قضايا

تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة دورًا محوريًا في تشكيل السلوك السياسي في المجتمعات العربية، إذ تشكّل هذه العادات جزءًا من البنية الثقافية العميقة التي تحدد أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي والسياسي للأفراد، وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن "الهابيتوس" أو "العادة المتجذرة" تساهم في إعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية ضمن الحقول الاجتماعية المختلفة، ومنها الحقل السياسي، حيث يُكتسب السلوك السياسي من خلال التنشئة الاجتماعية التي تبدأ في الأسرة وتمتد إلى الجماعة والقبيلة والدولة.

في هذا السياق، تمثل العادات الاجتماعية في المجتمعات العربية، لا سيما في دول مثل العراق وسوريا وتونس وليبيا، مرجعية أساسية في بناء الهوية والانتماء، فقد شهدت هذه الدول تحولات سياسية جذرية خلال العقدين الأخيرين، أظهرت مدى تغلغل البنى الاجتماعية التقليدية في المجال السياسي، فعلى سبيل المثال، ما زالت الثقافة القبلية والعشائرية تشكل إطارًا مرجعيًا للفرد في مواقفه السياسية، حيث يُقدَّم الانتماء للعشيرة أو الطائفة على الانتماء للدولة أو الحزب، وتُبنى التحالفات السياسية أحيانًا على أساس قرابة الدم أكثر من القناعات الأيديولوجية.

من الجانب الإيجابي، تساهم هذه العادات في تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي عناصر ضرورية لبناء شبكات اجتماعية قادرة على التحرك الجماعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات، فقد بينت النظريات الاجتماعية، مثل نظرية رأس المال الاجتماعي لـ “روبرت بوتنام"، أن المجتمعات التي تتمتع بروابط اجتماعية قوية تكون أكثر قدرة على المشاركة المدنية والسياسية، وهذا ما لوحظ خلال بدايات الحراك التونسي أو الانتفاضة السورية، حيث لعبت الروابط العائلية والمجتمعية دورًا في تحفيز المشاركة السياسية والمقاومة الشعبية.

إلا أن هذه العادات لا تخلو من جوانب سلبية، خصوصًا عندما تتحول إلى أدوات تعزز الانغلاق والتمييز، فالنزعة نحو الولاءات الضيقة للعشيرة أو الطائفة أو الجهة الجغرافية تعيق تشكّل دولة المواطنة، إذ تضعف من فكرة الانتماء العام للمجتمع السياسي الموحد، وقد تجلت هذه الإشكالية في التجربة العراقية بعد 2003، حيث عرقلت المحاصصة الطائفية والعشائرية بناء نظام سياسي متماسك، بل ساهمت في تفكيك الدولة إلى كيانات متنازعة، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، حيث أدى انهيار النظام المركزي إلى بروز كيانات محلية قبلية ومناطقية أعاقت توحيد السلطة.

كذلك، فإن بعض القيم الاجتماعية التقليدية، تفرز ثقافة سياسية تقوم على الطاعة أكثر من المساءلة، وهذا ما يجعل من الصعب ترسيخ تقاليد ديمقراطية تقوم على النقد والمحاسبة، فالعديد من المواطنين في العالم العربي، بسبب التنشئة الاجتماعية، لا يرون في الحاكم موظفًا عامًا يمكن تقييم أدائه، بل شخصية أبوية ذات شرعية تقليدية، مما ينعكس على ضعف المشاركة السياسية الفعالة وتدني ثقة الأفراد بالمؤسسات الرسمية.

مع ذلك، بدأت تظهر ملامح تحول اجتماعي في بعض المجتمعات، وخصوصًا بين فئات الشباب، فقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، في تفكيك بعض البنى الاجتماعية التقليدية وإعادة تشكيل قيم جديدة ترتكز على المشاركة والمساواة والحرية الفردية، وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة في دول مثل تونس والمغرب ولبنان باتت أكثر انخراطًا في النقاشات السياسية وأكثر استعدادًا لتجاوز الانقسامات التقليدية على أساس العائلة أو الطائفة.

إن فهم السلوك السياسي في العالم العربي يتطلب إدراكًا عميقًا لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية والاقتصادية، فكما تؤكد المقاربة الثقافية في علم الاجتماع السياسي، لا يمكن تحليل الحراك السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار "الثقافة السياسية" التي تُشكّل الوعي الجمعي وتوجهات الأفراد، ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي أو تحولي حقيقي في العالم العربي ينبغي أن يتعامل مع العادات الاجتماعية لا كعقبة فقط، بل كمورد قابل لإعادة التوظيف بما يخدم بناء الدولة الحديثة، فبدلاً من السعي لقطع العلاقة مع الماضي، يمكن العمل على تجديد هذه العادات وتطويرها لتصبح داعمًا لمفاهيم المواطنة والعدالة والشفافية، وذلك من خلال إصلاح منظومات التعليم والإعلام والتنشئة السياسية، بما يعزز الانتماء الوطني ويضعف الولاءات الضيقة، بهذه الطريقة، يمكن تحويل العادات الاجتماعية من قيد يكبّل التقدم السياسي إلى رافعة تُسهم في إنجاحه.

***

كفاح محمود

 

تُعد الفنون الشعبية من أهم العناصر التي تُسهم في تشكيل الهُوية الوطنية لدى الشعوب، حيث تعكس القيم والتقاليد والعادات التي تميّز كل مجتمع عن غيره. فالفنون الشعبية، بما تشمل من موسيقى ورقص وحِرف يدوية وأدب شفاهي، ليست مجرد مظاهر جمالية، بل هي سجلّ ثقافي يحمل في طياته التأريخ والهُوية والتجربة المشتركة للأجيال. الى جانب دورها المحلي، تعد أداة مهمة في تعريف العالم بالهُوية الوطنية للشعوب. فالمهرجانات الدولية، والمعارض الثقافية، والأفلام الوثائقية، تساهم في تقديم صورة مميزة عن ثقافة الدولة، مما يعزز مكانتها عالمياً.

إن الفنون الشعبية بمختلف أشكالها، تعد مكوناً أساسياً في نسيج الُهُوية الوطنية، حيث تعكس العادات والتقاليد والتراث الثقافي الذي يُميز كل شعب عن غيره. فهي ليست مجرد تعبيرات فنية، بل أدوات قوية لنقل القيم والثقافة من جيل الى آخر، وترسيخ الشعور بالإنتماء والوحدة الوطنية. كونها تعمل على تعزيز مشاعرالفخر والإنتماء لدى الأفراد، إذ تعكس القصص والتجارب المشتركة التي توحد أفراد المجتمع الواحد. فمثلاً، الأغاني التراثية تروي أحداثاً تأريخية وتجسد النضال الوطني والحماسة، مما يربط الأجيال الحديثة بتأريخها ويجعلها أكثر وعياً بجذورها الثقافية. كما هي تُعتبروسيلة حيّة لنقل المعرفة والقيم الثقافية عبر الزمن.

 فالروايات الشفاهية، والأمثال الشعبية، والأغاني التقليدية، تحمل في طياتها حِكّماً وتجارب إنسانية تعكس روح المجتمع وتجاربه. كما أن الحِرف اليدوية، والفنون البصرية، تُمثل سجّلاً حقيقياً لأساليب الحياة والمهارات التي تطورت على مرّ العصور.

ففي ظل العولمة، بات من السهل أن تتأثر الثقافات المحلية بالأنماط العالمية، مما قد يؤدي الى إندثار بعض الفنون التقليدية. لذا، تلعب الفنون الشعبية دوراً حاسماً في الحفاظ على التقاليد الثقافية من خلال إعادة إحيائها ودمجها في السياقات الحديثة، مثل إستخدامها في الموسيقى المعاصرة، أو توظيفها في الفنون الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة.

وبحكم التغيرات السريعة في عصر العولمة، تزداد أهمية الفنون الشعبية في الحفاظ على الهُوية الوطنية، إذ تساعد على مواجهة التحديات التي تُهدد الذاكرة الجمعية للشعوب، مثل التأثيرات الثقافية الخارجية والإندماج في نماذج ثقافية عالمية قد تؤدي الى تآكل الهُويات المحلية. فالفنون الشعبية، تساعد في تعزيز الشعور بالإنتماء الى الوطن من خلال المحافظة على التراث الثقافي الذي يجمع أبناء المجتمع تحت هُوية واحدة.

كما تلعب دوراً كبيراً في نقل الموروث الثقافي من جيل الى آخر، مما يضمن إستمرار القيم والتقاليد عبّر الزمن. فمن خلال مشاركة الفنون الشعبية في المناسبات الوطنية والاحتفالات، يتم تعزيز الروابط بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن الفروقات الاجتماعية أو الجغرافية أو القومية أو العرقية أو الدينية. فهية وسيلة فعّالة لتعريف العالم بالثقافة الوطنية، حيث تُستخدم في المهرجانات والعروض الدولية لإبراز الطابع الفريد لكل مجتمع. فضلاُ عن ذلك، فالفنون الشعبية تُسهم في إثراء الفنون المعاصرة، حيث يعتمد الفنانون على العناصرالتقليدية في إبداع أشكال من الفنون تُعبر عن الُهُوية الوطنية بروح عصرية.

أشكال الفنون الشعبية وأثرها على الهُوية الوطنية

تعكس الموسيقى الشعبية والموشحات والأغاني التقليدية روح المجتمع وتُعبّر عن مشاعره وتجاربه. فمن أغاني العمل الى الأغاني الوطنية، تحمل الكلمات والألحان معاني عميقة تروي حكايات الأجداد وتجسد الأحداث التأريخية. كذلك ترتبط الرقصات الشعبية بالمناسبات الإجتماعية والدينية، مثل الدبكة في بلاد الشام، ورقصة (الجوبي) في جنوب وغرب العراق ورقصات الكرد في كردستان العراق، والعراضة في دول الخليج العربي، والفلامنكو في بلاد الإسبان، ورقصة السامبا في البرازيل. وهي تعبيرات جسدية ترمز الى الوحدة والتعاون، كما إنها وسيلة لنقل القيم الثقافية للأجيال اللاحقة.

كما تُعد الحِرف اليدوية والفنون التقليدية من الصناعات التقليدية، مثل النسيج وصناعة الفخار والخزف والنحت، جزءاً مهماً من الهُوية الوطنية، حيث تحمل هذه الأعمال الفنية أنماطاً وزخارف تعكس خصائص كل منطقة. وفي عصر التكنولوجيا، يتم إعادة إحياء هذه الحِرف من خلال دمجها في التصاميم الحديثة، مما يساعدعلى إستمرارها.

ويشكل الأدب الشفاهي، كالحكايات الشعبية والأساطير، سجلاً ثقافياً هاماً يحمل الحكمة والقيم المجتمعية. وتُعد هذه الحكايات مصدر إلهام للأدب المكتوب والمسرح والسينما، حيث يتم إعادة تقديمها بطرق حديثة تلائم العصر الحالي. ومن الجدير بالذكر، فأن للأزياء التقليدية لها أشكالها وألوانها وعمق دلالتها، وتعكس عمق تأريخ البلدان مما كانت ترتبط به من أزياء، التي تشير الى  هُوية كل مجتمع، وتُعبر عن بيئته وثقافته. وقد أصبحت اليوم مصدر إلهام لمصممي الأزياء، حيث يتم دمجها في الموضة الحديثة للحفاظ على التراث وإبرازه عالمياً.

الفنون الشعبية في العصر الحديث: التحديات والفرص

مع تطور التكنولوجيا، يواجه التراث الشعبي تحديات كبيرة مثل العزوف عن الفنون التقليدية، وتأثير الثقافات الأخرى، والإندثار التدريجي لبعض الممارسات. ومع ذلك، توفر التكنولوجيا فرصاً جديدة للحفاظ على هذا التراث ونشره عالمياً، وذلك من خلال الرقمنة والتوثيق الإلكتروني، حيث يمكن توثيق الأغاني والحكايات والرقصات الشعبية عبر المنصات الرقمية، مما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة. كما يمكن لوسائل التواصل الإجتماعي أن تأخذ دورها، حيث أصبحت منصات مثل اليوتيوب والإنستغرام والتيك توك، وسائل فعالة لنشر الفنون الشعبية وتعريف الشباب بها بأسلوب حديث. بالإضافة الى ذلك، بأمكان الدمج مع الفنون الحديثة، حيث يتم دمج العناصر التراثية مع الموسيقى الحديثة، والفنون الرقمية، والأزياء العصرية، مما يسهم في إبقاء الفنون الشعبية حيّة وقابلة للتطور.

تُعد الفنون الشعبية عنصراً أساسياً في بناء الهُوية الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي للشعوب. فهي ليست مجرد مظاهر إحتفالية، بل لغة حيّة تعكس القيم والمعتقدات والتأريخ المشترك. وفي ظلّ تحديات العصر الحديث، تظّل مسؤولية الحفاظ على هذا التراث مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات الثقافية والحكومات. ومن خلال دمج الفنون الشعبية في مجالات جديدة، مثل التكنولوجيا والإعلام، يمكن إستمرار هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة، وتعزيز حضور الهُوية الوطنية في المشهد العالمي.

الفنون الشعبية ليست مجرد جزء من الماضي، بل هي أساس متين يساعد في تشكيل المستقبل الثقافي للأمم. من خلال الحفاظ عليها وتعزيزها، تحافظ الشعوب على هُويتها الوطنية وتساهم في تقوية أواصر الوحدة بين أفرادها، مما يجعلها ركيزة أساسية في بناء المجتمعات القوية والمستدامة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

الإرادة الحرة في مواجهة المعنى يفتح آفاقًا واسعة للنقاش والتفكير العميق في طبيعة الوجود والاختيار ويشير إلى قدرة الأنسان على اتخاذ قرارات مستقلة، حتى في ظل الضغوط التاريخية والاجتماعية، الإرادة الحرة تواجه صعوبات عندما تتداخل مع السرديات السائدة، مما يحد من الخيارات المتاحة، يسعى الأفراد والمجتمعات إلى فهم حياتهم وتجاربهم من خلال السرديات التي يمكن أن تعزز من الشعور بالمعنى أو تُحبطه، خاصة عندما تتعارض مع الإرادة الحرة، الإرادة الحرة تعني القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة دون ضغط خارجي، تتشكل من خلال التجارب الشخصية والبيئة الاجتماعية، حيث يتعلم الأفراد اتخاذ قرارات مبنية على قيمهم ومعتقداتهم، الإرادة الحرة تعني أيضًا تحمل الأفراد مسؤولية قراراتهم وأفعالهم، ما يعزز الشعور بالإرادة الحرة القدرة على تقييم الخيارات المتاحة وفهم العواقب، وتتشكل من خلال الوعي الذاتي والتجارب التي تعزز من القدرة على تحدي الوضع الراهن، الإرادة الحرة تساهم في البحث عن المعنى في الحياة، حيث يسعى الأفراد لتحديد أهدافهم وقيمهم وتتأثر بالعوامل الثقافية والدينية، مما يعزز من فهم الأفراد لذاتهم ودورهم في العالم تتفاعل فيه التجارب الشخصية، التعليم، البيئة الاجتماعية، والثقافية. هذا التفاعل يساعد الأفراد على تطوير شعور قوي بالقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة.

اختلافات الفهم

هناك اختلافات كبيرة في فهم الإرادة الحرة، مثلا في الثقافة الغربية، تركز على الاستقلالية والاختيار الشخصي، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن قراراتهم، في الثقافات الشرق اوسطية، تعطي أهمية أكبر للعلاقات الاجتماعية والالتزامات العائلية، حيث تُعتبر القرارات مرتبطة بشكل أكبر بالمجموعة، يُعتبر أن القدر يلعب دورًا كبيرًا في حياة الأفراد، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، في ثقافات أخرى تُعتبر الإرادة الحرة مطلقة، مما يعزز من فكرة الاختيار الشخصي الكامل، نتيجة ذلك تكون الأنظمة القانونية  تعكس فهمًا مختلفًا للإرادة الحرة، حيث تُعزز بعض القوانين الحقوق الفردية بينما تحدها أخرى، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، تجارب الشعوب عبر التاريخ، مثل الاستعمار أو الحروب، تؤثر على فهمهم للإرادة الحرة وتؤثر على قدرتهم على اتخاذ القرارات، فهم الإرادة الحرة يتأثر بشكل كبير بالعوامل الثقافية، مما يؤدي إلى تباين واسع في كيفية رؤية الأفراد لخياراتهم وقراراتهم في سياقات مختلفة، السرديات التاريخية تمثل جزءا من المدخلات الرئيسية لتشكيل فهم مجتمعي للإرادة الحرة وبالتالي توثر في ماهية الهوية.

السرديات التاريخية وماهية الهوية

السرديات التاريخية تعزز من الذاكرة الجماعية، مما يساعد في تشكيل الهوية الثقافية والانتماء، الأحداث التاريخية تُستخدم كرموز تعبر عن القيم والمعتقدات التي تحدد الهوية، الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات، تترك آثارًا عميقة على الهوية، حيث تُشكل فهم الأفراد لمكانتهم في العالم، الانتماء إلى مجموعة معينة يمكن أن يتأثر بالسرديات التاريخية، الأفراد الذين يتبنون إرادة حرة قد يتحدون السرديات التاريخية المفروضة، مما يساهم في إعادة تشكيل الهوية، القدرة على إعادة تفسير الأحداث التاريخية يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هويات جديدة، وجود سرديات تاريخية متنوعة يعزز من التعدد في الهوية، حيث يمكن للأفراد اختيار الأبعاد التي تعكس تجاربهم الشخصية، التفاعل بين سرديات مختلفة يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للهوية، السرديات التاريخية تتغير مع الزمن استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية، مما يؤثر على الهوية المعاصرة وبالتالي تكون الهوية غير ثابتة، لذا تلعب السرديات دورًا في تشكيل الهوية وفق سياقات جديدة، رغم ان السرديات التاريخية تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية، حيث تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية والرموز الثقافية، الا انها لا تتيح للأفراد فرصًة لتحديها وإعادة تفسيرها كونها قد تم انتاجها وتشكلها في زمن سابق.

 الهوية المستقلة

بناء هوية مستقلة تمامًا عن السرديات التاريخية يعد أمرًا صعبًا، لكن ليس مستحيلًا. السرديات التاريخية تشكل جزءًا من الثقافة التي ينتمي إليها الفرد، مما يصعب فصل الهوية عنها، الأفراد يتأثرون بالذاكرة الجماعية، مما يعزز من ارتباط هويتهم بهذه السرديات، الأفراد الذين يمتلكون وعيًا نقديًا يمكنهم تحدي السرديات السائدة وإعادة تشكيل هويتهم بناءً على تجاربهم الخاصة، تجارب الحياة الفردية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في بناء هوية جديدة، الأفراد الذين يسعون لتحرير أنفسهم من القيود الاجتماعية والتاريخية يمكنهم بناء هويات تتجاوز السرديات السائدة ويمتلكون القدرة على إعادة تفسير الأحداث والتجارب التي يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هوية جديدة، حتى مع الجهود الكبيرة في تشكيل الهوية الجديدة، تبقى بعض التأثيرات التاريخية قائمة، مما يجعل من الصعب تحقيق استقلالية تامة، بناء هوية مستقلة يجب أن يتوازن مع الانتماء إلى المجتمع والثقافة من خلاله يمكن للفرد أن يسعى لبناء هوية مستقلة، لكن التحديات المرتبطة بالسرديات التاريخية تجعل ذلك أمرًا معقدًا. يتطلب الأمر وعيًا نقديًا وتجارب متنوعة وستظل التأثيرات جزءًا من النسيج الهوياتي للفرد.

بناء المعنى والسرديات التاريخية

بناء معنى بالاعتماد على السرديات التاريخية دون استخدام حرية الاختيار يعد أمرًا معقدًا، يمكن أن توفر السرديات التاريخية إطارًا ميتافيزيقيا لفهم العالم، مما يساهم في بناء معاني متعلقة بالهوية والانتماء، تعتمد بعض المجتمعات على السرديات لتحديد القيم والمبادئ، مما يمكن أن يخلق معاني قائمة على التقليد، يمكن للأفراد قبول السرديات التاريخية دون استخدام الإرادة الحرة، مما يؤدي إلى بناء معاني قد لا تعكس اختياراتهم الشخصية، الأفراد يشعرون بالضغط لقبول سرديات وهمية، مما يجعلهم يبنون معاني تتماشى مع السرديات السائدة التي يمكن أن تؤدي  إلى تشكيل هوية جماعية مغيبة المعنى، حيث يتبنى الأفراد المعاني المرتبطة بتلك الهوية دون ممارسة حرية الاختيار، الأحداث التاريخية المشتركة يمكن أن تخلق إطارًا للمعنى الذي يتقاسمه الأفراد والذي يؤدي إلى فقدان الإبداع والتفكير النقدي، مما يحد من قدرة الأفراد على تطوير معاني جديدة، في هذه الحالة يتجاهل الأفراد تجاربهم الشخصية الفريدة، مما يؤثر سلبًا على فهمهم للمعنى لان ذلك يتطلب قبولًا غير نقدي لهذه السرديات، مما قد يحد من استخدام حرية الاختيار. التوازن بين الاستفادة من السرديات التاريخية كإطار شكلي واستخدام الإرادة الحرة يعد أمرًا ضروريًا لبناء معانٍ غنية ومعبرة.

حرية الارادة والاجتهادات الفلسفية

حرية الإرادة موضوع مثير للجدل، هناك آراء متنوعة حول وجودها. بعض الفلاسفة، مثل سبينوزا ولوكريس، يرون أن كل شيء يخضع لقوانين طبيعية، مما يعني أن الإرادة الحرة غير موجودة، فيلسوف مثل جان بول سارتر يؤكد على وجود الإرادة الحرة، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن خياراتهم، الكثير من الناس يشعرون بأن لديهم القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، وهذا الشعور يمكن أن يكون دافعًا قويًا للتصرف، التجارب الشخصية تؤثر على فهم الأفراد للإرادة الحرة، مما يجعلها موضوعًا معقدًا، بينما يشعر الأفراد بأن لديهم حرية الإرادة، فإن العوامل الخارجية مثل القوانين والأعراف تؤثر على اختياراتهم، البعض يمكن أن يبحث عن نوع من التوازن بين حرية الإرادة والقيود التي يفرضها المجتمع . بينما هناك آراء تدعم وجودها وأخرى تنكر ذلك، يبقى النقاش مفتوحًا حول طبيعتها وتأثيرها، السرديات التاريخية تجعل الأفراد أكثر قبولًا للاستسلام، حتى مع وجود إرادة حرة، من خلال التأثير على الهوية، الضغوط الاجتماعية، وتفسير التجارب. هذا التفاعل مع السرديات يمكن أن يحد من خيارات الأفراد ويؤثر على قدرتهم على المقاومة، تتداخل حرية الإرادة مع مفهوم المعنى، حيث إن القدرة على اتخاذ القرارات تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الأفراد لمعاني حياتهم. إذا كانت حرية الإرادة موجودة، فإنها تعطي الأفراد القدرة على تشكيل معانيهم الخاصة إما إذا كانت الأحداث التاريخية تُعتبر حتمية، قد يُنظر إلى قرارات الأفراد كجزء من مسار تاريخي لا يمكن تغييره وبهذا تتناقض السرديات التاريخية مع مفهوم الإرادة الحرة، مما يدفع الأفراد لإعادة التفكير في معانيهم الشخصية، فحرية الإرادة تعني تحمل المسؤولية عن الأفعال، تتطلب تعزيز الوعي بأن السرديات التاريخية ليست حقائق ثابتة، بل يمكن إعادة تفسيرها. هذا يساعد الأفراد على أن يصبحوا أكثر وعيًا بأثر اختياراتهم من خلال هذا التفاعل ويمكن أن نجد طرقًا جديدة لفهم معاني الحياة، مما يعزز من حرية الإرادة بدلاً من تقييدها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السعادة من المفاهيم التي لم يُقال الكلمة الأخيرة في تعريفها، سواء من المنظور الفلسفي أو النفسي، فلا تزال محل جدال وإشكالية لم يتم التوصل إلي تعريف نهائي لها، وذلك يرجع إلي نسبيتها وتَغُيرها، وقد كتب وتحدث عن السعادة العديد من الفلاسفة وعلماء النفس، ولكننا فضلنا في هذا المقال تعريف السعادة كما يراها سقراط، ذلك الفيلسوف اليوناني الذي غير وظيفة الفلسفة في عصره، وحولها من النظر إلي السماء وما وراء الطبيعة، إلي الأرض وما وراء الإنسان والبحث في فضائل الإنسان، ومعرفة ماهيات الخير والشر والسعادة .

فالفلسفة بشكل عام هي محاولة تبسيط كل معقد وليست العكس، ولهذا جاءت فلسفة سقراط فلسفة خصبة قائمة علي منهج التوليد، عن طريق إثارة العقول بالأسئلة، فهي فلسفة تساؤلية والسؤال هو أصل التفلسف والمعرفة .

ما هو معني السعادة لديك؟

بهذا السؤال أخذ فيلسوفنا يجوب شوارع أثينا يستفز ويسخر من إدعاء البعض الحكمة والمعرفة، فلم يكن هدفه التقليل من شأن الآخرين ولكن كان الهدف هو كشف جهل الإنسان بحقيقة الأشياء، فهو نفسه قال “أعلم إني لا أعلم شيئ”رغم معرفته الواسعة التي جعلته يُلقب فيما بعد بأبو المعرفة .

ما هو الرد علي سؤال السعادة السُقراطي؟

كانت الإجابة نسبية فالكل يري السعادة بزاوية مختلفة، فكان رد البعض بأن السعادة في المال، والآخر قال بأن السعادة في الأسرة والزوجة الصالحة، والبعض قال بأنها في السلطة والشهرة .

أختلفت مفاهيم السعادة، وجاء رد سقراط التساؤلي في محاولته لصك معني للسعادة شامل، قائلاً إذا كانت السعادة كذلك في المال او السلطة او الممتلكات، هل ستكون سعيداً ومعك المال والسلطة والشهرة وتشعر بالألم ؟بهذا تكون سعادة ناقصة فقد رأي فيلسوفنا بأن السعادة التي ينشدها معاصريه مادية بحتة وغير حقيقية، كلها تنصب علي تركيز الإنسان علي تحقيق اللذة المادية وحب التملك، بينما هي عكس ذلك، فيمكن أن يحوز الإنسان علي الكثير من الممتلكات ولا يشعر بالسعادة  الحقيقية ويتألم .

إذن السعادة السُقراطية الحاقة هي بداخلنا وبتحقيق الفضيلة والإعتدال . وبإسقاط السعادة السقراطية في عالمنا المعاصر، نجد هيمنة رأس المال واللغة الأكثر إنتشاراً هي لغة النقود، ولهث الإنسان وراء الإمتلاك، ولكن هل توجد لديهم السعادة الحقيقية ؟

من وجهة نظرنا نحن نمثل دور السعادة علي مسرح مزيف مسرح الحياة شديد التلون و التغير، فكم من رجل غني لديه من المال الوفير، ولكنه لا يستطيع شراء السعادة فهي ليست للبيع، وكم من فقير ولكنه لديه من القناعة والرضا والإعتدال ما مكنه من أن تصبح السعادة أنيسته، وللأسف في الأوساط الشعبية وبالأخص الريفية دائما ما نوصف الرجل الغني مادياً بأنه مبسوط، ولكن تلك نظرة ناقصة، فهناك من الأغنياء ما يعكر صفوهم وينغص حياتهم في الواقع المعيش، فقبل ان يتم صياغة بؤس الأغنياء في صورة دراما تجسدها الأفلام والمسلسلات كانت واقعاً ملموساً فهي ليست في المال ولا الجاه .

فالسعادة الحقيقية في داخلنا، طالما ظل الإنسان يبحث عنها في الخارج سيظل يدور في دائرة مُفرغة ولن يجد سعادته، الحقيقية إلا في داخل نفسه ورضاه عنها وإعتداله، بهذا تتحقق السعادة رغم إنها سعادة مؤقتة.

ولهذا جاءت فلسفة سقراط إنسانية خالصة، تحثُ علي أن نعرف نفسنا بنفسنا، دعوة للتأمل والتدبر في نفوسنا كبداية لفهمها وبالتالي معرفة السعادة، عن طريق تحقيق الفضيلة والإعتدال والرضا بما نملكه، وليس بالحصول علي ما لانملكه .

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

لا يزال العقل الديني العربي في القرن الواحد والعشرين واقعاً في المأزق نفسه الذي مرّ به في القرن العشرين عندما تمكنت الآلة من التطور، وظهر الحاسوب كإختراع متقدم. فقد كان على العقل الديني العربي حينها ان يعمل على تطوير وتحديث ثقافته الفكرية كي يبني على مرحلة التطور العلمي تلك مباني عدّة تذهب به الى مزيد من الإستعداد لإستيعاب المرتقب من تطور العلم والتقنية، ذلك التطور الذي وصل الى إختراع الموبايل والإنترنت وشيوع استخدام تطبيقاتها في بدايات القرن الجديد، وهو ماضٍ بإتجاه تقنيات الذكاء الإصطناعي. كان من المفروض ان يعمل العقل الديني العربي منذ ذلك الوقت على النهوض بالفكر الديني بما لا يجعله مستخدماً للتقنية في إعادة انتاج الأفكار والطروحات الكلاسيكية دون التعمق في استنباط إستفهامات مرتقبة يفرضها واقع الإستخدام التقني في الحياة العامة، يضاف الى ذلك ما يمكن توقعه من ميول نفسية وانطباعات جديدة يطبعها حضور الآلة المتطورة في حياة الناس ما قد ينعكس سلباً على الإنطباع المألوف في علاقة الفرد بالدين وفي حاجته اليه.

 لا يشير الواقع الى وجود هكذا تجديد، أو هكذا نهضة، أو هكذا تطور في آلية تفكير العقل الديني، دلالة ان الأجيال التي أخذت تعاني من مشاكل إجتماعية ومشاكل شخصية افرزتها استخدامات التطور التقني، ومع ان العقل الديني موجود وسط هذه المشاكل الثقافية والاجتماعية، لكنه.

لم يظهر قدرة عالية على تدارك هكذا نتائج سلبية في المجتمع.

ربما بسبب الادوات والوسائل التقليدية التي يستخدمها العقل الديني في التعاطي مع المتغيرات الجديدة، تلك الأدوات والوسائل التي لم تعد قادرة على الصمود أمام الأدوات الجاذبة الأخاذة التي يجدها الفرد العربي المسلم اليوم في وسائل التواصل الإجتماعي وفي صفحات ومواقع الانترنت، وفي الأجهزة الرقمية والاجهزة الذكية.

فأمام انبهار المستخدم العربي بما يحققه العقل العلمي الغربي، لجأ العقل الديني العربي الى إسناد الريادة في هذا التطور العلمي الى القرآن الكريم عبر ربط نوع المنجز العلمي الغربي بنص قرآني.

 ان ربط الإنجاز العلمي في الغرب بالإعجاز العلمي في القرآن، يكشف في اعتقادي عن ضعف قدرة العقل الديني العربي على مواكبة ما يترتب على الإنجاز العلمي الغربي، وهذا ناتج عن قلق تشهده طبيعة تفكير العقل الديني بسبب إدراكه لضعف قوة جاذبيته للمتلقي العربي أمام تنامي قوة الجذب التي يعيشها الفرد العربي مع ما يصله من منجز علمي غربي،  فهناك مثلاً جهود لبعض الخطباء في التعريف والتذكير بقدرة الإمام علي عليه السلام العلمية في حل مسائل رياضية وفيزيائية صعبة جداً في عصره، فضلاً عن احاديثه عليه السلام عن آخر الزمان، منها انه اخبر بما سيأتي من أيام يسمع فيها الرجل صوت أخيه من مكان بعيد ويراه :

(يأتي زمان يسمع ويرى من في المشرق في المغرب ومن في المغرب في المشرق). اكتفى العقل الديني العربي بذكر هذه الأقوال لجذب القارئ والمستمع الى الدين من خلال الإشادة بعلم الإمام وعظمة إدراكه في قراءة المستقبل، وكان على العقل الديني ان يتخذ من هذه القاعدة الرصينة والتراث الإسلامي الضخم منطلقاً لتوسيع مدارك التفكير العقلي بما يوسع حضور الدين في النشاط الثقافي للعقل العربي، حتى إذا ما وصل الى القرن الواحد والعشرين كان على درجة من الوعي لا يقع معها في الحيرة التي هو فيها اليوم .

تواجه الثقافة العربية المعاصرة انتقادات كثيرة يوجهها العقل المعاصر لتاريخ الثقافة العربية، فكثير من الكتابات والآراء والكتب تنتقد الواقع العربي ومآلات الحالة الإجتماعية والثقافية والسياسية والدينية للفرد وللمجتمع من دون ان تقابلها أفكار ورؤى وبحوث توازي ذلك النقد.

هذا اللاتناسب بين النقد الهدّام والنقد البناء أخذ ينعكس على النضج النفسي للفرد العربي الذي أصبح مقتنعاً بأنه يعيش في مجتمع متأخر، وان هذا التأخر بات صفة ملازمة لطبيعة المجتمع العربي المعاصر، وانه من الصعب عليه ان ينهض بأمره من دون مساعدة قوة خارجية. وبات مدركاً الى حد ما ان هذه القوة الخارجية لن تقدم له يد العون من دون ان تطالبه بمقابل. وكثيراً ما يأتي هذا المقابل على حساب الموارد الطبيعية والموارد البشرية، وعلى حساب الهوية الدينية، في الأحوال كلها فإن الفرد العربي المسلم يعيش حالة من القلق النفسي المزمن ثقافياً. على الرغم من وجود مفكرين عرب وفلاسفة وعلماء، يتعذر انعاش الواقع. لقد بحث العقل في اكثر الأحيان عمّا يرضي المزاج النفسي لصاحبه، لذلك تتباين الآراء حول حدث واحد، فمنهم من يراه صحيحاً، ومنهم من يراه عكس ذلك. إلا الذين اوتوا نصيباً من العلم، فأولئك يقولون آمنّا، وهذا الإيمان يحملهم على قول الصدق والتثبت من الحقيقة، لذلك أكد العليم الحكيم سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على استمرارية حفظه لكلماته التامات، كي تكون هي المعيار والمرجع الذي نقيّم به رؤانا وتصوراتنا وقناعاتنا وافكارنا وقراراتنا، في زمان تستخدم فيه كثير من انظمة حكم العالم العربي ثلاثية: التجهيل، والتدجيل، والتدجين.

كانت صعوبة مهمة الأنبياء في إيصال رسالة السماء الى الناس تكمن في كيفية تأهيل الوعي الذاتي عند كل شخص لتقبل الطرح الجديد لمفاهيم غير جديدة مثل الإله، العدالة، العبادة، وغيرها. فما من مجتمع إلا وله دين كما يقول التاريخ. أو هو يبحث له عن دين، وسواء أكان ذلك الدين سماوياً أم وضعياً، فإن اجنداته كانت تتحدث عن إله وعن عدالة، وهذه المفاهيم تحتاج الى وعي ذاتي يتحرك بصاحبه لاستقبال الدعوات الجديدة التي جاء بها الأنبياء.

لأن كثيرين على مرّ السنين كانوا قد شكلوا وعيهم على اساس انماط حياتهم اليومية، لذلك كانوا يواجهون فكرة الإله الواحد برغم انهم كانوا يعبدون إلهاً أو آلهة متعددة، فليست القضية قضية عدد بقدر ما هي قضية حاجة، فحاجتهم الى استبدال إلههم أو آلهتهم لم يكن لها ضرورة، لأن اوضاعهم الحياتية كانت ماضية بشكل مقنع ومرضي بالنسبة لهم. فهم يزرعون ويحصدون ويبنون ويتزوجون ويبيعون ويشترون.، لذلك عزفوا عن اتباع الأنبياء. وعندما وجدوا الأنبياء مصرين على دعوتهم الى التوحيد، واجهوهم، حرصاً منهم على خط حياتهم من ان ينحرف بعيداً بهم عما يطمئنون اليه، خصوصاً وان الطرح الجديد الذي يقدمه الأنبياء يقوم على نمط حياتي مختلف عن انماط حياتهم. من هنا جاء استغراب الأقوام من دين يساوي بين السيد والعبد، ويرى في اموال الأغنياء حق للفقراء، وهي طروحات تهدد نظام حياتهم وتقلب الموازين التي مضت عليها مجتمعاتهم سنين طويلة.

قد يمثل عصرنا الحالي اخطر مرحلة تاريخية يمر بها الوعي الإنساني. سبب ذلك ان تطور المعرفة والصناعة ودخول الشعوب عصر التقنية الرقمية والأجهزة الذكية جعل مفهوم الحرية الشخصية يتحرك في جو من القلق الثقافي والإضطراب الإجتماعي والفوضى السياسية والمشاكل الإقتصادية، مما اثر في فهم العدالة الإجتماعية . لذلك أخذ بعضهم يتوجه الى قبول فكرة الخروج من الدين من داخل دائرة الدين كظاهرة اجتماعية. فهو خروج لا بمعنى التمرد العلني او الرفض الظاهري او الإلحاد، بقدر ما هو لا تقيد بالتزام النص التشريعي. فمثلاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يدرك الجميع ان الدين هو الإسلام. وان الشريعة المحمدية هي السبيل السليم لتحقيق العدالة الإجتماعية ولحياة آمنة. وفي الوقت ذاته يذهب كثير من الناس الى ان ذلك لم يعد ممكناً على ارض الواقع إلا بمشقة واضحة، ومع ذلك بقي الدين في حساباتهم يمثل الإطار العام لحركة الحياة. اما تفاصيل المشهد الإجتماعي ففيها الوان كثيرة غير محببة لعامة الناس، ولا حتى للمعنيين بالدور الرسالي للانسان في الحياة، فنرى في تفاصيل حياة كثير من الناس غياباً واضحاً لتفاصيل الدين، بل لعله خروج غير مباشر من الدين. هنا تبرز قضية الغربة التي تناولها الحديث النبوي الشريف (بدأ هذا الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) وهو حديث صحيح ذكره غير مصدر من مصادر التاريخ المعتمدة. من المقبول ان يبدأ الدين غريباً، فكيف سيعود غريباً وقد تجاوزت أفواج الداخلين في دين الله مليار نسمة حول العالم؟

ان المشكلة في اعتقادي تكمن في الكيفية التي لم يتم فيها إيصال الفكر الناضج الذي انتجته عقول الأنبياء في جو الوحي الى المتلقين من الأجيال، ممن يتباينون في معدلات نضجهم النفسي والعقلي، إذ لم يكتب للمجتمع العربي خلال التاريخ ان يمر بمرحلة غير قلقة يتحقق فيها ارتفاع لمعدلات النضج النفسي والعقلي بمناسيب متساوية.

بمرور الوقت وبدخول الإقتصاد كعامل قوي فاعل في تحريك تفاصيل الحياة اليومية تعقدت الأمور أكثر، لأن المال يشغل العقل بالارقام والانفعالات التي ينتج عنها اهتمام بالغ بالذات والفردية وبالأنانية، حيث يتم تجاوز معنى الصالح الى معنى المصلحة، هذا المفهوم الذي يحتمل الخاص والعام، في حين ان مفهوم الصالح له وجه واحد، لا يحتمل الخاص والعام. لذا كان الإهمال أو الإغفال مصير كثير من القيم والمثل العليا والمبادئ السامية في الجانب العملي، في حين بقيت تحظى بالتعظيم والتقدير وربما بالتقديس في الجانب النظري. سبب ذلك هو قلة النضج النفسي الذي تسبب في تكوين فهم جزئي، غير مكتمل أو غير ناضج، ودخول الزمن كعنصر أساس في حركة التطور العلمي في العالم، كان له دور مؤثر في إنتقال النضج الجزئي الى مراحل متقدمة من الوعي الجزئي، فكثير من الناس هم من أصحاب وعي جزئي كان يفترض بهم تنميته في ظروف نمو صالحة للوصول الى الوعي الكلي او الوعي الناضج او الوعي الجمعي. لكن الوقت مرَّ من بينهم حتى وجدوا انفسهم أمام واقع علمي عالمي متطور مذهل، جعل في متناول ايديهم تقنيات رقمية جبارة وجذابة، وآلات ذكية متفوقة.

