قضايا
حيدر عبد السادة: علي شريعتي ورحلة البحث عن الإنسان

يؤكد شريعتي على أن أولى معارف الإنسان، معرفته لنفسه، فبدونها يستوعبنا نوع من اللاوعي الأسود، وهذا هو عين النقص الفجيع الذي حرم إنسان هذا العصر، من الفهم الصحيح لمعنى الحياة ومفهومه الوجودي، بالرغم من نجاحاته الباهرة في عالم العلم. وليس مبالغاً لو قيل، أن السبب الأساس في احباط جميع الجهود العلمية والاجتماعية والإيديولوجية المبذولة في سبيل سعادة الإنسان، أو على الأقل، اعطاءه نوع من الشعور بالسعادة، يكمن هنا، وهو أن الإنسان، الذي هو الموضوع الرئيس لكل هذه الجهود والنجاحات، قد بقي مجهولاً أو منسياً بشكل من الأشكال. وحتى بالنسبة للحياة، فيمكن للإنسان أن يعيش كيف ما يريد، ولكنه لا يعلم كيف؟ لأنه لا يدري لماذا؟. وشريعتي هنا يريد أن يبين افتقار الإنسان للهدف المنشود، فيبقى الإنسان عبثياً من حيث وجوده وأفعاله ما لم يكن هنالك هدف. ومن هنا يتبين لماذا عجزت الإيديولوجيات الحديثة، التي تسعى لتحل محل الأديان القديمة، عن تلبية احتياجات الإنسان الأساسية، وبالتالي إما أن وصل الإنسان إلى التفاهة، أو أنه أصبح رهين القيد. نتيجة هذا الإبهام، يبحث شريعتي في الأسس الرئيسة والمشتركة والمتفق عليها من قبل المدارس العلمية والدينية والاجتماعية الكبرى، ويجمعها شريعتي تحت أسم (أصالة الإسلام)، تحديداً في كتابه (الإسلام ومدارس الغرب)، ويحدّها بأنها: المدرسة التي تعلن عن أن هدفها الرئيس هو نجاة الإنسان وكماله، وتعتبر الإنسان موجوداً شريفاً، وأن الأصول التي تقترحها هي على أساس تلبية الاحتياجات الرئيسة التي تشكل النوعية الإنسانية. ويرجعها شريعتي إلى أربع مدارس فكرية كبرى، وبالرغم من اختلافاتها الرئيسة وتضادها مع بعضها، فإنها تشكل البحث عما أسماه شريعتي بـ (أصالة الإنسان). وهي: الليبرالية الغربية، الماركسية، الوجودية، الدين. تعتبر الليبرالية الغربية نفسها الوارث الأصلي لفلسفة أصالة الإنسان وثقافتها في التاريخ، وتعتبر ذلك تياراً فكرياً ثقافياً، بدأ من اليونان القديمة، ووصل إلى كماله النسب في أوربا المعاصرة. وتنطلق هذه النظرة من النظرية الخاصة لميثيولوجيا اليونان القديمة، التي تؤكد على وجود مسافة ومنافسة وتضاد بين السماء والأرض، بين عالم الآلهة وعالم الناس. وتقرر أن الآلهة هي قوى ضد الإنسان، وإن جميع جهودها وأحاسيسها تقوم على سلطتها الجبارة على الإنسان وتقييده بضعفه وجهله، لأنها تخشى وعي الإنسان، وحريته، واستقلاله وسيادته على الطبيعة. وعلى هذا الأساس، كانت أصالة الإنسان اليونانية، تسعى للوصول إلى أصالة الإنسان بجحودها للآلهة وإنكار سيادتها، وقطع حبل عبودية الإنسان-السماء. لذلك كان الاهتمام بتلك العناصر التي تبدع للإنسان السلطة واللذة. أما في القرون الوسطى، فقد أوجدت التضاد ما بين السماء والأرض، لكنها أظهرت الإنسان محكوماً جبرياً لمشيئة الله ووضيعاً في الأرض، لذلك ادعت أن طريق سعادة الآخرين الوحيدة هي التبعية العمياء والانتساب التقليدي