قضايا
نبيل علي صالح: هل العلمانية شرط لازم للديمقراطية والدولة المدنية؟
كثيرةٌ هي الرهانات على بناء دول مدنية ديمقراطية في بلداننا.. ولكن ما مدى صحة وواقعية أن تكون الدولة المدنية مرهونة في وجودها وتحققها، لتطبيق العلمانية كما يردد البعض، ويربط نجاحها بتمثلها كما هي في الغرب العلماني؟!..
من المعروف أنّ الدولة المدنية الديمقراطية هي دولة تنتظمُ بمرجعية القانون المدني الذي يفصلُ بين الدين والدولة، (وليس بين الدين والمجتمع)، ويحكمها الدستور (العقد الاجتماعي) الذي يتفقُ عليه أبناءُ المجتمع توافقاً طوعياً لا إكراهياً، حيث تشكلُ منظومةُ التشريعات والقوانين مرجعيةً حاكمة لتنظيم التوازن والتلازم بين السلطات والصلاحيات، وطريقة التداول على السّلطة، وضمان حق المواطنين بممارسة حرياتهم في التعبير والتنظيم، وتكونُ الأمة (الشعب) هي مصدر السّلطات كلها، التنفيذية منها والقضائية والتشريعية أو التقنينية، وذلك عبر ممثليها، وهم أعضاء البرلمانات فيها، حيث يهيمن القانون على كل مكونات الدولة أفراداً وسلطات، وتُفوَّضُ السلطةُ الحاكمة بقيادة الدولة تفويضاً مقيّداً زماناً بالقانون، لا مطلقاً ونهائياً.. والتقييد هنا يتقوم بالصالح العام، أي مصالح الوطن والمواطنين..
أما العَلمانيّةُ فهي لم تنشأ عندنا في عوالم الشّرق، بل تعود إرهاصاتها الأولى في تحديد بنيتها -وكل ما تعلق بضبط معناها الحقيقي- تعود كلها إلى المجال التاريخي الثقافي والسياسي الغربي.. حيث انطلقت بداياتها من خلال السّجالات والصدامات الفكرية وغير الفكرية التي وقعت بين رجالات الدين الكنسيين وعلماء الفكر والطبيعة، في سعيهم الحثيث للاستقلال عن مرجعية الكنيسة واللاهوت الديني الكنسي التي احتكرت الحقيقة، واعتبرت كل انطباعاتها عن الحياة والوجود والإنسان قوانين صارمة مقدسة سوّرتها بأسيجةٍ من حديدٍ ونار.. والاستقلالية هنا بدأت بالفلسفة، بالعقل والفكر، لتنشأ وتتكون مختلف العلوم خارج إطار قيود المسيحية، بل ضدها في بعض الأحيان، وأن كل الحقائق الإنسانية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية وغير ذلك، قد استقلت عن الدين.
وتعني "العلمانية" في جانبها السياسي، "اللا دينية" في الحكم والممارسة السياسية، وتقوم على فكرة: فصل الدين عن الدولة، وحيادية الدولة (بمختلف معاييرها ومؤسساتها) تجاه كل ما ديني وتاريخي وثقافي يتصلُ بعادات الناس وتقاليدهم وأنظمة معناهم التاريخية..
وقد جاء معنى هذا المصطلح في الواقع العملي ليكونَ عبارة عن: عزل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع، ودفْعه ليبقَ هويةً خاصة محبوسة في داخل الإنسان، في ضميره ووجدانه فقط، كعلاقة ذاتية فردية بين المرء وبين معبوده؛ وإنْ سُمح له بالتعبير عن نفسه في حركة الواقع، يأتي التعبيرُ فقط طقوسياً في الشعائر التعبدية، والمراسيم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما فحسب.
