قضايا

مجدي إبراهيم: خصائص الخطاب النبوي (1)

ألفاظ القرآن ألفاظ حقائق، وليست ألفاظ لغة، أى ليست مُجَرَّد عبارات وضِعَتْ في قوالب لُغويّة وكفى. وكذلك جاءت خصائص الخطاب النبوي. والفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة، هو فرق بين الحق والباطل. فأنت مثلاً حين تقول لفظة التاريخ، مطلق التاريخ قلت حقيقة. وحين تقول كلمة التجربة، مطلق التجربة قلت حقيقة. ولكن الذى ينقصك التَّحقق بالتجربة والثبوت في التاريخ؛ فإذا تحققتَ بالتجربة وثبتَّ في التاريخ بلغت الحقيقة. لكنك حين تقول: (التاريخ المصرى ليس هو التاريخ الذى يُدرَّس الآن في المدارس والجامعات!)، قلت لغة، ولم تقل حقيقة، أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة. هذه اللغة يصدق عليها الخطأ كما يصدق عليها الصواب، يصدق عليها الباطل كما يصدق عليها الحق.

وحين تقول: (تجربتي عن هذه الحياة إنها عابثة، وكل من فيها يعبث!) قلت «لغة»، ولم تقل «حقيقة» أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة، هذه اللغة تقبل الكذب كما تقبل الصدق: «وقيل: منها لغِى ولغَى إذا هَذَى، ومصدره اللَّغا». و«لغا يلغو» أتى باللغو من الكلام، وهو ما لم يعتد به، ولا يحصل منه على نفع ولا فائدة. 

والخطاب النبوي ليس كذلك، ولكنه خطاب حقائق، صحيح على الدوام، صادق على الدوام، حق على الدوام. غير أن هذه الخَاصَّة النبوية الفريدة تتمثل في قوله عليه السلام: «أوتيتُ جَوَامع الكَلِم فاختُصرَ لي الكلام اختصاراً»؛ فلكأنما يُشير من قريب إلى أن ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه، إنما هي ألفاظ حقائق مادام قد أُعطىَ جوامع الكَلِم، وليست مُجَرَّد لغة تتردد على الألسنة دون أن تنفذ بين شغاف القلوب، فتحولها من حال في الحياة إلى حال.

بيد أنها تعبيرٌ عن حقيقة ربما يجهلها المرء لكونه ممّن لا يدركون من الكَلِم سوى شكله البَرَّاني لا حقيقته الخبيئة، لكنه من المؤكد يعلمها فيما لو كان داخل رحاب المعيّة الإلهية لا خارجها.

وبما أن الكلام لا يكون إلا على ضَرْبين: ضربٌ أنت تصِل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؛ كقولك: خرج زيد، وانطلق عمرو. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدُلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضعه فى اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا على الكناية والاستعارة والتمثيل كما يقول الجرجاني صاحب "دلائل الإعجاز"؛ فقد جرت العادة بأن يُقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز: إن الحقيقة، أن يُقَرَّ اللفظ على أصله فى اللغة. والمجاز أن يُزَال عن موضعه، ويستعمل في غير ما وُضِعَ له؛ فيقال أسدٌ، ويُرَاد شُجاع، وبحر ويُرَادُ جواد؛ فلئن كان الأمر بهذه المثابة فهو تجوّز في معنى اللفظ لا اللفظ نفسه، وإنّما يكون اللفظ مُزَالاً بالحقيقة عن موضوعه، ومنقولاً عما وضِع له، فإن مآل الأمر إلى القصد فيه: هو المعنى.

غير أن هذا المعنى لا بدّ أن يؤدّي إلى حقيقة. مع ملاحظة أن هذه الحقيقة التى يؤدّي إليها المعنى غير الحقيقة الأولى التى تعطيها دلالة اللفظ وحده ممّا يقرّه اللفظ على أصله في اللغة، فإذا كانت الحقيقة الأولى حسيّة منظورة؛ فالحقيقة الثانية التى يؤديها المعنى روحية مغيبة، باقية ثابتة، ذات دلالات ووجوه متصلة بالعطاءات الإلهية وتجلياتها.   

ومن جانب آخر، يصف الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»، هذه البلاغة النبويّة وصفاً يمنع عنها اللغة بالمفهوم السلبي للغة، ويضفي عليها لفظ الحقيقة، فيقول: لقد رأينا هذه البلاغة النبويّة قائمة على أن كل لفظ فيها هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق الحقيقة المُعَبّر عنها.

ومعلوم أنه عليه السلام لا يتكلف ولا يتعمّل ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعاً يقبل التنقيح، أو كلمة تقبل التغيير، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزان.

ولكن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن من أول وهلة: هل هذا يكفي؟ هل كل ما كان «الرافعي» ذكره، يكفي لإماطة اللثام عن الفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة؟

عندى أن ذلك وحده لا يكفي، ولا يُقرِّر غور هذا الفرق في واقعه المُقرَّر في التاريخ وفي التجربة؛ فألفاظ الحقيقة توضحها التجارب ويثبتها التاريخ؛ بل تثبت بالتجربة وتثبت للتاريخ.

فنحن هنا بإزاء ثلاثة مستويات: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة. والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بها كل الإحاطة، وليس يشم منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه.

هنالك معاني لها، هذا صحيح، لكنها معانٍ تقريبية للحقيقة، أو هى صور ضئيلة جداً للحقائق تماماً كما أن الألفاظ في مستواها إنْ هى إلا صور ضئيلة جداً للمعاني؛ فاللفظ في ذاته يصور جزءاً من المعنى، ولا تصور الألفاظ المعاني كلها. والمعاني في مستواها كذلك لا تصوّر الحقائق من جميع أطرافها وجوانبها؛ ولا تدركها كل الإدراك ولا تحيط بها كل الإحاطة.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم