قضايا

عبد العزيز قريش: مجرد تساؤلات تستجلب الأجوبة من أجل الوعي

من واقع الممارسة الصفية:

واقع الممارسة الصفية يفيد أن منظومتنا تعيش مشكل ضعف ناتج التعليم كما ونوعا بموازاة ضعف المردودية الداخلية والخارجية تعلما وأداء لأسباب عدة؛ منها ما هو متعلق بالمداخل النظرية للمنظومة التربوية والتكوينية، ومنها ما يتعلق بالسيرورة، ومنها ما هو متعلق بالتكوين الأكاديمي والمهني الأساس، ومنها ما تعلق بالسياسة التعليمية، ومنها ما يرتبط بالوضعية القانونية والمالية والاعتبارية لأطر التربية والتكوين، ومنها ما هو متعلق بالمتعلم/ة ومعطياته التي نعلمها، وتلك التي نجهلها وما أكثرها، ومنها ما هو ذاتي وما هو موضوعي. وضمن هذه الأسباب ما يرتبط بالتفكير وكيفيته، وما يرجع في أصله إلى المسألة الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية أو العقائدية بمفهوم الإيديولوجيا أو الدينية أو النفسية أو جميعها وزيادة. فعديد الأسباب لا تستوعبها ورقة محدودة المساحة والموضوع.

هذا الواقع يطرح عدة مشاكل وإشكاليات تستوجب الدراسة والبحث العلمي والتدقيق، وليس القول الإنشائي العام؛ بل المتخصص للخلوص إلى أجوبة وحلول وتوصيات تفيد في إصلاح أزمة التربية والتكوين والتعليم في مجتمعنا، بما يؤدي إلى جودتها. ومن هذه الأسئلة التي سأطرحها في ورقتي هذه، ما قد تلامس التفكير العاطفي فتثير فيه بعض المشاعر الحزينة أو تخلق ردود أفعال متسرعة بعيدة عن التفكير البارد وعن التفكير عن بعد، وبنظرة ناقدة للذات والموضوع والمنهج والأدوات معا. أو تخلق تعاطفا متشنجا لقضايا وإشكاليات ومشاكل غدت بحكم الشعبوية صناديق مغلقة مقدسة لا يرقى النقد البناء إلى الاقتراب منها، بحكم حرمتها وقدسيتها التي تغلفها بالقضايا المغلقة إلى الأبد.

والمقدسات في التربية والتكوين والتعليم عديدة؛ منها ما هو سياسي أو إيديولوجي أو إداري أو ثقافي أو فكري أو اقتصادي أو نفسي أو مصلحجي أو مهني. تحولها الموروثات الفكرية والمسلكيات الأدائية إلى مسائل شخصية، بمعنى الشخصنة التي لا يمكن الاقتراب منها. والكثير منها أدخل في إطار الشخصنة دون الخروج منها، ما يعقد مشهد طرحها ونقدها. لكن في سبيل رفع ركام الأنقاض والغبار والأتربة عن جسم المنظومة التربوية والتكوينية التي تتراجع يوما بعد يوم بمنطوق نتائج التقويمات الدولية والإقليمية والوطنية بعيدا عن تلط الاستثناءات والطفرات الرائدة التي في أغالبتها تبنى على مجهودات شخصية لا مؤسساتية؛ يحتمل كل شيء، وتحتمل كل الرذائل من ضعاف النفوس والضمائر وقليلي الوعي. والزمن كفيل بالمراجعة والتصحيح والاعتراف.

ـ من التساؤلات:

هي التساؤلات رحم تخليق الفكر التربوي الباحث، ومفاتيح الدراسات والبحوث، وسبيل التطوير والتجديد، وأداة الإصلاح. لذا، اعتمدت المنظومات التربوية والتكوينية المتقدمة في تطوير ذاتها منظومة علامات الاستفهام اتجاه ذاتها ومواضيعها، ونحو مكوناتها وأدواتها وأطروحاتها النظرية والعملية، ومشاكلها وقضاياها. فشيدت في جسمها آلية صناعة التطور الذاتي، وحضن الإبداع، وحقل البحث والتجربة والخبرة. وقد وعت مؤخرا في العقدين الأخيرين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة من خلال وحدة البحث التربوي ومن خلال المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب أهمية البحث العلمي في خلق بيئة من الباحثين المتخصصين من جهة أولى، ومن جهة ثانية توطين البحث التربوي مؤسساتيا في المنظومة، ومن جهة ثالثة تطوير المنظومة التربوية والتكوينية وتصفيتها من التحديات التي تقف في سيرورة أدائها التعليمي والتكويني. حيث أصدر المركز هذه السنة مشروعه البحثي عبر كراسة مواضيع البحث التربوي ذات الأولوية (نسخة2024)؛ تشمل تسع مجالات، وتتضمن 175 موضوعا إشكاليا للدراسة والبحث؛ من شأنها أن تقارب واقع المنظومة التربوية والتكوينية في أبعاد حكامة التدبير المؤسساتي، والمنهاج والبرامج، التكوين وتطوير الأداء المهني، والوسائط والتكنولوجيا التربوية، والمقاربة البيداغوجي، والإيقاعات الزمنية للدراسة والتعلم، التوجيه المدرسي والمهني، والتقييم والامتحانات.

