قضايا
ريما آل كلزلي: الانتظار بين القرآن والفلسفة

تأملات في موقف موسى عليه السلام
كيف تكون مشاعر الإنسان حين ينتظر مواجهة مصيرية؟ كيف يستعد للقاء قد يغيّر مجرى التاريخ؟ وكيف يمكن للثقة بالله أن تحوّل القلق إلى يقين؟ والخوف إلى شجاعة؟
موسى عليه السلام، شاب نشأ في ظروف استثنائية خرجت عن القاعدة، ثم وجد نفسه هاربًا من مصر بعد حادثة قتل غير مقصودة. لاحقًا، تم اصطفاؤه من قبل الله سبحانه وتعالى لحمل رسالة عظيمة. لقد كُلف بمواجهة أعتى الطغاة (فرعون)، وتقديم الأدلة والبراهين التي تُثبت صدق رسالته. ظروف صعبة وعهد قريب بالله. في الطرف الآخر، كان فرعون جبّارً طاغيًا، متمردًا على الحق، لم يتردد في استخدام كل وسائل القهر والبطش لترسيخ سلطانه.
في قصة موسى مع فرعون موقف عظيم يختبر حقيقة الإيمان والصبر. ورد في سورة الشعراء، عندما أرجأ فرعون المواجهة مع موسى ريثما يتم جمع السّحَرة لمنازلته، في قوله تعالى:
(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِۦ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ في ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ). (سورة الشعراء: 34-37).
يكاد يكون المحور الأول في المشهد هو الانتظار. إذ أجّل فرعون المواجهة مع موسى ريثما يتم جمع أكبر عدد من السحرة، فكيف تتشكل معاني الانتظار في هذا الموقف الجلل؟ وكيف نقرأ موقف موسى في تلك اللحظات المصيرية من منظور أعمق؟
أول ما يتراءى للذهن لحظات الصراع الداخلي لموسى بين المشاعر الإنسانية وما يترتب عليها من قلق وترقب، وبين لحظات اختبار تبين الإيمان الراسخ وكيف يدفع صاحبه نحو الطمأنينة والتوكل. فكيف تعامل موسى مع هذا الاختبار وهو يستعد لمواجهة السّحرة.
إن موسى، بوصفه نبيًا مُرسلًا، كان على يقين تام بأن الله سبحانه وتعالى لن يخذله. ومع ذلك النفس البشرية لا تختبر مشاعر الترقب والانتظار دائمًا. برغم وجود الآيات البينات التي أيده الله بها، كالعصا التي تتحول إلى ثعبان مبين، ويده التي تخرج بيضاء للناظرين. كان يدرك أنه سيواجه أعظم طاغية في تاريخ البشرية، ذلك الذي لم يتورع عن قول " فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى" سورة النازعات: 24، وليست المواجهة شخصية، إنما هي صراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.
هذه اللحظات الصعبة لم تكن فراغًا زمنيًا، أو توقّفًا عن الحركة؛ إنما جزء من التدبير الإلهي لإظهار الحق. الانتظار يحمل معانٍ عميقة تتجاوز كونه مجرد حالة زمنية أو عملية نفسية، ويعبر عن علاقة الإنسان بالمستقبل المجهول وما يحمله من احتمالات.
الانتظار يُخرج الزمن من كونه محايدًا، إذ يفرض حالة من الترقب ويصبح ممتلئًا بالقلق. في هذا المنظر يرى الفيلسوف (مارتن هايدجر 1989- 1976) في مُجمل حديثه عن الزمن والوجود، أن الانتظار يعكس علاقة الإنسان بالزمن، فيُظهر وعيه بالمستقبل باعتباره بُعدًا جوهريًا للوجود الإنساني. فيتوقف الحاضر عن كونه محور التجربة ويُسيطر المستقبل على الوعي، فنرى أن الانتظار من هذا المنظور يصبح حالة وجودية.
بينما يعزو الفيلسوف الفرنسي (جاك دريدا 1930- 2004) الانتظار إلى التأجيل، بوصفه حالة مستمرة للرغبة، يبقى فيها الإنسان في علاقة مع شيء غير مكتمل (غير حاضر)، فيكون بهذا الوصف تجربة إنسانية تبين الافتقار إلى الكمال.
الانتظار، في أجلّ معانيه ليس فقط اختبارًا للصبر، بل هو التسليم والرجاء المرتبطان بالثقة الإلهية. والصبر في الانتظار فضيلة تُظهر قدرة الإنسان على مواجهة الزمن بثقة وتواضع.
