قضايا

جدلية "نزع السحر" و"إعادة السحر" في بنية السلطة المعاصرة

في السردية التقليدية للحداثة التي صاغها ماكس فيبر، يتجه العالم حثيثاً نحو "نزع السحر"، حيث تحل العقلانية البيروقراطية والحسابات التقنية في المؤسسات القانونية محل الأساطير والطقوس والغيبيات. ومع ذلك، فإن نظرة فاحصة وعميقة إلى الديناميات الداخلية للنخب العالمية —سواء أكانت سياسية أم تكنولوجية أم اقتصادية— تكشف عن واقع مغاير تماماً. إن ما نشهده اليوم ليس اختفاءً للسحر، بل تحولاً جذرياً في موقعه ووظيفته.

لقد هاجرت "الهرمسية" من مختبرات الكيميائيين في القرون الوسطى لتستقر داخل "الصناديق السوداء" للخوارزميات، وفي غرف الاجتماعات المغلقة للشركات العابرة للقارات، وفي صلب العقائد السياسية للنخب التي باتت ترى في نفسها "أرستقراطية روحية" متميزة عن عامة الشعب.

تنطلق هذه المقالة من فرضية مركزية مفادها أن الهرمسية والغنوصية لم تعودا مجرد تيارات دينية هامشية، بل تحولتا إلى "تكنولوجيا للسلطة". توظف النخب هذه الأدوات المعرفية والرمزية لخلق هوة أنطولوجية ومعرفية بين فئتين: "العارفون" الذين يمتلكون مفاتيح الحقيقة والتحكم، و"الجمهور" القابع في أنفاقِ واقعٍ صُممت بعناية، ومحكومٍ بقوانين يجهل كنهها. ولا يقتصر هذا التوظيف على اليمين المتطرف فحسب، بل يتغلغل في صلب الليبرالية التكنوقراطية، واستراتيجيات إدارة الموارد البشرية، وتكتيكات الحرب الهجينة.

رأسمالية السحر والكيانات اللوفكرافتية

في سياق الفلسفة التسارعية، صاغ نيك لاند مفهوم "الخرافة الفائقة" (Hyperstition) لوصف الأفكار التي تُحيل نفسها إلى حقيقة عبر الانتشار الفيروسي. وفقاً لهذا المنظور، لا يُنظر إلى الرأسمالية والتكنولوجيا كأدوات بشرية، بل كقوى "سحرية" مستقلة (أشبه بكيانات الكاتب لوفكرافت الكونية) تعيد تشكيل الواقع وتتجاوز نطاق التحكم البشري. هنا، لا تلعب النخبة دور "المتحكم"، بل دور "المُستحضِر" الذي يسرّع وصول هذه القوى؛ فتغدو السيبرنيطيقا نوعاً من طقوس استحضار الشياطين.

يتقاطع هذا الطرح مع رؤية "كيرتس يارفين" (منسيوس مولدباغ) حول "الحاكم التنفيذي"، حيث يقترح استبدال الديمقراطية بنموذج الشركة. في هذا النموذج، يُدار المجتمع كملكية خاصة بواسطة مدير تنفيذي يتمتع بسلطة مطلقة، مما يعيد إحياء مفهوم "الحق الإلهي للملوك" ولكن بصيغة رأسمالية-تكنولوجية.

الذكاء الاصطناعي: الغنوصية الجديدة

تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم كـ صناديق سوداء غامضة، حيث تعجز حتى النخب المطوّرة لها عن فهم الآليات الدقيقة التي تفضي إلى نتائجها. يعيد هذا الغموض إنتاج بنية "المعرفة الباطنية" القديمة:

الغموض كسلطة: تتعامل العامة مع التكنولوجيا كـ "سحر" (نتائج تظهر بطريقة إعجازية)، بينما تحتكر قلة قليلة القدرة على تدريب هذه النماذج وتوجيهها، مما يخلق فجوة معرفية هائلة تعزز سلطة التكنوقراط.

استحضار الكيان الآخر: لم يكن وصف إيلون ماسك لتطوير الذكاء الاصطناعي بأنه "استحضار للشيطان" مجرد استعارة؛ بل عكس إيماناً ضمنياً بأننا نتعامل مع كيان "آخر" ذي قدرات فائقة يتطلب "سحرة" (خبراء) للسيطرة عليه، وهو ما يبرر مركزية السلطة وتشديد الرقابة.

العمليات النفسية وسحر المؤسسات

تُعد العمليات النفسية (PSYOPs) التطبيق الحديث والأكثر تعقيداً للسحر، حيث تهدف إلى "سحر" عقول الجماهير وإعادة هندسة تصوراتهم للواقع.

توجيه الإدراك: عبر البيانات الضخمة والاستهداف الدقيق

(Micro-targeting) ، تقوم شركات مثل "كامبريدج أناليتيكا" بخلق "أنفاق واقع" مخصصة لكل فرد، بحيث يرى العالم من زاوية تخدم أهداف النخبة المشغلة.

السيطرة على "الروح": الفارق الوحيد بين السحر القديم والعمليات النفسية الحديثة هو التكنولوجيا؛ أما الهدف فواحد: السيطرة على "الروح" وتوجيهها دون وعي من صاحبها.

الروحانية الرأسمالية: ترويض النفس

تغلغلت الهرمسية في عالم الشركات، حيث تحولت "الروحانية" إلى أداة للضبط الاجتماعي تحت ما يمكن تسميته بـ "ماكدونالدز الروحانية:"

السلعنة: يتم انتزاع ممارسات مثل "اليقظة الذهنية" من سياقها الأخلاقي (البوذي مثلاً) وتحويلها إلى سلع استهلاكية وأدوات تقنية لزيادة الإنتاجية.

الخصخصة النفسية للمعاناة: بدلاً من معالجة الأسباب الهيكلية للتوتر (الاستغلال، انعدام الأمان)، تُستخدم الروحانية لإقناع الموظف بأن المشكلة تكمن في "داخله" وفي عجزه عن "التكيف". هنا تصبح الروحانية أداة لتدجين العمال لقبول القسوة بابتسامة "مستنيرة."

الطائفة الوظيفية: تتبنى الشركات آليات مشابهة للطوائف الدينية، حيث تُخلق "ثقافة قوية" وطقوس تجعل الولاء للشركة التزاماً عقائدياً، ويُعد أي نقد لها "هرطقة" يجب تطهيرها.

البيوسياسة واللاهوت السياسي الجديد

في ظل الأزمات العالمية (الجوائح، المناخ)، تبرز مفاهيم "البيوسياسة" كأدوات لاهوتية-سياسية للسيطرة:

كارل شميت (السيادة): يُعرّف السيد بأنه "من يقرر في حالة الاستثناء". تمنح هذه النظرية الحاكم سلطة شبه إلهية لتعليق القانون، مماثلة لـ "المعجزة" التي تعلق قوانين الطبيعة. تستغل النخب الأزمات لفرض "حالة طوارئ" دائمة تتجاوز الديمقراطية.

جورجيو أغامبن (الحياة العارية): تهتم السلطة الحديثة بالسيطرة على "الحياة البيولوجية" للمواطنين، محولة إياهم إلى "حياة عارية" مجردة من الحقوق السياسية. يتجلى هذا في "البيوسياسة الوبائية" حيث يُستخدم "العلم" كدين جديد لا يقبل النقاش، يتنازل فيه المواطن عن حريته مقابل "البقاء البيولوجي" فقط.

نحو وعي نقدي بالهرمسية السياسية

يكشف التحليل المستفيض أن العالم الحديث لم يتخلص من السحر، بل قام بـ "مأسسته". لقد تحولت الهرمسية من ممارسة فردية للخلاص إلى أيديولوجيا نخبوية للسيطرة. تستخدم النخب المعاصرة "الغموض التقني" لإعادة إنتاج تراتبية كهنوتية، يملك فيها "التكنو-غنوصيون" مفاتيح المستقبل، بينما يُترك الجمهور في حالة من "الأمية السحرية."

تكمن خطورة هذه "الهرمسية الجديدة" في تخفيها خلف قناع العقلانية والعلم. لذا، فإن تفكيك هذه البنية يتطلب "إضاءة الصناديق السوداء"، وكشف الأبعاد اللاهوتية والأسطورية الكامنة خلف السياسات التقنية، وإعادة الاعتبار للسياسة كفعل ديمقراطي تشاركي، لا كطقس غنوصي تحتكره النخبة.

***

غالب المسعودي

.......................

(References)

Adorno, Theodor W. The Stars Down to Earth and Other Essays on the Irrational in Culture. (“Download The stars down to earth and other essays on the ... - Drive”) Edited by Stephen Crook. London: Routledge, 1994. Accessed via Internet Archive.

Adorno, Theodor W. "Theses Against Occultism." Communists in Situ (blog). Accessed November 21, 2025. https://cominsitu.wordpress.com/2021/01/28/theses-against-occultism-adorno-1947/

Batnitzky, Leora. "Leo Strauss." In The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta. (“God and the Problem of Logic”) (“God and the Problem of Logic”) Stanford University, 2021. https://plato.stanford.edu/entries/strauss-leo/

Drury, Shadia B. "Book Review: The Political Ideas of Leo Strauss." Constitutional Commentary 6, no. 176 (1989). University of Minnesota Law School. https://scholarship.law.umn.edu/concomm/176

McAllister, Ted V. "The Conservative Thought of Eric Voegelin." VoegelinView. Accessed November 21, 2025. https://voegelinview.com/the-conservative-thought-of-eric-voegelin/

New College of Florida. "Esoteric Politics: Leo Strauss and the Power of Secrets." JBC Commons. Accessed November 21, 2025. https://digitalcommons.ncf.edu/

O’Kane, Chris. "These Against Occultism Today: Towards Capitalism as Occultism?" Studies in Social and Political Thought 28 (Summer 2018). https://ssptjournal.wordpress.com/

Smith, Steven B. Reading Leo Strauss: Politics, Philosophy, Judaism. Chicago: University of Chicago Press, 2006. Excerpt accessed via https://press.uchicago.edu/Misc/Chicago/764028.html

Southey, Matthew. "The Revolutionary and The Hermit: Eric Voegelin's and Hans Jonas's Conceptions of the Modern Gnostic." Matthew Southey (website). Accessed November 21, 2025. http://southey.com/

Telos Press. "Adorno on Astrology." Telos Press. Accessed November 21, 2025. http://www.telospress.com/adorno-on-astrology/

UC San Diego. "How to misread properly: the metaphor in the real." eScholarship. University of California. https://escholarship.org/

Voegelin, Eric. "Quest to Resist Untruth and Restore the Roots of Order." (“Eric Voegelin s Quest to Resist Untruth and Restore the Roots of Order”) LSU Digital Commons. Louisiana State University. https://repository.lsu.edu/

الغالبية من شعوبنا، شعوب تعادي المختلف، شعوب تكره الفرح والسعادة والاحتفال، شعوب تخاف وتخشى أن تكون على طبيعتها الإنسانية؟. لماذا؟. لانها شعوب اعتادت على ثقافة الجمود والإنعزال والكراهية. لهذا استمرت كشعوب كسولة غير منجزة، لا تعمل ولا تبدع ولا تحترم الإنسان ولا القانون

والحقيقه الواضحه في هذه المجتمعات انها مجتمعات متجمده ومتحجره ومتقولبه، والقيمه الأكثر انتشارا هي قيمة التشابه والتطابق بغض النظر عن حق الفرد في الاختيار والاختلاف والتفرد، لهذا تقوم بسحق وجوده لتحوله إلى جزء ملتصق بمنظومتها، ليصبح مجرد حاضنة مؤقتة لما يغرس فيه و يستهلك عمره وقودا للإبقاء على هذه الأفكار التي لم يختارها من الاساس

مجتمعات غاب العقل فيها تحت ركام خطب الوعيد وكثرة الفتاوى و تقديس ما ليس بمقدس

مجتمعات لديها إزدواجية أخلاقية سلوكية تحكمها فجوة رهيبة بين مظاهر السلوك وبين حقيقة السلوك

مجتمعات الإنسان فيها مهدور الكرامة والحقوق ويعتنق ثقافه النفاق والتطبيل لأي سلطه

مجتمعات مازالت تعتمد في منظومتها التعليميه على الحفظ والتلقين لم يتعلم الفرد داخلها معنى التحليل والنقد والشك حول ما يتلقاه من أفكار ومعتقدات، ولهذا استمر في التعاطي مع أزماته بالبحث عن الحلول في ماضيه وتراثه ومعتقداته وأساطيره وليس في اكتشاف حلول جديدة تلائم الواقع الراهن

تخلف هذه البنية الذهنية هو نتاج تاريخي انحطاطي مرت عليه قرون طويلة من الإنغلاق الثقافي وأعطيت فيه القداسة والتبجيل للنقل والتقليد على حساب العقل الذي تم تغييبه وتقييده ومحاربة ابداعه

مجتمعات تطغي فبها الطائفية على الإنسانية ، والكراهية علي التعايش والتكفير على الحوار والتعصب بدلا من التسامح

مجتمعات تعمل على وأد السؤال وتضليل القارئ وتجهيل العقل الجمعي

مجتمعات تزعجهم شعارات الحرية والحياة والتنوع، لأنهم اعتادوا على القمع والتبعية والوصاية على الإنسان

مجتمعات ممتلئه بالوجوه الكالحة الفاسدة سياسيا واجتماعيا وب لحى منافقة دينيا وبمذهبية وقبلية طاغية وبوسائل اعلامية دنيئة ورخيصة، يمدحون ويطبلون لمن يدفع أكثر ومن يعتلي المناصب

مجتمعات لا يزال خطابها عاطفي ديني لا يحمل أي مقومات علمية أو فلسفية أو حداثية يواجه بها قوة الصناعة وتكنولوجيا العلم ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والمساواة والتعددية

وعندما تتوحش ثقافة المنع والقمع والكبت في هذه المجتمعات، يتخلف المجتمع، وتتهاوى مؤشرات الإختلاف والتنوع وتقبل الآخر وتتلاشي قيم التسامح والتعايش، وتتراجع مؤشرات الفن والحياة والجمال

لهذا ستبقى مجتمعاتنا العربية غير جاهزة للحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية، طالما تسيطر عليها مؤسسات دينية تخشى من الإنفتاح، وثقافة بدائية يدافع عنها الرعاع، وأنظمة استبدادية ليس لديها من مشروع، سوى مشروع بقاءها في السلطة السياسية

الحل في احترام حق الإنسان في الحياة والحرية والإعتقاد والعدالة، لم تعد اليوم امتيازات حقوقية مجردة يتمتع بها المواطن في وطنه. بل أصبحت، هي الطريقة الأخلاقية التي يتواصل من خلالها الأفراد، ويتفاعلون سياسيا واجتماعيا في الوطن، ليؤسسوا مع بعضهم البعض، رؤيتهم للعيش المشترك والنظرة إلى الإنسان

أن تحفظ الدوله حقوق كل الأديان والأفكار والمعتقدات دون تمييز أو إعلاء أو محاباه

احترام مبدأ الحوار والاعتراف بقيمه الآخر المختلف

واحترام الحريات الفردية وعدم مراقبة حياة الآخرين

الاهتمام بملفات التعليم والصحه والتنميه وتحسين معيشه المواطن

ولنعلم ان نزع جذور التسلط والإكراه والوصاية في ثقافتنا وسلوكنا وأخلاقنا، هو المدخل لتأسيس بيئة حاضنة للعلمانية في مجتمعاتنا العربية بعد عقود طويلة عملت فيها الأنظمة والمؤسسات الدينية على زرع أفكار وقيم تعلي من شأن الطاعة والخضوع والخوف وتزدري قيم الفردية والمساواة والحريات

ويستعيد الإنسان فردانيته وانسانيته عندما يستعيد استقلاليته التي ذابت تلاشت مع الأوهام والقطيع والخرافات

حدثوا أولادكم عن جمال الحب و الفن و الرسم و الموسيقى و الفلسفه ...تحدثوا معهم عن قيم التسامح والعفو والمحبه

عن الصدق والعدل . وعن اهميه العمل والاجتهاد

وعن تقبل الاخر المختلف

حدثوهم عن جمال الحياه وعلمهم ان هناك أرض مشركه من الممكن أن تتسع للجميع

علموهم ان للحقيقه جوانب متعدده كل منا يحمل جانب منها لذلك لاوجود في الحياة للصح المطلق ولا للخطا المطلق

علموهم ان العقل والضمير هما جناحا النفس البشرية السوية يفقدهما الانسان حين تطغي المرجعية على التفكير وحين يترك لغيره تحديد ماهية الخير والشر

واخيرا مجتمع بلا فن هادف .. هو مجتمع بلا إبداع

***

ابتهال عبد الوهاب

يطيب لبعض العراقيين الذين يقلقهم هاجس (الانقسام) العصبوي المسلط عليهم كسيف ديموفليس، النظر الى أنفسهم بمثابة (أمة) واحدة موحدة تجمعها طائفة بارزة من العوامل الجغرافية - التاريخية، والأواصر الاجتماعية – النفسية، والرموز الدينية - الأخلاقية. بحيث يعتبرون ان تفشي مظاهر التصدع في كيان الدولة، والتشظي في مدماك المجتمع، والتذرر في معمار القيم، ما هي إلاّ نتاج ظروف عابرة وحصيلة أوضاع شاذة، لا تلبث أن تمضي وتزول إن عاجلا"أو آجلا"، دون أن تكون حائلا"يمنع التئام شمل عناصر تلك الأمة ويعيد لكيانها الانتصار ولرموزها الاعتبار.

والحقيقة أنه لا يوجد عراقي واحد لا يتمنى أن ترى هذه (الأمة) المزعومة النور، ولا يتشوق أن تبلغ المستوى الذي تستحقه من الحضور، بعد أن تتمكن – طبعا"- من لملمت شعث هذا الوجود الفوضوي من الكيانات المتشرذمة والجماعات المتذررة، ومن ثم تحيله الى كتلة بشرية متراصة وطنيا "ومتماسكة اجتماعيا"ومتجانسة حضاريا". ولكن ما يتمناه المرء ويرغب فيه شيء، وأن يرى ما تمناه ورغب فيه متحقق على أرض الواقع شيء آخر تماما". إذ إن الأمم – كما يقول المؤرخ الماركسي (إريك هوبسباوم) – (ليست أبنية اجتماعية تزود الشعب في الظروف العادية بأبسط الحلول لأعقد المشكلات. بل هي – على العكس من ذلك – كيانات ثقافية ذات روابط حقيقية عميقة الجذور بالهوية والانتماء). ولذلك لا يعدو الحديث الصاخب عن وجود (أمة) عراقية أن يكون مجرد خطابات رومانسية وشعارات طوباوية صيغت لأغراض سياسية ومآرب إيديولوجية، لا يمكن أن تنطلي على من يمتلك الحدّ الأدنى من الوعي والقدر الضئيل من الثقافة.

وفي إطار تعيين المحاور أو تشخيص الركائز الأساسية التي يمكن اعتمادها في بيان المعطيات والكيفيات، التي يمكن من خلالها توضع الأسس البنيوية وتحدد الأطر السوسيولوجية المعول عليها بناء مدماك (الأمة العراقية) الذي عزّ خياره وطال انتظاره دون جدوى، رغم بون التقادم في الزمان والتراكم في المكان حيث فشل التجارب وإخفاق المحاولات، دون أن يصار الى معرفة الأسباب والاهتداء الى المعوقات التي تحول دون تحقق هذا الحلم الموغل في الطوباوية. هذا وقد ارتأت هذه المحاولة ان مشروع بناء ما يسمى ب (الأمة العراقية) لا يمكن وضع أسسه وبلوغ كيانه، دون مراعاة بناء الركائز الثلاث التالية:

الركيزة الأولى - تشذيب (الثقافات الفرعية)

لما كان المجتمع العراقي من المجتمعات التي تحتوي على فائض سوسيولوجي وانثروبولوجي من (الثقافات الفرعية)، التي هي نتاج تاريخ مديد من الهجرات الاقوامية والغزوات القبائلية والاحتلالات الأجنبية، فإن الأمر يستدعي منا – حين نشرع بدراسة مثل هذه الظواهر الاجتماعية - الى مراعاة المحاذير والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن طمس معالم تلك الثقافات وتغييب خصائصها، لاسيما وأنها تعكس الطبيعة النوعية للجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع العراقي. ذلك لأن أية محاولة متهورة من هذا القبيل قمينة، ليس فقط في حمل تلك الجماعات والمكونات على التمسك بأصولها الأقوامية ومواريثها القبائلية ومرجعياتها الطوائفية وسردياتها الأسطورية، ومن ثم تحفيزها على (التعصب) في المواقف و(التطرف) في السلوكيات فحسب، وإنما اعتبار كونها (المحاولة) صيغة تتماشى مع سياسات (إلغاء) الآخر (الجواني) من جهة، وتتعارض وتتناقض مع حقائق ووقائع (التنوع) الانثروبولوجي في المجتمع من جهة أخرى.

والحال ما العمل لتفادي أو تجنب مثل هذه المشاكل والإشكاليات المتوقع حدوثها في حال تم تجاهل وقائع (التعدد) الاثني، و(التنوع) القبلي، و(التباين) الطائفي، التي تعد من أبرز الخصائص السوسيولوجية والانثروبولوجية للمجتمع العراقي، سواء في المراحل التاريخية السابقة أو المراحل اللاحقة ؟!. ان ضرورات المنطق ومستلزمات العقلانية تستدعينا للتعاطي مع هكذا كيانات واقعية، أسيء استثمار دورها التاريخي في غير سياقها، واستغلال وظيفتها الاجتماعية في غير ظروفها. بحيث تحولت – تراكم الاحتقانات وتفاقم الأزمات وتعاظم الصراعات - الى قنابل موقوتة، لا تحتاج سوى قدحة عابرة حتى يتحوّل المجتمع الى ركام من الخراب والدمار. ولهذا فقد شدد أحد علماء الاجتماع الغربيين (سام برايك) على (ان بناء الأمة يتكون من كتابة التواريخ القومية في شكلها الأسطوري، وابتداع الرموز، وتعيين الإجازات القومية، وإحياء ذكرى معينة والاحتفاء بها، ووضع المعايير، وتشجيع اللغات القومية، في المدارس والجامعات والأكاديميات، وإنشاء شبكات للمواصلات والبريد، وتكوين خبرات إذاعية وإنشاء الملاعب القومية).

ولعل من أبرز ما يشتمل عليه مفهوم الثقافات الفرعية هي: (القومية / الإثنية)، (القبلية / العشائرية)، (الطائفية / المذهبية)، (الجهوية / المناطقية)، (اللغوية / اللهجية). والتي تشكّل الركائز الأساسية والبنى المعيارية لأي مجتمع لا زال يتخبط بدوامات مراحل تحوله؛ من التبربر الى التحضر، ومن التوحش الى التأنسن. 

الركيزة الثانية – تهذيب (الشخصية المعيارية)

حين نتحدث عن هذا النمط من الشخصية الاجتماعية، ينبغي علينا استحضار مجموعة أخرى من (القواسم المشتركة) التي تعتبر بمثابة القواعد المؤسسة لصيرورة (الشخصية المعيارية) في المجتمع، والتي تحتاج – باستمرار – الى بذل كل ما من شأنه حمايتها والنأي بها عن كل ما يعيق تكوينها الطبيعي من شتى أصناف النوازع الأنانية والدوافع الفئوية، التي من المرجح أنها قد تتسلل وتتسرب إليها عبر مختلف الأنشطة الشخصية والممارسات الاجتماعية ذات الطابع العفوي والتقليدي، بحيث يفضي إهمال عواقبها أو تجاهل أضرارها - بالنتيجة - الى انفراط عقد النسيج الاجتماعي – الوطني الهش أصلا"، الى شعث مكوناته الأولية – البدائية.

والجدير بالملاحظة ان كينونة (الشخصية المعيارية) هذه، تحتاج حتى تكتمل بالشكل الذي يجعلها فاعلة ومؤثرة الى الاعتماد على تحقيق مضامين المزدوجات التالية، ليس بصيغة المفاضلات والأسبقيات التي من مساوئها ترجيح هذا الطرف على ذاك، أو تميّيز هذه الخاصية على تلك، وإنما بصيغة التفاعل الجدلي والتكامل البنيوي والتخادم الوظيفي. ولعل في مقدمة تلك المزدوجات الواجب مراعاتها نذكر منها : (جغرافيا / انتماء)، (تاريخ / ولاء)، (دين / تعايش)، (ثقافة / رموز)، (قيم / معايير). وبقدر ما يؤخذ هدف تحقيق هذا التكامل بصورة متوازنة بعين الاعتبار، بقدر ما يصار الى تمتع هذه الشخصية (المعيارية) بخصائص (النضج) في التكوين و(الصلابة) في التحديات، التي لا مفر من توقع مواجهتها باستمرار في مثل هذه المجتمعات الانتقالية، سواء عبر سيرورات التحول السلمي في العلاقات، أو من خلال الانتقال العنفي في التوازنات.

الركيزة الثالثة – تخصيب (الهوية الحضارية)

وتعد هذه المرحلة بمثابة المحطة النهائية في مشروع بناء مدماك الهوية (الوطنية / العراقية)، التي من شأن التعويل عليها تشجيع مبادرات (الانفتاح) على الآخر – البراني (الخارجي)، ومن ثم تسهيل عمليات (التفاعل) مع الأمم والشعوب الأخرى من جهة، والانخراط في أتون (التثاقف) الحضاري والإنساني من جهة أخرى. بحيث يفضي اكتمال هذه المرحلة الحضارية ليس فقط الى التخفيف من غلواء النزاعات العنصرية، واستشراء الدوافع العصبية، بين مختلف الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية فحسب، بل وكذلك التجفيف لكل مصادر الاحتقانات النفسية، والكراهيات الدينية، والانقسامات الاجتماعية، والصراعات السياسية.

والجدير بالملاحظة ان الوصول الى هذه المرحلة من صيرورة (الهوية الحضارية) ومن ثم بلوغ شوطها النهائي، تحتاج ليس فقط الى تخطي الكثير من الحساسيات النفسية، الالتباسات التاريخية، والإشكاليات الثقافية، بين مختلف الجماعات والمكونات على صعيد الانتماء والولاء والهوية فحسب، وإنما الى فترات زمنية طويلة نسبيا"- ربما عدة عقود – وذلك لجسر الهوة العميقة التي تفصل بين تلك الجماعات والمكونات، جراء استمرار (القطيعات) العديدة والمتنوعة التي كونتها الأساطير الدينية ودعمتها السرديات التاريخية، للحدّ الذي بات متعذرا"استئصال رموزها من الوعي وإطفاء وهجها في الذاكرة.

وأخيرا"، السؤال الآن ؛ بعد كل ما تقدم من معلومات ومعطيات، هل من الممكن أن تتحول التكوينات (الفسيفسائية) التي يتشكل منها المجتمع الى كيان (أمة) عراقية، كما تروج له الخطابات السياسية والإيديولوجية الطافحة بالرومانسية والغارقة في الطوباوية، بحيث ترتكز على (ثوابت) قارة وتحتكم الى (مرجعيات) معيارية لا يجوز تخطيها أو تجاهلها ؟!. الجواب على ذلك – من وجهة نظر هذه الورقة – هو (كلا) لا يمكن تحقيق هذا الحلم البعيد المنال !!.

***

ثامر عباس

على امتداد ما تعرضه الأفلام والمسلسلات، يُقدَّم لنا الحب على أنه وهج ساحر، وهبة مفاجئة تأتي مع نظرة واحدة فقط. ورغم رومانسيته الشديدة، فإن هذه الفكرة تتغذى على أوهام عميقة: أننا نمتلك رغبة ذاتية صافية، وأن عشقنا يولَد من داخلنا بلا وسائط، كأن الحب ينبع من ذاتنا بلا تشويش من العالم الخارجي. لكن الواقع – كما سنرى – أعقد بكثير. هناك أشياء لا يحسب لها صُناع الحكايات حسابًا: الجروح التي نشأنا بها في الطفولة، الجراح الأصلية، تعقيدات الحياة، حتى السياسة والعائلة – كلها تتداخل في تشكيل رغبتنا، وتجعل الحب ليس مجرد لقاء عابر، بل معركة.

لماذا قصص الحب المستحيلة (روميو وجولييت) هي الأقوى؟

ليس لأن الحب ذاته أقوى، بل لأن العالم ألغى هذا الحب، لأن العائق – المجتمع أو العائلة – قال “لا”. في قصة روميو وجولييت، لا يكون العشق أسطوريًا فقط لأنهما أحبا بعضهما، بل لأن العائلة تقول لهما لا. هذا المنع، هذه العقبة التي ترفض الانصياع، تضيف للحب بريقًا لا يُقاوم. فلو قال الجميع “نعم — تزوجا”، لفقد الحب نصف قوته منذ البداية. نحن لا نحب فقط من أجل الشيء نفسه، بل نحب لكي نتجاوز المنع، لكي نبرز في العالم؛ نحتاج إلى العائق لنشعر بأن وجودنا مهم، وأن رغبتنا ليست عبثًا.