وانسجاما مع هذا التوجه الجديد للفكر التربوي الرسمي المغربي، وتبعا لهذه الإشكاليات والقضايا والتحديات التربوية والبيداغوجية تبيح وتسمح هذه الورقة لنفسها أن تطرح التساؤلات التالية بعد التقعيد لها من واقع الممارسة الصفية بصفة خاصة، وبصفة عامة من واقع المنظومة التربوية والتكوينية.

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية أن سيرورة الأداء التعليمي يشهد توارث ثقافة بيداغوجية تقليدية ومتقادمة عبر سنين طويلة، وعبر أجيال متعاقبة من أطر التربية والتكوين؛ تحمل في طياتها نظريات تربوية ومدرسية متجاوزة، تتحكم في الذاكرة الجمعية والفردية للمنظومة التربوية والتكوينية من قبيل رؤى وأفكار ومقولات في بنية ووظيفة العملية التعليمية التعلمية سالبة لإرادة الفعل والكينونة لدى السياسي والمبرمج والمقرر والمدبر التربوي، فضلا عن رؤية مهنية خطية توحد سحنة الممارس البيداغوجي في قالب معين ضمن سلسة مهنية متشابهة الحلقات والدوائر والإجراءات والأفعال والخطاب. تكاد لا تجد فيها إلا القليل من التمايزات والتفردات نتيجة التكوين الأساس النمطي والثقافة البيداغوجية المشبعة بالنمطية والتقليد والتوحد المتعدد الكمي. والخروج عن هذه النمطية وهذا التقليد وهذه الخطية يوجب الشجب بأغلظ الألفاظ، والوصف بالخروج عن العادة، وعن الإجماع المهني، والانفراد عن الجماعة المهنية، ما يقوض تجاوز التراثيات من الأدبيات التربوية والتكوينية، ويؤدي إلى الانضباط للخطاب المدرسي وسياقه، ومن ثمة عدم كسر خطية الرؤية المهنية للمنظومة والممارسة الصفية، وعدم تهشيم سحنة الإطار التربوي بما فيه الممارس البيداغوجي. وخلاف ذلك فنشاز وخروج عن السلم الموسيقي ونغماته المعتادة، وخروج عن الفرقة الموسيقية.

هذه الثقافة البيداغوجية بمضمونها وحمولتها التقليدية قادت إلى بناء هرم من الامتيازات والمصالح والمنافع، وأحاطتها بهالة من القدسية والحرمة كأن تلمس عن قرب في واقع الممارسة الصفية عظم دور الدعم وتعظيمه إلى حد بعيد، أصبح معه الدعم مضمون الفعل التعليمي التعلمي بدل الفعل المدرسي تخطيطا وإعدادا وأداء ضمن أطر نظرية وتطبيقية حديثة تتساوق مع المعطى الواقعي للمتعلم/ة وحيثيات مستلزمات ومطالب ومتطلبات الممارسة الصفية الميدانية. فإن لامس النقد هذا الدعم بعلامات استفهام عديدة كالتساؤل عن اتساع رقعة الدعم المؤسساتي والخارجي مقابل الادعاء بأن المنظومة التربوية والتكوينية تؤدي واجبها المهني على أحسن وجه؟! واجهك الخطاب التربوي الرسمي بمجموعة من الدفوعات غير المنطقية وغير الموضوعية وغير العقلانية؛ من قبيل: المبرمج والمهندس والمخطط التربوي يدري ما يفعل، وكيف يفعل. ونجد أن النقد قاصر على بلوغ درجة فهم ووعي ماهية الدعم ووظيفته ودوره الحاسم في المعالجة التربوية، وتجويد الناتج التعليمي ... وما إلى ذلك من الأدبيات التربوية! ويبادر بعض أطر التربية والتكوين أن الدعم من حق المتعلم، وهو حق مشروع للإطار التربوي والتكويني يحسن به دخله وأجره، وما الضير في ذلك، وإنما ملامسة النقد للدعم تقع في دائرة الحسد ... وإلى ما يتساوق معه من قاموس الاستهلاك اللغوي الشعبوي والخرف التربوي. أو كأن تجد الارتخاء في أداء الواجب المهني والرسالي على مستويات مختلفة يبرر نفسه بحجج واهية كضعف الأجرة أو كثرة المهام أو كثرة الإعداد والوثائق ... أو كأن تجد تمثلات وتصورات مسبقة عن المتعلم/ة أو عن الممارس البيداغوجي أو عن أية أطر أخرى؛ بدعوى أنها ممارسة عامة، وهي في حقيقتها ممارسة شخصية أسقطت وانسحبت بالشعبوية إلى التعميم والقياس عليها. وهنا يحضرني موقف وقع مع إحدى أطر المراقبة التربوية في نهاية السنة الدراسية الماضية حين زارت إحدى المؤسسات التعليمية في بداية شهر يونيو، وأردفتها بأخرى؛ فألفت الدراسة متوقفة، وحين تساءلت عن الظاهرة واستنكرتها، لأن أبناء الأمة في هذه النازلة هم الضحية. اتحد الجمع الشعبوي عليها، من زارته ومن لم تزره، وقام ضدها بالاحتجاج والشجب واسمين إياها بالتصيد والضغط وما جاور هذه السمات. وهو أمر متوارث عبر الشعبوية التعليمية.