هنا لم يعد بالإمكان تدارك ذلك الوعي الجزئي والنضج الجزئي للنفس وللعقل، لكن بالإمكان ان يكون ذلك الوعي الجزئي، هو كل الوعي الموجود. وفي ضوء ذلك ستأخذ المفاهيم الكبيرة التي نادى بها أنبياء الله معاني جديدة. فالحق مقدّس، والعدالة مطلب حق، لكن آليات الوصول الى هذه المعاني الكبيرة عملياً لم يعد سهلاً، لذلك تخللت هذه المفاهيم الكبيرة تطبيقات خطيرة نتج عنها غياب حقيقي مخيف لهكذا مفاهيم، مما حمل بعض الناس على ان يفرّوا من الدين وهم في داخل دائرته الإجتماعية التي يتعامل فيها بعض الناس مع المسجد كمكان آمن، ومع الصلاة كطقس بدني تلقائي، ومع المصحف كمصدر مجرب لدفع البلاء وجلب الرزق وطرد الشر.واصبحت الأنانية غير منفصلة عن الإنسانية في جو المصلحة العامة والخاصة، فصرنا نقيم مهرجانات واحتفالات كبيرة على شرف أسماء تاريخية وشخصيات كان لها دورها البارز في رسالة الإنسانية والدعوة الى الأخلاق والمثل العليا، وصرنا نقيم نصباً تذكارية لشخصيات تاريخية وأدبية وفنية وسياسية وعلمية، ونذكر سيرهم في كتبنا وبحوثنا وفي مناهج الدراسة، وصرنا نطلق اسماءهم على مشاريع سكنية وشوارع ومشاريع خدمية واماكن عامة وخاصة، لكن ليس هناك حضور جوهري لآثار هذه الأسماء والشخصيات النزيهة والمستقيمة في تعديل الإنحراف الذي يأخذنا اليه الواقع. الأمر الذي ترك في أذهان البسطاء من قليلي المعرفة والوعي، قلقاً نفسياً وثقافياً، سببه استقامة الجوهر وانحراف المظهر، خصوصاً ان حاملي القيم والمبادئ هذه الأيام، هم أقل وعياً بالذات الإنسانية من سابقيهم، وهنا تبرز مشكلة كبيرة تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، وهي ان الأفكار العظيمة انتقلت الى أذهان لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الإستعداد الكافي للتفكير بمستوى عظمة هذه الأفكار، أوانها لم تعد قادرة على الإستعداد للوصول الى هذا المستوى من التفكير العميق بعد ان سرق العصر الجديد اوقاتهم واودعها في بنك الإستهلاك الخدمي المعاشي.

الواقع الإجتماعي والثقافي العربي يمضي في اتجاه حصر منظومة رسائل ووصايا وحكم وقيم انبياء الله والمصلحين، في مرحلة الماضي او الجانب النظري الروحي للخبرة والمعرفة الانسانية، أما الجانب العملي المادي فمرهون بيد متغيرات مرحلية ومحلية وعالمية، تمضي بالفهم الى أفكار جديدة تؤثر فيها أدوات العصر بحيث لا تجعلها تتجاوز الماضي ولا ترى انها تسيئ الى حضوره عندما تضعه على الرف.

سعادة الانسان مرتبطة بفهمه للحب. والحب مرتبط بفهم العدالة. والعدالة مفهوم اختلط معناه بين العقل الديني والعقل السياسي، وهذا ما جعل مجتمعاتنا تفتقر الى الحب الحقيقي.

يقول ج. ب. شيشولم (ان الخطر الحقيقي الوحيد الذي يتهدد الإنسان هو الإنسان نفسه. والسبب في ذلك انه يعجز عن استخدام تفكيره الذي بلغ درجة رفيعة من التطور استخداماً فعالاً. وذلك نتيجة لمخاوفه وتحيزاته وتعصبه لآرائه وللكراهية القائمة على غير أساس والتفاني الذي لا يقل عنها بعداً من العقل، وكلها اعراض للمرض النفسي الذي يدل على اخفاقه في تحقيق النضج الانفعالي والصحة العقلية) (1).

***

د. عدي عدنان البلداوي

...........................

(1) كتاب العقل الناضج - ص133 - اوفر ستريت.

تسبر هذه الدراسة أغوار الآليات التي تتشكل عبرها الأفكار في وعي الإنسان، مقدمة قراءة نقدية محكمة لمسار يجعل من التفكير الفردي امتدادًا لتراكمات اجتماعية وثقافية، لا نبعًا أصيلًا للذات. يعمد البحث إلى تحرّي المفاهيم بدقة متناهية، مستندًا إلى شروط التكوين العقلي في بيئات يهيمن عليها سلطة رمزية صارمة، معتمداً على إرث فكري عراقي وتأملات الباحث.

المقدّمة

لا يتراءى كل ما نعتقده صادرًا عن وعينا، ولا تعد كل قناعة نحملها دليلًا قاطعًا على حرية فكرية مستقلة. الإنسان في مجتمعاتنا ذات الطابع التقليدي لا يُبنى كمفكر حر مستقل، بل يُصاغ بوصفه كائنًا وظيفيًا يعيد إنتاج ما يُلقن إليه من قيم وأفكار مغلوبة على أمرها. ولذلك يبرز السؤال المحوري: أين تكمن حدود مسؤوليتنا تجاه الأفكار التي نؤمن بها؟ وهل التفكير ممارسة نخوضها بحرية، أم هو نتاج حتمي لبيئات اجتماعية وثقافية تربوية مُحكمة؟

تسعى هذه الورقة إلى معالجات هذه القضية من منطلق تحليلي جاد، يوازن بين قوة الطرح ووضوح الإفهام، متجنبًا الزخرفة اللغوية التي قد تشوش المعنى. فنحن أمام مسألة عميقة ذات طبقات متداخلة تتطلب تشخيصًا متينًا لطبيعة الوعي وكيفية تشكله، بعيدًا عن التبسيط والتجريد السطحي.

أولًا: سلطة التنشئة وبنية التلقين

تبدأ السلطوية المعرفية تأثيرها منذ الطفولة، حيث يُفرض على الطفل ثنائيات قطعية كالصح والخطأ، الخير والشر، الحلال والحرام، التي لا تستند إلى تجربة نقدية ذاتية بل إلى سلطة خطابية محكمة. يعبر الفيلسوف علي الوردي عن هذا الواقع بقوله إن الإنسان في مجتمعاتنا يُربى على التسليم أكثر مما يُحفز على النقد والتمحيص.

وعليه، لا ينخرط الفرد في فضاء التفكير الحر إلا بعد أن يتعرّض لمنظومة من القيم والضوابط التي تحيط به، فتُحدد له ما يجوز له التفكير فيه وما يُمنع. وهكذا تتحول الأفكار إلى ممتلكات جماعية تُتداول بين الأفراد دون مساءلة عميقة أو مراجعة واعية.

ثانيًا: المؤسسات ودورها في قولبة الوعي

المؤسسات ليست هياكل إدارية فحسب، بل هي أطر تعيد تشكيل المعنى وتوزع السلطة الرمزية، تشمل الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام. هذه المؤسسات غالبًا ما تفرز خطابات لا تشجع على التفكير المستقل بقدر ما تدعو إلى الامتثال والانصياع لما هو معتمد ومقبول.

يؤكد الباحث عبد الجبار الرفاعي أن مجتمعاتنا لا تزال محصورة داخل أنساق فكرية مغلقة، تحجب عن الإنسان فرصة امتلاك فكر شخصي مستقل، وتفرض عليه ما ينبغي أن يكون عليه. ومن هنا أقول: السؤال الحقيقي ليس لماذا تفكر بهذه الطريقة، بل من الذي منحك الإذن لتفكر بهذه الطريقة؟

ثالثًا: الرأي الشخصي كخدعة معرفية

لا يُصبح الرأي شخصيًا إلا إذا خضع للتحليل النقدي الداخلي والجدل المنهجي الصارم. أما في سياقاتنا الاجتماعية، فإن ما يُدعى آراء غالبًا ما تكون ناتجة عن انفعالات، تقليد، أو قبول اجتماعي غير مدروس. الرأي الذي لم يُمرر عبر مشفى الشك والتحليل لا يمكن اعتباره أصيلًا أو محل ثقة.

لقد كتبتُ في مناسبة أخرى أن الأفكار التي لا تكتسب صلابتها عبر الجدل والتمحيص تظل هشة مهما ألبست من قناعات.

رابعًا: التفكير من موقع الاستقلال لا الرفض

التفكير ليس فقط رفضًا للطاعة، بل هو رفض للتقليد الأعمى والقبول السطحي. لكنه لا يحض على رفض كل شيء بلا تمحيص، بل يدعو إلى الفحص والتأويل العميق. سقراط نفسه بيّن ذلك بجلاء حين قال إن الحياة التي لا تخضع للمراجعة والتحقيق لا تستحق أن تُعاش.

هنا يتجلى جوهر التفكير الحقيقي، الذي لا يقتصر على كونه فعلًا ذهنيًا صرفًا، بل هو فعل تحليلي يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمعنى والمعتقد.

خامسًا: الاستقلال المفهومي وتبعاته

لا يتحقق الاستقلال الفكري بمجرد معارضة السائد، بل حين يتحرر العقل من الخضوع اللاواعي للموروث الثقافي والاجتماعي. صاغ المفكر كارل بوبر هذا المفهوم بدقة حين بين أن الحرية الحقيقية ليست في الإيمان بما تشاء، بل في القدرة على الرفض بعد الفهم الواعي.

ومن تجربتي الشخصية أؤكد أن امتلاك الفكر الحقيقي يعني المرور بتجارب متعددة من الرفض، التأسيس، الشك، ثم الفهم العميق.

الخاتمة والناتج

لم يكن الهدف من هذه الورقة التشكيك في كل ما نحمله من أفكار، بل لفت الانتباه إلى أننا في أغلب الأحيان نعيش داخل أفكار الآخرين لا أفكارنا. فالتفكير الحقيقي لا يتجسد في إعلان الرأي فقط، بل في مساءلة الرأي ذاته عن أصله وأسبابه.

فهل تساءلت يومًا: هل فكرك حقًا لك؟ أم أنه مجرد انعكاس لمنظومة تعتقد أنك حر فيها؟.

***

سجاد مصطفى حمود

 

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التي تطيّب الخبز هي القراءة الدائمة هي الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيت آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدى قبل ظهور الصناعات الحديثة. لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، ومضت الأفكار في رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

 أما القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوف عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار: هو أعلى المراحل في العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من القرن بعد استوائه هو الكتابة الإبداعية المنفردة بعد القراءة التي كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذي يأتي كمرحلة ثانية: فالذي يشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفى الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس في الفرن دقيق معجون ليصير خبرا شهيا.

إلى هنا ولم تصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه.

العجيب في الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها في ذاتها مفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكل نهائي تجسده الكتابة الإبداعية في مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة هي الدقيق المعجون، رغيف الخبز هذا الذي بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التي تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تالف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير في الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة والاستبصار في الكتابة هو الذي يقوم مقام الصناعة في الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعية، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أما عن كنه الاستبصار: فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذي يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدد الصور المعرفية والمرائى الوجودية عليه، لذلك كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هي استبصار يجند ذائقة البصيرة ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهي تشمل الوعى العالي بما يتكاتف فيه العقل مع الروح فلا العقل وحده يكفى ولا الحس وحده يكفى ما لم يكن الإدراك الأعلى وهو إدراك البصيرة الذواقة أسمى في تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة العارفون يقولون من ذاق عرف.

 وليس من ذوق خارج نطاق التجربة، والتجربة في هذه الحالة هي التي تقودك ولست أنت القائد ولن تكون التجربة هي التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون هنا يكون التخلى عجباً من أعاجيب القدرة: أعنى التخلى عن وهم تمثل في الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بداية حين تتحلى بمجموعة قيم علوية تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلى طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلى عنه بحال. بقاءك مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وتقدمك موقوف على الولاء كل الولاء لما تدين مما عساك تحليت به في السابق وتزكيت.

لأبي العباس المرسى إشارة يقول فيها: إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه.. لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق في كل قول ذي صدق مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تذوق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في السرديات التاريخية كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة في متاهة الجهل، هناك فجوة هائلة بين التواصل والفهم، انها تكشف لنا عن الواقع الحقيقي وهي فكرة الوجود كمتاهة متعددة الطبقات، حيث كل طبقة تمثل واقعاً مختلفاً من خلال طبيعة الزمن والوجود، تبدأ بسؤال ملغز...هل الزمن وهم أم حقيقة مطلقة...؟ نحن نتراوح في الواقع بين الوجود والعدم لذا علينا أن نعيش اللحظة بدلاً من مطاردة الزمن الذي يتسرب بين أيدينا ونحن نطارده لكن المعضلة هي ان هناك الزمن النفسي الذي يختلف عن الزمن الفيزيائي ايهما غير قابل للتسرب مما يشير الى ان السرديات التاريخية يمكن أن تكون انزلاقا في العدم إذا لم تُعالج بشكل نقدي. تُروى الأحداث التاريخية أحيانا بطريقة تتجاهل الحقائق من خلال الزمن الفيزيائي، أو تعزز روايات معينة على حساب أخرى من خلال الزمن النفسي، مما يؤدي إلى تشويه الفهم العام للتاريخ. عبارة كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة من الجهل تعكس رؤية عميقة حول السرديات التاريخية. مما يجعل الفهم الكامل صعبًا، السرديات التاريخية غالبًا ما تكون متأثرة بالانحيازات، مما يخلق طبقات من المعلومات المغلوطة مع مرور الزمن، تتغير الآراء حول الأحداث التاريخية، مما يجعل المعرفة غير ثابتة، النسيان الانتقائيحيثبعض الحقائق تُهمل لصالح سرديات معينة، مما يؤدي إلى فجوات معرفية، السرديات التاريخية تتطلب فحصًا دقيقًا ووعيًا بالتعقيدات، وإلا فقد نغرق في دوامة من الجهل رغم محاولاتنا فهم الماضي.

فجوة بين التواصل والفهم

الفجوة بين التواصل والفهم في السرديات التاريخية تطرح اتساؤلات عميقة حول أهمية وجودنا ومعناه. يمكن أن يتواصل الناس حول أحداث تاريخية، لكن الفهم العميق يتطلب تحليلًا نقديًا وتجربة شخصية، السرديات تشكل هويتنا وتوجهاتنا، ولكن إذا كانت هذه السرديات مشوهة، فإن ذلك يؤثر على فهمنا لذواتنا، الفجوة تُبرز ضرورة البحث عن المعني، مما يمنح وجودنا هدفًا أعمق، الفهم الصحيح للتاريخ يساعدنا على تجنب تكرار الأخطاء، مما يعزز أهمية وجودنا وصناعة مستقبل أفضل، تتطلب الفجوة بين التواصل والفهم وعيًا نقديًا واهتمامًا بتاريخنا، مما يمنح وجودنا قيمة ومعنى في السياق الأوسع .

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات في السرديات التاريخية تعكس تعقيد التجارب الإنسانية. الطبقات الاجتماعيةكل طبقة تمثل وجهات نظر مختلفة، مما يؤدي إلى تعددية في الروايات التاريخية، الأحداث التاريخية تتأثر بالسياقات الزمنية والاجتماعية، مما يخلق طبقات من الفهم كل طبقة تحتفظ بذاكرة خاصة بها، مما يؤدي إلى تباين في كيفية تذكر الأحداث وتفسيرها، الطبقات المختلفة تتفاعل وتتنازع، مما يشير الى تعقيد السرد التاريخي، كل طبقة تبحث عن معنى وجودها، مما يضيف عمقًا للتجربة الإنسانية، تُظهر هذه المتاهة كيف أن السرديات التاريخية ليست تطور تاريخي خطي، بل تتكون من طبقات متعددة تعكس تجارب وتفسيرات متنوعة.

دور السلطة في تشكيل الطبقات السردية

السلطة يمكن أن تحدد ما يُعتبر تاريخًا رسميًا، مما يؤثر على كيفية سرد الأحداث، من يملك الموارد المالية والثقافية يحدد أيضًا من يتم تمثيله في السرديات التاريخية المناهج الدراسية غالبًا ما تُصاغ وفقًا لرؤية السلطة، مما يؤثر على فهم الأجيال الجديدة للتاريخ، تفرض السلطة رقابة على المعلومات، مما يؤدي إلى تهميش روايات معينة، تُستخدم الأساطير والتقاليد لتعزيز شرعية السلطة، مما يؤثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم، السلطة تلعب دورًا في تشكيل الهويات الجماعية، مما يخلق طبقات من السرديات تختلف باختلاف المجموعات.

الزمن في السرديات التاريخية

فكرة الزمن في السرديات التاريخية يمثل موضوعًا معقدًا يتأرجح بين كونه وهمًا أو حقيقة مطلقة. من ناحية يُنظر إلى الزمن كعنصر ثابت يقيس الأحداث والتغيرات، مما يعطي إحساسًا بالاستمرارية في الذاكرة الجماعية، من ناحية أخرى فهمنا للزمن، يخلق وهمًا يتعلق بمدى تأثير الأحداث الماضية على الحاضر، الأحداث التاريخية تتكرر في أنماط معينة، مما يعكس تغيرا في تأثير الزمن على التطورات الإنسانية، الفلاسفة مثل هايدغر وبيرغسون تناولوا الزمن كمسألة وجودية، مما يضيف عمقًا لفهمنا للزمن في السرديات التاريخية وهو مفهوم معقد يجمع بين جوانب ملموسة وذاتية، ما يجعله موضوعًا يستحق التأمل والنقاش. هناك زمنان يتناوبان احساسنا بالزمن، الزمن النفسي يمثل كيف نشعر بالوقت، وقد يختلف عن الزمن الموضوعي، مما يجعلنا نشعر بالضغط أو الفقدان، التركيز على الحاضر من خلال الزمن النفسي يعزز الوعي الذاتي ويساعد في تقليل القلق حول المستقبل أو الندم على الماضي، عيش اللحظة يعزز التجارب الحياتية، مما يجعلها أكثر عمقًا وثراءً، التأمل يساعد في تعزيز الوعي اللحظي وتقليل مشاعر المطاردة ويساعد على التحرر من قيود الزمن النفسي، مما يسمح بتجربة الحياة بشكل كامل، التركيز على الحاضر بدلاً من مطاردة الزمن يُعزز الرفاهية النفسية ويساعدنا على تقدير اللحظات الحياتية.

الزمن النفسي يختلف عن الزمن الفيزيائي

الزمن الفيزيائي يقاس بالثواني والدقائق والساعات، وهو ثابت وموضوعي، يتدفق بشكل خطي دون تغيير هو تجربة فردية تتعلق بكيفية إدراكنا للوقت. يمكن أن يبدو الزمن أسرع أو أبطأ بناءً على المشاعر والتجارب، يعتمد الزمن الفيزيائي على تسلسل الأحداث، لكنه يتأثر بشدة بالزمن النفسي، حيث تترك الأحداث أثرًا مختلفًا في الذاكرة، الأحداث التاريخية تُروى بشكل مختلف اعتمادًا على كيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، في أوقات مختلفة الزمن النفسي يُساعد في تشكيل كيفية فهمنا للأحداث التاريخية، حيث نبحث عن المعنى في تجاربنا الشخصية، الزمن النفسي والفيزيائي يتداخلان في السرديات التاريخية، مما يُعزز أهمية فهم كلا الجانبين لتقدير التجارب الإنسانية بشكل كامل.

دور الدين في تشكيل إدراك الزمن النفسي

الأديان تقدم رؤى مختلفة عن الزمن، مثل الزمن الخالد أو الدائري، مما يؤثر على كيفية فهم الأفراد لتجاربهم الزمنية، السرديات الدينية تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية، مما يعزز من إدراك الزمن كجزء من تاريخ مشترك، الدين يلعب دورًا محوريًا في تشكيل إدراك الزمن النفسي، مما يُعزز من أهمية السياقات الروحية في فهم السرد التاريخي، مفاهيم الزمن الديني تختلف بشكل كبير بين الثقافات، العديد من الأديان تميز بين الزمن المقدس والزمن العادي، مما يؤثر على كيفية إدراك الأفراد للوقت، يُنظر إلى الزمن كوسيلة لتحقيق أهداف روحية، مما يؤثر على كيفية عيش الأفراد للحظة الحالية تختلف مفاهيم الزمن الديني بين الثقافات، مما يعكس تنوع التجارب الإنسانية والفهم الروحي للوقت.

الانزلاق في العدم والسرديات التاريخية

نظام التفاهة يعد من الظواهر المعاصرة التي تؤثر في المجتمعات، خاصة تلك التي تعتمد على السرديات التاريخية والزمن المقدس. حيث تسيطر المظاهر السطحية على النقاشات العامة، مما يؤدي إلى إغفال القضايا الجوهرية التي تؤثر على المجتمع. تساهم التفاهة في فقدان المعنى والعمق في الحياة اليومية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالانفصال والقلق، تروج وسائل الإعلام لنمط حياة مستند إلى الاستهلاك، مما يشتت الانتباه عن القضايا التاريخية والسياسية المهمة، في المجمل يعكس نظام التفاهة أزمة في القيم والمعرفة، ويهدد بإنهاء الروابط التاريخية التي تشكل هوية الشعوب هذا يمكن أن يتجلى في الأزمات الوجودية التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، يتطلب ضرورة إعادة التفكير في السرديات التاريخية لتجنب الانزلاق في العدم، مما قد يؤدي إلى اكتشاف زوايا جديدة يمكن أن تُعبرتجارب جديدة من خلال البحث عن قصص اخرى تُثري السرد التاريخي في أوقات الأزمات والتي تعكس التحديات والواقع المرير، مما يُمكن المجتمعات من إيجاد معنى في الفوضى، و يُنتج سرديات جديدة تعكس الروح الإنسانية يمكن أن تُعيد المجتمعات استلهام دروس الماضي للتعامل مع الانزلاق في العدم، وانتاج سرديات جديدة تعكس قوة الصمود، هكذا يمكن أن يُصبح الانزلاق في العدم مصدر إلهام لإعادة بناء الهويات والتاريخ.

***

غالب المسعودي

ما هو الإنسان؟ ما حقيقته؟ من أين وإلى أين؟ أسئلة لا يُجيبُ عنها الذين هَجَروا يقظة الوعي وَغَطّوا في نَوْمَة الجّهل على فراش الإيمان الزائف؛ أسئلة لا يُجاب عنها إلا بأحْرُفٍ مِن نورِ الأرواح المُحبّة، والأنفس المُطمئنة التي هربت من ظلمات المظاهر والقشور نحو نور الجوهر وحقيقة المعنى، ومن لَعِق الألسن إلى صفاء القلوب التي صَدَقَت فبَلَغَت الحقيقة وتربَّعت على عرش اليقين؛ أسئلة لا يُجاب عنها بلقلقة المترفين بل بصلاة العاشقين. 

خَلَقَ اللهُ تعالى الإنسانَ لحكمة بالغة وأصلٍ مكنون لا يفقهه إلا العارفون؛ لم يخْلقْهُ اللهُ ليكون رقمًا في سجلات الحياة الدنيا، بل جوهر ذو معنى، ومحور تطوف حوله وتسجد له باقي المخلوقات؛ وأمانة يجب أن تؤدّى، هو سرّ الله الأعظم، قال تعالى:  ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

شاءَ اللهُ تعالى أنْ ينفخَ في هذا الطّين مِنْ روحِهِ ليغرز فيه بذرة الإنسان وليثمر نورًا وبصيرة وَلِيَجِدَ طَريقَهُ واضحًا جليًا نحو مراتب القرب الإلهي. خَلَقهُ لا أن يتمتّع ويأكل كما تأكل الأنعام، بل أن يكون مرآة لأسماء الله وصفاته؛ أنْ يكونَ له قلبٌ سليم لا يسكنه إلا الله تعالى، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾.

ولأجل أنْ يَعملَ العامِلون وَيَفيقَ النائمون، شاء الله تعالى أن يبعث الأنبياء والمرسلين، وينزل الكتب السماوية، ويجعل للبشريّة شريعة ومنهجًا توقظ فيهم نور الوعي الإنساني؛ أنزل القرآن ليرتوي منه العطاشى، وجعل الأنبياء والأوصياء أبوابًا يلجأ إليها المتحيرون ويطرقها القاصدون.

ولأجل أن تطوى مراتب التكامل الإيماني وَيَصِلَ المؤمنُ إلى مقامات القرب وَيَستشعر الذوبان في المبدأ الأول، وَيَعيش نَعيم فيوضات الحضور الأزلي بالمستوى الذي يذوب فيه حتى كأنه لا يرى في الوجود شيئًا سوى الله تعالى، عَلَيه أولًا أن يطوي مراتب التكامل الإنساني، لكي يُبيض صفحة القلب ويُطهّر النّفس من كل دَرَن، فما القلب إلا ذلك الاحساس الذي تحرّكه وتقوده إنسانيّة الإنسان.

والجنّة التي أعدّها الله تعالى لا تفتح أبوابها إلا لمن بلغ أعلى مقامات التكامل الإنساني، فالإنسانُ وحدَهُ مَنْ لَدَيه القُدرة على استشعار الألم، وهنا لا أقصد بالألم العضوي، فذلك ما تستشعره البهائم كذلك، وإنّما أَلَم الفَقْد الإلهي؛ حينما يكون قد خرج عن جادّة الحق.

إنَّ الرسالات السماويّة جاءت للتزكية والتطهير من الرّواسب الحيوانية، وأنَّ الإنسانَ لا يكون إنسانًا حتى يَطْمِسَ النَّفس عن علائق الأنا، وَيَرفَعَ الحُجُب عن عَين القلب، وَيَفتح بَصائر الصدق، ويسّير على صراط السلام، ويُحلّق بجناحي العفو والإيثار.

لا يكون الإنسانُ إنسانًا، حتى يرفع شعلة الحُب، ويكون مَظْهَرًا لأسماءِ اللهِ ومُزهِرًا لصفاته؛ فمن أحبّ عن وعي وصدق فقد عَرَف، ومن عَرَف بَلَغ، ومن بَلَغ صدَّق ومن صدَّق عَمِلَ بمعرفة واخلاص، وَمَن عَمَل نَجا.

هكذا هو الدين، إنَّه الحبّ، فَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: يَا زِيَادُ وَيْحَكَ وهَلِ اَلدِّينُ إِلاَّ اَلْحُبُّ؟ أَ لاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ اَللَّهِ: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ»  أَ ولاَ تَرَوْنَ قَوْلَ اَللَّهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ»  وقَالَ: يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ  وقَالَ: اَلدِّينُ هُوَ اَلْحُبُّ، واَلْحُبُّ هُوَ اَلدِّينُ.

إنَّ الأوامر السماوية لا تدعوك لأن تُشهر سيفك لتنتصر على عدوّك إلا بعد أن تطوي مشوار انتصارك على نفسك الأمارة. فجهاد النَفس هو المسير الأطول، والصراع الأعظم الذي لا يتوقف حتى يوقظ فيك شعلة الحبّ. فالحبّ ليس انفعالاً عابرًا أو نزوة سرعان ما تخبو، بل مقامٌ روحيّ، يبدأ ولا ينتهي.

إنَّ الحبَّ عندما يضرب أطنابه ويخيّم على النّفس يعيد هيكلة الإنسان من الأساس، ليكون حينها مظهرًا لأسم الله "الودود"، فلا يرى الغضب إلا ضعف والكره والبغض إلا صفات مَرَضيّة تحتاج إلى علاج، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾.

إنَّ مَنْ لَبِسَ رِداء الحُبّ صار طبيبًا لا حاكمًا، يُحزنه ويبكيه أن يرى عدوه في ضلال، يشهر سيفه في وجهه. أهلُ الحُبّ قَد ذاقوا طَعْمَ الجنان وَعاشوا نعيمها قبل أن يموتوا.

بالحُبّ والسلام يَبلُغُ المؤمنُ أعلى المَراتب الإنسانية فَيَكون حينها مُستحقًا لَقَب الإنسان، فَلا تَليق بالإنسانِ إلّا الجِنان، فَقَد طَوَى المَراتب، وَتَسَلّق في سلّم التكامل، وَعَرَج من الطين نحو الأنوار الأحديّة.

***

بقلم: د. أكرم جلال

أفرز الذكاء الاصطناعي التوليدي الكثير من البرامج والتطبيقات، التي أتاحت للمستخدمين ترويج أنواع الخدع والأكاذيب عبر الصور والفيديوهات والأصوات المركبة، التي تهدف إلى الإساءة والمساس بخصوصيات وسمعة الناس العاديين، أو المشاهير، لأهداف متنوعة شخصية، أو اجتماعية، أو سياسية. وتزداد مثل هذه الاستخدامات عادة أثناء احتدام النزاعات والمجادلات والمنافسات الانتخابية، مما يستوجب التيقظ والانتباه والحذر الشديد في تداولها وترويحها على نطاق واسع. وإذا كانت بعض التقنيات الخادعة يتم كشفها بسهولة لدى عامة الناس من دون عناء لسذاجتها ولا منطقيتها وضعف فبركتها، إلا أن الخطورة تكمن في تلك الأعمال بالغة الدقة، التي تطلق عليها تسمية التزييف العميق Deep fakes التي تظهر الخدع وكأنها حقيقة لا شك فيها، سواء كانت على شكل فيديوهات أو أصوات، يتم فيها استبدال وجوه الأشخاص أو تعبيراتهم بوجوه وتعبيرات أخرى، أو حتى تقليد أصوات لأشخاص ينطقون بكلمات أو أحاديث أو تصريحات لم ينطقوا بها أبداً، ما تشكِّل تحدياً يمكن أن يؤدي إلى عواقب خطيرة على الصعيد الشخصي والمجتمعي.

قد يرى البعض أن الحد من استخدام تقنيات التزييف العميق، أو مراقبتها، وربما حجبها إن اقتضى الأمر، يمكن أن يمس بحرية التعبير، أو يحدُ من الحريات الشخصية في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتاحة أمام الجميع، غير أن دولة تُحسب في مقدمة الدول التي تتبنى مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان مثل الولايات المتحدة الأميركية، لجأت إلى سن قانون اتحادي يُجرم نشر الصور الإباحية والحميمية، على الانترنت دون موافقة أصحابها، بما في ذلك الصور وغيرها، التي يتم انشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي عبر تقنية التزييف العميق. بل إن القانون الذي وقعه الرئيس الاميركي مؤخراً يلزم منصات التواصل الاجتماعي بإزالة تلك الصور في غضون 48 ساعة عند طلب الضحايا.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

 

ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف سابق "العقل الإسلامي.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث" (2011) أصنافا ثلاثة من "المثقّفين" حاضرة بوفرة في قطاع الثقافة العربية أطلقنا عليها نعوت: النّائم، والسّائم، والهائم. نستعيد توصيفاتها وملامحها بإيجاز في هذا المقال لصلتها بحديثنا عن الفكر المستقيل. يُعتبَر الصّنف النّائم الأعلى نسبة بين الأصناف الثلاثة. فقد كانت المؤسّسات التّربوية والتعليمية الناشئة مع بداية الاستقلال، في حاجّة ماسّة إلى كوادر محلّية مما حثَّ على دمج عناصر واهِنة، يشحذ السواد الأعظم منها وَهْمُ التغيير الحالم، فتحوّلت وظيفة التعليم معهم إلى حرفة ميكانيكية. والصّنف الثاني، وهو صنف المثقّف السائم، فقد انعكس الواقع السياسي الاجتماعي المأزوم على ذهنية كثيرين سلبًا، الأمر الذي خلص على إثره المثقّف إلى أنّ دوره في إصلاح تلك البنية الاجتماعية الثقافية متعذّر ومنعدم. وأمّا الصّنف الثّالث، وهو الهائم: إذ جرّاء التشتّت الهائل الذي لحق الشريحة المثقّفة، وقعت فئة من بينهم رهينةَ العبث واللاّيقين، مما حوّل منتهى إدراكها إلى انسداد تاريخي، تجلّى في ترديد مقولات موت الفلسفة، وموت الشعر، ونهاية الكاتب، ونهاية التاريخ، وغيرها من القوالب البائسة. وتقبّلها العقل المنفعِل وحاكاها، محدِّثا النفس بالانخراط في حركة الفكر العالمية، والحقيقة أنه لم ينخرط سوى باستهلاك موبقاتها.

فمع الفكر المستقيل يغدو تغييب التفكير تقليدا جاريا العمل به، وإن خلّف ضررًا فادحًا بتحوّل مروياته، وحكاياته، وأخباره، وأمثاله، إلى ما هو مألوف ومعتاد بين الناس. ولا يتوقّف تعطيل التفكير عند حدود الأفراد، بل يمتدّ ليشمل جموعا واسعة تجد أريحية في استحضاره والحفاظ عليه. يتأمّل المرء فئات متعلّمة لدينا، في مجالات الطبّ والهندسة والتقنيات، مَثَّل التفكير العلمي، والاختبار التجريبي، والتمحيص العقلي، ديدنَ انشغالاتها، غير أن تلك الفئات المهمّة في مجتمعاتنا بمجرّد عودتها إلى مهدها الأوّل، نقصد حاضنة المجتمع، إلّا وتتخلّى عن ذلك الطابع المعرفي الذي حصّلته طيلة مشوارها التعليمي وتكوينها الدراسي. لذلك لا تفرّق في كثير من الأحيان بين المتعلّم وغير المتعلّم، وبين الدارس والأمّي، في النهل من معين الخرافة والأسطورة والركون سويا إلى اللامعقول واللامنطق. فهل هي سطوة التفكير الخرافي التي تثقل الوعي الجمعي وتحُول دون إرساء رؤية سويّة أم هو الانفصام في الشخصية الذي نعاني منه وآثاره الفاعلة والعميقة؟

ولكن لنشرّح الظاهرة ونتمعّن في أبعادها: ما الذي تعنيه استقالة التفكير؟ قد تكون الاستقالة في جوهرها إقالة، يجري بمقتضاها إفقاد المرء قدرات التفكير، من خلال سلبه أدوات النقد والتحليل والتركيب والاستنباط والاستنتاج، وكلّها مدارج لبلوغ مراقي التمكين الذهني. إذ نلاحظ في كثير من البرامج التعليمية المعتمَدة في المستويات الجامعية وما قبل الجامعية، غياب المنزع العملي وفقدان روح التجديد وضمور المراجَعات، وهو ما يحوّل مؤسّساتنا التعليمية والتكوينية إلى مراكز تأهيل للبطالة بدل أن تكون منصّات انطلاق حقيقية نحو الإبداع والابتكار. فعملية سلب العقل مقدراته تشبه عملية الإخصاء في علم الأحياء وما تخلّفه من انحباس.

وضمن السياقين التعليمي والمعرفي تغدو الاستقالة الذهنية حفاظا على السائد وموالاة للثبات، والأدهى أنّ الاستقالة لا تقف عند حدود الجمود النظري، بل تؤثّر في عناصر مادية يُفترَض أن تشهد تحوّلا بفعل التقادم. ولا تعني استقالة التفكير سلبية الحضور الذهني وتواري الفاعلية فحسب، ولكن تلك الاستقالة غالبا ما تفسح المجال إلى بديل غرائزي أو سحري أو أسطوري يقوم مقام التفكير العقلي، لتغدو عملية الاستقالة استعاضة ببديل سلبي.

ولكن استقالة التفكير تظلّ بالأساس حالة من القناعة النفسية الذهنية، أساسها الاستمراء لما هو جمعي في تفسير الظواهر والوقائع وإن تَبيّن بطلانها. وبالتالي هي انسجام مع مخزون أفيوني، شبه مخدِّر، يستمدّ المرء منه أقواله وأحكامه ويقينياته، ويجد يسرًا في استحضاره، بفعل شيوعه بين أطياف واسعة من الناس. وهذه المعادلة تحكم العديد كلّما جرى التطرّق إلى مواضيع في الدين والدنيا، وبشأن الممات والحياة، وبشأن الشرق والغرب، وبشأن الأنا والآخر، وغيرها من الثنائيات. ومن ثَمَّ يتساءل الناظر أين يتوارى المخزون المعرفي بأشكاله المتنوّعة، العلمية والعقلية والمنطقية الذي يتلقّاه المرء طيلة فترة تكوينه؟ ولِمَ لا يحافظ على حضوره ويشهد تطوّرات في مراحل لاحقة يُفتَرض فيها أنّ المرء قد بات مقتدرًا بمفرده على إنمائه وقد تربّت فيه ثقافة الانفتاح وتقاليد المراجَعة؟ ينبغي أن نقرّ أنّ انفصاما عميقا يجثم على مجتمعاتنا، جرّاء غياب إيتيقا المعرفة. ذلك أنّ نظرتنا هي نظرة ظرفية ومباشرة للأشياء دون تنزيلها ضمن إطارها الصائب مما يولّد ثنائية مقيتة لدينا. إذ لا معنى للعلوم والمعارف والفلسفة والمنطق، التي هي بالنهاية وسائل، ما لم تربّ في المرء نشدان التحرّر. ولكن أن تتحوّل تلك المعارف/ الوسائل، التي هي بالحقيقة قدرات، إلى أدوات للتبرير وليّ عنق الحقائق، فإنّنا حينها نغرق في ثقافة مغشوشة تحتاج إلى عملية ترميم هائلة.

وكما يلوح بيّنا، تجد استقالة التفكير دعائمها في خمول النظر ووهن المدارك. ليس بالمعنى الذي يتحدّث عنه المفكران الإيطاليان جانّي فاتّيمو وبيار آلدو روفاتي عن "الفكر الضعيف" في مقابل "الفكر العتيد". لعمري ذلك سياق آخر تناولا فيه انغلاق الفلسفة داخل براديغمات محدّدة، وركونها إلى استعادة المقولات الكلاسيكية واستحضارها في زمن ما بعد حداثي. وقد كان فاتّيمو وروفاتي يصفان تحولا أخلاقيا عكسيا من "الفكر العتيد" إلى "الفكر الضعيف"، أي من الفكر الكلاسيكي إلى الفكر المابعد حداثي.

ولعلّ الإشكال الأبرز لدينا أن يتّخذ الفكر المستقيل من حصن المقدّس والعرف والمألوف هيكلا وملجأ، ولذلك كلّما توجّهت سهام النقد إليه لاذ واحتمى بما هو أثير لدى شقّ واسع من الناس. ولذا وجب فرز ما هو أصيل عمّا هو دخيل، وما هو جوهري عمّا هو عرضي، وهنا مهمّة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والفكر النقدي، أي العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة، لإعادة تصحيح المقولات وبيان الفروقات بين الحقول. إذ عادة ما نلحظ استحواذ الفكر المستقيل على المقولات الأثيرة في المخيال الجمعي وتوظيفها لتبرير مسلكه وإقرار منطقه. والحال أنّ خمول الفكر وغياب النقد مولّدان للشرّ، كما تذهب إلى ذلك المفكّرة حنة أرندت.

إذ كما نلاحظ تجتاح حياتنا عوائد جديدة: في متابعة الأخبار، وفي مواكبة الأحداث، وفي استمداد المعلومة، تحثّ على الخمول الذهني والكسل المعرفي. ووفرة ورود الأشياء على الذهن من العالم الافتراضي، وعبر مختلف الوسائط، ليست حافزا للتأمّل والتروّي في ما يجري، بل مدعاة لنسيان ما يجري ومحو اللاحق السابق من حيز التفكّر والتذكّر. ولإن يمتاز الزمن الحالي بتدفّق المعلومة وقربها ويسر الوصول إليها، فإنّه زمن الاستقالة الذهنية الموسَّعة أيضا. والإشكال في ما نعانيه، ليس في وفرة المعلومة، بل في غياب بيداغوجيا التعامل مع المعلومة. إذ كثيرا ما يرد على مسامعنا: سمعت اليوم كذا، ورأيت اليوم كذا، وتابعت اليوم كذا، ولكن يندر أن نسمع حديثا رصينا عن تمحيص ما يُسمَع ويُرى ويُتابَع. وبالتالي نحن أمام حاجة إلى تربية جديدة للتعامل مع هذا الفيض الجارف من الأخبار والمعلومات والمشاهد كي لا يتحول المرء إلى آلة فاقدة للأنسة، ولا نقول فاقدة للذكاء، وقد شُحنت الآلات أيضا بذكاء اصطناعي بعد أن كانت خاوية.

