أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: كيف كتب هيمنجواي روايته العظيمة

اعتُبر الكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي (21 تموز1889/ 2 تموز1961). منذ سنوات بعيدة، في حياته وبعد مغادرته عالمنا بإرادته، واحدًا من أبرز الكتاب المبدعين باللغة الإنجليزية، وقد اتخذت روايته القصيرة "الشيخ والبحر"، منذ صدورها الأول موقعًا خاصًا في نتاجه الادبي، قليل العدد (7 روايات و6 مجموعات قصصية وكتابان نثريان)، وفير الأهمية والعمق الإبداعي. ويكفي أن نقول إن هذه الرواية القصيرة خوّلت صاحبها بعد ثلاث سنوات من صدورها، للحصول على الجائزة الأدبية الأولى في العالم وأعني بها جائزة نوبل الفرع الادبي، كما يكفي ان نقول إن طلّاب المدارس الثانوية في بلادنا دأبوا على قراءة هذه الرواية التي تُقدّم صورة لصراع الانسان مع الطبيعة منذ سنوات بعيدة.
لهذا كله ولغيره، سنتحدث فيما يلي عن هذه الرواية، محاولين الإجابة عن سؤال طالما اقلق الكثيرين في الفترة الجارية خاصة، وهو كيف كتب هيمنجواي روايته العظيمة هذه.
كان ذلك في عام 1950، عندما كان هيمنجواي يفكر فيما يودّ ان يكتب، في الفترة الراهنة، فقد سبق له وأن كتب وأصدر العديد من الروايات اللافتة في مقدمتها "وداعا للسلاح"، التي تتمحور احداثها حول الحرب الاهلية في اسبانيا، تلك الحرب التي شارك فيها همنجواي ذاته كمناضل أراد ان تتجاوز نضالاته حدود بلاده، زد على هذا كان يفكر في إرضاء ضيفين عزيزين (احدهما رجل من هوليوود والأخر ضابط من واشنطن)، حلا عليه في بيته، الجميل "فينكا فيجيا"، الواقع قرب هافانا، والذي يبعد عن سان فرانسسكو دي باولا بمئتي متر او أكثر.
وبينما هو يفكر في هذا وذاك، طرأت على باله فكرة طالما راودته كتابتها ولم ينفذها لسبب ما قد يتعلق بالضيوف الكثيرين الذين يتردّدون عليه زوارا في هذا الوقت او ذاك، المهم ان هذه الفكرة ألحت عليه بشكل لا يحتمل التأجيل أكثر، الامر الذي دفعه باختصار، لأن يتوجّه إلى زوجته ورفيقة دربه ماري، طالبًا منها كتابة لافتة، قلّما كتبتها ونصبتها في مدخل بيتهما، تلك اللافتة تضمنت بناء على طلب هيمنجواي جملة مفادها "يمنع الدخول دون موعد".. وكان ان وصلت الرسالة الى أولئك الضيفين وكل منهما غال وعزيز، فاستأذنا وانصرفا رغم علمهما برغبة الكاتب المشهور صديقهما المقرّب في بقائهما. اما هيمنجواي فقد دخل إلى غُرفته الخاصة، مشغله، وتناول أحد أقلام الرصاص كعادته في الكتابة، وراح يكتب بصعوبة أولًا، غير انه انطلق خلال اتضاح الفكرة الرئيسية وتحدّدها في وُجهة.. اخذت تتضح رويدًا رويدًا، يكتب بسرعة كبيرة، جاريًا وراء الاحداث التي راحت تتتالى وتترى واحدة تلو الأخرى، لاحةً عليه في كتابتها. وها هو يتصادق، ملتصقا ببطل روايته/ سانتياغو، البالغ من العمر عتيًا/ الثمانين عاما او نحوها، لكن المُحبّ للصيد والبحر، والطفل مانويل الذي رافقه دائما ولم يرافقه.. هذه المرة، نتيجة الحاح ذويه ، بل ها هو