الأعمى لهؤلاء، والانتماء للمنظمة الرسمية التي تدار بواسطة هذه المظاهر الرسمية لله في الأرض. ولهذا تُباد أصالة الإنسان في القرون الوسطى. أما ثاني الاتجاهات الفكرية، وهو الماركسي، الذي ذهب إلى أن الوصول إلى تفتح القابليات الإنسانية يتم عن طريق حرية الأشخاص والأفكار في التحقيق العلمي والمواجهة الفكرية والإنتاج الاقتصادي. والماركسية هنا تعرّف نفسها على أنها طريق لتحقيق الإنسان الكامل، إلا أن الإنسان في المادية الديالكتيكية، لم يكن له موطأ قدم، فهي فلسفة علمية تقوم على أساس التضاد الجبري في الحركة والتطور، وتبدل الكمية بالكيفية، والتي تعمل كالقوانين الجبرية الخارجة عن طاقة الإنسان، هي بنفسها، قبلت تحطيم النظام الرسمالي وتحقق المجتمع الشيوعي. يقول شريعتي: في مثل هذا الجبر المادي المطلق، أين نجد الاختيار الإنساني المستقل؟ أي معنى لهذا الاختيار، الذي هو الوليد الطبيعي الأبدي لمثل هذا الجبر، وأية مسؤولية له؟. أما الوجودية، فهي تدعي ذلك أكثر من المثالين السالفين، الليبرالية الغربية والماركسية، وكما يقول سارتر: الوجودية هي أصالة الإنسان، وبالطبع-على حد قول شريعتي- له الحق في هذا الادعاء أكثر من سَلَفيه. وتعرف الوجودية الإنسان بأنه نسيج في العالم، وجود ليس له أي خصلة أو خاصية معينة من قبل الله أو الطبيعة، فهو لديه القوة على الاختيار، فهو يصنع نفسه بنفسه ويبدعها. لهذا كان الإنسان ليس مخلوقاً لله، ولا هو مخلوق الطبيعة، ولا هو وليد آلات الإنتاج، بل هو-كما يقول شريعتي وفقاً لتصورهم- إله يخلق نفسه. أما رابع التيارات الفكرية الكبرى، الذي هو أقدم من هذه الثلاثة وأعمقها جذراً، هو النظرة الدينية للعالم. ولما كان كل دين يعلن أن أساس دعوتها هو هداية الناس للسعادة الأبدية، فلا بد له من فلسفة متميزة لمعرفة الإنسان، لأنه لا يمكنه التحدث عن سعادة الإنسان، ما لم يتضح له مسبقاً، المعنى المحدد للإنسان، وإذاً فإن جميع الأديان تبدأ بفلسفة التكوين وتكوين الإنسان. ففي الزرادشتية، يكون الإنسان زميل (أهورامزرد) وعضده، وحتى أنه يساعده وينصره في حرب التكوين الكبرى، من أجل انتصار الصلاح. وفي أديان وحدة الوجود العرفانية، يقوم الله والإنسان والحب بمؤامرة من أجل خلق عالم الوجود من جديد. أما في الإسلام، فتم تعريف الإنسان بأنه الموجود الوحيد في عالم الكون الذي له روح الله، والمسؤول عن أمانة الله، ويجب أن يأخذ لنفسه خُلق الله. ينتقل شريعتي بعد ذلك إلى الراديكاليون، الذين هم أبرز مفكري أصالة الإنسان، والداعين لها في أوربا القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ففي بيان لهم نشروه سنة 1800م، قرروا فيه: أن ارفعوا الله عن قاعدة الأخلاق، وضعوا محله الوجدان، لأن الإنسان ذو وجدان أخلاقي أصيل، وهذا الوجدان الأخلاقي من وجهة نظرهم ينبع من جبلة الإنسان الذاتية، وهو ما تقتضيه طبيعته الإنسانية. وبعد ظهور عصر التحليل والتعليل العلمي، دبَّ الشك في هذا الأصل، فلم يعد الوجدان الأخلاقي يستمد جذوره