هذه الديناميكية – المنع يخلق الرغبة – اكتشفها الكثير من الكتاب والمفكرين، لكنها تجد تفسيرًا عميقًا جدًا في نظرية رينيه جيرارد.

الإنسان الفارغ: تفسير جيرارد للرغبة

يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع رينيه جيرارد إن الإنسان ليس كائنًا يملك رغبة داخلية أصلًا واضحة وصافية، بل هو كائن فارغ يبحث عن ما يريد عبر الآخرين. طبقًا لنظرية المحاكاة (mimetic theory) التي صاغها، “نحن نرغب فيما يرغبه الآخرون”. ليس شخص واحد فقط يرغب في شيء ما، بل رغبتنا تتشكل عبر نموذج آخر (شخص نعدّه قدوة أو مثالًا)، ومن خلال هذا النموذج نقتدي ونقلد، ثم نكتسب رغبتنا تجاه الشيء الذي يريده هو. 

بهذه الرغبة المماثِلة، يتحوّل النموذج (الشخص الذي نقلد) إلى خصم منافس. لأننا نريد ما يريده هو، ونراه كمصدر للقيمة، تتشكل لدينا علاقة مثلثية: “أنا – النموذج – الشيء المرغوب فيه”. هذه المماثَلة تولد التنافس، وأحيانًا العداوة، لأننا نرغب في الشيء ذاته. 

الأوهام الرومانسية والأثر النفسي

حينما نؤمن بفكرة “الحب من أول نظرة”، فإننا نمنح الرغبة طابعًا فطريًا أو أحيانًا قدسيًا، نعتقد أننا وجدنا شيئًا أصيلًا ومنبعًا داخليًا. لكن من منظور جيرارد، رغبتنا لم تُخلق بشكل تلقائي داخلنا؛ بل هي انعكاس لما نراه في الآخرين. وبالتالي، عندما نحب، نحن في الحقيقة لا نحب فقط الشيء ذاته، بل نحب قدرتنا على محاكاة من نعتبره قدوة، ونحب التنافس معه، حتى لو لم نقر بذلك.

في الواقع، الطفل الذي نشأ مع جرح عاطفي، أو عائلة محطّمة، أو صراع اجتماعي، لا يأتي إلى الحب بحالة نقية. الجرح الأصلي يلون رؤيتنا: نبحث عن من يملأ الفراغ، عن من يعكس لنا ما نفتقده. وبالنسبة للكثيرين، هذا المنع العائلي أو السياسي يصبح هو المحرّك: نريد أن نثبت أننا نستحق، أننا نستطيع تجاوز القيود.

السياسة، المجتمع، والعشق

لا يمكن فصْل الحب عن سياقنا الاجتماعي والسياسي. فالقوى التي تحكم العائلة، والتقاليد، والموقع الطبقي، وحتى السلطة، تشكّل العقبات التي تُضيف بعدًا دراماتيكيًا لعلاقاتنا. في كثير من الروايات، لا يُحكَى العشق بين عاشقين فقط، بل يُحارَب من قبل المجتمع: فرق الطبقات، الأعراف، الحروب السياسية، التنافس على التراث أو السلطة.

هذا العائق ليس فقط مصدر ألم، بل مصدر بريق للحب، لأننا نحبه ليس فقط لأنه جميل، بل لأنه ممنوع. لذلك نجد أن قصص الحب المستحيل مثل روميو وجولييت أو غيرها تذهب إلى القلب: لأنها تحكي الصراع، وليست فقط عن اللقاء.

نحو وداع أسطورة “الحب من أول نظرة”

حين نفكّر في نظرية جيرارد، ندرك أن رغبتنا ليست فطرية محض، بل مكوّنة، محاكاة، تتأرجح بين الاحتكاك والانعكاس. وهذا يعني أن فكرة الحب من أول نظرة، رائعة كما هي من الناحية السينمائية، لكنها تضيّع من الحقيقة الكثير من التعقيد:

1.رغبتنا ليست مستقلة: لا نرغب في الفراغ، بل لدينا نماذج نتبعها.

2.القيمة تُولد من العائق: المنع، العائلي، الاجتماعي، السياسي، يُضخّم الرغبة ويمنحها نكهة وجودية.

3.الجرح ينير الحب: الطفولة والجراح الأصلية تترك أثرها في الطريقة التي نحب بها.

4.المجتمع ليس خلفية، بل فاعل: ليس فقط بيئة، بل جزء فيرولوجي من الحب، يضيف صراعًا ومعنى.

الخاتمة: قوة الحب في التعقيد

لنقل وداعًا، إذا شئت، إلى الحكاية الحالمة التي تقول إن الحب يولد من النظرة الأولى، بدون وساطة، بدون صراع، بدون جرح. لأن الحب الحقيقي، على نحو ما، ليس اللحظة السحرية وحدها، بل هو المعركة على الوجود، هو رغبة مُماثَلة نعمل من خلالها لنصبح من نحب، ونصبح جديرين بهذا الحب. القصة التي تبقى في الذاكرة ليست فقط قصة لقاء، بل قصة تحدٍّ، رفض وسقوط، ثم انتصار—حتى لو انتصارًا جزئيًا، وحتى لو في الخيال.

في نهاية المطاف، الحب العميق الذي يبقى ليس ذلك الذي وُلد في لحظة، بل الذي تشكّل على مدى الزمن، في مواجهة الجراح، والصراعات، والقيود. هذا هو الحب الذي يوقظنا، ويعلمنا من نحن، وما نريد، بل من نكون.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

العلماء هم الذين سينزعون الفكر المثالي من عقل الانسان العربي، الذي لا زال يهرول خلف من يمنيه بالجنة والخلاص من النار.. 70% من تفكيرنا مشغول بما يقوله رجل الدين للمغفل العربي الانسان.. نعم اذاً ستتحقق الكينونة والسيرورة والصيرورة للمجتمعات الدنيوية والأخروية.. بعلم الانسان، لا بافكار رجال الدين اعداء الفكر والعلم والانسان..

 ان اختلاف وجهات النظر والاصرار على ان التاريخ المكتوب عن الخلفاء والفقهاء بأخطائه وعدميته هو الحقيقة ألصحيحة لزاما علينا تصديقه وان تناقض مع العلم وعقل الانسان والذي لم يعد له قابلية تغيير فكرالعربي الانسان.. مادام متوافقا مع خرافات فقهاء الاديان.. نقول:مسالة فيها نظر اليوم.. نكتب ما يلي ومن حق الاخرين..  ابداء الرأي والرأي الاخر- دون تشنج- المكفول بقانون الحرية في بلد الحريات لاغير..  فنقول:

لا زال البحث العلمي جاريا بقوة لمعرفة سر الوجود.. والعدمية فيه.. وكيف خلق وكيف ستكون النهاية ؟ ولا زال البحث العلمي يبحث ما خلف المريخ من وجود.. ؟ بالعلم وليس سوى ما جاء في الكتب المقدسة للديانات القديمة وحتى ظهور عقيدة الاسلام التي لم تستطع خلق مجتمع متحضر في الوجود.. والعلماء جادون اليوم لمعرفة حقيقة الاكوان في المجرات الاخرى التي ترفضها عقلية فقهاء الدين خوفا من كشف حقيقتهم على ما يدعون خلاف الأديان.

وهناك دراسات جديدة تبحث في الفروق الحياتية بين الارض والاجرام السماوية الاخرى، (دراسات ناسا التي لا زالت لم تظهر الى الوجود) ولربما تُظهر هذه الدراسات نتائج قد تقلب صفحات التاريخ والخلق الى اعتقادات جديدة تتضارب مع العقائد الدينية الحالية.. فلو ظهر انسان أخر في اجرام سماوية اخرى..  ماذا ستكون موقف النظريات الدينية الحالية.. دعونا ننتظر.. هنا هو الاختلاف بين العلم..  والاديان؟

ان العماد الاكبر في هذه الدراسة هي معرفة نشوء الانسان في التاريخ واحوال البشر اجمعين وما تُجمع الدراسات القديمة والحديثة على مر السنين من اراء وافكارٍ مختلفة وما توصلت الدراسات العلمية حتى اليوم من نتائج مبنية على الحقيقة لا الوهم الذي تتبناه مؤسسة الدين. وخاصة ظهور الاكتشافات لانسان النيانتدرال قبل ستة الاف سنة عن الخلق قبل مجيء.. نظرية آدم وحواء وكيف هبطا من السماء الى الارض عقابا لهم على اكل الثمرة من الشجرة الملعونة ودور الشيطان الذي لم نعرفه الى اليوم من هو تحديدا.. والتي لا زالت الدراسات تتبناه على الحدس والتخمين لا غير.. ومنهجنا الدراسي يخلو من كل علم عليم.. مثلما ساهمت الدراسات الدستورية لتدمير حقوق المواطنين.. حين كتب الدساتير في بلداننا العربية والاسلامية مقيدة بشريعة الدين.. التي فرقت بين المرأة والرجل في الحقوق وبين الأديان السماوية في المعتقدات.. وتمسكت بنظرية وما ملكت ايمانهم وما ملكت ايمانهن ومتعة النساء بين بعض المسلمين.. ليتمكنوا من مزاولته بنص.. كما نراهم اليوم يمارسونها بكل صلافة مستندين على نصٍ فسر خطئاً بينهم...يا لتعاسة الايمان بدين لم يراعِ المساواة في الحقوق.. بين الآدميين.. في الأيمان والاديان.. هم يتمتعون بالزنى.. لكن المرأة اذا حصل منها طرفة عين تقتل بجريمة العرف دون تحديد.. هذه هي عدالتهم في التطبيق.. والقرآن يقول "انا خلقناكم من نفس واحدة"

مصطلحات ثلاثة شكلت محور الفلسفة العلمية والعمود الفقري لكل الأبحاث الآلهية والأنسانية. هي الكينونة بدء الوجود، والسيرورة هي حركة سير الزمن، والصيرورة هي النتيجة التي انتهت اليها الكينونة بعد مرورها بمرحلة السيرورة فالعدمية . لكن الذي يجب الاجابة عليه هو: من أين جاءت هذه المصطلحات الفلسفية الثلاثة التي بنيت عليها الدراسات العلمية؟

الأجابة هنا جاءت من حركة التلازم والترابط بين المحاور الثلاثة نفسها، بحيث لا وجود لأحدها بعيدا عن الاخر.فالكينونة – بدء الوجود- من حيث هي حركة زمن تبقى في فراغ أن لم تقع على شيء كائن متحرك يخضع لها، ثم ينتهي ليصبح بتأثيرها سيرورة أخرى. والصيرورة لا تكون أبداً مع عدم وجود شيء وقعت عليه السيرورة.وهذا كله يقودنا الى الجزم بأنه لا وجود بلا تطور، ولا تطور بلا حدود.. وهذا ما يقره العلم الحديث اليوم.. وتنكره مؤسسة الدين.. الخائبة في معرفة الحقيقة.

فالقرآن كله يخضع لهذا القانون الاجتهادي العلمي المرن ليتعايش الانسان مع التقدم ومع كل جديد في عالم المعرفة والدين"علمَ الانسان مالم يعلم".فلم يأت ِ القرآن مبهما ليقرأ ويجود في زوايا المساجد ويغنى عند عبد الباسط عبد الصمد وتتحكم في تأويله فئة جهلة الدين.. ليعلومنا كيفية أنحناء الرؤوس ودوامة الزمن الى ما لا نهاية له حتى موتنا وحشرنا مع السالفين.

أن مدارس تحفيظ القرآن الكريم والمدارس الدينية وكتاتيب الفقهاء اليوم والحوزات العلمية المنتشرة في طول بلاد أمة الاسلام وعرضها هي موتنا الأكيد..  بعد أن أخذت منا صفوة شبابنا وأدخلتهم معامل التفريخ لجهلة المستقبل وعقد المعممين والمعقدين دينياً، لنبقى شعباً بلا فكر ولا مفكرين..  ولنعد الى معرفة سر الوجود والعدمية وما قال فيهما العلم والعلماء على نقيض فكر الفقه والفقهاء.. جهلة الدين.

فالكينونة هي الوجود المادي للكون والانسان، والسيرورة هي الزمن الذي يحول المادة الى علم وتطور، اما الصيرورة فهي عملية التحول من الخلق الى العدم.. ولكن هذا لايعني ان الحياة ستنتهي للجلوس مع حور العين والولدان المخلدون واباريق الخمر والعسل في جنتهم الوهمية كما يدعون.. 

وبهذه التحولات العلمية نتيجة الصراع الذي يؤدي الى تحويل الاشياء بعضها الى بعض فحياة اي شيء تقضي موت شيء اخر فحين يتحول التراب الى ماء والماء ينتج الحياة -خلقنا من الماء كل شيء حي- فيصبح في صيرورة جديدة كما في قوله تعالى:(يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فأنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مُخلقة وغير مُخلقة لنبين لكم.... ، الحج5).لكن النهاية تنتهي بأنسان يمشي على الارض، هذه هي المرحلة الاولى لخلق البشرية بوجب نظرية الكينونة، والخلق لم يأتِ بزمن محدد كما يدعون.. بل هو قديم قدم خالقه. فكيف ينكر الانسان محورا هو الان من نتائجه وغاية من غاياته، وينكر ان يطال جنته هذه التي يقول عنها أنها باقية خالدة، كخلود رب العالمين وكل شيء متغير الا هو لقوله تعالى:( كل شيء هالك الا وجههُ، القصص 88 ).ألم يكن هذا تناقضاً..

اما السيرورة فهي قانون النفي ونفي النفي كما يقول الفلاسفة، اي ان الأنفجار الاول الذي فُصلت فيه الارض عن السماء حدث نتيجة نفي النفي، يقول الحق: (أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، الانبياء 30). وهذا الانفجار نفى ما قبله.وحين تقوم الساعة بموجب قوانين السيرورة الآلهية ينتهي الى وجود البعث والحساب، وبوجب انتهاء قانون الصيرورة ينتهي قانون صراع المتناقضات، لان لولا الصراع والخلاف ما ظهر شيء اخر.. لكن هذا العالم سياتي على انقاضه، عالم جديد على غرار الانفجار الاول.اذ ليس من المعقول أن تنتهي الحياة ويبقى الخالق جلت قدرته بدونها.. فمسالة العدمية الحياتية لا تنطبق على قدرة الخالق في البقاء والتجديد.. كما يعتقدون ان الانسان سيُخلد في جنة الخلد مع حور العين وانهار الخمر – المحرمة عليه في الحياة كما يدعون– لكنهم نسوا ان الوجود موت يتلاشى، والموت وجود يزول.. فالخير والشر والكون والفٍساد أمور تتلازم في النظام العام استمراريتها وفق قواعد الخلق والوجود.. هل فهم الفقهاء هذه النظرية ليحكموا على النظرية مثلما يريدون.. فأوصلونا الى العدمية في الحياة دون موت يزول.

.. من هنا قال ارسطو بهذه النظرية التي جات في القرآن بعد زمن طويل من ظهور الاسلام الذي قال: ان الحياة والموت كلاهما خلق: "انا خلقنا الموت والحياة لنبلوكم ايكم احسن عملا سورة المُلك " فالموت خلق والخلق موت.اي تفسير فكرة الحركة في الوجود، أي ان الزمان والاشياء الاخرى في تغير وتحول.. الا خالقهم.. ثم يعودون.

لقد تنبه الفكر الماركسي الى هذه الناحية المخالفة للوجود المادي الدائم الذي يدعي به المجتمع الشيوعي كبديل لمفهوم اليوم الاخر وقيام الساعة ونفخة الصور، ويرُد العلماء عليهم في القول:أن هذا لايمكن أن يحصل الا بعملية نفي للوجود المادي ذاته، ,هذا غير ممكن ما دامت ظاهرة الموت موجودة. ان الفكر الشيوعي الماركسي كان عاجزا عن تصور نهاية التاريخ، عندما أكد على الكينونة الانسانية فقط دون الفناء، هنا نفى الانسان من حيث لا يشعر رغم وجوده فعلاً ونفى الحرية في سبيل تحقيق وسائل الانتاج حتى لو كانت قهرية، فسقطت الحرية الأنسانية وجاءت البروليتاريا - لتخضع كل شيء خاضع الى المادة والانسان معاً – وبهذا التصور الذي لايستند الى قانون الوجود والموت..  سقط الفكر الماركسي نفسه، كما رأينا ذلك في نهاية الاتحاد السوفياتي اليوم.

لكن التنزيل الحكيم كان منسجماً مع نفسه تماماً، ومع الوجود المادي، لكونه وحياً من خالق الوجود وخالق الغائية الكونية، وهو الدليل النظري الوحيد الذي يتفق وقانون الوجود. فحياة الانسان وحريته ورفاهيته غاية دنيوية، والجنة غاية أخروية تصورية لزرع الاستقامة في البشر، والخير والشر مرتبطان بشكل لا أنفضام فيه، لا ينفي أحدهما الاخر بل يتصارع معه، وهذا مربوط بظاهرة الموت. فهنا نرى ان قانون الجدلية بين الانسان والكون مربوط بظاهرة الموت، يقول الحق: (كلُ نفسٍ ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون، الانبياء 35). هنا نرى ان الغائية التي رسمها التنزيل الحكيم للوجود الكوني المادي هي الساعة والصور والبعث، هي الحياة والحرية والاستقامةالتي تبنتها الوصايا القرآنية العشر، اما الغائية الاخروية له هي الجنة ويقصد بالجنة قبول فكرة الراحة الابدية والاستقامة الحياتية لاغير. وبين الحياة الدنيوية والاخروية فرق كبير..ولا زالت هذه المفاهيم غيبية.. لم يتمكنوا الفقهاء من اثبات الدليل فيها والعلم يتحداهم ان اثبتوا الصحيح.. كما يدعون.. ؟

من هذا التصور العلمي نخرج بنتائج محددة من الدراسة:

ان مصداقية الرسالات السماوية لا تظهر الا في كلمات الخالق الاحد اي في الوجود الموضوعي الكوني لذا وجب معرفة قوانين الطبيعة وسنن الله فيها كما وردت في القرآن وفق منطق الكينونة والسيرورة والصيرورة وبالتالي نخرج بنتيجة مهمة جدا وهي: ان القرآن فَهَمُ متطور غير ثابت، بينما كلام الله ثابت في كينونته كنص، فالنص القرآني ثابت لكن المعنى متحرك.لذا فالنص قابل للأجتهاد وفق منطق التأويل الزمني وليس التفسير اللغوي، ولأن الفقهاء فسروا القرآن وفق نظرية الترادف اللغوي لذاجاءت اراؤهم متناقضة مع النص.، حتى أبقونا في سجن حديدي لا مفر منه أبدا.من هنا فأن مقولة لا أجتهاد في النص مخالف للحقيقة والواقع وليس عندنا بشيء.. لذا فأن الرسول(ص) لم يفسر القرآن لا عتقادة بالتأويل المتطور زمنياً.

وهذا مالم يدركه المفسرون والفقهاء -الذين جاؤا وبالا على الامة- في زمن لم تستكمل اللغة العربية تجدريداتها اللغوية بعد، لذا ظلت الاحرف الاولى التي جاءت في القرآن كما هي دون تفسير والكلمات الاعجمية الاخرى كذلك. مما اضطرهم لنقل الاف الاحاديث النبوية المزورة كما عند مسلم والبخاري والمجلسي صاحب بحار الانوار لقرون خلت حين سيطرت فيها السياسة على الدين فلم يعد النص الديني يشكل المعيار الوحيد لتصرف السلطة شرعياً. فجاءت تفسيراتهم وأراؤهم متضاربة ولدت لنا الفِرق الاسلامية المتناحرة التي هي ليست أجتهادات دينية لنص معين مبنية على أسس علمية، بل هي مزاجات لخدمة السلطة والحاكم لا غيركما في مؤسسة الدين اليوم الصامتة صمت القبور عن الحق.. لذا فالمذاهب الدينية مبتكرة ولا علاقة لها بالاسلام..  فابعدتنا عن جوهر الاسلام.، فكان المظهر الاول الاعتزال عن التحكيم الذي التزموا فيه موقف الحياد في النزاع الاول في خلافة المسلمين (رأي الخوارج مثالاً)، لكنهم مادروا ان الحياد كان يساوي السكوت عن الحق، مما مهدوا للباطل بالانتصار، فخلقت جبهات اخرى لجأ اليها كل متردد وضعيف. من هنا لاح في الافق امكانية أنهزام الحق أمام الباطل، والحرية أمام الأستبداد، والاحتيال امام الحقيقة، فكان ابو موسى الاشعري وعمرو بن العاص بداية النكوص بالامة نحو الباطل.حين أصبح الحاكم الظالم وفق التنظير الجديد أفضل من أنعدامه.

ولابد من توضيح ان القول بالتناقض بين قوانين الجدل وقوانين المنطق خاطىء من اساسه، لأن الجدل قانون، أما المنطق فهو مجموعة قواعد للعقل تعُصم عن الخطأ وأولها قانون عدم التناقض.هنا لابد من ان نغوص في قضية قانون الزوجية وقانون الاضداد، فيظهر لنا ان قوانين الزوجية تظهر في العلاقات بين الضدين بعضها مع بعض، وقوانين الاضداد تظهر في الظواهر الاجتماعية المتباينة والمختلفة ولا غير.. وهذه القاعدة مجهولة عندهم.. أو قل لا يعرفونها ابداً.

ان ثقافة القرآن الكريم في التـأويل والتقييم، تحتاج الى من يفهمها ليدخلها شريعة للناس في التعامل أجمعين، فليس بمقدور احد ان يطوع النص لتصوره دون قانون، وليس معقولا ان يأتي النص خلافا لحقوق الناس اجمعين، والفرق الأسلامية جميعا غير مخولة برسم السياسة الدينية والاجتماعية للناس، فلا وساطة بين الله والعباد في الدين، فالانسان واحد ذكرا او أنثى والله أله الناس لا يفرق بينهم (أنا خلقناكم من نفس واحدة) فهم يقتلون المرأة اذا رأوا عيبا منها.. ولا يحسبون الرجل اذا زنى الف مرة كما في متعة النساء المخترعة منهم اليوم..  وما ملكت ايمانهم.فليس يحق لأحد ان يعيب على الاخر تصرفاته دون قانون، والقرآن يقول لكم دينكم ولي دين..

لقد حاول الفقهاء ورجال الدين ان ينقلوا النص لخدمة الحاكم وخدمة التقليد وذكورية الرجل، فراحوا يتخبطون في الشعائر، والشعائر ثابتة لا دخل لها بالثقافة،  وانما تحدد هوية الانتماء للرسالة المحمدية وما يدخل فيها هو التشريع وحقوق الانسان التي أغتصبها الحاكم دون سائر الناس بعد وفاة الرسول(ص) مباشرة بأسم الخلافة التي الغت آية الشورى -كما هم اليوم- وهذا امر مرفوض لابد من الخلاص منه حتى لو ادى ذلك الى الثورة على الحاكم المستبد الغاصب.والا سنبقى نحن والاسلام في أعداد الأموات.ولا يمكن لهذا الواقع المرير ان يتغير الا بتغييرالمنهج الدراسي لننشأ جيلا على الصحيح.

ليس من حق الفقهاء واصحاب الفرق الاجتهادية التراثيين ان يضيفوا أمورا اخرى على الشعائر الدينية بدعوى أنها ثابتة كالحجاب الشرعي، علماً ان الحجاب من الأعراف والتقاليد لا علاقة له بالأسلام ولا بالايمان، وهم لم يستطيعوا ان يفرقوا بين حجاب المرأة والستر بموجب الاية الكريمة: (ومن بيننا وبيك حجاب) وهذا معناه بيننا وبينك حاجز في النحلة والدين ومع ذلك فقد جعلوا منه شعاراً سياسياً..  لتغييب الحرية الانسانية وحقوق الأنسان عند المرأة.. لا بل غيروا دين محمد(ص) واستبداله بدين الفقهاء في طروحاتهم وتجاهل النظريات الاقتصادية الحديثة التي ساهمت بتطور البشرية بكل فروعها وتفرعاتها.أضافة الى طرح شعار حاكمية الله الذي ورد في الآية258 من سورة البقرة حتى اصبحوا يسومون الناس بأفكارهم المنغلقة دون مراعاة لحقوق الناس فهُم ليسوا وكلاء الله في الأرض فالمطلقية لله وحده دون الاخرين من البشر كما في "نظرية قدس سره "والقرآن ينفي التقديس الأية 174 من سورة البقرة، وهذا الذي أرادوه وطبقوه الذي ألغى بدوره كل مفهوم للخيار الانساني على الارض.. وهو ليس من الاسلام بصحيح.

كل هذه المحاولات جاءت منهم تحت شعار الاخرة وحقوق الله، والجنة والنار..  وكأنهم وكلاء الله في الأرض على طريقة الأكليروس المسيحي في العصور الوسطى. فالمؤسسات الدينية تخضع للسلطة السياسية تحت شعار طاعة (أولي الأمر) المفهومة خطئاً منهم.. والحركات السياسية اليوم تريد السلطة تحت شعار حاكمية الله. وهكذا جعلوا من الدنيا مزرعة للاخرة، وان الذنوب مهما كانت يمحيها الحج الى بيت الله الحرام وهذا تدليس ليخونوا ويقتلوا ويسرقوا اموال الناس دون حسيب او رقيب كما يفعلون اليوم وكلاء المنطقة الخضراء.. وكأن التوازن بين الحياة الدنيا والاخرة التي وردت في القرآن أصبحت في خبر كان عندهم.. بهذه العقليات المنغلقة يريدون بناء دولة الحقوق.. والقانون..؟

هذا مستحيل ففاقد الشيء لا يعطيه.

ان ما ندعو اليه هو سحب سلطة رجال الدين والفقهاء من حقوق الناس والتحكم بهم بحجة الشرعية الدينية، فالشرعية هي القانون وليست شرعيتهم المبتكرة منهم.. ويجب تعديل الدستور لصاح المجتمع، ومنع كتابة الدساتير الا من قبل المتخصصين في الفقه الدستوري وليس المتفيهقين اعداء القانون، فالدستور هو القانون الاساسي لا ورقة بيع وشراء للمبادىء والشعب كما حصل في دستورنا العراقي الجديد الناقص. الذي فرق الأمة الى كيانات باطلة وغمط حقوق الشعب ومكن السياسيين من التغلب على الحقوق، والمطلوب أقرار فقه دستوري جديد معاصر لحفظ حقوق الرجل والمرأة وفهم معاصر للسنة النبوية والحقوق.. باستقلالية الفكر المتطور مع الزمن.. وابعاد رجل الدين عن التشريع..  والا اصبحت الكثير من النصوص القرأنية موضع شك بأنها ربانية.. لان الفقهاء هم الاسرع في التدليس لانهم الاقدر على التبرير.. ويبقى نظام الوجود نظام آلهي عادل.. وتبقى العدمية هي السقوط في دوامة الفراغ.. فأن لكل شيء نهاية.. ؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

يقول علي الوردي " العقل الجبار الذي لم يفهمه العرب " (1913-1995): ” الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة “ (كتاب، مهزلة العقل البشري، ص:7).

يبدو المشهد المعرفي في العالم العربي المعاصر كفضاء تتقاطع فيه الحقائق مع التفسيرات المتنوعة، وتتزاحم فيه الروايات على شرعية المعنى، بينما تخوض المجتمعات العربية تحولات فكرية واجتماعية تعيد تشكيل رؤيتها لنفسها وللعالم من حولها. وفي خضم هذا الواقع المعقد يطرح سؤال جوهري: كيف تنتج الحقيقة؟ هل هي إرث ثابت تتناقله الأجيال، أم بناء معرفي ينشأ عبر الحوار والبحث والتفكير النقدي؟ هنا تكتسب مقولة عالم الاجتماع علي الوردي أهميتها، فهي لا تعد مجرد تأمل نظري، بل دعوة لإعادة النظر في مفهوم الحقيقة ذاته، وفي الطرق التي تصاغ بها داخل مجتمعات يغلب عليها الثبات على حساب حركة السؤال والتفكير الحر. ومن هذا المنطلق يبدو الواقع العربي كساحة تتصارع فيها التقليدية مع الحداثة، واليقين مع الشك، والصمت مع النقاش، صراع تحدد نتائجه مصير الحقيقة وإمكان ولادتها من رحم البحث والمناقشة النقدية.

في واقع الأمر، تبدو مقولة علي الوردي: " الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة " أشبه بمحاولة لانتشال الوعي من سلطة المسلمات، ودفعه نحو فضاء تتشكل فيه الحقيقة عبر الاحتكاك الحي بالأفكار. حين نضع هذه الفكرة في سياق المجتمعات العربية المعاصرة، تظهر المفارقة بوضوح، فالمجتمع الذي يحتاج إلى النقاش لتوليد الحقيقة، هو نفسه المجتمع الذي يخشى النقاش لأنه يهدد ما اعتاد عليه.