وبعيداً عن التعريف الاصطلاحي للعلمانية -وهو بات معروفاً وحاضراً لدى الكثيرين- نقول بأنّ العلمانية -كفكرة ومرجعية رضيتْ بها دول الغرب، وحظيتْ باهتمام مجتمعاتهم، وتمَّ تبنّيها كعقيدة سياسية عملية لهم، على مستوى القيم والسّلوكيات العملية السّياسية والاجتماعية- ليس لنا معها نقاشٌ سياسي عملي يخصّهم في اختيار مرجعيتهم الخاصّة بهم التي تتناسب مع تاريخَهم وتلائم قناعاتَهم، ولهم إرادة حقيقية جدية فيها، إلا عند تحوُّلها لعقيدةٍ سياسية صدامية ضد الآخر (العربي الإسلامي بالذات)، ومحاولات طمس هويته الحضارية الدينية التاريخية عبر سياسات الفرض والإملاء التي مورست وتمارس سياسياً وعملياً في فضائنا السياسي العربي والإسلامي، في سعيهم الدائم لنَقْل كل ما في الغرب من أشكال القيم ومعايير السلوكيات اللا دينية، وفرْضها على مجتمعاتنا دونما تدقيق وتمحيص ومساءلة ومراجعة نقدية.
أما المشكلة -بخصوص العلمانية في تطبيقاتها العربية وأفكارها وقيمها ومختلف مذاهب أصحابها، وكل ما يرتبط به من اتجاهات ويخرج عن قادتها من آراء وطروحات- أن بعض أتباعها ومروّجيها، كانت لديهم رؤية إلغائية للدين، بل وكانوا يستهدفون فعلياً استئصال الدين ذاته من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية للناس، وفي الحد الأدنى قيامهم بتأسيس رؤى وأفكار دينية لا علاقة لها بالدين نفسه.. وهذا ما يتنافى مع معنى العلمانية في أصل نشأتها الغربية ومعناها السياسي العملي لا المعرفي التاريخي المدرسي.
نقول هذا الكلام مع ملاحظة أنَّ الإسلامَ (شئنا أم أبينا) دينٌ اجتماعي عملي لا ينفصلُ في قيمه وأفكاره وأنظمة معناه، عن واقعِ الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد المسلم، بل يطالبه (ويأمره) بتمثّل وتطبيق قيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته في كلّ تفاصيل حياته الخاصة والعامة.. فكيفَ يمكن والحال هذه، التوفيقَ بين الأمر (والشرع) الديني الإسلامي (الإلهي)، وبين واقع الحياة العلماني الذي يرفضُ أنْ يكونَ للدين أي دور في حياة الناس والمجتمع ككل؟!!.. هنا يكمن ويقع أصل الصدام الفكري والعملي بين فكرة العلمانية والدين الإسلامي..!!..
وهذه –كما نعتقد- إشكالية كبيرة وخطيرة تدلنا على مدى هذا الانقسام الحاصل في بلداننا العربية عموماً بخصوص فكرة العلمانية.. وهو انقسام بين نخب وتيارات سياسية وثقافية حالمة بتطبيق العلمانية (كما هي في بيئة غير مؤاتية لها)، وبين مجتمعات (رافضة لمعناها ومبناها)، وتعتقد أنّ أول ما تستهدفه هذه الفكرة هو عقيدتها الدينية وتراثها الإسلامي وأنسجتها التاريخية وخيارات الناس فيها.. مع عدم تفريق تلك النخب بين معنى الدين وآليات تطبيقه العملية في الغرب الكنسي، وبين معناه وآلية تطبيقه العملية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.. ووقوعها في شراك محاولات نقل وسحب تجربة الغرب (في طريقة تعاطيه مع الدين) مع الدين إلى مجتمعاتنا..
لقد جاءت حركة العلمنة كخلاصة لجهود الرفض والمواجهة مع الكنيسة القروسطية، وذلك لكي تفصل بين الدين المسيحي والدولة.. في حين أن الإسلام كدين ليس سلطة روحية كهنوتية ولا بشرية، ولم يحدث أن قامت ضده ثورات وانتفاضات أو حركاتٍ معارضة فكرية وسياسية.. بل على العكس تاريخنا العربي الإسلامي كان تاريخاً (علمانياً مدنياً) بامتياز، ارتفعتْ وعلتْ فيه السياسة وفنونها وألاعيبها فوق الجميع في العلاقات والسلوكيات وآليات التعامل..