من الطبيعة الذاتية للإنسان، بل أصبح ذو طبيعة اجتماعية، يستمد جذوره من طبيعة المحيط الاجتماعي المتغير جبراً. وبعد هذا العرض لأهم التيارات والمذاهب الفكرية لتحديد أصالة الإنسان، ينتهي شريعتي لوضع تصور عام عن أصالة الإنسان، وهي كما يلي: 1-الإنسان- وجود مستقل: أي له ذات مستقلة من بين جميع الموجودات الطبيعية والميتافيزيقية، وله جوهر نوعي شريف. 2-الإنسان- إرادة مستقلة: وهي أكبر قوة خارقة للعادة وغير قابلة للتفسير في الإنسان. والإرادة بهذا المعنى، هي: أن الإنسان، باعتباره العلة الأولية والمستقلة، يتدخل ويعمل في التسلسل الجبري للطبيعة، التي جعلت المجتمع والتاريخ تابعاً مطلقاً لها في تسلسل العلية. الحرية والاختيار، وهما من الصفات الإلهية، ومن أبرز مميزات الإنسان. 3-الإنسان- موجود واع: وهذه أبرز صفاته، ومعناه: أنه يفهم واقعية العالم الخارجي بقوة التفكير العجيبة والمعجزة، ويكتشف الخفايا المكنونة عن الحس، ويمكنه أن يحلل ويعلل كل حقيقة أو واقعة، دون أن يبقى في مستوى المحسوسات والمعلولات، وأن يطلع على ما وراء المحسوس، ويستدل على المعلول نحو العلة وهكذا. 4-الإنسان- موجود واعٍ ذاتياً: أي أنه الموجود الوحيد الحي الذي لا علم حضوري بالنسبة لنفسه. ويمكنه أن يدرس نفسه باعتباره موجوداً مستقلاً عن نفسه، يعللها ويحللها، ويعرفها، ويقيمها، وبالتالي يغيرها. 5-الإنسان- موجود مبدع: إن هذا الإبداع الممتزج بعمله، يجعله أمام الطبيعة تماماً وإلى جانب الله. هذا الإبداع هو الذي جعل له هذه القوة الخارقة للعادة التي تمكنه من اجتياز الحدود الطبيعية وإمكانياته المحدودة، ووهب له البعد الوجودي العجيب وغير المحدود، ومتّعه بما لم تمتعه به الطبيعة. 6-الإنسان- موجود ذو امنية، وإنه يعشق الأماني المثالية: بمعنى أنه لا يستسلم ولا يتوقف أمام ما هو كائن، بل يسعى لتغييره إلى ما يجب أن يكون، ولهذا يتفنن دائماً، ولهذا يرائي بأنه الموجود الوحيد الذي يصنع البيئة ولم تصنعه هي. ويؤكد شريعتي على أن طلب الأماني هو أكبر عامل لحركة الإنسان وتكامله، وهو يحرضه على ألا يكون ساكناً في الطبيعة والحياة، في نطاق الواقعية الموجودة الثابتة المحدودة. 7-الإنسان- موجود أخلاقي: أكد شريعتي على ضرورة البحث في معنى القيمة، فيعرفها بأنها: رابطة بين الإنسان وإحدى الظواهر التي يتوفر فيها دافع أفضل من الربح، ولهذا يمكن تسميتها بنوع من الرابطة القدسية. ويذهب شريعتي في مفهوم القيمة بعيداً، حين يقرر بأن الإنسان في هذه الرابطة يشعر بأنه حتى التضحية بوجوده وحياته، له ما يبرره. على أن التبرير هنا لا يكون تبريراً طبيعياً أو عقلياً أو علمياً، ويتمتع هذا الشعور بقبولٍ في جميع الأديان والثقافات وعلى طول التاريخ، باعتباره أسمى مظهر وجودي لنوع الإنسان. ومثلهم مثل الذي نسى حياته المادية في سبيل الأدب والفن والعلم، وشهداء الأديان، ومجاهدو الحقيقة، وأبطال الشعوب العظام. كل هؤلاء هم مبدعو القيم الإنسانية في حياة الإنسان.
***
د. حيدر عبد السادة جودة