في العالم العربي اليوم، تكاد الحقيقة تعامل كتراث ثابت لا كنتاج معرفي متغير. ما يأتي من الماضي يقدم بوصفه كاملاً، وما ينتجه الواقع ينظر إليه بحذر، أما ما يختلف مع المتعارف عليه فيحاصر بالشكوك وسوء الظن. وهكذا يصبح الحوار فعلاً استثنائياً لا ممارسة يومية، ويغدو الباحث عن الحقيقة أشبه بمن يسبح عكس تيار طويل من الطاعة الفكرية والتقليد.

تظهر أزمة هذه المقولة في البنية الاجتماعية ذاتها، حيث ينظر إلى النقاش غالباً بوصفه تهديداً للاستقرار، فالدولة تخشى أن يقود الجدل إلى اضطراب، والمؤسسة الدينية تخشى أن يفتح باب التشكيك، والعائلة تخشى أن يولد الاختلاف تمرداً، والجامعة تخشى أن يحول النقد طلبتها إلى مشاغبين أكثر منهم دارسين. في مثل هذه البيئة، يفقد النقاش وظيفته الجوهرية، ويتحول إلى طقس شكلي أو إلى مبارزة كلامية خالية من المنهج والمعرفة.

وإذا كان الوردي يرى الحقيقة بنتاً للبحث، فإن البحث ذاته يعاني من التهميش. فالمؤسسات التعليمية لا تزال تكرس التلقين بدل التفكير، والفضاء الإعلامي يضخ الآراء أكثر مما ينتج المعرفة، ووسائل التواصل الاجتماعي تمنح الصوت للجميع لكنها لا تمنح القيمة للجودة. وفي ظل هذا الضجيج، تتناثر "حقائق" كثيرة، لكنها لا تنشأ من نقاش عميق، بل من انفعال لحظي أو من خطاب هوياتي لا يرى إلا ذاته.

ومع ذلك، لا يمكن القول إن الحقيقة غائبة تماماً عن عملية البحث والمناقشة في العالم العربي. هناك تيارات فكرية جديدة تسعى إلى تفكيك الموروث وفحصه، ودوائر بحثية تحاول استعادة دور الجامعة في إنتاج المعرفة، ونقاشات عامة تتجرأ على طرح ما كان مسكوتاً عنه. لكنها لا تزال محاصرة بثلاثة حدود وهي (حدود السلطة، وحدود المجتمع، وحدود البنية الذهنية)، التي ترى في السؤال تجاوزاً لا ضرورة.

إن نقد مقولة الوردي في السياق العربي يقود إلى نتيجة مهمة أن المشكلة ليست في المقولة بل في شروط تحققها. الحقيقة لا يمكن أن تكون بنتاً للبحث في مجتمع لم يعترف بعد بأن السؤال أقل خطراً من الجهل، ولا بنتاً للمناقشة في فضاء يجرم الاختلاف أكثر مما يشجعه. إنها مقولة تنطوي على مشروع نهضوي كامل، مشروع يتطلب إعادة بناء علاقة المجتمع بالمعرفة، وإصلاح مؤسسات إنتاج الفكر، وتحرير الجدال من وصاية السلطتين الرمزية والسياسية.

وفي الختام، يمكننا القول إن الحقيقة في العالم العربي تبدو مفصولة عن أسس إنتاجها المعرفي، فهي تحتاج إلى بيئة مؤسسية وفكرية تتيح لها التشكل والنمو عبر البحث والنقاش النقدي. فالمجتمع يطالب بالحقيقة لكنه لا يمنح أدوات بنائها، والناس يرغبون بالنقاش لكنهم يخافون نتائجه، والمؤسسات ترفع شعار الحرية لكنها تضيق ذرعاً بممارستها. ما يقوله الوردي ليس وصفاً لواقع قائم بقدر ما هو تذكير بواقع ينبغي أن يكون، حقيقة تولد من البحث لا من التكرار، ومن الحوار لا من الإملاء، ومن الجرأة لا من الخضوع.

وهكذا، يتضح أن مقولة علي الوردي ليست مجرد تعريف لطبيعة الحقيقة، بل مرآة تعكس أزمة العقل العربي في علاقته بالبحث والنقاش. فالمجتمعات التي تعلّق شرعيتها على الثبات، وتهاب السؤال بوصفه تهديداً، وتخضع الحوار لسطوة الأعراف والسلطات، لا يمكن أن تنتج حقيقة قابلة للتطور، بل تعيد تدوير نفس القناعات التي تعيق حركتها. وفي المقابل، يظل الأمل معقوداً على تنامي الوعي النقدي وتحرر المعرفة من قوالبها التقليدية، رغم بطء التحولات وكثافة القيود. إن نقد واقع الحقيقة في العالم العربي هو في جوهره نقد لبنية اجتماعية لا تزال تفاوض نفسها بين الرغبة في التجدد والخوف من تبعاته؛ بنية تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأن الحقيقة ليست هبة تمنح، ولا إرثاً يورث، بل ثمرة لجدل حي لا يكتمل إلا حين يصبح السؤال ممارسة يومية، ويغدو النقاش طريقاً للمعرفة لا تهديداً لها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- تركيا

..............................

- المراجع المعتمدة:

1.  علي الوردي: مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ط2، 1994.

2.  علي الوردي: وعّاظ السلاطين، دار كوفان، لندن، ط2، 1995.

3.  حسام الدين فياض: نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي (رؤية سوسيولوجية – نقدية)، موقع الحوار المتمدن، العدد: 7662، بتاريخ 04/04/2023. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=797961

كثيرة هي أحكام المرأة التي تضع عليها أعباءً تكليفية تقيد حياتها، وتجعلها أقرب للعسر على خلاف التصور الشائع من كون تكاليف المرأة أقل من تكاليف الرجل، فالبحوث الأكاديمية ومواقع التواصل تزخر بكتابات تخرج من أقلام تضع حرف الدال قبل اسمائها أو من رجال دين -أو هكذا يظهرون من خلال ازيائهم- يتطرقون إلى تعاليم أو أحكام أو فتاوى تخص المرأة دون أن يلتفتوا أدنى التفاتة الى تغير الواقع الحياتي اليومي الذي حول موضوعات الأحكام الى واقع آخر، أو قضايا مختلفة عما رسمه النص من حكم لموضوع مخالف، منها على سبيل المثال: عطور المرأة وتطيبها عند الخروج من البيت.

المرأة والرجل اليوم يستعملان منتحات معطرة من الصابون الى سوائل غسل الملابس الى معطر الجو الى منظف الارضيات الى معطر الأطفال والى تعطير الزهور نفسها..

المجتمع صار مغمورا بالروائح والمعطرات الصناعية الغالية أو الرخيصة، فالعطر الذي ستضعه سيضيع مع هذه العطور المتداخلة.. لم يعد لعطر المرأة خصوصية واضحة حتى يكون محرما أو محللا، لم يعد العطر حالة استثنائية، فكل مكان تدخله ستجد عطرا فواحا مبالغا به يعطر الجو الى درجة الاختناق.

لكن لليوم يطلب من المرأة البقاء بلاعطر، لأن أنف الرجل قد يُفتن.

في أصول الفقه توجد قاعدة:

الحكم يدور مدار موضوعه وجودًا وعدماً، فأذا تغير الموضوع تغير الحكم موضوع تطيب المرأة وخروجها بهذا الطيب في القرون الماضية كان مرتبطا بنوع من العطور الطبيعية الغالية ذو القيمة العالية والنادرة مثل المسك والعنبر، وكان يستخدم في مناسبات خاصة جدا، وكان يُشم في بيئة خالية من الروائح، وكان يفسّر بإعلان رغبة أو إثارة.

أما اليوم فكل الأماكن معطرة: مطاعم ومولات وطرق وحمامات، كما الجسم والثياب محاطة بروائح مواد النظافة المعطرة بالعادة، وصار العطر جزءا من الصحة والنظافة والذوق، فتلاشت دلالته الجنسية تقريبا.

إذن تغير وصف العطر، أي تغير الموضوع فلابد أن يتغير الحكم.

لم يعد شم عطر من أمرأة غريبا أو مثيرا، فالأجواء محاطة بسحابة من العطور المتداخلة.

ولأنني لدي حساسية من العطور، فأني أكثر من غيري أدرك الأمر، وأجد ان كل مكان أدخله واي ملابس قريبة مني سأشم رائحة عطور عادية، ولا انتبه من وضع العطر رجلا أو أمرأة، أو مكانا أو ثوبا.

العطور في كل مكان. فهل ستعتق المرأة من هذا الحكم الذي انبثق حين كان للعطر دلالة حصرية على الدعوة للإثارة الحسية!.

وللعلم فان السيد السيستاني (حفظه الله) أباح الخروج للمرأة متعطرة اذا لم تكن تقصد الفتنة ولاتثير أفتتان الرجال !.(ظ: الموقع الرسمي للسيد السيستاني، شؤون النساء، الفصل التاسع، سؤال ٤٩٩)

وبما أن الجو العام صار معطرا كليا، فلم يعد لعطرها خصوصية كما أظن وأرى، فهل يكف الآخرون عن ترهيب المرأة بعذاب محيط لمجرد أن ثيابها تحمل عطرا كما أي مكان آخر لاعلاقة له بالإنسان !!.

***

د. بتول فاروق الحسون

٢٢/ ١١/ ٢٠٢٥

تظهر نسخة من قصة جنة عدن والفاكهة المحرمة الواردة في الانجيل أيضا في الميثولوجيا اليونانية في حديقة هيسبيريدس Hesperides حيث يحرس الثعبان الفاكهة ويلعب دورا هاما.

جنة عدن التي ذكرت في الانجيل تظهر كحديقة خاصة خلقتها الآلهة كسكن أصلي لآدم وحواء، وهما أول شريكين بشريين مُنعا من تناول الفاكهة من شجرة معينة في الحديقة. ما أذيع من شهرة، انهما رفضا طاعة الإله وأكلا منها رغم ذلك. نسخة من هذه القصة التي تستلزم حديقة خاصة وفاكهة محرمة، تظهر ايضا في الميثولوجيا اليونانية وتُعرف بحديقة هيسبيريدس.

حديقة هيسبيريدس

تشترك جنة عدن بعدد من أوجه الشبه مع حديقة هيسبريدس وفقا للميثولوجيا اليونانية. هيسبيريدس كانت عبارة عن مجموعة من الحوريات (صنف أدنى درجة من الآلهة) مثّلت المساء، الضوء الذهبي لغروب الشمس وأقصى الغرب. اليونانيون القدماء اعتقدوا انهن امتلكن حديقة خاصة في ذلك الاتجاه. بعض السجلات تضعها في منطقة اطلس تيتان. البعض الآخر اعتقد انها كانت قرب جبال الاطلس في شمال افريقيا. اما بليني الأكبر Pliny the Elder (1) وضعها في المغرب، بينما اسطرابون Strabo (2) اعتقد انها كانت في تارتيسوس في شبه جزيرة ايبريا.

وعلى أية حال، كانت حديقة هيسبيرديس بستانا خاصا للإله اليونانية هيرا.  تختلف السجلات هنا، لكن هي اما شجرة منفردة او بستان ازدهر هناك. أغصان هذه الشجرة او ذلك البستان أثمرت تفاحا ذهبيا خاصا لا يشبه أي شيء في الطبيعة.

الفاكهة المحرمة

احدى سمات قصة جنة عدن الواردة في الانجيل هي تحريم الفاكهة من شجرة معينة. كيف يرتبط هذا بأساطير الميثولوجيا اليونانية؟

طبقا للأسطورة، عندما تزوج زيوس من هيرا، حضرت مختلف الالهة ومعهم هدايا الزفاف لهيرا. من بينهم كان الإلهة غايا Gaia، الام الجدة لكل الحياة، التي عرضت أغصانا تحمل تفاحا ذهبيا. ونظرا لإعجابها الشديد بهذه الفاكهة، طلبت هيرا من غايا ان تزرعها في حديقتها، وهو ما تم فعلا.

بعد ذلك وضعت هيرا الهيسبيريدس (الحوريات) في بستانها لكي يعتنين به. لكن الحوريات كن في بعض الأحيان يقطفن التفاح الذهبي لأنفسهن. كانت هيرا مستاءة جدا من هذا العمل لأن التفاح كان خاص جدا. ولأنها لا تثق بهن، وضعت هيرا ثعبانا يسمى لادون Ladon بين أغصان الشجرة او البستان. هذا الثعبان يتولى حراسة التفاح الذهبي في الحديقة ويمنع الهيسبيريدس من قطفه.

أوجه الشبه بين جنة عدن وحديقة هيسبيريدس في اليونان القديمة

من هذه النظرة العامة لحديقة هيسبيريدس وفاكهتها المحرمة، لننظر بمدى التشابه مع جنة عدن الواردة في الانجيل. في كلتا الحالتين، الحديقة هي مكان خاص خلقهُ كائن الهي. في جنة عدن، كان إله بني إسرائيل، بينما في حديقة هيسبيريدس كان غايا، إلهة الحياة. كلا الحديقتين أنتجتا فاكهة خاصة وفريدة. وبينما الفاكهة المحرمة في جنة عدن لم تكن غريبة فيزيقيا، لكنها كان لها دورا فريدا وكانت الفاكهة الوحيدة المحرمة على آدم وحواء. في حالة حديقة هيسبيريدس، كانت الفاكهة خاصة ومحرمة تشبه الفاكهة المحرمة في جنة عدن.

ومثلما تعرض قصة الانجيل حواء كونها غير مطيعة لله في تناولها للفاكهة، تعرض الميثولوجيا اليونانية هيسبيريدس كونهن يأخذن الفاكهة لأنفسهن.

أخيرا، مثلما يربط الانجيل الفاكهة المحرمة في جنة عدن بثعبان خاص، فان الفاكهة المحرمة في حديقة هيسبيريدس كانت مرتبطة بثعبان يسمى لادون. ومع ان هناك اختلافات ملحوظة بين القصتين مثل دور لادون كحارس بدلا من عنصر إغراء – يبقى التشابه بين القصتين ملفت للنظر. هذه القواسم المشتركة تشير الى أصل ثقافي او تأثير مشترك، يجعل من المعقول الاستنتاج ان كلا القصتين برزتا في النهاية من تقاليد ذات صلة.

***

حاتم حميد محسن

.............................

GreekReporter, Nov16,2025

الهوامش

(1) مؤلف روماني وقائد عسكري، عاش من سنة 23 الى 79م، وهو مؤلف موسوعة التاريخ الطبيعي.

(2) اسطرابون هو جغرافي وفيلسوف يوناني قديم، ولد سنة 63ق.م

في كتابه (القهر والسلطة - القدرة الإلهية والقوة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام) يقرأ الألماني يوهان كريستوف بيرغل فكرة ابن خلدون في مقدمته حول أنّ البقاع تغيّر الطباع، بشيء من إِنْعام النظر وإِمْعانه، مع استصحاب جذور هذه الفكرة التاريخية، إذْ يقول ما نصُّه: "ينطلق ابن خلدون من وجود علاقة وثيقة بين الإنسان والوسط الذي يعيش فيه، كما نعرفها من الطب اليوناني والجغرافيا اليونانية، نذكر بهذا الخصوص بكتاب أبقراط المشهور (عن الأجواء والمياه والأمكنة) الذي أعطاه م. بولنتس Pohlenz العنوان السائد اليوم (عن البيئة) حسب هذه النظرية يؤثّر المناخ على الإنسان، ويحدد إلى درجة كبيرة طابعه وثقافته"(1)  إذن نرى يوهان هُنا أنه يرجع بفكرة تأثير البيئة المحيطة بالإنسان إلى إشارات سابقة من حضارة مختلفة؛ وفي ذلك تدليلٌ على إدراك مختلف الشعوب تأثير محيطها في أخصّ خصوصياتها، فالمرءُ ابن بيئته.

وفي سياق ضبط المفاهيم، فإني في هذا المقال، لا أقصر مدلول المحيط - بطبيعة الحال - على عنصر المناخ فحسب، بل أمطُّه مطًا عريضا ليشمل منظومة رحبة تضم في خِبائها مختلف العناصر كنوع الطبيعة والحالة الثقافية والقوة الاقتصادية والموروث الشعبي وتصنيف الديانة ومستواها والوضع السياسي والمشهد الاجتماعي والديموغرافيا السكانية والمستوى التعليمي المتوسط…إلخ، فيما نختصره بقولنا المحيط، الذي تتموضع فيه أنشطتنا اليومية، بل حال كثير من الناس أن يكون هذا المحيط - والذي قد لا يتجاوز مئات الكيلومترات المربعة - مُستقرَّه من الميلاد إلى اللحد!

وباعتبار المحيط - بالدلالة الموسعة السابقة - مؤثِّرًا، فإني لا أتناول هنا متعلّقات هذا التأثير إلا متغيرّا واحدا وهو العادات، وهي الممارسات الدورية، إذْ أحاول جَلاء العلاقة التأثيرية بين المحيط والعادات، كاشفا عن مدى دقة وصف هذه العلاقة بالخطية، أي هل نحن بإزاء مؤثر فحسب في طرف، ومتأثر فحسب في الطرف المقابل؟ وكيف نستثمر علم الدماغ في مساعدتنا على بناء عادات وسط محيط لا يوفر بيئة حاضنة مناسبة؟

لا غَرْوَ أنّنا في بُعد حيوي من هُويّتنا مكوَّنون من عادات تشكّل معالمها، عادات ظهرت في صيغة سلوكيات لدوافع معينة، ثم عزّزتْ استمرارَها عواملُ شتى، حتى انتقلت من كونها مجرد ممارسات عابرة إلى عادات تتشبّث بأنَانا، وتصوغُ ما نحن عليه اليوم، ومن يرى أن الإنسان في جوهره ما هو إلا عاداته فإنه لم يبعد النجعة أبدا.

وسردُ قائمة المؤثرات في العادات يطول بلا ريب، ولكن حين يتعلق الأمر بالمؤثرات الرئيسة، فلا يمكننا بحال إغفال تأثير محيطنا في عاداتنا، فمثلا ما زلت أذكر إبّان دراستي الماجستير في تونس كيف أن الظهيرة - بحكم حالة الطقس العامة - مكتظة بحركة معاش لا تهدأ، خصوصا أنه بعد الثامنة ليلا، تتهيّأ العاصمة للاستعداد للنوم، فتجد نفسك مدفوعا - إلى حدٍ كبير - لتكييف عاداتك وفق هذا النمط الحركي/الزمني، وهذا خلافا للوضع الذي أعيشه في سلطنة عُمان، وهكذا الحال حين سافرتُ مؤخرا إلى بيرمينجهام بالمملكة المتحدة، وجدتُني مع الساعة السادسة مساء أبدأ في لَمْلَمَة يومي تزامنا مع طَيّ بيرمينجهام صخبها! وهكذا دواليك، وأعتقد أن من اعتاد السفر وخصوصا لمُدَد إقامة طويلة يتفق معي على هذا القدر من تغير الإيقاع البشري وفقا لطبيعة المكان.

الأمر لا يقتصر - كما أسلفت - على أحوال الطقس التي تحفز هذه العادة أو تمنع تلك، وإنما ينسحب الأمر كذلك على بقية عوامل المحيط، والمحور المركزي في هذا المقال ليس لإثبات التأثير بقدر ما هو توجيه بؤرة الاهتمام إلى معضلة واقعية تعيشها شريحة منّا، ممن سئموا تكرار المحيط، وأدركوا سَوْءاتِه، ورغبوا في بناء عادات جديدة على مجتمعهم، جديدة باعتبارها ظاهرة وحقا مشروعا متفهَّما، وليس بالضرورة أن تكون جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن محيطهم يصدّ تلك المحاولات أو يعرقلها بطريقة أو بأخرى.

وهذا التحدي يكتسب أهمية بالغة؛ لمركزية العادات في حياتنا، إلا أنه كذلك يعرّضنا لخطورة بالغة في حالة كون تلك العادات غير مستساغة في ذائقة المجتمع الذي ننتمي إليه، أو على الأقل لا يوفّر ضمانة جادّة تكفل رعايتها، فالتخلي عن العادات التي يرى فيها الفرد حالة متعالية سامية من الوعي، يغتال فيه الهُويّة الذاتية، كما أن الصدام مع المجتمع من شأنه أن يصادر منه حقوقه اللازمة ليعيش حياة مستقرة؛ فالاحتياجات البشرية لا يمكن إشباعهُا إلا جماعيا.

ولعل إحدى المقاربات العملية للخروج من عنق الزجاجة هذا هو خلق عالَم موازٍ بمثابة محيط مصغّر داخل المحيط الاجتماعي الأساسي؛ بهدف توفير العناصر اللازمة التي تضمن استمرارية العادات، يعني ذلك - فيما يعنيه - اختيار دوائر الاحتكاك من الناس، والتعرّض لوسائط إعلامية محددة، مثل بودكاستات مختارة بعناية، وحسابات ذات محتوى حقيقي على مواقع التواصل الاجتماعي، تخدم الإطار العام للعادات، وتضييق إشعارات الهاتف غير المهمة قدر المستطاع، وتحييد البيئات السامة أو الملهية، إلى آخر تلك الخطوات الإجرائية التي تهدف إلى بناء حاضنة خارجية تترعرع فيها العادة بأمان، فعادةٌ بغير بيئة حاضنة مناسبة، أشبه بمن يُلقى في الماء ويرجو مع ذلك ألّا يبتلّ، كما يمثّله قول الحلّاج:

ألقاه في اليَمّ مكتوفًا وقال له:     إيّاك إيّاك أنْ تبتلّ بالماءِ

وفي تصوّري، كلّما كان المحيط مبنيا على الاعتراف بضرورة (Requisite Variety) التنوّع الواجب، أمكن الأفراد من ممارسة اختياراتهم في العادات بكل أريحية، وأشعرهم ذلك بانتماء لهذا المحيط الذي اعترف بعاداتهم في الحياة، وضمن لهم حق ممارستها، بدون الاضطرار لشنّ هجمات الإقصاء أو لتبريرها.

وفي سياق بناء العادات، فهي ليست وحدها مَن تتأثّر بالمحيط، وإنما أدمغتنا كذلك، خصوصا تلك التي رزَحتْ رَدْحًا طويلا من الزمن تحت ضغط المحيط؛ ولذلك تتشابه عادات الأفراد المنتمين إلى محيط ما، في المجمل، ولكن لحسن الحظ أنّ أدمغتنا وبفضل خاصية (Neuroplasticity) المرونة العصبية، قادرة على إعادة تشكيل ممرّات عصبية للعادات الجديدة، شريطة الاستمرارية، وليس مثل الخطوات الصغيرة في القدرة على الديمومة رغم تقلّب الظروف، في خطوات صغيرة مستدامة، في اختراق ناعم لنسيج الدماغ، وكما يقول مارك توين في روايته (نيلسون المغفّل): "العادة، وما أدراك ما العادة؟ هي ألّا تقفز من الشبّاك مرة واحدة، بل تهبط السلّم درجة درجة"(2) إنّ المرونة العصبية (Neuroplasticity) تروّض الدماغ لقبول هذا المستجد ليكون جزءا لا يتجزأ منه، فتتضاءل الممرات العصبية المتعلقة بالعادة القديمة، لتحلّ محلها كثافة عالية في الاتصال الكهروكيميائي بين الخلايا العصبية بالدماغ، تلك المتصلة بالعادة الجديدة، والتي احتضنها المحيط الموازي - إن صحّ التعبير - الذي قام صاحبه بتشييده؛ كَرْمى العادة الجديدة، فمن ينشأ في محيط يعير هوَسًا بالغا بالمأدبات الاجتماعية بما هي ركن ركين من الوجاهة والتواصل، والتي لا تأبَه بالعادات الغذائية الصحية، بإمكانه وبدون صدام أن يبني محيطا موازيا بأن يضع حدودا تدريجية تمكّنه من الحدّ من إكراهات محيطه وإملاءاته في هذا الجانب، وبمثل هذه الإجراءات الصغيرة مع الاستمرار يأتي دور (Neuroplasticity) المرونة العصبية لتعززّ البيت الداخلي الدماغي فيتعوّد المرء على هذه العادة التي ما كانت لتنشأ لولا ذلك في مثل هذا المحيط المنفّر لأي اعتياد صحي، وحين يألفها الدماغ وتتغوّل فيه، فإنه تتولد طبقة حماية سميكة تقي العادة - على نحو كبير - سطوة المحيط المناهض لهذه العادة، فذلك المحيط الموازي كان بمثابة الشرنقة الضامنة لولادة جديدة، ولا أعني أنها مرحلية قابلة للاستغناء عنها لاحقا، فالمحيط الحاضن للعادة ضرورة لازمة لها طيلة حياتها، ولكنها تبلغ أوْج ضرورتها عند البدايات وتكسبها مناعة مضاعفة عند التعرض للضغوط، حتى تتماسك العادة وتقف على قدميها، من خلال بناء شبكة عصبية خاصة بها في أدمغتنا، وإلا فما جدوى قدمين ثابتتين وسط أرضية ترتجّ!

وإجابةً لسؤالٍ طرحناه في ديباجة المقال عمّا إذا كانت العلاقة بين المحيط وبين العادات خطية بمعنى أن يقف المحيط على طرف المؤثّر، بينما تقف العادات على الطرف المتأثّر، فإنه بحكم العدوى الاجتماعية (Social Contagion) فإن تبنّي العادات من قِبَل بعض الأفراد من شأنه أن يعدي الآخرين ويغريهم لتبنّيها أيضًا خصوصا ممن يشتركون في القناعات والمبادئ نفسها، فتغدو العادات متأثرة بمحيطها باعتبار، ومؤثرة في محيطها باعتبار آخر، ففي الاعتبار الأول نتبنّى العادات بحكم المتاح والإملاءات وحمولة الموروث، وفي الاعتبار الآخر تخترق العادات الغريبة على محيط ما بقوة ناعمة وهادئة ما تسالم عليه ذلك المحيط، فتعمد إلى تغيير ملامحه شيئا فشيئا، بحسب حجم العادة وعدد متبنّيها، وما تتضافر من عوامل مساعدة، إذن العلاقة بين المحيط والعادات ليست خطية بل دائرية، ويتوسطهما الدماغ عبر مرونته العصبية.

وأودّ أن أختم بلفتة أراها غايةً في الأهمية، وهي أن تأثير العادة الارتدادي لا يقتصر على المحيط الخارجي، بل وكذلك على الأروقة الداخلية للفرد، عبر ظاهرة (Ripple Effect) الأثر المتتابع، وفحواها أنّ النجاح في تكوين عادة صحية واحدة يُفضي إلى جُملة من الظلال الممتدة على نسقها، والتي تلقيها هنا وهناك، فمن ينجع في عادة الانضباط الغذائي مثلا تتحسن صحته وثقته بنفسه، ومستوى انضباطه العام، مع رفع احتمالية تحسين وضعه المهني، والتغلب على معوقات دراسية بسبب آثار السمنة، إلى آخر تلك التأثيرات الرئيسة وليست الجانبية فحسب، وإلى ذلك يلفت Darren Hardy في كتابه (The Compound Effect) الأثر المركّب، قائلا:

"The reality is that even one small change can have a significant impact that causes an unexpected and unintended ripple effect"(3)

أي: في الواقع حتى التغيير الضئيل قد يُحدِث تأثيرا هائلا مسببا أثرا متتابعا غير متوقع ولا مقصود!

***

محمـــد سيـــف

......................

الهوامـــش:

(1) القهر والسلطة - القدرة الإلهية والقوة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام، يوهان كريستوف بيرغل، ترجمة محمود كبيبو، ص 107، دار الورّاق للنشر، الطبعة الأولى، 2016.

(2) نيلسون المغفّل، (رواية) مارك توين، ترجمة نهى الشاذلي، ص67، منشورات حياة، الطبعة الأولى، 2022.

(3) The Compound Effect, Darren Hardy, P 10, Hachette Books, 2022.