ولكن للأسف بقيت تلك النخب العربية عندنا متترّسة عند حدودها الفكرية ومقولاتها الذاتية العقائدية الأولى المعادية لدين مجتمعاتها، مُتبنّيةً قوالبَ فكرية قديمة مغلقة في فهمها وتوصيفها ووعيها لتلك المتغيرات التي أصابت عالمنا العربي في صميمه، وبدأت تستعيد الشعوب من خلالها حيويتها وقوتها ودورها ومكانتها على صعيد الفعل السياسي والمشاركة في صنع المصائر والمآلات الوجودية.
مع أنه كان واجباً عليها وعلينا جميعاً كمفكرين ونخب واعية، أن نقر ونعترف بأن المسلمين لم يتقبلوا مصطلح العلمانية في مجتمعاتهم، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى العملي، بالرغم من تطبيقاته في كثير من بلدانهم التي فرضَ حُكّامُها ونخبتها "العسكرتارية" أيديولوجيات مفارقة قهرية مستبدة، لم تلقَ القبول والاستجابة الطوعية المطلوبة للنهوض والتقدم المجتمعي الحقيقي من قبل الفاعل الاجتماعي العربي والإسلامي، فكان أن بقيت تلك التطبيقات مجرد دعوات ومشاريع حداثة شكلية وتحديثات قشرية نخبوية مكلفة وعقيمة.. على الرغم من مرور زمن سياسي طويل على فرْضها في بعض مجتمعاتهم التي حكمتها أيديولوجيات مختلفة، ونقول "فرْضها" بسبب خصومتها النفسية والعملية معهم..
ورغم المنبت والجَذْر الثّقافي والسّياسي الغربي الواحد، لا أتصوّرُ أنَّ ثمّة علاقة ضمنية عضوية (راسخة ومستقرة) بين مفهومي الدولة الديمقراطية المدنية وبين العلمانية، بما قد يؤدي ليكون أحَدُهُما نتيجةً للآخر، أو ليكونا معاً شرطاً أساسياً أولياً -أو حتى فرعياً ثانوياً- للوصول إلى واقع الحداثة الفكرية والعلمية والتنمية والتطور السياسي والازدهار المجتمعي لأي بلد ينشد التطور والازدهار وتحقيق رفاهية الإنسان، كما هي حالتنا السورية راهناً بعد نجاح الثورة السورية في كسر شأفة الاستبداد والدولة التسلطية الأمنية التي دامت عدة عقود..
وهذا الأمر أو الإعلان الفكري (المتمثل في اعتبار المدنية -والحداثة ككل- مشروطة بالعلمانية) جرى تداوله لدى كثير من الساسة والمفكرين النهضويين العرب منذ بدايات القرن الماضي، ممن حاولوا عبره نقلَ (أو نسخ) تجربة الغرب في صراعاته السياسية والفكرية المعرفية مع الكنيسة، إلى ساحاتنا الثقافية والسياسية العربية، معلنين (ومعتقِدين) أنه لا حداثة ولا تطوراً ولا تقدماً في بلداننا العربية والإسلامية من دون تمثُّل قيم العلمانية بمعناها الغربي كمدخل لتحقيق المشروع الديمقراطي المدني في بيئتنا العربية السياسية-الاجتماعية..!!.. مع أن النتيجة كانت واضحة لجهة أنه لم تتحقق العلمانية على صورتها الفكرية العقدية، كما لم يتم إنجاز الأرضية الملائمة للبناء الديمقراطي التعددي في عالمنا العربي إلا ضمن تجارب قاربت المفهوم (شكلاً)، دونما أي تمثّل عملي حقيقي له (مضموناً).. بما يعني أنَّ ثمّة معيقات وتعارضَات حقيقية بين الفكرتين في سياقات التطبيق عندنا.. وأنه بالتالي يمكن لأي بلد تطوير صيغه السياسية والتنظيمية الداخلية بما يلائم سياقه الحضاري التاريخي، شرط أن تكون –تلك الصيغة أو الصيغ- قائمة على قيمة ومبدأ الحرية، وقابلة لإفشاء المبادئ والحقوق الإنسانية الجوهرية تحقيقاً للمواطنة السياسية والعملية..
