أقلام ثقافية
غريب دوحي: صابئة حران.. الطائفة التي انقرضت

يقول الصابئة إنهم ورثة أقدم الديانات السماوية وان كتبهم هي صحف ادم وشيت وإدريس ونوح وهم ينتشرون في العراق في مدن العمارة والناصرية والبصرة وبغداد، اسمهم مأخوذ من) صــــبا الآرامية التي تعني (اغتسل) وأما مهنتهم الرئيسية فهي صياغة الذهب وبيعه وصنع القوارب في المدن الريفية.
وهناك رأي آخر في أصل التسمية يقول: إن أصل الصابئ في اللغة هو الذي يترك دينه وينتقل الى دين آخر فيقال (صبأ) حيث وردت هذه الكلمة على اثر انتشار الدين الإسلامي وتحول العرب من الوثنية الى الإسلام .
وهناك طائفتان من الصابئة وهما:
1) الصابئة المندائية أو ما يسمون بصابئة العراق ويطلق عليهم بعض المؤرخين اسم (نصارى يوحنا المعمدان).
۲) صابئة حران: وهو موضوع المقال هذا وسموا بهذا الاسم نسبة الى مدينة (حران)او حاران التي ذكرها المؤرخ العراقي احمد سوس كتابه (العرب واليهود في التاريخ) وهي مدينة قديمة تقع في شمال الشرقي من بلاد ما بين النهرين قرب الحدود السورية التركية على منابع نهر البليخ، ذكر اسمها في التوراة بإسم فدان آرام وكانت مركزاً تجارياً بين العراق والشام وهي المدينة التي توجه إليها إبراهيم الخليل بعد خروجه مـــــن أور ومنها ذهب الى كنعان، فتحها المسالمون في عهد الخليفة الثاني) .
وهي اليوم ضمن أراضي تركيا شانها شان مدينة الاسكندرونه السورية التي استولت عليها تركيا عام ۱۹۳۹ وكانت حران ملتقى الحضارات اليونانية والفارسية وقد انتقلت إليها حضارة اليونان عن طريق الإسكندرية لذلك انتشرت فيها العلوم الرياضية والفلكية ونظريات فيثاغورس فتميزت حران بعلمائها وفلاسفتها كما يأتي ذكرهم فيما بعد لقد ورد ذكر صابئة حران في المصادر الإسلامية فابن النديم في كتابه (الفهرست) يسوق لنا رواية تاريخية يقول فيها ... (إن الخليفة المأمون عندما اجتاز أرضهم قاصداً بلاد الروم إذ رأى جماعة غريبي المنظر وظهر إنهم ليسوا من أهل كتاب فانذرهم المأمون بدخول إحدى الملل الكتابية وإلا قتلهم، فأشار إليهم فقيه أن يسموا أنفسهم بالصابئة لأنها وردت في القرآن فمنهم من دخل الإسلام ومنهم مــن تنــصــر ولكن المأمون مات بغزوته تلك وارتد كثير منهم الى الحرانية) .
غير إن كتاب من الصابئة المندائية يرون (إن مركز ديانتهم كانت (اورشليم) ومنها المعمد (يوحنا المعمدان) إلا إنهم هجروا عاصمتهم تحت الضغوط التي مارسها ضدهم اليهود حيث مروا بمدينة حران ومن هنا جاءت تسميتهم ومنها انتقلوا الى العراق حيث نهري دجلة والفرات وضفاف نهر الكارون في إيران كونه مــــان مناسب لطقوسهم) . العهد المندائي الجديد: د. غسان صباح النصار وعلاء كاظم نشمي، بغداد، ۱۹۹۷ م .
وهناك رأي آخر يرى ان تسميتهم جاءت نسبة الى (هاران بن تارح) أخي إبراهيم الخليل وانه كان من رؤسائهم ويذكر رشيد خيون نقلاً عن البيروني في كتابه (الآثار الباقيـة) (إن هؤلاء الحرانية ليسوا الصابئة بالحقيقة بل هم المسمون في الكتب باسم (الحنفاء) وان الصابئة هم الذين تخلفوا في بابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش ...)