يتمكّن من تصويره بدقة تجلّ عن الوصف، وها هي الرواية تصل إلى احدى ذراها الشامخة العالية، وذلك بمشهد مواجهة بطل الرواية، العجوز او الشيخ، لسمكة قرش، ضخمة وهنا يندمج هيمنجواي في الحدث او الوصف، حدّ أن القارئ، أنا مثلا، يندمج بمتابعة احداث تلك المواجهة بكلّ ما ضمته من تفاصيل، وكأنما هو يراها، لا سيما عندما تستشيط تلك السمكة محاولة الإفلات من قبضة صيادها المُدرّبة المكينة، ويتوقّف القارئ طويلًا ومديًدا عند جُملةٍ يُطلقُها ذلك الصياد الهُمام هاتفًا بصيده المتمرّد العنيف :" انت تستطيعين ان تهزميني لكن لا يمكنك القضاء عليّ"، هكذا تشتد المعركة بين الصياد العجوز وصيده الضخم، وتنتهي المعركة بانتصار العجوز/ الانسان في معركته مع اعتى الكائنات البحرية، سمكة القرش الضخمة، ومسجلًا انتصارًا بشريًا عليها، أو على الطبيعة كما رأى بعض نقاد هذه الرواية وقرائها المتماهين معها ومع ما طرحته. ومع هذا كلّه، تنتهي الرواية بأن يجرّ صيادُنا العجوز ذو القوة غير العادية، إلى جانب قاربه تلك السمكة، لكن ما يحدث أن ما ينزف منها من دماء يستدعى بقية الأسماك للإقبال على التهام كلّ ما اكتنزت به من لحوم شهية، الامر الذي لا يُبقي لصائدها المقدام سوى هيكلها العظمى.. وهذا ما يتبينه عند وصوله الشاطئ الذي انطلق منه.
كتب هيمنجواي في الأسبوع الأول حوالي ثلاثة الاف كلمة، من أصل حوالي الثلاثين ألف كلمة (الرواية بترجمتها العربية التي قام بها ونفذها منير البعلبكي وقعت في 136 صفحة)، وتابع فيما بعد في كتابته واصفًا لنا، نحن القراء، المشهد الروائي المعيش، وكأنما نحن نراه ولا نقرأه فحسب. بعد انتهاء هيمنجواي من كتابة النسخة الأولى على عجل بقلم الرصاص كما سلف، قام بقراءتها كعادته بعد الانتهاء من أي رواية سبق له وأن كتبها، وبعد مراجعته المشدّدة هذه، قام بطباعتها كلمة كلمة، جُملة جُملة وفقرة فقرة، الامر الذي مكّنه من أن يقرّبها من الكمال.
بعد عام من كتابة هيمنجواي روايته هذه، أرسلها إلى ناشره، فقام هذا بطباعتها، وقبل أن تصدر كان القراء قد حجزوا 15 ألف نسخة منها، وبإمكاننا القول، نقلا عن مصادر أخرى موثوقة، أن الرواية سجّلت نفسها منذ البدايات الأولى لصدورها واحدة من أفضل الروايات الامريكية الصادرة آنذاك، أما الذروة التي بلغتها هذه الرواية فقد كانت عام 1954، أي بعد صدورها بعامين، وذلك بتخويلها صاحبها الحصول على الجائزة الأدبية الكبرى في العالم، جائزة نوبل للأدب.
أثار ما أحرزته هذه الرواية من نجاح الكثيرين، فزعمت صحيفة كوبية، تدعى "اكسلسيور"، ان هيمنجواي "سرق"، فكرتها من صياد كوبي عجوز في الثامنة والستين من العمر، يدعى ميغيل راميرز، رواها له، الامر الذي استفز صاحب الرواية واغضبه، فتوجه نحو بلدة ذلك العجوز الكوبي، وبيده مسجل، وعندما وقف قُبالته، راح يوجّه إليه السؤال تلو السؤال، فقام ذلك العجوز بالردّ عليه، وكانت نتيجة تلك المقابلة بين كاتب الرواية وبطلها المزعوم، تبرئة كاتبها.
***
ناجي ظاهر