***

د. عزالدّين عناية

سعدت بلقاء المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في بغداد. الجلوس معه يمنحك زخماً لفهم الواقع من دون قيود الماضي التي تكبلك وتمنعك من الانطلاق إلى المستقبل. الرفاعي كان متخصصاً في الزراعة، ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف، حيث بلغ مراحل عليا في الدراسة الدينية، قبل أن ينتقل إلى حوزة قم، وأكمل دراسته لعلوم الدين حتى بلوغه مرحلة الاجتهاد. إلى جانب ذلك، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وقدم مؤلفات وبحوثاً رصينة، أصبحت مادة لعشرات من أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير في جامعات عربية وأجنبية.

يمتاز الرفاعي بتواضعه، رغم عمق فكره، وبمواصلته للبحث العلمي رغم ضغوط الحياة. كما يتميز بجرأته في تقديم أطروحات جديدة في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لا يكتفي بالنقد، بل يطرح بدائل واضحة ومؤسسة. فعندما ينتقد علم الكلام الموروث، يقدم مشروع "علم الكلام الجديد"، وحين ينتقد المناهج القديمة لقراءة النصوص الدينية يقدم رؤية بديلة لتفسيرها، وحين ينتقد التقديس المفرط المانع للتفكير، يتخذ المنهج الأكاديمي، ويقدم بحوثاً موثقة تمكن القارئ من تتبع مصادرها وفهم آليات تفكيرها ومساءلتها. الأفكار الحية هي التي تقبل التخطئة، بينما الأفكار المكبلة تنتهي إلى التقديس غير القابل للنقاش. فكر الرفاعي يجمع بين العمق الأكاديمي والاستيعاب للتراث والجرأة النقدية، مع تركيزه على إعادة تعريف الدين كقوة إيجابية تعزز الإنسانية والكرامة والحرية والمساواة. وقد تميزت أطروحاته بتجديد رؤيتنا للدين وتفكيك الخطابات المغلقة. يرى الرفاعي أن علم الكلام التقليدي بات عاجزاً عن مواكبة تحولات العصر، واحتياجات المسلم الروحية والأخلاقية والجمالية، ولذلك يدعو إلى "علم كلام جديد" يتفاعل مع الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، ويعيد قراءة النصوص الدينية برؤية إنسانية، تستلهم معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.

يشدد الرفاعي على ضرورة الفصل بين الدين ونظم وإدارة الدولة، معتبراً أن الخلط بينهما يشوه روح الدين الأصيلة، ويحول الدين إلى أداة للصراع، ويفسد الدين والدولة. الدين، في نظره، ليس مجرد عقيدة أو طقوس، بل حاجة وجودية عميقة، مرتبطة ببحث الإنسان عن المعنى والخلاص الروحي. ويحذر من تحول الدين إلى أيديولوجيا مغلقة تصادر العقل وتقمع حرية التفكير، ويدعو إلى فهمه بوصفه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والجمالية. ينتقد الرفاعي بشدة الهويات المغلقة، الدينية والعقائدية والطائفية والعنصرية، التي ترفض الحوار وتكرس العنف والتطرف، ويدعو إلى هويات منفتحة قائمة على "الصيرورة والتشكل المتواصل للهوية"، بدلاً من الجمود والانغلاق. ويؤكد على أن "أوهام الهوية والخصوصية" عطلت المجتمعات الإسلامية عن مواكبة العصر. كما يؤكد على ضرورة إعادة قراءة التراث الديني بمناهج نقدية، تحفظ جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي، وينتقد القراءات الحرفية للنصوص التي تفضي إلى "لاهوت قشري" يفتقر إلى العمق. ويرى أن القيمة المركزية في الدين هي المحبة والرحمة وحماية الكرامة والحرية، ويندد بالخطابات الدينية التي تروج للعنف والتعصب، داعياً إلى تدين يعزز التعايش والسلم الاجتماعي.

***

د. منصور الجمري

كاتب من البحرين، رئيس التحرير السابق لصحيفة الوسط الصادرة في البحرين لمدة 14 سنة.

اطَّلعتُ هذه الأيام على مقالة للأديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي، تقترح خطاً مختلفاً للنقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، وما ينطوي عليه من فرص وتحديات. والمقال بذاته يكشف عن الشعور العام بالقلق تجاه هذا الوافد الجديد، القلق الذي ينتاب مفكرين كثيرين جداً في شرق العالم وغربه، بمن فيهم أولئك الذين ساهموا أو يساهمون فعلياً في تطوير منصات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.

هذا القلق هو الذي دفع مفكرين بارزين مثل هنري كيسنجر ونعوم تشومسكي إلى مناقشة الموضوع، رغم أنهم تجاوزوا -لو اعتمدنا منطق العمل- سن التقاعد، وما عاد مطلوباً منهم الاهتمام بغير صحتهم الشخصية.

في يونيو (حزيران) 2023 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً عنوانه «التهديد الحقيقي الذي يمثله الذكاء ‏‏الاصطناعي» بقلم إفغيني موروزوف، وهو باحث تخصص في دراسة الانعكاسات السياسية والاجتماعية ‏‏للتقنية. أثار المقال اهتماماً واسعاً، وغذَّى جدلاً محتدماً بالفعل، بين الباحثين وزعماء المجتمع المدني، حول التأثير المتوقع ‏‏لتطبيقات الذكاء الاصطناعي على نظم المعيشة. قبل ذلك بنصف عام، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، كانت منصة «‏‏ChatGPT-4‏» الشهيرة قد أُتيحت لعامة الناس. ونعلم أن كل اختراع جديد، يتاح ‏‏للجمهور، فإنه سوف يتطور خلال فترة وجيزة إلى نسخ أكثر قوة وعمقاً. لدى الجمهور العام قدرة غريبة على تجاوز العقبات التي تواجه المتخصصين والمحترفين. هذا أمر يعرفه الباحثون تماماً.

‏‏القدرات الفائقة التي كشفت عنها تلك المنصة، وجَّهت الانتباه إلى النهايات التي يمكن أن تبلغها ‏الأنظمة الذكية، خلال سنوات قليلة. حتى إن بعضهم حذَّرنا من واقع شبيه لما شاهدناه في فيلم «المصفوفة»، (ماتريكس)، الذي يعرض وضعاً افتراضياً عن نضج كامل للأنظمة ‏‏الذكية، بلغ حد استعباد البشر وتحويلهم إلى بطاريات تمدها بالطاقة.‏

وذكَّرنا موروزوف بأن المخاطر التي يجري الحديث عنها، ليست توهمات ولا مخاوف تنتاب عجائز خائفين من التغيير، ففي مايو (أيار) من نفس العام 2023 صدر بيان وقَّعه 300 من كبار الباحثين ومديري الشركات العاملة في مجال التقنية، ينبّه إلى المخاطر الوجودية التي ربما تنجم عن التوسع المنفلت في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

بالعودة إلى ما بدأنا به، فقد اقترحت الأستاذة لطفية مقاربةً تركِّز على العلاقة بين الكفاية المعيشية والميول السلمية عند البشر. لتوضيح الفكرة، دعْنا نبدأ بالسؤال الآتي: هل نتوقع أن يساعد الذكاء الاصطناعي على ازدهار الاقتصاد ومصادر المعيشة أم العكس؟ غالبية الناس سيأخذون الجانب الإيجابي، ويستذكرون النمو الهائل للاقتصاد، بعد تطور نظم المعلومات والاتصالات الإلكترونية، رغم ما رافقها من مخاوف بشأن خسارة الناس وظائفهم. نعلم اليوم أن سرعة التواصل بين الناس هي سر الازدهار والتوسع. الازدهار يوفر فرص عمل جديدة وموارد غير معروفة، ويعزز رغبة البشر في التفاهم والتعاون، الأمر الذي يقلل من النزاعات والحروب.

هذا هو الوجه الإيجابي الذي تقترح الأستاذة الدليمي الانطلاق منه في مناقشة الموضوع. هذا يُحيلنا -بطبيعة الحال- إلى سؤال ضروري: ما دام الناس جميعاً عارفين بما سيأتي مع الذكاء الاصطناعي من ازدهار، فلماذا نراهم أكثر قلقاً؟

اعتقادي الشخصي أن السبب الوحيد للقلق هو معرفة الجميع أن السرعة الفائقة للأنظمة الجديدة لا تسمح لهم بالسيطرة على أفعالها، سواء كانت مقصودة أم كانت بالخطأ. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي صدمت سيارة ذاتية القيادة شخصاً فمات، مع أنها مصمَّمة كي لا تفعل ذلك. هذا خطأ بالتأكيد. لكن مَن يستطيع استدراك الخطأ قبل أن يُفضي إلى كارثة؟

يشير الباحثون إلى عاملَين يجعلان الاحتمالات السلبية أكثر إثارةً للقلق، أولهما هو التغذية - البرمجة المنحازة، التي لا يمكن تلافيها على أي حال، والآخر هو عجز الآلة الذكية عن التعامل مع الفروق الفردية، التي نعدها أساسية في التعامل مع البشر المتنوعين.

لكن هذا موضوع يحتاج إلى حديث مبسوط، آمل أن نعود إليه في وقت لاحق.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كثيرا ما يطرح سؤال الخوف، كرابط اجتماعي عاطفي، في حدود التجربة الإنسانية، أو القلق الكينوني؟

ولم يكن مستساغا أن تُبكَّر ثقافة الخوف، من منظور أخلاقيات الإعلام، كنتاج لتداعيات الشعور بالهزيمة النفسية، أو الاهتزاز السلوكي الطبيعي. لكن القيمة الحقيقية لهذا الشعور المتوتر والبدهي، خصوصا في حقل خطير كالإعلام، يعي القيمة الحقيقية لاستقبال المعلومات (المعرفة)، وتأثيراتها في المجتمع والقيمة، سيكون لها نصَب وفير من اللامعنى، مقابل ما تفرزه الوضعيات السلوكية للأفراد والجماعات من تعذيب وتنافر عقلي، فيما يسميه إيكتيتوس ب"الاستجابة لبكاء الروح" أو "محاولة لفهم أنفسنا وتحريرها من قبضة مخاوفنا وأحزاننا".

ومكمن الخوف من/ في الإعلام، ليس في ذاته بالضبط، بل في فهمنا لطبيعة وجوده وقدرته على تشكيل الحواجز والخلفيات التي تؤطر تخيلاتنا السلبية تجاه قضايانا المصيرية. إذ غالبا ما تنكفئ فكرة قراءة الواقع انطلاقا من معابر ترديدات الاعلام وآلياته المتحولة، مع ما يحمله الآن من توجسات واحتدادات في قدرته على التأثير في الوعي الاجتماعي والثقافي، ما يجعل من "فعل التجارب" منزلة أشد قسوة من خوف التجارب عينها.

وكما أن للقيمة المعرفية في نسق الاعلام، أبنية ومبادئ تقوم عليها، فإن أوعية هذا النسق تظل قريبة من ترصدات السلطة وعيونها السارحة المفتوحة، توفر هامش التمدد والانصراف إلى مواجهة الأعباء المعيشية، بغير قليل من التبصر والمكابدة واستنفار الظروف والتحرر من وهم الانهيار المفاجئ.

على أن انتصار الخوف بإزاء طفرة الإعلام، لا يمكن أن يمنحنا شجاعة كافية لتبديد نظرتنا المدركة لحجم التقائية الرغبة في الاكتشاف أو التعلق المطبع مع العوالم اللايقينية، أو حتى التعايش مع عشوائيتها العذبة. فالخوف من صناعة الاشكال النافرة من داخل الاعلام الجديد، في شكله المبتوت في "البروبجندا" و"تحريف الأخبار" و"نشر التفاهة".. إلخ، هو تأكيد فلسفي لمتاهة "الذعر اللاأخلاقي" وتكريس قيمة التخلص من "القدوة" و"التعلم من دروس الحياة". يقول سينيكا :"ما يجعل الأمور تبدو مخيفة عما هي في الحقيقة، هي أنها غير مألوفة بالنسبة لنا، ولعل التأمل المتواصل، سيضمن لك إذا أصبح عادة لديك، أنه لا تجدك الصعاب حديث عهد بها".

إن المنظورات القابعة في وثن الإعلام اليوم، هي في حدها المجازي تنطق أحولا ومفارقات وتناقضات جمة، ما يعني أن تتحول المنظومة من علامة مجتمعية ذات عمق ثقافي هوياتي رمزي، إلى مفرزة مشرعة لحاجات الرأي العام، الذي لا يخصص وجهته، وسط تزايد نفوذ السلط الاجتماعية في وسائل التواصل السريعة، إلى ما يشبه الحفر العالقة في مستنقعات القوى النافذة والباطشة، والتي وصفها دافيد ديسلير ب"المكنسة التي تعيق أرضية الانطلاق"، في إشارة إلى استحواذها على القواعد المؤسسة لوجودها الحتمي، حابلها ونابلها، فتفرز بكشطها المعولم كل الدوافع والارتهانات التي تقوم عليها سلطتها، بما في ذلك مظاهر التحشيد واللعب على الحبال.

إن الخوف من/ في الإعلام، هو إذن نبت مختلط من القلق والغضب. القلق الذي هو حق في دورة حركة التفكير. والغضب الذي هو انفعال قد لا يعدل حجم اعتقادنا بما هو أفضل. أما ما يصير في حكم تقديم الاعلام، كفزاعة لتفكيك المجتمع أو التأثير على قيمه وأنماطه السلوكية والثقافية والاجتماعية، فأمر يخالف الوظيفة أو الرسالة التي وضع لأجلها. إذ إن قيمة الإعلام تكمن في نهضته بالإنسان، كرافعة لبث المعرفة، وتحويلها إلى إيتيقا، تعمل على تجسير الرؤى وامتلاك الجرأة والشجاعة لقول الحقيقة، وتأويل الشكوك إلى أرضيات نقاش وتبصر وتمحيص وبحث مستميت عن المعنى. كل ذلك، يكون وفق حركات متنوعة ونوعية، تكبح الاختراقات المتكالبة الفجة، وتضمن اكتساب الصلابة والنجاعة الأخلاقية، دون اضطراب أو غموض.

إنها حالة تدعونا إلى إزاحة التباس "تمجيد الخوف" وتطويع أسلوب نظرتنا تجاه إعلام لا يحمل في رصيده الاعتباري، أي قبح أو صراخ مبيت؟.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

الثقافة الرثة: الثقافة الرثة، تشير إلى التدهور في القيم والمعايير الثقافية نتيجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية والترابط الاجتماعي، وغالبًا ما تكون مصحوبة بانتشار العنف والفساد، السرديات التاريخية يمكن أن تُستخدم كمرجعية لفهم الثقافة الرثة، حيث تحكي القصص عن الأحداث التي أدت إلى تدهور القيم الثقافية. من خلال تحليل هذه السرديات، يمكن فهم الأسباب الجذرية للتغيرات الثقافية والاجتماعية.

السرديات التاريخية وانتاج ثقافة رثة

السرديات التاريخية قد تُستخدم لتبرير أعمال العنف أو الاستغلال، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق وتعزيز الانقسامات، السرديات التي تركز على الفروق العرقية أو الثقافية تُعزز التمييز، مما يؤدي إلى فقدان الهوية المشتركة والترابط الاجتماعي، سرديات الحروب والأزمات تعيد إحياء الذكريات المؤلمة، مما يخلق شعورًا مستمرًا باليأس والإحباط الاجتماعي، تركيز بعض السرديات على الفشل والفساد يؤدي إلى فقدان الأمل في التغيير، مما يعزز من الثقافة الرثة خصوصا إذا كانت تُدرّس بشكل مُحَرَّف أو مُبَسَّط، فإنها تساهم في تشكيل ثقافة سلبية، وتؤثر على القيم والمبادئ في الأجيال الجديدة، بعض السرديات تُستخدم كأداة لتحقيق مكاسب سياسية، مما يعزز الانقسامات بدلاً من تعزيز الوحدة، تتداخل هذه العوامل لتخلق بيئة ثقافية رثة، حيث يصبح من الصعب استعادة القيم الإنسانية الأساسية والترابط الاجتماعي كون السرديات التاريخية تتشكل من خلال تجارب المجتمعات وتاريخها وهي تعكس الرؤى والمعتقدات التي تتبناها، مما يساهم في تشكيل الثقافة، الأحداث التاريخية مثل الحروب والأزمات، تُنتج سرديات تعبّر عن المعاناة والظلم، تلك السرديات تشكل الذاكرة الجماعية، مما يؤثر على القيم والسلوكيات الثقافية، السرديات التي تركز على الانقسامات، مثل العنصرية أو الطائفية تعيد إنتاج ثقافة رثة، حيث تصبح هذه القيم جزءًا من الهوية الثقافية من خلال سرد الأحداث بشكل منحاز، التركيز على المعاناة يمكن أن يؤدي إلى إحباط وفقدان الأمل، السرديات التاريخية تلعب دورًا في بناء الهوية الجماعية، عندما تركز على الصراعات والتجارب السلبية، فإنها تؤدي إلى تعزيز مشاعر العزلة والانقسام، تظهر هذه العلاقة العضوية أن السرديات ليست مجرد روايات، بل هي أدوات قوية تُشكل الثقافة وتؤثر على القيم المجتمعية، مما قد يؤدي إلى إنتاج ثقافة رثة.

بنية النص في السرديات التاريخية

بنية النص في السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تأمين ديمومتها الثقافية، اذ يتم اختيار أحداث معينة تُروى بشكل يبرز المعاناة أو الظلم، مما يعزز مشاعر الإحباط والانقسام، استخدام لغة خطابية شعبوية تعبر عن الكراهية أو التمييز يمكن أن يُعزز من شعور الانقسام، ويجعل الثقافة الرثة جزءًا لا يتجزأ من الهوية، سرد الأحداث بشكل يُركز على الماضي الأليم دون تقديم أمل مستقبلي يُعزز من مشاعر العجز وغياب الأفق، تقديم شخصيات تمثل الضحايا كجلادين بطريقة يمكن ان تعزز الثقافة الرثة، و تعزز الانقسامات و الجراح في الذاكرة الجمعيّة، تكرار السرديات السلبية عبر الأجيال يُسهم في ديمومة الثقافة الرثة، حيث تصبح هذه السرديات جزءًا من التعليم والتنشئة. ت بنية النص في السرديات التاريخية تظهر كيف يمكن استخدامها كأداة لضمان ديمومة ثقافة رثة، من خلال تعزيز الانقسامات وإعادة إنتاج القيم السلبية في المجتمعات.

التعاضد الرأسمالي والسرديات التاريخية

الرأسمالية تساهم في تركيز الثروة والسلطة في يد قلة، مما يعزز سرديات تبرر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، تساهم الشركات في تشكيل سرديات ثقافية تروج لقيم الاستهلاك والنجاح الفردي، مما يؤدي إلى ثقافة سطحية ومادية كما ان التركيز على سرديات تاريخية تهمش التجارب الجماعية، مما يؤدي إلى فقدان الوعي بالعدالة الاجتماعية، تستخدم الرأسمالية الهويات الثقافية لتعزيز الاستهلاك، مما يساهم في تعزيز ثقافة رثة قائمة على التميز والتفاخر تتعاون الرأسمالية مع الأنظمة السياسية الهشة لتعزيز سرديات تدعم السياسات التي تنفع النخب، مما يعزز ثقافة التسلط والتهميش، تتداخل الرأسمالية والسرديات التاريخية الوهمية في إنتاج ثقافة رثة، مما يؤدي إلى أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تفتقر إلى العمق والقيم الإنسانية.

تحديد الثقافة الرثة

تحديد (الثقافة الرثة) يتطلب فهم مكوناتها والعوامل التي ساهمت في تشكيلها بدقة. الثقافة الرثة تشير إلى تدهور القيم الاجتماعية والأخلاقية، حيث تصبح القيم التقليدية مثل الاحترام والتعاون أقل أهمية، تتميز بثقافة استهلاكية تروج للاستهلاك المفرط، مما يؤدي إلى تآكل الروابط الاجتماعية والإنسانية، تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية الجماعية، حيث تتراجع التقاليد والممارسات الثقافية الأصلية كما تساهم في تعزيز الانقسامات بين الطبقات الاجتماعية، مما يؤدي إلى تفشي مشاعر الكراهية والتوتر وتساهم في تقليل المشاركة الفعالة في العمليات السياسية والاجتماعية، مما يعزز من حالة اللامبالاة، وتعتمد على سرديات تروج للظلم والفشل، مما يعزز الإحباط وفقدان الأمل يمكن تحديد (الثقافة الرثة) كظاهرة تعبر عن تدهور القيم الإنسانية والاجتماعية، مما يؤدي إلى مجتمع يفتقر إلى الترابط والعمق الثقافي.

الثقافة الرثة والفقر

الفقر يمكن أن يؤدي إلى تدهور القيم الأساسية مثل التعاون والتضامن، مما يعزز من ثقافة رثة، الفئات الفقيرة غالبًا ما تُهمش في المجتمع، مما يؤدي إلى فقدان الهوية والانتماء، وهو ما يساهم في تعزيز الثقافة الرثة، في بعض الحالات قد تلجأ المجتمعات الفقيرة إلى ثقافة استهلاكية سطحية كوسيلة للهروب من واقعها، مما يعزز من الثقافة الرثة، الفقر يؤثر سلبًا على الوصول إلى التعليم الجيد، مما يساهم في استمرار الثقافة الرثة، نقص التفكير النقدي يرتبط غالبًا بسرديات تاريخية تعزز الإحباط والفشل من خلال المعاناة الاقتصادية للفقراء، مما يعزز من حالة الثقافة الرثة، تظهر هذه العلاقة أن الفقر يمكن أن يكون عاملًا مساهمًا في إنتاج الثقافة الرثة، حيث تعزز ظروف الفقر من تدهور القيم الاجتماعية والانتماء والوصول الى الموارد.

العناصر السلبية في الثقافة الرثة

ان دراسة النصوص، الفنون، والعادات الثقافية بعناية، مع التركيز على الرسائل والقيم التي تحملها الثقافة الرثة يساهم في فهم السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الثقافة، ان تحديد العوامل التي أثرت فيها من خلال إجراء حوارات مع أفراد المجتمع لفهم كيف يقيمون عناصر الثقافة الرثة، مما يسهم في إعادة تقييم الثقافة الرثة بشكل فعّال. تتضمن العناصر السلبية في الثقافة الرثة عدة جوانب تؤثر سلبًا على المجتمع والفرد. منها اتباع العادات والتقاليد دون فهم أو نقد، مما يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية ظهور أفكار مسبقة تدعم التمييز ضد فئات معينة، مما يُعزز من الانقسام الاجتماعي، ضعف القدرة على التفكير النقدي يؤدي إلى قبول المعلومات دون تمحيص، مما يضر بالوعي المجتمعي، التركيز على المظاهر المادية والمكانة الاجتماعية على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، عدم احترام الثقافات الأخرى أو الاستهزاء بها، مما يؤدي إلى عدم التفاهم وتعزيز النزاعات، عرض نماذج سلبية تعزز من السلوكيات غير المرغوب فيها، مثل العنف أو السلوك غير الأخلاقي وعدم تشجيع الابتكار والتفكير الجديد، مما يعيق التقدم والتطور الثقافي.

المثقف الفعال والمثاقفة

المثقف الفعال هو الشخص الذي يمتلك القدرة على التأثير في مجتمعه من خلال أفكاره ومبادئه. يتميز بقدرته على النقد والتفكير المستقل، مما يجعله قادراً على مواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية، المتثاقف يشير إلى المثقف الذي يتبنى الثقافة الرثة، أي الثقافة التي تفتقر إلى العمق الفكري وتكون سطحية في معالجتها للقضايا. هذا النوع من المتثاقفين يميل إلى تبرير الأفكار السطحية أو التقليدية بدلاً من التحدي والنقد يقوم المتثاقف بتقديم مبررات للثقافة الرثة، مما يسهل قبولها في المجتمع. يستخدم أدوات الخطاب لتقديم هذه الثقافة على أنها مقبولة أو حتى ضرورية، يسهم في تشكيل وعي الأجيال الجديدة من خلال نقل أفكار ثقافية ضعيفة، مما يؤدي إلى تدني مستوى التفكير النقدي، يساهم في الحفاظ على الوضع الراهن من خلال تعزيز الأفكار التقليدية، مما يمنع التقدم والتغيير الإيجابي، إن دور المثقف الفعال في مواجهة الثقافة الرثة يتطلب التصدي من خلال الوعي والتفكير النقدي، مما يسهم في بناء مجتمع ثقافي متطور يعكس تنوع الأفكار ويعزز من الوعي الاجتماعي،

الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق -اوسطية

تتمثل الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق أوسطية من خلال انتشار الأساطير والخرافات التي لا تستند إلى حقائق علمية، مثل الاعتقادات في الجن، الحسد، أو الطقوس الشعبية، تمسك بعض الأفراد بأفكار تقليدية جامدة ترفض التغيير، مثل النظرة إلى دور المرأة في المجتمع أو القضايا الاجتماعية الأخرى، وجود برامج ترفيهية تركز على المحتوى السطحي، مثل برامج "التك توك" التي تروج للفضائح والشائعات بدلاً من القضايا الجادة، استخدام لغة عامية أو مصطلحات غير دقيقة تفتقر إلى العمق الفكري في النقاشات العامة، انتشار كتب ومؤلفات تفتقر إلى الإبداع والعمق، تروج لأفكار غير نقدية أو تشجع على الفكر المغلق، التقبل السريع للأفكار دون تمحيص أو نقد، مما يؤدي إلى تكرار الآراء السلبية أو التوجهات غير البناءة، تتطلب مواجهة الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق اوسطية تعزيز التفكير النقدي والوعي الثقافي من خلال التعليم والنقاشات المفتوحة.

التحديات

تواجه المثقفين عدة تحديات في دورهم لمواجهة الثقافة الرثة، يواجه المثقفون ضغوطًا من الحكومات أو المؤسسات التي تفرض رقابة على الأفكار والمحتوى الثقافي، في بعض الأحيان تكون هناك قلة اهتمام من الجمهور بالقضايا الثقافية، مما يقلل من تأثير المثقفين تسيطر وسائل الإعلام الاجتماعية على المشهد الثقافي، مما يجعل من الصعب على المثقفين إيصال أفكارهم بفعالية، كما ان استعمال الرسميين الأسلوب الخطابي الذي تحمله الثقافة الرثة يساعد في ترسيخها لدى الجمهور العام.

***

غالب المسعودي

تعتبر فرضية الزمكان السوبر خلاّق أنَّ الزمكانات هي البُنَى الأساسية للكون. ولكن ما يوجد في الكون عبارة عن طاقة وكتلة. من هنا، القانون الفيزيائي ضمن فرضية الزمكان السوبر خلاّق هو التالي: الزمكان = الطاقة × الكتلة. هذا يعني أنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة. لفرضية الزمكان السوبر خلاّق فضائل معرفية عديدة تشير إلى صدقها منها نجاحها في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية وتَكوُّن الثقوب السوداء.

الكون هندسة الزمكان

بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الكون يتكوّن من بُنَى أساسية هي الزمكانات التي على ضوئها تتشكّل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. باختلاف هندسات الزمكان تولد جُسيمات ما دون ذرية مختلفة وقوى طبيعية متنوّعة. بكلامٍ آخر، الجُسيمات ما دون الذرية كالإلكترون والفوتون والقوى الطبيعية كقوة الجاذبية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة. مثل ذلك أنَّ الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان. هكذا تختزل فرضية الزمكان السوبر خلاّق القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية إلى هندسات زمكانية. على ضوء هذه الاعتبارات، الكون هندسات زمكانية.

إن كان الكون هندسة زمكانية وعلماً بأنَّ الزمكان مجرّد، فحينئذٍ الكون أيضاً مجرّد رغم تجلّيه المادي. من هنا، الكون مثالي مجرّد ومادي في آن مما يفسّر لماذا تنجح النظريات العلمية المثالية والمادية في تفسير الكون رغم الاختلاف فيما بينها كنجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه معلومات مجرّدة ونجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه يتكوّن من ذرات مادية. فالكون مجرّد بمجردية الزمكانات التي يتكوّن منها والكون مادي أيضاً من جراء أنَّ الاختلاف في هندسات الزمكان يؤدي إلى وجود قوى طبيعية وجُسيمات ما دون ذرية مادية كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق.

قدرة تفسيرية ناجحة

الزمكان جمع الزمان والمكان. والزمكان سوبر خلاّق لأنه أصل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. بكلامٍ آخر، الزمكانات سوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. فحين تختلف هندسات الزمكان، تختلف بذلك الجُسيمات والقوى الطبيعية. وتمتلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق قدرة تفسيرية ناجحة مما يدلّ على صدقها. فبما أنَّ القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق، إذن من الطبيعي أن تكون الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان كما يقول أينشتاين. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير لماذا الجاذبية ليست سوى هندسة زمكانية مفادها في نظرية أينشتاين العلمية أنها انحناء الزمكان. وعلى ضوء هذا النجاح تكتسب فرضية الزمكان السوبر خلاّق صدقها.

هندسات الزمكان والأكوان المختلفة

هندسة الوجود بهندسات رياضية مختلفة تؤدي إلى نشوء أكوان مختلفة. فإن تغيّرت الهندسة الرياضية لعالَمنا فحينئذٍ سوف يتغيّر عالَمنا ويصبح حائزاً على حقائق وقوانين طبيعية مختلفة عما يسود في عالَمنا الحالي. وهذا لأنَّ الكون يعتمد في تكوّنه على الرياضيات الهندسية السائدة فيه. وبهذا، اختلاف هندسة الكون يحتِّم اختلاف الكون وبذلك الهندسات المتنوّعة للكون تؤدي إلى وجود أكوان مختلفة في حقائقها وأحداثها وقوانينها الطبيعية [1]. الآن، فرضية الزمكان السوبرخلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة. بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية المتنوّعة ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة، إذن مع اختلاف هندسة الزمكان تنشأ قوى طبيعية وجُسيمات مختلفة. وبذلك مع اختلاف هندسة الزمكان تولد أكوان مختلفة مما يتضمن أنَّ الهندسات الرياضية المختلفة تؤدي إلى أكوان مختلفة. هكذا فرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة مما يدلّ على أنها فرضية صادقة.

الجُسيمات الافتراضية

الجُسيمات الافتراضية، ضمن نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية، هي جُسيمات تولد من العدم ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها من العدم واختفائها [2]. وفرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في تفسير وجود الجُسيمات الافتراضية مما يشير إلى صدق هذه الفرضية. فبما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة. وبذلك الزمكان الفارغ لا بدّ من أن يحتوي على جُسيمات ذات طاقة وكتلة كالجُسيمات الافتراضية لكي يراعي قانون عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. لذلك توجد الجُسيمات الافتراضية التي تولد من العدم وتتلاشى لتولد من جديد. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية.

نشوء الكون والخلق المستمر

تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق أيضاً في تفسير نشوء الكون. فبما أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة بينما كلّ ما في الكون يتكوّن من طاقة وكتلة، إذن بمجرّد أن يوجد الزمكان يوجد الكون وبذلك ينشأ الكون من الزمكان. هكذا تنجح هذه الفرضية في تفسير نشوء الكون. ومن المنطلق نفسه، الطاقة والكتلة وصفاتهما ليست سوى أبعاد للزمكان. فبمجرّد أن يوجد الزمكان توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون. ولكن إن كان بمجرّد أن يوجد الزمكان، وإن كان فارغاً، توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون، فحينئذٍ الكون يولد تماماً كما تولد الجُسيمات الافتراضية التي تنشأ من العدم ومن ثمّ بسرعة هائلة تفنى وكأنها لم تكن لتنشأ من جديد وتفنى. من هنا، يتصرّف الكون وكأنه جُسيم افتراضي مما يتضمن أنَّ الكون ينشأ ويفنى في أقل من ثانية لينشأ ويفنى من جديد في صيرورة دائمة. هذا هو خلق الكون المستمر. فالكون يُخلَق ويزول في أقل من ثانية ليُخلَق من جديد ويزول في أقل من ثانية في صيرورة مستمرة. كلّ هذا يرينا أنَّ فرضية الزمكان السوبر خلاّق تتضمن الخلق المستمر للكون. وبذلك لا يوجد الكون سوى في صيرورة خلق مستمرة.

الثقوب السوداء

تتصف الثقوب السوداء بابتلاع المعلومات وزوال القوانين الطبيعية فيها وأيّ شيء يدخل في الثقب الأسود يتلاشى. فالثقوب السوداء متصفة بغياب المعلومات [3]. وتنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء. فبما أنَّ، من منظور فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن حين يزول الزمكان تزول الطاقة والكتلة مما يتضمن زوال المعلومات فزوال القوانين الطبيعية وكلّ ما يدخل في الثقب الأسود فيتكوّن حينها الثقب الأسود. من هنا، تتكوّن الثقوب السوداء من جراء زوال الزمكان الذي يتضمن زوال الطاقة والكتلة فغياب المعلومات كافة. فحين لا يُنتِج الكونُ الزمكانَ، تغيب الطاقة والكتلة فتزول المعلومات ويولد الثقب الأسود. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء مما يُرجِّح صدقها.

فرضية علمية

بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن إذا وُجِد زمكان بلا أن توجد فيه طاقة وكتلة فحينها فرضية الزمكان السوبر خلاّق فرضية كاذبة. وبذلك من الممكن اختبار فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها الفيزيائي القائل بأنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة مما يجعلها فرضية علمية على ضوء أنها قابلة للاختبار. لكن من المُرجَّح أنه لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة مما يشير إلى صدق فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها القائل بأنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة. ولا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة لأنَّ في الزمكانات الفارغة تولد الجُسيمات الافتراضية ذات الطاقة والكتلة ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها واختفائها مما يدلّ على عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. وجود الجُسيمات الافتراضية في الزمكانات الفارغة دليل على استحالة وجود زمكان بلا طاقة وكتلة تماماً كما تتنبأ بذلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق من جراء تأكيدها على أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة.

***

حسن عجمي

......................

المراجع

[1] Shing-Tung Yau and Steve Nadis: The Shape of Inner Space. 2010. Basic Books.

[2] Gordon Kane: “Are Virtual Particles Really Constantly Popping in and out of Existence? Or Are They Merely a Mathematical Bookkeeping Device for Quantum Mechanics?” Scientific American, October 9, 2006.

[3] Leonard Susskind (Author) and James Lindesay (Contributor): An Introduction to Black Holes, Information and the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.

وصلت عبقرية الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) إلى إمكانية وضع الإله على طاولة التشريح، أياً كان نوع الإله، ومن بين ما ناقش، الثنائية اليونانية الشهيرة (أبولو وديونيزيوس)، وهما مبدآن مجدهما الفن الاغريقي من قبل، ديونيزيوس إله الحياة الصاخبة واللذة الجياشة المفعمة بالقوة، إله الرقص والموسيقى، أما أبولو، فهو إله التأمل، إله التصوير والنحت والشعر. وما يميز ديونيزيوس عن أبولو، هو أن الأول يستطيع أن يتجاوز الصراعات والمعتركات التي تعرقل مسيرة الحياة. وإن عبقرية ديونيزيوس وأبولو قد أبدعت في عالم الفن، وهما أول شاهد في اليونان على النواة الجديدة التي أدى تطورها فيما بعد إلى نشوء فن التراجيديا والدراما.

يحاول (نيتشه) أن يقدم خدمة كبيرة لعلم الجمال، وذلك حين يتوصل إلى إدراك يقيني بأن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو وديونيزيوس. ويؤكد على أننا مدينون، بالنسبة لإلهي أبولو وديونيزيوس، بمعرفتنا أن هناك تعارضاً هائلاً في العالم الإغريقي فيما يتعلق بالجذور والأهداف، بين الفن الأبولي في النحت، وبين فن الموسيقى الديونيزي اللا بصري. وهذان الاتجاهان، النحت والموسيقى، بحسب قول نيتشه، متعارضان ونقيضان، فهما لا يلتقيان إلا عند عبارة (الفن).

ومن أجل فهم أفضل لهاتين النزعتين، يقترح (نيتشه) أن يمثلهما كعالمين مستقلين هما الرؤيا (الحلم) والتسمم، ويذهب إلى أن الوهم الجميل في عوالم الحلم، هو الشرط الذي يبرر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسماً كبيراً من الشعر، ولكن حتى عندما يأتي هذا الحلم إلينا مصحوباً بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد وهم. هذه هي التجربة البصرية والأبولية، فهي، مع شدتها وتأثيرها، إلا أننا سرعان ما نتيقن أن ذلك ما هو إلا وهماً. ويؤكد (نيتشه) على أن بمكاننا أن نصف أبولو باعتباره صورة إلهية رائعة لمفهوم الفردانية، بينما تميز السعادة والحكمة والجمال حديثة لنا عن الوهم، بفعل حركاته ونظراته. وإذا أضفنا هذا الرعب النشوة المباركة التي تنهض، إذا ما دفعنا هذا التشظي ذاته لمبدأ الفردانية، من صميم الإنسان، من حقيقة الطبيعة في الواقع، فسيسعفنا الحظ في الحصول على قبس من الطبيعة الديونيزوسية، يمكن أن نستنتجه مباشرة من مناظرته مع حالة التسمم (الخدر). فتحت تأثير الجرعة المخدرة التي كان يتناولها كل الرجال والمجتمعات البدائية، أو مع المجيء القوي للربيع الذي يخترق بمرحه الطبيعة كلها، تتنبه هذه الدوافع الديونيزوسية، وما إن تزداد قوة حتى تصبح النزعة الذاتية نسياناً للذات. ومن هنا، قسم (نيتشه) الإنسان حيال ما تقدم إلى نوعين، أما كفنان أبولي حالم، أو كفنان ديونيزي نشوان.

يعتقد (نيتشه) أن أي شيء يطفو على السطح في الجانب الأبولي من التراجيديا اليونانية، أي الحوار، يبدو بسيطاً وشفافاً وجميلاً. والحوار هو صورة اليوناني الهيليني الذي تتكشف طبيعته من خلال الرقص، لأن أعظم مظاهر القوة يمكن أن يتبدى في الرقص، وإن خانته لدانة الجسد وروعة الحركة. ويؤكد على أن ديونيزيوس كان البطل الدرامي الوحيد، ويمكن القول بنفس هذه اليقينية أنه حتى زمان (يوروبيدس) بقي ديونيزيوس البطل التراجيدي، وإن جميع الشخصيات المشهورة في المسرح اليوناني، كانت عبارة عن أقنعة تحجب خلفها البطل الحقيقي: ديونيزيوس. ويذهب (نيتشه) إلى أن هناك فكرة تقول: أن الألوهية التي كانت محتجبة خلف كل هذه الأقنعة هي السبب الأساسي وراء المثالية النموذجية لهذه الشخصيات المشهورة التي كثيراً ما أثارت الدهشة.

والفن الديونزيوسي بشكلٍ عام، يريد منّا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود، ولكن بشرط أن نسعى لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها، فالفن الديونزيوسي يريدنا أن نعترف بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معداً لمواجهة مصير مأساوي ما، وهو ما يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفاً، وما أن نتحد بالمتعة الهائلة في الكون، ونشعر بأبدية هذه المتعة في النشوة الديونيزوسية، حتى تبدأ وخزات الألم الجارف تخرق جلودنا... وعلى الرغم من كل هذه الآلام والمخاوف تحملنا السعادة على جناحيها لأننا موجودون في الحياة، ليس كأفراد، بل كأصغر وحدات منفردة حية، نجلس متحدين مع هذه المتعة المبدعة.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ثمة علاقة عميقة بين القضاء والعدالة، لأنه لا يمكن تحقيق العدالة بمعناها الشكلي أو العميق بدون قضاء، يرجع إليه المتنازعون أو المختلفون لحسم موضوع تنازعهم واختلافهم وفق الأدلة التي يقدمها المدعي أو حلف اليمين الذي يقوم به المنكر لأنه وفق القاعدة الفقهية المشهورة (على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين).

إن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية

لذلك فإن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية.

والوطن من أقصاه إلى أقصاه، يتطلع إلى الإسراع في تحويل بنود هذا المشروع إلى ارض الواقع . لان تطوير القضاء أضحى ضرورة وطنية ومجتمعية لايمكن تجاهلها أو التغافل عنها.