لكن كل ذلك لا ينفي كون الانتظار تجربة مؤلمة، تكشف عن البعد التراجيدي للوجود حسب الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل( 1909-1943) التي عرفت بأفكارها العميقة حول الأخلاق والدين والعدالة، وقد يكون لحظة لإعادة التفكير والتأمل في كل شيء.
المواجهة الكبرى مع الزمن هو الحالة التي تصف علاقة الإنسان بالانتظار. من الممكن أن تكون قيدًا يكبل وعيه ويغرقه في القلق والاضطراب إذا استسلم لذلك، ومن الممكن أن يتحول إلى فعل إرادي للتعبير عن الحرية ويختار طريقة العيش في زمن الانتظار. في موقف موسى تتبين المسؤولية العظيمة والتوكل الكامل على الله برغم صعوبة الموقف.
الفيلسوف سورين كيركغارد (1813- 1855) يرى أن الانتظار جزءًا من العلاقة بين الإنسان والله، ليس بوصفه حالة من الترقب، إنما فعل إيماني عميق يعكس الثقة بالله. ويشير في كتاباته أن الإيمان الحقيقي يتجلى في القدرة على الانتظار دون تذمر، لأن المؤمن الحق يعلم أن الله قادر على تحقيق وعده، في الوقت المناسب. فليس الانتظار حلًا مفروضًا لعدم توفر البدائل، إنما جزء من العلاقة بالله.
في القرآن الكريم، يُعد الانتظار حالة إيمانية تتطلب الصبر والثقة بوعد الله. كصيغة اختبار للإيمان واليقين، تتمثل في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) سورة الروم: 60
الانتظار كذلك جزء من الحكمة الإلهية لتحقيق غايات أعظم. فيكون الزمن هنا عاملًا مهمًا في تحقيقها، كما في سورة " يوسف" حين كان الزمن جزءًا من اختبار يعقوب عليه السلام الذي تحقق فيه الانتظار لعودة ابنه يوسف، تتمثل في قوله تعالى:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) سورة يوسف:18، إذ يؤكد القرآن أن الانتظار ليس حالة من الفراغ، بل فرصة للإيمان والعمل واليقين بأن الله يدبر الأمور بحكمة إلهية.
الانتظار حالة إنسانية مشتركة بين الثقافات والفلسفات والديانات. لا يعتبر مجرد مرور للزمن، ولكن موقف وجودي يحرر تساؤلات الإنسان حول الصبر والحياة والمعنى.
تتقاطع السياقات بين القرآن والفلسفة حول مفهوم الانتظار، فهو اختبار وحالة إيجابية تتجلى في القرآن، ترتبط بالصبر والإيمان بوعد الله، وجزء من حكمة الله في ترتيب الأمور.
أما في الفلسفة، فهو يعكس الثقة في القوة الإلهية خاصة عند كيركغارد. وتجربة تعيد فهم الإنسان لوجوده عند هايدجر. فيكون اختبارًا للوجود الإنساني نفسه، يكشف عن عمق العلاقة بين الإنسان والكون.
الانتظار، سواء في القرآن أو في الفلسفة، موقف وجودي يعبّر عن الإيمان، الصبر، والوعي بالزمن. في لحظات الانتظار يُختبر الإنسان في أعماق نفسه، وفي موقف موسى: هل كان يثق بوعد الله؟ هل يظل ثابتًا على يقينه رغم التأجيل الذي فرضه فرعون؟
يمكننا القول إن موسى عليه السلام كان نموذجًا في الثبات والصبر. إذ لم يهتز أو يتراجع، أما تأجيل المواجهة مع السّحرة كانت فرصة لتعميق ثقته بالله، وتأكيدًا على استعداده للمواجهة الكبرى التي ستظهر الحق أمام الجميع.
كان الانتظار يحمل عدة معانٍ:
- التسليم لحكمة الله، وأن هذا الإرجاء لم يكن تأخيرًا عشوائيًا، بل كان جزءًا من التدبير الإلهي، ووسيلة لزيادة الصبر واليقين والثقة.
- الزمن في يد الله، يذكرنا الانتظار بأن الزمن ملك لله وحده، وأنه يدبر الأمور وفق رحمته وحكمته.
لحظات انتظار موسى توصف بأنها جسر عبر فيه إلى النصر، سلاحه الثقة بالله، ومفتاحه الصبر للعبور. الانتظار في موقف موسى يمثل موقفًا خالدًا، لتعميق الإيمان ونفي فكرة أن الانتظار فراغ زمني. والإيمان بأن النصر يتحقق مع الصبر: (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ الصَّابرِين) سورة البقرة: 153. فالانتظار حالة يقررها الإنسان كفرصة عظيمة للتأمل والتقرب إلى الله، ولحظات تساهم في بناء اليقين.
***
ريما آل كلزلي