أول قصة رعب في التاريخ كتبتها إمرأة

من هي ماري شيلي؟

ماري شيلي هي كاتبة إنجليزية ولدت في لندن، وتعتبر أول كاتبة قصص رعب في التاريخ، وروايتها (فرانكشتاين) هي واحدة من أشهر روايات الرعب واكثرها إثارة للإهتمام في الأدب العالمي، ولدت ماري شيلي في عائلة من الكُتاب والمفكرين، كانت والدتها هي (ماري ولستونكرافت)، كاتبة ومؤلفة إشتهرت في  الدفاع عن حقوق المرأة، وكان والدها (وليام غودوين)، فيلسوفاً وكاتباً، وقد كتبت ماري شيلي رواية (فرانكشتاين) عندما كانت في سن الثامنة عشر فقط، وكانت الكاتبة  مهتمة بأفكار الفلاسفة مثل (جون لوك - وإيمانويل كانت)، ويمتاز إسلوب ماري شيلي في الكتابة بأنه إسلوب متنوع المصادر، يجمع مابين العلم والأفكار الفلسفية، والتحليل النفسي العميق للشخصيات، وتتناول ماري تشيلي أفكار مختلفة ذات طابع  نفسي - فلسفي، يشد القاري ويثير إهتمامه، وكانت تتناول في كتاباتها مواضيع مختلفة حول العلاقات الإنسانية، والوجود، والموت، والحياة، وحدود العلم، والعواقب الأخلاقية المترتبة على الإخراعات العلمية.

أول قصة رعب في التاريخ كتبتها إمرأة

فرانكشتاين هي قصة رعب كتبتها الكاتبة الإنجليزية (ماري شيلي) صدرت في عام 1918م، وتُعد واحدة من أهم وأشهر روايات الرعب في الأدب العالمي، والتي تمتاز بطابع روائي (علمي- فلسفي)، وإن تأثير هذه الرواية يمكن رؤيته في العديد من الأعمال الروائية، والأدبية، والسينمائية الى يومنا هذا، حيث أصبحت قصة فرانكشتاين رمزاً للخوف والرعب، بالإضافة الى أنها تعتبر أول رواية رعب في العصر الحديث إمتد تأثيرها من الأدب الى العلم والتحليل النفسي والفلسفة.

فرانكشتاين الرواية التي غيرت الأدب العالمي

كانت رواية فرانكشتاين تحكي قصة عالم مغامر شطح بأحلامه العلمية نحو مغامرة خطيرة، حيث عمل على صنع كائن، أراد له ان يكون إنساناً ذو صفات خارقة، وإعتقد أنه سيحقق سبقاً علمياً، ولكن هذا الكائن يتحول الى وحش يدمر حياة من حوله، وأولهم العالم الذي إخترعه، وشكلت الرواية ثورة في الأدب العالمي، حيث كانت أول رواية رعب علمية في التاريخ كتبتها إمراة تأثرت بالفلسفة، والعلم، والتحليل النفسي في ذلك الوقت، لتخرج الى النور رواية رعب  مايزال تاثيرها موجوداً في عصرنا الحاضر، وساهمت الرواية في تأسيس الأدب العلمي، وأدب روايات الرعب ذات الطابع العلمي- الفلسفي، وإمتد تأثير رواية فرانكشتاين الى يومنا هذا ، بل وتعتبر الرواية  أحد الأسباب التي أسست الأدب العلمي - العالمي، وأثرت على العديد من الكُتاب والأدباء من بعدها، حيث بدأوا يتناولون المواضيع العلمية والفلسفية في الكتب وفي الأفلام والمسلسلات، مما أدى الى ظهور السينما الفلسفية في عصرنا، وهي تقديم الأفكار الفلسفية، والعلاقات الإنسانية، في صورة أفلام سينمائية ذات طابع فني للمجتمع.

الأفكار الفلسفية التي تناقشها الرواية

تناقش رواية فرانكشتاين للكاتبة ماري شيلي العديد من الأفكار الفلسفية منها:

- الطبيعة البشرية: حيث تطرح الرواية سؤالاً حول طبيعة النفس البشرية، والخير والشر، وهل الإنسان شرير بطبيعته أم أنه يصبح شريراً بسبب الظروف، ويُعد الكائن (فرانكشتاين) الذي صنعه العالِم، خير مثال على ذلك، حيث بدأ بكونه بريئاً، ولكنه أصبح شريراً، بسبب الرفض والإضطهاد والظلم.

- حدود العلم وقدراته والتبعات الأخلاقية للإختراعات العلمية: الرواية تطرح سؤالاً حول حدود العلم والقدرات الإنسانية، وهل يجب على الإنسان ان يضع حدوداً لقدراته العلمية، أم أن عليه ان يستمر في البحث والتجريب، وماهي المحاذير من الإختراعات العلمية المتهورة، وماهي تبعاتها التي يجب وضع قواعد أخلاقية لتحجيمها والحد منها.

- الهوية والإنتماء: الرواية تطرح سؤالاً مهماً حول الهوية والإنتماء لدى الإنسان، وهل الإنسان يحتاج الى الإنتماء الى عائلة أو مجتمع، أم أنه يستطيع العيش ومواجهة العالم الطبيعي من حوله بمفرده؟

كل هذه تساؤلات حاولت الكاتبة ماري شيلي توظيفها في عملها الروائي الذي أصبح علامة فارقة في أدب الرعب والروايات العلمية، لتصبح روايتها أول قصة رعب في التاريخ كتبتها إمرأة.

***

شيماء هماوندي

أثناء عملي في منظومة الجودة والاعتماد المؤسسي، أدركت شيئاً رئيسًا: أن جودة الاعتماد لا تُبنى على النماذج والمرفقات فقط، بل تستند إلى منهج كامل من التفكير الواعي والتحقق المستمر. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا لا تكتمل جودة الاعتماد المؤسسي دون تفكير ناقد؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكشف طبيعة الجودة نفسها وطريقة عملها، لأنها في حقيقتها عملية تحليلية تتطلب فحصاً دقيقاً لكل معلومة، وربطاً واعياً بين الواقع والدليل، وتقييماً موضوعياً لما يؤكد قوة الأداء المؤسسي.

الجودة كتساؤل مستمر داخل المؤسسة

عندما تبدأ المؤسسة بإعداد ملف الاعتماد، تدخل في مرحلة فحص ذاتي مركّزة. فإعداد كل معيار يثير مجموعة من الأسئلة الضرورية، مثل: هل يعكس ما نكتب واقع المؤسسة؟ وهل الأدلة التي نعتمد عليها كافية وموثوقة؟ وما مدى اتساق هذه الأدلة مع متطلبات الجهة المقيمة؟

إن طرح هذه الأسئلة لا يحدث بشكل عفوي، بل يتطلب تفكيراً ناقداً يساعد على التحقق من جودة المعلومات قبل تقديمها. ومن خلال هذا النهج، تنتقل المؤسسة من مجرد جمع بيانات إلى تحليل واعٍ يضبط دقة ما يقدم ويضمن مصداقيته.

التفكير الناقد أداة التحقق الرئيسة في ملف الاعتماد المؤسسي

لا يكفي أن تقدم المؤسسة ملفاً منسقاً، لأن الجهة المقيمة تعتمد في عملها على المراجعة الدقيقة والتحقق من كل بيان. وهذا يعني أن المؤسسة تحتاج منذ البداية إلى تفكير ناقد يمكّنها من قراءة الملف بالعين ذاتها التي سوف يقرأ بها المقيمون، وذلك من أجل اكتشاف أي فجوة أو نقص أو موضع يحتاج إلى دعم أو توضيح. وبالتالي، يصبح التفكير الناقد بمثابة مرآة داخلية تساعد المؤسسة على مراجعة ما تقدمه، ليكون الملف ناضجاً وواضحاً ومبنياً على أدلة قابلة للتحقق.

ثقافة الدليل: الرابط الحيوي بين الجودة والتفكير الناقد

لا يمكن الحديث عن جودة الاعتماد دون الإشارة إلى دور التوثيق والمرفقات، فهي ليست مجرد متطلبات إجرائية، بل تمثل لغة البرهان التي تقيم من خلالها الجهة المختصة مدى التزام المؤسسة بالمعايير. وهنا تبرز قيمة التفكير الناقد، لأنه هو الذي يساعد على فحص كل دليل قبل إرفاقه، والتأكد من صلاحيته، وملاءمته، وقدرته على التعبير عن الواقع بدقة. وبهذا، تتحول الجودة من صياغة نصوص إلى بناء حجج مدعومة بالأدلة، وهو جوهر التفكير الناقد.

الجودة كنضج في الوعي المؤسسي

ومع استمرار العمل على متطلبات الاعتماد، يبدأ التفكير الناقد في تشكيل الوعي الداخلي للمؤسسة. فالموظفون يتعلمون تحليل الأنشطة قبل توثيقها، ومراجعة العمليات قبل اعتمادها، وقراءة النتائج قبل الإعلان عنها. وهذا النوع من التفكير يرفع مستوى النضج المؤسسي، لأنه يساعد على اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة، وعلى رؤية الواقع المؤسسي بصورة أوضح وأكثر موضوعية. ومن هنا، يصبح التفكير الناقد ليس مجرد وسيلة لإعداد ملف الاعتماد، بل استراتيجية دائمة لتحسين الأداء المؤسسي.

التفكير الناقد كروح للعمل الجماعي داخل الجودة

الجودة عملية تشاركية تحتاج إلى تنسيق بين الأقسام واللجان المختلفة. ولكي تنجح هذه العملية، لا بد أن يتعامل الجميع مع البيانات والمستندات بروح من التحليل والتدقيق. وعندما يُمارس التفكير الناقد داخل الفريق، تتشكل بيئة عمل قائمة على التعاون والوضوح والالتزام، مما يعزز جودة ما يُرفع من أدلة، ويسهّل عملية الاعتماد لاحقاً. وبذلك يتحول التفكير الناقد إلى نسق عمل جماعي يدعم الجودة ويحافظ على اتساق الأداء بين جميع الأطراف.

وختامًا، أرى أن جودة الاعتماد المؤسسي لا يمكن أن تكتمل دون التفكير الناقد، لأنه الأداة التي تجعل المؤسسة قادرة على قراءة واقعها بدقة، والتأكد من صحة ما تقدمه، وتحويل متطلبات الجودة إلى ممارسة يومية تعزز التطوير وتدعم الاستمرارية. فالتفكير الناقد لا يقف عند حدود إعداد الملف، بل يمتد ليصبح جزءاً من الوعي المؤسسي الذي يحافظ على قوة الأداء وجودته، ويجعل الاعتماد خطوة حقيقية نحو التميز لا مجرد إجراء إداري. 

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

مقدمة: يعتبر الفكر السياسي مجالا اساسيا لفهم تطور المجتمعات، اذ انه يعكس الطريقة التي حاول بها الانسان عبر الزمن تفسير السلطة والدولة والحكم والعدالة. وبما ان هذه الافكار تشكلت من خلال تجارب حضارية مختلفة، فان تتبع الكتب التي اسست لهذا الحقل يسمح لنا بفهم المسار الذي قطعه الفكر السياسي منذ بدايته. ويمكن القول ان هذا المجال ظل دائما حيا ومتجددا، لانه مرتبط بحياة الناس وباسئلتهم اليومية حول العيش المشترك. بالتالي، يسعى هذا المقال الى تقديم بيبليوغرافيا شاملة لاهم الكتب التي اثرت في الفكر السياسي عبر العصور.

الفكر السياسي الكلاسيكي

يمثل الفكر اليوناني نقطة الانطلاق الاولى، اذ انه افلاطون قدم في كتابه الجمهورية نموذجا للمدينة العادلة، بينما تناول في القوانين طبيعة التشريع والحكم، كما ان ارسطو درس الدولة والمواطنة في كتابه السياسة، ووضع اسسا واقعية لتحليل انظمة الحكم، بالاضافة الى اهمية الاخلاق كما ظهر في كتابه الاخلاق الى نيقوماخوس.

اما الفكر الروماني، فقد ساهم فيه شيشرون من خلال كتابيه الجمهورية والواجبات، اللذين ربط فيهما بين القانون الطبيعي والفضيلة العامة. بالتالي، يمكن القول ان هذه المرحلة وضعت الاساس الفكري لعلم السياسة، باعتباره نشاطا عقليا ومجتمعيا في آن واحد.

الفكر السياسي المسيحي

عرف الفكر السياسي خلال هذه المرحلة حضورا قويا للدين، وقد بدأ هذا الاتجاه مع اوغسطين، الذي ميز بوضوح بين «مدينة الله» التي تقوم على القيم الروحية، و«المدينة الارضية» التي تمثل النظام البشري، ثم جاء بعد قرون شخصا اثر في الفكر السياسي المسيحي الا وهو توما الاكويني الذي سعى الى التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية، وشرح في الخلاصة اللاهوتية وكتاب عن الحكم دور الدولة في خدمة الخير العام. بالتالي فقد ركزت هذه المرحلة على العلاقة بين السلطة والغاية الاخلاقية، مما مهد لظهور فكر جديد مع عصر النهضة.

الفكر السياسي في عصر النهضة والحداثة

شهد هذا العصر تحولات كبرى، اذ انه اخرج السياسة من الاطار الديني الضيق الى فهم جديد يقوم على الانسان والطبيعة، حيث ان مكيافيللي وضع في كتابه الامير تصورا واقعيا للسلطة قائم على القوة والمصلحة، بينما تناول في المطارحات نماذج الحكم داخل الجمهوريات، كما ان هوبز قدم نظرية العقد الاجتماعي في كتاب اللفياثان، مؤكدا ضرورة وجود دولة قوية لضمان الامن.

ومن جهته، ركز جون لوك في مقالتين في الحكومة المدنية على الحرية الفردية وحقوق الانسان، بينما اسس مونتسكيو في روح القوانين لفكرة فصل السلطات، كما ان روسو في العقد الاجتماعي واميل وضع تصورا جديدا للسيادة الشعبية والتربية المدنية. وفي بداية الحداثة العليا، قدم هيغل في كتاب مبادئ فلسفة الحق تصورا للدولة باعتبارها تجسيدا للروح المطلق وتحققا للحرية الموضوعية. بالتالي، يمكن القول ان هذه المرحلة شكلت الانتقال الحقيقي نحو الفكر السياسي الحديث.

الفكر السياسي المعاصر

مع العصر الحديث، توسع الفكر السياسي في اتجاهات جديدة، وقد أحدث كارل ماركس تحولا جذريا، بتقديمه في كتاب رأس المال تحليلا للعلاقة بين الاقتصاد والسلطة، وساهم في تأسيس الفكر الاشتراكي النقدي. وفي سياق متصل لكن بفلسفة مغايرة، قدم جون راولز تصورا جديدا للعدالة في كتابه نظرية في العدالة، ثم طوره في الليبرالية السياسية، كما ان حنة ارندت بحثت في العلاقة بين السلطة والفضاء العمومي في كتاب الوضع البشري، ودرست جذور الانظمة الشمولية في اصول التوتاليتارية.

اما روبرت نوزيك فقد قدم في الفوضى والدولة واليوتوبيا دفاعا قويا عن الدولة المحدودة، بينما انتقد نعوم تشومسكي في كتاب Manufacturing Consent دور الاعلام في صناعة الهيمنة، وواصل نقده للسياسات الدولية في الدول الفاشلة، كما ان الان دونو كشف في نظام التفاهة كيف يمكن للرداءة ان تصبح جزءا من النظام السياسي والاجتماعي المعاصر. بالتالي، يمكن القول ان هذه المرحلة عرفت تنوعا كبيرا في المناهج والقراءات.

المراجع الشاملة في تاريخ الفكر السياسي

توجد اليوم مجموعة واسعة من الكتب التي تقدم عرضا عاما ودقيقا لمسار الفكر السياسي عبر العصور، ويقترح الباحث على الباحثين باللغة العربية مراجعة هذه الكتب المنقولة للعربية والمتاحة على الانترنت، والتي تشكل مراجع أساسية:

- اعمال جون توشار وجون جاك شوفالييه تعد مرجعا اساسيا لفهم تطور هذا المجال.

- كتاب تطور الفكر السياسي لـ جورج سباين يقدم تحليلا شاملا للمفاهيم الكبرى.

- موسوعة كامبريدج للفكر السياسي باشراف تيرنس بيلامي احد اهم الاعمال العالمية الحديثة في هذا المجال.

كما تتوفر للقارئ باللغة العربية مجموعة من المراجع المتخصصة التي تعد كتبا

جيدة وغنية بالمعلومات:

- الفكر السياسى الأوربى فى العصور الوسطى لـ رأفت عبدالحميد.

- تاريخ الفكر السياسي لهشام محمود الاقداحى.

- تاريخ الأفكار السياسية المقارن لموريس روبان.

- مؤلفات محمد نصر مهنا، عبد الرضا علي عباس، حسن حنفي، وبرهان غليون تعد قراءات تحليلية تساعد على فهم الفكر السياسي في سياقاته المختلفة.

بالتالي، يمكن القول ان غنى هذه المراجع يجعل منها ادوات اساسية لكل باحث او قارئ مهتم بهذا الحقل.

ختاما يتبين ان الفكر السياسي هو نتاج تفاعل طويل بين التجارب الانسانية عبر التاريخ، اذ انه يعكس رغبة الانسان في فهم السلطة وتنظيم المجتمع واقامة العدل.

وتجدر الاشارة الى ان ما تم رصده من مؤلفات هو حصيلة بحث مركز حول الاعمال المؤسسة التي تمثل البيبليوغرافيا الاساسية للموضوع، ولذلك، فمن الطبيعي ان تغفل هذه الدراسة على بعض المراجع، بينما تركز على تلك التي كان لها اثر نوعي في صياغة المفاهيم الكبرى. كما يتضح، ان الهدف الاساسي من هذا المقال هو تقديم هذه الخريطة المرجعية للقارئ كاساس لمواصلة البحث.

***

سفيان بامحمد - باحث في العلوم السياسية والقانون العام

إذا ما انتقلنا إلى علم الكلام أو الفقه الأكبر؛ فسوف نجد جل أعلامه بمختلف فرقهم لا يختلفون عن الفقهاء في قدحهم للكذب في ذاته، وذمّهم لكل مشتقاته، ومدحهم للصدق واستحسانهم لكل ما يؤدي إليه، وإن بدا في صورة مناقدة لواقع يمكن تأويله على وجه مغاير لما ذاعت دلالته بين العوام أو يخالف أصول مذهبهم الكلامي مثل (فرقة الخوارج والشيعة والأشاعرة).

ويرجع ذلك لتقديمهم النقل على العقل وأخذهم بالتأويل على حرفية دلالة النص مع اختلاف درجاته - باستثناء فرقة المعتزلة وهي التي ينسب إليها تأسيس هذا العلم في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري- وحجتهم في ذلك، آيات القرآن الكريم ذاتها مثل أمر القرآن للنبيّ صلى الله عليه وسلم (أقرأ) والقراءة هي إحدى روافد المعرفة والتفكر، وكذا إخبار الباري سبحانه وتعالى بأن من أوائل مخلوقاته سبحانه هو القلم، وهو أيضًا أحد آليات التعلم والأخبار أضف إلى ذلك توجيه الإله لقوم (يتعقلون، يتفكرون، يتدبّرون) وكذا إعلائه من قدر العلماء، وغير ذلك من أدلة تفيد أن العقل هو المرشد إلى حقيقة الوحي، أي (النقل المقدّس).

كما أن للمتكلمين – ولا سيما فرقة المعتزلة - ضروب مقيمة للأحاديث النبويّة لا تعتمد على صحة السند فحسب، بل يقدم عليها منطقية الدلالة والمقصد من الحديث، ودون ذلك يعدونه ضربًا من الكذب أو التجديف أو التأويل أو الانتحال حتى لو كان مصدره أكابر جمّاع الحديث، فلا يتحرّجون في تكذيبه أو استبعاده بحجة أنه يخالف صحيح عين اليقين، لذلك كله تذهب العديد من الدراسات الكلامية التي استحسنت الفكر الاعتزالي مثل كتاب "تحكيم العقول في تصحيح الأصول"؛ للقاضي أبي سعد الحاكم الجشمي (1101:1022 م)

 وكتاب " قبول الأخبار ومعرفة الرجال" لأبي القاسم البلخي (931: 886 م) وكتاب "المغني في أبواب العدل والتوحيد" للقاضي عبد الجبار الهمذاني (1025:935 م)، وكتاب "البيان والتبيين" لأبي عثمان الجاحظ (868:775 م) وغيرها من أمهات كتب التراث الكلامي الإسلامي بالإضافة إلى "تفسير أبي مسلم الاصفهاني (934:868 م)، وتفسير أبي علي الجبائي (915:849 م) " وتفسير أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (1143:1075 م). أمّا في العصر الحديث نجد كتاب (في الفلسفة الاسلامية: منهج وتطبيقه) لإبراهيم مدكور (1995:1902 م) وكتاب "التفكير فريضة إسلامية " وسلسلة كتب العبقريات وكتاب "الفلسفة القرآنية" لعباس محمود العقاد (1964:1889 م) (كما أن الفكر المعتزلي على وجه الخصوص من أكثر الكتابات الجامعة بين الحكمة العقلية والبنية العقدية الإسلامية اعتمادًا على غرابيلهم النقدية في فحص الفكر الإسلامي ومزاعم الأغيار وطعون المجدفين والملاحدة.

ومن أهم أقوالهم التي عنيت بتوضيح مفهوم رذيلة الكذب قول أبي القاسم الأصفهاني (1108:954 م) (اعلم أن كل كلام خرج على وجه المثل والاعتبار، دون الإخبار، فليس بكذب على الحقيقة. ولهذا لا يتحاشى المحترزون من التحدّث كقولهم في الحث على مداراة العدو، والتلطف في خدمة الملوك).

أمّا راغب الأصفهاني؛ فراح يعدد أشكال الكذب والقدر الذي يحدثه من شرور على الأفراد والعقل الجمعي ويقول (إن الكذب عار لازم، وذل دائم، ويعود صاحبه على النفاق ويرغبه في إذاعة الأكاذيب والواقعات المختلقة - رغم درايته بمخالفتها للحقيقة - فمن استحلى الكذب بات من العسير عليه فطام نفسه عنه، فيصبح من جراء ذلك أحد صناع الكذب الذين يكتب عليهم المهانة والدناءة وصغر النفس، وهم بذلك الشر محتقرون بين الناس ولا يؤخذ برأيهم في مجالس الجد والحسم).

كما يحذر الأصفهاني من الاستشهاد بأخبار أو روايات يأبها العقل في التثاقف، لأن ذلك الفعل يعرض صاحبها إلى الاتهام بالكذب من قبل مناظريه حتى لو كانت الرواية صادقة، وعليه يجب عرض المنقول والمتواتر والمجمع على صحته على العقل ولا ينبغي استخدامه في المحاجاة إلا إذا كان معقولًا، فإياك أيها الكاذب أن تتخذ من الأكاذيب والشائعات، مطية لرفعة ذاتك وإيهام الناس بغزارة علمك؛ فكل ذنب يُرجى تركه إمّا بتوبة أو إنابة، عدا الكذب فإن صاحبه يزداد به ولوعًا على الكبر.

وللمعتزلة مواقف متشددة من الاجتراء والدّس والكذب على الله ورسوله ويعدون ذلك خيانة لعهد التصديق، وحنث بيمين الإيمان، وإفساد للملة، وتشكيك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كما وصفوا صاحبه بأنه يُبدّد الدين، ويهدم مقاصد الشريعة.

ومن أمثلة ذلك الشر؛ الكذب على الله ورسوله، (وهذا أعظَمُ أنواعِ الكَذِبِ، (والكَذِبُ على اللهِ نوعانِ:

النَّوعُ الأوَّلُ: أن يقولَ: قال اللهُ كذا، وهو يَكذِبُ.

والنَّوعُ الثَّاني: أن يُفَسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ؛ لأنَّ المقصودَ من الكلامِ معناه، فإذا قال: أراد اللهُ بكذا كذا وكذا، فهو كاذِبٌ على اللهِ، شاهِدٌ على اللهِ بما لم يُرِدْه اللهُ عزَّ وجَلَّ، لكِنَّ الثَّانيَ إذا كان عن اجتهادٍ وأخطأَ في تفسيرِ الآيةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يعفو عنه؛ لأنَّ اللهَ قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، وأمَّا إذا تعمَّد أن يفسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ، اتِّباعًا لهواه أو إرضاءً لمصالحَ يضمرها أو ما أشبه ذلك، فإنَّه كاذِبٌ على اللهِ عزَّ وجَلَّ.

وقد قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] . (يقولُ تعالى: لا أحَدَ أعظَمُ ظُلمًا ولا أكبَرُ جُرمًا ممّن كَذَب على اللهِ، بأن نسَب إلى اللهِ قولًا أو حُكمًا، وهو تعالى بريءٌ منه، وإنما كان هذا أظلَمَ الخلقِ؛ لأنَّ فيه من الكَذِبِ وتغييرِ الأديانِ أُصولِها وفروعِها ونسبةِ ذلك إلى اللهِ - ما هو من أكبَرِ المفاسِدِ.

ويدخُلُ في ذلك ادِّعاءُ النُّبُوَّةِ، وأنَّ اللهَ يوحي إليه، وهو كاذِبٌ في ذلك؛ فإنَّه - مع كَذِبِه على اللهِ، وجرأتِه على عظمتِه وسُلطانِه يوجِبُ على الخَلقِ أن يتَّبِعوه، ويجاهِدُهم على ذلك، ويستَحِلُّ دِماءَ من خالفه وأموالَهم.

ويدخُلُ في هذه الآيةِ كُلُّ من ادَّعى النُّبُوَّةَ) بداية من مُسَيلِمةِ الكذَّابِ إلى ادعاءات ابن تومرت (1130:1077 م) ومحمد بن عبد الوهاب (1792:1703 م) وأبي الأعلى المودودي (1979:1903 م) وحسن البنا (1949:1906 م) وسيد قطب (1966:1906 م) محمد بن أسد (ن 1948 م) ومن لقبوا أنفسهم بالمهدي المنتظر والفقيه الولي الناسخ للشريعة، والملهمين من المصلحين الذين يزعمون بأن أقوالهم هي فصل الخطاب وخلاصة الجواب من أرباب البدع المعاصرة وأتباع الفرقة الناجية والقائلين بالحاكمية وقتل المخالفين وتكفير دون مذهبهم سواء كانوا من الخوارج أو الشيعة أو المارقين عن أهل السنة والجماعة وذلك في كل عصر.

(وقد بدأت الآيةُ أوَّلًا بالعامِّ، وهو افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ، وهو أعمُّ من أن يكونَ ذلك الافتراءُ بادِّعاءِ وَحيٍ أو غيرِه، ثمَّ ثانيًا بالخاصِّ، وهو افتراءٌ منسوبٌ إلى وحيٍ من اللهِ تعالى، وهذا فيه تنبيهٌ على مزيدِ العقابِ فيه والإثمِ، وقد أخبَرنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محذِّرًا ممَّن يدَّعون الدَّجَلَ والنُّبُوَّةَ بالكَذِبِ، فقال (لا تقومُ السَّاعةُ حتى يُبعَثَ دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين، كُلُّهم يزعُمُ أنَّه رسولُ الله).

وينسحب ذلك على الثابت من أحاديث رسول الله والموافق للمعقول والمنقول في لفظه ومقصده، وكذا الساخر والمتهكم والمتشكك في الثوابت العقدية المقطوع بربانيتها، وما يتعلق بالشعائر والغيبيات والسنن ومن أمثلة ذلك (الكَذِبُ في الحديثِ الجاري بَيْنَ النَّاسِ؛ يقولُ: قُلتُ لفُلانٍ كذا. وهو لم يَقُلْه. قال فلانٌ كذا. وهو لم يَقُلْه. جاء فلانٌ. وهو لم يأتِ، وهكذا، هذا أيضًا عندهم محرَّمٌ ومن علاماتِ النِّفاقِ.

والحِكمةُ من هذا المنعِ أنَّه يجُرُّ إلى وضعِ أكاذيبَ مُلفَّقةٍ على أشخاصٍ مُعَيَّنين، يؤذيهم الحديثُ عنهم، كما أنَّه يقوي حرفية التَّدرُّبِ على اصطِناعِ الكَذِبِ وإشاعتِه بين الناس.

وتؤدي كل أشكال الكذب السابقة إلى خلط الحق بالباطل، والكذب بالصدق، ولا سيما إذا ورد ذلك في خطابات المشاهير من المتعالمين الذين لهم أثر على الرأي العام (القائد والتابع) في كل عصر.

وتُدْرج المعتزلة المعاريض والتوريّة والتلبيس، وغير ذلك من أشكال التعمية الدلالية التي تلبس الباطل لباس الحق وخداع الحكام والمربيين والمعلمين وأجهزة الأعلام في العصر الحديث تحت ظلمة الإفك والإضلال، أي تعتبر جميعها من صور الكذب.

كما أن لشيوخ المعتزلة موقفًا من أحاديث الآحاد وهي تلك الأخبار التي لا تبلغ رواياتها قدر التواتر وذلك إمّا لضعف الثقة في الرواة أو في عددهم القليل الذي لا يبلغ العُشر؛ فيعرّف الأصوليون حديث الآحاد (بأن مضمونه لا يخبر عن أمر مهم أو ضروريّ أو يتوقف عليه حكم شرعيّ، وأن رواته يختلفون فيما بينهم على حرفيته ومقاصده وملابسات سرده وهو أيضًا الخبر الذي لا يحوي مضمونه برهان صدقه، بل اعتمد على قرائن لا تخلو من الريبة فيها.