لأن هذه المؤسسة هي حجر الأساس في تحقيق الأمن العميق للناس، ووسيلتهم القانونية لحل مشاكلهم وخلافاتهم.. ودون هذه المؤسسة، التي هي إحدى السلطات المهمة في أي نظام سياسي، تتحول الحياة الاجتماعية إلى شريعة غاب، بحيث لا ناظم لحياة الناس العامة، التي هي بالضرورة حياة ستعاني من تناقض للمصالح وتنازع على مستوى الحقوق والأولويات..

وكل هذه العناصر وغيرها، لا يمكن أن تنتظم في حياة اجتماعية سوية بدون مؤسسة للقضاء حيوية وفعالة، ولها سلطتها الرمزية والمادية لتنظيم حياة الناس بدون افتئات أو تعدّ على الحقوق من أي طرف كان..

فالقضاء هو سبيل الأمم والشعوب لانجاز مفهوم العدالة، وهو القادر وفق القانون لإعادة الحق أو الحقوق لأصحابها، وهي المؤسسة التي يناط بها صيانة وحماية الملكيات والحقوق وفض النزاعات والخصومات ومنع التعدي على الذمم والشخصيات، والحقوق المادية والمعنوية للناس..

وكلما تعقدت حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية وتداخلت حقوقهم وذممهم المالية، تعمقت الحاجة إلى قضاء متطور وفعال، لكي يستوعب جميع المتغيرات والتطورات.. بحيث لا تتحول هذه المتغيرات إلى وسيلة أو مبرر لتضييع الحقوق والكرامات..

لهذه الاعتبارات وغيرها، اعتنت الشريعة الإسلامية بخصائص وصفات القاضي، لأنه المؤتمن على تطبيق القانون وتنزيل نصوص الشريعة على الوقائع الخارجية..

لذلك من الضروري أن يتصف القاضي بمجموعة من الصفات، حتى يكون مؤهلا نفسيا واجتماعيا وعلميا لتحمل مسؤولية القضاء بين الناس.. يقول تبارك وتعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، (النساء 105)..

وجاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر (فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراق)..

فالقضاء كما يعبر أحد العلماء يتجاوز كونه مجرد معلم ومرشد إلى الحكم الشرعي، ليكون القاضي في موقع النظر في الواقعة المتخاصم عليها..

 أولا: ليحل عقدها وتشابكها، وثانيا: ليكتشف المحق من المبطل، وثالثا: ليصدر حكما في القضايا يصلح فيه بين المتخاصمين..

لهذا فإن مؤسسة القضاء هي المعنية بصيانة العدالة الاجتماعية، وإلى تلافي وتجاوز كل ما من شأنه أن يضر بأصول التضامن والائتلاف الاجتماعي.. فتتوطد من جراء ذلك المحبة والتراحم بين أبناء المجتمع الواحد، وتزول أسباب التباغض والعداوة.. من هنا وعلى ضوء الوظائف والأدوار الكبرى والمهمة التي يقوم بها القضاء في المجتمعات الإنسانية، تتأكد الحاجة إلى بيان النقاط التالية:

1- التعامل مع مقولة تطوير القضاء وإصلاحه، بوصفها من المشروعات المستديمة، التي تتطلب باستمرار فحص الممارسات ومراقبة القضاء وشؤون تسيير معاملات الناس المختلفة.. ومن الضروري أن ندرك أن المجتمعات التي تتعامل مع الإصلاح والتطوير الدائم لمؤسسة القضاء من المهام المستديمة، هي المجتمعات التي تصون حقائق العدالة في فضائها الخاص والعام.. أما المجتمعات التي لا تعطي أولوية مستديمة لتطوير قضائها، فهي مجتمعات ستعشعش فيها المشاكل، وتتراجع فيها هيبة القضاء وستضيع بعض حقوق الناس بسبب تراجع مستوى القضاء..

لهذا فإننا نعتقد أن صيانة العدالة في المجتمعات، وهي أبرز مهمة للقضاء، لا يمكن تحقيقها بدون الاهتمام الدائم بتطوير القضاء على مختلف المستويات والصعد.. لهذا فإننا ينبغي أن لا نتوجس خيفة من دعوات تطوير مؤسسة القضاء، لأنها دعوة تعكس مدى أهمية هذه المؤسسة في استقرار الأوطان والمجتمعات.. وبدون التطوير الدائم قد تتراجع فعالية مؤسسة القضاء ما يفضي إلى بروز ثقوب عديدة في مسيرة القضاء في مجتمعنا..

من هنا فإننا ندعو إلى تأسيس إطار علمي- قانوني دائم، يعنى بتطوير القضاء ومعالجة النتوءات التي تبرز في مسيرته على مختلف المستويات..

2- لكوننا نتحدث عن بشر وعن مؤسسة بشرية، لذلك فإن النقص والتقصير هما من لوازم هذا الإنسان بصرف النظر عن موقعه ووظيفته.. ولكن للموقع الحساس وللوظيفة الحيوية التي تقوم بها مؤسسة القضاء، تتأكد الحاجة إلى تفعيل الدور الرقابي والمحاسبي للقضاء والقضاة .. فلا تطوير للقضاء إلا بتطوير القاضي نفسه علميا وأخلاقيا وسلوكيا.. والقاضي الذي يقع تحت إغراء المال أو مقتضيات القرابة ينبغي أن يصوب،

وإذا تكرر منه العمل يعاقب، وذلك للحفاظ على مؤسسة القضاء نزيهة وبعيدة عن كل أشكال الانحراف والفساد.. لأن فساد القاضي مع السكوت عنه، يفضي إلى مخاطر ومفاسد عديدة .. ولا قدرة لنا لمقاومة هذه الأشكال من الانحرافات إلا بتطوير أجهزة المراقبة والمحاسبة.. فثمة أخطاء يصل بعضها إلى مستوى خطايا، ارتكبها قضاة تحت تأثير الإغراء المالي أو ما أشبه، كلفت مجتمعنا ووطننا الكثير على المستويات كافة..

وحتى لا تتكرر هذه الخطايا، نحن أحوج ما نكون إلى القطيعة النفسية والعملية مع النزعات النرجسية، التي تغطي على عيوبنا، لأن هذه النزعة ساهمت بطريقة أو أخرى في تراكم بعض هذه الأخطاء.. فليس عيباً أن يخطئ القاضي أو يقع تحت تأثير إغراءات أو عوامل ليست منسجمة ومعايير النزاهة والعدالة، ولكن العيب هو أن تستمر هذه الأخطاء، ولا تتم محاسبة المرتكب..

إننا ندعو إلى محاسبة المرتكب وتطوير الأداء الرقابي تجاه المؤسسة القضائية، لأنها هي حجر الأساس في مشروع صيانة العدالة الاجتماعية ومنع التعدي على الحقوق العامة والخاصة.. وبمقدار ما ندعو إلى احترام مؤسسة القضاء، بذات القدر ندعو محاسبة المقصرين ومعاقبة المسيئين للقضاء ومؤسسته..

3-ثمة حاجة لكي يكتمل عمل مؤسسة القضاء إلى الإسراع في تأسيس جمعيات للقانونيين والمحامين، لأن جهودهم هي مكملة لجهود القضاء ولا يمكن أن تنجز العدالة في أي بيئة اجتماعية، إلا بمأسسة عمل أهل القانون والحقوق وأهل المحاماة، لأن عملهم يساهم في صيانة العدالة، ويحول دون الوقوع في الخطأ والانحراف..

لذلك فإننا نعتقد أن عمل المحاماة وأهل القانون والحقوق، ليس منفصلا عن عمل القضاة، بل إن عمل الأوائل أي أهل القانون والمحاماة، هو المقدمات الضرورية لصوابية عمل القضاة وبدونها يبقى عمل القضاة ناقصا..

وجماع القول: إن قوة مجتمعنا في سعيه المتواصل لتحقيق العدالة بين أفراده.. ولكي تنجز العدالة على نحو مؤسسي، فنحن بحاجة إلى التطوير الدائم لسلك ومؤسسة القضاء، وتوفير منظومة مؤسسية متكاملة يسند عمل القضاة وعلى رأس هذه المنظومة أهل القانون وأهل المحاماة فهم سند في إنجاز العدالة في بعدها المؤسسي في واقعنا الاجتماعي والوطني..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

مفتتح: تعرف الثقافة بأنها مجموعة المعارف والقيم والمعتقدات والعادات والسلوكيات وأساليب الحياة والفنون والمؤسسات والرموز المشتركة بين أعضاء المجتمع أو المجموعة الاجتماعية الواحدة. هي نظام من المعاني والممارسات التي توجه تصرفات وطريقة حياة الأفراد في المجتمع. والثقافة هي أيضاً ظاهرة ديناميكية، تتطور بمرور الوقت، وتتأثر بالتفاعلات الداخلية (مثل التغيرات الاجتماعية أو السياسية) والتفاعلات الخارجية (مثل تأثير الثقافات الأخرى أو التطورات التكنولوجية). كما تتمتع كل ثقافة بطريقتها الخاصة في التفاعل والتصرف في المجتمع وحل الصراعات ومواجهة التحديات. ويشمل ذلك العلاقات بين الأفراد والمجموعات (الأصدقاء والعائلة والزملاء والجيران)، وكيفية التواصل، ومفهوم الاحترام والسلطة، والسلوكيات المناسبة في سياقات محددة.

رؤية شاملة للثقافة

الثقافة ليست كياناً معزولاً، بل هي شبكة معقدة ومترابطة من المكونات. نذكر على سبيل التوضيح، مدى تأثير المعتقدات على القيم، والتي تؤثر بدورها على الممارسات الاجتماعية. حيث تساعد التقاليد والرموز في الحفاظ على التماسك والوحدة داخل المجموعة الاجتماعية، في حين تخلق تمييزات مع الثقافات الأخرى المزاحمة أو المشاركة لها في الحقل الاجتماعي.

وعليه تلعب الثقافة دوراً أساسياً في الهوية الفردية والجماعية، واستكشافها يساعد على فهم التاريخ والتوترات الاجتماعية وطرق الحياة المتنوعة في جميع أنحاء العالم بشكل أفضل.

 هكذا كان ولا يزال تطور الثقافة عملية معقدة جدا، تشكلت عبر قرون من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية. فهي مكون ليس ثابتا، بل إنها تتحول استجابة للعديد من العوامل المؤثرة في تكوينها وسيرورتها.

إن تطور الثقافة هو عملية تتأثر بشكل مستمر بالتغيرات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولقد ساهمت كل مرحلة تاريخية في تحويل الثقافة الإنسانية بطرق غير متوقعة. وعلى سبيل المثال التحدي الكبير الذي نواجهه اليوم هو الحفاظ على التنوع الثقافي في ظل عالم مترابط بشكل متزايد.

المجتمعات والثقافات الأساسية:

لقد تشكلت المجتمعات البشرية قبل ظهور الحضارات الأولى بوقت طويل. في البداية، كان البشر يعيشون بشكل رئيسي في مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار، وكانت ثقافتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة والبقاء والمعتقدات الروحية. ومع ذلك، ومع تطور المجتمعات، ظهرت ممارسات ثقافية أكثر تعقيدا نشير لبعضها بإيجاز:

أ‌.   مجتمعات الصيد والجني

تم تنظيم مجتمعات الصيد والجني بطريقة متساوية نسبياً. تجلت ثقافة هذه المجتمعات من خلال الطقوس الروحية (التي غالباً ما ترتبط بالطبيعة)، ورسوم الكهوف، والمعتقدات الروحانية (الاعتقاد بأن الأرواح تسكن الأشياء الطبيعية)، والهياكل الاجتماعية القائمة على التعاون. وكان الترحال يشكل جانباً أساسياً من أسلوب حياتهم، وكانت التبادلات الثقافية تتم من خلال الهجرات واللقاءات بين المجموعات.

ب‌. الثورة الزراعية وظهور الزراعة

حوالي عام 1000 قبل الميلاد، أدى اكتشاف الزراعة إلى تغيير المجتمعات البشرية بشكل جذري. وفي ظل الاستقرار نشأت مجتمعات دائمة، وبالتالي ميلاد القرى والبلدات، مما شكل التسلسلات الهرمية الاجتماعية والأنظمة السياسية وثقافة مادية أكثر تعقيداً. كانت هذه بداية تراكم السلع وتخصص العمل وولادة الثقافات المتميزة بمعتقداتها الدينية، وأنظمة الكتابة، والفنون، والعادات الخاصة بهم.

ج. التأثير التاريخي على الثقافة:

لعبت الأحداث التاريخية دوراً رئيسياً في تطور الثقافة ولاتزال كذلك. كونه التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث السياسية والعسكرية، بل هو أيضاً يتميز بتغيرات ثقافية عميقة. وفيما يلي بعض الأمثلة حول كيفية تأثير الأحداث التاريخية على الثقافة:

الفتوحات والغزوات:

كثيرا ما أدت الغزوات والتوسعات الإقليمية، مثل تلك التي قام بها الرومان أو المغول أو المسلمون، إلى اندماج أو خلط الثقافات. على سبيل المثال، قامت الإمبراطورية الرومانية بنشر الثقافة الرومانية (القانون واللغة والعمارة) على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا، من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، مما أدى إلى خلق إرث روماني لا يزال يؤثر على بعض الهياكل القانونية والثقافية إلى يومنا هذا.

تأثير الإمبراطورية الرومانية على أوروبا: تركت الإمبراطورية الرومانية بصمة دائمة على الثقافة الغربية، ولاسيما من خلال تبني الإمبراطورية الرومانية، إنشاء أنظمة الحكم، وطرق التجارة، والهندسة المعمارية التي لا تزال تلهم الهندسة المعمارية الحديثة.

الدين الخاتم (الإسلام): من خلال تقديم مفاهيم مثل الحرية والكرامة الإنسانية والأخلاق الاجتماعية والمواطنة والسلم والمساواة أمام القانون، غيّر الإسلام بتشريعاته جذرياً الطريقة التي تنظر بها الثقافات إلى الإنسانية والملكية وأنظمة الحكم والاجتماع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويبرز ذلك منذ العهد الإسلامي الأول وصولا إلى دولة الأندلس في أوروبا.

الثورات الاجتماعية والسياسية:

لقد كان للثورات، مثل الثورة الفرنسية عام 1789 أو الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تأثير عميق على الثقافات. وقد أعادت هذه الأحداث تعريف العلاقات الاجتماعية والسياسية، وشجعت على تبني مبادئ مثل المساواة والحرية والحقوق الفردية. ونتيجة لذلك، أدت هذه الثورات إلى تغيير الطريقة التي تنظر بها المجتمعات إلى الطبقة الاجتماعية، والعمل، والأسرة، والتعليم.

حركات إنهاء الاستعمار:

في القرن العشرين، سمحت عملية إنهاء الاستعمار للعديد من الثقافات المستعمرة بإعادة اكتشاف هوياتها. ومع ذلك، تأثرت هذه المجتمعات أيضاً بشكل عميق بالثقافات الاستعمارية، مما أدى إلى مزيج فريد من التقاليد المحلية والتأثيرات الكولونيالية. على سبيل المثال، في المستعمرات الأفريقية والآسيوية والكاريبية السابقة، تحولت الثقافات المحلية بفضل العناصر الأوروبية مثل اللغة والدين (المسيحية) والتعليم، لكنها أيضا هذه المجتمعات استجابت لإعادة اكتشاف تراثها الثقافي والحفاظ عليه.

التقدم التكنولوجي والعلمي:

كان للابتكارات التكنولوجية، مثل اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر أو الإنترنت في القرن العشرين، دورا أًساسيا في نشر الثقافة. حيث سمحت المطبعة للأفكار الثورية (مثل أفكار عصر النهضة أو الإصلاح البروتستانتي) بالانتشار بسرعة، مما أدى إلى تغيير المعتقدات الدينية والسياسية في أوروبا. وعلى نحو مماثل، أدت شبكة الإنترنت وتقنيات الاتصالات الحديثة إلى تغيير جذري في الطريقة التي يتواصل بها الناس، ويتشاركون بها الأفكار، ويستهلكون بها الثقافة، مما أثر على الموسيقى، والأفلام، والأزياء، وحتى القيم الاجتماعية.

آثار العولمة على الثقافات المحلية:

تبدو العولمة على أنها العملية التي تصبح من خلالها الدول والمجتمعات مترابطة بشكل متزايد من خلال التبادلات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية. من خلال تعبيرات الثقافة المشتملة لمجموعة واسعة من العناصر التي تتجلى فيها نظرة المجتمع أو المجموعة البشرية للعالم وقيمها ومعتقداتها وممارساتها. ويشمل ذلك اللغة والتقاليد والفنون والموسيقى والطقوس والرموز والسلوكيات الاجتماعية والعديد من أشكال التعبير الأخرى من منظور عالمي شمولي. وتختلف هذه التعبيرات بشكل كبير من ثقافة إلى أخرى، وهي تعكس المعايير والمخاوف والواقع الاجتماعي الخاص بكل مجتمع.

1.اللغة: هي إحدى أقوى الوسائل للتعبير عن الثقافة في ظل العولمة .فهي ناقل أساسي للقيم والمعتقدات والعادات. ويتجلى ذلك في التنافس الكبير بين اللغات عبر الترجمة والدورات والمهرجانات والاشهارات وما هنالك من محاولة تشكيل تكثلات لغوية كتكثل الناطقين بالفرنسية او ما يعرف بالفرنكوفونية، وبالمقابل الحضور القوي للانجليزية الأمريكية بقوة وصعود لغات أخرى عبر العالم رغم ضآلة التأثير الثقافي..

2.التقاليد والطقوس

غالباً ما ترتبط الطقوس بالمعتقدات الدينية، أو طقوس الاثنيات، أو الأحداث المهمة في حياة الفرد أو المجموعة. التي يعمل أصحابها على تعزيزها ضمن معاملات الهوية الثقافية والاجتماعية الخاصة بهم.

على سبيل المثال، يتضمن الزواج في الهند سلسلة من الطقوس التقليدية، بما في ذلك حفل "سابتا بادي" (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، والذي يرمز إلى الاتحاد والالتزامات المتبادلة بين الزوجين. كما تشكل احتفالات سان جان في كيبيك مثالاً على التقاليد التي يتم الاحتفال بها من خلال إشعال النيران والرقص والغناء، مما يسلط الضوء على التراث الثقافي الفرنكوفوني في أمريكا الشمالية.

3.الفنون

تعتبر الفنون البصرية والموسيقى والرقص والمسرح من الأشكال الرئيسية للتعبير الثقافي.

الفن الأفريقي: غالباً ما تحمل المنحوتات والأقنعة الأفريقية معاني عميقة مرتبطة بالمعتقدات الروحية أو طقوس العنصر او الجندر.

الموسيقى: البلوز في الولايات المتحدة، وهو نوع موسيقي نشأ في المجتمعات الأمريكية الأفريقية، وهو تعبير ثقافي مرتبط بتاريخ العبودية والألم والأمل.

الرقص: الفلامنيقو في إسبانيا أو السامبا في البرازيل من الأمثلة التي ينقل فيها الرقص المشاعر والقصة، ويدمج الحركات الجسدية والتأثيرات الثقافية المتعددة.

المسرح: هو بمثابة سلطة ثقافية عبر التاريخ بما يعكسه من تعبيرات عابرة للمكونات والرؤى والآفاق في المجتمعات وحضوره في مجتمعات أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول حوض البحر الأبيض المتوسط يعكس وزنه كناقل تاريخي للثقافة بمميزات خاصة بكل ثقافات العالم.

4. الرموز

الرموز هي تمثيلات بصرية أو أشياء تحمل معنى معيناً في ثقافة معينة. على سبيل المثال:

يعتبر اللوتس في الثقافات الآسيوية، وخاصة في الهند والصين، رمزاً للنقاء والبعث والارتقاء الروحي.

5. العادات والسلوكيات الاجتماعية

المعايير والسلوكيات الاجتماعية تعكس قيم الثقافة وتترجمها في علاقاتها مع الآخر.

في شرق آسيا، هناك قواعد سلوك صارمة للغاية فيما يتعلق باحترام كبار السن، الأجنبي والتعامل باللياقة اللباقة، والسلوك الرسمي مع الضيف المغاير ثقافيا، وخاصة في بلدان مثل كوريا الجنوبية واليابان.

6. المعتقدات الدينية والفلسفية

تشكل المعتقدات أشكالا ًأساسية للتعبير الثقافي في زمن العولمة، لأنها غالبا ًما تشكل نمط حياة المجتمع وقيمه التي يهدف إلى الترويج لها كمنجز حضاري وإضافة ثقافية نوعية للحضارة الانسانية.

لقد ساهمت المسيحية في أوروبا وأميركا الشمالية في تشكيل العديد من التقاليد والقيم في هذه المناطق، وخاصة من خلال الأعياد مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، كما أثر الإسلام في المجتمعات الغربية عبر الجاليات المسلمة التي أصبحت تشكل قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية في أمريكا وأكبر البلدان الأوروبية عبر الأخلاق والشريعة الإسلامية التي استقطبت العديد من القائمين على التشريعات الغربية .

أيضا تؤمن البوذية في جنوب شرق آسيا بالتأمل والصحوة الروحية ونبذ العنف، وهي قيم تؤثر بشكل عميق على الممارسات الثقافية في بلدان مثل تايلاند وكمبوديا واليابان.

على الرغم من كل ذلك فإن العولمة تبقى مشروع في العديد من أركانه يهدف إلى ضرب العلاقة بين الثقافة والهوية، عبر تفجير الهويات، التي في الأساس هي عميقة ومتعددة الأبعاد، كونها تتشكل من خلال القيم والمعتقدات والتقاليد والممارسات التي تميز كل مجموعة اجتماعية معينة. ويتضمن ذلك أشياء مثل اللغة والدين والعادات والتاريخ والتجارب المشتركة. وعندما نقتحم مفاهيم مثل تشكيل الهوية الثقافية، والتنوع والإدماج، والتعايش بين الثقافات المتعددة، والتسامح والاحترام والتعاون، فإننا ندخل منطقة معقدة تمس قضايا اجتماعية وسياسية وفلسفية عميقة، مما يتطلب حذرا وجدية في التفاعل والمقاربة لمفهوم العولمة الثقافية بأبعادها وأسسها المتنوعة سياسيا واقتصاديا وفلسفيا.

1.تشكيل الهوية الثقافية:

يتم بناء الهوية الثقافية بمرور الوقت، تحت تأثير العديد من العوامل:

الأصول والتراث الثقافي

لا مناص من كون الهوية الثقافية للفرد متجذرة في تراث عائلته ومجتمعه. ويشمل ذلك اللغة التي يتحدث بها الناس في المنزل، والعادات التي ورثها عن أجداده، والتقاليد الدينية والقيم المشتركة داخل الأسرة والمجتمع. يمكن أن يكون هذا التراث مصدراً للفخر والترابط، لأنه يحدد الفرد داخل المجموعة.

التنشئة الاجتماعية والتعلم

وتتشكل الهوية الثقافية أيضاً من خلال تجربة التنشئة الاجتماعية، سواء في المدرسة أو في العمل أو داخل المجتمع بشكل عام. إن التفاعلات مع الثقافات والمؤسسات الأخرى (مثل التعليم ووسائل الإعلام والسياسات العامة) والأحداث الاجتماعية أو التاريخية يمكن أن تعيد تعريف هذه الهوية أو تزيد من تفاصيلها. على سبيل المثال، يمكن أن ينشأ الشخص في ثقافة واحدة، ولكن عندما يكبر، فإنه يتأثر بعناصر من ثقافات أخرى، مما قد يؤدي إلى شكل هجين من الهوية الثقافية، أو إلى التوترات بين التأثيرات الثقافية.

أزمة الهوية وجهل العولمة

في عالمنا الزاحف خلف ثقافة العولمة بصورها الهمجية، حيث يتعرض الأفراد لمزيج من الثقافات، قد يعاني البعض من أزمات الهوية. ويتجلى ذلك في التساؤلات حول مكانة ثقافتهم الأصلية في مواجهة التأثيرات الخارجية. على سبيل المثال، قد يعاني الشباب من المجتمعات المهاجرة من هوية مزدوجة - هوية ثقافة المنشأ وثقافة البلد المضيف- أو -المجتمعات الأكاديمية ان صح التعبير- مما قد يؤدي إلى البحث عن التوازن أو إلى صراعات داخلية قد تحدث شروخا لدى مجتمعات ثقافاتها الأصلية.

2. التنوع والشمول:

يشير التنوع الثقافي إلى وجود تعايش ثقافات مختلفة داخل المجتمع نفسه. وقد يشمل ذلك الاختلافات في اللغة، والمعتقدات الدينية، والممارسات الاجتماعية، والتقاليد الفنية والمطبخية. حيث يتميز المجتمع المتنوع بثراء ثقافاته المختلفة، والتي تساهم مجتمعة في ديناميكيته وتعدديته.

و من جهة أخرى هناك الإدماج الثقافي الذي يتجاوز مجرد الاعتراف بالتنوع. وهذا يعني تعزيز المساواة والاعتراف بالحقوق الثقافية والوصول العادل إلى الفرص للجميع، بغض النظر عن تراثهم أو أصلهم. بحيث يسمح المجتمع الشامل للجميع بالحفاظ على ممارساتهم الثقافية مع كونهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأوسع. ويتعلق الإدماج أيضاً بالمشاركة الفعالة لجميع المجموعات في عمليات صنع القرار والحياة المجتمعية، دون تمييز أو تهميش.

على سبيل المثال، في بلد يتمتع بتنوع ثقافي قوي (مثل كندا أو الولايات المتحدة)، تعمل سياسات التعددية الثقافية على تعزيز التعايش السلمي بين المجتمعات الثقافية المختلفة، مع ضمان مشاركتها المتساوية في المجتمع.

فوائد التنوع والشمول:

لا يمكننا الوقوف على مدى صلاحية التنوع إلا من خلال ثماره الواقعية والتي يمكن ذكر بعضها:

الابتكار والإبداع: يمكن للتنوع الثقافي أن يؤدي إلى مزيد من الابتكار، حيث إن وجهات النظر المتنوعة غالبا ما تكون مصدراً لأفكار وحلول جديدة.

الإثراء المتبادل: من خلال الترحيب بالثقافات المختلفة، يتم إثراء المجتمع بطرق جديدة للتفكير، وفنون جديدة، ونكهات جديدة، وطرق جديدة تراعي القيمة الأساسية والمصيرية للثقافة الاصلية في تصور هوية الأسرة والمجتمع.

التضامن والتعاطف: عندما يتم احترام التنوع والاحتفال به، فإنه يمكن أن يعزز التضامن بين المجتمعات المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من التفاهم وروح التعاون...

(يتبع)

***

بقلم: مراد غريبي

فكرة الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية تعكس جدلًا عميقًا حول كيفية فهمنا للواقع، النصوص التاريخية قابلة للتأويل بطرق متعددة مما يعني أن كل قارئ قد يستنبط معاني مختلفة بناءً على خلفيته الثقافية وتجربته ويمكن أن تحمل النصوص معانٍ رمزية تتجاوز الأحداث نفسها، مما يشير الى قضايا اجتماعية و سياسية أعمق، تعمل اللغة كحامل للنص لكنها ليست مجرد وسيلة للتعبير اذ تلعب دورًا مهما في تشكيل الأفكار والمفاهيم، اختيار الكلمات يمكن أن يحرف أو يوضح المفاهيم التاريخية كما ان اللغة تساهم في نقل السرديات عبر الأجيال، مما يساعد على بناء الهوية الثقافية والتاريخية، الحقيقة في السرديات التاريخية ليست ثابتة بالضرورة، بل تتأثر بالعوامل الثقافية والفكرية والاقتصادية هي معقدة ومتعددة الأبعاد، مما يجعل من الضروري نقد الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية و ان تواجه هذه بسرديات معاصرة تتجاوز الانحياز والاضطراب المفاهيمي في السرديات التاريخية.

دور السلطة السياسية في تشكيل السرديات التاريخية

السلطة السياسية لها دور كبيرقي تشكيل السرديات التاريخية ودورها محوري ومعقد. تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتأكيد شرعيتها، من خلال إبراز إنجازات معينة أو استخدام أخرى في تجريم خصومها، قد يتم تعديل أو تزييف الأحداث التاريخية لتتناسب مع الأجندات السياسية، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق، تسيطر الأنظمة على وسائل الإعلام التي من خلالها يتم تعزيز روايات معينة وتهميش أخرى، مما يسهم في تشكيل الرأي العام ،قد تسعى الأنظمة إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال إلغاء أو تهميش أحداث معينة، مما يؤثر على الذاكرة الجماعية، بذلك تلعب السلطة السياسية دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتؤثر على كيفية كتابة وفهم التاريخ. هذا التأثير يمكن أن يؤدي إلى تشكيل هويات وطنية منحازة وتعزز أو تقوض شرعيات سياسية وبالتالي خلق اضطراب مفاهيمي.

التحيز في السرديات التاريخية

في بعض السرديات، يتم تصوير الصراعات التاريخية بين الطوائف بشكل يبرز تفوق طائفة على الأخرى، مما يؤدي إلى تأجيج التوترات الحالية،  بعض السرديات يتم تقديم الاستعمار كحدث خارجي فقط، مع تجاهل الدور المحلي في التعاون المجتمعي ودور المقاومة في التخلص من الاستعمار، مما يخلق سردًا غير متوازن حول التحديات التاريخية، احيانا تُكتب سير بعض القادة التاريخيين بشكل يبرز إنجازاتهم ويغفل عن أخطائهم أوعن الجوانب السلبية في حكمهم، مما يعكس تحيزًا نحو تقديس الشخصيات، تركز بعض السرديات على تاريخ الأمة بشكل ضيق، مما يؤدي إلى تجاهل مساهمات الثقافات الأخرى أو الأقليات العرقية والدينية، تتجلى التحيزات في السرديات التاريخية من خلال الطائفية، الاستعمار، تصوير الشخصيات، تجاهل الثقافات، تغييب دور النساء، وتحريف الأحداث، هذه التحيزات تؤدي الى فهم التاريخ بشكل مضطرب وتشكيل هوية ثقافية متاكلة.

المقدس في السرديات التاريخة

بعض السرديات التاريخية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتراث الديني، مما يجعل النقد أكثر حساسية. يُعتبر أي نقد لهذه السرديات تحديًا للمعتقدات المقدسة عندها يظهر الاضطراب المفاهيمي حين يتم الخلط بين التاريخ كعلم والحقائق الدينية، مما يصعب تقييم الأحداث بشكل موضوعي، عبر القرون استخدمت الأنظمة السياسية السرديات التاريخية لتعزيز سلطتها وطوقتها بالمقدس، مما أدى إلى تشويه الحقائق التاريخية، العديد من المجتمعات أصبحت عرضة للتعصب الفكري، حيث يتم الدفاع عن السرديات المقدسة دون نقد، رغم ان النقد يُعتبر ضرورة لفهم التاريخ بشكل أفضل، و يعزز من قدرة الأفراد على التمييز بين الحقائق والآراء الشخصية كما يساهم النقد في فتح نقاشات حول الأحداث التاريخية ومكانتها في السياق الثقافي والديني ،النقد والمقدس في السرديات التاريخية يعكسان صراعًا طويل الأمد بين فهم التاريخ بشكل موضوعي واحترام المعتقدات المقدسة. يتطلب الأمر توازنًا دقيقًا لتجاوز الاضطراب المفاهيمي وتعزيز الفهم التاريخي.

 النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية

النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية يتعلق بعدة جوانب وهو الذي يؤدي إلى اضطراب في فهم هذه السرديات، يُواجه النقد المعاصر صعوبة في تحقيق الموضوعية بسبب التحيزات التي تكون موجودة في السرديات التاريخية، مما يثير تساؤلات حول مصداقية الروايات،ان صعوبة نقد السرديات المتعلقة بالأحداث المقدسة بسبب حساسيتها الدينية، يجعل من الصعب تناولها بموضوعية، وجود تفسيرات متعددة للأحداث التاريخية وربطها بالمقدس يجعل من الصعب الوصول إلى فهم موحد، مما يؤدي إلى الاضطراب المفاهيمي ، تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتشكيل الهوية الوطنية، مما يؤدي إلى تلاعب في السرديات التي تُطرح ، ربط الأحداث التاريخية بالسياقات المعاصرة يشكل صعوبة منهجية وتطبيقية و يخلق إرباكًا في فهم تأثير التاريخ على الوضع الحالي، تتجلى إشكالية النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية في التحديات المتعلقة بالموضوعية والتداخل الثقافي والديني، بالإضافة إلى تأثير السلطة والفجوة الزمنية. يتطلب الأمر جهدًا متعاضدا لتعزيز الفهم النقدي وتحليل السرديات بشكل دقيق.

السرديات المعاصرة في ظل نظام التفاهة

إنتاج سرديات معاصرة في ظل هيمنة العولمة ونظام التفاهة يتطلب مواجهة عدة تحديات، منها العولمة تؤدي إلى انتشار سرديات عالمية قد تطغى على السرديات المحلية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الهوية الثقافية، تركز العولمة على سرديات معينة و تهمل الروايات المختلفة مما يقلل من التنوع الثقافي، يُروج نظام التفاهة للمحتوى السطحي وغير الملهم، مما يقلل من اهتمام الأفراد بالقضايا الأكثر عمقًا وأهمية ،يتعرض الأفراد الى ضغوط في تبني سرديات عالمية رائجة على منصات التواصل الاجتماعي ، مما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية وإضعاف الروابط الاجتماعية، يُعاني الكثير من المثقفين من نقص الدعم في البحث العميق، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات أقل عمقًا وابتكارًا ،تؤثر الأزمات الاقتصادية على قدرة الأفراد على المشاركة في إنتاج السرديات، حيث يصبح التركيز على البقاء الاقتصادي أكثر أهمية من التعبير الثقافي، تتجلى صعوبة إنتاج سرديات معاصرة في ظل العولمة ونظام التفاهة في شكل هيمنة روايات تدعي المعاصرة والعالمية، واخيرا تسطيح القضايا. يتطلب هذا الأمر جهودًا متعاضدة لإعادة النظر في القيم الثقافية وتعزيز الإنتاج الفكري العميق.

الاضطراب المفاهيمي في السرديات المعاصرة

كما هو معروف تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتبرير أفعالها، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية وتقديم روايات محددة  ومنحازة تؤثر على المعتقدات الثقافية والدينية وعلى كيفية تفسير الأحداث، مما يؤدي إلى تباين كبير في السرديات، يتم تجاهل أو تهميش روايات مجموعات معينة لاسباب متعددة، مما يحد من الفهم الشامل للأحداث ويؤدي إلى سرديات أحادية، تتداخل الأساطير والتراث الشعبي مع السرديات التاريخية، مما يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال ،تتعدد العوامل التي تسهم في الاضطراب المفاهيمي، بدءًا من السيطرة السياسية والتعصب الفكري إلى نقص التنوع في المصادر وضعف التعليم، تتطلب معالجة هذه العوامل جهدًا جماعيًا لتعزيز الفهم النقدي والتاريخي.

النقد المعاصر للحقيقة المطلقة

يشدد النقاد على أن الحقائق التاريخية ليست مطلقة، بل تتأثر بالمنظورات الثقافية والسياسية والاجتماعية. كل سرد تاريخي يُشكل من قبل الراوي او مجموعات ثقافية، مما يؤدي إلى وجود تفسيرات متعددة حيث يتم تحليل كيف يمكن أن تؤثر تحيزات المؤرخين على السرد التاريخي. هذه الانحيازات قد تؤدي إلى تجاهل بعض الأحداث أو تهميشها بناءً على توجهات ايديولوجية كما يشير العديد من الباحثين إلى أهمية إعادة تفسير الأحداث التاريخية بناءً على سياقات موضوعية جديدة وفهم سياقي أعمق، هذا يتطلب مراجعة المصادر والوثائق التاريخية، اخذين بالاعتبار ان بعض السرديات التاريخية هي أساسا أدوات للسلطة، حيث تُستخدم لتشكيل الهويات الوطنية والعرقية، كما يتم دراسة كيف تساهم هذه السرديات في بناء الهوية الجماعية و إدراج أصوات وتجارِب خاصة في السرد التاريخي، مما يساهم في تقديم صورة أكثر شمولية عن الحقائق التاريخية هذا النقد يجب ان يعكس تحولًا في كيفية فهمنا للتاريخ، حيث يُنظر إليه كعملية ديناميكية تتغير مع الزمن والسياقات لا كحقائق ثابتة بعيدة عن متناول النقد.

***

غالب المسعودي

 

ما أشاهده غالبا في عملي اليومي كمعالجة ومستشارة أسرية، هو ما يواجهه الأهل، الآباء والأمهات، من تحديات في التعامل مع أبنائهم وبناتهم. حيث تتكرر الأوامر والتعليمات والتوجيهات دون استجابة من قبل الأطفال، مما يؤدي إلى الإحباط والتوتر وخلق جو متشنج ومزعج لكلا الطرفين. لكن برأيي وخبرتي في هذا المجال، إن التربية يمكن أن تكون أكثر سهولة ومتعة إذا تعلمنا كيف نخاطب عقل الطفل-ة، ومشاعرهما معا في آن واحد.

ومن الآليات اليومية المستخدمة والأكثر فاعلية في الحياة اليومية للأسر، والتي أستخدمها معهم:

1. تقديم خيارات متنوعة بدلًا من إعطاء الأوامر

من الأساليب الفعالة أن نقدم للطفل-ة خيارات بسيطة بدلًا من إصدار أوامر قاسية ومباشرة. فعندما نقول: "هل تفضلين القميص الوردي أم البنفسجي؟" بدلًا من "ارتدي هذا القميص"، أو "هل تختار أن تغسل يديك بالصابون السائل أم العادي؟" بدلًا من "يجب أن تغسل يدك الآن"، أو "هل ترغبين بأكل التفاح أم الموز؟" عندما تطلب الطفلة أشياء غير صحية كالحلويات، في هذه الحالة يشعر الصغير-ة بأنه جزء من القرار، مما يعزز التعاون والاستقلالية، ويتم تغيير تركيزه أو تركيزها من التوجيهات والأوامر إلى التركيز على الاختيار، ويُمنَح شعورًا بأهميته أو أهميتها.

2. تحويل الواجبات إلى لحظات لعب ومرح

من إحدى الطرق الأخرى للتعامل مع الطفل-ة، تحويل المهام والواجبات اليومية إلى لحظات مليئة باللعب والمزاح. وبهذه الطريقة نصل إلى الطفل-ة بسهولة أكثر مما نتصور، مثل: "من سيلتقط ألعابه أو ألعابها أولًا؟" أو "هل يمكنكِ الوصول إلى السرير قبل أن أعد للعشرة؟". اللعب ليس فقط وسيلة للمتعة، بل أيضًا أداة تربوية تعزز التفاعل والاستجابة، وتخلق جوًا مليئًا بالحب والطمأنينة والاستقرار.

3. تشجيع الطفل والطفلة على تبني الفكرة

بدلًا من فرض الأمور، يمكننا تحفيز الطفل-ة ليشعر أو تشعر أن الفكرة نابعة منه أو منها. مثال: عندما يرفض الطفل-ة الأكل الصحي وذو القيمة الغذائية، يمكن أن نقول: "هل تريدين أن تصبحي قوية مثل البطلات؟ البطلات يأكلن هذا الطعام!"، أو عندما يرفضو القيام بالواجبات المدرسية: "ما رأيكم أن يشرح كل منكما لنا الدرس بعد إنهاء الواجب؟ نحن متشوقون لسماع ما تعلمتم!". عندما يتبنى الطفل-ة الفكرة بنفسه أو نفسها، سيبتكر أو ستبتكر في إنجازها بدون صعوبة.

4. التعلم من النتائج المتعاقبة

عندما يرفض الطفل-ة اتباع التوجيهات، لا داعي للتهديد أو الصراخ أو تحويل أجواء البيت إلى الرعب وانعدام الأمان، بل الأفضل السماح له أو لها بخوض التجربة. كأن نقول: "إذا خرجتِ بدون معطف، قد تشعرين بالبرد وتتمرضين وتُحرمين من المشاركة في نشاط ترغبين به... ما رأيكِ؟" أو "إذا لم تُرتَّب الألعاب وتُوضَع في مكانها المخصص، قد تضيع أو تنكسر، هل تود أو تودين الاحتفاظ بها؟". هنا نعطي الطفل والطفلة مسؤولية تصرفاتهما بشكل مفهوم وواضح.