وهذه الثقافة البيداغوجية المتوارثة بصيغتها الماضوية تدفع إلى الركون للماضي وحيثياته التاريخية المنغلق على ما هو مألوف ومعتاد من تفاصيل الرؤية والإعداد والأداء. الأمر الذي يؤدي إلى سكون الفعل التعليمي وثباته في قوالب فكرية محددة، وتبريد الدرس المدرسي؛ في صيغ معينة؛ حيث يقود السيرورة التعليمية إلى تحصيل نفس الناتج التعليمي والمردودية الداخلية والخارجية عبر السنين. وإن كانت في كثير من الأحيان ومع مرور الوقت تتجلى بنسخ رديئة وسيئة الشكل والمداد والأوراق تبعا للتغيرات التي تحصل في تلك الثقافة البيداغوجية التقليدية، التي تنتهي صلاحيتها يوما بعد يوم، بما فيها ثقافة الممارس البيداغوجي ذات العوامل والمتغيرات العديدة كمعطى تنشئته الاجتماعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والنفسي، ومنظومة قيمه وقناعاته ومواقفه الشخصية من المسألة التعليمية التعلمية والمهنة؛ الذي أصبح اليوم بفعل اختلالات المنظومة التربوية والتكوينية يؤول إلى الضعف، وهو مؤشر ذو دلالة إحصائية عما يروج في المجتمع ككل. فهو لا ينفك أن يكون مظهرا من مظاهر المجتمع. وهو لا يلام في ذلك إلا إذا ركن إلى هذا التقليد دون أن يفعل إرادة تغيير الذات بالتكوين الذاتي انطلاقا من كونه باحثا ومثقفا ومثالا وقدوة.

ومن هذه الثقافة التقليدية وهذه النمطية والخطية ننطلق إلى التساؤل حول مدى دورها في مقاومة التغيير والتطور، بما تمنحه من سكون واعتياد وركون للعادة واستسلام للقائم المستمر بروتين اليومي، يريح الممارس البيداغوجي من عناء التفكير والإبداع والتجريب ومتطلباته المتنوعة، وعناء التخطيط والإعداد للممارسة اليومية حسب معطيات وحيثيات واقع الفعل التعليمي العملي. وهو ما إذا فعل؛ يتطلب جهدا إضافيا ووقتا كذلك. وهل الممارس البيداغوجي وغيره حاضر لتقديم ضريبة التفكير والنقد والإبداع والتغيير والتطوير؟ وهل السياسوي حاضر هو الآخر لإسناد هذا التطوير والتغيير بالمال والإرادة السياسية التي تقتنص الفرصة، وتمنحها ظروف النجاح؟

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية وجود مجموعات الضغط والمقاومة الداخلية لأي تغيير وتجديد وإصلاح؛ لما ترى فيه تهديدا لمصالحها وامتيازاتها، ودفعا لكل ما من شأنه أن يمس بها ويشكل في نظرها خطرا عليها! خاصة إذا كانت هذه المصالح والامتيازات مالية واعتبارية، أي متعلقة بالاقتصاد والوضع الاعتباري في المنظومة التربوية والتكوينية على مستويات متنوعة كالمستوى الإداري أو التربوي أو الفكري. الأمر الذي تجد معه هذه المقاومة تشتغل بأساليب صريحة ومضمرة من أجل التخلص من ذلك التغيير والتجديد. فلكل إصلاح مهما كان جادا ومسؤولا قسط من مجموعات الضغط والمقاومة تستخف بجدواه وتشكك في فاعليته ومفاعله ونتائجه، من حيث تركز على قضايا هامشية تشد انتباه أكبر عدد من أفراد المجتمع المدرسي والمجتمع العام، وتبث الإشاعات والكلام العام البعيد عن الحقيقة والموضوعية والعقلانية، وتعمل بشكل نشيط على ربط العلاقات المتنوعة مع صانعي السياسات والقرارات، وأصحاب المصلحة الأساسيين في مقاومة التغيير والتطوير والتجديد والإصلاح، وأصحاب المصالح المتقاطعة مع مصالحهم، بما يعطي دفعة قوية لأنشطتهم المخملية والناعمة في أغلبها، لحصار مشروع الإصلاح. ويهمسون في أذني صاحب القرار الأعلى بالأراجيف، ويظلون كذلك حتى ينساق إليهم وينفذ رغباتهم. وهكذا ينسف مشروع الإصلاح، أو يمارسون الضغط والمقاومة من خارج إطار مواقعهم الرسمية بالإيعاز لتوابعهم وزوابعهم وأزلامهم وزبنائهم بممارسة الضغط ضمن عواصف فكرية وهواجس نفسية مفتعلة، بمسوغات شتى داخل أطر جمعيات مدنية أو منظمات سياسية كالنقابات والأحزاب والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي ... وغيرها من وسائل بناء الرأي العام وتشكيله وفق توجهات واتجاهات معينة تدفعه إليها دفعا. وتكون فيها مجموعات ولوبيات الضغط ومقاومة التغيير المستفيد المستتر تحت البنية السطحية لتلك الأطر المدنية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية ... أو قل هي مجموعات ولوبيات المقاومة والضغط البنية العميقة لتلك الأطر.