وهذه القضايا برأيي ليست خاضعة ولا مرهونة لفكرة (وعقيدة) العلمنة، وليست مشروطة نهائياً بها.. فالديمقراطية مثلاً، (كمجرد آلية وترتيب مؤسساتي للوصول إلى القرارات السياسية التي تحدد المصلحة العامة من خلال تمكين الشعب نفسه من اتخاذ القرارات)، لم تخرج من رحم العلمانية، بل جاءت كنتيجة ومآل طبيعي لمجمل الصراعات والاصطدامات والتدافعات المريرة والقاسية التي جرت تاريخياً بين الشعوب والمجتمعات من جهة وممثلي الحكم القابضين على مفاصل السلطة بمختلف مواقعها ومحاورها ومراكزها من جهة ثانية.. وقد اقتصرت الديمقراطية في بداية نشأتها على طبقات سياسية محددة من ذوي النفوذ المالي والاقطاعي في المجتمعات الغربية، حيث لم يكن للعبيد والنساء والفقراء أي دور فيها، لا ترشيحاً ولا انتخاباً.. أي أنهم كانوا محرومين من المشاركة في القرار ومجمل فضاءات الفعالية الديمقراطية.. لكن هذه الآلية السياسية (الديمقراطية) -وبحكم أنها غير نهائية- كانت قابلة للتطوير لتمتد في الواقع التطبيقي نحو كافة مواقع المجتمع وأركانه، خصوصاً مع حاجة الناس الحيوية للحرية كأساس لأيِّ فعلٍ وحضورٍ ومشاركة وفعاليّة بشرية.. وفكرة أو قيمة الحرية (التي هي جوهر العملية الديمقراطية) لا علاقة لها بالعلمانية، وليستِ العلمنة شرطاً لها، وهي (أي العلمانية) جاءت كما قلنا نتيجة لصراع خَاضَه البشر مع سلطات الكهنوت الديني في مضمونه الكنسي الأكليروسي الذي كان سائداً زمن القرون الوسطى في الغرب، حيث تمفصلت الكنيسة وقتها مع الملوك والإقطاع وكبار الملاكين ليشكلوا كتلةَ قوية للسلطة والحكم الاستبدادي والهيمنة الخاصة والعامة..
والذي يدفعنا أكثر لتقرير أن الدولة الديموقراطية المدنية ليست مشروطة بالعلمنة هو أن الديمقراطية مجرد آليات إجرائية تنظيمية للواقع السياسي، وليست عقيدة أيديولوجية أو حالة حزبية سياسية، بإمكان أصحاب الديانات والرؤى المتباينة تبنّيها، فهي لم تعدْ غصناً للجذر العلماني، وإنما أصبحت ثروة إنسانية، ومفصلاً فكرياً مهماً في التراث الإنساني..
..حتى أنه في الغرب ذاته -الذي ترعرعت ونشأت فيه أفكار الربط العضوي بين الديمقراطية والعلمانية- ظهرت دراساتٌ كثيرة تحاول إثبات بل وتبرهن على عملية عدم الربط بين الفكرتين، وعلى حدوث الانفكاك النظري القيمي التاريخي، في وقت كنا نرى فيه مفكرين وسياسيين عرب يتبنون فكرة الارتباط وينظّرون لها ويدافعون عنها، ويتوسلون أدوات القوة والعنف لفرضها قسرياً في البيئة العربية دونما أدنى معرفة فكرية وفلسفية حقيقية لخلفيتها وبيئتها التي أنتجتها..
والانفكاك ظهرَ أساساً في سيرورات الفعل التاريخي إبان حدوث الثورات التغييرية في الغرب، حيث أنه (وعلى الرغم من عدم كون الديانة المسيحية ديانة بخلفية سياسية، تبنت فكرة الانفصال بين الدنيوي والديني)، لاحظنا أن أفكارها الفلسفية والأخلاقية أثّرت تأثيراً مباشراً في سلوكيات كثيرين ممن حَمَلوا لواء الديمقراطية وأسهموا في مختلف آليات تطور الفكر الديمقراطي في الغرب الحديث..
