصب متقدمة. ينسى جهده، ولا يحفز ليكون له نصيب من الإنجازات، أو أسهم في منظمته، أو حتى تكريم يليق بعطائه. ثم فجأة، بعد سنوات من العطاء، يصبح في نظر البعض عبئاً وحملاً ثقيلاً بدلاً من أن يكون عموداً من أعمدة النجاح والازدهار.
إن التقدير الذي يستحقه الموظف ليس كلمة عابرة أو شهادة شكر في خطاب سنوي أو نهاية العام، بل هو سلوك يومي ونهج مؤسسي قائم على فكر استراتيجي يترسخ في السياسات والخطط قبل أن يظهر في الشعارات والمواقف العشوائية والحالات الطارئة والمفاجئة. عندما تزرع الاحترام في بيئة العمل، وتمنح الموظف الإحساس بكرامته وتدعم دوره ومهام عمله، وتسهم في نموه وتطوره الشخصي والمهني، فأنت تؤمن الاستثمار الحقيقي الذي لا تهزه الأزمات ولا تسقطه التحديات.
تذكر دائماً: المنظمة والمؤسسة والكيان الذي يحافظ على رأس ماله النفسي تبني قوة ومنعة لا تقهر، ولا تخسر في تدوير الموظفين الذين يتظاهرون بالغياب أو يتركون المنظمة للبحث عن منظمات أخرى تستوعب طاقاتهم وكفاءاتهم. بلا شك ستتحقق إنجازات لا تخبو ولا تنطفئ.
فليكن توجهنا نحو بناء ثقافة مؤسسية تمنح الموظف ما يستحقه من تقدير وفق منظومة تضعه في سلم الأولويات والاهتمامات. فإذا كان الزبون أغلى ما نملك، فلا بد أن نضع في الحسبان أن الموظف كذلك أغلى ما نملك؛ فإذا اعتبرنا أن الزبون ملك، فالموظف لدينا ملك غير متوج، فالذي يتمتع بالراحة النفسية والصحة والطمأنينة يحقق الانتماء والولاء للمنظمة، ويصل باحترافيته ولطفه إلى الزبون، فيعامله كما يُعامل هو من قادته ومسؤوليه.
قبل أن نخسر أهم أصولنا التي لا تشترى بالمال ولا يمكن أن تعوض، فطرد الكفاءات خسارة لها تبعاتها وأثرها السلبي على المدى البعيد والاستراتيجي. فلنحافظ على رأس المال النفسي ليستمر عطاء الأفراد والطاقات الخلاقة في المنظمة، وتظل رسالتها وأهدافها متقدة تمضي قدماً نحو النجاح والتميز.
***
د. أكرم عثمان
11-9-2025