وتسعى هذه اللوبيات والمجموعات إلى تزييف الوعي الفردي والجمعي والوعي العام بالقضايا التعليمية بتغييب عميقها وأساسيها عن التعرية عنها، وبتظهير تلك الظاهرة منها والسطحية والبسيطة كأنها هي الأساسية والمركزية، بمعنى تغييب القضايا والمشاكل الأركان، والإضاءة على القضايا والمشاكل الشرطية والثانوية والهامشية كأن تعلي من شأن الدعم التربوي وتجعله مشكلا رئيسا ومركزيا تتمحور حول مجمل القضايا التربوي، بدا التساؤل عن جودة الأداء التعليمي والممارسة الصفية تخطيطا وهندسة وإعداد وأداء؛ مما يقدمها كأنها هي الجوهرية في المنظومة التربوية والتكوينية، نتيجة غياب إعمال التفكير النقدي لدى الأغلبية، الذي يقود إلى حقائق الأمور. فالشروط تشكل المشترك بين الأغلبية، وتولد العواطف والمشاعر وتجذب الجمهور، وتدغدغ المشاعر، وتجلب فكر القطيع؛ خاصة إن كانت شروطا مادية ومالية. وتوظف في سبيل ذلك كل وسائطها ووسائلها، وتشكل حولها هالة ديماغوجية لاستقطاب الأتباع والجمهور الواسع والعريض. وتعمل هذه المجموعات واللوبيات على تعبئة أطر المنظومة والآباء والمتعلمات والمتعلمين والشارع وغيرهم من أعضاء المجتمع التعليمي والمجتمع العام ضد الإصلاح، وتنشئ حركة للوقوف ضده ـ ولو؛ لم يطلع عليه أولئك المنخرطون فيها! فلو سألت أحدهم لماذا أنت ضد هذا المشروع؟ وما هي تفاصيله التي أدت بك إلى اتخاذ هذا الموقف؟ لأجابك بنفي علمه بها، فهو تابع فقط ـ مقابل تشكيل شعبوية من أجل مناهضة التغيير والإصلاح. وهي الشعبوية التي تمارس الضغط الشعبوي على أصحاب القرار لمراجعة قراراتهم إقرارا أو توقيفا أو تعديلا أو إنشاء أو تصحيحا، مما يؤثر في مشروع الإصلاح ـ وهنا؛ يمكن القول بأن الفكر الشعبوي أخطر على المنظومة التربوية والتكوينية من الأخطاء التربوية.

كما هذه المجموعات بمقدورها في غياب التفكير النقدي والتفكير المنطقي والموضوعي وبحضور الشعبوية أن تغير سياسات برمتها لا قرارات فقط؛ فهي تعمد إلى اقتراح سياسات وقرارات بديلة، وتسوق حلولا، كثيرا ما تخدمها وإن أزمت الوضعية وعمقت أزمتها ورفعت درجة آلامها، دون أن تقارب المشكلات والقضايا الرئيسة في نظام التربية والتكوين والتعليم بحلول ملموسة وناجعة، أي التعاطي مع محيط الدائرة لا مركزها  ـ لذلك؛ نحن دائما نحل مشكلا بمشكل أكبر منه ـ وتسعى جاهدة لإقناع صناع القرار التربوي بوهم فعالية اقتراحاتها، من خلال المشاركة في المناقشات الدائرة حول الإصلاح وفي اللجان والمشاورات المتعلقة به، التي تفتحها الجهات العليا للمنظومة التربوية والتكوينية. وتحاول عبرها تغيير القرارات السياسية والإدارية والتوجهات البيداغوجية لصالحها لاستيفاء مصالحها. فمن خلال عملها واشتغالها من داخل أو من خارج المنظومة التربوية والتكوينية باعتماد استراتيجيات وأساليب ووسائط وأدوات مختلفة، يمكنها أن تلعب دورا حاسما في تعزيز موقعها ومفعولها في مقاومة التغيير والإصلاح التربوي.

وبما أن الشعبوية ـ وهي من المغالطات المنطقية ـ تستطيع تجييش الجموع ضد أو مع موضوع أو فرد أو مؤسسة أو فكرة أو قرار ... فهي قادرة على سحق نضالها حين تتخذ من التجمع دليلا على صحة وصدق طرحها، وتغدو بالمخالف إلى منطقة النعوت والشجب، وربما الاحتقار والاستهجان أو التعنيف. وهي الشعبوية تكون إيجابية حين تقوم على حقائق ووقائع واقعية ومنطقية، لأنها تملك حين ذاك المرتكز المنطقي والموضوعي للتحشيد والتجييش والتجميع تحت منطق المؤسسة أو منطق الرأي العام للدفاع عما التزمت به. وأما ما تقوم به من خارج ذلك؛ فهو ضرب من المشاعر والاندفاع والتشنج، تنتج ردود أفعال غير مرغوبة ولا مطلوبة أو نواتج سلبية في بعض الأوقات. ومن أجل توضيح هذا، نقدم بين يدي هذه الورقة مفردة من مفردات المعيش اليومي للممارسة الصفية. ذلك أن انخراط الفرد في مؤسسة ما، وهب هي نقابة أو تنسيقية أو منظمة، يلزمه ذلك حسب قوانينها الخاصة والمبادئ الأخلاقية للجماعة المهنية والإنسانية الانخراط في أنشطتها والامتثال لمقرراتها وقوانينها. وانخراطه هذا؛ انخراط مستقل عن باقي المنخرطين عضويا بحكم استقلالية شخصه وحريته الفردية. وهو مرتبط بالمنخرطين بحكم الامتثال للقرارات والمشاركة في الأنشطة فقط. لكن ـ مع الأسف الشديد ـ الشعبوية وفكرها تجعل هذا الارتباط ارتباطا عضويا وامتدادا للتجمع والتكتل البشري أو لمكونات المؤسسة في الفرد ذاته، تتجمع عنده وفيه، تلغي استقلاليته وحريته، تفرض عليه وصاية شاملة وكاملة، تلغي إرادته وحرية اتخاذ قراره الشخصي. فقد سمعت مؤخرا قصة أحد الممارسين البيداغوجيين الذي يشتغل مع منظمة مدنية غير حكومية في المجال التربوي، وهو منخرط في إضراب هيئة التدريس الحالي بكليته. وتعرض لأجل ذلك لاقتطاعات من أجرته ضخمة المبلغ؛ ولكنه عندما انخرط مع منظمته المدنية في الدعم أثناء العطلة، وهو قرار شخصي من خارج قرار نقابته لا علاقة لها به، وعلم به بعض الزملاء، استنكروا عليه ذلك وعاتبوه ووبخوه، ودفعوه إلى مقاطعة الدعم. وهنا تنبعث من رماد الشعبوية أسئلة تفصح عن خطابها بالقول:

