قضايا
خالد اليماني: التناقض كبُعد أساسي

كل مفكّر وفيلسوف على مرّ التاريخ، خصوصاً أكثرهم تأثيراً على الثقافة العامة من جهة، وعلى تطور الفكر والعلم من الجهة الأخرى، كانوا جميعاً يحملون الكثير من التناقضات في فلسفاتهم، ويبدو للقارئ للوهلة الأولى، وكأن على الإنسان أن لا يتناقض مع نفسه، وخاصةً إذا كان فيلسوفاً!
في هذه المقالة، نأمل أن نصل إلى شيءٍ من المنطق والمعقولية وراء تناقضات المفكرين والفلاسفة في كل العصور، ونسعى إلى تسليط الضوء على الأسباب التي تجعل الكثير من القراء يتسرعون في الحكم على ما يتعرضون له من طرح الفلاسفة، وكيف علينا أن نفتح المجال لتأويلات سياقية وأكثر موضوعية.
أولاً، يُلاحظ أن الإنسان يرى ما يركّز عليه، أي أننا إذا أردنا أن نبحث عن التناقضات، ليس فقط بين صفحات المفكرين، بل أيضاً في كل السرديات القديمة وأمهات الكتب، قد نجد الكثير من التناقضات، والأقوال التي تبدو ظاهريًا وكأنها تناقض العقل، ولكن مع التأمل الصافي، ودراسة السياق الذي بعثت الفلسفة للحياة، يعي الإنسان الشروط الطبيعية التي من خلالها سُردت هذا الكتب بهذه الطريقة أو تلك، سواءً كنا نتفق معها أم لا نتفق.
ثانياً، أيّ كاتبٍ هو إنسانٌ في نهاية المطاف، ومن الطبيعي مع النضوج ومرور السنين والعقود، أن يتجاوز آراء قد تبنّاها في شبابه، ثم في آخر حياته يوصّل إلى أنها كانت خاطئة، أو على الأقل لا تستريح نفسه لها كنتائج لتفسير ظاهرةٍ ما. وهذا لا يعني أن الحكم "الموضوعي" يقرّ بوجود تناقض، بل الأصح من حيث الفهم هو إدراك أن الإنسانية من حيث هي تعيش تراكمًا وتكاملًا معرفيًا؛ والفلاسفة من حيث هم يعرضون أعمالهم عبر كتب ومقالات، يكونون أكثر عرضةً للتناقض من غيرهم، أو لإعادة الكتابة حول بعض ما سبق أن طرحوه؛ وهنا قد يظهر بعض الخلاف، لا التناقض بالضرورة، بين ما توصّلوا إليه لاحقاً وما كتبوه في بداية مسيرتهم.
أيضاً، إضافة على هذه النقطة، فإن كثيرًا مما يبدو تناقضًا، قد يكون توسعةً لما اختزله المفكر من قبل. على سبيل المثال، قد يكتب كاتبٌ كتابًا حول: أسباب سقوط الحضارة الرومانية، ويعرض فيه ثلاثة أسباب رئيسية. مع مرور الوقت، يُدرك الكاتب، أن كلامه كان صحيحاً جزئيًا فقط، أي أنه أختزل الحقيقة من حيث هي أوسع من هذه الثلاث الأسباب التي لا تمثل تفسيراً متكاملاً لهذه القضية الكبرى. وقد يعتقد البعض أن الكتاب الآخر (إذا كُتب) يناقض الكتاب الأول، لكنه في الواقع يمثل تطورًا وتوسيعًا للبحث، وعبر هذا التوسيع قد يحصل التناقض بين فكرة قديمة وأخرى حديثة.
وهكذا نفهم أن الاستنتاج بوجود تناقض من عدمه، قد يكون صحيحاً، وغالباً لا يكون كذلك. فمهمة القارىء أن يتأكد من فهم النص أولاً، ثم يُصدر حكمًا موضوعيًا ثانياً. وهذا ليس بالأمر الصعب على من تعوّد على فنّ القراءة النقدية.
ثالثاً، كما ذكرنا آنفًا، فإن الإنسان من حيث هو كائنٌ متناقض، قد يتناقض مع نفسه في اليوم والليلة! وهذا يحصل كثيراً عندما نُركّز على تقلبات الأحداث والتجارب وعلى أثرها في تراكم معارفنا ومعتقداتنا ونظرتنا للأمور.
وهنا علينا أن ندرك أمراً مهماً يغفل عنه الكثير من القراء، وحتى الباحثين أحيانًا، وهو أن التناقض لا يعني أن يتناقض الكاتب مرة أو مرتين أو ثلاثًا في كتابٍ ما. فإذا كانت نسبة التناغم والانسجام في نسق تفكير الكاتب تصل إلى ٧٥٪ فما فوق، فلا يصح اعتباره كاتبًا متناقضًا، حتى وإن وجُدت بعض التناقضات في نفس الكتاب (إن افترضنا وجودها أصلًا).
أيضاً، من المهم أن نتذكّر أن التناقض يُقاس بمن خلال الأفكار الرئيسية التي تُمثل جوهر فلسفة الكاتب ونسقه الفكري، لا من خلال الأفكار الثانوية التي قد لا تكون ذات أهمية من حيث الدقة، أو التي لم يمنحها الكاتب ما يكفي من التأمل. فمثل هذا يعدّ أقرب إلى التعجّل العلمي منه إلى التناقض الحقيقي.
تمامًا لما سلف، أعتقد أنه لا مناص من التناقض من حيث إن المعرفة تراكم وتقييم وحذف. ولا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نجد فيلسوفاً، أو مفكراً، أو عالماً، أو أديباً وشاعراً، لم يتناقض مع طرحه، ولو على مستوى بسيط.
وهذا لا يُعدّ عيبًا في الكاتب، بل على العكس، يدل ذلك على أنه كثير القراءة والتفكير، ولذلك تظهر عنده التناقضات. كما أن في ذلك إشارة على تقدّمه على المستوى المفاهيمي والفلسفي. وأنه لم يتوقف عند فهمه الأول للقضايا التي يعالجها.
ويمكننا القول إن من لا يتناقض مع نفسه أبداً، لم يُفكّر أبداً. والمعرفة في جوهرها، سلسلة لا تنتهي من التصحيح والتكامل؛ وهذا ما يجعل من البنيان المعرفي جسداً واحداً، أشبه بلوحة عريضة يمكن لكلًّ منا أن يُساهم فيها أو يُعدّل عليها، بعلمٍ وموضوعية ومحبة!
***
خالد اليماني