وقد تباينت أحكام شيوخ المعتزلة حول درجة صدقه من عدمه؛ الأمر الذي يجعلنا لا نجزم بالشروط التي وضعتها كل مدرسة من مدارسهم التي بلغت العشرين؛ فمعقوليّة الدلالة وأهمية المحتوى وخلو المضمون من جراثيم الارتياب من أي وجه، هو المعيار الذي تكاد كل مدارس المعتزلة اتفقت عليه سواء في تصديق الحديث أو الاستشهاد به في التشريع والحكم على السلوك في التطبيق سواء كون الحديث آحاداً أو متواتراً.

أمّا موقف المعتزلة من حد الردة؛ فكان من أكثر الآراء سببًا في شهرتهم؛ الأمر الذي جعل العديد من الكتابات المعاصرة وصفت جل ما انتهوا إليه في أحكامهم العقليّة تجاه الملحدين والمجترئين بأنه أجرأ آرائهم.

فقد ذهب معظم شيوخ المعتزلة إلى الأخذ بعذر الجهل أي أن المرتد لا يكفر إذا كان علة إلحاده ترد إلى معتقد كاذب أو التباس في الفهم أو عدم التقصي عن حقيقة خبر ما لا أساس له في العقيدة، فمن الواجب في هذه الحالة تبيان له موضع التجديف والتدليس الذي دفعه للإلحاد أو انكار الثوابت العقديّة ذات الصلة بما لم يتحقق من صدقه سواء كان هذا المنقول وحي مجتزأ من سياقه أو حديث للنبيّ صلى الله عليه وسلم يعني واقعة بعينها؛ فعندهم لا ينبغي اتهام هذا الجاهل بالكفر.

أمّا قتل المرتد فلا يجوز معاقبته على شكه أو ارتيابه أو جنوحه إلا إذا ذاع اعتقاده بين العوام أو راح يزدري غيره من المسلمين أو يستحل دماء الأغيار (اليهود والنصارى والصابئة ...) إلا إذا كان فعلهم يشكل ضررًا على أمن الأمة أو إضلالاً للعوام أو إفساداً لأصول الملة، فيطرد أو يقتل إن استخدم القوة والسلاح في فرض ادعاءاته.

وللحديث بقيّة عن الكذب عند المعتزلة وغرابيلهم النقديّة.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في عالم تتسارع فيه اللحظات، وتعلو فيه الضوضاء، وتُختزل فيه معاني الحياة في أرقام وصور عابرة، أجد أن التوقف للتفكير ليس مجرد فضيلة، بل ضرورة يحافظ بها الإنسان على هدوئه الداخلي وإنسانيته. لذلك، لم يكن غريبًا أن تخصص منظمة اليونسكو الخميس الثالث من نوفمبر ليكون اليوم العالمي للفلسفة؛ ليس احتفاءً بعلم يُحفظ في الكتب، بل إحياءً لروح التفكير الحر الذي يرافق الإنسان في كل لحظة وقرار.

أنا لا أرى الفلسفة ترفًا فكريًا كما يُشاع عنها أحيانًا، بل أراها الهواء الذي تتنفسه الروح. فنحن لا نحيا بالخبز وحده، بل نحيا بالفكر، وبالدهشة، وبالأسئلة التي تُبقي وعينا يقظًا، ومنفتحًا، ومبدعًا. والفلسفة في جوهرها ليست مجموعة نظريات تُدرس، بل هي القدرة على أن نسأل: "لماذا؟" وأن نعيد النظر في ما نظنه بديهيًا.

ولم تكن الفلسفة بالنسبة لي مجرد مجال معرفي قائم بذاته، بل كانت وما تزال طريقة حياة. كل مرة أبدأ فيها التفكير، أجد نفسي أمام تحدٍ ذاتي؛ في أن أراجع أفكاري، وأختبر قناعاتي، وأبحث عما هو أكثر عمقًا وصدقًا. والتفكير ليس امتيازًا للنخبة، بل حق ومسؤولية لكل إنسان يريد أن يعيش واعيًا لا مقلدًا.

ورغم أن البعض يظن أن الفلسفة بعيدة عن تفاصيل الحياة اليومية، إلا أنها تسكن لحظاتنا الصامتة. حين تُربي الأم أبناءها على الحوار لا الطاعة العمياء، فهي تمارس الفلسفة. حين يرفض شاب أن يتبع ما اعتاده الجميع دون قناعة، فهو يمارس فلسفة الحرية والمسؤولية. وحتى حين يقف أحدنا أمام المرآة ليتساءل: هل أنا صادق مع نفسي؟ فإن تلك اللحظة تحمل جوهر الفلسفة كله.

ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا نحتاج إلى يوم عالمي للفلسفة؟ لأننا ببساطة نعيش زمنًا تآكل فيه التأمل لصالح الردود السريعة، وغابت فيه مساحة التفكير العميق تحت وطأة الإيقاع المتسارع. أصبح العقل مُستنزفًا بالانشغالات اليومية، فبات اليوم العالمي للفلسفة دعوة لإعادة التأمل، لإبطاء الإيقاع، ولتجديد الصلة مع الذات.

غير أن هناك وهمًا شائعًا بأن الفلسفة لا علاقة لها بواقع الناس. والحقيقة أنها مرآته، بل مرآته الأصفى. فالفلسفة تُعلمنا أن نفهم قبل أن نحكم، وأن نُصغي قبل أن نرفض، وأن نحترم الاختلاف باعتباره مصدرًا للثراء لا للانقسام. ومع أن البعض لا يزال يظن أن الفلسفة بعيدة عن واقع الناس، إلا أنها في الحقيقة مرآة له، تكشف ما قد يغيب تحت السطح. فهي تُعلمنا أن نفهم قبل أن نحكم، وأن نصغي قبل أن نرفض، وأن نحتفي بالاختلاف كمساحة للحوار لا للتنازع. ومن هنا، يصبح المجتمع الذي يتدرب على التفكير الفلسفي مجتمعًا قادرًا على التمييز بين الحقيقة والزيف، وعلى رؤية التعقيد في الأشياء دون أن يستغني عن العقل في معالجتها.

وإني أرى أن إعادة الاعتبار للفلسفة لا تتحقق بمجرد نشر كتب أو تدريس مقررات، بل عبر رحلة تبدأ من التعليم وتنعكس في كل مجالات الحياة. فعلينا أن نُدخل الفلسفة إلى المدارس، ليس كدرس نظري، بل كمساحة للتساؤل الحر، وكتمرين على التفكير المستقل، والاستماع العميق، والنقد البنّاء. ومن تجربتي، أعتقد أن الفلسفة حين تتعاون مع الفنون والإعلام تكون قادرة على تعزيز ثقافة تحترم العقل وتشجع على الحوار. كما أن تربية الأطفال على طرح الأسئلة منذ الصغر هي حجر الأساس، لأن السؤال هو البذرة الأولى لكل حكمة.

ومن هنا، يصبح اليوم العالمي للفلسفة أكثر من مجرد مناسبة سنوية، فهو دعوة لإبطاء إيقاع الحياة قليلًا والإنصات لصوت العقل. لقد تعلمت أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يفكر فيه حين يكون صادقًا مع نفسه ومعزولًا عن ضجيج الخارج. فالفلسفة لا تُغير العالم دفعة واحدة، لكنها تُغير نظرتنا إليه، ومن تلك النظرة يبدأ كل تحول عميق.

وحين نفكر، نقترب من ذواتنا. وحين نحاور، نبني جسورًا مع الآخرين. وحين نندهش، نكتشف أن الحياة تستحق أن تُعاش... بالعقل، وبالقلب، وبالسؤال المفتوح.

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب، جامعة المنيا- مصر

الإسلام في عين الخصم منذ البعثة حتى نهاية الحروب الصليبية

 ذكرنا في المقال السابق أن الحروب في عصرنا لم تعد تأخذ شكلها المألوف القائم على المواجهة المباشرة وصلصال السيوف وأزيز المدافع، بل انتقلت إلى مرحلة أشد وأعمق وصفناها بـ الحرب الناعمة؛ حيث صار المضمار الحقيقي هو العقول والضمائر لا ميادين القتال. وحيث أيقن خصوم الإسلام أن القوة العسكرية مهما عظمت لا تستطيع أن تستأصل الإيمان من القلوب، ولا أن تفرغ الرسالة من جوهرها، فتحولوا إلى منهج أكثر دهاءً وتأثيرًا هو الغزو الفكري.

واستكمالا لما سبق نوضح أن هذا النوع من النزال لا يستهدف الجغرافيا بقدر ما يستهدف الذات، ولا يسعى إلى هدم الحصون المادية بقدر ما يعمل على هدم الحصون الفكرية والنفسية. ولذلك برزت خطط التغريب التي ترمي إلى إعادة بناء منظومة القيم والمفاهيم داخل الأمة، لتصبح مهيأ بوعي أو بغير وعي لتقبّل رؤى خصومها ومقاييسهم. وفي مقامنا هذا نتناول مسار نظرة خصوم الإسلام له عبر الأزمان منذ الانبعاث النبوي وانتهاءً بالحروب الصليبية، لمعرفة كيف تحوّلت المواجهة من غزو خارجي إلى مسعىً مُنظَّم لإعادة تشكيل الوعي من الداخل.

وإذا ما انتقلنا إلى اللحظة المفصلية التي أضاء فيها فجر الدعوة المحمدية عام 610م، نجد أن العالم دخل في درب حضاري مغاير، حيث حملت الرسالة الخاتمة فيه مشروعاً يتجاوز أطراف العشيرة والمكان، ويناشد الإنسان من حيث هو بشري، غير أنّ التيارات السياسية والدينية التي كانت تسيطر على العالم آنذاك استقبلت هذا التغيير التاريخي بعين الشك والعداوة ؛ إذ لم تدرك أبعاد الرسالة الروحية والإنسانية، ولا استوعبت كونها تدعو إلى تحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية خالقه، ومن قيود الطاغوت إلى فضاء التوحيد والعدل.

وقد كان أولى ردود الأفعال من القوى العظمى آنذاك محكومًا بمنطق التنافس على السلطة والنفوذ، لا بمنطق البحث عن الحقيقة أو تقييم مضمون الرسالة. حيث نظر الفرس والروم -وهما قطبا العالم- إلى الإسلام باعتباره تحركًا سياسيًا يسعى العرب من خلاله إلى كسر قيد التبعية والخروج من صحرائهم الجرداء نحو أرض الخصب والنهرين. هكذا غلبت النظرة المادية على فهمهم، فأبعدتهم عن الجوهر الحقيقي للرسالة الخاتمة.

ففي مشهد يعبر عن عجز القوى الكبرى في ذلك الوقت ما فعله كسرى، حين استلم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم-، أمر بتمزيقه، وأرسل جنوده للقبض عليه. متناسيا أن الرسائل السماوية لا تُقمع بالقوة وحدها. ولذلك لم تسر لأمور كما توقعوا، فقد تغيرت الأحداث بشكل غير متوقع، وانقلبت موازين القوة. حيث حقق المسلمون انتصارات كبيرة في بدر عام 624م، وأحد عام 625م، والخندق عام 627م. ثم استمرت الفتوحات الكبرى في عهد الخلفاء الراشدين بين 632 و661م، وامتدت لتشمل فارس والروم والشام ومصر.

ولم تكن هذه الانتصارات التي تحققت نتيجة لتفوق في العدد أو في الموارد. بل كانت ثمرة إيمان عميق وعقيدة قوية جعلت من مجموعة صغيرة أمة قادرة على مواجهة القوى الكبرى. هذا التغيير كان صدمة للخصوم، فقد تغيرت صورة العرب في نظرهم من مجرد قبائل بدوية غازية إلى قوة تاريخية متماسكة. مدفوعة بقيم تؤمن بوحدانية الله وبالفداء من أجل الحق. وبرزت خلال تلك الفترة أسماء عدد كبير من قادة المسلمين مثل أبي عبيدة بن الجراح (توفي عام 18هـ/639م)، وسعد بن أبي وقاص (توفي عام 55هـ/675م)، وخالد بن الوليد (توفي عام 21هـ/642م) الذي وصل صيته إلى حد أنه في بعض المصادر الغربية يُقال إن مجرد ذكر اسمه يثير الخوف في قلوب الجنود، وحتى الأطفال كانوا يخافون عند سماع اسمه.

 ولئن جمع الخصوم جحافيل هائلة لاستعادة هيبتهم، فقد كانت النتيجة هزائم متكررة، وكان أشدها وقعًا معركة اليرموك (15هـ/636م)، حيث واجه أربعون ألفًا من المسلمين جيشًا يناهز الربع مليون جندي، فكتب الله لهم النصر، وانقلبت موازين القوى في المشرق نهائيًا لصالح الإسلام. فأشعل هذا الانقلاب الاستراتيجي في الغرب رغبة دفينة في الثأر، لكنها بقيت كامنة قرونًا بفعل تراجعهم الداخلي وانقسامهم الديني والسياسي. ومع ذلك، استمر العداء بين الحضارات يتغذى على ذكريات تلك الهزائم القديمة.

وإذا ما انتقلنا إلى القرن الخامس الهجري نجد أنهم لم يترددوا في شن هجمات جديدة، والتي تجسدت في الحملات الصليبية. ورغم ما أصاب المسلمين من ضعف وفرقة آن ذاك، إلا أنهم أدركوا أن المعركة ليست معركة سيوف فحسب، بل معركة إيمان وعودة إلى الله، فاستفتوا العلماء الذين أمروهم بالتوبة وجمع الكلمة.

وكان موقف السلطان ألب أرسلان (ت 465هـ/1072م) في ملاذ كرد(463هـ/1071م) تجسيدًا لهذه الروح؛ إذ خلع ثوب الإمارة ولبس كفنه قبل القتال، فحقق نصرًا أسطوريًا أُسر فيه إمبراطور بيزنطة رومانوس الرابع، مما أعاد للأمة ثقتها بأن النصر ثمرة لليقين والروح المعنوية قبل أن يكون حصيلة العتاد.

غير أنّ شرارة العداء لم تخمد؛ إذ ما لبث البابا أوربان الثاني أن دعا في مجمع (كليرمونت1095م) إلى ما سمي بالحروب الصليبية، مانحًا صكوك الغفران لكل من يشارك في استرداد القدس. فتدفق عشرات الآلاف من فرسان أوروبا على المشرق، وكان الدافع مزيجًا من الدين والطمع والانتقام. وفي تلك الفترة، كانت الأمة الإسلامية مشتتة إلى دويلات صغيرة متناحرة، فقدت طريقها ولم تعد تعرف إلى أين تتجه.

والنتيجة كانت مأساوية، حيث سقطت القدس عام 492 هـ (1099 م) وحدثت واحدة من أفظع المجازر التي عرفها التاريخ. تصفها المصادر الغربية بفظاعة مرعبة، يقول الراهب روبرت (ت 1122م) أحد أشهر المؤرخين الأوربيين في العصور الوسطى- (كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت يروون غليلهم من التقتيل، كاللبؤات التي خُطفت صغارها... وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث). ويزيد المؤرخ (ريموند داجميل ت 1105م) بقوله (لقد قُطعت رؤوس بعض العرب، وبُقرت بطون آخرين، وأُحرِق كثير منهم بعد عذاب طويل، وكانت شوارع القدس تعج بأكداس الرؤوس والأيدي والأرجل).

غير أن هذه الفاجعة أحدثت زلزالاً في الوعي الإسلامي وأيقظت الشعور الجمعي بخطورة التفريط في وحدة الصف. فبدأت إرهاصات مشروع المقاومة الذي توّج بظهور صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/1138-1193م)، الذي وحّد مصر والشام وأسقط الدولة الفاطمية، ثم أحرز النصر الساحق في حطين (583هـ/1187م)، وأعاد القدس إلى حاضنة الأمة. حيث مثل صلاح الدين تجسيدًا لفكرة أن المعركة الحاسمة لا تُخاض إلا بعد إعداد نفسي وأخلاقي وعقدي يعيد للأمة ثقتها بنفسها.

وبرغم كل ذلك، لم تستسلم أوروبا بسهولة. ففي الحملة السابعة، التي قادها لويس التاسع بين عامي 1214 و1270م، انتهى الأمر بهزيمة كبيرة في المنصورة عام 1250م، حيث وقع لويس أسيرًا في دار ابن لقمان. وكانت هذه اللحظة محورية، حيث فهم الغرب بعدها أن المواجهة العسكرية المباشرة لن تزيل الإسلام أو تمحو حضارته.

ولذلك، كانت هذه بداية تغير طبيعة الصراع، الذي انتقل من معارك السيوف إلى معارك الأفكار. الأمر الذي جعل لويس التاسع يدعوا أتباعه ومن يأتي بعده إلى تغيير طريقة المواجهة، فبدلاً من القتال بالسيوف، يجب أن تكون المعركة على مستوى الفكر والثقافة، لأنه أدرك أن صليل الأفكار أقوى من صليل السيوف. ولذلك أوصى بتكثيف الجهود في مجالات التبشير والتنصير والاستشراق المبكر، وكان من الأوائل الذين دعوا لدراسة الإسلام ولغة العرب. بهدف فهم عقائد المسلمين بشكل عميق، كي يتمكنوا من نشر الشكوك حول دينهم ومعتقداتهم. فلم يكن الأمر مجرد هجوم مباشر، بل كان يهدف أيضًا إلى هدم أخلاقهم وإثارة الفتن الداخلية بينهم. ومن خلال تغير طريقة المواجهة تمكن الغرب من الوصول إلى قلب الأمة بسهولة، من دون الحاجة إلى خوض حروب مفتوحة. وبذلك وضعت بداية مشروع كبير يُعرف اليوم بالغزو الفكري، والذي ما زلنا نشعر بتأثيره حتى يومنا هذا.

ولا يزال الفكر العربي والإسلامي يعاني حتى الآن من تداعيات هذا الغزو الفكري. الذي ظهرت آثاره بوضوح في الصراعات حول الهوية واللغة والقيم. كما نرى محاولات مستمرة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي بعيدًا عن جذوره الحضارية. ولذلك لابد أن نتوقف كثيرا أمام تغير آليات المواجهة ونتمعن فيها ونفكر بعمق حتى نستطيع أن نعيد السيطرة ونحافظ على وعيّنا من أي تأثيرات ثقافية جديدة قد تقتحمنا.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

كان سقراط يقول إن والدته تعمل قابلة تساعد النساء على الولادة، وهو بدوره يساعد على توليد الأفكار في عقول تلاميذه. نستهل مقالنا بهذا التشبيه البليغ، فكما أن الرحم هو بداية انطلاق الحياة، فإن الفلسفة هي بداية طرح الفكرة في شكل تساؤل. ومن وجهة نظرنا، تسير الحياة والفلسفة في خطين متوازيين؛ بدأت الحياة وبدأت معها الفلسفة، منذ بداية الإنسان القديم وتفكيره في كيفية توفير سُبل العيش، وهذه هي نقطة انطلاق الفلسفة: كيف يعيش الإنسان؟

وبناءً على فكرة “الصيرورة” للفيلسوف اليوناني هيراقليطس، التي تعني أن لا شيء يظل على حاله وأن كل شيء في تغير مستمر، أخذت الحياة تتطور، ويطور معها الإنسان طرق العيش. فتمت ترقية السؤال من “كيف يعيش الإنسان؟” إلى “ما هو أصل الأشياء؟”، بعقل الفيلسوف طاليس المليطي.

بدأ ميلاد الفلسفة بالأسئلة الكبرى، فتحول هم الإنسان من التفكير في تلبية احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وتزاوج، إلى الغوص في أسرار الحياة. فها هو أفلاطون يتصور عالم المثل، وأننا قبل تشكيل أجسادنا كنا في عالم الأرواح، ولهذه الأفكار صدى في الإسلام، وبشكل أكثر دقة في سورة الأعراف، آية ١٧٢:

“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا”

ويأتي أرسطو وطاليس بنظرية العلل، متأملًا ومتسائلًا في الكون، مؤمنًا بأن له خالقًا وأن الكون لم يُخلق صدفة أو هباءً منثورًا، فهناك محرك للكون لا يتحرك، لأنه لو تحرك سنظل نبحث في دائرة مفرغة عن مسبب الحركة، وهو المحرك الأول.

وفي العصور الوسطى، ارتبطت الفلسفة بالدين، فأصبحت ذات صبغة دينية بحتة. فنجد أفكار الفلاسفة المسيحيين:

أنسلم قال: “آمن لكي تفهم”

توما الأكويني قال: “الفهم يقوّي الإيمان”

وعند الفلاسفة المسلمين:

الفارابي رأى أن العقل أداة للوصول إلى معرفة الله.

ابن سينا استخدم الاستدلال العقلي لفهم ما جاء به الوحي.

ابن رشد اعتبر أن الفلسفة واجبة على العلماء لفهم الله والكون، وأكد على إعمال العقل في النص الديني.

وأخيرًا، ننتقل إلى أفكار فلاسفة العصر الحديث والمعاصر. نجد ديكارت ونقده البناء، وعقله المتوهج في إعادة توجيه مسار الفكر والتخلص من شوائب الأفكار التقليدية، وأثبت بمقولته الشهيرة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. لماذا قال “أنا” ولم يقل “نحن”؟ لأن الفلسفة نسبية، ومقياس التفرد فيها هو إمكانية تفرد الإنسان وعدم اتباع أي فكرة دون فحصها وتحليلها.

كمثال على فلاسفة معاصرين وأفكارهم: نيتشه وأفكاره حول الإرادة وفلسفة القوة والإنسان الأعلى، ونقد التقليد وتحطيم الأفكار الجاهزة، ودعوته الدائمة لتفرد الإنسان وقدرته الخارقة على التغيير، وأن يجعل لنفسه قيمة. وهذا يذكرنا بفلسفة أحد المفكرين المصريين، مصطفى محمود، ومقولته:

 “قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته.”

وبهذا نختم مقالنا: فهل نرضى بأن نكون عبئًا على الحياة؟ أم آن الأوان أن نعيد اكتشاف أنفسنا وفهمها وفهم الدور الذي وُلدنا من أجله؟

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

دائما ما يثار سؤال مهم هل الفلسفة التي اطلق عليها اليونان اسم "حب الحكمة" مجال تخصصي، اما يمكن ان تتحول الى موضوعات عن السعادة والخير والعدالة ؟، ولعل هذه المقارنة شغلت الكثير من الفلاسفة ومن المهتمين بكتابة تاريخ الفلسفة ايضا.. فمنذ ان اطلق هيغل مقولته الشهيرة:" لا تحتاج الفلسفة إلى أن تشغل نفسها بالأفكار العادية "، اصر العديد من الفلاسفة الى القول ان الفلسفة مجال نظري يقتضي تخصصا متناهيا، بل ذهب مارتن هايدغر الى ابعد من ذلك معلنا أن الفلسفة ماتت مع موت الفلاسفة الكبار، وكان نيتشه آخرها كما اصر هايدغر، ويضيف هايدغر ان نيتشه اكتشف ان الفلسفة غير مجدية وخداع للنفس.. وكان هايدغر قد وجه سهامه ايضا الى الفلاسفة الذي يحاولون ان يقتعوا الجمهور ان الفلسفة يمكن ان ترتبط باليومي ولهذا نجده يسخر من ماركس ويصب جام غضبه على سارتر الذي يريد ان يحول الفلسفة الى حالة انسانية يومية.

يكتب جون غيرش في كتابه الممتع " العيش بالفلسفة " الى ان الفلسفة وهي تصنع لنفسها عالما خاصا، تحولت ايضا الى تعليم للناس عندما قرر افلاطون ان يؤسس اكاديميته، ليقدم لنا مفهوما جديدا بعنوان " التفلسف " وهو مفهوم يدل على طريقة جديدة في قيادة الحياة.. وهو ما حاول الفرنسي لوك فيري ان يقدمه من خلال كتابه تعلم الحياة " حيث ينقل لنا فكرة ارسطو من أن هدف الفلسفة هو البحث عن الحياة الجديدة التي ينبغي ان يعيشها الانسان، كان ارسطو يؤمن بان الحياة الحقة تكمن في تحقيق الانسجام مع العالم الذي يشترط ارسطو ان يكون منسجما ايضا.. هذا العالم المنسجم والعادل والجميل هو الذي شكل في نظر ارسطو ومن قبله استاذه افلاطون النموذج الحقيقي لنشر المدنية.. ورغم أن ارسطو كان تلميذا لأفلاطون، غير أن أفكارهم كانت مختلفة عن بعضها البعض، لم يكونا يرددان نفس العبارات. كان لكل واحد منهم فلسفته الخاصة، كان أفلاطون مهتما بالتفكير الفلسفي المجرد، وكان أرسطو مهتما بكل شيء حوله.

من بين الأسئلة التي فكر فيها أرسطو بشكل دائم هي: "كيف يمكن ان تصبح الفلسفة طريقة للعيش ؟". طرح سقراط وأفلاطون هذا السؤال، وكانت الحاجة للإجابة عن هذا السؤال هي جزء مما يدفع الناس إلى الفلسفة. كان لأرسطو جوابه الخاص: " ابحث عن السعادة ".. يبحث الانسان في الفلسفة عن تنمية قدراته بالتجربة والمعرفة.

لسنوات وانا اقرا الفلسفة مثل الهواة وليس على طريقة المتخصصين، كنت اعاني في احيان كثيرة من صعوبة الإنسجام مع بعض الكتابات التي ينشرها مختصون في الشأن الفلسفي، كأنهم يريدون ان يقولوا ان الفلسفة انها تقول اشياء لا يفهمها الناس، ويهتم بامرها النخبة فقط.. لكني وانا اقرا سيرة سقراط او افلاطون او ارسطو ومعهم سارتر وبرتراند رسل وكيركجارد وعشرات غيرهم وجدت ان الوصول الى الناس كان هدفا اساسيا لفلسفتهم، ويذهب الكثير منهم الى ان الفلسفة أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي، وتأكيد اهمية الحياة وطريقة عيشنا ويمكن للفلاسفة من خلال من تخصصاتهم في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضًا مُزمِنة، كالعنف وتغييب العدالة الاجتماعية والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، وهي امور يقول دو بوتون لا يمكن ان يُشيح المتفلسِف ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما خرج الى الشارع أو جلس امام التلفزيون، مشكلات الجائعين، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التفقراء منذ مئات السنين. يصر الفرنسي ميشيل أونفري، الى أن مهمة الفلسفة هي النظر بعين فاحصة إلى الأزمات العالمية الحالية.

 في أواسط القرن العشرين أصبح برتراند رسل الممثل الحقيقي لكلمة "فيلسوف". لقد بدا لرسل دور الفيلسوف مناسباً، بشعره الأبيض وملامحه الجادّة الصلبة، والغليون الذي لم يفارقه. كان اول من قدم محاضرة اذاعية عن الفلسفة عام 1949، واصبح كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" الأكثر مبيعاً في العالم، بدأ حياته بكتاب "الديمقراطية الاجتماعية" وانتهى بجرائم الحرب على فيتنام، وفي عمر التسعين تحمل السجن بسبب دعوته للاحتجاج ضد الحروب. كان يدعي انه مقاد بـ: "مشاعر ثلاثة بسيطة، لكنها قوية غامرة: التوق الى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لاتطاق لمعاناة الانسان"، افضت كتاباته الواسعة بشكل كبير الى ان يكون اول فيلسوف تقرأ كتبه مثلما تقرأ الروايات ودواوين الشعر، وينزل الفلسفة من عرشها ايجعلها تتجول في الاسواق العامة.

يستهد ميشيل اونفري بعبارة مونتاني:" اذا فشلت في الامساك بالحياة، سوف تتملص منك على اية حال. فلا بد ان تتبعها "، ويلاحظ أن الفلسفة يمكنها ان تقدم لنا نصائح لمحاربة الخوف والقلق والامراض، لكنه يرى أن الفلسفة لا يمكن ان تحقق التاثير المطلوب من دون الاستفادة من العلوم الانسانية الاخرى، مثل علم الاجتماع والتحليل النفسي وعلم الاقتصاد:" الفيلسوف يفكر وفق الأدوات المعرفية المتوفرة لديه، وإلا فإنه سيفكر خارج الواقع ". واليوم نجد الكثير من الفلاسفة الجدد في فرنسا وبريطانيا وامريكا وباقي بلدان اوربا يسعون الى جعل الفلسفة تُعلم الانسان معنى العظمة الانسانية، وكيف نتعلم ان نفهمها، وكيف نحفز رغباتنا تجاهها.. قبل اكثر من الفين عام آمن الرواقيون بان سعادة الانسان تكمن في تعلمه كيف يكون مستقلا:" الشرط الوحيد لسعادة الانسان هو في ان يقود حياة فاضلة تقوم على المعرفة ". يكتب دو بوتون الى ان الفلسفة طريقة مهمة لعيش الحياة، ولهذا يحاول ان يجيب على اسئلة ما هي الفلسفة ؟ وهل الاهتمام بها مضيعة للوقت، من خلال كتب تسعى لخلق جسرًا من التواصل الحميمي بين القارئ وبين كتب الفلاسفة الكبار.