* هل للدعم مع منظمة مدنية علاقة بقرار النقابة؟ وهل قرار النقابة يسري على مجموع أعمال وأفعال منخرطيها؟ وهل خرق هذا الممارس البيداغوجي قرار النقابة؟ أليس قرار النقابة محددا ومحدودا بمهام معينة في زمن ومكان معينين أم ممتدا إلى كل مهام وفي كل زمان ومكان؟

* أليست الشعبوية هنا أضرت بهذا الممارس البيداغوجي مرتين؟ مرة بالاقتطاع ـ ونحن نعلم أن النقابات الجادة والمسؤولة تأمن منخرطيها ومنتسبيها لدى شركات التأمين من أجل تعويضهم أثناء الإضراب حين تقتطع الدولة لهم أيام إضرابهم ـ ومرة ثانية حين منعته من الاشتغال في الدعم المأجور عليه والتعويض عن الاقتطاع من أجرته؟ وفي أي سياق يمكن تفسير الاستنكار والعتاب والتوبيخ والمنع؟

* هل عوضت الشعبوية وفكرها مبلغ الاقتطاع بالتبرع من جيبها لصالح هذا الممارس البيداغوجي باسم النضال والجماعة والمنفعة العامة والاتحاد ... وغيرها من هذه اللغة الديماغوجية؟ أم الشعبوية شاطرة فقط في اتخاذ المواقف والقرارات المتسرعة والخاطئة، والأحكام القاتلة خاصة منها أحكام القيمة السلبية التي لا تترك للتفكير العقلاني والموضوعي والنقدي مجالا للظهور بله تفعيله؟

* أليس لهذا الممارس البيداغوجي حرية اتخاذ قرار الفعل خارج قرار النقابة التي التزم به ومازال يلتزم؟ هل مارس الدعم أثناء الإضراب وفي زمن ومكان الإضراب؟ كيف لهذه الشعبوية أن تخلط الأمور وتعجنها في تركيبة عجيبة غريبة؟ هنا سقطت حرية واستقلالية وقرار وذاتية الممارس البيداغوجي بربطها بالآخر الذي لا يرتبط به إلا من خلال المؤسسة فقط، وأصبح مقيد اليدين بالشعبوية وفكرها المضطرب الذي لا يحلل مواضيعه داخل أطر فكرية سليمة وواضحة ويخلط الأمور ويعجنها عجنا.

وهنا؛ أسجل أن الممارس البيداغوجي هذا لا يملك شخصية قوية لمواجهة الآخر، أولا بالعقل والفكر والدفاع عن قراره مع نقد موقف شركائه في المؤسسة، ثم ثانيا بالفعل والاستمرار فيه دون تأثر بالآخر. فهو خارج قرار الإضراب وزمانه ومكانه حر ومستقل في قراراته وتصرفاته وأفعاله وسلوكه، المبني على منطق صحيح من حيث لا علاقة البتة لقرار الإضراب بقرار الدعم. ولا علاقة دموية ولا عرقية ولا مصاهرة أو ما وازاها، تربطه بالآخر داخل المؤسسة النقابية تسمح لهذا الآخر أن يفرض عليه رأيه أو قراره، فهو والآخر في كفتين متوازنتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى اتجاه المؤسسة النقابية. وله كامل الصلاحية أن يتخذ قرار المشاركة في الدعم أو غير الدعم لأن ذلك لا علاقة للنقابة به؛ لكن فيما يخص قرار النقابة فيظل ملتزما به بمعطياته وحيثياته وتوجيهاته. وهذا ما يميز الشخص المستقل والحر والمسؤول عن الشخص الشعبوي الذي يهرج أكثر مما يعقلن ويرشد ويوجه. فالفكر الشعبوي دائما يعمم الظواهر، ويندفع إلى الأمام؛ بينما غيره من الفكر لا يعمم، بل يفصل ويحلل ويدقق ويدرس الحيثيات وغيرها ثم يتخذ القرار بحكمة.