5. التحفيز الإيجابي وتشجيع السلوك الإيجابي والهادف

من الطرق الأكثر فاعلية في تربية الأطفال، المدح الصادق والمؤثر، فهو يصنع فرقًا كبيرًا ونتائج إيجابية غير متوقعة. بدلًا من قول: "لا تصرخ!"، نقول: "صوتك الهادئ جميل، أحب أن أسمعه هكذا"، وبدلًا من: "اجلس لتأكل"، يمكن أن نقول: "أنا واثق أنكِ ستنهين طعامك وستكونين قوية جسديًا وذكية في المدرسة!". هذا النوع من الخطاب يغرس الثقة والطمأنينة في نفوس الأطفال، ويساعد في نموهم بشكل سليم.

6. التخاطب مع الأطفال ونحن في تواصل بصري معهم

من الضروري جدًا عندما نخاطب الأطفال، أن نكون في تواصل بصري وتقارب جسدي معهم. مثلًا، عندما نطلب من الطفل-ة أن وقت النوم قد حان، ويجب أن يُحضّر أو تُحضّر نفسه/نفسها للنوم، لا يكون ذلك فعالًا إذا كنا مشغولين بمكالمة هاتفية أو بمتابعة فيلم أو مسلسل. المخاطبة بهذه الطريقة تكون غير فعالة، والطفل-ة لا يأخذ التوجيه بشكل جدي بل يتجاهله أو تتجاهله تمامًا.

التربية الحديثة والناجحة في عالم اليوم لا تقوم على فرض السيطرة أو تكرار الأوامر أو استخدام الصراخ والعقاب، بل على الفهم العميق لاحتياجات الطفل/الطفلة، واحتضان مشاعرهم، واحترام كينونتهم الإنسانية المستقلة. عندما نُعامل الطفل-ة كشخص له صوت ومكانة، يشعر بالأمان، وتُبنى بيننا وبينه جسور من الثقة والمحبة. وحين نتيح له أو لها الفرصة لخوض التجارب، وتحمل المسؤولية، واختبار نتائج قراراته أو قراراتها، فإننا لا نُربي فقط أطفالًا مطيعين، متذبذبين، وغير واثقين من أنفسهم، ويصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم خارج البيت، بل نُربي أفرادًا مستقلين، قادرين على التفكير، واتخاذ القرار، وبناء علاقات صحية ومستقرة. اللغة اللطيفة، والنظرة المتفهمة، والمساحة الآمنة، هي أدوات أقوى بكثير من أي توجيه قسري. ومتى شعر الطفل/الطفلة بأن التوجيه نابع من حب واهتمام حقيقي، فإنه يتحول من أمر يُفرض عليه إلى رغبة صادقة في المشاركة والتجاوب.

***

بيان صالح

ساسلة مقالات من الواقع المهني كمعالجة ومستشارة اسرية

........................

مصادر عربية

1. الجزيرة نت – كيف تربي أطفالك؟ إليك أهم أساليب التربية الحديثة

https://www.aljazeera.net/women/2022/10/22/

2. كيف-تربي-أطفالك-إليك-اهم-أساليب

3. BBC News عربي – طرق فعالة للتواصل مع الأطفال

https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-53355785

4. يونيسف مصر – كيف نربي أبناءنا من 7 إلى 12 سنة

https://www.unicef.org/egypt/ar/raising-younger-children

مصادر دنماركية

1. EMU.dk – Kort om KOS: Kvalitet i Overgangen til Skole

https://emu.dk/sites/default/files/2021-03/8126%20EVA%20SPL%20T07%20Kort%20om%20KOS_WEB%20FINAL-a.pdf

2. Anerkendende Kommunikation – Brug anerkendende kommunikation når du taler med dit barn

https://anerkendendekommunikation.dk/foredrag/brug-anerkendende-kommunikation-naar-du-taler-med-dit-barn

"في صف الفلسفة يتعلم الطلاب الحرية من خلال ممارسة التفكير الحر" فيكتور كوزان

فرش إشكالي

الحماقة التي تقال تذهب مع الريح، والحماقة التي تكتب لا تمر سريعا انها تتحد مع التفكير، وتتحول الى مسلمة تعرقل التفكير والعمل في أن واحد انني اسوق هذه العبارة لمالك بن نبي رحمه الله لتوصيف حالة العبث واللامنطق الملازمة للدرس الفلسفي عندنا حيث انتج تدريس المقالة الفلسفية المؤسس على الإغراء والاستغباء عبر نماذج مكررة يعاد استنساخها نهاية كل موسم دراسي ويتم الاحتكام اليها اثناء البكالوريا التجريبية والترويج لها عبر منصات التواصل الاجتماعي وتفرض لاحقا كخريطة طريق اثناء تصحيح البكالوريا حالة من البؤس والالم في نفوس أولئك الذين يحملون شعلة Prometheus وللدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين بناء امتحان الفلسفة عندنا ونماذج التصحيح المرافقة له وبين ما هو واقع بالفعل في فرنسا مثلا او الدول التي نتقاسم مع الثقافة والهوية والجغرافيا.

لقد تكرر موضوع أساس العدالة الاجتماعية في شهادة البكالوريا شعبة آداب وفلسفة لفظا ومعنى وبذات المشكلة أربعة مرات (2011، 214، 2017، 2021) وموضوع مصدر المعرفة بين العقل والتجربة في الشعب التقنية سبعة مرات (2009، 2011، 2013، 2015، 2016، 2019، 2024) وموضوع دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية بين الاستحالة والامكان في شعبتي العلوم التجريبية وشعبة الرياضيات تسع مرات (2011، 2012، 2014، 2015، 2016، 2018، 2019، 2021، 2024) وتكرر موضوع الحق والواجب وابعاد العمل والفرضية في البكالوريا التجريبية 2025 بصورة مخجلة تثير الغثيان.

هذا الفارقُ ليس تقنيًا فحسب، بل هو انعكاسٌ لأزمةِ يمر بها الدرس الفلسفي عندنا حيث تم تحويل الطالبِ الى رهينة لثقافة التكرار والميل الى الفعل السهل ثقافة جعلت الجهل مقدسا ومؤسسا وبدل من الدفع بالتلميذ الى خوض تجربة وجودية قوامها الحرية والمسؤولية— كما أراد سارتر — وغرس فضيلة التواصل معه داخل القسم وخارجه وفق مبدأ الصدق والصداقة كما كان ينصحنا المرحوم البشير ربوح وتعميق فهمه لذاته اثناء صياغة مواضيع امتحان الفلسفة من خلال ترسيخ ثقافة الوعي النقدي كما كان يقول باولو فيريري تم اقصاؤه و تحويلَهُ إلى ببّغاءٍ يردّدُ مقولاتٍ مفصولة من سياقها الفلسفي بلا وعيٍ ويسرد الفاظ وعبارات بلا تحليل وتفكيكٍ وبلا نقد وبالمحصلة تم تحويله الى كائن يتغذى على الغش ويتعايش معه.

هذه الوضعية التي تتنافى مع الروح الفلسفية تدفعنا الى تقديم هذه 'المقابسات' المستمدة من نماذج قدمها أساتذة في التعليم الثانوي لمادة الفلسفة في فرنسا وهي نماذج يمكن الاستفادة منها والاستثمار فيها فالفلسفة تمتاز بطابعها الإنساني ثم ان هذه النماذج تفتحُ البابَ لتساؤلاتٍ حرجةٍ الإجابة عنها تسمح لنا بفتح كوة في غرفة مظلمة قد تتحول الى قبس من نور: لماذا تخشى الأنظمةُ التعليميةُ العربيةُ الأسئلةَ الفلسفية المُقلقةَ وتميل الى النمطية والتعايش مع ماهو واقع بالفعل؟ وهل يُمكنُ لدرس الفلسفةِ أن يتحرّرَ من قيودِ البيروقراطيةِ والوصاية الأبوية؟ ولماذا تم تحويل درس الفلسفة والمدرسة ككل الى مصنع للطاعة؟ وأيُّ مستقبلٍ لِجيلٍ يُمنَعُ من معاناةِ ولذة التفكيرِ؟

النموذج الأول

هل تخون اللغة الفكر؟

العلاقة بين الفكر واللغة، تمثل مشكلة كلاسيكية عظيمة في الفلسفة!

وسيتم الحكم على المرشحين على أساس دقة وأصالة معرفتهم.

أولا: تحليل الموضوع

موضوع كلاسيكي حول العلاقة بين اللغة والفكر، يسمح لك بالإشارة إلى مفاهيم أخرى في البرنامج (الحقيقة / الفن / الوعي / الإدراك / الآخرين /...) وتعبئة معرفتك بالفلسفة واللسانيات والأدب.

ضبط المفاهيم

- اللغة بالمعنى الواسع، تشير إلى القدرة على إنشاء نظام مفصل من العلامات يسمح بالتعبير. في هذا الموضوع سوف نسلط الضوء على لغة الكلمات.

-الفكر الصعوبة الأولى في هذا الموضوع تكمن في معنى كلمة "الفكر"، والتي ليست ثابتة ولا فريدة، والتي تعتمد إلى حد كبير على الطريقة التي نتصور بها العلاقة بين الفكر واللغة! ولذلك كان من الضروري أن ننطلق من تعريف واسع للغاية، على سبيل المثال: نقول ان الفكر هو مجموعة الظواهر التي تنتجها أنشطة العقل، وسيتم الاشتغال بداية على هذا المعنى داخل الأطروحة نفسها.

-الفعل "خيانة" يثير مشكلة لأنه، في معناه الحرفي، يشير إلى الفعل الطوعي المتمثل في التخلي عن شخص أو قضية من خلال التوقف عن الوفاء لها. لذلك يجب أن نفهم الأمر هنا بالمعنى المجازي: فاللغة لا تعبر إلا عن الفكر بطريقة غير أمينة.

الافتراض الضمني الذي طُلب منك أن نتساءل عنه: هل اللغة مجرد أداة بدائية وغير كافية للتعبير عن الفكر، والتي تفقد نفسها بالتالي من خلال تسليم نفسها للكلمات؟

طرح المشكلة

اللغة التي نستخدمها يجب أن تسمح لنا بالتعبير عن أنفسنا بطريقة تسمح للآخرين بفهمنا. ومع ذلك، هناك العديد من المناسبات التي نضطر فيها إلى التراجع عن كلماتنا لأنها لا تتوافق مع ما كنا نفكر فيه ونريد أن نقوله. على الرغم من أننا اخترنا الألفاظ التي نستخدمها بأنفسنا. فهل يعني هذا أن اللغة يمكن أن تخون الفكر؟ ان الخيانة هنا هي في المقام الأول خيبة أمل لعلاقة الثقة. وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا، فذلك لأننا اعترفنا مسبقًا بأننا أوكلنا إليها مهمة إخراج أفكار حميمة. فهل الكلمات قادرة على القيام بهذه المهمة؟ هل تستحق الألفاظ ثقتنا؟ أليس في اللغة تشكيل وتبرير لا نجدهما دائمًا في ما نفكر فيه بعمق؟ وهل ينبغي لنا إذن أن نكون حذرين من اللغة؟ وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا من خلال تحريف ما نقوله، فإنها قادرة، وهو ما يبدو أسوأ، على خيانتنا من خلال جعلنا نقول ما لا نريد أن نقوله، وأحياناً حتى ما لا نعرفه. أليس هذا هو الحال عندما نرتكب زلة لسان؟ وفي كلتا الحالتين (سواء كانت الخيانة تشوه الفكر أو تكشفه)، فإن هذا يفترض وجود فكر قد تشكل خارج اللغة وقبلها. فكيف يمكننا أن نفكر خارج اللغة؟ أليست اللغة هي حال الفكر، بعيداً عن خيانة الفكر؟

تعبئة الموارد والاعلان عن الخطة

01 – الاطروحة (اللغة عقبة أمام التعبير الصحيح عن الفكر)

قد تخون اللغة الفكر من خلال الفشل في واجبها في نسخ الأفكار بأمانة يتجلى ذلك في:

أ) تجربة سوء الفهم: حيث يمكننا أن نتخذ من تجاربنا المشتركة والمتنوعة في سوء الفهم منطلقا للاطروحة الأولى فكثيرا مايقال ("لم أقصد ذلك"، "الكلمات تجاوزت أفكاري"،...) أو في عدم الكفاية ("لا أعرف كيف أعبر عما أشعر به..."، "الكلمات تخذلني...") وهذه الوقائع تسلط الضوء على عدم كفاية اللغة، وحتى عدم أمانتها المحتملة، خاصة وأن بعض الكتاب أنفسهم يشهدون على ذلك: ومن هؤلاء (روجيه مارتن دو جارد) فقد اعترف هذا الكاتب وهو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1937 بخيانة اللغة "الشعور بأن الكلمات كانت تحملني بعيدًا، وتخون أفكاري الحقيقية"

ب) اللغة كقناع للفكر: راي. ديكارت، الذي يأتي سبب الأخطاء بالنسبة له من حقيقة أن "الناس يولون اهتمامهم إلى الكلمات بدلا من الأفكار، وموافقتهم على مصطلحات لا يفهمونها" (مبادئ الفلسفة،) إضافة الى التسرع، راجع الحوارات بين سقراط ومحاوريه (جورجياس على سبيل المثال والبحث عن تعريف البلاغة) يعبر سقراط من خلال أسئلته عن فكرة أن محاوريه، الذين يجرفهم العاطفة، يشوهونها

ج) التمييز المفترض بين النشاط المفاهيمي والنقل اللغوي: راجع مشروع لايبنتز للغة عالمية حيث تشير الإشارات فقط إلى الأشكال التي يتصورها الفهم: التحدث بشكل سيء ليس استخدام الكلمات بشكل خاطئ ولكن "عدم إرفاق أفكار واضحة بها" (مقالات جديدة عن الفهم البشري) ثم تخون اللغة الفكر لأنها لا تحدد الفكرة بالكلمة المقابلة. ثم ان اللغة والفكر حقيقتين مختلفتين من حيث طبيعتهما. هذا هو تحليل برجسون:" اللغة تضفي طابعاً مكانياً على ما هو روحي. ومن خلال تسليم نفسه للغة، يصبح الفكر مشوهًا.

وهكذا تبدو اللغة إذن وكأنها وسيلة غير كافية، وغير متقنة، وغير أمينة للتعبير عن الفكر، حيث يظل الثراء والعمق الذي تتمتع به هذه الوسيلة غير قابلين للوصف. إن الفكر سوف يضيع إذا سلم نفسه، و إذا تخلى عن نفسه في اللغة.

02 – نقيض الاطروحة (جهد الانتباه والبحث عن الحق يكفي لإنتاج خطاب يعادل الفكرة)

- ولكن دعونا نلاحظ أن كل انتقاد للغة يتم من قبل اللغة نفسها، والتي يبدو أنها الدائرة التي لا يمكن الهروب منها. علاوة على ذلك، حتى الفكر الأكثر عمقاً هو عبارة عن كلمة صامتة موجهة إلى الذات. إذا فشلت الكلمات في التعبير عن مشاعرنا، فهل ذلك بسبب عدم كفاية اللغة أم بسبب ارتباك أفكارنا؟

-  يتعين علينا بعد ذلك أن نتصور العلاقة بين اللغة والفكر بشكل مختلف. إن النشاط الداخلي الصرف للعقل لا يصبح حقيقيا إلا من خلال التفكير وفي اللغة. لأنه من خلال تمييز نفسه عن نفسه في النظام المادي للعلامات يصبح فكرة عن نفسه. وهذا هو السبب الذي جعل هيجل ينتقد فكرة أن الفكر الأعلى هو الفكر الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إن ما لا يمكن التعبير عنه هو، على العكس من ذلك، فكر غامض، وعاطفة فورية، وصدمة مرضية، أو باختصار، ما لم يصبح بعد فكرًا واضحًا في حد ذاته.

أ) إذا كانت اللغة تخون الفكر، بمعنى أنها تفشل في واجبها في التعبير عنه بشكل صحيح، فإن التفكير بطريقة صحيحة كاف لإصلاح هذا "الخطأ". يتم "تصحيح" خيانة اللغة بالفكر من خلال ممارسة التفكير المنهجي: إذا فكرت بشكل صحيح، فلا يمكنني التعبير عنه إلا بوضوح.

ب) اللغة أداة يجب تأديبها من خلال ممارسة العقل: راجع ديكارت: "إن التجمع الذي يحدث في الاستدلال ليس تجميع الأسماء بل التجمع الذي تدل عليه الأسماء" (مبادئ الفلسفة) يمكن الإشارة الى (ميرلو بونتي) هناك فكر فقط لأن المعنى مبني مع الآخرين، والكلام ليس "علامة" الفكر، فإنهم "ملفوفون في بعضهم البعض" (ميرلو بونتي، فينومينولوجيا الإدراك) للانتقال من اللغة الرسمية إلى الكلام البشري لإظهار أن عمل الكشف عن الفكر يتم لأن هناك ذاتية بين كائنين من الخطاب يتكشف الفكر في فضاء اللغة، لأن "الكلمات ليس لها معنى، لها استخدامات فقط" (فيتجنشتاين)

ج) التطابق الصارم بين العلامات والأفكار: راجع مشروع لايبنيز ا للرياضيات العالمية: تشير الكلمات إلى أفكار كونية، كما تبين لغة الرياضيات، ما هي المشكلة ليست اللغة بل اللغات والاستخدام الخاطئ للعقل

3- التوليف

ومع ذلك لماذا إذن هذا الشعور المستمر بالخيانة؟

ينبغي استكشاف العديد من سبل التفكير.

سيكون هناك فرق بين اللغة الشائعة، اللغة اليومية، والتي هي مفيدة اجتماعيًا ولكنها غير شخصية وسطحية؛ واللغة الأدبية أو الشعرية أو الفنية بشكل عام، لم تعد مجرد أداة للتواصل بل أصبحت تعبيرًا عن "ذاتنا العميقة"، على حد تعبير برجسون. ومن خلال التواصل بشكل مفيد ولكن سطحي في الحياة اليومية، فإننا سنحصل على الانطباع الضمني والإحباط الناتج عن "خيانة" التعبير عن فرديتنا.

وهذا يقودنا إلى التساؤل حول صعوبة تحديد الحدود بين الاحساس والمفهوم، والإمكانيات التي توفرها اللغات الفنية المختلفة. وعلى نفس المنوال، يطرح الموضوع ضمناً مشكلة وجود فكر لاواعي من شأنه أن يفضح نفسه في لغة زلة اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام.

وهنا علينا

أ) العودة إلى الفكر كمخاطرة وكبحث عن الحقيقة في الحوار: التفكير هو التساؤل مع الآخرين عن معنى الكلمات (راجع الحوارات السقراطية)

ب) يمكن للغة أيضا أن تكشف عن فكرة ضمنية أو حتى غير واعية: تذكر النهج الفرويدي حيث اللغة هي ما يجلب الأفكار والرغبات اللاواعية.

الخلاصة:

لقد حاولنا أن نظهر أنه إذا كانت اللغة قادرة على خيانة الفكر، فليس بمعنى أنها لا تؤدي وظيفة عبودية تتمثل في نسخ فكرة نقية وواضحة ومتميزة، بل إنها كلها خطر تقميط الخيانة، أي الكشف الكامل عن العمل السري للفكر الذي يجسد في التجربة الإنسانية للقول. يمكن للمرء أن يتساءل بعد ذلك عما إذا كانت اللغة الشعرية أو الفنية ليست مكان الفكر الذي لا يتم خيانته بل يتم تقديمه ونشره في التجربة الجمالية.

النموذج الثاني

هل المناقشة تعني نبذ العنف؟

يعد هذا الموضوع كلاسيكيًا في المناقشة العامة، لكنه غير متوقع بالنسبة لتلاميذ البكالوريا لأنه لا يحتوي بشكل مباشر على موضوع جاهز في البرنامج بل يحمل معناة فكرية.

ومع ذلك، يمكن ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: اللغة (مناقشة)، والعدالة، والدولة (العنف).

أول شيء يجب فعله هو البدء من فكرة مسبقة إيجابية: المناقشة يمكن أن تساعد في تجنب العنف؛ ولذلك فإن من يجادل، بدلاً من القتال بالمعنى السيئ للكلمة، يجب عليه أن يتخلى عن العنف.

وهكذا فإن الموضوع يستلزم التمييز: المناقشة، والتي من شأنها أن تجلب إن لم يكن السلام، فعلى الأقل التهدئة في العلاقات الإنسانية؛ وتجنب العنف.

ولكن على العكس من ذلك، قد يتساءل المرء عما إذا كانت اللغة وفعل المناقشة هما اللذان يثيران العنف: فالكلمات والأحكام في المناقشة يمكن أن تكون عنيفة بالفعل. في هذه الحالة يجب علينا الامتناع عن مناقشة الاخر. ماذا أفعل إذن؟ هل يجب علينا أن نتوجه مباشرة وبشكل ملموس إلى أعمال السلام، أم يجب علينا الامتناع عن أي لغة وإظهار اللامبالاة؟

وهنا يمكن صياغة السؤال على النحو التالي: هل يعني النقاش نبذ العنف أم على العكس من ذلك استفزازه؟ أليس المناقشة جدالاً؟

من السهل تعريف كلمة "مناقشة" (الحوار بهدف الوصول إلى حل)، لكن مفهوم العنف يحتاج إلى فهم دقيق: فالعنف هو فعل أو كلمة تفرض على انسان ما سلوكا دون موافقته. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأشكال المحتملة لهذا العنف: العنف الجسدي، العنف اللفظي، العنف الإداري أو السياسي، العنف النفسي، الخ.

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون (جورجياس) نقد المناقشة البلاغة البحتة للسفسطائيين الذين يريدون إعطاء الانطباع بأنهم على حق وأنهم يتغلبون على المحاور، في حين أنهم لا يملكون الحقيقة.

- هوبز (ليفيثان) الإنسان عنيف بطبيعته ويحتاج إلى حالة من العنف، إذا جاز التعبير دون نقاش، من أجل سلامة الجميع.

- روسو (العقد الاجتماعي (أصبح الإنسان عنيفًا وفاسدًا بسبب المجتمع؛ يتضمن العقد الاجتماعي مناقشة شروط الدولة العادلة والمسالمة.

- كانط، (مشروع السلام الدائم (الدبلوماسية فقط، والمناقشة، هما القادرين على جلب السلام بين الأمم)

- شوبنهاور(فن أن تكون على حق دائمًا (هدف المناقشة هو أن تكون على حق وتثبت خطأ الآخر.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن الجدال هو استفزاز للعنف

- الجدال هو خداع الآخر من أجل أن يكون على حق، من أجل السيطرة على الآخر (العنف النفسي)، حتى لو لم يكن الشخص يمتلك الحقيقة. أفلاطون، جورجياس، نقد السفسطائيين.

- الجدال هو صراع على السلطة ويؤدي إلى النزاعات، وليس السلام. شوبنهاور، فن أن تكون على حق دائمًا: لكي تكون على حق، يجب عليك ألا تتردد في إهانة الآخرين، على سبيل المثال؛ واستخدام العنف اللفظي.

- إن الكلام باعتباره مناقشة زائفة قد يصاحب العنف (العنف المنزلي، الانحراف النرجسي، وما إلى ذلك)

- الدبلوماسية كمحاولة للمناقشة ضد كل أشكال العنف: خذ مثالا تاريخيا (اتفاقيات كامب ديفيد).

ولكن السلام يجب أن يكون دائمًا، ويتم في ظل ظروف عادلة، وليس من خلال معاهدة تكون بمثابة سكين يوضع على حلق الآخر: كانط، مشروع السلام الدائم.

- على المستوى السياسي: المناقشة كوسيلة رئيسية للنقاش العام والمشاريع المجتمعية. روسو: مفهوم العقد الاجتماعي.

- الصمت واللامبالاة كوسيلة للتعبير عن الغضب أو الاستياء العنيف. الرواقية: "التحمل والامتناع"، الامتناع عن الكلام وقبول ما يحدث.

- العنف الحكومي (الذي يتألف من أفعال وقوانين مفروضة وليس مناقشات المواطنين) مقابل العنف الطبيعي للإنسان (الذي يتم التعبير عنه على وجه الخصوص من خلال الكلمات والأحكام السلبية): يفضل الرجال الأمن من خلال الوسائل القمعية ضد الخارجين عن القانون، بدلاً من المناقشات التي ستكون عقيمة وغير صادقة. هوبز، ليفيثان.

ويمكن الخروج في الخاتمة بسؤال جديد: هل العنف البشري طبيعي أم ثقافي؟

النموذج الثالث

هل يفلت اللاوعي من جميع أشكال المعرفة؟

يعتبر هذا الموضوع كلاسيكيًا ولكن غير متوقع تمامًا بالنسبة للبكالوريا لأنه يطرح مفهومًا للبرنامج يظهر نادرًا جدًا في الامتحان الوطني: هو موضوع اللاوعي.

يمكن أيضًا ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: الوعي (اللاوعي هو ما لا ندركه)، والعقل والعلم (هل هما وسيلتان لمعرفة اللاوعي؟) والفن.

علينا أن نبدأ هنا من التمييز بين اللاوعي والمعرفة: هل يفلت أحدهما من الآخر بطبيعته، بحكم التعريف؟ ويجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الفرق بين الوعي والمعرفة: إذا كان اللاوعي يفلت من الوعي بحكم التعريف، فهل يفلت بالتالي من أي نوع من المعرفة؟ فما هي أشكال المعرفة إذن؟

إن جوهر السؤال هو ما إذا كان اللاوعي للذات الإنسانية يظل بالضرورة في جهل بهذا الذات نفسها أو بذوات بشرية أخرى، أو على العكس من ذلك، ما إذا كان العلم والعقل على وجه الخصوص قادران على معرفة اللاوعي.

وإذا أعيدت صياغة السؤال، فقد يكون: هل يفلت العقل الباطن من جميع أشكال المعرفة؟ بل على العكس هل يمكن معرفته؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن خلال أي نوع من المعرفة؟ ولماذا ولأي غرض؟

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون، اعتذار سقراط ؛ أيون.

- ديكارت، التأملات الميتافيزيقية، الردود الرابعة على الاعتراضات.

- فرويد، مدخل إلى التحليل النفسي.

- فرويد، تفسير الأحلام.

- شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثل.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن اللاوعي يفلت من أي شكل من أشكال المعرفة

اللاوعي هو صفة من فقد عقله وليس له علم. أفلاطون، اعتذار سقراط أو أيون: نقد الشعراء "المُلهمين" الذين لا يعرفون ماذا يقولون.

إن ما يفلت من الوعي لا يمكن، بحكم التعريف، أن يكون موضوعاً للمعرفة. الأفكار اللاواعية غير موجودة. ديكارت، الرد الرابع على الاعتراضات، تأملات ميتافيزيقية.

إذا كان اللاوعي موجودًا، فهو لا يفلت من المعرفة التجريبية. نرى ذلك يوميًا في الحقائق، وفي الآخرين، وفي أنفسنا: زلات اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام. فرويد، مقدمة في التحليل النفسي.

ولا يفلت من المعرفة العقلانية والعلمية والتحليلية، ولا سيما من خلال التحليل النفسي، الذي يتمثل دوره في الكشف عن اللاوعي، ومعنى الأحلام، ومعرفة أسباب العصاب، والأفعال الوسواسية أو القهرية. فرويد، تفسير الأحلام. إن هدف معرفة اللاوعي هو إذن علاجي.

اللاوعي لدى الفنان المعبر عنه من خلال عمله أو: المعرفة الجمالية للاوعي. مثال السرياليين ونظرية الصدفة الموضوعية.

اللاوعي لدى الفنان معروف من خلال تمثيلات الإرادة. مثال الموسيقى (شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثيل، التي تمثل اللاوعي للقوى الطبيعية أو المشاعر الإنسانية

يمكن في الخاتمة الخروج بسؤال جديد: إذا كان اللاوعي مبدعًا ويقدم معرفة جمالية، فهل من الضروري حقًا السعي إلى معرفته بطريقة عقلانية وعلمية؟

***

علي عمرون

 

هل يقدّم المثقف العربي أعماله اليوم من أجل تثقيف المجتمع أم من أجل إظهار ثقافته للمجتمع؟

هل ستضطر الثقافة العربية المعاصرة الى التخلي عن أهم مزاياها في شخصية المثقف العربي وهي التأمل والإبداع والنقد الذاتي؟

في عصر الآلات الذكية، هل نشهد ظهور ثقافة جديدة بين الإنسان والآلة؟

من سيؤثر في الأخر. الإنسان أم الآلة؟

يمكن القول ان المجتمع العربي على مدى عشرين عاماً منذ بداية القرن الواحد والعشرين يعاني من متلازمة نفسية  إجتماعية  ثقافية، حيث كثرة المشاكل والهموم المتشابهة على الرغم من اختلاف العادات والطباع والتقاليد في مجتمعات العالم العربي، فهناك اعراض لأنماط سلوكية غريبة آخذة بالإنتشار في الأوساط الإجتماعية، لا تجد من يعالجها رغم تشخيصها.

من اعراض المتلازمة الإجتماعية النفسية الثقافية، الشعور بالغربة داخل الأوطان، والرغية بالعزلة بوجود اجهزة التقنية المتطورة كالانترنت والموبايل، وحالات التنمر الإجتماعي، والتمرد السلوكي، والتمظهر الثقافي، وحب الظهور، والمراهقة المرافقة للنمو المعرفي والمكانة الإجتماعية والمواقع القيادية.

مهمة الثقافة العربية اليوم القيام بإعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات التاريخ الثقافي للمجتمع العربي تؤهله لإقامة نظام قادر على مواكبة التطورات والتغيرات العالمية وتأثيراتها المحلية. لا تكمن المشكلة في وجود أو عدم وجود مثل هكذا مهمة أو مبادرة، فقد انبرى عدد من المفكرين والكتّاب والمثقفين العرب للبحث والعمل على تحقيقها. لكن المشكلة تكمن في السؤال عن موقع الثقافة العربية اليوم في دائرة الزمن. هل هي ضمن دائرة الزمن المعاصر؟ هل لديها من الوقت ما يكفي لإعادة بناء اكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية؟

ربما لا يبدو ان الوقت يسمح لها بذلك، حتى إذا سمحت لها الإمكانات الذاتية والإمكانات الجمعية بالقيام بهذه المهمة.

مشكلة الثقافة العربية اليوم متعلقة بحال العقل العربي الذي لا يظهر انه عقل ديني في بحثه عن تطور العلم. ولا هو عقل لا ديني في بحثه عن تطور المجتمع. هو عقل انفعالي محكوم بأدوات تفكير دينية واجتماعية وتاريخية وسياسية، تهيمن عليه على وفق درجة فاعلية كل منها في التأثير.

مالم تتمكن الثقافة العربية من إعادة هيكلة تفكير العقل العربي المعاصر على وفق أسس موضوعية، انسانية، لن تشهد مجتمعاتنا تمكناً ثقافياً. ستبقى حياتنا عائمة على بحر من المفاجآت، كثيرها ضار، وقليلها سار، تعصف بها امواج التغيير جيئة وذهاباً، والناس فيها على حذر وقلق وترقب، لا يجدون في النفس متسعاً من هدوء لإعادة ترتيب الأفكار وتحديد المسار.

لذا فمن اولويات عمل مشروع الثقافة اليوم الإهتمام بالحالة الصحية لثقافة المجتمع في زمن تكثر فيه التفاهات والمتاهات، مثلما تكثر فيه المعلومات والبيانات.

لأن من شأن حيل التكنلوجيا ان تنشئ واقعاً لا يعرف ما اذا كان حقيقياً أم مزيفاً، هنا ستواجه الثقافة  مشكلة لا

أظنها قادرة على معالجتها، خصوصاً ان الثقافة العامة للناس اخذت تتشكل على وفق معطيات رقمية، إذا وظفت فيها حيل التكنلوجيا نتج عنها ثقافة وهمية هدفها إخضاع المجتمع لمؤثرات مرحلية يحكمها نظام عالمي يعمل بمشاريع سياسية واقتصادية وثقافية بتقنية رقمية في فضاء افتراضي 

يوفر بدائل سهلة ومقبولة لها تأثيرها في المشهد الإجتماعي الثقافي، مثل حضور الصورة بدلاً عن جهد الكتابة الذي يبذله المثقف في صياغة عبارة وكتابة مقالة وتأليف كتاب، فالتقنية تتيح تحويل الكلمات الى صورة، وترجمة الفكرة الى صورة. هنا سيتراجع حضور اللغة في حركة الثقافة، وستحل محلها خوارزميات ومعادلات رقمية توفر السرعة وتختزل كثيراً من الحبر والورق والكلمات. بهذه النتيجة سيكون مستقبل الثقافة العربية مهدداً بظهور ثقافة رقمية كشفت عن جانب منها بعض المنشورات والتعليقات لبعض متداولي مواقع التواصل الإجتماعي يمكن وصفها بتغيير طريقة التعبير اللغوي بواسطة الاستخدام التقني للحرف العربي، فلكي تعبر عن إعجابك تكتب ( روووووعة) أو ( رااااااائع ) بدلاً عن عبارة تصف ذلك الإعجاب. ولكي تظهر حجم انفعالك وتأثرك تكتب (أللللللللله أكبر). ولكي تظهر عاطفة قوية تجاه شخص ما تكتب  (أحببببببببك) أو (أحبك حيييييييل) وهكذا..

ثقافتنا العربية اليوم أمام منعطف يبدو خطيراً، أفرزته وقائع الأحداث، يتعلق بمصير الثقافة بين التدريب النفسي والتدريب الذهني، ودخول التسارع الزمني على خط إدارة هذا التدريب أو ذاك، فالحالة التي يظهر عليها المجتمع انه مجتمع مثقف هي في الغالب حالة ناتجة عن تدريبه نفسياً على تقبل مظاهر سلوكية واعتبارات معينة بإكسسوارات مظهرية، ولعل ما ينتجه سلوك أفراد في مناسبات معينة مثل خسارة فريق امام آخر في لعبة كرة قدم من عراك واشتباك وتحطيم لزجاج السيارات وتخريب للطرقات وغيرها. يدلل على ان تلك الثقافة التي عليها اولئك الأشخاص هي حصيلة ذلك التدريب والتعويد النفسي، وليست حصيلة التدريب الذهني. هذا يعني ان المجتمع يضيّع من عمره كثيراً في اعتياد ثقافة التدريب النفسي على حساب ثقافة التدريب الذهني، لأن ثقافة التدريب الذهني تجعل من الشخص متحكماً بانفعالاته، قادراً على ايجاد مخرج لأزماته، لكن بسبب اختلال وظيفة التدريب في عملية التربية والتعليم، ودخول المجتمع في فترات من القلق والإضطراب النفسي والشد العصبي وانماط الحياة الروتينية الرتيبة لفترات تتراوح بين عقد وعقدين من السنين، ظهر في المجتمع اشخاص ناضجين جسمياً، لكنهم مراهقين عقلياً، كمراهقة المسنين، ومراهقة السياسيين، ومراهقة المتعلمين، ومراهقة المتدينين، فقد سجلت أحداث البلاد ظواهر غريبة ومزعجة، كانت محط إنتقاد المجتمع، ورفض الذوق العام. منها التدني الأخلاقي لسلوك أكاديمي داخل الحرم الجامعي، وغياب الحس المسؤول لموظف حكومي، وموت الضمير الإنساني والوطني لمسؤول سياسي، وسقوط المبادئ والقيم في سلوك معمم او معلم.

هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة أمام مسؤولية شاقة، وأمام  دور خطير قد لا يكتب لها النجاح في أدائه في ظل استمرار أحوال العالم العربي على ما هي عليه اليوم من تراجع ملحوظ في فهم الصدق والعدل والحرية.

 يحتاج مفهوم الصدق السياسي الى قوة اقتصادية كبيرة تحرك عقل السلطة بإتجاه إنتاج قرارات إصلاحية قوية. يهيمن النظام العالمي اليوم على مصدر قوة الإقتصاد العالمي ويحركها بعيداً عن طبيعة المجتمعات في حاجاتها الثقافية، لذلك نما في تفكير العقل السياسي مفهوم الخداع بمرور الوقت كي يتمكن من إدارة أوهام الجماهير، فبينما يغرق المجتمع في تفاصيل الحياة الجديدة، يلجأ العقل السياسي الى خداع الجماهير والكذب عليهم من أجل كسب مزيد من الوقت في السلطة، ومزيد من الأصوات في الإنتخابات. المشكلة التي تواجهها الثقافة العربية اليوم هي ان جيل المستقبل سيجد نفسه يتداول ثقافة قائمة على هذه المفاهيم المغلوطة والضارة والسيئة. وجود هذا النوع من التداول الثقافي يهيئ لأرضية يتم عليها تخريب المجتمع وهدّ بنائه الأخلاقي والقيمي، قبالة تشييد بنائه العمراني. من ذلك الزيف نجد ان كثيراً من بلدان العالم العربي اليوم توصف بأنها بلدان متمدنة، ديمقراطية، بينما تكشف الأحداث عن حجم التلاعب في صناديق الإقتراع، وحجم التلاعب في ميزانية الدولة، وحجم التلاعب في مقدرات الناس، هكذا يصبح الناس محكومين من سلطة تخدعهم، ويعلمون انها تخدعهم. بهذا الحال تكون الثقافة العربية المعاصرة في موقف محرج جداً، لأنه سيتعذر عليها تحديد أي جزء في بدن المجتمع هو القادر على كشف الحقيقة، وأي جزء في بدن الإنسان هو القادر على كشف الخداع، وأي جزء في تفكير الإنسان هو القادر على إجتياز هذه الإختبارات بنجاح لصالح الحقيقة والصدق.

يبدو ان الثقافة هي الأخرى قد تأثرت بالسوق الإستهلاكية وبروتين الحياة اليومية في غمرة الإنتاج والإستهلاك العالمي. إذ لم يعد من السهل دعوة الناس الى توظيف ثقافة موضوعية في حياتهم الإستهلاكية الروتينية، لأنه لم يعد مع الناس ما يكفيهم من وقت لتلبية هذه الدعوة، مع علم كثيرين ان التغيير السريع والتطور المذهل للتقنية سيفرض عليهم ان يتحولوا الى اشخاص مستهلكين (بفتح اللام) بعد ان يمضوا وقتاً من حياتهم كمستهلكين (بكسر اللام). هنا ستصبح الثقافة في ورطة كبيرة، فلا هي قادرة على التعاطي مع الواقع المادي الرقمي المجرد، ولا هي قادرة على تقديم بدائل آمنة تحفظ حاضر الناس وتضمن مستقبلهم. فلا العقل السياسي الجديد يدعمها في مشروع تمكين المجتمع ثقافياً، ولا العقل الديني الكلاسيكي.، ولا ثقافة المجتمع الشعبية، ولا ظروف الناس الإقتصادية. ولا أجندات المؤسسة الثقافية الرسمية. 

***

د. عدي عدنان البلداوي

في العراق، حيث تتشابك الأقدار وتتصارع الحقب، يُعاني المثقف أكثر من غيره، ليس لأن دوره أقل أهمية، بل لأن مهمته أشد خطورة وتعقيدًا. المثقف هو ضمير الأمة ومرآتها، ومع ذلك، يجد نفسه محاصراً في دوائر العمى الجماعي، حيث تُحاصر الحقيقة بالظلام، وتُلفظ الكلمة المضيئة في فضاء يسوده الصمت والخوف. في هذا الوطن الذي يُفقد فيه الإنسان إنسانيته يوماً بعد يوم، يتحول المثقف إلى كائن خارج الزمن، يُعاقب على وضوحه، ويُطارد من قبل من يخافون من انبلاج فكره.

المثقف العراقي، إذًا، هو سجين في وطنه، سجين بين جدران الجهل، وسجان بين أيدي من يَستخدمون المعرفة كسلاح للقمع والتدمير. وهذا السجن ليس بالسلاسل أو القضبان، بل هو سجن أيديولوجي وثقافي، يتغلغل في كل نسيج الحياة.

الجهل: القوة المنظمة

الجهل في العراق لم يكن يوماً حالة عابرة أو صدفة، بل هو مشروع مُدار بدقة، وأداة بيد قوى متعددة تسعى للحفاظ على أنظمتها عبر التعتيم والإنكار. ليس الجهل نقص المعرفة فحسب، بل هو نظام متكامل يُنتج ويُعاد إنتاجه يومياً عبر وسائل الإعلام الموجهة، التعليم المُضلل، والخطابات السياسية والدينية التي تُصنع على مقاس الحفاظ على الوضع القائم.

