قضايا

فوزي حامد الهيتي: مدني صالح .. وجدوى الفلسفة

قيل أن الفلسفة هي تحصيل الجميل والعمل به أو وفقاً له. وقيل أنها الحق والخير والجمال. وقيل أن الحكمة هي تحصيل السعادة القصوى. ولكي تكون فيلسوفاً بحق، من الضروري بحسب مدني صالح، أن تنتمي بكاملك للإنسان والانسانية كمقولة ضد كل التحيزات الأخرى التي تصطف مع جماعة ضد أخرى .. سواء كانت الجماعةُ طبقة أم حزباً أم قومية ام ديناً .. وعدد حتى الصباح مما شئت وتعرف وما هو مشهور في حيزك الذي تعيش فيه وتوجد بينهم من بني جنسك وعشيرتك .. وأول الجماعات التي يجب أن تفصل نفسك عنها وتتعالى عليها هي جماعتك التي أنت فيها .. متحيز داخلها .. وموجود بينهم . لأن هذا الحيز الذي أنت فيه، هو الذي سيُقيّد بصرك ويضّعف بصيرتك ويرسم لك أوثانا وأصناما تظنها الحق المطلوب والخير المقصود والجمال المبتغى، والأمر ليس كذلك تماماً. ولنقلب الأمر على وجهة أخرى كي يتضح ويتبين أكثر فنقول أن الإنسان الذي أنت تنتمي إليه جنساً مثلما كان جدك آدم الذي كان في السماء تسّجد له كل الملائكة وفضّلَهُ خالِقُ الكونِ على كل خلقه أجمعين بما هو إنسان يملك من علم ومعرفة .. جدك قبل أن يميل ويتحيز وأخذ ما ليس له به حق .. هذا الذي أنت منه .. هو القيمة العليا وهو الأصل في هذا العالم الذي نعيش فيه .. لا موجود أسمى .. وأجلّ منه سوى خالقه، وعليه تكون الغاية القصوى في تحصيل السعادة له وانت منه طبعا بالقدر الذي تعاليت عن كل تحيزاتك وتحررت عن اصطفافاتك لجماعة دون أخرى من بني جنسك فتظلم وتعطي ما لزيد لعمر عن هوى وميل وتحزب وتعنصر لا عن حق وطلباً للحق الجميل الذي لا سعادة دون تحصيله.

واشتراط العلم والمعرفة في حد الإنسان قيمة عليا .. الانسان الذي كرمه الله على جملة خلقه هو أيضاً شرطٌ مطلوبٌ في حد الفلسفة وتعريف الفيلسوف .. وهذا الشرط ليس مطلوباً لذات العلم، بل، بِعَدّ العلم وسيلة أداة .. وأداة وسيلة، تعين الأنسان على التحرر من الأوثان والأصنام والأوهام التي تؤدي الى التحيز والانتماء القبلي الجهوي العصبوي الديني فتكون ماركسياً ضد ماركس وكانطياً ضد كانط ورشدياً ضد ابن رشد وغزالياً ضد الغزالي وأفلاطونيا .. ارسطيا ضد أفلاطون وأرسطو وضد كل الفلاسفة الجهابذة طالبين الحق والخير والجمال. وأكرر وأزيد .. أن يقودك هذا التحيز لأن تكون إسلاميا .. داعشيا ضد الإسلام الذي أنزِلَ على نبيّ الرحمةِ، ومسيحياً ضد المسيح وما أنزل عليه من حقٍ .. ويهودياً ضد عيسى وما أنزل عليه الذي هو عند الله الأسلام الذي كرم الله به الأنسان .. الاسلام غير المتحيز المتحزب المتعصب الفئوي الجهوي المنتمي لغير الحق والخير والجمال. فالعلمُ وسيلةٌ نُحطِمُ بها الأوهامَ التي تُعيقُ الرؤية السليمة وتمنعُ من معرفة الحق والخير والجمال. ولا خير في علم لا يُعيننا على الانتصار لهذا الكائن .. الإنسان.