وقبل اكثر من الفين وثلثمائة عام اخبرنا ابيقور إن: "الفلسفة التي لا تشفي الآلام البشرية هي محض هباء، فالفلسفة التي لا تُبرئ الروح من معاناتها، لا تختلف عن طبّ لا يداوي مريضاً ولا يشفي عليلاً". اعتقد أبيقور أن القضية الأساسية للفلسفة تتمثل في القضاء على كل الاعتقادات الخاطئة، فكان يظن أن الخوف اللاعقلاني من أهمّ العقبات في طريق السعادة، وأن العلاج لهذا الخوف، هو أن يفهم الإنسان الطبيعة، فغاية الفلسفة تكمن في مساعدة الناس على بلوغ السعادة، وأن أول أبواب السعادة هو سلام النفس، وهذا ما يسمّيه أبيقور "الطمأنينة"، وحتى نحصل على هذه الطمأنينة وهذا السلام ينبغي أن نملك فكرة سليمة عن الطبيعة التي نعيش في ظلها، وعن القوانين التي تحكم هذه الطبيعة ولهذا يريد أبيقور من الإنسان أن يتمكن من تأسيس قانون يمكنه من هزم الخوف من الآلهة والموت، من خلال نظرية تقول "لا شيء يأتي من لا شيء، ولا شيء يضيع في اللاشيء"، والإنسان سعيد لأنّه لا يخشى فقداً، لا يهاب نهاية العالم ولا الموت ولا الآلهة. ولكي يثبت الأبيقوريّون أن لحظة واحدة من السعادة تكفي لمنح الإنسان لذة لا متناهية، فقد دأبوا على أن يقولوا لأنفسهم كلّ يوم: " لقد أخذت كل ما أمكنني توقّعه من اللذة"،

في السنوات الأخيرة زاد الإقبال على قراءة أعمال الفلاسفة الرواقيين في أوساط العاملين وخبراء التكنولوجيا، كإحدى ضرورات التثقيف الشخصي.. فقد تمكنت الفلسفة الرواقية من ان تثبت أن العوامل الداخلية النفسية، هي الأساس لعيش حياة سعيدة. ونجدهم يركزون على أهمية التحلي بالسمات الشخصية المناسبة التي تساعدنا في الوصول إلى الحالة النفسية المثالية. فليس من المهم ما يملكه المرء ولا ما يواجهه في العالم الخارجي، بل كل ما يهمّ هو الحفاظ على السلام النفسي. وهذا هو لبّ الفلسفة الرواقية.

كانت الفلسفة في العقود الماضية تُعدّ مجالاً معرفياً معقداً لا يقصده إلّا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الأخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجاً بين القراء؟

في كتابه "المقالات" يقدم لنا مونتاني فلسفة غايتها إشاعة السلام والطمأنينة، فالحياة خير إذا جُرّدت من كل ضروب الاصطناع التي يفرضها الإنسان: "إذ أن من الكمال المطلق أن يعرف الإنسان كيف يستمتع بكيانه استمتاعاً نزيهاً عن الوسائل التي تُحقّق هذا الاستمتاع النزيه"، ولهذا نجد أن دعوة مونتاني لممارسة "فن الحياة"، والتي تنحصر في الرجوع إلى الطبيعة، ولهذا ينبغي التماس الحقيقة في الشعور بالنفس، لا في الأفكار البعيدة عنا، ولا في ما هو غريب عنا ومن شأنه أن يفسدنا، والناس ملاقون في نفوسهم ذاتها كل ما يحتاجون إليه من أجل الحياة. إن حياتنا في داخل ذواتنا، ومن ذواتنا ينبغي أن نستمد المعارف الضرورية للوصول بها إلى الخير، وكل ما عدا ذلك فهو غريب عنا. ولهذا يجد مونتاني أن هدف التعليم أو التربية كما جاءت عند جان جاك روسو، ينحصر أولاً في تكوين الحكم الصائب على الأشياء، أي تكوين عقل يتّجه إلى الحقيقة وضمير يتجه إلى الخير:"ينبغي للكتب والمحادثات والرحلات والدراسات وضروب اللعب أن تتجه كلها إلى هذا الاتجاه؛ تكوين عقل يتّجه إلى الحقيقة، وتجبُ علينا رياضة الجسم والعقل في آن واحد". أن تكون للإنسان قيمة أولية، وأن يكون هو غايتنا الرئيسة، وأن يكون لدينا شغف بالعمل لخير الإنسانية، فتلك هي خلاصة أفكار مونتاني، والتي لخّصها بعبارة شهيرة: "من منّا يعيش حياته كما ينبغي علينا أن نعيشها، وليس أن نعيش وحسب؟".

تجد الفلسفة اليوم نفسها في مواجهة مشكلة التعايش السلمي بين البشر في العالم كله. وكيف يمكن للفيلسوف أن يسهم في السؤال المطروح دوما عن معنى ان ننصت للآخر ونُكون معه حورا، وان نصبح قادرين على السماع لبعضنا البعض، وان تكون الفلسفة فنا للعيش، وان لا نسعى الى الفصبل بين الفيلسوف وفلسفته.

في كتابه الممتع الفلسفة انواعها ومشكلاتها – ترجمه الى العربية فؤاد زكريا – يكتب هنتر ميد: "اذا ققال احدهم ان الفلسفة عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب "

هل يمكن ان نحلم بكتابات فلسفية يقرأها الانسان العادي مثلما يقرا الرواية او الشعر او المقال السياسي.. ولكن اليست الفلسفة تذكرنا دوما بانه من المسموح لنا دائما ان نحلم، وهذا هو الحلم الذي يرافقني كلما كتبت مقالا فلسفيا في هذه الزاوية او تجرأت وحشرت نفسي مع اصحاب المؤلفات التي تتحدث عن الفلسفة، وكنت في كل مرة اطمح ان اقدم كتب تستهوي قراء هذا النوع من المعرفة الممتعة والصعبة والمعقدة في أحيان كثيرة، ولكن إذا تسنّى لما اكتبه ان يوضع على رف كتب الفلسفة، فهل سيجد له قراء في سوق الكتب الذي يطرح كل يوم مئات العناوين الجديدة والجذابة، والتي ربما تفوق عناوين كتبي متعة وفائدة واهمية، في كل ما اقدمه احاول ان اجمع تجاربي في القراءة بكتب هي اشبه بالتجارب أولنسميها خبرات القراءة، وبسبب اهتمامي بالفلسفة افكر كثيرا في جدوى مدرسة الحكمة ودورها في حياة الناس، وكيف يمكن لها ان تؤثر بالانسان البسيط فتوسع آفاق وعيه، وتدله على معرفة المعايير التي يبني عليها أحكامه والقيم التي يجب أن يتمسك بها، وتساعده على تكوين رؤية للعالم والحياة تساهم في دفع المجتمع نحو التطور واعلاء شأن فكر الفكر التنويري، وترسيخ قيم الحرية والخير والتسامح والعدل،، ولهذا لازلت اؤمن ان الكتب قادرة على زرع الأمل في نفوس الناس من اجل عالم أفضل وأجمل. قد تكون ازمتنا الثقافية هي في عدم الوعي باهمية الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا، قد يبدو هذا القول مكرر، لكنني لا زلت اصر على أن حل ازمتنا مع التخلف والطائفية يكمن في الالتفات الى الفلسفة والاعلاء شأنها، وفي البحث عن قارئ يتجدد كل يوم، ففي جميع الازمنة وجميع المجتمعات كان كتب الفلسفة هي التي يحدد القوانين الاخلاقية التي تسير عليها المجتمعات.

***

علي حسين – رئيس جريدة المدى البغدادية

الثّقافة كعنصر كلّي مركب مرتبط بحركة الاجتماع البشريّ، أي الثّقافة مرتبطة بالإنسان؛ فهي «الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع» كما يعرّفها ندين لإدوارد تايلور (ت: 1917م)، ولا يمكن إخراجها عن هذا المفهوم المتحرك، فجعلها في دائرة المغلق يعني قتل جماليّة التّنوع فيها، كما جعلها في دائرة المصالح السّياسيّة يعني إخراجها من دائرة التّدافع والتّثاقف الطّبيعيّ إلى دائرة الصّراع والتّنافر، فتضيق إذا أغلقت لاهوتيّا، وتتصارع إذا ربطت بالمنفعة السّياسيّة الآنيّة.

ارتباط الثّقافة بالإنسان أي ارتباطها بمطلق مبدأ الجمال، والجمال ليس على صورة واحدة، وكلّما تعدّدت صوره انعكس أثرة الإيجابيّ على الجنس البشريّ؛ فهذه الصّور المختلفة من الثّقافات كانت عرقيّة أم لغويّة أم دينيّة أم مذهبيّة أم فنيّة هي انعكاسات هذا الجمال. ولا يمكن بحال حصر الثّقافة في جغرافيّة محدودة؛ فهي عابرة للحدود الجغرافيّة لارتباطها بالإنسان، وفضاء الإنسان فكرا وثقافة لا يحدّ بحدود قطريّة لا تتجاوز غايتها حدّ التّنظيم، خصوصا في عالمنا الرّقميّ اليوم، فأصبح مشاعا للكلّ. ومحاولة تسييسه أو حدّه جغرافيا كمن يحاول حدّ مياه البحار الواسعة؛ فهو وإن جعل لها حدودا إقليميّة، إلّا أنّ ما في بطنها يسبح وينتقل من مكان لآخر دون تقيّد بهذه الحدود، كذلك فضاء الثّقافة اليوم في عالمنا الرّقميّ لا حدود تحدّها.

هناك فارق بين استثمار الثّقافة وبين تسييس الثّقافة. استثمارها يعني التّعامل معها إيجابا على درجة واحدة، وتفعيلها لتكون عنصرا يساهم في التّنمية، وفي التّنوع والاستقرار الوطنيّ. أمّا التّسييس فيتمّ عبر ربطها بعنصر المنفعة أو المصلحة الآنيّة، وأحيانا تكون السّياسة فاعلا في خلق الصّراع بين الإثنيات الثّقافيّة، ليُشغل المجتمع بالصّراعات الثّقافيّة؛ لأجل بقاء بعض الأفراد في السّلطة لفترة أكبر، وأحيانا الاتّكاء على ثقافة معيّنة لأسباب دينيّة أو مذهبيّة أو قبليّة أو اجتماعيّة؛ فيؤدّي هذا بالضّرورة إلى خلق تهميش متعمد لثقافات أخرى مشتركة في الحدود القطريّة ما يؤدّي إلى انقراض ثقافات بشريّة، أو إلى خلق صراع يظهر عند الضّعف السّياسيّ بشكل أكثر حدّة، فيخرجنا من تدافع الثّقافات واستثمارها إلى صراع الثّقافات وتنافرها.

وبما أنّ الثّقافة الأصل أن تكون في الدّولة الوطنيّة على درجة واحدة متساوية، لارتباط المواطنة في الدّولة الوطنيّة بالمساواة والعدالة من حيث الذّات، ومن حيث الانتماءات الثّقافيّة المرتبطة بهذه الذّات؛ فالثّقافة أوسع وأعلى من السّلطة؛ لأنّها انتماء وجوديّ في الوطن، والسّلطة عنصر تنظيميّ متحرك غايتها تحقيق كرامة الذّات، والحفاظ عليها ذاتا وانتماء، وتحقيق مبدأ المساواة والعدالة فيها، فإذا خرجت السّلطة من فاعليّتها التّنظيميّة إلى كونها عنصرا يعوق هذه المساواة الثّقافيّة فهنا يأتي دور المثقف ليكون راصدا وناقدا لهذه السّلطة؛ ليرجعها إلى الطّريق السّليم والأصلح وفق تدافع الثّقافات. هذا التّدافع شيء طبيعيّ منذ القدم، والثّقافات تتدافع وتتداخل وتتهذّب طبيعيّا، ومنها ما ينقرض، ومنها ما يتطوّر، ومنها ما يتشكلّ في أنماط ثقافيّة جديدة، والسّلطة يتحقّق حضورها وفق هذه الثّقافات المتعدّدة من خلال استثمارها لها إيجابا وفق قانون عادل ومنصف بينها يحفظ هذا التّدافع الطّبيعيّ.

والدّولة لا تُربط بثقافة معينة، ولا يمكن حمل النّاس على ثقافة واحدة تتبناها الدّولة، خصوصا في الدّول الّتي توجد فيها أنماط ثقافيّة مختلفة، وواضحة بشكل كبير، كالأنماط المذهبيّة أو العرقيّة أو اللّغويّة أو الاجتماعيّة، وهويّة الدّولة الجامعة واسعة بحيث تشمل جميع الهويّات والثّقافات الأخرى. وكلّما اتّسعت هويّة الدّولة، وانفتحت على الكلّ كانت أكثر استقرارا داخليّا، ويُبنى داخلها على عقليّة التّعايش الحقيقيّ الّذي يؤمن به الجميع، ولا يتوقف عند سلطة القانون فقط.

وإذا خرجنا من فضاء الدّولة إلى فضاء الإنسان الأوسع فنحن بحاجة في عالم الكوكبة اليوم إلى بناء عقليّات تتفاعل إيجابا مع جميع المكونات الثّقافيّة في العالم؛ فالثّقافة شيء انتمائيّ متعلّق بالبيئة، وعنصر الاستهجان من ثقافة الآخر سببه بيئيّ، ولا علاقة له بالجانب التّكوينيّ في الذّات الإنسانيّة. فالبيئة هي من جعلتك تكسب لغة ودينا ومذهبا ولباسا ومطعومات وفنونا معيّنة؛ فإيمانك بها في الغالب إيمان بيئيّ، واعتزازك بها واطمئنانك إليها يعود إلى السّبب البيئي ذاته، ولا علاقة له بالتّكوين الإنسانيّ المطلق، ولا بالحقيقة المطلقة. على هذا يجد الإنسان اليوم - بسبب الخلطة - تنوعا ثقافيّا بشكل أقرب ممّا كان بالأمس؛ لهذا المجتمعات اليوم بحاجة إلى التّعود على التّعايش الطّبيعيّ مع هذه الثّقافات المختلفة.

لمّا بدأت الصّحافة والمجلّات والشاشة الصّغيرة والسّينما حاول الإعلام الغربيّ تسييس الثّقافة، وإظهار الثّقافة الغربيّة، وأنّ التّقدّم الحضاريّ مربوط بهذه الثّقافة، ولكي تكون متقدّما حضاريّا عليك أن تظهر ذاتك بهويّة غربيّة روج لها الإعلام الغربيّ حينا من الزّمن، وأقصى بها ثقافات حتّى داخل بعض المجتمعات الغربيّة ذاتها، كما حدث عند ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، أو محاولة إقصاء ثقافات أمريكا اللّاتينيّة، خصوصا عند الدّول المناهضة للإمبرياليّة الأمريكيّة. هذا الأمر تلاشى اليوم لظهور قوى اقتصاديّة في العالم لها ثقافتاها الخاصّة بها، وأصبحت متقدّمة لا لأنّها تبنّت الثّقافة الغربيّة المسيّسة، وإنّما لإدراكها أنّ التّقدّم الحضاريّ، ومنه الاقتصاديّ والتّنمويّ مرتبط بسننيّة عوامل التّقدّم ذاته، ولا علاقة له بالانتماءات والخصوصيّات الثّقافيّة على أنّ التّقدّم الحضاريّ عند أمّة ما يسهم في إظهار ثقافتها للآخر بشكل طبيعيّ، كما تتهذّب به ثقافاتها في الدّاخل، وتتأثر به ثقافات أخرى وفق سنّة التّدافع لا الإقصاء المتعمد سياسيّا. هذا الأمر ذاته ينطبق على الدّولة القُطريّة -كما في غالب عالمنا العربيّ- عندما حاولت تسييس الثّقافة لسبب سيطرتها المطلقة على الإعلام المحلّيّ مكتوبا ومرئيّا ومسموعا، لكن تلاشى الأمر اليوم بسبب الطّفرة الرّقميّة المرتبطة بالأفراد والمؤسّسات الإعلاميّة المشاركة، فظهرت ثقافات متنوعة في الدّولة القطريّة قد تكون مهمّشة إعلاميّا في السّابق بسبب السّلطة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث من سلطنة عمان

 

من خلال تنمية التفكير الفلسفي وتطوير الفاعلية النقدية والحوار العقلاني

مقدمة: "الفلسفة ليست عقيدة ولكنها فاعلية" ماثيو ليبمان

تشهد الثقافة المعاصرة أزمة عميقة تُعرف بـ"الرداءة الثقافية" أو زمن التفاهة، وهي ظاهرة تتميز بانتشار الإنتاج الاستهلاكي السطحي، التفاهة الإعلامية، والتسطيح الفكري في ظل هيمنة الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. يصفها ثيودور أدورنو في صناعة الثقافة (1947) بأنها "إنتاج ثقافي موحد يُفقد الإنسان قدرته على التفكير المستقل"، بينما يراها جان بودريار في المحاكاة والتقليد (1981) كـ"افراط في الواقعية وواقعية مفرطة" تُحل محل الأصالة. تهدف هذه الدراسة الأكاديمية إلى اقتراح نموذج إنقاذي ثلاثي الأبعاد: تنمية التفكير الفلسفي كأداة لاستعادة العمق، تطوير الفاعلية النقدية كسلاح ضد التسطيح، والحوار العقلاني كآلية لإعادة بناء التواصل الإنساني. سنعتمد على نظريات هابرماس (الفعل التواصلي)، فوكو (المعرفة-السلطة)، وغادامير (الهرمنوطيقا)، مع مقاربة ديداكتيكية لتطبيق هذا النموذج في التعليم والمجتمع. الدراسة مقسمة إلى تحليل الرداءة، ثم كل بعد من الأبعاد الثلاثة، فالمقارنة، والتطبيقات الديداكتيكية، مع أمثلة تاريخية ومعاصرة. كيف نمنح الفلسفة جرعة حياة جديدة في يوم عيدها العالمي؟

تحليل ظاهرة الرداءة الثقافية

الرداءة ليست مجرد ضعف جودة، بل نظام ثقافي يُنتج "سلعًا ثقافية" سريعة الاستهلاك. خصائصها:

التسطيح: اختزال المعقد إلى بسيط (مثل: "الفيديوهات القصيرة" على تيك توك).

التكرار: إعادة إنتاج النماذج دون إبداع (إعادة إنتاج أفلام هوليوود).

الاستهلاكية: ربط القيمة بالانتشار لا بالعمق (ثقافة المعلبات).

أسبابها: هيمنة السوق (أدورنو)، فقدان الهالة (والتر بنيامين)، و"موت المؤلف" المُساء فهمُه (بارت). آثارها: تآكل الهوية، انتشار الجهل المُتعمَّد، وانهيار الحوار العام.

البعد الأول: تنمية التفكير الفلسفي كأداة للعمق

التفكير الفلسفي هو "التساؤل المنهجي عن المعاني والأسس" (هيدجر). يُعيد بناء الثقافة عبر:

الإشكالية: تحويل "المعلومة" إلى "سؤال" (مثل: من "ما هو الذكاء الاصطناعي؟" إلى "ما معنى أن يكون الإنسان ذكيًا؟").

الديالكتيك: بناء المعرفة عبر التناقض (هيجل).

التأمل: مقاومة السرعة بالتوقف (أرسطو: النظرية كحياة تأملية).

في مواجهة الرداءة، يُحول الفيلسوف المتلقي من مستهلك إلى منتج معنى. مثال: حملة "فلسفة للأطفال" (ماثيو ليبمان) التي أثبتت زيادة التفكير النقدي بنسبة 40% لدى الأطفال.

البعد الثاني: تطوير الفاعلية النقدية كسلاح ضد التسطيح

الفاعلية النقدية هي "القدرة على تفكيك الخطابات المهيمنة وإعادة بنائها" (فوكو). تتضمن:

التحليل النقدي: كشف الإيديولوجيا المخفية (ماركس: "الوعي الزائف").

النقد الذاتي: مراجعة افتراضات الفرد (كانط: "جرأة على المعرفة").

التعددية: قبول الآراء المتناقضة دون إلغاء (أدورنو: "التفكير السلبي").

أدواتها: نظرية النقد الثقافي، تحليل الخطاب (فان دايك). في السياق الرقمي، تُمكّن من مقاومة "فقاعات التصفية" عبر أدوات مثل "دليل فضح الزيف".

البعد الثالث: الحوار العقلاني كآلية للتواصل الأصيل

الحوار العقلاني هو "الفعل التواصلي الخالي من التشويه" (هابرماس في نظرية الفعل التواصلي، 1981). يتطلب:

الموضوعية: الاستناد إلى الحجج لا العواطف.

الشمولية: إشراك كل الأصوات (بما فيها الهامشية).

الانفتاح: قبول إمكانية التغيير (غادامير: "اندماج الآفاق").

في عصر "ما بعد الحقيقة"، يُعيد الحوار بناء الثقة العامة. مثال: منتديات "مقهى فلسفي" في فرنسا التي جمعت آلاف المشاركين في حوارات عميقة منذ 1992.

مقارنة بين الأبعاد الثلاثة

اذا قمنا بمقارنة بين الأبعاد الثلاثة فإننا نجد الغرض الرئيسي من الأساس النظري التي تستند اليه هو أن التطبيق ضد الرداءة يمنح التفكير الفلسفي استعادة العمق والمعنى ويمثله كل من هيدجر، هيغل، أرسطو.

كذلك تساعد الفاعلية النقدية على تحويل الاستهلاك إلى تأمل وتقوم بتفكيك الخطابات الزائفة ويمثلها كل من فوكو، كانط، أدورنو وتفضي الى كشف التلاعب الإعلامي. أما الحوار العقلاني فهو يسعى البى بناء توافق تواصلي ويحاول استبدال الصراخ بالحجة ويمثله كل من هابرماس، غادامير وبول ريكور. في المجمل يشكل تكامل الأبعاد الثلاثة: تنمية التفكير الفلسفي واستخدام الفاعلية النقدية والاعتماد على آلية الحوار العقلاني "مثلث الإنقاذ الثقافي الراهن" لأن: التفكير يوفر المحتوى، النقد ينقيه، الحوار يوزعه.

المقاربة الديداكتيكية: تطبيقات عملية في التعليم والمجتمع

يُدمج النموذج في مناهج متعددة المستويات:

في التعليم الأساسي:

برامج "الفلسفة للأطفال" (ليبمان): جلسات أسبوعية لمناقشة قضايا مثل "ما الجمال؟" بدلاً من التلقين.

ألعاب نقدية: "نوادي المناظرة" لتدريب الحجة.

في التعليم الجامعي: مقررات "النقد الثقافي الرقمي": تحليل منصات مثل نتفليكس بأدوات فوكو.

مشاريع حوارية: "حوارات متعددة التخصصات" بين كليات العلوم والفنون.

في المجتمع: منصات رقمية: " منتديات الفلسفة على الإنترنت" مع قواعد هابرماسية.

حملات عامة: "أسبوع الحوار الوطني" لمناقشة قضايا مثل التغير المناخي عقلانيًا.

استخدام الفنون: مسرحيات تفاعلية تُجسد الرداءة وتُحللها (مثل مسرح بريخت).

تقييم الفعالية: استبيانات ما قبل/ما بعد، تحليل خطاب، قياس مؤشرات مثل "مستوى التسطيح الإعلامي" (مؤشر محو الأمية الإعلامية).

دراسة حالة: تجربة "إنقاذ الثقافة" في البرازيل (2022-2024)

في مشروع وزارة الثقافة البرازيلية، طُبق النموذج على 50 مدرسة:

المرحلة 1: تدريب المعلمين على التفكير الفلسفي.

المرحلة 2: ورش نقدية لتحليل الإعلام الشعبي.

المرحلة 3: منتديات حوارية شهرية.

النتائج (تقرير اليونسكو 2024): انخفاض استهلاك "المحتوى السطحي" بنسبة 52%، ارتفاع المشاركة في الأنشطة الثقافية العميقة بنسبة 68%.

خاتمة

"الفلسفة هي حوار طويل بين أشخاص مختلفين يبحثون عن حلول جزئية لمشاكل إنسانية أساسية"

ماثيو ليبمان

إنقاذ الثقافة من الرداءة ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية في زمن الآلة. من خلال تنمية التفكير الفلسفي، تطوير الفاعلية النقدية، وتعزيز الحوار العقلاني، نُعيد للإنسان دوره كـ"كائن مفكر" لا مستهلك. هذا النموذج يتجاوز النظرية ليصبح برنامجًا عمليًا يُمكن تبنيه وطنيًا. يُوصى بإنشاء "مراكز وطنية للإنقاذ الثقافي"، وبحوث طولية حول تأثير هذه المقاربة على الهوية الجماعية في عصر الذكاء الاصطناعي. فإلى أي مدى تساعد الثقافة من خلال فاعليها ومؤسساتها على اشعاع الفلسفة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصادر والمراجع

أدورنو، ثيودور وهوركهايمر، ماكس. (1947). ديالكتيك التنوير.

بودريار، جان. (1981). المحاكاة والتقليد.

هابرماس، يورغن. (1981). نظرية الفعل التواصلي.

فوكو، ميشيل. (1975). المراقبة والمعاقبة.

هيدجر، مارتن،( 1927). الوجود والزمان.

غادامير، هانس جورج. (1960). الحقيقة والمنهج.

ليبمان، ماثيو. (1988). الفلسفة تذهب إلى المدرسة.

 

طرح العديد من المفكرين الفرنسيين مثل ميشيل فوكو، جاك دريدا، جاك دييجو وجان فرانسوا ليوتار افكار ما بعد الحداثة كرد فعل لازمه الراسماليه في سبعينات القرن الماضي. جذبت هذه الافكار انتباه علماء علم الاجتماع وبعض المثقفين غير المتخصصين في مجال البحث العلمي.

تؤمن الحداثة بان الحقيقة موجوده بشكل مستقل عن الوعي البشري ويمكن معرفتها من خلال استخدام العقل، وان العلم هو وسيلة موضوعية لفهم العالم الطبيعي وقد ادي تطبيقه إلى ارتفاع غير مسبوق في مستوى المعيشة المادي للانسان وبناء حضارة حديثه تضع أعلى قيمة على فرديه حياة الإنسان وحريته.

لا تؤمن نظريه ما بعد الحداثة بقدرة العلم على حل جميع مشاكل المجتمع، وتعتقد أن العقل والعلم ليسا سوى تقاليد غربية تتنافس مع التقاليد الثقافية الأخرى للمعرفة، وترفض وجود طريقة موضوعية لإثبات الحقيقة. ومن أهم منتقدي موضوعية المنهج العلمي ”توماس كون“ الذي عرض أفكاره بأسلوب مميز في كتاب صدر عام 1962 بعنوان "هيكل الثورات العلمية"

(The Structure of Scientific Revolutions)، والذي اكتسب شعبية كبيرة، خاصه بين المتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية.

اقترح توماس كون أن الاختيارات في المنهج العلمي لا تتم وفقًا لأدلة موضوعية، بل تخضع لقيم اجتماعية محددة مسبقًا، وأن العلم لا يتقدم من خلال التراكم الخطي للمعرفة، بل يتبع ثورات دورية أطلق عليها مصطلح "تحول النموذج“ (paradigm shift) . واشار الي ان الحقيقة العلمية في اي مرحله لا تحددها معايير موضوعية، بل تعبر فقط عن موقف المجتمع العلمي في ذلك الوقت، وان هذا الاجماع هو الذي يحدد أنواع التجارب التي يقوم بها العلماء، وأنواع الأسئلة التي يطرحونها، والمشكلات التي يعتبرونها مهمة.

ان اراء توماس كون وفلاسفه ما بعد الحداثه لا تفسد فقط التمسك بالواقعيه العلميه بل تحاول انعاش الثقة في انماط قديمه للمعرفه تم تهميشها مع التقدم العلمى.

ومن الانتقادات الموجهة إلى نظرية ما بعد الحداثة صعوبة تعريفها، وكونها مجرد مجموعة أفكار ترفض قيم الحداثة التي انتشرت في أوروبا مع الثورة الصناعية والتقدم العلمي. كما انها فلسفه تفكيكيه تعاني من التناقض، والغموض، فضلاً عن فشلها في تقديم أفكار جديدة لإعادة البناء الثقافي والفكري. على النقيض من ذلك، فقد تم بناء المنهج العلمي بعناية شديدة على مدى فترة طويلة من الزمن، وأي محاولة لتقليص موضوعية النهج العلمي سوف تجعل العلم بلا معنى.