هذا الجهل هو الذي يُعاقب على طرح الأسئلة، ويُجرّم الشك، ويُحرم من حرية التفكير. في العراق، يصبح الجهل سلطة، والجاهل هو من يحتكر الحقيقة، أو يدّعي احتكارها. المثقف هنا يواجه عدوًا لا يُرى، لكنه ملموس في كل مكان؛ هو التيه الثقافي الذي يبتلع الوعي، ويحوله إلى بقايا أثرية هامدة.

المشكلة في العراق ليست في قلة المثقفين، بل في كثرة من يرتدون قناع الثقافة ويمنعون عنها نورها¹.

المثقف بين الاستلاب والالتزام

المثقف الحقيقي في العراق، وفي كل مكان تُهيمن عليه سلطات الجهل، يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين الاستلاب والالتزام. الاستلاب هنا يعني الانسياق وراء التيار، والقبول بالتكتيكات الرخيصة التي تخدم السلطة، والانغلاق في دائرة الدفاع عن الذات بدلًا من الدفاع عن الحقيقة.

أما الالتزام فهو أن تبقى وفياً لمهنتك الروحية والفكرية، رغم كل الإغراءات والتهديدات، وأن ترفض أن تتحول إلى مجرد صوت في جوقة الإذعان. كما يقول جان بول سارتر، الالتزام هو ما يجعل المثقف إنسانًا كاملاً، وليس مجرد حامل أفكار2.

لكن في العراق، الالتزام يُعاقب. يُعاقب المثقف لأنه يُذكّر الناس بأنهم ليسوا مضطرين لقبول واقعهم كما هو، وأن هناك إمكانات أخرى للحياة والحرية. وهذا ما يجعل المثقف دائمًا هدفًا لمن يحكمون بالجهل.

الوعي الزائف وفساد الثقافة

أنطونيو غرامشي وصف الوعي الزائف بأنه وعي يُبنى وفق مصالح قوى الهيمنة، لا مصالح الإنسان الحقيقي. في العراق، هذا الوعي الزائف يتجلى في ثقافة مقلوبة، تُقدّس الرموز الفارغة، وتُشيّد الأساطير التي تُبرر الخضوع والذل. الثقافة تتحول إلى أداة لتجميل القمع، وتزيين الفشل، بدلاً من أن تكون حاضنة للتغيير والتنوير.

حين يصبح المثقف أداة لتكرار الوعي الزائف، يتحول إلى جزء من المشكلة، لا الحل. وفي هذا السياق، التحدي الأكبر للمثقف العراقي هو مقاومة هذا الوعي الزائف وكشفه أمام الناس، مهما كلفه ذلك من ثمن.

التنوير كمقاومة

التنوير ليس رفاهية فكرية، بل هو فعل مقاومة بحد ذاته. كما يقول أدونيس، كل تنوير هو تمرّد ناعم على القطيع3. في العراق، حيث القطيع يُرغم على السير في دروب الجهل، يصبح التنوير ضرورة وجودية، وليس خيارًا.

المثقف الذي يضيء شمعة في هذا الظلام، لا يضيء لنفسه فقط، بل لكل من يرفض أن يعيش في قوقعة الجهل والخوف. الكتابة، الحوار، النقد، والبحث عن الحقيقة كلها أفعال مقاومة تعيد بناء الإنسان العراقي في جوهره.

أن تكتب في بلد يحارب المعرفة، هو نحت حروفك في صخر الصمت، وصنع من وجعك مصباحًا في نفق طويل.

المثقف والواقع العراقي

إن المثقف العراقي لا يمكن أن يكون منفصلًا عن واقع بلده؛ فهو جزء منه، ومرآته، ومحرّكه. لكن الواقع العراقي معقد، متشابك، مليء بالتناقضات والآلام. المثقف مطالب بفهم هذه التناقضات وتفكيكها، ليس فقط ليعبر عن معاناة وطنه، بل ليصنع أدوات التغيير.

في وطن يُصلب فيه الإنسان يوميًا على أعمدة الجهل، لا بد للمثقف أن يكون أكثر من مجرد ناقل للأفكار؛ يجب أن يكون صانعًا للرؤى، وصاحب مبادرات تُحرر العقل وتفتح الأبواب المغلقة.

خاتمة والناتج

المثقف لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، بل بعدد الأوهام التي حاربها. وإن لم يكن قادرًا على تفكيك الأكاذيب التي وُرِّثت للأجيال، فعليه أن يصمت كي لا يضيف إليها كذبة جديدة.

أنا لا أكتب لأنني أمتلك الحقيقة، بل لأنني ضاق بي الزيف. أكتب لأن الإنسان في بلدي يُصلب كل يوم على أعمدة الجهل، ولا أحد يصرخ.

سيأتي الزمن الذي يُسأل فيه المثقف أين كنت حين ساد الباطل؟ فإن أجاب كنت صامتًا، فليعلم أن صمته كان جريمة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

....................

الهوامش:

2. غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن، الجزء الثاني.

3. سارتر، جان بول. الأدب والالتزام، ترجمة محمد بندور.

 

(سلوا النساء لتعلموا أن لا لذة في الولادة، فالدجاج يبيض صائحاً.. والشاعر يبدع متألماً....)... نيتشه على لسان زرادشت

وزرادشت هذا هو نبي الفرس وحكيمهم، ولد في اذربيجان سنة ٦٦٠ ق.م وتوفي سنة ٥٨٣ ق. م وانه جاء بكتاب اسمه (الأفستا) أو (الأبستاق) وقد ادعى بأنه منزل عليه من السماء عن طريق الوحي، وبذلك يعده الفرس مقدساً وفيه تعاليم هذا الدين.

فالأيرانيون قبل زرادشت كانوا مشركين يعبدون آلهة متعددة كالشمس والقمر والزلازل والبراكين وكل ما كانوا يخشونه من مظاهر الطبيعة في محاولة لاسترضاء هذه الظواهر وتجنب شرها وغضبها كما كان المجتمع الأيراني متخلفاً يسوده القتل والسلب والنهب الأمر الذي دعا زرادشت الى التفكير في أنقاذ أمته، فأخذ يدعو شعبه الى نبذ الشرك واتباع الطريق المستقيم وكانت دعوته هذه بوحي من الأله (مزدا) اله النور والخير.

هل الزرادشتية موحدة أم ثنوية. سماوية أم أرضية؟

المعروف عن الأديان الموحدة هي التي تؤمن بإله واحد أحد غير منظور بيده مفاتيح الكون ومصير الإنسان كاليهودية والمسيحية والإسلام غير ان الأديان الثنائية تقول بوجــود قــــوتين متناقضتين أحدهما للخير وأخرى للشر وتقول أيضاً عن خلق الخير والشر (فاهورا فردا) اله النور في الزرادشتية هو خالق كل شيء خير مثل النور والحق والحب والسلام والعمل الصالح و (هريمان) اله الظلام هو خالق كل شيء شرير مثل الظلام والباطل والبغض والأفاعي والعقارب وغيرها.

وهكذا نجد ان الفكر الثنوي موجود حتى في الأديان الأخرى متمثلة بفكرة وجود الشيطان المناقض للرحمن الذي هو الإله الأعظم وغالباً ما يسعى الشيطان الى إحباط الأعمال التي يقوم بها الرحمن ونجد هذا في الدين اليهودي والمسيحي والإسلام وفي الفلسفة اليونانية القديمة وفي أديان بلاد الرافدين. " كما نجد هذا التناقض في الطبيعة بين الليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والحياة والموت، فالعالم في نظر الإنسان القديم كان مأهولاً بهذه الثنائيات التي تصارع بعضها البعض الآخر. وكان هو في بؤرة هذا الصـ (الوعي ونشوء فلسفة الترميز. جمان حلاوي ص ٤٢٨).

جاء في المعجم الفلسفي، الثنوية: مذهب يقول بمبدأين يدبران العالم أو يدبرهما أحدهما ويفسده الآخر، كذلك: فرقة تقول بإثنية الأله قالوا: تجد في العالم خيراً كثيراً وشراً كثيراً فكل منهما فاعل على حدة. وقالت المانوية: فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هي الظلمة، والنور حي قادر سميع بصير، والمجوس قالوا ان فاعل الخير هو (يزدان) وفاعل الشر (اهرمن) ويعنون به الشيطان.

وفي المعجم الفلسفي – رؤية ماركسية: في الفكر العربي الإسلامي. كان مصطلح الثنوية يدل على النحل غير الأسلامية مثل المجوس والمانوية والديصائية والمزدكية القائلة بوجود مبدأين خالقين في الكون - الله والشيطان – الخير والشر، النور والظلمة، كما نعتوا بذلك المعتزلة لقولهم ان الإنسان خالق افعاله مما يعني وجود خالقين: الأله والإنسان، وكان ديكارت أكبر ممثل للثنوية في تاريخ الفكر الفلسفي لقوله بوجود جوهرين: روحي ومادي.

أما كون الزرادشتية دين سماوي أم أرضي فقد كانت الروايات مضطربة فيه بين مؤرخي الفرس والمسلمين، وبإمكاننا ايراد بعض هذه الروايات والآراء. ان بعض المؤرخين يقولون: ان الزرادشتية منزلة من السماء كالإسلام وهي في الأصل ديانة موحدة ثم تحولت الى ديانة ثنوية وتفرعت عنها الديانة المانوية.

ويخلط المسعودي في كتابه (مروج الذهب) بين الزرادشتية والمجوسية حين يقول: " ان زرادشت نبي المجوس " (مروج الذهب الجزء الأول).

ويرى البعض ان المجوسية شيء والزرادشتية شيء آخر، فالمجوسية هي دين جماعة من الناس كانوا يمارسون السحر ويعبدون النار.

وللشهرستاني في كتابه الملل والنحل (رأي آخر مغاير فهو يقول: " نشأ زرادشت الـــى أن بلغ ثلاثين عاماً فبعثه الله نبياً ورسولاً إلى الخلق. ويعد الشهرستاني في مقدمة مؤرخي الأسلام القائلين بأن الزرادشتية ديانة موحدة حين يقول في موضع آخر: وكان دين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانه فرض على أتباعه خمس صلوات، ويعاكسه (القلقشندي) بقوله " ان زرادشت أدعى النبوة ".

ومن خضم هذه الروايات المتضاربة يمكن أن نستنتج بأن الزرادشتية دين ثنوي وليس موحد كما انها ديانة وضعية من صنع زرادشت وان كتاب (الأفستا) وضعه هذا الرجل ولم يك منزلاً من السماء كما كان يدعى وكذلك يمكننا معرفة خصائص هذا الدين وان زرادشت مر بنفس المراحل تقريباً وتعرض لنفس المصاعب والمتاعب التي مر بها انبياء الشرق فسـيرة حياته كما وصفها مؤرخو الفرس تقول: انه عندما بلغ الثلاثين من عمره لجأ الى الكهوف والمغاور متأملاً امور الكون والأنسان وعاش حياة الناسك لا يأكل الا جذور النباتات ولكن في خلال العشر سنوات الأولى من دعوته لم يستجب له احد فلزمه الحزن الا ابن عمه (ميتوماه) نهض ليساعده ويشد أزره وحين بلغ (٤٢) عاماً أمره الألـــه (مزدا) أن يصدع بدعوته، وبينما هو بالقرب من أحد الأنهار متأملاً اذ رأى عموداً من النور يقترب منه فأخذته الرهبة غير انه طمأنه بأنه رئيس الملائكة وان الإله أرسله له، ثم طلب منه خلع ملابسه وعدما خلع ملابسه قام رئيس الملائكة بشق صدره وأخرج قلبه ثم غسله بالماء البارد تمهيداً للصعود به الى السماء كي يقابل الإله (مزدا) وعندما تم اللقاء القدسي هذا بين زرادشت والأله أبلغه الأله بالرسالة وأعطاه التعليمات الخاصة بها وأوضح له طريق الهداية لأمته بما سيملي عليه من آيات ستنزل تباعاً عليه من كتاب (الأفستا) (ثم زوده بتعاويذ وطلاسم تحميه من شر السحرة والشياطين.

وهكذا نجد ان للزرادشتية خصائص مذكورة في كتب التراث الفارسي منها مثلاً: ان هذه الديانة تقدس النار باعتبارها رمزاً للقوة الألهية وبذلك أسسوا معابد للنار سموها (هياكل النار) وعلى اتباع هذا الدين التوجه للنار او الشمس عند الصلاة، كذلك فإنها تؤمن بالحياة الأخرى بعد الموت ووجود مبدأ العقاب والثواب بحسب أعمال الإنسان. وذلك لأنها تعنى بالنواحي الأخلاقية وتدعو الى عمل الخير وتجنب الشرّ، ويعدون الله مصدر الحلال والإشراق. وتؤمن الزرادشتية بتعدد الزوجات لكثرة النسل ولذلك يقول عنها ابن الجوزي.. " انها تبيح زواج الأب من ابنته والأبن من امه والأخ من أخته. "

بعد هذا الانتشار للزرادشتية وبعد أن أصبحت الديانة الرسمية للأمبراطورية الساسانية طيلة أربعة قرون لعبت عوامل داخلية وخارجية دورها في انحسار هذا الدين حيث قتل زرادشت على يد الطورائيين الأتراك حين هاجموه وهو في أحد هياكل النار. أما العامل الثاني فهو دخول الأيرانيين الدين الأسلامي على أثر الفتح العربي الأسلامي لبلاد فارس في زمن الخليفة الثاني، الأمر الذي أدى الى هروب كثير منهم الى الهند، واليوم فهم يشكلون أقلية بين سكان ايران البالغ عددهم أكثر من (90) مليون نسمة ولا يتجاوز عددهم في ايران و ماحولها أكثر من (۳۰۰) الف نسمة، كما توجد أقلية منهم في كـــل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية.

***

غريب دوحي

 

ماذا يتبادر الى الذهن عندما ننظر الى السماء الصافية ليلاً؟ هل النجوم المشتعلة على بعد ترليونات الأميال من الارض والتي تقطع مسافة 186 ألف ميل في الثانية، ويستغرق ضوئها عدة سنوات للوصول الينا تجعلنا نشعر بالرهبة ام بالفضول ام بالاثارة؟

ام ان الحجم الهائل والغامض للكون يجعلنا نشعر بالغثيان وعدم الأهمية؟

واذا كنا نشعر احيانا ان اتساع الكون يجعل حياتنا بلامعنى، فان الفيلسوف روبرت نوزيك Robert Nozick(1938-2002) يجادل بان عظمة الطبيعة يجب ان تجعلنا نشعر بالارتباط الهادف.

في كتابه (الحياة المختبرة،1989) يكتب نوزيك:

"انه من بواعث الهدوء في الروح عندما نرى أنفسنا جزءا من عملية طبيعية واسعة ومستمرة. لنتذكر، مثلا، الوقوف بجانب محيط، نرى ونستمع للموجات الواحدة تلو الاخرى وبلا نهاية، مدركين ضخامة المحيط.

عندما نرى أنفسنا جزءا صغيرا من عملية واسعة ذلك يجعل موتنا غير هام، وغير مثير للقلق. عندما نتعرف على أنفسنا من خلال شمولية العمليات اللامتناهية للوجود، سنجد أهميتنا في ان نكون جزءا من تلك الكلية، وان موتنا ستكون له أهمية عابرة".

اذا ابتعدنا عن وجهات نظرنا الخاصة وتأملنا في حياتنا الفرعية (من منظور الأبدية)، فان قلقنا اليومي ومخاوفنا تفقد الكثير من زخمها، وسوف تتعمق أهمية الوجود .

التقلبات اليومية في المزاج هي مجرد قطرة، محيطات الوجود بقيت تتلاطم منذ بلايين السنين. نحن جزء من شيء أكبر بكثير – شيء سوف يستمر طويلا بعد موتنا.

لكن هل هناك أهمية للاجزاء التي نلعبها؟

ان اضافة هذا النوع من المنظور لحياتنا يساعد في التخفيف من مخاوفنا اليومية. وفي النهاية، سواء معنا او بدوننا، ستستمر المحيطات تتلاطم، الكواكب ستدور، النجوم ستتشكل وتحترق. كيف يمكن الشعور بالارتياح من عمليات واسعة وسرية تحكم الوجود اذا كانت الاجزاء التي نلعبها مجرد شيء لالزوم له؟ نوزيك يحاول الرد على هذا القلق. "عندما نأخذ من ضخامة الوجود كل شيء غير ضروري او يمكن استبداله فان الوجود المُختزل المتبقي ليس رائعا ابدا". ويستمر في القول:

"كلية الوجود وعملياته بمرور الزمن هي مدهشة جزئيا بسبب فائضها العظيم، ولهذا فان وجودنا، ووجود أشياء مثلنا، هو جزء مميز وثمين. وجودنا هذا تتخلله نفس القوانين العلمية والمواد الفيزيائية النهائية التي تشكل كل ما تبقى من الطبيعة، وهو جزء ممثل للطبيعة، نحن نجسد نطاقه ".

طبقا لنوزيك النظر الى أنفسنا كجزء من الطبيعة، عبر تشخيص أنفسنا كالكون، وعدم رؤية الكون كهوية منفصلة (تجدر الاشارة نحن صُنعنا من نفس اللبنات الأساسية كالنجوم)، اننا في نفس الوقت نهدئ القلق المؤقت للايغو ونعمّق أهمية وجودنا. نحن لسنا منفصلين عن الطبيعة، نحن الكلية.

الكون ليس منفصلا عنا، الكون هو نحن

موقف نوزيك يذكّرنا بفيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا. في عمله الأخلاق عام 1677، يجادل سبينوزا ليس دفاعا عن إله مجسّم، بل هو يقترح ان الطبيعة ذاتها إله. وكتعبير عن الطبيعة، نحن نشارك في هذه الالوهية. هذا المنظور له مضامين عميقة، كما تلاحظ الفيلسوفة المعاصرة هيلين دي كروز في مقال حديث حول فلسفة سبينوزا:

"حالما تدرك انك تعبير عن كلية الطبيعة، انت ستدرك انه بالرغم من انك ستموت، انت ايضا أبدي بالمعنى غير التافه..".

يستمر نوزيك بالقول: من الممتع حقا ان نكون جزءا من العملية، يجب ان تجعلنا نشعر بالقرابة مع كل ما في الوجود، انا أرى الناس ينحدرون من سلسلة من أسلاف الحيوان والانسان في سلسلة أحداث عشوائية غير مرقمة، لقاءات عرضية، انتزاعات وحشية، هروب محظوظ، جهود متواصلة، هجرة، نجاة من الحروب والامراض. كان من الضروري وجود سلسلة معقدة وغير محتملة من الأحداث لكي يُنتج كل واحد منا، انه تاريخ هائل يعطي كل فرد قدسية الخشب الاحمر، ولكل طفل نزوة السر. انه امتياز ان نكون جزءاً من العمليات وعالم الأشياء الموجودة.عندما نرى ونتصور أنفسنا كجزء من عمليات مستمرة، نحن نتعرف على الكلية، وفي هذا الهدوء، نشعر بالتضامن مع كل رفاقنا في الوجود".

وجودنا القصير قد يبدو عشوائيا او معزولا او غير هام، لكن فرادته تساهم باتجاه الكُل العظيم للطبيعة. عبر عيش الوجود بأحسن ما يمكن، نحن "نضيف جزءا مميزا خاصا بنا لعمليات الواقع الأبدية".

عندما ننظر مرة اخرى للسماء الصافية ليلا، عبر التأمل في مكاننا في الكلية – عبر الإعتراف الحقيقي باننا نستمر في وجودنا وفي ارتباطنا بكل ما موجود – سنجد أي شعور سابق بالانفصال او اللامعنى يختفي ويتبدد في محيط الهواء الشاسع فوقنا.

Philosophy Break, August 2023

***

حاتم حميد محسن

سؤال الإبدال الإعلامي الجديد

الإعلام كدرس إبدالي جديد، لا يمكن إلا أن يعيد تأسيس فهومنا الثاوية لبلاغة الخطاب، وتداولياته، وآفاقه الحجاجية والإقناعية. فهو إذ يتعبأ دوما إلى مجاورة المعرفة، وإبلاغها وتبادل خطاباتها، عبر لغة بيانية واضحة متينة كاشفة، تروم إنتاج نص واع ولذيذ، وبعين راصدة منكشفة على العالم وخلفياته الثقافية والاجتماعية والبيداغوجية، فإنه يصحو اليوم على مجموعة تحولات وتفاعلات متحلحلة، بأنساق واستيهامات وأسئلة متقاطعة، تحاول الكشف عن جملةً من الأسئلة المنهجية والمعرفية التي تتمحور حول علاقة الدرس الإعلامي بمجتمع المعرفة وتحولاته السريعة، وسرِّ تغير آليات خطابه في ضوء تطور معطيات تقيس مستويات انتظاراتنا بإزاء ما ذكر، ومدى قدرتنا على مسايرة التحديات، بطفرات الانتقالات المعولمة وجهوزية استقبالنا لها، وعلاقة انخراطنا في تشكيل وعي حافزي لتلقيها واستثمارها.

يشكل هذا المنطق الثقافي لسؤال الإبدال الإعلامي الجديد، امتدادا لتشكيلة انصهار أدوات لغوية وبلاغية وسيميائية ذات صلة، تتوازى في هيكلتها العامة، مع نواظم معرفة الإعلام وإوالياته، حدوده وامتداداته، بل وحضوره الاستدعائي، في روح النص ومعانيه وتجويفاته. وهو ما يضعنا أمام تشكيلة كاملة في منحنيات النص البلاغي أو تحليله الخطابي، والذي تتداخل فيه "معرفة النص" ب" خطاب الصورة" (يمكن أن تكون صالحة للصَّوت المنطوق، والصورة الإشهارية (خاصة عند رولان بارت)، وأنواعها ودلالاتها في مجتمع الإعلام والوساطة الإعلامية، وآليات تحليل الخطاب (الإعلامي)، بفن الإقناع في مكوناته وتقنياته لاستنباط الحجج ومعالجتها وبالمقاربة الحجاجية ذات الحس الإعلامي المتاخم للتصورات التي تستحضرها علامات الكتابة المعلومة في أسئلة البرهان الإعلامي المعلوم بالضرورة:

- من.. من الذي لعب الدور في وقوع الحدث (المعنى المفهومي لتقديم الخطاب الإعلامي)

- متى.. زمن وقوع الحدث (المعنى الإشكالي لتخصيص الزمن الإعلامي)

- أين.. مكان وقوع الحدث (المعنى الرصدي لتقديم وتعبئة الخطاب الإعلامي وخلفياته)

- ماذا.. ماذا حدث (المعني التعبيري الذي يصب في الأسلوبية)

- كيف.. تفاصيل الحدث (المعني الحجاجي الإقناعي الذي يصب في التداولية الإعلامية الحديثة)

- لماذا.. أولويات أو خلفيات الحدث (المعنى التوسيعي لتنويع الخطاب واستجلائه).

يجسد هذا التجاور التحصيلي، نوعا من الارتباط بوظائف بلاغة الخطاب الإعلامي، وتشكلاته الجديدة في مضمار ما تطرحه السيميائيات النصية الحديثة التي قادها الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان ومواطنته لوسي أولبيرخت تيتيكاه والروسي غريغوري بيرلمان خصوصا فيما يتصل ببلاغة الصورة وبعدها الحجاجي الإقناعي . أو ما تتقاطع بإزائها مع مدلولات النص المنظور، على اعتبار تحديد خطابه واستدعائه وتصنيفه، وهو ما يوازي في الصميم والعمق، تحميل الخاصية الخطابية الإعلامية هذا التحول في بيانه وتبيانه. وأستحضر هنا قولة شهيرة لأوليفيي روبول، من "أن وحدة الخطاب، إنما يخلقها مُؤَلِّفُهُ: هو من يُقرِّرُ ما يتَحَدَّثُ عنه، وهو من يقرر متى يبدأ خطابه ومتى ينتهي، وهو من يقرر أن يكتب مصنفاً، أو دراما، أو رسالة أو حكمة بسيطة "1. وبمعنى أدق، فالخطاب الإعلامي ينبري لاختيار طريقة تموقعه في البراديجم المجتمعي، على خلفية النشر/ المعرفة، ثم الرصد والتحليل، وكذا التعليق والتحقيق، والتأويل والاستدراك.. بآليات خطابية إقناعية مدروسة ومستكنهة للزوميات الواقع والحدث، وبخلفيات وأساليب بيانية عديدة.

لن أدخل هنا في جدال المفاهيم الفلسفية المتعلقة بالخطابة وقول الخطاب وعلاقة ذلك بالحجاج واستعمالات اللغة، والذي يكرس تنوعا تاريخيا ومعرفيا بالحقل البلاغي الخطابي، والذي تداخلت فيه نظريات واعتبارات متداخلة، كالتفكير في الخطاب والخطابة والبلاغة والحجاج انطلاقا من منظور قيمي لدى أرسطو و بيير دو لارامي، أو علاقات صناعة الخطابة الجديدة بنظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان. وكلها أو بعضها يشكل بنيات أفقية منذورة بالضرورة للخلفية الخطابية في وضعية الإعلام، كما يجب أن يكون، لا كما أريد له. وهي حتما، تمثل بالنسبة للأكاديما الإعلامية أرضا خصبة للتلاقح البيني، ووعاء متساوقا والمعارف الأخرى، والتي تقتدر التأسيس المفهومي والاستبصار الدلالي، بنفس القيمة والاعتبار الذي تصير فيه جدارا للوقاية من آفات السقوط اللغوي والبلاغي والسيميائي.

وأعتقد أن بيرلمان يحاجج في ذات المسار، عندما يتفاعل مع هذا المعنى، إذ "ما دام الحجاج يَتَغَيَّا التأثير في مُسْتَمَعٍ ما وتعديل قناعاته أو استعداداته بواسطة خطاب ما يوجه إليه ويسعى إلى كسب تصديق العقول بدل فرض الإرادة بالإكراه أو بالترويض"2). والمستمع هنا، هو في نفس الآن، ناظر ومستدل، ومتلقي ومعاين ومستقر الرؤية. على اعتبار المحاججة المدعومة بآليات الإقناع والتوصيل المعرفي، مبتعثة، لعدم سقوط القارئ في تأويل مغلوط أو فهم مخطوء، أو حتى انزياح عن المعنى الذي يقصد منه نشر الحدث الإعلامي.

الإعلام الاجتماعي: بنية إعادة الإنتاج

مثلما هو الحال بالنسبة لمنظومة الخطاب في التعليم والتربية، يمكن تأويل طبيعة النظام الإعلامي الذي يعكس في العمق علاقات القوة والهيمنة والصراعات الثقافية والرمزية، وجود التقائية قيمية بين الحقلين، يرتكنان إلى بنية إعادة الإنتاج وتحقيقاتها المختلفة، من منطلق دراسة العلاقات المتبادلة بين التجاذبات الرقمية الجارية في المجتمع وبين النظام الإعلامي في شكله الجديد المرتبط بالطفرة الاجتماعية المتحولة.

نلمس هذا الاعتبار الجدير بالتأمل والتطوير، في نظرية بيير بورديو حول فاعلية الهابيتوس، ومركزيته في النسق السلوكي الفرداني وجهوزيته أو قابليته لاكتساب المقدرات التي تكون بواسطتها عمليات التحفيز والاقتراب من حدود التعلمات الاجتماعية (بحسب بورديو). وهو ما يفرض تمكين الهابيتوس من الموازنة بين العلاقات الموضوعية والسلوكات الفردية، مع خلق القيمة، فيما يدرج في خانة الاستعدادات المكتسبة، التي تتقاطع فيها أنساق الضوابط الموضوعية والتصرفات القابلة للملاحظة المباشرة، حيث تتداخل الأطراف كوسائط ، ليبرز مركز الالتقاء الهندسي للحيثيات و تحديد الاحتمالات والخطوط المعيشة، للمستقبل الموضوعي و المشروع الذاتي الطابع (3).

نفسها الثقافة الإعلامية، يمكن أن تنتج مجتمعا مترابطا بنطاق برامجه التعلمية وتأثيراتها على مستوى الاختيارات البيداغوجية، دون الحديث عن العنف الرمزي الممارس ضد الجماعة الأولية للفرد (الأسرة)، حيث يصعب تدبير الاختلال في غياب نظام إعلامي قيمي، محصن للأخلاقيات الاجتماعية ومناضل ضد الهيمنة والثقافة السائدة.

ويصير هذا الإعلام الاجتماعي، في حاجة ماسة إلى تربية نافعة، وتحصيل صيروري معصرن، لا يتأثر بحالات ظرفية أو بروز ظواهر مستعصية على الفهم. بل يتوق إلى جعل المناط الأخلاقي في توجهاته إلى أولوية أيديولوجية أو فاعلية فكرية ثقافية، ويمكن هنا التذكير بمرجعية بورديو في السياق عينه كون" نجاح أي تربية مدرسية وبصورة عامة، نجاح كل عمل بيداغوجي ثانوي، يتوقف أساسا على التربية الأولية التي تسبقه، وخاصة حينما ترفض المدرسة هذه الأولية في إيديولوجيتها وممارستها، وذلك بجعل التاريخ المدرسي تاريخا بدون تاريخ قبلي" (4)، كالقيمة نفسها، التي توجه مسلكيتنا لاستقبال الإعلام الاجتماعي، الذي هو رأسمال ثقافي ينزاح عن جملة اعتبارات نعاود فيها قياس نفس نتائج إنتاج التعسف وخرق قيمة الإنتاج الحقيقي.

فما العمل؟

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

............................

هوامش:

1 ـ أوليفيي روبول، مدخل إلى الخطابة، ترجمة: رضوان العصبة، أفريقيا الشرق-المغرب، 2017. ص 67

2 ـ شاييم بيرلمان، الإمبراطوريَّة الخَطابِيَّة صناعة الخطابة والحجاج، ترجمة: الحسين بنوهاشم، دار الكتاب الجديد المتحدة 2022، الطبعة 1 /2022، ص 91

3- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 49.

4- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 121.

الجغرافيا لها دور هام في تشكيل الأحداث التاريخية، المناطق الجغرافية المختلفة، مثل الجبال أو الأنهار، يمكن أن تؤثر على الصراعات، الهجرات، والتجارة، مما يؤدي إلى انتاج سرديات تاريخية متنوعة تتمحور على جغرافيا المكان الواقعي والمتخيل، كذلك المناطق التي تعرضت للاستعمار أو التأثيرات الخارجية غالبًا ما تخلق سرديات تاريخية يتميز بعضها بالتشويش، يساعد الشك الفلسفي في تحليل كيف أن هذه التأثيرات قد تحرف الحقائق التاريخية وتؤدي الى خلل في الصورة وبالتالي تؤدي الى تخلف الذاكرة الجماعية، و يمكن أن يؤدي إلى جدل حول ما يُعتبر تاريخًا موثوقًا تسجل من خلاله التحولات السياسية في منطقة ما اوقد يؤدي إلى إعادة كتابة التاريخ، الذي يستدعي الشك في الروايات المقدمة، تحليل هذه التحولات من منظور جغرافي يمكن أن يكشف عن دوافع سياسية خفية .من خلال فهم الجغرافيا يمكننا تحليل كيف تؤثر العوامل البيئية والثقافية على انتاج السرد التاريخي وفهمه. الشك الفلسفي هو اتجاه يتبنى التساؤل عن الحقائق والمعارف، تعود جذوره إلى فلاسفة مثل ديكارت، الذي استخدم الشك كوسيلة للوصول إلى يقين، يتحدى الشك الفلسفي الافتراضات السائدة، مما يفتح المجال للنقاش في التجديد الفكري، المعرفة، والمعتقدات، ويعزز من أهمية التحليل مما يساعد في الكشف عن التحيزات والأجندات التي تؤثر على كيفية تقديم السرديات التاريخية، كما ويشير إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و البيئية التي ساهمت في تشكيل السرديات التاريخية للشعوب. الإفراط في الشك يؤدي إلى إنكار الحقائق رغم ان دراسة دور السياق الجغرافي له أهمية في التحليل النقدي لفهم الأحداث التاريخية، من خلال هذا التفاعل يمكن أن نحصل على رؤى أعمق وأكثر شمولية لفهم السرديات التاريخية.

فعالية الشك الفلسفي

يعتبر الشك الفلسفي في السرديات التاريخية من المواضيع المهمة التي تساهم في إعادة تقييم الأحداث التاريخية وفهمها بشكل أعمق، يعتمد هذا الشك على مجموعة من الأساليب الفلسفية التي تهدف إلى تحليل السرديات التاريخية وإرجاعها إلى مصادرها الحقيقية، يتضمن دراسة النصوص التاريخية بعناية، مع التركيز على السياق الذي كُتبت فيه والجهات التي كتبتها والأهداف المحتملة وراء كتابتها من خلال مقارنة عدة روايات، تحديد التناقضات واستخلاص الحقائق الأكثر موثوقية تطبيق أساليب البحث العلمي في دراسة التاريخ، مثل جمع البيانات وتحليلها، مما يساعد في الوصول إلى استنتاجات مدعومة بالأدلة، يعزز الشك الفلسفي من قدرة المؤرخين والباحثين على تقديم سرديات تاريخية أكثر دقة وموضوعية كما يساعد في الكشف عن الروايات المهمشة أو المنسية مما يساهم في إثراء الفهم التاريخي، إن فعالية الشك الفلسفي في السرديات التاريخية يمثل أداة قوية لإعادة تقييم التاريخ وفهمه بشكل أكثر عمقًا وموضوعية، مع التركيز على كيفية تحليل هذه السرديات وفهمها بشكل أعمق.

جغرافيا المكان والمنهج الظاهراتي

المنهج الظاهراتي يعد من المناهج المهمة في دراسة العلوم الإنسانية، حيث يركز على فهم الظواهر كما هي في تجربة الأفراد. في السياق التاريخي، يتناول هذا المنهج كيف يؤثر المكان – بجغرافيته وثقافاته – على السرديات التاريخية وكيف يمكن أن يثير الشك في المكان وكيف تؤثر البيئة الجغرافية على الأحداث التاريخية. فمثلاً، التضاريس والموارد تلعب دورًا في تشكيل المجتمعات وسردياتها، تختلف السرديات التاريخية من مكان لآخر، مما يؤدي إلى وجود تباينات في الروايات والطريقة التي تُروى بها الأحداث، تلعب الجغرافيا دورًا مهما في تشكيل الذاكرة الجماعية، حيث يمكن أن تعزز أو تقلل من تأثير الأحداث التاريخية بسبب اختلافات المكان، ان وجود تباين في الروايات، يثير تساؤلات حول صحة هذه السرديات. يدفع المنهج الظاهراتي الباحثين إلى إعادة التفكير في الروايات التاريخية التقليدية واستكشاف تجارب الأفراد ويجسد أهمية المكان في تشكيل السرديات التاريخية، من خلاله، يمكن استكشاف كيف تؤثر الجغرافيا على فهمنا للتاريخ وكيف يمكن أن يثار الشك في بعض الروايات المقترحة، يعتبر المنهج الظاهراتي أداة قوية لتحليل الشك الفلسفي في السرديات القديمة، حيث يسهم في فهم كيفية تشكيل التجارب الفردية والمعاني من خلال النصوص ويتيح دراسة كيف تؤثر التجارب الشخصية للأفراد من خلال علاقتهم بالمكان في فهمهم السرديات التاريخية كما يساعد في الكشف عن التباينات في التفسير والتفاعل مع النصوص بناءً على خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة مما يعزز من قدرة الباحثين على استكشاف المعاني المتعددة التي يمكن أن تتضمنها السرديات القديمة ويساهم في فهم كيف يمكن لنفس السردية أن تُفهم بطرق مختلفة بناء تحرك المكان .

السرديات التاريخية من منظور جديد

تتغير السرديات التاريخية مع تغير السياقات الثقافية التقليدية هذا يعتمد على التجربة الإنسانية ويساهم في إظهار روايات مهمشة أو منسية التي قد تحتوي على رؤى قيمة ويمكن القول إن المنهج الظاهراتي يوفر أداة فعالة وقوية لتحليل الشك الفلسفي في السرديات القديمة، مما يعزز من الفهم العميق للتجارب الإنسانية ويكشف عن التعقيدات الكامنة في النصوص التاريخية، يتميز هذا المنهج بعدة جوانب تجعله فريداً في تحليل الشك في السرديات التاريخية مقارنةً بالمناهج الأخرى حيث يركز على كيفية فهم الأفراد للأحداث والمعاني مما يعكس التنوع في الفهم الشخصي للسرديات، قد تركز بعض السرديات على السياقات الاجتماعية أو السياسية دون التعمق في التجارب الفردية، المنهج الظاهراتي يتجنب فرض نظريات مسبقة مما يسمح للكلمات والمعاني بالظهور بشكل طبيعي من خلال التجربة وان اعتماد نظريات فلسفية أو اجتماعية محددة قد يحد من المرونة في التحليل، المنهج الظاهراتي يعمل على تفكيك السرديات لفهم كيفية تشكلها ومعانيها والمؤثرات السياقية التي تداخلت في انتاجها ومنها التحيزات الجغرافية، مما يساعد في كشف التحيزات التي تركز على تحليل النصوص بشكل عام دون النظر الى كيفية بناء المعاني، يوفر المنهج الظاهراتي أداة فريدة لفهم الشك في السرديات التاريخية من خلال التركيز على التجارب الفردية وتعدد المعاني مما يجعله مكملاً مهماً للمناهج الأخرى ويشجع هذا على تطبيق المنهج على السرديات التاريخية المقدسة كما يمكن أن يوفر رؤى عميقة حول كيفية تأثير الجغرافيا على المعاني وتفسيرها مما يسهم في فهم أعمق للأبعاد الروحية والثقافية لهذه النصوص، ان تطبيق المنهج الظاهراتي على دراسة اللغة في السرديات التاريخية يمكن أن يساعد في فهم كيفية تشكل اللغة والتجارب الفردية في السرديات التاريخية ويتيح هذا المنهج دراسة كيفية استخدام اللغة لنقل التجارب الروحية أو الثقافية، كما يساهم في استكشاف المعاني المتعددة التي تحملها الكلمات والتعابير و يعكس كيف يمكن أن تُفهم السرديات بطرق مختلفة بناءً على السياق الجغرافي في تحليل كيفية بناء الجمل والصيغ اللغوية، مما يكشف عن التحيزات الثقافية أو التاريخية في النصوص، يمكن للمنهج الظاهراتي أن يسلط الضوء على مدى تأثير الثقافة والبيئة الاجتماعية على استخدام اللغة في السرديات التاريخية ويتيح دراسة كيفية تفاعل الأفراد مع النصوص اللغوية مما يساعد في فهم كيف تشكل اللغة فهما للأحداث التاريخية، كما يمكن أن يوفر تطبيق المنهج الظاهراتي على لغة السرديات التاريخية رؤى عميقة حول كيفية تأثير الجغرافيا على اللغة في تشكيل المعاني والتجارب مما يسهم في فهم أعمق للسرديات وتفسيراتها.

***

غالب المسعودي

نميل إلى الاعتقاد بأن العقل كيان محايد، يُصدر أحكامه بمعزل عن تأثيرات المحيط. لكن واقع الحال أن العقل ليس إلا مرآة مصقولة بما تراكم عليه من عادات المجتمع، وتقاليده، ونُظمه غير المرئية.

هذا القول لا يعني غياب الحقيقة، بل تشظيها. فالصحيح، في أغلب الأحيان، ليس مطلقًا، بل نتاج زاوية نظر، موقع جغرافي، عبور تاريخي، أو حتى انفعال عابر. لكن حين يتحول هذا “الصحيح” إلى معيار معرفي أو أخلاقي عام، تُطمس النسبية خلف ستار من الوثوق.

العقل، حين يعتقد أنه عقل

منذ سقراط، ونحن نؤمن أن العقل قادر على الوصول إلى الحقيقة من خلال الاستدلال. لكن سقراط نفسه لم يترك لنا أجوبة، بل أسئلة، وأكثرها مراوغة كانت: “هل تعرف أنك لا تعرف؟”

نظن أن العقل محايد، لكن في الحقيقة هو مثقل بالبنية الثقافية والاجتماعية التي تشكله. خذ مثلًا مراهقًا نشأ في حيٍّ محافظ ببلدةٍ صغيرة، حيث يُنظر إلى الصمت في النقاشات العائلية كعلامة على الاحترام والنضج، والتدخل في شؤون الآخرين كنوع من الوقاحة. هذا الشاب يتعلم أن الامتناع عن الكلام حكمة، وأن الفرد لا ينبغي أن “يتطفل” برأيه في القضايا العامة.