ونُعيدَ تقليبَ الأمر مرة أخرى وعلى وجهة أخرى فنقول أن الفلسفة هي موقف نقديٌ واعي مؤولٌ للمعارفِ يهدف إلى تقوية موقع والدفاع عنه في الصراع الاجتماعي والسياسي. والقصد بالموقف هو ما ذكرنا أي الانتصار لحرية الإنسان بعده الكائن الأسمى الذي يجب أن تموت كل فلسفاتنا وأفكارنا وكل ما أنتجه العقل البشري من أجله.. لا ننتمي إلا له .. ولا ننشد إلا ما يُسّعِدهُ.  أما وصفنا لهذا الموقف بصفة نقدي، فيعني، أن هذا الموقف يعيد قراءة كل تأريخ الفلسفة والأجوبة الفلسفية عبر تأريخها قراءة نقدية .. ومعيار المحاكمة فيه، مدى قدرة الفيلسوف الذي نعيد قراءة فلسفته على الانتصار لهذا الموجود الأسمى الإنسان .. وبيان درجة الإخفاق الذي وقع فيه هذا الفيلسوف في وقوعه بشراك المألوف الصنمي الذي تحيز فيه وفق هوى الجماعة والتحزب والعصبية والقبلية وما شاكلها من أوهمام العقل أو من ضعف الوسيلة في تحصيل الغاية والذي منه الوهم الهيغلي في وضع نهاية للتأريخ وميله للعنصر البروسي والحضارة الجرمانية واعتقاده بأن عصره هو المحطة الأخيرة الذي توقف فيها التاريخ، حيث بلغ فيه المطلق غايته وتجلى عن حقيقته بالشكل السياسي والاجتماعي الذي وصله العنصر الجرماني إليه، فهذا ميل وتحيز وعنصرية يجب تشخيصها في تأريخ الفلسفة وتعريته بعده خطابا آيديولوجيا ينتصرُ للجزئي الفردي المشخص على حساب الكلي المطلق. .. ومنها الحتمية التأريخية والحتمية الطبيعية في الماركسية فهاتين المقولتين كانتا من موجبات العلم النيوتني ومخرجاته لا من موجبات تحرر الإنسان من سطوة الرأسمالي المحتكر الذي سعى ماركس الى تحطيم شرعية تملكه لرقاب الإنسان وانتهاكه لكرامته وحريته .

أما وصفه بالواعي فالقصد منه أن هذا الموقف، يعي تماما الغاية القصوى من هذا الموقف وهو تحصيل السعادة التي لا تكون كما أشرنا إلا بتحرير الإنسان من كل السلطويات السالبة لكرامته وانسانيته وعده الموجود الأسمى، وحريته القيمة الأعلى . وعلى أساس كل ذلك يعيد قراءة وتقييم تأريخ المنجز الفلسفي السابق، وعلى أساس ذلك أيضاً يُعيد قراءة المنجز العلمي وتوظيفَهُ لتقوية موقعه في الدفاع عن الانسان والانتصار لكرامة وجوده ضد كل تحيز وتحزب يحكم الصراعات العصبوية في المجتمع الذي ينتمي إليه.  

أما تحديد هدف الفلسفة بتقوية موقع والدفاع عنه في الصراع الاجتماعي في مجتمع الفيلسوف الذي ينتمي إليه فالقصد منه تحديد جدوى الفلسفة ووظيفتها في حياة الإنسان وهي كما أشرنا الانتصار للإنسان وحريته .. الانتصار لفرايدي وآله المغلوبين المنهوبين ضد روبنصن كروزو الشايلوكي التاجر المحتكر المؤمرك .. الإنتصار لشمهودة وقرندل وأبو كلاش وكل الذين يحضرون أيام الزرع والحصاد ويغيبون عند توزيع الحصص والغنائم.

***

د. فوزي حامد الهيتي

في المثقف اليوم