ومن مفعول هذه المجموعات واللوبيات الشعبوية، يمكن أن تتجلى بخصوصها علامات استفهام عديدة، أقلها:

* ألا تشكل المقاومة الداخلية للوبيات الضغط والعرقلة كوابل لمشاريع الإصلاح؟

* ألم تساهم هذه المقاومة الداخلية في ضعف وتخلف المنظومة التربوية والتكوينية؟

* ألم يحن الوقت أن نفعل التفكير النقدي لتبئير الرؤية في المشاكل والإشكاليات والقضايا الجوهرية الأساس في أزمة التربية والتكوين؟

* ألا يمكن عزل الشعبوية عن الملف التربوي والتكويني، وعن الملف المطلبي المهني لأطر المنظومة التربوية والتكوينية، للتدقيق العقلاني والعلمي للمشاكل والإشكاليات والقضايا والمطالب؟

* ألا يمكن مقاربة أزمة التربية والتكوين من خارج الدلالة السيميولوجية لمجموعات ولوبيات الضغط والمقاومة، التي تشير أولاها إلى وقوع أزمة المنظومة التربوية والتكوينية في دائرة التجاذبات السياسوية والنقابوية والتيارات الإيديولوجية بدل الحوار التربوي والثقافي والفكري؟

ـ يفيد واقع الممارسة الصفية أن المردودية الداخلية والخارجية ضعيفة وهزيلة، بدلالة رتب المنظومة في التقويمات الوطنية والإقليمية والدولية، وبدليل نسبة انخراط المنظومة الضعيف في البحث العلمي والإنتاج الفكري والتقني والتطبيقي المتطور والمطور. وبدليل مفارقة مردوديتها الداخلية والخارجية لمتطلبات سوق الشغل ... ما أسس لتمثلات سلبية عن المؤسسة التعليمية العمومية بصفة عامة ـ رغم وجود نماذج منها استثنائية مشرفة ومشرقة وناجحة ومتفوقة ـ أدى إلى هجرها والانسحاب منها اتجاه المؤسسة التعليمية الخصوصية. ويزيد هذه المشهدية السلبية تضخيما مشاهد زمر أبناء أطر التربية والتكوين، وهم يتسابقون على الدراسة في مؤسسات التعليم الخصوصي. فينطلق من رماد نار آلام الحسرة على التعليم العمومي أسئلة نقدية مؤلمة وحارقة:

* لماذا لا يدرسون أطر التربية والتكوين والتعليم أبناءهم في المؤسسة التعليمية العمومية التي هم جزء منها؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في ناتج التعليم عند المتعلم؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في جودة المنظومة؟

* ألا يشكل ذلك مبررا منطقيا لشرائح المجتمع أن تولي وجوه أبنائها وبناتها شطر المؤسسة التعليمية الخصوصية؟

* ألا يؤدي هذا الأمر إلى تفريغ المؤسسة التعليمية العمومية من مواردها ومدخلاتها، وبالتالي إلى إغلاقها؟

* ألا يعد هذا المشكل الجوهري والاستراتيجي بداية رفع اليد عن التعليم العمومي مع انخراطنا الواعي أو غير الواعي فيه؟

* إلى أي حد سنبقى حبيسي التفكير الآني دون التفكير الاستراتيجي والرؤية بعيدة المدى العميقة الواعية؟

ـ هو النظر العقلاني والموضوعي في مسيرة ومسار مجموع مشاريع الإصلاح منذ 1965 إلى 2015 واستمرارا حتى الآن، يفيد حركية عرقوبية، تفقد الأمل في الإصلاح، ويحيلنا على الفكرة الأساس الناظمة لكل هذه المشاريع، وهي وجود سؤال الجودة في عمق المنظومة. بما هي أم المشاكل الأخرى؛ ذلك أنه إن لم تحل مشكلة الجودة، وإن حلت المشاكل العرضية، يظل سؤال جودة النتائج والمردودية الداخلية والخارجية مطروحا. وبالتالي تبقى مسألة الثقة في المنظومة التربوية والتكوين بمنطوق المؤسسة التعليمية العمومية قائمة وملحة على آباء وأمهات وأولياء المتعلمات والمتعلمين، ومحفزة على إيجاد حلول لها، إما بالدعم الأسري أو المؤسساتي أو الخارجي أو الذاتي، أو الالتحاق بالتعليم الخصوصي، ما توفرت ميزانيته لدى الأسرة. ومشاريع الإصلاح دائما تولد لدى المجتمع أسئلة عديدة، من قبيل:

*ما المشروع الناجع لإصلاح المنظومة التربوية والتكوينية يقطع مع عرقوبية الإصلاح؟

*إلى متى ستنتهي هذه السلسلة من مشاريع الإصلاح بالقطع النهائي مع فكرة الإصلاح والترقيع بالابتكار والإبداع والتجدد، والإنشاء وفق الراهن والمتوقع المستقبلي من متطلبات العصر؟

*ما الضمانات التي تطمئن الأسر على انتهاء الاحتقان والإخفاق بتلبية مطالب الإصلاح؟ وتؤدي إلى جودة التربية والتكوين والتعليم العمومي؟ وتفعيل الأطر التربوية والتكوينية تحت سقف أداء الواجب المهني والرسالة التربوية على الوجه المطلوب والمحدد، واستيفاء الحقوق حسب المنصوص عليها قانونيا وتشريعيا؟ ما الكفاءة المهنية الدالة على جودة الممارسة الصفية، المساهمة في خلق الثقة في المؤسسة التعليمية العمومية من جديد؟

* ألا يوقع مسار هذه المشاريع المنظومة التربوية والتكوينية في التسيب والارتجال والتخبط والعشوائية والانتقائية، من خلال إصدار القرار والتراجع عنه، وإصدار الأمر وإلغائه، وإصدار المذكرات والتوجيهات والعدول عنها في ذات السيرورة؟

* إلى أي حد سيبقى إصلاح الإصلاح، وإصلاح إصلاح الإصلاح يستهلك الطاقة والجهد والزمن والمال دون أن يحدث إصلاحا، وإنما ينتج الثقافة المصلحجية في النسق التربوي والتكويني والتعليمي؟