ويقارن البيروني في كتابه (بين الصابئة المندائيين وصابئة حران): إن صابئة سواد العراق مخالفون للحرانية يعيبون مذهبهم ولا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة حيث إنهم يتوجهون في الصلاة الى جهة القطب الشمالي بينما الحرانية الى القطــب الجنوبي فالحرانيون إذا وثنيون الأمر الذي دفعهم الى دراسة الفلـك بينما يعتبــر المندائيون أنفسهم موحدين، أما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فيـــرى انــه ليست هناك أي علاقة بين الطائفتين سوى الاسم، ويرى إن صابئة دجلة من أصل يهودي نزحوا من نهر الأردن الى دجلة أما صابئة حران فهم من بقايا الأديان المختلطة التي كانت أيام الرومان قبل الميلاد وبعده حتى غلبت عليهم النصرانية .
وهناك وجه آخر من أوجه المقارنة بين الطائفتين فبينما اشتهر المندائيون بصياغة الذهب والفضة اشتهر الحرانيون بالاشتغال بالتنجيم والفلك والرياضيات والفلسفة واشتهر منهم علماء برزوا في هذه الميادين وكان لهم دوراً ريادياً في الحضارة الإسلامية نذكر منهم: ثابت بن قرة وهو من أصل حراني هاجر الى بغداد ولعـــب دوراً كبيراً في ترجمة الكتب من اليونانية الى العربية وخاصة كتب المنطق والفلسفة والطب والرياضيات وبعده ابنه سنان بن ثابت الذي سار على نهج أبيه ووصل الــــى مرتبة عالية في الدولة العباسية .
كذلك أبو إسحاق الصابي الذي تقلد منصب الكاتب في ديوان الإنشاء ويذكر عنه انه كان يصوم رمضان ويستشهد بآيات من القرآن في رسائله الرسمية وكان عالماً بالفلك والفلسفة، ومنهم من دخل الإسلام مثل هلال الصابي وهكذا كان العلماء المسلمين يعتمدون على ما يدرسونه من نظريات علمية وفلكية وفلسفية على علماء حران الذين هاجروا الى بغداد وأصبحوا واسطة لنقل الآراء اليونانية الى علماء وفلاسفة الإسلام وقد تأثر بهم هؤلاء كثيراً كالفيلسوف الكندي كما كان أثرهم واضحاً على (الفارابي) الذي قام بزيارة الى حــــران وأقام فتـــرة ليست بالقصيرة وضع خلالها كتابه الشهير (المدينة الفاضلة (الذي حدد فيه صفات رئيس الدولة بأنه يجب انم يكون حكيماً متأثراً بآراء ونظريات أفلاطون في كتـــــابه (جمهورية أفلاطون) وقد كانت آراء أفلاطون هذه منتشرة في حران .
كما يظهر اثر صابئة حران وفلسفتهم في بعض الفرق والمذاهب الإسلامية كالقرامطة وإخوان الصفا ورجال من التصوف الإسلامي مثل الحلاج والذي صلب في بغداد بسبب أفكاره الصوفية المتطرفة .
ولصابئة حران بيوتهم المقدسة وهياكلهم شانهم شان بقية الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية والإسلام، يصفها المسعودي في كتابه (مروج الذهب ج ۲) (للصابئة من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلــة الأولى وهيكل العقل وهيكل السنبلة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل وهيكل زحل مسدس وهيكل المشتري مثلث وهيكل المريخ مربع مستطيل وهيكل الشمس مربع وهيكل القمر مثمن الشكل كما ان لهم قرابين يتقربون بها الى الهياكل، وان الذي بقى من هياكلهم المعظمة بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف بمصلينا وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل وفيه صور الأصنام التي جعلت مثالاً للأجرام السماوية وما تحتها من السراديب الأربعة ويسمعون فيها ظهور أنواع الأصوات واللغات من تلك الأصنام ... ورأيت على باب مجمع للصابئة بمدينة حران مكتوباً على مدقة باب بالسريانية قولاً لأفلاطون (من عرف ذاته تأله ...)
وختاماً فان سبب بقاء الصابئة المندائية وانقراض صابئة حران هو تقوقع المندائيين الشديد داخل حدود عقائدهم التي توارثوها واحتفاظهم بها وكتمان أسرارهم الدينية وعدم البوح بها إضافة الى إنهم قوم مسالمون مما جعلهم يبتعدون عن المشاكل والحروب.
***
غريب دوحي