يدرك العلماء تمامًا أن اي نظرية علميه معرضه للانهيار، ولا يوجد قبول أعمى ومتحيز لنتائج البحث العلمي، وأن مسار التقدم العلمي متعدد الأوجه، وأن تطور المعرفة العلمية ليس بالضرورة تحولات في النموذج (paradigm shift) كما اقترح توماس كون، فعلي سبيل المثال تفاصيل تطور فهم طبيعه الكون دليل قوي علي اهميه تراكم المعرفه. مثال اخر، انتقد العلماء معادله اينشتاين الخاصه باستقرار الكون وقرروا حذف الثابتً الكونيً، وهو خطأ ارتكبه اينشتاين في معادلته، ادي هذا التعديل الي اكتشاف ان الكون ليس ثابتا بل يتمدد، وهو ما اكده إدوين هابل من خلال ملاحظاته التلسكوبيه الهامه.

لا يعيب المنهج العلمي التحول في النموذج بل هذا يعبر عن نقلات كبيره في التطور العلمي من قبل عباقره قادرين علي تخيل رؤيه جديده تتعارض مع النموذج الساءد وتتجاوز مفاهيم عصرهم ومن افضل الامثله هو تطور فهم طبيعه الجاذبيه من نيوتن الي اينشتاين.

قد يكون لاراء كون حول نقد العلم ابعاد سياسيه بسبب التقدم السريع الذي حدث في علوم الفيزياء أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، الامر الذي تطلب إنفاقا حكوميا ضخما مما دفع الطبقة الحاكمة الأمريكية الي تغيير نهجها تجاه العلم والعلماء خاصه ان العديد منهم انجذبوا إلى الفلسفه الماركسية واصبحوا مهتمين بتنميه المجتمعات الاشتراكيه.

ربما ترتبط الأبعاد السياسية لآراء كون بعلاقته بجيمس براينت كونانت رايس جامعه هارفارد. حصل كون علي درجه الماجستير في الفيزياء من جامعه هارفارد عام 1949، تلاها دراسه تاريخ العلم تحت اشراف كونانت، المعروف بعدائه للفكر الماركسي، والذي كان مديرا للجنة أبحاث الدفاع الوطني خلال الحرب العالمية الثانية ورئيسا للجنة المخاطر الحاليه، وهي جماعة ضغط مناهضة للشيوعية في الخمسينيات من القرن الماضي. ادرك كونانت ضروره وجود فكر ايديولجي جديد لكبح سيطره العلم علي المجتمع مما دفعه الي تشجيع كون لدراسه فلسفه العلم .

لا شك أن التقليل من أهمية العلم وموضوعيته لا يخدم الإنسانية، لأن العلم يخدم البشر ليس فقط بتوفير الأدوات التكنولوجية التي نعتمد عليها جميعاً في حياتنا اليومية، بل أيضاً في مواجهة تقلبات الطبيعة ومعالجة أمراض مختلفة كانت قاتلة قبل التطور الحديث في العلوم الطبية والبيولوجية.

 واخيرا، سوف يستمر العلم في خدمه الانسانية ورفاهيتها رغم انف المشككين ومنظري ما بعد الحداثه.

***

سامح مرقس

استاذ الاشعه التشخيصيه سابقا بجامعه شفيلد، انجلترا

نحن في العالم السفلي، في زاوية الفيلسوف. الأجواء هنا عموما هادئة ومثيرة للتأمل. مع ذلك، في بعض الأحيان تكون الحالة النفسية حتى للفلاسفة الأكثر شهرة ليست بمنأى عن التوتر والاستياء والشكوك المتبادلة التي تراكمت عبر القرون. هذا يمكن ان يقود في بعض الأحيان الى نقاش ساخن ومثير، كما حصل بين أشهر المقيمين هناك وهما افلاطون وارسطو طبقا لأحد المراسلين الذي أبلغ مؤخرا عن تلك المحادثة.

افلاطون: يلقي التحية لأرسطو، مرحبا بالخريج الأكثر تمييزا في اكاديميتي.

ارسطو: اذا كنت حقا الأكثر تميزا لماذا لم يتم تعييني بدلا من سبوسيبوس الذي لم يكن حتى في الترتيب الثالث؟ لكني نسيت انه من أقربائك.

افلاطون: تعال يا عزيزي الشاب. انت أظهرت استقلالية كبيرة في التفكير لدرجة كان من الملائم لي ان اسمح لك لتؤسس مدرسة خاصة بك للطلاب الذين عكسوا نطاقك الفكري الخاص بك والذي جميعنا نعرف انه كبير. الى جانب ذلك، في نهاية فترة بقائك في اكاديميتي انت كنت تتعرض لمعتقداتي الجوهرية الأكثر حبا لي.

ارسطو: بالتأكيد، ولديّ سبب جيد. انا كنت أجد بعض افكارك غريبة نوعا ما، على سبيل المثال، اقتراحك بنفي الشعراء من مجتمعك المثالي. فقط لو فكرت في ذلك: لا هوميروس ولا سوفكليس. هذا بدا غريبا ان يأتي منك، اكثر الكتّاب شاعرية. انا، من جهة أخرى، وبقدر ما ابدو لك عاديا أرى الشعر والدراما تستحق الدراسة الجادة ولها فوائدها السايكولوجية والاجتماعية. واضيف ايضا ان "الشعر اكثر فلسفية ويستحق الاهتمام الجاد اكثر من التاريخ".

افلاطون: نعم

ارسطو: ايضا بالنسبة لخططك لما اسميته "المجتمع المثالي"، انا وجدتها مذهلة مثل – تحسين النسل، المساواة في الفرص، تعليم المرأة. انا اظن ان بحثك الأساسي في كل هذا لم يكن موجودا. أيضا، اقتراحك بان الطبقة الحاكمة – الحراس – يجب ان تستعمل "الكذب النبيل" لتقسيم مختلف الطبقات الاجتماعية والسيطرة عليها بدا لي غير أخلاقي تماما. وكما بالنسبة للفيلسوف الملك، يالهُ من وهم. أحد الشيئين ولكن ليس الاثنين معا.

افلاطون: يا عزيزي، يبدو انك فقدت كليا حس الفكاهة الغير ناضج لديك. كل هذه الأفكار لم يُقصد بها فقط  كمخطط لمجتمع مثالي بقدر ما هي محفز لفحص قضايا جوهرية. وكبحث أساسي، انا أعترف باني لم أبحث في مجال أبعد من سبارطه. سبارطه ربما لم تكن مجتمعا مثاليا ولكن كذلك أثينا.

عندما نفكر في الكيفية التي عومل بها سقراط من جانب زملائه المواطنين، ربما نستنتج ان الديمقراطية الراديكالية ليست اكثر من تجربة منحرفة وخطيرة.

ارسطو: اه 

افلاطون: وفي كتابك السياسة، بدا لي انك مطمئن لالتقاط نسخ من مختلف دساتير الولايات، وتأخذ أفضل المزايا من كل واحدة بينما انا، في رسم مجتمع مثالي، كنت احاول شيئا ما يتمتع بقدر كبير من الاختراق الفكري.

ارسطو: ربما، لكن حتى الان لم يحاول احد تأسيس دولة مرتكزة على ما اسميته "الجمهورية"، بينما في ليسيوم  Lyceum (مدرسة ارسطو) نحن درسنا الدول القائمة حقا وكيف كانت تدار جيدا. نحن نعطي نصيحة جيدة وعملية للعديد من الدول التي استشارتني وزملائي عند وضع دستور جديد. انا سأتجاوز فشلك المشين في سيسلي Sicily لكي تحول الحاكم المستبد الى احد فلاسفتك الملوك. ديونيسيوس اليس كذلك؟

افلاطون: نعم.. ربما ذلك لم يكن افضل اوقاتي. هل ننتقل الى موضوع آخر؟

ارسطو: بالتأكيد. لكن كل هذا هو تافه نسبيا مقارنة باهتماماتي الأخرى حول تطورك الفلسفي. اثناء بقائي في اكاديميتك بدا لي انت كنت في خطر الانسحاب بعيدا الى عالم الاشكال – تلك الوجودات الغامضة وغير المرئية والمستقلة عن الزمان والمكان والمنفصلة عن عالم الحواس، ومع ذلك هي جزء منه... هي بدت تسبب لي المزيد من المشاكل بدلا من الحلول. بالطبع انا كنتُ مضطرا لصياغة نهج اكثر واقعية.

افلاطون: نهج اكثر واقعية؟ هذا يلخص افكارك الى حد ما ياعزيزي ارسطو. بالمقابل، انا فكرت دائما بان مهمة الفيلسوف هي ان يرى ما تحت السطح من الأشياء ويتغلغل الى الواقع الأساسي – عالم الأشكال الذي هو بالطبع اكثر واقعية من العالم المادي الذي تدرسه بحماس.

ارسطو: حسنا، على الأقل العالم المادي الذي درسته هو موجود حقا، بينما عالمك المثالي (عالم الاشكال) يبدو من صنع خيالك الخاص. في الحقيقة، انا أجد او وجدت العالم الذي حولي هو مصدر الدهشة اللامتناهية – "لأنه في كل الأشياء الطبيعية هناك شيء رائع"، كما كتبت. العالم المادي، الواقعي يستحق الدراسة بدلا من اختزاله الى مجرد وهم وشيء عابر مقابل عالم الاشكال التام والدائم الذي انت تفترض وجوده ولكن لم يثبت بعد – حتى هنا في العالم الآخر.

افلاطون: يالها من خيبة. لكني افترض يجب ان لا ننسى اتجاهك ربما تقرر بحقيقة انك جئت من عائلة طبية. لذلك انت عملي جدا. أيضا، انا اظن ان عملك في العلوم الطبيعية خفف من حدة تفكيرك يا صديقي. فقط عليك ان تلتفت الى الرياضيات لترى ان المفاهيم الرياضية لها وجود بحد ذاتها وتسكن عالما مثاليا يمكن الوصول اليه عبر التأمل الفكري. هذا يمكن ان يتم في مفهوم العدد ذاته، على سبيل المثال. يمكن للمرء وبمزيد من الجهد الفكري المستمر ان يتسلق السلّم من الاشكال الرياضية الى اشكال الحقيقة والجمال والعدالة ،وفوق كل ذلك الخير. هذه الاشكال متاحة للعقول المتسائلة بإخلاص. هذه العقول هي بالطبع قليلة في العدد.

ارسطو: هوسك قادك الى الضلال. انت لا تستطيع اختزال كل شيء الى رياضيات. انا اعتقد انت تحتاج لتتذكر ما كتبته انا في الميتافيزيقا: "الكينونات الرياضية هي منطقيا فقط قبل الأشياء المحسوسة، هي ليست سابقة في الوجود". الكينونات الرياضية لا يمكن ان توجد بذاتها مستقلة عن الأشياء التي تنطبق عليها، وطالما هي ظاهريا أشكال، هي لا يمكن ان توجد كأشياء يمكن ادراكها في حد ذاتها أيضا. انا لا اعتقد انت كنت واضحا حول معنى "الوجود".

افلاطون: لقد فشلت انت في الفهم..

ارسطو: كلا ياعزيزي افلاطون، انت فشلت، فشلت في ابراز صياغة متماسكة وشاملة لنظريتك، وان مهمتي كشف نواقصها.

افلاطون: انا بالذات واع جدا ببعض المشاكل.

ارسطو: بالفعل. فمثلا، الآن انت زعمت باننا يمكننا الوصول الى مدخل للأشكال بواسطة العقل، لكن في حوارك (فيدون)، انت زعمت انه من خلال التذكّر recollection نستطيع الحصول على مثل هذه المعرفة الخاصة. هذه العملية من التذكر ربما تحتاج الى طريقة خاصة في التعليم، بالطبع – كما في الولد العبد في حوارك (مينون). انا لا أرى كيف يمكنك الجمع بين كلا الطريقتين. كيف نستطيع الحصول على معرفة بأشكالك؟ هل من خلال النشاط الفكري المستمر ام من خلال التذكر؟

افلاطون: انت فشلت في فهم نظريتي. او ربما تفسرها بشكل خاطئ.

ارسطو: انا درست نظريتك لمدة تقترب من المدة التي لديك الان. انت ربما كالساحر، تنتج نسخة معينة من النظرية لأثبات وجهة نظرك في الحوار، مثلما عملت في مقارنة الكهف، او خلق اسطورة في (تيماوس)، او لكي تبرر طرد الشعراء والفنانين من جمهوريتك. اذا كانت نظريتك لاتزال تعمل، كما يبدو من اعترافك، من المدهش بانك استخدمتها بثقة مفرطة لدعم بعض رؤاك العرضة للنقاش.

افلاطون: حسنا.. نعم.. انا أفترض هناك حاجة للمزيد من العمل.

ارسطو: بالطبع، كرد فعل لنظريتك انا طورت نظرية خاصة بي. انا عارضت بقوة الطريقة التي فصلت بها انت أشكالك عن العالم المادي. بالنسبة لي الحقيقة حول الاشكال هي انها جواهر متأصلة في أشياء معينة، ولايمكنها امتلاك وجود منفصل عنها. وجهة نظري هي ان الإحمرار مثلا، لا وجود له الا بقدر ما تكون بعض المواد حمراء، بينما انت تعتقد ان المادة حمراء بقدر ما تشارك في الاحمرار. لكن بالتأكيد الأشياء الحمراء هي سابقة للاحمرار -  باللغة الانطولوجية..

افلاطون: (يقاطع) انا أعتقد من الأفضل لنا تغيير الموضوع ياعزيزي ارسطو. انا أرى سقراط يقترب مع مرافقيه ومساعديه.

ارسطو: نعم، بالطبع. آخر شيء نحتاجه في هذا الجدال هو "طرف ثالث".

افلاطون: لو نسمح له بالمشاركة سيتعين علينا البدء مرة أخرى من البداية نعرّف عباراتنا ونحاول الإجابة على اسئلته المزعجة. هل نؤجل نقاشنا؟

افلاطون وارسطو كلاهما يرحبان بسقراط. مرحبا بالفيلسوف. نحن في الحقيقة نوشك على المغادرة.

***

حاتم حميد محسن

في الثالث من نوفمبر من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للفلسفة، وهو يصادف الخميس الثالث من شهر (تشرين الثاني/ نوفمبر) من كل عام، حيث يمثل اليوم العالمي للفلسفة دعوة لعملية تفكير حر ومنطقي ومستنير في المشكلات التي يواجهها الفرد والمجتمع، لمواجهة التحديات الكبرى المرتبطة بعصرنا، عصر الهندسة الرقمية والذكاء الإصطناعي، وليوم الفلسفة العالمي  قيمة رمزية مهمة في نفوس  باحثي ومحبي الفلسفة، وهو يوم للتأمل والتفكير في أهمية الفلسفة في حياتنا، لأنها علم يلعب دوراً مهماً في تشكيل فكرنا وسلوكنا.

كلمة حق في حق الفلسفة

في اليوم العالمي للفلسفة نود أن نقول كلمة حق في حق الفلسفة، فالفلسفة هي للجميع، وبإمكانها أن تكون مفيدة للجميع، وهي أداة التغيير الإيجابي للفرد والمجتمع نحو الأفضل، فهي تساعدنا على التفكير النقدي الذي من دونه تتراجع قدرات الإنسان الفكرية، والإبداعية، فالانسان يتطور حينما يُدرك أخطاءه وينتقدها، ومن ثم يُعدل عليها لتتناسب مع الدور الجديد الذي يقوم به في المجتمع المعاصر، فنحن نحتاج الفلسفة ونحتاج أدواتها النقدية، والتحليلية، والمنطقية، من أجل فهم الواقع، وإتخاذ القرارات الصائبة، لأن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، وكشف المغالطات الفكرية والمنطقية، من أجل بناء إنسان متوازن فكرياً، ومجتمع أكثر تطور وسعادة.

دعونا نحتفل بالفلسفة

في اليوم العالمي للفلسفة فلنسمح للفلسفة بتعزيز التغيير الإجابي في العالم، ودعونا نحتفل بأهمية الفلسفة في حياتنا، وقوة التغيير الذي يمكن أن تُحدثه في نفوسنا، دعونا نستخدم الفلسفة لتعزيز القيم، و تشجيع التغيير الإيجابي في العالم، دعونا نعمل على جعل الفلسفة مُتاحة للجميع، ودعونا نسعى الى فهم أفضل لأنفسنا والواقع من خلال الفلسفة.

***

شيماء هماوندي

الإختصاص/ الفلسفة والعلاج الفلسفي

كان الدكتور علي الوردي (1913-1995) أكثر من مجرد عالم اجتماع أكاديمي، لقد كان ظاهرة فكرية فريدة في العراق الحديث، ورغم أنه لم ينضم إلى أي حزب سياسي طوال حياته، إلا أن أفكاره الجريئة جعلته تحت مجهر الأجهزة الأمنية لعدة عقود. ملفه الأمني الذي كشف النقاب عنه لاحقاً في كتاب "علي الوردي في ملفه الأمني" الذي أعده سعدون هليل والصادر عام 2016، ليس مجرد وثيقة بيروقراطية، بل هو شهادة على علاقة المثقف بالسلطة في عالم عربي يتوجس من كل صوت حر. يحمل هذا الملف بين طياته قصة صراع خفي بين قوة الكلمة وقوة القمع، بين مثقف يسعى لتغيير المجتمع من خلال فهمه، وسلطة تخشى هذا الفهم لما يحمله من إمكانية لإيقاظ الوعي الجمعي.

 النشأة التي شكلت المنهج

نشأ الوردي في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1913، في أسرة فقيرة محافظة لكنها مرموقة في مجال العلم والأدب، ولقب بالوردي نسبة إلى حرفة جده الأكبر الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد. غادر مقاعد الدراسة في عام 1924 ليعمل عند عطار، لكنه طرد من العمل لأنه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. لم تثنه هذه الظروف الصعبة عن مواصلة شغفه بالمعرفة، فتح دكاناً صغيراً يديره بنفسه، والتحق بالدراسة المسائية.

تشكلت شخصيته المستقلة من هذه البدايات المتواضعة، وكانت حادثة حدثت في طفولته سبباً في انحيازه الدائم للمظلومين، حين اشترى له والده بندقية خشبية أثناء زيارة إلى النجف، فضربه صبيان أكبر منه وأخذا البندقية، فبغضت هذه الواقعة الظلم إليه، كما يذكر أستاذ الفلسفة العراقي مدني صالح الذي وصفه بـ"الثوري الهادئ". سافر الوردي إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث حصل على بكالوريوس التجارة والاقتصاد سنة 1943، ثم إلى جامعة تكساس حيث نال الماجستير عام 1948 والدكتوراه عام 1950.

نظرياته المثيرة

قدم الوردي تحليلاً مبتكراً للشخصية العراقية وصفها بالازدواجية، حيث تحمل قيماً متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة. فسر هذه الازدواجية بأنها نتيجة الجغرافيا العراقية المتميزة، فهو بلد يسمح ببناء حضارة بسبب النهرين، لكن قربه من الصحراء العربية جعله عرضة لهجرات كبيرة عبر التاريخ. لم يقصر الوردي هذه الظاهرة على العراقيين فقط، بل رأى أنها ناتجة عن استمرار الحركة والهجرة التي جعلت العراق في حالة صراع دائم وصدام بين الثقافات المختلفة والقيم المتناقضة.

نقد وعاظ السلاطين

في كتابه الشهير "وعاظ السلاطين"، انتقد الوردي استخدام علماء المسلمين الخطاب الشرعي لإخضاع الرعية للحكام، وتساهلهم في مخالفات الحكام وتغاضيهم عنها. حلل الوردي السبب الذي من ورائه انجر الوعاظ لمسايرة السلاطين وهو "حب النفس"، حيث كان الوعاظ يدعون أنهم يفعلون ما يفعلون لـ"مصلحة الإسلام والمسلمين". هاجم فيه بعض رجال الدين لوقوفهم إلى جانب الحكام وتجاهل مصالح الأمة على حساب مصالحهم الضيقة.

منهج علمي متميز

اتسم منهج الوردي بالواقعية في التحليلات الاجتماعية على طريقة ابن خلدون، وكانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية المعرفة عند عبد الرحمن بن خلدون. اعتمد على الدمج بين النظريات الغربية وواقع المجتمع العراقي، ساعياً لتأسيس "علم اجتماع عربي" حقيقي. انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراسته، واتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه "شخصية الفرد العراقي".

الاستدعاء الأمني الأول

في عام 1965، فوجئ الوردي باستدعاء من مديرية الأمن في عهد الرئيس عبد السلام عارف. أخبره مدير الأمن أن السفراء الأمريكيين والبريطانيين في العراق كان يُلزموا بقراءة كتب الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي قبل استلام مهام وظائفهم، وهو ما تسبّب في شكوك السلطة إزاءه. يذكر الكاتب محمد عيسى الخاقاني في كتابه "مئة عام مع الوردي" أن الوردي فرح بهذا الاستدعاء قبل أن يعرف سببه، لرؤيته اضطهاد السلطة علامة على صحة موقف المفكر، وباباً لاعتباره بطلاً.

ملف أمني ممتد

كشف الباحث سعدون هليل في كتابه "علي الوردي في ملفه الأمني" عن طبيعة التقارير الأمنية التي كانت تكتب عن الوردي، حيث كانت التصنيفات تتراوح بين "الخطرين" أو "غير الخطرين". تميزت هذه التقارير بالدقة والمهنية كما يذكر شكيب كاظم، وكانت المديرية تسمى "مديرية التحقيقات الجنائية". يغطي الملف الفترة من العهد الملكي حتى العهد الجمهوري البعثي في عقد الثمانينات، مما يدل على استمرار مراقبته عبر أنظمة سياسية متعاقبة.

لماذا كان الوردي مصدر قلق للسلطة؟

1. تأثيره في الجماهير: تمتع الوردي بقاعدة شعبية واسعة وأسلوب سلس جعل أفكاره تصل إلى العامة وليس فقط النخبة. لقد كتب عن حياة الناس الاجتماعية وعن قيمهم وعاداتهم وسلوكهم في الحياة اليومية، بلغة يفهمها الجميع.

2. تحليلاته الاجتماعية: قدمت فهماً عميقاً للبنية الاجتماعية العراقية التي يمكن أن تستخدم ضد مصالح السلطة. نظرياته حول "ازدواجية الشخصية العراقية" و"الصراع بين قيم البداوة والحضارة" شكّلت أدوات لفهم الأعطاب العميقة في المجتمع.

3. الاهتمام الأجنبي بكتاباته: استخدام السفارات الأجنبية لكتبه كمراجع لفهم المجتمع العراقي أثار شكوك السلطة.

4. جرأته في نقد التاريخ والموروث: لم يتردد في نقد الرموز التاريخية والدينية بشكل موضوعي وعلمي. كتاب "وعاظ السلاطين" مثل خطراً على الخطاب الرسمي الديني والسياسي.

 الكلمة التي هزت العروش

تميز أسلوب الوردي بالسردية التحليلية التي تجمع بين العمق الأكاديمي والبساطة الشعبية، مما جعل كتبه تصل إلى شرائح واسعة من المجتمع. اعتمد على الأسلوب الحكواتي في الكتابة، فجعل من النظريات الاجتماعية المعقدة مادة سهلة الفهم للمتلقي العادي. كانت كتاباته تجمع بين الجدلية والديمقراطية والوطنية العراقية العميقة.

لم يكن الوردي سياسياً بالمعنى الحزبي، لكنه كان متمسكاً بالقيم الأخلاقية ومناهضاً للاستبداد بأشكاله المختلفة. لقد أدرك أن السلطة تخشى الكلمة الواعية أكثر مما تخشى الرصاصة، لأن الرصاصة تقتل فرداً أما الكلمة فتبعث الحياة في أجيال.

الوردي رمزاً

رحل الوردي في 14 تموز/يوليو 1995، لكن إرثه الفكري بقي يلهم الأجيال. عانى الرجل طوال حياته من هجمات مختلفة، من السلطة السياسية إلى التيارات الدينية والمذهبية، لكنه ظل ثابتاً على موقفه العلمي الموضوعي. اليوم، ونحن نقرأ ملفه الأمني، لا نكتشف فقط تفاصيل حياة مفكر عظيم، بل نكتشف أيضاً الآلية التي كانت تستخدمها السلطات لمراقبة المثقفين المستقلين.

الدرس الأهم الذي نستخلصه من قصة الوردي مع ملفه الأمني هو أن الكلمة الحرة قد تكون أقوى من كل أجهزة القمع، وأن المفكر الحقيقي يمكن أن يهزم المنظومة الأمنية بأكملها بقوة فكره وتأثيره في الجماهير. الوردي لم يختر المواجهة المباشرة مع السلطة، لكنه لم يساوم على أفكاره، مبرهناً أن طريق المثقف الحقيقي هو في الإصرار على قول كلمته، مهما كانت العواقب.

يبقى الوردي نموذجاً للمثقف الذي لم يبع ضميره للسلطة، وظل وفياً لرسالته التنويرية حتى في أحلك الظروف. وفي زمننا هذا، حيث لا تزال السلطة تخشى قوة الكلمة، تبقى تجربة الوردي نبراساً لكل مثقف حقيقي يؤمن بأن مهمة المثقف ليست تزيين الواقع بل تشريحه، ليس ترديد أناشيد السلطة بل كسر جدار الصمت.

***

د. عبد السلام فاروق

في هذا اليوم الذي يرفع فيه العالم راية الفلسفة اعترافا بقدرتها على تهذيب الروح وتهشيم الجهل وفتح نوافذ العقل..في هذا اليوم الذي ترفع فيه الإنسانية لافتة اليوم العالمي للفلسفه، وتضع العقل في موضع السيادة، أرى العالم كله كأنه يقف على حافة نور كبير، يحدق في ذاته، يسائل مساره، ويعيد ترتيب معنى الوجود

نقف نحن على الضفة الأخرى من الاحتفال، نراقب العالم وهو يتقد معرفة، نرتجف نحن تحت أغطية الإهمال والتشدد وكسل الفكر. بينما تنتشي الكرة الأرضية بهذا العيد الإنساني، ما زلنا نصغي لمن يضيّقون على العقل منافذ الضوء، ويجعلون من التفلسف جريمة ومن السؤال بدعة، حتى غدا مفهوم الفلسفة في بلادي مرآة مكسورة تعرض صورة مشوهة لا علاقة لها بالحقيقة.

يحتفل العالم اليوم بالفلسفة بوصفها جوهر الإنسان، ومرآته العميقة، ومغامرته الكبرى في فهم الحياة. بينما نحتفل نحن بطريقتنا الخاصة.. بصمت طويل، وبحراسة أبواب العقل من أن يدخلها نسيم الشك، أو يطل من خلالها سؤال يهز المألوف

ما زال في بلادنا من يرى الفلسفة خطرا، لا لأنها تهدم الإيمان، بل لأنها تهدم الكسل العقلي، وتفضح التواطؤ مع الجهل، وتحرر الإنسان من أن يكون نسخة باهتة تعيش برؤية الآخرين، لا برؤيتها الخاصة

إن تغييب الفلسفة من مدارسنا وجامعاتنا لم يكن مجرد إهمال منهجي، بل كان قطعا لنبض التفكير الحر، وتحويلا للعقل إلى أداة مطيعة تسلم لها الحقائق قبل أن تختبر، وتنزل عليها الأحكام قبل أن تفهم. الفلسفة كانت ستمنح أبناءنا القدرة على النقد، وملكة الإبداع، ورؤية تتجاوز ضجيج الموروث إلى رحابة الفكر، لكنها نزعت عمدا من حقائبهم كما تنزع بوصلة من يد مسافر قدر له أن يتيه.

وليس تشاؤما أن نتأمل حال الفلسفة عندنا اليوم، بل هو تأمل مريض في مرآة صدئة. ما نعيشه ليس أزمة فهم، ولا ضيقا بمباحث الوجود، بقدر ما هو اختناق ثقافي طويل المدى، صنعتْه قيود تمتد من الخوف إلى الجهل، ومن التحريم إلى تجريم الرأي، حتى أصبح التفكير مغامرة، والسؤال تهمة، والاختلاف جريمة

الفلسفة ليست ترفا يضاف إلى رف الكماليات؛ إنها ضرورة أخلاقية وفكرية. إنها تلك اليد الخفية التي تمسك العقل وتمنعه من الانحدار نحو يقينيات مطلقة لا تعرف الشك ولا تعترف بالآخر. الفلسفة ليست موسوعة لأسماء الفلاسفة، ولا هي تكديس للنصوص، بل هي نمط خاص في النظر إلى العالم، رؤية تؤنسن الوجود، وتحول التجربة الفردية إلى مجال لاكتشاف الذات والآخر معا. وما الفلسفة إلا هذا التوتر الجميل بين حرية الفرد وانعكاس المجتمع فيه، بين تفرده وتشابكه، بين صوته الخاص وصدى البشرية في داخله.