والمعروف أنَّ كثيراً من الثورات والانتفاضات الشَّعبية التي جرتْ في الغربِ، والتي ناضلَ فيها الناسُ للوصول إلى مناخ الديمقراطية والاعتراف بحقوقهم الإنسانية، وعلى رأسها قيم العدل والكرامة والحرية، كانَ الدينُ فيها حاضراً في نداءات الثوار وفي مسالكهم وأعمالهم، ونداءاتهم ودعواتهم للتمرد على الطغاة والمستبدين والحكام الظالمين، حتى أنّ الثوارَ الأميركيين كانوا يرون (ويعتقدون ضمناً) أنَّ التّمردَ على الطغاة طاعةٌ لله، وكيف أنَّ الدين -قبل الثورة وبعدها- وفّر المبادئ الأخلاقية والسياسية للثوار، وصاغ الأمة الأميركية الجديدة.. فلا عجب أن ينص إعلان الاستقلال الأميركي -في صدره- على أنّ الحقوق الإنسانية الطبيعية "منحة إلهية"، بدلاً من وصفها بأنها "حقوق طبيعية" على ما هو شائع في الفلسفة السياسية الأوروبية، بحسب ما رآه المفكر توماس كيد (أحد أهم دارسي الفكر والتاريخ السياسي الأمريكي) في كتابه "رب الحرية: تاريخ ديني للثورة الأميركية"..
واليوم تتواجدُ في الغرب كثيرٌ من الحركات والأحزاب الدينية التي لها أطر وهياكل ومؤسسات ديمقراطية واضحة من القمة إلى القاعدة في داخلها، وفي ممارسة السلطة خارج إطارها، فهناك مثلاً الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، وهناك الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي، بل هناك أيضاً حزب "شاس" وهو حزب تلمودي متطرف في الكيان الصهيوني، وهذا كله يعني أن المرجعية الدينية تتحمل الديمقراطية، وأن الديمقراطية والدولة المدنية ليست مرهونة لتحقق العلمانية، وإلا ما كان لهذه الأحزاب وجود في أي بلد غربي أو غير غربي.. بالتالي، فإن بإمكان السياسي المتدين أن يكون ديمقراطياً، دون أن يكون علمانياً.. وإذا كانت الفضاءات السياسية الغربية قبلت نشوء أحزاب على أسس دينية مسيحية أو يهودية، فلماذا بقيت السياسة الرسمية العربية رافضة لفكرة قيام ونشوء أحزاب سياسية على أسس دينية خاصة مع قناعتها بالعمل التعددي الديمقراطي، وإيمانها بها تحت سقف القانون والنظام العام، والالتزام بدولة المواطنة.. خصوصاً وأن الديمقراطية لا تشكّل إطاراً عقائدياً، بل هي –كما قلنا- مجرد آليات تنظيمية سياسية محايدة لا دين لها ولا مذهب ولا طائفة، وفي وسع أصحاب مختلف الأديان والمذاهب أنْ يتبنوها وينبذوا سياسات القمع والإقصاء من خلالها؟!!..
إننا نعتقد أن الإسلام الذي كانت قيمة العدل (ومبدأ الحرية الإنسانية) في صلب دعوته العقيدية، قابلٌ لاستيعاب كافة تجارب وحركات ومواقع الأمة الداعية لهذه القيمة-المبدأ.. وقد فعلها سابقاً في التاريخ..
نعم، إن هذا التلاحم العضوي بين الدين والحرية قائم وموجود أيضاً في بِنية الإسلام نفسه، وهو الذي كان وراء تفجّر كل الثورات والانتفاضات الاستقلالية الوطنية التي اندلعت في بلداننا العربية والإسلامية طلباً للتّحرر والانعتاق من ربقة المستعمر الخارجي (وحتى المستعمر الداخلي المستبد) في كثير من مفاصل حركة التاريخ العربي والإسلامي قديماً وحديثاً، حيث تحوّل الدين (الإسلام) إلى أكبر ملهم وأعظم دافع وحافز لقضية الحرية وغيرها من الحقوق الإنسانية، وكان منارةً للاستهداء والمعنى القيمي والواقعي..