ـ في ثقافتنا الإسلامية والعربية والخطاب التربوي التقليدي المغربي؛ العملية التعليمية التعلمية تربط بالبعد الديني، بما يضفي عليها طابعا من الأهمية والقدسية يوازي مكانة علوم الشريعة الإسلامية، وتوازي المؤسسة التعليمية فيها مقام دور العبادة من مساجد ومصليات. الطابع الذي يمنحها مقاما عقائديا محترما في المجتمع والدولة، حيث سجل التاريخ المغربي احتضان المجتمع للمؤسسة التعليمية ماديا ومعنويا واجتماعيا وثقافيا؛ إذ كان هو الذي يهيئ المؤونة لها فضلا عن بنائها وجري الأوقاف لأجل تدبير متطلباتها وتدبير مستلزمات أطرها. ذلك أن معجم المنظومة التربوية والتعليمية كثير من مدخلاته الاصطلاحية واردة عليه من الحقل الديني كالفقيه والتأديب والأدب والتهذيب والتزكية ...  ويستوجب حاليا العناية في كل المستويات والأبعاد، خاصة بعد الهندسة البيداغوجية والبعد الإنساني لأطرها. ذلك أن الهندسة البيداغوجية الواعية والمفكرة والناقدة والمبدعة كفيلة بخلق استراتيجيات تربوية وتكوينية تستهدف الحاضر والمستقبل عبر قراءة واعية للكائن وللممكن الذي يشيد رؤية واضحة لهما تسير بشكل منهجي وعملي إلى تحقيق الأهداف، ووضع مناهج دراسية وممارسة صفية جيدة وفعالة وفاعلة في سيرورة الفعل التعليمي التعلمي تؤدي إلى ناتج تعليمي جيد. والبعد الإنساني كفيل بالاهتمام بأطر التربوية والتكوينية من خلق الظروف البيداغوجية الجيدة، والظروف الاجتماعية والمادية والمالية المساهمة في الاستقرار النفسي والاجتماعي والمالي والارتياح للفعل التربوي والتكويني، واﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺴﻴﻜﻮﺳﻮﻣﺎﺗﻴﻜﻴﺔ المواتية التي تعمل على الرضا عن النفس وتخلق الحافز للعمل ... وغيرها.

هذه المكانة للمنظومة التربوية والتكوينية في التراث التربوي الإسلامي لم تعد قائمة في المجتمع؛ عندما تحولت أداتها الفاعلة وهي المؤسسة التعليمية من مؤسسة مجتمعية إلى مؤسسة مرفقية. بمعنى لم يعد المجتمع هو الحاضن والمسؤول عنها وإنما الدولة هي الحاضن والمسؤولة. وتحول الفعل التعليمي التعلمي من الرسالة إلى الوظيفة، فانتزع البعد العقائدي من واجب الرسالة، وعوض بالواجب المهني، الذي يرمز في أحد أبعاده إلى العمل مقابل الأجر بعيدا عن العامل العقائدي الذي يضفي على الممارسة الصفية البعد الإنساني الأخلاقي العام لا الأخلاقي المهني فقط كما في الواجب المهني؛ أي البعد الأخلاقي في الرسالة يغطي كل الممارسة الصفية وتفاصيلها وحيثياتها باستحضار الخوف من الله تعالى الضامن لعمق الضمير الإنساني في أعلى صفائه ونقائه. بينما في الواجب المهني هناك منظومة الأخلاق المهنية التي قد لا تغطي كل تفاصيل وحيثيات الممارسة الصفية. فمثلا في الرسالة نستحضر البعد الإنساني في الفعل التعليمي، وفي الوظيفة نستحضر الخدمة في حدود أخلاقياتها.

وهذا الانتقال من الرسالة إلى الوظيفة يسمح لمكونات المنظومة التربوية والتكوينية بمساحة معينة لتحييد البعد الإنساني من الممارسة الصفية تخطيطا وإعداد وإنجازا وتقويما. ونحن نلمس مدى الأخطاء الكبيرة والاستراتيجية التي وقعت فيها السياسة التعليمية والتنظير التربوي والتكويني والتدبير العملي لما خطط ونظر له دون أن يرف جفن لأحد، ونحن نلمس عن قرب ما يقع حاليا للمتعلم/ة من تأثيرات التجاذب والاحتقان والتحارب السياسوي والنقابوي والشعبوي، وليس له يد في هذه المحرقة السياسوية والاجتماعية! وعليه يمكن طرح بعض الأسئلة، لعل أجوبتها تقود إلى مراجعة الذات قبل فوات الأوان.