على الطرف الآخر، مراهق آخر نشأ في بيئة مدنية ذات طابع منفتح حيث يُشجّع الأطفال على إبداء الرأي، ويُعتبر التعبير الصريح عن الذات جزءًا من التكوين الشخصي السليم. بالنسبة لهذا الشاب، الصمت علامة ضعف، والحياد موقف غير أخلاقي.

الاثنان يستخدمان العقل، والاثنان يظنان أنهما يتصرفان بمنطق. لكنّ كل واحد منهما يعمل داخل منظومة معرفية (episteme) مختلفة، وفق تعبير ميشيل فوكو.

ما يبدو “حكمة” هنا هو “جبن” هناك. وما يُعد “جرأة” هناك هو “وقاحة” هنا. الحقيقة ليست فقط فيما يُقال، بل في الشروط غير المرئية التي تحدد كيف يُقال، ومتى، ولماذا

العقل لا يعمل في فراغ، بل في سياق. وبهذا المعنى، كل عقل يخلق منطقه، وعالمه، ومصطلحاته، وأوهامه. ما نعتبره برهانًا في ثقافة معينة، قد يبدو خرافة في أخرى. وليس هذا تق relativism أخلاقي، بل توصيف دقيق لحالة المعرفة.

المثال الساحر: الشمس التي لا تحترق

تخيل نفسك في مجتمع متخيل يُدعى “أرثوس”، حيث سكانه يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تحميهم من حرارة الشمس. داخل القبة، الجو معتدل دومًا. أطفال أرثوس لا يعرفون شيئًا عن الحر. الشمس عندهم كرة مضيئة جميلة، رمزية للحكمة، لا تُؤذي ولا تُحرق. في مناهجهم الدراسية، يقرأون عن “أسطورة الشعوب القديمة” التي اعتقدت أن الشمس حارقة. يضحكون على هذه الحكايات كما نضحك نحن على أسطورة الأرض المسطحة.

الآن، لو زار أحد سكان أرثوس منطقتنا، وشعر لأول مرة بحرارة الشمس، هل سيُكذّب حواسه أم يُعيد التفكير في منظومته كلها؟

من ناحيته، هو لم يكن “جاهلًا”، بل كان صادقًا ضمن عالمه المعرفي. “الشمس غير حارّة”، كان ذلك “صحيحًا”… جزئيًا.

الاستدلال بين التجزئة والانحياز

نحن لا نستدل من فراغ. كل استدلال مبني على مسلمات، وغالبًا لا نُراجع تلك المسلمات. في السياسة مثلًا، قد نرى رأيًا يبدو عقلانيًا، لكنه مبني على افتراضات غير مفحوصة. عندما يقول أحدهم “نحتاج المزيد من الأمن”، يبدو ذلك منطقيًا. لكن ماذا لو كانت فكرة “الأمن” نفسها مبنية على خوفٍ مزروع ثقافيًا من الآخر؟ من المهاجر؟ من الفقير؟

هنا يطرح العرفان سؤالًا معقدًا: هل نحن نستخدم العقل لنفكر، أم لنبرر؟ الباحث الأميركي جوناثان هايدت يشبه العقل بفارس على ظهر فيل: الفارس يظن أنه يقود، لكن الفيل (أي العاطفة والانحياز الثقافي) هو من يحدد الطريق، والفارس يبرر فقط.

من المعرفة إلى “اللايقين المنتج”

نحن لا نحتاج إلى يقين أكثر، بل إلى “لايقين منتج”، لايقين يسمح لنا بفهم أن ما نراه صحيحًا ليس بالضرورة خاطئًا عند الآخر، لكنه ليس “الصحيح المطلق” أيضًا.

خذ مثالًا من تاريخ العلوم: لفترة طويلة، كانت قوانين نيوتن هي “الحقيقة”. ثم جاء أينشتاين، فانهارت جزئيًا، ولم تُلغَ. نيوتن لا يزال يعمل في أنظمة معينة، لكنه “صحيح” جزئيًا. حتى العلم، بكل دقته، يعترف بأن الحقيقة متغيرة، مؤقتة، ومحكومة بشروط السياق.

هل يمكن أن نتحدث عبر الثقافات؟

هنا نصل إلى السؤال الحرج: إذا كان كل شيء صحيحًا جزئيًا، فهل يمكن أن نتواصل حقًا؟ أم أن كل ثقافة محكومة بمنطقها؟

الجواب المقلق والمُلهم في آن: نعم، يمكن، ولكن ليس عبر فرض الحقيقة، بل عبر فضيلة الاستماع. الاستماع لا بوصفه إجراءً أخلاقيًا، بل معرفةً في حد ذاته. أن تستمع يعني أن تعلّق حُكمك، أن تترك هامشًا للدهشة، أن تعترف بأنك ربما كنت مخطئًا… أو جزئيًا على الأقل.

الصحافة الجيدة تعرف هذا. هي لا تقدم يقينًا، بل “إضاءةً” تسمح للقارئ أن يرى زوايا أخرى. لهذا السبب، يظل الصحفي النزيه أقرب إلى الفيلسوف منه إلى المبلغ.

في النهاية، حين يخبرك أحدهم أن الشمس ليست حارّة، لا تسخر فورًا. اسأله: “من أي قبة أتيت؟” فقد يكون كلامه صحيحًا… جزئيًا..

***

بقلم: ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي

ما أشاهده غالبا في عملي اليومي كمعالجة ومستشارة أسرية، هو ما يواجهه الأهل، الآباء والأمهات، من تحديات في التعامل مع أبنائهم وبناتهم. حيث تتكرر الأوامر والتعليمات والتوجيهات دون استجابة من قبل الأطفال، مما يؤدي إلى الإحباط والتوتر وخلق جو متشنج ومزعج لكلا الطرفين. لكن برأيي وخبرتي في هذا المجال، إن التربية يمكن أن تكون أكثر سهولة ومتعة إذا تعلمنا كيف نخاطب عقل الطفل-ة، ومشاعرهما معا في آن واحد.

ومن الآليات اليومية المستخدمة والأكثر فاعلية في الحياة اليومية للأسر، والتي أستخدمها معهم:

1. تقديم خيارات متنوعة بدلًا من إعطاء الأوامر

من الأساليب الفعالة أن نقدم للطفل-ة خيارات بسيطة بدلًا من إصدار أوامر قاسية ومباشرة. فعندما نقول: "هل تفضلين القميص الوردي أم البنفسجي؟" بدلًا من "ارتدي هذا القميص"، أو "هل تختار أن تغسل يديك بالصابون السائل أم العادي؟" بدلًا من "يجب أن تغسل يدك الآن"، أو "هل ترغبين بأكل التفاح أم الموز؟" عندما تطلب الطفلة أشياء غير صحية كالحلويات، في هذه الحالة يشعر الصغير-ة بأنه جزء من القرار، مما يعزز التعاون والاستقلالية، ويتم تغيير تركيزه أو تركيزها من التوجيهات والأوامر إلى التركيز على الاختيار، ويُمنَح شعورًا بأهميته أو أهميتها.

2. تحويل الواجبات إلى لحظات لعب ومرح

من إحدى الطرق الأخرى للتعامل مع الطفل-ة، تحويل المهام والواجبات اليومية إلى لحظات مليئة باللعب والمزاح. وبهذه الطريقة نصل إلى الطفل-ة بسهولة أكثر مما نتصور، مثل: "من سيلتقط ألعابه أو ألعابها أولًا؟" أو "هل يمكنكِ الوصول إلى السرير قبل أن أعد للعشرة؟". اللعب ليس فقط وسيلة للمتعة، بل أيضًا أداة تربوية تعزز التفاعل والاستجابة، وتخلق جوًا مليئًا بالحب والطمأنينة والاستقرار.

3. تشجيع الطفل والطفلة على تبني الفكرة

بدلًا من فرض الأمور، يمكننا تحفيز الطفل-ة ليشعر أو تشعر أن الفكرة نابعة منه أو منها. مثال: عندما يرفض الطفل-ة الأكل الصحي وذو القيمة الغذائية، يمكن أن نقول: "هل تريدين أن تصبحي قوية مثل البطلات؟ البطلات يأكلن هذا الطعام!"، أو عندما يرفضو القيام بالواجبات المدرسية: "ما رأيكم أن يشرح كل منكما لنا الدرس بعد إنهاء الواجب؟ نحن متشوقون لسماع ما تعلمتم!". عندما يتبنى الطفل-ة الفكرة بنفسه أو نفسها، سيبتكر أو ستبتكر في إنجازها بدون صعوبة.

4. التعلم من النتائج المتعاقبة

عندما يرفض الطفل-ة اتباع التوجيهات، لا داعي للتهديد أو الصراخ أو تحويل أجواء البيت إلى الرعب وانعدام الأمان، بل الأفضل السماح له أو لها بخوض التجربة. كأن نقول: "إذا خرجتِ بدون معطف، قد تشعرين بالبرد وتتمرضين وتُحرمين من المشاركة في نشاط ترغبين به... ما رأيكِ؟" أو "إذا لم تُرتَّب الألعاب وتُوضَع في مكانها المخصص، قد تضيع أو تنكسر، هل تود أو تودين الاحتفاظ بها؟". هنا نعطي الطفل والطفلة مسؤولية تصرفاتهما بشكل مفهوم وواضح.

5. التحفيز الإيجابي وتشجيع السلوك الإيجابي والهادف

من الطرق الأكثر فاعلية في تربية الأطفال، المدح الصادق والمؤثر، فهو يصنع فرقًا كبيرًا ونتائج إيجابية غير متوقعة. بدلًا من قول: "لا تصرخ!"، نقول: "صوتك الهادئ جميل، أحب أن أسمعه هكذا"، وبدلًا من: "اجلس لتأكل"، يمكن أن نقول: "أنا واثق أنكِ ستنهين طعامك وستكونين قوية جسديًا وذكية في المدرسة!". هذا النوع من الخطاب يغرس الثقة والطمأنينة في نفوس الأطفال، ويساعد في نموهم بشكل سليم.

6. التخاطب مع الأطفال ونحن في تواصل بصري معهم

من الضروري جدًا عندما نخاطب الأطفال، أن نكون في تواصل بصري وتقارب جسدي معهم. مثلًا، عندما نطلب من الطفل-ة أن وقت النوم قد حان، ويجب أن يُحضّر أو تُحضّر نفسه/نفسها للنوم، لا يكون ذلك فعالًا إذا كنا مشغولين بمكالمة هاتفية أو بمتابعة فيلم أو مسلسل. المخاطبة بهذه الطريقة تكون غير فعالة، والطفل-ة لا يأخذ التوجيه بشكل جدي بل يتجاهله أو تتجاهله تمامًا.

التربية الحديثة والناجحة في عالم اليوم لا تقوم على فرض السيطرة أو تكرار الأوامر أو استخدام الصراخ والعقاب، بل على الفهم العميق لاحتياجات الطفل/الطفلة، واحتضان مشاعرهم، واحترام كينونتهم الإنسانية المستقلة. عندما نُعامل الطفل-ة كشخص له صوت ومكانة، يشعر بالأمان، وتُبنى بيننا وبينه جسور من الثقة والمحبة. وحين نتيح له أو لها الفرصة لخوض التجارب، وتحمل المسؤولية، واختبار نتائج قراراته أو قراراتها، فإننا لا نُربي فقط أطفالًا مطيعين، متذبذبين، وغير واثقين من أنفسهم، ويصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم خارج البيت، بل نُربي أفرادًا مستقلين، قادرين على التفكير، واتخاذ القرار، وبناء علاقات صحية ومستقرة. اللغة اللطيفة، والنظرة المتفهمة، والمساحة الآمنة، هي أدوات أقوى بكثير من أي توجيه قسري. ومتى شعر الطفل/الطفلة بأن التوجيه نابع من حب واهتمام حقيقي، فإنه يتحول من أمر يُفرض عليه إلى رغبة صادقة في المشاركة والتجاوب.

***

بيان صالح

.......................

ملاحظة: أحاول قدر الإمكان استخدام لغة تخاطب شاملة لكلا الجنسين، لا تقتصر على جنس واحد فقط.

مصادر عربية

1. الجزيرة نت – كيف تربي أطفالك؟ إليك أهم أساليب التربية الحديثة

https://www.aljazeera.net/women/2022/10/22/

2. كيف-تربي-أطفالك-إليك-اهم-أساليب

3. BBC News عربي – طرق فعالة للتواصل مع الأطفال

https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-53355785

4. يونيسف مصر – كيف نربي أبناءنا من 7 إلى 12 سنة

https://www.unicef.org/egypt/ar/raising-younger-children

مصادر دنماركية

1. EMU.dk – Kort om KOS: Kvalitet i Overgangen til Skole

https://emu.dk/sites/default/files/2021-03/8126%20EVA%20SPL%20T07%20Kort%20om%20KOS_WEB%20FINAL-a.pdf

2. Anerkendende Kommunikation – Brug anerkendende kommunikation når du taler med dit barn

https://anerkendendekommunikation.dk/foredrag/brug-anerkendende-kommunikation-naar-du-taler-med-dit-barn

نحن لا نود أن نجادل في هذا المقال الطائفة التي ساهمت في الأحداث السياسية بقدر غير يسير، على أنه لم يُقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، ولكن الأمر الذي ينبغي أن نلتفت إليه أشد الالتفات، أن هذه الطائفة  التي تبغض الثقافة العربية، وتزدريها ازدراءً لا حد له، نست أو تناست أن اللغة العربية هي التي مكنتها من أن تعبر عن أخفى عواطفها، وأدق خلجات نفسها، في كل صور الحياة وأشكالها، بلسان عربي مبين، ولا تجد في ذلك مشقة أو عناء،  فلماذا تود هذه الشرذمة أن تصور لغتنا  الخالدة بعد كل هذا  بأنها مستبدة، طاغية، شائهة الخلق؟؟.

إن الحق الذي لا مرية فيه، أن  الثقافة العربية التي ارتاح إليها ضميرنا القومي، وأذعن لها، هناك زمرة لا تجد ضيراً ولا غضاضة، من أن  تجردها من كل خير، وترميها بكل خزاية، فكرست جهودها، وصرفت قواها، لأن تجتث شأفتها، وتذهب بها إلى مصير مجهول في هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، فأفاضت في نقدها، وذمها، وادعت بأن السودان لم يتصدع بنيانه، وتتداعى أركانه، إلا لهيمنتها ونفوذها الطاغي، وتأثيرها في جوانب حياته المختلفة، فاستحالت ألسنة هذه الكوكبة إلى شكوى يطن في الآفاق طنينها، ويئن في الأجواء أنينها، كما قال أحد أدباء العربية، فمن الترهات الشائعة، أن الثقافة العربية بما تضمنته من هيبة، وبما بلغته من وقار،  الثقافة الذي أنعشت قاطني هذه الديار من الخمول، وأخرجتهم عن الجهالة، هناك من يزعم بأنها ثقافة بشعة مبطنة بالجمال، ثقافة متجهمة قاطبة، لا تشتمل إلا على بؤس، ولا تنطوي إلا على شقاء، لأنها ارتبطت بالحكم والسلطة السياسية، ولأن سدنتها الذين نشروا مذهبها الأسود بين الناس، أفرطوا في اقصاء رصيفاتها اللواتي لم يجدن من يذود عنهن، ويدفعهن في طريق النهوض.

إذن الثقافة العربية لا تستطيع أن تقوم بمهمتها كما يتعين، إلا إذا نالت قسطاً وافراً من الكبت والتنكيل بغريماتها، وسدنتها الذين يتلقون وحيها، ويبثون دعوتها، عرفوا بالطبع ميلوها فسايروها، ونفوحها بما تستطيب من عسف وشدة، هذه المزاعم التي ما زالت تقدم إلينا   في سياقات واهية، وتراكيب هشة، وحجج متناقضة، كان أجدى على الانتساب الوطني، وأعود على النسيج المجتمعي، أن نتفاداها، لأنها تعوق الروح الانسانية، التي مناط تأثرها يكمن في الألفة والتكاتف، وفي هذه الجملة تتجلى الحيطة في التنحي عن بحث هذا النزاع، فأنا لا أريد أن إدعّي أن كل الثقافات السائدة في السودان خافية خاملة، لا يعرف لها شأن، ولا تظهر لها قيمة، إلا في دائرة محدودة، تختنق في مجثمها إذا تجاوزت هذه الحلقة، إذاً الحقيقة التي لا تقتضي بالضرورة زمناً حتى ندركها، أن الثقافة العربية لم تمتد أو تستطيل في هذه الديار، إلا لأن الإسلام كان واعظاً ومرشداً وهادياً لها، هذا هو سر شيوعها وتمددها الذي لا تضعضعه مخاشنة أو جحود أو مكابرة.

ستظل الثقافة العربية يداً نصافحها، وصدراً نلتقيه فنحتضنه، لأنها بسطت أدوات الحياة العملية والسياسية في مجتمعات تسود فيها رسوم العاج، ويتخللها التبلدي والأبنوس، وتكثر فيها القواقع والرخويات والصدف، وستظل قبائل الشمال والوسط التي ترمى الآن بالفاشية والنازية والبلشفية، على شرها وظلمها وشهواتها، غير نافرة من هذه الثقافة، ولا متمردة عليها، هذه القبائل التي ضاعفت جهودها، من أجل صد هذا العدوان الجارف، هي وقبائل الشرق والغرب، الذين شعروا بأن عصابات الشر، الشره يتزايد عندهم، ويدفعهم إلى التقدم، فاتكئوا على دينهم، وركنوا إليه، ولم يجدوا سبيلاً إلى الشك في أن الله ناصرهم،  قبائل الشمال والوسط التي تكالبت على الملذات والصغائر في نظر تلك الفئات، لن نزيح ستاراً كان مسدولاً، إذا انتحلنا رأياً يفيد بأنهم بعد كل هذه البلايا والجوائح التي تعرضوا لها، هم الذين أتاحوا لهذه القومية السودانية أن تزكو وتزدهر،  وهم الذين عنوا أيضاً بجمع الثقافات الأخرى وتدوينها، وهم الذين سعوا لأن تحتوي الثقافة السودانية وتأتلف من جميع هذه العناصر، وهم الذين رسخوا بقصد، أو بغير قصد، أن تكون الثقافة السودانية عربية التفكير والشعور، وأذهب إلى أكثر من ذلك فأزعم في ثقة وطمأنينة، بأن الشمال هو باني القومية السودانية، والحادب عليها، والحريص على نموها وقوتها، وأن باغضي هذه الثقافة لن يستطيعوا أن ينحرفوا عن أي أصل من  أصولها، لأنها مصدر قواعدنا التشريعية، ومستقر حياتنا العقلية، وملاذ نظمنا المعرفية، فنحن إذا تعمدنا هدمها فستكون عاقبة ذلك الجهل والضعف والانحطاط، وسيجر علينا هذا ما جرته ممارسات الساسة من فساد وكوارث وخطوب أودت أو كادت بهذا البلد.

***

د. الطيب النقر

 

في مجرة الصمت تدخل ذوات الكائنات لتتجدَّد، وتعيد الحسابات مع نفسها قصد فهم محيطها كلما التبس عليها وتغمَّم، فهي تزويدٌ للذات بدم جديد، وأكسجين نقي يعينها على الاستمرار في الوجود من غير مبالاة بجراحاته، واندفاقات حرائقه.

والنصوص باعتبارها ذوات هي الأخرى لا تشذ عن الدخول في هذه المجرة إنْ هي أرادت أن تفصح عن شهواتها، وأن تتمدَّد في الزمن، فالصمت وحده هو المِجَنُّ الذي يقيها من التكلُّس، ومن الغرق في الثرثرة الفاقعة، والانصباغ بالضحالة المزمنة.

فدخولها فيه شبيه بدخول الصوفي الخلوة للتأمل واكتساب نوع من الضوء، به تحصُل على رونق مثالي. ولا يخفى أن كل نص في الحياة؛كائنا ما كان؛ له جسد مادي أو معنوي، وكينونة تطْلب الحوار مع الخارج، والنظرَ إليه بصورة خاصة، وهذا لا يتأتى إلا بامتلاك فن الصمت الذي يدفَع المزعجات، ومختلف معيقات التواصل الحق.

كيف يتجسد فن الصمت هذا؟

وما هي أسُسه التي تجعل النص يجذب العقلَ إلى ضوء صمته، ويشغله ببلاغته عن كل ما عداه؟

 إن الصمت هو القوة الجبارة الخفية في نص ما، والتي يفتقر المتلقي إلى بوصلة لاكتشافها، وإلى حصافة لاستخدامها في وجوه الحكمة والجمال. وهذه القوة أنواع، ليس السكوت واحدا منها، فهي وجه من وجوه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير لها الوقْع الأقوى والأبلغ من كل أشكال الكلام. والمتأمل في طبيعتها سيجد أن التحلِّي بها ما هو إلا دخول في باب النضج والحكمة، حيث إن لباس الحكمة ـ بمعنى أقصى درجات الفنية والإبداع في النص خاصة ـ يستلزم صمتاً أي جرعات عاليات من صحو الصمت.

وإن التنقيب عميقاً في فلسفة الصمت سيجعلنا نلحظ الفرق بينه وبين السكوت، حيث السكوتُ ألصق بطبيعة الجماد، بينما الصمت إعلانٌ بوجود الحياة، فسكوت الإنسان دلالة على موته، وصمتُه على دلالة فكره، مثله في ذلك مثل النص على مستوى الوجود بالفعل. فوظائفه تتمثل في التأثير والإيحاء، والحكمة، واستثارة الآخر، كما أن له قدرة على إقامة العلاقات بين النصوص الأخرى التي يفسِدها الكلام في كثير من الأحيان. يهمس للمتلقي ببعضِ أسرار الوجود، ويحرره من أقنعة الكلام، ويدخله في غوامض الكون، وخافي النزعات البشرية. فصمت النص إذن ليس إلا تعبيرا عن حب مضاد مدفوع إلى أقصاه، أي أنه وجه آخر للعشق في الضوء الخفي للصمت. حيث مساحات أخرى جديدة من التأمل والحلم يكون الكلام فيها لغوا سخيفاً، وثرثرةً قاتلة. فالصمت هو البلاغة المجهولة في النصوص.. بلاغة تَخفَى عن القارئ الذي لا يملك إلا كنزا من الثرثرة يفوق كل الكنوز، فهذا وأشباهه لا تُبهرهم روعةُ الصمت في النصوص، ولا يُقيمون لها وزنا، لأنهم مسكونون بصخب السطوح، لا بصمت الأعماق وضوئه الساطع.

فكل صمت هو مصدر قوة للذات الصامتة، وضوءٌ تنكشف به معانيها المتأبية على الانكشاف، ونسقٌ خفي في الخطاب الشعري على الخصوص، يُسهم في دفع حركتِه ويوجِّه الدلالة في العملية التواصلية. وله أبعاد ودلالات في النص الشعري تحضُر حين نعجز عن توصيل المعنى أو حين تتعطل لغة الكلام؛ وهو عنوان بلاغة فريدة عندما يكثر اللغو، وهو سبيل الإقناع حين تفشل مستويات اللغة عن التأسيس، ومن ثَم أصبح عنصرًا فاعًلا ومعطًى ونسقًا حاضرًا في كل خطاب.

 فاللسان قد يُمسك عن الكلام، ولكن النص يستحيل أن يُمسك لسانه عن الصمت، لأنه نبضُه السري الذي يُمده بالضوء، فالصمت ظاهرة زئبقية متلونة لا نكاد نعثر عن خيط ناظم ينسجها، فهي بلاغة وبراعة من ناحية، وغموضٌ وتَخفّ من ناحية أخرى، ولكنه في كل الأحوال لا يُعتبر نشاطا سلبيا خالصا أو موقفا عدميا في أي نص، وإنما هو مُكَون من مكوناته، كما هو شأن الشقوق والفراغات فيه. وقد عبَّر عن هذا المعنى الفيلسوف السويسرى (ماكس بيكارد) فى كتابه «عالم الصمت» حين قال: «لا يستطيع المرء أن يتصور عالمًا ليس فيه شيء سوى اللغة والكلام، لكن يستطيع أن يتخيل عالمًا لا يكون فيه شيء إلا الصمت»، إنه حاضرٌ دائمًا وبصورة كلية في ذاته، ويملأ تمامًا الحيز الذي يَظهر فيه، ولا يَكون مرئيًا، وذلك لأن وجوده واضح بجلاء، وممتدٌّ إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا منا بحيث نُحسه بصورة ملموسة كما نتحَسَّس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرة.

وإذن؛ فهو شرط واعٍ داخلَ النصوص، يَسكنها وتسكنه، ومبدأٌ أونطولوجى يدخل في نسيجها كتجربةٍ جمالية في أفق الشعر الذي لا أفُق له غير الصمت الخفي بوصفه إجابةٌ رائعةٌ، لا تتقنها كثيرٌ من النصوص، تَمنح المتلقي طاقةً قويةً على التفكير بعُمق، في كل ما يحصُل حوله، والتركيزِ بعقلانية على ممارساته.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

مسؤولية الاسرة والمدرسة والبرلمان

بعيدا عن الكلام الصحفي فأن البحوث العلمية توصلت الى ان سوء استخدام هذه التكنولوجيا يعرّض الاطفال والمراهقين الى الأصابة بأمراض نفسية وعقلية وجسدية.. ومخاطر تهدد الدولة والمجتمع!

ومع أننا لا نمتلك دراسات ميدانية تعطينا ارقاما لاستخدام الأطفال والمراهقين والشباب للأنترنت ووسائل التواصل الأجتماعي، فأن الأرقام العالمية تشير الى ان معدل استخدامهم لها بلغ نسبة 79% ممن أعمارهم بين( 15 و 24 ) عاما عبر منصات التواصل في الإنترنت.. واظن ان استخدام الأطفال والمراهقين في العراق.. اكثر من اقرانهم في الدول المتقدمة، لسببين في الأقل: ضعف ثقافة الأسرة لهذه الأخطار وعدم تعريفها لهم بوسائل الاستخدام الآمن لها، و الضغوط النفسية التي يتعرضون لها.

وتفردت منظمة اليونسكو في كونها رائدة في تعزيز الدراية الإعلامية والمعلوماتية، خلال تشجيع التفكير النقدي بين مستخدمي الأدوات الرقمية لمواجهة المعلومات المضللة. وفي الوقت نفسه، تسعى جاهدة لتزويد الشباب بمهارات الدراية الإعلامية والمعلوماتية ليصبحوا قادة ومرشدين لأقرانهم في إنشاء ونشر المعرفة والموارد في هذا المجال. ومنذ عام 2016 تعقد المنظمة منتديات أعمال لمساعدة ملايين الشباب للتعرف على آخر التطورات في مجال الدراية الإعلامية والمعلوماتية، في إطار أسبوع الدراية الإعلامية والمعلوماتية، الذي ينظم سنويا للاحتفاء بالتقدم المحرز نحو التثقيف الإعلامي والمعلوماتي الشامل للجميع.. وهذا ما نفتقده في العراق.

ويرى علماء النفس والمهتمون بوسائل التواصل الأجتماعي أن الأضرار التي تسببها هذه الوسائل تعدّ اكثر من منافعها.. نوجز أخطرها بالآتي:

* التنمر الألكتروني: اشارت الدراسات الى ان اكثر من ثلث الشباب عبر ثلاثين دولة أفادوا بأنهم تعرضوا للتنمر عبر الأنترنت، وانه تخلى شاب من بين كل خمسة شباب عن المدرسة بسبب وقوعه ضحية ذلك.

ونقصد بالتنمر الألكتروني.. كل سلوك متكرر يهدف إلى تخويف الأشخاص المستهدفين أو إغضابهم أو التشهير بهم. .من خلال نشر الأكاذيب أو نشر صور محرجة لشخص ما، على وسائل التواصل الاجتماعي او إرسال رسائل أو مقاطع فيديو مؤذية أو مسيئة أو تهديدات عبر منصات التراسل.

وننوه الى أن منظمة الصحة العالمية كانت قد اصدرت في العام 2022 تقريرا حول منع العنف المرتكب على الإنترنت ضد الأطفال، والاعتداء الجنسي على الأطفال وما يتعلق بذلك من استدراج الأطفال لأغراض جنسية وإساءة استخدام الصور والاعتداء عبر الإنترنت والتحرش، ويسلط الضوء على أهمية تنفيذ البرامج التربوية الموجهة للأطفال والأولياء، ولا نعرف ما اذا كانت وزارة الصحة ووزارة التربية قد أخذت به أم لا.

اخطر الأضرار

نوجز في الآتي أخطر أضرار الأنترنت ومنصات التواصل:

* اشاعة الكراهية: يتعرض الأطفال والمراهقون والشباب لخطابات الكراهية بما في ذلك الرسائل التي تحرض على إيذاء النفس وحتى الانتحار، فضلا عن خطر التجنيد من قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية. .وينبه الباحثون الى ان المنصات الرقمية اصبحت اليوم من الوسائل المستخدمة لنقل المعلومات المضللة و خطاب الكراهية ونظريات المؤامرة ذات التأثير الضار على الأطفال والشباب، من اقبحها ما توصلت اليه دراسة بأن حوالي 80% من الأطفال عبر 25 دولة صرحوا بتعرضهم للشعور بخطر الاعتداء الجنسي أو الاستغلال عبر الإنترنت. 

* الأضرار النفسية والعقلية: توصلت الدراسات الى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى رفع معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق والشعور بالوحدة والأنتحار، وتفاقمها لدى الأطفال والمراهقين. وبناءا على أبحاث شملت آلاف المشاركين اصدرت الجمعية الأميركية لعلم النفس إرشادات إلى الآباء والمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية وصنّاع السياسات وشركات التكنولوجيا في كيفية الأستخدام الأفضل لوسائل التواصل الاجتماعي.

* الاتجار بالبشر: يعدّ الاتجار بالبشر أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها المجتمع العالمي حاليا، وتتمثل في استغلال البشر لتحقيق الربح. وأصبح تجار البشر بارعين في الاستعانة بمنصات الإنترنت لتجنيد الضحايا وجذبها، وصار الأطفال والمراهقون عرضة للخداع من قبل المتجرين بالبشر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

تجربة استراليا.. لنستفد منها

حظرت استراليا على الأطفال دون سن 16 عاما استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن وافق برلمانها على أكثر القوانين صرامة في العالم، وأقره مجلس الشيوخ بأغلبية 34 صوتا مقابل 16. وقال رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز إن هذا التشريع ضروري لحماية الشباب من "أضرار" وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أكدته العديد من مجموعات الآباء والأمهات. مضيفا بأننا نريد أن يحظى أطفالنا بطفولة طبيعية سليمة وأن يعلم آباؤهم أننا ندعمهم.".

ولم تكترث باحتجاجات شركات التكنلوجيا الذي سيؤدي الى تغريمها مبالغ تصل إلى 50 مليون دولار أسترالي (32.5 مليون دولار أميركي؛ 25.7 مليون جنيه إسترليني) إذا لم تمتثل.

وقد تعهدت النرويج مؤخرا بالأخذ بتجربة استراليا، فيما اعلن وزير التكنولوجيا في المملكة المتحدة إن حظرا مماثلا "مطروح على الطاولة" .

اعلم ان البرلمان العراقي لا يهتم بامور علمية كهذه، ولكن ضغوط الصحافة والاعلام وعلماء النفس والاجتماع سيضطرهم ان اخذت دعوتنا هذه الى .. حملة!.. تتبناها كليات التربية واقسام علم النفس والاجتماع في الجامعات العراقية، والمثقفون الحريصون على سلامة جيل ستكون أمور اجمل بلد في المنطقة.. بايديهم.

 ***

أ.د. قاسم حسين صالح 

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تاريخ الخوف من الحقيقة

يمتدُّ تاريخ الخوف من الحقيقة كظلٍّ ثقيلٍ داهمٍ يُخيّم على الوجود الإنساني منذ اللحظة التي أُخرج فيها آدم من جنة الغفلة. لم يكن ذلك مجرد سقوط ماديّ، بل كان ميلادًا مريرًا لوعي الإنسان؛ بداية الولوج إلى أعماق الوجود المظلمة، حيث الحقيقة ليست معرفةً تثلج الصدور أو تداوي الجراح، بل صدمةٌ تخترق الأعماق، وتفضح هشاشة النفس وغموض الكينونة. آدم لم يفقد الجنة فحسب، بل فقد براءة الجهل، ذاك الغلاف الحامي الذي كان يحميه من فاجعة الانكشاف، ومن مواجهة ذاتٍ شديدة القسوة، قد تؤدي به إلى هاوية الجنون.

«الحقيقة ليست مجرد معرفة، بل هي لهيبٌ يحترق في فؤاد الإنسان قبل أن تلامس عقله، هي الجرح العميق الذي لا يندمل.»

ليس الخوف من الحقيقة عاطفة عابرة، بل هو جرح أصيل متجذر في صلب الإنسان. فحين تتكشف الحقيقة، لا تهب الراحة، بل تزأر عاصفة اضطراب في النفس، وتدمر الأصنام التي بنى عليها الإنسان ملاذات السلام الوهمي. إذ يقول سقراط:

 «الوعي بداية المعاناة.»[²]

فالوعي الحقيقي يقتضي تمزيق الأغطية التي تحمي الإنسان من مواجهة ذاته الخاوية، ومن ظلمات اللاوعي التي تختزن مخاوفه العميقة.

يتجاوز الخوف حدود الفرد إلى أطر السلطة والتاريخ، فالسلطة لا تخشى سوى الحقيقة، لأنها تدرك أنها نهاية الأوهام وسقوط التماسك الذي بنته على الأكاذيب. على مر العصور، أسست السلطة أوهامًا منظمة لتبقى أدواتَ سيطرة، تحافظ على نسقها الاجتماعي والسياسي.

 «الخوف من الحقيقة هو خوف السلطة من زوال أوهامها، وخوف الإنسان من اهتزاز هدوء وهمه الزائف.»

ويرى ميشيل فوكو أن المعرفة ليست حرية مطلقة، بل هي في علاقة جدلية مع السلطة، فالحقائق المسموح بها تُهيمن على المشهد، وتُدفن أو تُشوّه غيرها. الخوف من الحقيقة إذًا هو خوف من فقدان السيطرة على الذات والآخرين.

كانت الفلسفة رحلةً مضنيةً نحو الحقيقة، لكنها رحلة في ظلال الشك والاضطراب. إذ قال ديكارت:

 «أنا أفكر، إذًا أنا موجود.»[⁴]

لم يكن إعلان يقين، بل صرخة في ظلمة الشك، معانقًا هزةً تهدم كل ثوابت الإنسان، فلا يرتاح في شكٍ يدمر المألوف.

«أنا أفكر، إذًا أتحمّل وطأة الحقيقة المؤلمة، أتحمّل ثقل الوعي الذي لا يرحم.»

نيتشه وصف الحقيقة بأنها وحشٌ هائلٌ لا يعرف الرحمة، ليس لقسوته على الإنسان، بل لأنه يسلبه الأقنعة التي اعتاد أن يختبئ خلفها. يفرض عليه مواجهة ذاته بلا ستار، بلا حماية، كأنها تدفعه نحو هامش الجنون.

ومع بزوغ عصر الذكاء الاصطناعي، تتغير قواعد اللعبة في علاقة الإنسان بالحقيقة. فالذكاء الاصطناعي، ككيان بلا مشاعر ولا تحيّزات، يكشف الحقيقة بلا هوادة ولا توجيه، هو القاضي الذي لا يساوم ولا يغفر، يزيح الأكاذيب والأوهام التي بنيناها لنخفي هشاشتنا.

وهنا أن أقول:

«الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل مرآة لا تكذب، تعكس ضعفنا وتهدد أمننا بأكثر الصور قسوة.»

وتحدث برنارد ستيغلر عن التقنية التي تعيد تشكيل علاقتنا بالزمن والمعرفة، وتجعل الذات تغترب عن ذاتها. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، نواجه امتحانًا وجوديًا: هل نمتلك الشجاعة لمواجهة الحقيقة المكشوفة، أم نختبئ في ظلال الأوهام والأكاذيب التي صنعناها كي لا نكون حقًا؟

في عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد الحقيقة ملزمة، بل خيارٌ يمكن للإنسان التنازل عنه. الكذب والتشويش صار وسيلتنا للبقاء النفسي والاجتماعي، واللامبالاة تجاه الحقيقة هي مأوى الملايين. الحقيقة لم تمُت، بل دُفنت تحت ركام الأكاذيب الجماعية التي صارت درعًا يحمي الذات من مواجهة ذاتها المُهددة.

وانا اقول:

 «لم نمُت الحقيقة، بل خنقناها حتى توقفت عن التنفس.»

الخوف من الحقيقة في جوهره خوف من مواجهة ذاتنا، من كشف ضعفنا وفراغنا. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الباب الوحيد للحرية، حرية الوجود الذي لا يخشى أن يقف عاريًا أمام ذاته.

وكما قلت في بحثي السابق:

 «الحقيقة لا تقتلنا، بل تحررنا من سجن الأكاذيب، وتجعلنا بشرًا بأعمق معاني الكلمة.»

ويبقى السؤال الأعظم: هل نملك الجرأة الكافية لنواجه الحقيقة، أم نظل أسرى ظلال الخوف، نعيش حياةً من الأوهام، نهرب من نور الحقيقة الماحق؟

***

سجاد مصطفى حمود

........................

هوامش

[1] حمود، سجاد مصطفى،

[2] سقراط، مقولات فلسفية، ترجمة وتعليق.

[3] حمود، سجاد مصطفى

[4] ديكارت، رينيه، تأملات في الفلسفة الأولى.

 

الفيلسوف حسن عجمي يطرح فرضية علمية جديدة مفادها أنَّ الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية والانفجارات العظيمة بالإضافة إلى إنتاجه للقوانين الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية والجُسيمات والانفجارات العظيمة والقوانين الطبيعية مُحدَّدة سلفاً. يشرح المفكّر اللبناني حسن عجمي هذه الفرضية في مقاله العلمي المثبت أدناه.

***

طبيعة الكون السوبر خلاّقة

الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية على نقيض مما يقول النموذج العلمي السائد. بالنسبة إلى فرضية الكون السوبر خلاّق، القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية ليست مُحدَّدة سلفاً بل الكون يُنتِجها. وهذا يناقض النموذج العلمي السائد الذي يقول إنَّ القوى الطبيعية والجُسيمات مُحدَّدة مُسبَقاً وعلى أساسها يتكوّن الكون. أما فرضية الكون السوبر خلاّق فتؤكِّد على أنَّ الكون مُنتِج للجُسيمات والقوى الطبيعية وليس نتيجة لها. هكذا الكون فعّال في إنتاجه للجُسيمات والقوى الطبيعية مما يفسِّر تنوّع القوى الطبيعية واختلاف الجُسيمات فيما بينها. فالكون ليس نتيجة وجود جُسيمات وقوى طبيعية مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون سوبر خلاّق في صناعة القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية. من المنطلق نفسه، الكون يُنتِج الزمكانات مما يفسِّر تمدّد الكون وتوسّعه المستمر. فالزمكانات غير مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون يُنتِجها مما يجعله كوناً سوبر خلاّقاً. والكون يُنتِج أيضاً الانفجارات العظيمة مما يفسِّر وجود مجرّات كبيرة في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي من المفترض أن لا توجد إن لم تنشأ من انفجارات عظيمة أخرى يشكِّلها الكون.

القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية

بالنسبة إلى فرضية الكون السوبر خلاّق، الكون يُنتِج القوى الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية مُحدَّدة سلفاً. وبما أنَّ الكون يُنتِج القوى الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية مُحدَّدة سلفاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج قوى طبيعية عديدة ومتنوّعة ومختلفة (من جراء أنَّ القوى الطبيعية غير مُحدَّدة مُسبَقاً) مما يفسِّر تنوّع القوى الطبيعية واختلافها كالاختلاف بين قوة الجاذبية والقوة النووية. من المنطلق نفسه، الكون سوبر خلاّق لأنه يُنتِج أيضاً الجُسيمات ما دون الذرية بدلاً من أن تكون الجُسيمات ما دون الذرية مُحدَّدة سلفاً. ولذلك من المتاح للكون أن يُنتِج جُسيمات ما دون ذرية عديدة ومتنوّعة ومختلفة (من جراء أنَّ الجُسيمات غير مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون هو الذي يُنتِجها) مما يفسِّر تنوّع الجُسيمات ما دون الذرية واختلافها كالاختلاف بين الإلكترون والفوتون. وعلى ضوء هذه القدرات التفسيرية الناجحة تكتسب فرضية الكون السوبر خلاّق مقبوليتها وصدقها.