وهذا يؤكِّدُ -بطبيعة الحال- أنَّ الإسلام لم يكن يعاني من عقدة الانفصال بين عقيدته وفكره القيمي وبين واقع الناس وتطلعاتهم وتطوراتهم الذاتية والموضوعية، وأنه كانَ فكراً إنسانياً تسامحياً منفتحاً على الحياة والعصر والإنسان، وقابلاً لاحتواءِ وتقبل (وهضم) لكل ما هو جديد إنساني متطابق مع مصلحة الناس ونفعهم وفائدتهم، بلا مقدمات عقيدية معقدة ومعيقة لحركة التطور التاريخي البشري، ويدلّ أكثر على مدى أريحية (وسهولة) تسييل هذا الفكر في حركة الواقع البشري المعاش، خدمة للإنسان والإنسانية جمعاء.. وفي سوريا (ملتقى القوافل والتجارة وممر الثقافات والحضارات) يهيمن هذا النمط أو المعنى القيمي العملي من الإسلام الحضاري التعددي الذي يقبل الآخر (المختلف)، خاصة في الشام.. حيث التلاقح الحضاري البشري بين مختلف التكوينات والأديان والثقافات.. وهذا الإسلام رافض في ذاتيته وبِنيته العقدية للتعصب والإقصاء وحتى للتحزب الديني، لأنه إسلام صوفي تسامحي تشاركي يقبل الآخر كما هو، لأن الآخر عنده نظيره الإنساني في الخلق..
إنّنا نعتقد أن نشوءَ عقدة وعقيدة الانفصال، حدثت وتعمّقت في الغرب كما قلنا، مع أنه جرت هناك عملية المصالحة التاريخية الكبرى بين الدين والعلمنة، رغم ما كان بينهما من صراعات تاريخية مكلفة، وذلك بعدما سرت روح الإصلاح التنويري في الفكر الكنسي البروتستانتي تحديداً، مع تخفّف الكنيسة من عقلية الهيمنة الكلية وروحية الكهنوت البابوي والوصاية على ضمائر الناس ونواياها الداخلية، وهذا ما لاحظه هيغل في كتابه "العقل في التاريخ"، حيث اعتبر أنّ "الكنيسة البروتستانية كانت ترى أن الحياة كلها –أي نشاطها بصفة عامة- هي مجال العمل الديني"..
وفي مجالنا التاريخي العربي والإسلامي لم يحدث ذلك الفصل بين الدين والحياة ولا بين الدين والدولة، فالإسلام عقيدة وفكر إنساني يدعو لإقامة أسس ومواقع العدل في الحياة كافة، والسياسة عنده وعند كل تجارب الأفكار والنظريات، تدعو لتحقيق قيمة العدل في الحياة كافة..
هنا: نحن نحتاج -وهذا ما فشلت فيه وعجزت عنه الدولة التحديثية العربية منذ عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي- إلى بناء وتأسيس أو مأسسة صيغة مجتمعية سياسية مدنية يرضى عنها الناس، ويتوافق عليها المجتمع (لا أن تفرض قسراً من علٍ)، تهيئ الأجواء وترعى وتحفظ وتوفر أرضية حرة لقناعات الجميع ولأفكار وتقاليد الجميع لكي يعبروا عنها بصورة سلمية حضارية مدنية في الهواء الطلق ودونما تضييق أو كبت أو خوف..
وهذا المناخ أو تلك الصيغة التي تمكّن العقل البشري من الوصول اليها ومأسستها قانونياً وحقوقياً ودستورياً، هي صيغة الدولة المدنية الديمقراطية غير المشروطة بفكرة وعقيدة العلمانية، الدولة المدنية المؤسسية (أسميها دولة الحقوق والخدمات والرفاه).. بحيث تكون حيادية تجاه الأديان والأيديولوجيات كافة.. لتكونَ أيديولوجيتها الوحيدة هي خدمة الناس والصالح العام، وتأمين وجود حي وفعال ومنتج وحياة رغيدة هانئة للأفراد والمجتمعات بصرف النظر عن خلفياتها العقدية والسياسية والأقوامية والاتنية وغيرها.. هي فحسب دولة الحقّ والحرية..
***
نبيل علي صالح - باحث وكاتب سوري