* ألم يشكل الانتقال من مفهوم ومضمون الرسالة إلى مفهوم ومضمون الوظيفة عاملا في فقد المنظومة التربوية والتكوينية روحها الإنساني؟

* ألا يمكن أن نستحضر بعدي الرسالة والوظيفة في تكامل بينها لأجل إحياء ضمير المنظومة التربوية والتكوينية من ألفها إلى يائها؟

* ألا تشكل الرسالة قبل الوظيفة دافعا رئيسا إلى التفكير الاستراتيجي في إنصاف كل مكونات المنظومة التربوية والتكوينية تحت سقف الجودة والارتياح والإبداع؟

ـ ألا يمكن العودة من الوظيفة إلى الرسالة لإحياء ما مات من الأخلاق والقيم في المنظومة التربوية والتكوينية؟

ـ ألا يمكن لمفهوم الرسالة أن يوحد الجميع تجاه المنظومة التربوية والتكوينية بما يخدمها، ويخلق التقاطعات والتقارب من أجلها؟

ـ نحو الوعي:

هذه مجرد علامات استفهام تقع على الواقع لتسائله عن آفاق المؤسسة التعليمية العمومية بالدرجة الأولى، وتحاول أن تخلق مساحة للحوار الاستراتيجي حول مآل قطاع حيوي، لا تنفك الأمم الراقية والمتقدمة أن تموضعه موضع الدماغ والقلب من جسدها المجتمعي والوطني، لعلها تحاصر به علل الجسم وتقضي على سرطاناته القاتلة. وما أكثرها حين يهن الجسم وتخور قواه، تتكالب عليه لأجل الانتعاش والاسترزاق عليه وامتصاص دمه ثم في الأخير نعيه والتكبير عليه.

ورافعة الحوار الاستراتيجي حول المسألة التربوية والتكوينية الوعي الفردي والجمعي للسياسة والسياسة التربوية أولا، ثم للقضايا والمشاكل والإشكاليات الحقيقية والمركزية والجوهرية، بمنظور بعيد المدى، يضع الغايات والأهداف والسيرورات والاستراتيجيات والتقويمات والتدخلات، ويقصد النتائج المستهدفة مباشرة ملغيا كل الهوامش والديدان الزائدة، بعزيمة جادة وقوية لا تلين لأحد مهما كان. ولا ترضخ للضغوطات ولوبيات المقاومة مهما كانت قوية وكثيفة، وهي رهن لمسؤولياتها المهنية والرسالية، وأخلاقها وإنسانيتها فقط. تاج وجودها الصالح العام للمتعلم والمتعلم فقط، وما دون ذلك من إنصاف أطر التربية والتكوين، ووضع المناهج والبرامج والمشاريع والخطط التربوية والتكوينية والاستراتيجيات ومتطلباتها المادية والمالية والظروف المناسبة والمسهلة، يهون ويسهل أمامه بالإرادة السياسية القوية في تهييئها من أجل تحقيق ذلك الصالح العام. ويتلاشى بعزمها على التغيير والتطوير والتجديد. وأما وأن تنتقي بعض المكونات منها للتعاطي معها؛ فذلك أسلوب أعرج أو عقل يرى بعين واحدة، لأن المسألة التربوية والتكوينية هي نسق مفتوح، تؤثر مكوناته البعض في البعض، ويؤثر في الأنساق الخارجية ويتأثر بها. وهو أمر جلي في الحراك والنضال الحالي.

والحوار الاستراتيجي هنا لابد أن يدرس التاريخ والسوابق والتجارب بكل معطياتها وحيثياتها لكي يستفيد منها، ويستفيد من الخبرة، خاصة أن منظومتنا التربوية والتكوينية راكمت ورصدت بنكا كبيرا من الخبرة التربوية والتكوينية والمعرفة والتجارب والطاقات والكفاءات. قادرا على إحداث التغيير والتجديد والتطور المنشود تحت جودة عالية بعيدا عن كوابح الإصلاح، وتحت غطاء الإرادة السياسية القوية والقادرة والحاضنة بكل حنان وسخاء لهذا البنك. لكن إذا غادرنا الوعي ومنطق التفكير بعيون متعددة إلى ما اعتدنا عليه؛ فلن نزداد إلا غرقا في وحل المستقبل الذي بدأ يبتعد علينا بسنين ضوئية كبيرة، أو لنقل يبتعد علينا بفرط الصوت المتسارع. ما سيتركنا ويرحل، ولعل عصر الذكاء الاصطناعي مؤشر عن بداية هذا المستقبل. وعليه؛ لابد للسياسة التربوية وللعقل التربوي والتكويني المغربي أن تذهب إلى التفكير في تحليل وتفكيك أزمة التربية والتكوين من كل مناحيها وجوانبها وتفاصيلها ومفاصلها للخلوص إلى نتائج معبرة عن الواقع ودالة عليه، لإقامة حلول عليها صحيحة وسليمة. ومنه؛ يمكن أن ننجح في الخروج من الأزمة وتجاوزها بأنفسنا.

وآمل أن نعي لما للمشاكل العميقة والسطحية من تأثير سلبي في سيرورة ومردودية وناتج المنظومة التربوية والتكوينية ومخرجاته، التي سجلت تراجعا ظاهرا وواضحا وبائنا وملموسا في نتائج التقويم الدولي PISA لمستوى التلاميذ دورة 2022 مقارنة مع دورة 2018، أخرت رتبته إلى 71 في مجال "الرياضيات"، وإلى 79 في مجال "القراءة"، وإلى 76 في مجال "العلوم"؛ مما تراجعت معه المنظومة التربوية والتكوينية المغربية ب 9 رتب في " القراءة والعلوم" من بين 81 دولة مشاركة!؟ فإن لم نع ما ذكر؛ فذلك خلل في التفكير والمنظور والأداة، يؤدي إلى استدامة أزمة المنظومة التربوية والتكوينية كما حدث ويحدث لنا في مسار الإصلاح. ويتطلب هذا تكثير وتبئير الجهود المختلفة نحو تجاوز التحديات. وذلك أمر ليس سهلا ولكنه غير مستحيل.

***

عبد العزيز قريش – باحث تربوي من المغرب

في المثقف اليوم