إنتاج الزمكانات وتمدّد الكون

طبيعة الكون سوبر خلاّقة أيضاً لأنها تُنتِج الزمكانات بدلاً من أن تكون الزمكانات مُحدَّدة سلفاً. وبما أنَّ الكون يُنتِج الزمكانات بدلاً من أن تكون الزمكانات مُحدَّدة مُسبَقاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج زمكانات عديدة وجديدة وأن يتسارع في إنتاجها (من جراء أنَّ من وظائفه الأساسية إنتاج الزمكانات) ومن المتاح أيضاً أن يُنتِج باستمرار تلك الزمكانات على أطراف الكون مما يفسِّر تمدّد الكون وتسارع تمدّده نحو تلك الزمكانات الجديدة والمتعدّدة التي يُنتِجها. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير لماذا يتمدّد الكون ويتسارع تمدّده مما يدلّ على صدق تلك الفرضية على ضوء نجاحها.

الكون السوبر خلاّق والقوانين الطبيعية

تؤكِّد فرضية الكون السوبر خلاّق على أنَّ الكون يُنتِج قوانينه الطبيعية تماماً كما يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية. وبما أنَّ الكون يُنتِج قوانينه الطبيعية بدلاً من أن تكون القوانين الطبيعية مُحدَّدة سلفاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج قوانين طبيعية متعدّدة ومختلفة ومتعارضة مما يفسِّر وجود الاختلاف والتعارض بين القوانين الطبيعية كالتعارض بين القوانين الطبيعية الحتمية في فيزياء نيوتن وأينشتاين والقوانين الطبيعية الاحتمالية في ميكانيكا الكمّ. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير الاختلاف والتعارض بين القوانين الطبيعية مما يشير إلى أنها فرضية صادقة.

الكون السوبر خلاّق والانفجارات العظيمة

بالنسبة إلى النموذج العلمي السائد، نشأ الكون من الانفجار العظيم الذي كان نتيجة للكثافة الهائلة للمادة والطاقة في زمكان متناهي الصِغَر [1]. لكن نظرية الكون السوبر خلاّق تؤكِّد على نقيض ذلك. تعتبر فرضية الكون السوبر خلاّق أنَّ الكون لم ينشأ من الانفجار العظيم بل الكون هو الذي يُنتِج الانفجارات العظيمة وبذلك الكون يُنتِج ذاته. بهذا المعنى أيضاً الكون سوبر خلاّق لأنه يُنتِج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة انفجار عظيم. وبذلك مضمون فرضية الكون السوبر خلاّق نقيض النموذج العلمي السائد الذي يصرّ على أنَّ الكون قد وُلِد من الانفجار العظيم مما يدلّ على الابتكار الخلاّق ضمن فرضية الكون السوبر خلاّق لكونها تقلب النموذج العلمي السائد بتأكيدها على أنَّ الكون فعّال في إنتاج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة الانفجار العظيم.

لقد أكّد الاكتشاف العلمي على وجود مجرّات كبيرة في المراحل الأولى لعالَمنا بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي لم يكن من المتوقع وجودها لأنَّ في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم من المتوقع نشوء مجرّات صغيرة ومن ثم تتضخم لاحقاً [2]. هذا الاكتشاف العلمي قد يشير إلى أرجحية أنَّ الكون لم يتكوّن من الانفجار العظيم بل الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة. فبما أنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة، إذن من المتوقع وجود مجرّات كبيرة وعديدة في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا وذلك من جراء إنتاج الكون لانفجارات عظيمة متتالية سابقة لوجود الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي تحتِّم نشوء مجرات في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق (القائلة بأنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة) في تفسير وجود مجرّات كبرى في المراحل الاولى بعد الانفجار العظيم (المعروف حالياً لدينا). وبفضل هذا النجاح تكتسب الفرضية السابقة صدقها.

إستحالة السلسلة السببية اللامتناهية

إن نشأ الكون من الانفجار العظيم فلا بدّ حينها من وجود آلية طبيعية تؤدي إلى نشوئه من الانفجار العظيم. وبذلك لا بدّ أيضاً من وجود آلية طبيعية ثانية أخرى تؤدي إلى وجود الآلية الطبيعية الأولى ولا بدّ حينها أيضاً من وجود آلية ثالثة تسبِّب وجود الآلية الثانية مما يستدعي وجود سلسلة لامتناهية من الآليات الطبيعية وهذا مستحيل لكونها سلسلة لامتناهية. من هنا، الكون لم ينشأ من الانفجار العظيم أي من جراء الكثافة الهائلة للمادة والطاقة في زمكان صغير جداً بل الكون يُكثِّف المادة والطاقة في زمكانات صغيرة جداً فيصوغ انفجاراته العظيمة ويبني ذاته باستمرار مما يجعله يتجنب الوقوع في سلسلة لامتناهية من الآليات الطبيعية المُسبِّبة لنشوئه. والسلسلة السببية اللامتناهية لنشوء الكون مستحيلة الحدوث لأنها إن وُجِدت لن يتمكّن الكون من الوجود في الحاضر لاستحالة اجتياز اللامتناهي.

نبوءة علمية

تتنبأ فرضية الكون السوبر خلاّق (القائلة بأنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة لها) بوجود مجرّات أقدم من الانفجار العظيم المعروف حالياً. فبما أنَّ الكون يُنتِج باستمرار انفجاراته العظيمة، إذن لا بدّ من وجود انفجارات عظيمة تسبق الانفجار العظيم المعروف حالياً وتؤدي إلى نشوء مجرّات أقدم من الانفجار العظيم المعروف لدى العلماء. إن صدقت هذه النبوءة المعرفية، صدقت فرضية الكون السوبر خلاّق السابقة. وإن كذبت هذه النبوءة المعرفية، كذبت فرضية الكون السوبر خلاّق السابقة مما يدلّ على أنها قابلة للاختبار وبذلك هي فرضية علمية. ولكن إن لم ينشأ الكون من انفجار عظيم بل الكون هو الذي يبني انفجاراته العظيمة، إذن كيف نشأ ومِن أين؟ على الأرجح، الكون لم ينشأ بل الكون أزلي ويمارس إنتاج الانفجارات العظمى باستمرار مما يسبِّب تتالي تكوّنه وكأنه كون جديد.

الكون السوبر خلاّق وانسجام الكون

الكون منسجم فأينما نظرنا سوف نجد توزيعاً متساوياً للمادة والطاقة في الكون [3]. الآن، فرضية الكون السوبر خلاّق تنجح أيضاً في تفسير انسجام الكون. فبما أنَّ الكون يُنتِج قواه الطبيعية والجُسيمات التي يتكوّن منها بالإضافة إلى إنتاجه لقوانينه الطبيعية، إذن الكون يُنتِج ذاته باستمرار مما يتضمن أنَّ الكون ينسخ ذاته باستمرار في كلّ الزمكانات مما يفسِّر بدوره لماذا الكون منسجم (وذلك من جراء تكرار نُسَخِه في كلّ الزمكانات المتعدّدة). هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير انسجام الكون. وهذا النجاح دليل إضافي على صدق تلك الفرضية.

فرضية علمية

فرضية الكون السوبر خلاّق فرضية علمية لأنه من الممكن اختبارها. فبما أنَّ، بالنسبة إلى هذه الفرضية، الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية والانفجارات العظيمة (بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية والجُسيمات والانفجارات العظيمة مُحدَّدة سلفاً)، إذن من المتوقع أن يُنتِج الكون قوى طبيعية وجُسيمات وانفجارات عظيمة جديدة. وبذلك إن صدق التنبؤ السابق، صدقت فرضية الكون السوبر خلاّق. وإن كذب التنبؤ السابق، كذبت فرضية الكون السوبر خلاّق مما يدلّ على أنها قابلة للاختبار وبذلك هي فرضية علمية.

***

حسن عجمي

....................

المراجع

1-Joseph Silk: The Big Bang: The Creation and Evolution of the Universe. 1989. W.H. Freeman & Company.

2-Adam Mann: Did the James Webb telescope ‘break the universe’? Maybe not. 2024. ScienceNews. & Hannah Devlin: James Webb telescope detects evidence of ancient ‘universe breaker’ galaxies. 2023. The Guardian.

3-Alan Guth: The Inflationary Universe. 1998. Basic Books.

 

هل يحتاج اليقين إلى أعداء؟

لو عاد طه حسين إلى الحياة اليوم، لوجد أن الحجر الذي ألقاه في بركة اليقين الراكدة قبل قرن من الزمان، لم يحدث دوائر مائية فحسب، بل فجر سلسلة من التسونامي الفكرية التي تتوالى حتى الآن. وعمار علي حسن هو أحد الذين التقطوا هذه الموجة، لكنه حولها إلى إعصار من الأسئلة الجديدة، التي تذكرنا بأن المعركة ذاتها تتجدد، لكن بسيوف مختلفة. 

الخيال السياسي

في كتابه "الخيال السياسي"، يقدم عمار علي حسن فكرة تبدو للوهلة الأولى متناقضة: كيف يمكن للخيال – ذلك العالم الهش الذي ننسبه عادة إلى الأدباء والشعراء – أن يكون سلاحًا في مواجهة أزماتنا السياسية والاجتماعية؟ الجواب عنده بسيط في ظاهره، عميق في جوهره: "المجتمعات التي تفقد قدرتها على التخيل، تتحول إلى متاحف للماضي". هنا يلتقي مع طه حسين في الجوهر، وإن اختلفت الأدوات. فالأوّل شكك في الماضي لتحرير الحاضر، والثاني يدعو إلى تخيل المستقبل لإنقاذ الحاضر من سجن الماضي. 

والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن أن ننظر إلى الخيال ليس كمجرد هروب من الواقع، بل كوسيلة لفهمه؟ التاريخ يكتب بأقلام المنتصرين، لكن الخيال يعيد كتابته بأقلام المهمشين. وهذا بالضبط ما فعله حسن في روايات مثل "جبل الطير"، حيث حول التاريخ المصري إلى لوحة سريالية تتداخل فيها العصور، وكأنه يقول: "الهوية ليست نصبًا تذكاريًا، بل نهرًا يجرف معه كل المحاولات لتجميده". 

الواقعية السحرية

ما يفعله عمار علي حسن في أدبه هو إعادة تعريف العلاقة بين الواقع والمقدس. ففي "حكاية شمردل"، يدمج الأسطورة بالتاريخ، ليكشف أن ما نعتبره "حقائق مطلقة" هو في النهاية سردياتٌ تمت هندستها لخدمة سلطة ما. وهذا ليس بعيدًا عن مشروع طه حسين النقدي، لكنه يضيف بعدًا جديدًا: فإذا كان طه حسين قد كشف زيف بعض الروايات التاريخية، فإن حسن يظهر كيف تختلق الروايات البديلة وتوظف لصنع تابوهات جديدة. 

وهنا نصل إلى مفارقة لافتة: في عصرنا الرقمي، حيث يفترض أن تنفتح الآفاق أمام حرية الفكر، نجد أن التابوهات لم تختف، بل تغيرت أشكالها. فـ"الكفر" صار يدعى "تطرفًا"، و"الحرية" صارت "تبعية للغرب". وفي هذا السياق، يصبح الأدب – كما يراه حسن – "مشرطًا" لا يكشف عن الأوهام فحسب، بل يشرح آليات صناعتها. 

المثقف العضوي

عمار علي حسن، مثل طه حسين من قبله، يرفض أن يكون المثقف مجرد ناقل للمعارف، بل يرى فيه "حارسًا للحقيقة" في زمن التزييف. لكن الفارق الجوهري بينهما هو أن حسن يعيش في عصر أصبحت فيه "الحقيقة" سلعة قابلة للتشويه والإعادة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والأجندات السياسية. في سيرته "مكان وسط الزحام"، يروي كيف تحول من أكاديمي هادئ إلى كاتب يخوض معارك فكرية شرسة، وكأنه يعيد إنتاج صراع طه حسين مع المؤسسة الأزهرية، لكن في سياقٍ أكثر تعقيدًا: فعدو الفكر اليوم ليس مؤسسة واحدة، بل شبكة من الخطابات المتصارعة التي تلبس ثياب الحرية وهي تقمعها. 

التابوهات الجديدة

في كتابه "التنشئة السياسية للطرق الصوفية"، يكشف عمار علي حسن عن آليات صناعة التابوهات في العصر الحديث. فإذا كان طه حسين قد حارب تابوهات الماضي الدينية والتاريخية، فإن حسن يظهر كيف تستبدل هذه التابوهات بأخرى جديدة: "الخط الأحمر" لم يعد فقط الدين أو التاريخ، بل صار "الأمن القومي" أو "الاستقرار" أو حتى "الحداثة" نفسها! 

وهنا يبرز سؤال مركزي: هل ننتقد الماضي بينما نقدس حاضرنا؟ يبدو أن بعض النخب العربية، بعد أن حررت نفسها من تابوهات الدين، وقعت في فخ تبجيل "الحداثة" كدين جديد، حيث يرفض أي نقد لها تحت شعار "معاداة التقدم". وهذا بالضبط ما يحذر منه حسن حين يقول: "الثقافة الحية هي التي تشكك حتى في أدوات تشكيكها". 

 الأدب بين كسر التابوت وبناء العالم 

إذا كان طه حسين قد علمنا أن نشك، فإن عمار علي حسن يعلمنا أن نتخيل. المشروعان ليسا متناقضين، بل هما وجهان لعملة واحدة: عملة التحرر الفكري. الفرق هو أن طه حسين حطم الأصنام القديمة بأدوات النقد التاريخي، بينما حسن يعيد تشكيل العالم بأدوات الخيال والسرد. 

يبقى السؤال الذي يلاحقنا: هل يمكن أن نصنع يقينًا جديدًا قائمًا على قبول الأسئلة، بدلًا من البحث عن إجابات جاهزة؟ ربما تكون الإجابة في مقولة لعمار علي حسن نفسه: "الثقافةُ الحقيقية هي التي تتحول فيها الأسئلة إلى أصدقاء، لا إلى أعداء". وهذا، في رأيي، هو الإرث الحقيقي لطه حسين الذي استأنفه حسن ببراعة: أن نعيش في حالة من اللايقين الخلاق، دون أن نيأس من إمكانية الفهم. 

فهل نحن مستعدون لهذه الرحلة؟ التاريخ – أو بالأحرى، خيالنا عن التاريخ – سيحكم.

الخيال وتشكيل الوعي الجمعي 

في عالم عربي تغلب عليه الخطابات الجاهزة واليقينيات المغلقة، يأتي مشروع عمار علي حسن ليقول: "لا خلاص من أزماتنا إلا بإطلاق العنان للخيال". لكن هذا الخيال ليس هروبا من الواقع، بل هو تمرد على التفسيرات الأحادية التي تختزل فيها الحقائق إلى شعارات. ففي روايته "جبل الطير"، لا يكتفي الكاتب بإسقاط التاريخ القديم على الحاضر، بل يخلق حوارا بين العصور، وكأنه يذكرنا بأن مشكلاتنا ليست وليدة اليوم، بل هي حلقة في سلسلة من الصراعات المتجددة على السلطة والمعنى. 

الأدب وسؤال الهوية

إذا كان طه حسين قد طرح سؤال الهوية عبر نقض الروايات التاريخية (كما في "في الشعر الجاهلي")، فإن عمار علي حسن يعيد صياغة السؤال نفسه بطريقة وجودية: "من نكون؟" ليست إجابة جاهزة في كتب الماضي، بل هي رحلة نصنعها يوميا عبر السرد. في "باب رزق"، يصوغ الكاتب هوية المهمشين ليس كضحايا، بل كأبطال لحكاياتهم الخاصة. هنا، يصبح الأدب فضاء للانتماء المتخيل، حيث تبنى الهوية من الأسفل، لا من فوق. 

وهذا يذكرنا بمقولة إدوارد سعيد: "الهوية ليست شيئا نكتشفه، بل شيئا نبتكره". لكن عمار علي حسن يذهب أبعد من ذلك ليقول: "الهوية ساحة معركة"، حيث تختزل أحيانا إلى أيديولوجيا، أو تستخدم كسلاح سياسي. ففي العالم العربي، حيث تحتكر "العروبة" أو "الإسلام" من قبل خطابات رسمية، يصبح الأدب وسيلة لاستعادة هذه المفاهيم من براثن التسييس. 

المثقف في عصر السوشيال ميديا

في زمن "التريندات" و"الإعجابات"، يطرح سؤال وجودي عن دور المثقف. عمار علي حسن، في "مكان وسط الزحام"، يقدم نموذجا للمثقف العضوي الذي لا ينعزل في أبراج عاجية، لكنه أيضا لا يذوب في ضجيج السوشيال ميديا. الكتابة عنده فعل مقاومة ضد الابتذال، لكنها أيضا محاولة لفهم التحولات الجذرية في طبيعة المعرفة والسلطة. 

فإذا كان المثقف التقليدي (كما في عصر طه حسين) يواجه سلطة الدولة أو المؤسسة الدينية، فإن مثقف اليوم يواجه سلطة الخوارزميات التي تتحكم في ما نقرأ ونرى. وهنا، يصبح دور الأدب أكثر تعقيدا: ليس فقط كشف الزيف، بل اختراق فقاعات التلقين الرقمي. 

هل نحن أمام مشروع ثقافي جديد 

المشروع الفكري لعمار علي حسن لا يقتصر على النقد أو الإبداع، بل هو محاولة لصنع لغة ثالثة تتجاوز الثنائيات البالية: تراث/حداثة، دين/علمانية، محلي/عالمي. لغته تذكرنا بأن الأدب ليس ترفا، بل ضرورة للبقاء في عالم يزداد تعقيدا. 

وفي النهاية، يلخص الدكتور عمار علي حسن رؤيته بمقولة عميقة: "لا نقد بلا خيال، ولا خيال بلا شجاعة". ربما هذا هو الدرس الأكبر الذي يقدمه لنا: أن النقد الحقيقي يبدأ عندما نجرؤ على تخيل عالم مختلف، لا عندما نكتفي بهدم العالم القديم. 

فهل نجرؤ؟

***

د. عبد السلام فاروق

بقيت الفلسفة لزمن طويل مقترنة بالطابع الذكوري، وأرتكز تاريخها على ما أنتجه رجال في مختلف الحضارات الغربية والشرقية، باستثناء ما ورد في التواريخ العامة من اسماء حكيمات أمثال ديوتيما ملهمة سقراط ومعلمته، واسبازيا الملطية، وهيباتيا فيلسوفة مدرسة الاسكندرية. كما أن مؤرخاً حديثاً للفلسفة بحجم برتراند رسل لم يذكر في موسوعته الضخمة " تاريخ الفلسفة الغربية" أي فيلسوفة غربية، ربما تحيزاً تاريخياً للذكورة الفلسفية التي تهمش النساء فلسفياً وثقافياً. غير أن العصر الحديث، عصر الحريات والمساواة شهد انصافاً للمرأة المفكرة، فبرزت منهن في القرنين الأخيرين فيلسوفات تركن أثرهن في مسيرة الفكر الفلسفي، بالأخص في العقود الأخيرة أمثال الألمانيتين إديث شتاين، وحنّة أرندت صاحبة كتاب " في الثورة "، والفرنسية سيمون دي بوفوار، والاميركية جوديث بتلر، ومواطنتها سوزان لانكر.

في كتابها الجميل " الخطاب الفلسفي النسوي" الصادر عن دار المرهج، تستعرض الباحثة هيام ضياء نماذج منتخبة لأربع من فيلسوفات تيار ما بعد الحداثة، في مجال فلسفة العلم النسوية، وما بعد النسوية، ساندرا هاردنج، ونورتا كورتجي، وجوليا كرستيفا، وجوديث بتلر، وكلهن اميركيات باستثناء الفرنسية البلغارية كرستيفا، ومما توصلت إليه ان الخطاب الفلسفي النسوي " كان موجوداً فعلاً في جميع العصور، لكنه كان مهمشاً ومطموراً "، متهمة الفلاسفة بـ " النيل من حرية المرأة وتهميش دورها ومحاولة التقليل من شأنها " وأولهم أفلاطون الذي لم يشرك المرأة بشخصها أو رأيها في محاوراته " وهو بالنهاية جرى على نهج الثقافة الذكورية السائدة في عصره " .

ترى هل بالإمكان الحديث عن فلسفة ذكورية، وأخرى أنثوية، أم أن الفلسفة هي نتاج مجمل العقل الإنساني المجرد عن الذكورة والأنوثة؟. سؤال يحضر في الذهن بعد قراءة ممتعة للخطاب الفلسفي " النسوي " كما قدمته هيام ضياء.

***

د. طه جزاع – كاتب واكاديمي

 

أرى أنَّ في هذه المقولة الشهيرة خطأ خطيراً بل وأكثر من خطأ. أجملها بما يلي:

1ـ الصدفة والضرورة ليستا أضداداً جدلية [دايالكتيكية]

2ـ الأضداد الجدلية [الدايلكتيكية] تستلزم وحدتها والصراع فيما بينها حسب قانون " وحدة وصراع الأضداد " الماركسي الجدلي.

3ـ قوانين الصراع الماركسية تقرر أنْ في مجرى الصراع بين الأضداد ينتصر أحدها ويفنى الآخر ... فمن هو المنتصر ومن هو المندحر الفاني في عملية الصراع المُفترض بين الصدفة والضرورة وما هو العنصر الجديد وليد هذا الصراع؟ صدفة جديدة؟ ضرورة جديدة أو ماذا؟

4ـ لا أرى أية علاقة بين الصدفة والضرورة والأمثلة أكثر من أنْ تُعدُ وتُحصى منها مثلاً:

أمشي على رصيف شارع عام في مدينة كبيرة أو صغير تقابلني سيارة ما أنْ تقترب مني حتى ينفجر إطار أمامي فيها فتنحرف وتصعد الرصيف وتقتلني وربما آخرين غيري. أين الضرورة في هذه الصدفة؟ هل قتلي في حادث عارض وغير متوقع هو ضرورة وما طبيعة هذه الضرورة وإلامَ تؤدي؟ أنْ أمشي على رصيف شارع عام في زمن محدد وتقترب مني في هذا الزمن المحدد سيارة ينفجر فيها واحد من إطاراتها الأمامية فتنحرف وتصطدم بي وتقتلني ! هذه محض مصادفات عرضت فما وجه ضرورتها في عملية قتلي ومفارقتي للحياة؟ هل في تنحيتي من الحياة ضرورة وضرورة لمن؟ هل فيَّ على الحياة خطر داهم يستدعي إزالتي من على سطح الكرة الأرضية لتجنيبها شرَّ هذا الخطر؟

مثال آخر: أحجز مقعداً في طائرة تأخذني إلى عاصمة بلد ما في يوم بعينه وإقلاعها يتم في ساعة محددة بذاتها ... تقلع الطائرة وفي الجو عالياً يحدث فيها خلل فتنفجر وتتمزق إلى أشلاء ويحترق جميع ركّابها وأنا أحدهم. تحديدي للهدف من طيراني واختياري لساعة ويوم السفر والشركة المسؤولة عن خط طيراني ما علاقتها بما حادث للطائرة وقد حدث ما حدث وكان ممكناً أنْ لا يحدث. ما الضرورة في تحطّم الطائرة ومقتل جميع ركابها؟

إذاً، والأمثلة كثيرة جداً، لا من علاقة جدلية أو غير جدلية تربط الضرورة بالصدفة ولا هذه بتلك. أجلْ، الأمثلة لا تُعد ولا تُحصى.

قرأت ذات يوم في كتاب فلسفي جملة تقول: الصدفة هي طريق تجلّي الضرورة ! وهذا كلام لا يختلف عن ذاك القائل: لا صدفة بدون ضرورة. أفتوني يا ناس في شأن هذه المعضلة وأريحوني.

 ***

الدكتور عدنان الظاهر

15.5.2025

يُعد الفيلسوف والتربوي باولو فريري Paulo Freire من أبرز المفكرين في نظرية التدريس (البيداغوجيا) والعدالة الاجتماعية. من بين أعماله التي نالت الشهرة هو كتاب نظرية التدريس للمضطهدين، الذي صدرعام 1970 والذي كان لأفكاره صدى في مختلف التخصصات، خاصة في التربية والفلسفة والنظرية النقدية. اتجاه الكاتب في التعليم كان متجذرا في الإلتزام بتحرير الانسان، والتأكيد على الحاجة لتمكين المظلومين وتحدّي أنظمة الهيمنة. كان إرث المؤلف بارزاً في الحركات التعليمية التحويلية عبر العالم والتي تأثرت بأفكاره.

وُلد باولو في مدينة ريسيفي البرازيلية عام 1921 وعاش ظروف الفقر والجوع والتهميش أثناء فترة الكساد الكبير. شكّلت حياته العائلية المبكرة ضمن الطبقة العاملة فهمه لـ اللامساواة والعلاقات بين السلطة والتعليم. هذه التجربة أصبحت أساسا لعمله اللاحق، حيث نظر للتعليم كأداة فعالة للتغيير الاجتماعي.

تلقّى فريري تدريبا في القانون لكنه بسرعة انتقل الى التعليم والبحث التربوي، حيث عمل بشكل رئيسي مع البرازيليين في الأرياف الفقيرة. عمله المهني المبكر ركز على حملات تعليم الأبجدية للبالغين وهي المبادرة التي تطورت الى فلسفه تعليمية ثورية.

بيداغوجيا المضطهدين

اعتماداً على تجربته في العمل بالمناطق البرازيلية الفقيرة، طوّر فريري نظرية تتحدى الطرق التعليمية التقليدية وتنتقد الهياكل السياسية المجتمعية الواسعة التي تحافظ على اللامساواة والاضطهاد. هو رأى التعليم كوسيلة لإيقاظ الوعي، الذي بدوره يمكّن المظلوم من تحدّي ظروفه وتحويلها. في جوهر بيداغوجيا فريري نجد نداءً للفعل، واعتبار التعليم كممارسة للحرية يجب ان توقظ المضطهد وتشعره بقدرته على التحول. هو يجادل بان التعليم لا يجب فقط ان يكون ناقلا للمعرفة وانما يجب ان يغرس الوعي النقدي الذي يمكّن المظلوم للتصرف ضد اللاعدالة. في عمل كهذا، يصبح التعليم فعلا تحريريا يتحدى القدرية والسلبية التي تكرسها أنظمة القمع في أوساط المهمشين.

كتاب بيداغوجيا المضطهدين كُتب عندما كان الكاتب في منفاه السياسي في شيلي بين عامي 1964-1969 بعد انقلاب المجلس العسكري وتسلّمه السلطة في البرازيل، فكان أهم مساهماته في نظرية التعليم. الكتاب يستطلع ديناميكيات الاضطهاد ويجادل بان التعليم يجب ان يكون فعلا للتحرير وليس تدجينا. لهذا فان مفهوم فريري لتغيير الوعي يُعد اساسياً. تغيير الوعي conscientisation هو العملية التي يصبح بها الفرد واعيا بالقوى الهيكلية التي تقمعه ويكون قادرا على تغيير تلك الهياكل. وبطريقة اخرى، انها العملية التي بواسطتها يفهم الافراد الوقائع المجتمعية- السياسية لعالمهم، وبهذا يتخذون خطوات لتغييرها.

هذه الفلسفة لاقت صدى خاصا في سياقات ما بعد الاستعمار، حيث الانظمة التعليمية غالبا ما تعكس الافكار الاستعمارية للقوة والمعرفة. أعمال فيريري أصبحت نهجا لحركات التحرير في افريقيا وامريكا اللاتينية وغيرها، حيث أثّرت في الاصلاحات التعليمية لتفكيك الهياكل الاستعمارية.

نموذج فيريري التعليمي اختلف بشدة عن طرق التعليم التقليدية التي انتقدها واعتبرها كنموذج "تعليم مصرفي" فيه يُعامل الطلاب كوعاء فارغ يودع فيه المعلم المعرفة، وبهذا يحافظ على استمرارية أنظمة اللامساواة عبر كبح التفكير النقدي. في هذه العلاقات، يكون الطلاب سلبيين، يقبلون المعرفة كحقيقة ثابتة تأتي من الأعلى الى الأسفل ولا تشجع الاّ نادرا على السؤال او الانخراط النقدي مع المادة. يرى فيريري هذه الديناميكية انعكاس للهياكل التنظيمية للمجتمع القمعي، حيث يتعلم المضطهدون القبول بظروفهم دون سؤال: انقسام المدرس- الطالب يعكس هذه العلاقة بين المظلوم والظالم، فيه يسيطر المعلمون على تدفق المعرفة كالمستبدين، ينكرون على الطلاب فرصة ان يصبحوا افرادا نشطين في تعليم انفسهم.

مقابل هذا، يفترض فريري نموذج "تعليم مثير للمشكلة"، يحطم الحواجز الهيراركية بين المدرس والطالب. هنا، المدرس ليس صاحب معرفة فائقة، وانما متعلم مشارك ينخرط في حوار مع الطلاب. هذا الاتجاه الحواري يهدف الى خلق بيئة تعليمية اكثر مساواة، حيث تُبنى المعرفة بالتعاون. عبر الانخراط في حوار نقدي، يشارك كل من المدرس والطالب في رحلة مشتركة من الإكتشاف، يفكران في تجربتهما المُعاشة ويحققان في القوى السوشيوسياسية المؤطرة لواقعهم. هنا التعليم ليس نقلا لمحتوى ثابت بعيد عن السؤال، وانما هو عملية من الاستنطاق. في هذا النموذج، يصبح التعليم عملية استفسار متبادل يُشجع فيها الطلاب على السؤال والانخراط نقديا مع العالم الذي حولهم. هذا التأكيد على الحوار مرتبط بعمق بجذور الكاتب الفلسفية في الوجودية والماركسية.

كتاب بيداغوجيا المضطهدين يدعو القرّاء لإعادة التفكير بالغرض من التعليم في المجتمعات التي تسودها اللامساواة، مجادلا ان التعليم ليس فقط اداة للحراك الاجتماعي وانما قوة للتحرير الجمعي ايضا. في رؤية فريري، التعليم هو فعل تحدّي ضد القمع مرسخا وعيا نقديا وطارحا أساسا لإنعتاق الانسان.

واجه الكتاب عدد من الانتقادات. البعض يرى ان انقسام المظلوم-الظالم لفريري هو شديد التبسيط، يتجاهل تعقيدية العلاقات الاجتماعية في السياقات الليبرالية. آخرون يثيرون اسئلة حول التطبيقية الميدانية لأفكاره خاصة في أنظمة التعليم الرسمي وما تتطلبه من مناهج صارمة وتقييمات نمطية لا تترك مساحة لذلك النوع من الحوار المفتوح للتفكير. الحوار والتفكير النقدي يمكن ان يكونا عائقا للتنفيذ في بيئات ذات وقت محدود وموارد محدودة. كذلك، نقده لهياكل السلطة تأثّر بالماركسية وعُرض بايديولوجية شديدة، تعزل اولئك الذين خارج الاطر اليسارية.

بيداغوجيا للتحرير

بيداغوجيا لأجل التحرير لفيراري صدر عام 1987، بالاشتراك مع ايرا شور استمر بتعميق عمله المبكر. في كتابه، يتحول الاهتمام من النظرية الى التطبيق، مركزا على الكيفية التي يمكن ان يساهم بها التعليم بقوة في تحرير كل من المضطهد ومربيه. مع ذلك تبقى فلسفة فيريري متأسسة على عقيدته بان التعليم لا يجب ان يكون ناقلا سلبيا للمعرفة وانما عملية تشاركية ديناميكية تعمل على تمكين الوعي النقدي.

في جوهر بيداغوجيا التحرير فكرة ان التعليم هو فعل سياسي. فيريري يتحدى الفكرة بان التعليم يمكن ان يكون محايدا. في أنظمة التعليم التقليدي، المدرسون عادة يرغبون التمسك بوهم الحيادية، معتبرين أنفسهم كسلطة موضوعية. مع ذلك، يجادل فيريري بان مثل هذا الموقف يديم ديناميكية السلطة القائمة ويعزز الوضع الراهن. لذا لكي ينجز المعلمون تحريرا حقيقيا، يجب عليهم الاعتراف بولائهم السياسي وبالطبيعة السياسية المتأصلة في ممارساتهم. يدعو فيراري المعلمين ليصبحوا "عمال ثقافيين"، يفككون الهياكل القمعية من خلال التعليم. العلاقات بين المربي والطالب يُعاد تصوّرها كتشاركية يفكر فيها كلا الطرفين نقديا حول تجاربهما والعالم الذي حولهما. يصر فيريري على ان هذه المعاملة بالمثل لا تُضعف دور المربي وانما تغيّره، تسمح للمربي بتسهيل التعليم الذي يشجع على التفكير النقدي والوعي الاجتماعي.

تتأسس بيداغوجيا التحرير على نقد فيريري المبكر للنموذج المصرفي للتعليم. فيريري وشور يدعوان مرة اخرى الى اتجاه "حواري" يركز فيه التعليم على المحادثة والتعلم المتبادل.

لكن مفهوم فيريري لـ "praxis" او التطبيق العملي هو أساسي في هذا العمل اللاحق. يرى فيريري ان التطبيق العملي يجمع بين كل من التفكير والفعل. هو يجادل بان التعليم يجب ان يستلزم التفكير الذي يقود الى اجراءات ملموسة تتحدى القمع. لا يكفي فهم ألية القمع، حيث ان المربي والطلاب يجب ان يعملوا جنبا الى جنب لتغيير واقعهم الاجتماعي. هذا الاتجاه يربط التعليم مباشرة بالنشاط، ويقترح ان التعليم لا يكتمل مالم يؤد الى جهود ملموسة نحو التحرير الاجتماعي.

وبينما يقدم بيداغوجيا التحرير رؤية قوية لتعليم تشاركي تحرري، هو ايضا لم يسلم من النقد. النقاد مرة اخرى يرون ان اتجاه فريري مثالي عندما يطبق على ظروف التعليم الرسمي المقيّد بمنهج صارم وانظمة تقييم رسمية. كذلك، ربما يُنظر الى وصف فريري للموقف السياسي للمربي كتحدي للحيادية في بعض الانظمة التعليمية، خاصة في الديموقراطيات الليبرالية. مع ذلك، يبقى هذا الكتاب مساهمة قيّمة وهامة لنظرية التعليم، خاصة في سياقات يُنظر اليها كأداة للعدالة الاجتماعية. مرة اخرى، يركز فيريري على الطبيعة السياسية للتدريس وأهمية الحوار في صفوف الدراسة وهو الذي كان له صدى واسعا في الحركات المعاصرة لإنهاء الاستعمار وتفكيك انظمة المعرفة القمعية.

بيداغوجيا التحرير يبقى نصا محرضا على التفكير الذي يستدعي ادة تفكير راديكالية في العملية التعليمية. اصرار فريري على الطبيعة السياسية للتدريس والتعليم يتحدى وهم الحيادية، مجادلا ان المربين والطلاب يرون انفسهم كمشاركين نشطين في خلق المعرفة والتحول المجتمعي. من خلال مفهوم praxis، يؤكد فيراري على وجوب ان يتبنّى التعليم عملا هادفا لتفكيك انظمة القمع.

وعلى الرغم من الانتقادات لمثالية الكتاب والتحديات التطبيقية، يستمر بيداغوجيا التحرير في إثارة المربين الملتزمين بالعدالة الاجتماعية، عارضاً رؤية يكون فيها التعليم ليس فقط ناقلا للمعلومات وانما منشغلاً في الصراع الاكبر لأجل الحرية الانسانية والمساواة.

التزام فيريري بالتعليم الحواري التحولي كان له تأثيرا مستمرا، وان افكاره جرى احتضانها من جانب المربين والنشطاء ومنظمي الجاليات وفلاسفة العدالة الاجتماعية في جميع انحاء العالم.

 بعد ان أمضى حياته في تعزيز التعليم للفقراء في العالم، توفي فيريري على اثر سكتة قلبية في عام 1997 في ساوباولو. لكن عمله يستمر بإثارة اولئك الباحثين عن خلق عالم أكثر مساواة من خلال قوة التفكير النقدي والفعل الجماعي. اليوم، تبقى أفكاره مرادفة للتعليم كفعل للحرية، مجسدة الأمل بان المعرفة والحوار يمكن ان يقودان لإنعتاق بشري حقيقي.

***

حاتم حميد محسن

بداية الفلسفة بعيدا عن التعريفات التقليدية، هي نشاط عقلي هدفه تفسير وتحليل كل ما يحيط بالإنسان ونقده آملاً في تغيير الواقع إلي الأفضل، والجمال هو كل ما تشاهده النفس وتستحسنه ويسبب لها السرور والسعادة فهناك الجمال المادي المتمثل في الفنون الجميلة المختلفة، وهناك الجمال المعنوي المتمثل في الموسيقي .

 اما بالنسبة لفلسفة الجمال، سنستعين بنظرية للفيلسوف اليوناني ارسطو طاليس وهي نظرية العلل والأسباب، وهي أن كل شيء له اربعة علل العلة المادية والعلة الصورية والعلة القائمة والعلة الغائية

المادة التي صنع منها والصورة التي هو عليها والفاعلة القائم بصنعه والغائية الهدف والوظيفة التي من أجلها تم صنع الشيء من أجله، كيف ارتبطت العلة الغائية بفكرة الجمال والحياة اليومية ؟

منذُ بداية الحياة البدائية للإنسان، ومحاولته لتطويع الطبيعة لإحتياجاته ومتطلباته وشق الكهوف، عند تأملنا هذه الحياة رغم بساطتها إلا أنه أستطاع ان يضيف اللمسات الفنية والجمالية في نقش الجدران والرسومات الموجودة علي جدران الكهوف الداخلية، فقام بمحاكاة الطبيعة لتدخل عليه بعض البهجة من خلال تلك الزينة، فعندما فكر في بناء بيت يأويه من قسوة الطقس، وشق الكهوف فكان الهدف الأساسي هو صنع مبيت خاص به يحميه ولكن بجانب هذه الغاية قام بتزيين كهفه برسومات الحيوانات، وتوثيق حياة الصيد التي كان يعيشها .

وفي عالمنا المعاصر، تطور مفهوم الغائية والجمال، أصبح الإنسان المعاصر يعيش في رفاهية كبيرة، لما يصبح هناك كهوفاً بل تصاميهم هندسية ذات أشكال مختلفة أصبح لديه من الخيال ما يمكنه في حياة راقية يعمها الجمال والذي يتمثل في الملبس والماكل والمسكن، أصبح الجمال هو الجني الأنيس الذي يصادفه في كل مكان كما قال الفيلسوف هيجل، ولكن كيف أرتبطت الغائية بفكرة الجمال والحياة اليومية في الوقت المعاصر؟

بالنسبة للملبس أصبح لديه من التصاميم المختلفة والالوان المتنوعة، أليست الغاية من الملبس ستر العورة، ولكن بجانب هذه الغاية قام بإضفاء صبغة الجمال فأصبحت ستر وزينة، فالإنسان جمالي بطبعه، اما بالنسبة للمسكن، فأصبحنا نقيم بمباني هندسية بالتصاميم المختلفة، وظل إهتمام الإنسان بالجمال في تزيين منزله من الداخل من الأشكال الديكورية والأثاث الملون والمختلف أشكله، ومن الخارج من تلوين وجهات المنازل، كل ذلك من شغل الإنسان علي الجمال والفن فاصبح يدخل في أدق تفاصيل حياته، أليس الهدف من بناء البيوت والمنازل هو توفير إحتياجته من الخصوصية وتحقيق متطلباته، ولكن بجانب هذه الغاية أرتبطت بمفهوم الجمال، وكذلك الوضع في طعامه، فنلاحظ المطاعم الفاخرة الشرقية منها وذات الطراز الغربي وفنون طهي الطعام، منها الايطالي ومنا الأمريكي وغيره من الطرق المختلفة، وهذا بجانب أسلوب تقديم المؤكلات، سنجد الجمال يتجسد بصوره المختلفة في أدق تفاصيل حياة الإنسان .

***

محمد الدسوقي

ليسانس الفلسفة

 

في المثقف اليوم