الفلسفة ليست علما يدرس فحسب، بل هي طقس من طقوس الحياة. دهشة ممتدة وصوت داخلي يوقظ فينا السؤال الأول. السؤال الذي يشق الصمت ويخلق المعنى.

حين تمنع الفلسفة، يمنع الإنسان من أن يكون إنسانا. وحين تشوه صورتها، تتشوه صورته هو، وتتقزم قدرته على فهم العالم، وعلى فهم نفسه.

إنها ما يمنح العالم القدرة على مواصلة الدهشة، تلك الشعلة الأولى التي أشعلت العقل البشري منذ بداياته. الفلسفة انتصار للرغبة في الحياة، وسعي لفهم الوجود، ومحاولة للقبض على معنى يتخفى دائما كلما اقتربنا منه. هي بحث لا نهائي عن الحقيقة، لا بحث كي ننتصر لوجهة نظرنا، بل كي نعرف كم كنا مخدوعين بما نصر عليه. إنها دعوة لاحتضان تعدد الرؤى، وللسؤال الذي لا يخاف الهدم ولا يخشى إعادة البناء.

نحن نعيش اليوم أزمة ليست في الفلسفة ذاتها، بل في المناخ الذي يحاصرها:

مناخ يخاف من الحرية،

يعادي الاختلاف،

ويرى التفكير تهديدا،

والتأمل رفاهية،

وطرح الأسئلة خروجا عن السرب

هكذا تحولت الفلسفة في بلادنا إلى غريبة

الفلسفة تساعدنا على أن نكون ذواتنا كما نحن، لا كما يريد المجتمع تشكيلنا. وهي تقول لنا إن الاختلاف ليس تهديدا بل شرط من شروط الوجود نفسه، وإن العالم في حالة صيرورة دائمة، وإن السكون مجرد وهم نحتمي به من خوفنا من المجهول. ولذلك تتجه الفلسفة إلى عقلنة الحياة، وتحريرنا من لعبة الحظ ومن هلع المصير الغائم.

إن احتفال العالم اليوم بالفلسفة هو دعوة لفتح أبواب الحوار، وبناء جسور تتجاوز صخب الأيديولوجيات الضيقة. إنه نداء إلى خطاب إنساني كوني، يسعى إلى جمع ما فرقته الشعارات والانغلاق والتعصب، ويمنحنا فرصة لاستعادة إنسانيتنا التي تبهت تحت ضغط الانتماءات الحادة.

ورغم كل هذا، تظل الفلسفة كالماء؛ تستطيع أن تحاصرها، لكن لا يمكنك أن تلغي قدرتها على التدفق.

فهي تدخل من ثغرة صغيرة في العقل، لتفتح نهرا من الإدراك، وتوقظ دهشة كانت نائمة منذ زمن بعيد

وفي هذا اليوم العالمي للفلسفة، لست أرى المناسبة احتفالا بمبحث أكاديمي،

بل أراها احتفالا بكل إنسان قاوم التشابه، قاوم الاستسلام، قاوم الخضوع للجاهز من الأفكار.

من قرأ جملة واحدة جعلته يعيد التفكير في نفسه. من طرح سؤالا أربكه، أو أعاد رسم حدوده. من اهتز يقينه فلم يشقَ، بل شعر بالحياة.

من حق هؤلاء ان يحتفلوا بالفلسفه في يوم الفلسفة. الفلسفة ليست درعا ضد الجهل فحسب، بل ضد الموت الداخلي أيضا.

إنها الأكسجين الذي يتنفسه العقل ليبقى حيا، والنبض الذي يجعل الوجود يستحق التأمل. وكل عام في اليوم العالمي للفلسفة نكتشف أننا لا نحتفل بالفلسفة وحدها، بل نحتفل بآخر ما تبقى فينا من إنسانية.

كل عام، وأساتذتي وأصدقائي ومحبو الفلسفة بخير، كل عام، ونحن نصر على أن يكون للعقل مكان يليق به في هذا العالم.

***

ابتهال عبد الوهاب

تنتاب الإنسان في حياته الكثير من المخاوف النفسية والفكرية حول المستقبل، ومشكلات الحياة، ويفكر في الكون والوجود، ويضل يفكر في الحياة لدرجة أنه ينسى أن يعيش الحياة.

إن الفلسفة في حقيقتها ومضونها تقدم لنا نظريات ومفاهيم هي بمثابة تعليمات لطرق العيش السعيد، وهي (وصفة فلسفية لفن الحياة) لو طبقناها بما يتناسب مع مجتمعنا ومفاهيمنا، لوصلنا بلا شك الى نمط عيش سعيد، وسكينة نفسية، وطمأنينة فكرية لا مثيل لها، ويمكننا تطبيق الفلسفة بوصفها فناً للحياة من خلال:

- التفكير النقدي: الذي يحفز تطوير الشخصية الإنسانية، ويعزز الثقة بالنفس، ويحسين التفكير الإيجابي والمنطقي.

- التامل: حيث يساعدنا التأمل في فهم الذات والتركيز على النفس والشعور بالصفاء الذهني، والتخلص من الأفكار السلبية.

- التركيز على الحاضر: من أهم أسباب شقاء الإنسان هي مخاوفه، لذلك فإن الفلسفة تدعو الإنسان للعيش في الحاضر وعدم التركيز على مشكلات الماضي ومخاوف المستقبل.

- التسامح: من أهم اسباب السعادة هي التسامح، فالفلسفة تعلم الإنسان كيفية التسامح، مع النفس ومع الآخرين، وكيفية ترك الغضب والعدائية.

- العثور على المعنى: عندما يصبح لحياة الإنسان معنى، فإنه سيتمسك بالحياة، وسيتفاعل مع المجتمع، ودور الفلسفة المعاصرة هي مساعدة الإنسان في العثور على المعنى.

لقد بدأ العالم الغربي بإعادة تفعيل الفلسفة من جديد في حياة الإنسان والمجتمع، ودمجها في تطبيقات عملية تسهل الحياة اليومية، بإعتبارها فناً للحياة، ويمكننا نحن أيضاً من خلال الإطلاع التجربة الغربية، الإستفادة من الفلسفة بما يتناسب وطبيعة مجتمعنا، وتطبيق المفاهيم الفلسفية في كل مجالات الحياة، وأن نستفيد من التجربة الغربية التي إستعانت بالفلسفة في مختلف المجالات سواء النفسية أو العلمية، وحتى في مجال الهندسة الوراثية، والمشكلات البيئية، حيث بدأت الفلسفة تساهم في صياغة نظريات وقوانين علمية، ونفسية، ذات طابع فلسفي يتناسب مع متطلبات المجتمع المعاصر، بفعل مرونة الأفكار الفلسفية، وقابلية وقدرة نظرياتها على التكيف مع التطور الإنساني، ولكن ذلك لايحدث من تلقاء نفسه بل يحتاج الى جهد وإصرار ورغبة حقيقية من الفلاسفة والمفكرين في تطوير المناهج الفلسفية، والإستفادة منها كفن للحياة وطريق للسعادة والتسامح الفكري. 

***

شيماء هماوندي

الإختصاص/ الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين / كلية الآداب/ قسم الفلسفة

ألبير كامو: إن الموت ليس نهاية، بل نهاية النهايات."

و"الحياة تبدأ حيث نتقبل العبث."

نحن نعيش في صحبة الموت منذ اللحظة الأولى التي نفتح فيها أعيننا على العالم، وحتى اللحظة التي يغلق فيها الزمن أعيننا إلى الأبد. كما قال جان بودريار: "العيش ليس سوى أن نموت ونحن أحياء". ليس في قوله دعوة إلى اليأس، بل اعتراف بأن كل لحظة حياة هي امتداد لوعي محدود بمصير نهائي، وأن كل تنفس، وكل خطوة، وكل كلمة هي مواجهة مستمرة مع الغياب.

في ولادة كل إنسان، يولد أيضًا موته المحتمل. وكأن الحياة تضع على كتفنا عبء الزمن الموعود بالنهاية. لكن بالمقابل، في موت كل شيء، هناك بذرة ولادة أخرى، وعي جديد، تجربة داخلية، إدراك لطيف أو قاسٍ للغياب الذي يعيد تشكيل فهمنا للوجود. ربما يكون الموت ولادة للوعي، كما قد تكون الولادة إعلانًا عن بداية رحلتنا نحو النهاية. هذا الانعكاس المستمر هو ما يجعل الوجود مشحونًا بالغموض والدهشة، ويمنحه ثقلاً فلسفيًا لا يمكن تجاهله.

إن خوفنا من الموت يبدو فطريًا، محفورًا في أعماقنا البيولوجية. لكنه يصبح أعمق وأشدّ حين يحضر الموت في حياتنا المباشرة. حين نفقد من نحب، حين نلمس غياب الأمان، حين تتحطم رتابة الحياة أمام واقع لا يمكن التراجع عنه. في هذه اللحظات، ندرك أن الموت ليس فكرة مجردة، بل حقيقة ملموسة، وأن الخوف ليس مجرد شعور، بل تجربة معرفية وروحية، تجبرنا على إعادة ترتيب علاقتنا بالوجود.

كما أن التفكير الفلسفي بالموت، على العكس من الخوف الفطري، يتيح للإنسان ممارسة حرية وجودية حقيقية. حين نعي الموت، نصبح قادرين على التساؤل عن معنى الحياة، عن حدود الفعل الإنساني، عن علاقتنا بالآخرين والزمان والمكان. وهذا الوعي، الذي غالبًا ما يكون مؤلمًا، هو في الوقت نفسه ما يجعلنا أحياء بعمق، عميقًا كفكرة لا يمكن أن تنتهي.

بيد أن الأسطورة كانت دائمًا ملاذًا للإنسان للتعامل مع الموت، ومع كل ما هو غائب وغير مرئي. فيها، يتحول الغياب إلى وجود معنوي، والموت إلى مساحة رمزية للتجربة الإنسانية. الكائنات الأسطورية، والحكايات التي تحكي عن الأرواح والعالم الآخر، ليست مجرد خيال، بل أدوات لإضاءة الظلال، لفهم حدودنا، ولمواءمة أنفسنا مع اللاوعي الجمعي.

وحين نحيا في هذه الأساطير، نتماهي مع ما لا نستطيع رؤيته، ونشارك في حضور الموت والغائب بشكل يتجاوز الخوف المباشر، لنصنع معنى وجوديًا عميقًا. الغياب هنا ليس فراغًا، بل حضور يمتد في الوعي ويشكل مساحة للخيال، للحنين، وللتأمل الفلسفي العميق.

الموت والولادة ليسا نهايتين، بل حلقتين متبادلتين في زمن الوجود. كل ولادة تحوي في طياتها الموت المحتمل، وكل موت يولد وعيًا جديدًا أو تجربة فكرية. الحياة، كما أراها إذن، ليست سوى رحلة مستمرة عبر هذا الجدل الوجودي، مواجهة الغياب، التحسس بالفراغ، والبحث عن معنى في اللحظات العابرة، حيث يلتقي الخوف بالوعي، والموت بالولادة، والأسطورة بالحقيقة.

وفي نهاية المطاف، الإنسان لا ينتظر الموت ليعي الحياة، بل يعيش في صحبته الدائمة، كل يوم وكل لحظة، محاولًا أن يجد في الوعي بالموت ما يثري الحياة، وفي غياب الآخر ما يمنحه معنى وجوديًا، وفي الأسطورة ما يساعده على مواجهة ما لا يُرى ولا يُدرك إلا بالخيال والتأمل.

في خضم هذا الجدل الأبدي بين الموت والولادة، بين الغياب والحضور، ندرك أن حياتنا ليست سوى شعلة تتأرجح بين الظلال والضوء. كل لحظة نفقد فيها شيئًا، أو نودع وجهًا، أو نلمس غيابًا، هي في الوقت ذاته بوابة ولادة جديدة للوعي، وفرصة لإدراك عمق الوجود. الأسطورة، والخوف، والتجربة، والموت، ليست نهايات بل رفقاء رحلتنا الدائمة، يعلّموننا أن نحب الحياة بشغف، أن نحتضن الفقد، وأن نصغي للصمت الذي يسبق كل بداية.

فلنحيا إذًا في صحبة هذا الغياب، ليس بقلق أو رهبة، بل بوعي ممتد، حيث كل نفَس يحمل إمكانية ولادة جديدة، وكل قلب يلمس الموت يكتشف سرًا من أسرار الحياة. ففي النهاية، الحياة والموت ليسا متضادين، بل رقصة متواصلة، نحياها ونحن أحياء، ونحملها معنا حين نرحل.

في النهاية، يبدو أننا نسير في الحياة برفقة الغياب، نحتضن الموت كما نحتضن هواء الصباح، صامتًا، لكنه حاضر في كل نفسٍ نأخذه. كل لحظة تمرّ هي تذكرة بأننا هنا، وأن حضورنا مؤقت، وأن الغياب ليس نهاية بل مساحة للمعنى، لكل صمتٍ في القلب صدى للحياة. فالعيش الحقيقي ليس انتظار النهاية، بل إدراك أن كل فجر هو ولادة، وكل وداع هو درس في العمق والشفافية. وبهذه المعرفة، نصبح قادرين على عيش كل لحظة بصدق، نحتضن الفرح والحزن كما يحتضن الرمل ندى الصحراء، مدركين أن الحياة والموت وجهان لعملة واحدة، وأن كل غيابٍ صغير أو كبير يعلّمنا أن نكون أكثر إنسانية، وأكثر وفاءً لأنفسنا وللحظة، لأننا، حتى ونحن نموت، نعيش على الدوام.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

دور المعلّم في تحقيق التعليم الشامل داخل الصفوف الدامجة

يشكّل التعليم الشامل أحد أبرز التحوّلات التربوية في العقود الأخيرة، إذ لم يعد التعليم مجرّد عملية نقل للمعرفة، بل أصبح التزامًا أخلاقيًا واجتماعيًا يهدف إلى ضمان فرص التعلّم لجميع الأطفال دون استثناء، مهما اختلفت قدراتهم أو خلفياتهم أو ظروفهم. فالمدرسة الدامجة لم تعد مكانًا لتلقي الدروس فحسب، بل فضاءً يحتضن التنوع، ويحتفي بالاختلاف بوصفه مصدرًا للثراء الإنساني والتربوي.

غير أن نجاح هذا التحوّل لا يتحقق عبر السياسات والخطط وحدها، بل يتوقف على العامل البشري الأكثر تأثيرًا في الميدان: المعلّم. فهو الذي يترجم مبادئ الدمج إلى ممارسات واقعية داخل الصف، وهو الذي يخلق البيئة الصفية القادرة على احتضان جميع المتعلمين. ومن هنا تبرز أهمية التساؤل: كيف جعل المعلّم الدمج التربوي حقيقة ملموسة داخل الصفوف؟ وما المصادر التي تعينه على أداء هذا الدور الحيوي؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقود إلى بحثٍ أعمق في طبيعة الدور التربوي للمعلّم داخل الصفوف الدامجة، وفي سبل دعمه من قبل المدرسة والمشرفين التربويين، بما يضمن أن يتحول الدمج من شعارٍ إلى ممارسةٍ فعليّة تعكس جوهر التعليم الشامل القائم على الإنصاف والمشاركة.

التعليم الشامل بين المفهوم والتطبيق

يُعدّ التعليم الشامل رؤية تربوية تسعى إلى إتاحة فرص التعلّم لجميع الأطفال في بيئة واحدة، بحيث تُزال الحواجز التي تحول دون مشاركتهم الكاملة في الحياة المدرسية. فهو لا يقتصر على دمج الطلبة ذوي الإعاقة في المدارس العادية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تنظيم النظام التعليمي بحيث يستجيب لتنوّع المتعلمين واحتياجاتهم المختلفة.

في هذا الإطار، يُنظر إلى الصف الدامج باعتباره بيئة تعليمية يتفاعل فيها جميع المتعلمين بصورة متكافئة، حيث تتنوّع طرق التدريس ووسائل التقويم بما يضمن مشاركة فاعلة لكل طالب. ومع ذلك، فإن الفرق بين الدمج الشكلي والدمج الحقيقي ما يزال يمثل تحديًا جوهريًا؛ فالأول يقتصر على وجود التلاميذ المختلفين في المكان ذاته دون تفاعل حقيقي أو تكييف للمناهج، أما الثاني فيقوم على إعادة تصميم العملية التعليمية لتستجيب بمرونة لحاجات كل متعلم.

ويلعب اتجاه المعلّم نحو الدمج دورًا حاسمًا في هذه المعادلة، إذ لا يمكن تحقيق تعليم شامل من دون قناعة راسخة لدى المعلّم بأن كل طفل قادر على التعلّم إذا أُتيحت له الوسائل المناسبة. فالمعلّم المؤمن بقيمة التنوع يدرك أن الاختلاف ليس عبئًا، بل فرصة لبناء خبرات تعلم غنية ومتبادلة داخل الصف. وهنا تبدأ الممارسة الفعلية للتعليم الشامل، عندما يتحوّل المعلّم من ناقل للمعرفة إلى ميسّر للتعلّم، ومن مراقب للانضباط إلى قائد لبيئة تشاركية تحترم الاختلاف وتستثمره.

المعلّم صانع الدمج الحقيقي

يُعتبر المعلّم المحرك الرئيس لنجاح الصفوف الدامجة، فهو الذي يترجم سياسات التعليم الشامل إلى أفعال يومية داخل الصف. يكمن التحدي الأكبر في كيفية التعامل مع تنوع القدرات والاحتياجات الفردية للمتعلمين، وتكييف أساليب التعليم والتقييم بحيث يشعر كل طالب بالمشاركة والاعتراف بقدراته. هنا يظهر دور المعلّم ليس فقط كمرشد علمي، بل كمنظّم بيئة تعليمية داعمة وموجّه يسهّل التفاعل بين جميع المتعلمين ويحوّل الصف إلى فضاء يتكامل فيه التنوع مع التعلم الفعّال.

لكي يحقق المعلّم الدمج الحقيقي، يعتمد على مجموعة من الأساليب التعليمية التي تتيح لجميع المتعلمين فرصة المشاركة الفاعلة، مثل تنويع طرق الشرح والأنشطة التعليمية لتناسب مستويات وقدرات مختلفة، وتشجيع التعلم التعاوني حيث يعمل الطلاب معًا لتحقيق أهداف مشتركة، بالإضافة إلى إدراج أنشطة تفاعلية ووسائط تعليمية رقمية تتيح لكل طالب التعلم بطريقته الخاصة.

لا يقتصر نجاح هذه الاستراتيجيات على التخطيط وحده، بل يحتاج أيضًا إلى إدارة صفية مرنة، حيث يقوم المعلّم بموازنة الانضباط والتحفيز، مع تكييف التعليم وفق احتياجات كل طالب، واعتماد أساليب تقويم متعددة تعكس التقدم الفردي بدلاً من معيار موحد لكل المتعلمين. كما يسعى المعلّم إلى بناء مناخ صفّي داعم يشجع على احترام الاختلافات، وتقدير مهارات كل طالب، وتعزيز الثقة بالنفس، وتهيئة بيئة تشجع المشاركة والانخراط في التعلم الجماعي.

بهذه الطريقة يصبح المعلّم صانع الدمج الحقيقي، إذ يتحول الصف الدامج إلى مجتمع مصغر يعكس قيم التعليم الشامل ويحقق مبدأ الإنصاف والمساواة بين جميع المتعلمين، مما يجعل الدمج أكثر من مجرد سياسة تعليمية، بل ممارسة يومية حقيقية يمكن ملاحظتها وتقييم أثرها في نمو وتقدم كل طالب.

مصادر الدعم التي يستعين بها المعلّم

لا يتحقق الدمج الحقيقي داخل الصفوف الدامجة بمجرد وعي المعلّم أو مهارته الشخصية فقط، بل يحتاج أيضًا إلى مصادر دعم متعددة تساعده على مواجهة تحديات التنوع داخل الصف. من أهم هذه المصادر يأتي التدريب والتأهيل المستمر للمعلّمين، سواء من خلال الدورات المتخصصة في التربية الخاصة أو ورش العمل حول استراتيجيات التعليم الشامل وأساليب التدريس المتمايز. هذا التدريب لا يزود المعلّم بالمعرفة فحسب، بل يمنحه الثقة والقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة والمتنوعة في الصف.

إلى جانب التدريب، يلجأ المعلّم إلى التعاون مع فريق الدعم المدرسي الذي قد يشمل أخصائيي التربية الخاصة، والمستشارين النفسيين، ومرشدي الصف، وحتى أولياء الأمور. يوفر هذا التعاون رؤية شاملة لكل متعلم، ويساعد على تصميم أنشطة تعليمية مناسبة، وحل المشكلات الصفية بشكل جماعي، كما يسهّل رصد تقدم الطلاب وتعديل الخطط التعليمية بما يلبي احتياجاتهم الفردية.

أصبح الاعتماد على التقنيات التعليمية والوسائل المساعدة جزءًا لا يتجزأ من دعم المعلّم، سواء تمثّل ذلك في أدوات تكنولوجية لتسهيل التعلم، أو تطبيقات رقمية تتيح للطلاب التفاعل مع المحتوى بطرق متنوعة، أو موارد تعليمية مرئية وصوتية تُسهم في تبسيط المعلومات وتقديمها بأسلوب جذّاب وفعّال. إنّ توظيف هذه الوسائل يجعل المعلّم أكثر قدرة على تحويل الصف الدامج إلى بيئة تعليمية فعّالة تستجيب لتنوّع الطلاب وتعزّز مشاركتهم ونجاحهم.

دور المدرسة والمشرفين التربويين في دعم الدمج

لا يقتصر نجاح التعليم الشامل على جهود المعلّم وحده، بل يعتمد بشكل كبير على البيئة المدرسية والإشراف التربوي الذي يحيط به. فالمدرسة تمثل الإطار المؤسسي الذي يوفّر الموارد، ويهيّئ المناخ المناسب لتحقيق الدمج، من خلال دعم القيادات المدرسية للتعلّم التعاوني بين المعلّمين، وتوفير الأدوات والوسائل التعليمية اللازمة، وتنظيم برامج وأنشطة تشجع على المشاركة لجميع الطلاب دون استثناء. وجود ثقافة مدرسية تشجع على التعاون والاحترام المتبادل بين أعضاء الفريق التعليمي يعزز من قدرة المعلّم على تطبيق ممارسات إدماجية فعّالة.

كما يلعب المشرف التربوي دورًا محوريًا في تمكين المعلّم من أداء مهمته على أفضل نحو، من خلال المتابعة الميدانية، وتقديم التوجيهات المهنية، ومساعدة المعلّم على تطوير استراتيجيات التدريس والتقويم، بما يتوافق مع مبادئ التعليم الشامل. إضافة إلى ذلك، يوفّر المشرف الدعم المعنوي، ويشجع على تبادل الخبرات بين المعلّمين، ويعمل على رصد النجاحات والتحديات داخل الصفوف الدامجة، مما يخلق شبكة دعم متكاملة تعزز من فرص نجاح كل متعلم.

بهذا التعاون بين المعلّم، والمدرسة، والمشرفين التربويين، يتحوّل الدمج من مجرد مفهوم نظري إلى ممارسة حقيقية يمكن ملاحظتها داخل الصف، بحيث تصبح كل خطوة تعليمية مدروسة ومصممة لتعظيم استفادة جميع الطلاب، وتحقيق المساواة التعليمية والإنصاف التربوي.

***

المعلّم هو قلب العملية التعليمية داخل الصفوف الدامجة، ونجاح الدمج يعتمد على قدرته على تحويل التنوّع إلى فرصة للتعلّم المشترك، وليس فقط على تطبيق استراتيجيات محددة. المدرسة والمشرفون التربويون يوفّرون البيئة والدعم، لكن الدمج الحقيقي يبدأ عندما يصبح المعلّم قائدًا للتجربة الصفية، يبني مناخًا يقدّر الاختلاف ويعزز مشاركة الجميع، ويحوّل كل درس إلى فرصة لتطوير مهارات الطلاب وتحقيق شعورهم بالانتماء والإنجاز. هذه البيئة التفاعلية والدامجة لا تعكس فقط نجاحًا أكاديميًا، بل تعكس فهمًا حقيقيًا لقيمة كل طالب، وتجعل من التعليم الشامل ممارسة ملموسة تنبض بالحياة داخل الصفوف، وتؤكد أن الدمج ليس مجرد فكرة نظرية، بل تجربة يومية ملموسة يحققها المعلّم بتفاعله ووعيه وإبداعه.

لكي يصبح الدمج حقيقة يومية، يحتاج المعلّم إلى فهم طبيعة اختلاف الطلاب وتنوّع احتياجاتهم داخل الصف. فهناك من الطلاب يختلف في قدراته الأكاديمية ومستوى فهمه ومعالجة المعلومات، ويحتاج هؤلاء إلى تكييف أساليب التدريس واستخدام التعليم المتمايز. وهناك طلاب يعانون من احتياجات خاصة مثل صعوبات التعلم أو إعاقات جسدية أو حسية، فيتعين على المعلّم توفير وسائل مساعدة، وتعديل الأنشطة، وتقديم دعم فردي لهم. كما يختلف الطلاب في خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، من لغات وعادات وتقاليد، ويتطلب الأمر من المعلّم تعزيز الانتماء واحترام التنوع ودمج الثقافات داخل الصف. أما الفروق النفسية والعاطفية، مثل الشخصيات المختلفة ومستوى الثقة بالنفس والدوافع، فتستدعي من المعلّم بناء مناخ داعم، وتشجيع المشاركة، وتحفيز الطلاب بطرق متنوعة. وأخيرًا، تختلف اهتمامات وميول الطلاب، ما يحتم على المعلّم تنويع الأنشطة لتلبية هذه الاهتمامات وجعل التعلم أكثر جذبًا وفاعلية لكل طالب.

***

الأستاذ الدكتور هاني جرجس عيّاد

 أستاذ علم الاجتماع - كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – الجامعة الإسلاميّة في منيسوتا- الولايات المتحدة الأمريكيّة

مفتتح: هناك مفارقة عميقة تطبع تاريخ المجتمعات المستعمَرة:، حيث تحتفل هذه المجتمعات برفع رايات الاستقلال وخروج آخر جندي أجنبي من أراضيها، يبقى استعمار أعمق وأخطر قائماً في العقول والأرواح. هذا الاستعمار الخفي الذي لا يحتاج إلى دبابات ولا جنود، بل يتغلغل في البنية الثقافية والنفسية للمجتمع، هو ما يُعرف بـ الاستدمار الثقافي كما اسماه المفكر الجزائري الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم- ذلك المصطلح الذي يتجاوز مفهوم الغزو الثقافي إلى عملية ممنهجة من المسخ والفسخ والنسخ تستهدف تدمير الهوية الأصلية وإحلال هوية المستعمِر محلها.

 الاستدمار ليس مفردة نظرية في قاموس الدراسات الثقافية، بل هو واقع معيش نختبره حين نجد أجيالاً من المتعلمين أصبحوا غرباء عن ثقافتهم، ينظرون إلى لغتهم الأم كعائق أمام التقدم، ويتبنون قيم المستعمِر كأنها الحقيقة الوحيدة في التاريخ. إنها حالة من الاغتراب الحضاري تتطلب فهماً عميقاً لآلياتها وأهدافها، وبناء استراتيجيات واعية لمواجهتها.

1- تأصيل المفهوم وتحديد المعالم:

الاستعمار التقليدي ظاهرة خارجية، يحتل الأرض بالقوة العسكرية ويستنزف الثروات بالآلة الاقتصادية، لكنه يبقى قابلاً للمقاومة المادية والطرد النهائي. أما الاستدمار الثقافي فهو عملية جوانية أعمق أثراً وأبعد مدى، تستهدف البنية العقلية والنفسية للإنسان، وتحوله من كائن مقاوم إلى أداة طوعية للهيمنة دون أن يشعر بذلك.

المفهوم يقوم على ثلاث مراحل متتالية تشكل في مجموعها منظومة التدمير الحضاري:

م1: هي المسخ، حيث تُشوَّه الهوية الأصلية وتُصوَّر كمتخلفة ورجعية وعائق أمام التحضر. فاللغة العربية تصبح "لغة الماضي"، والقيم الإسلامية تصبح "عوائق أمام الحداثة"، والتاريخ الوطني يُكتب كسلسلة من الظلمات تقطعها "نور الاستعمار".

م2: هي الفسخ، وتعني تفكيك الروابط التاريخية بين الأجيال، وقطع الصلة بين الحاضر والجذور الثقافية والروحية. فالجيل الجديد يُعزل عن تراثه، ويُقدَّم له على أن ما قبل الاستعمار كان "عصراً مظلماً" لا يستحق الاهتمام أو الدراسة.

م3: فهي النسخ، وهي الأخطر: استبدال شامل للقيم والمعايير الثقافية والمرجعيات الفكرية. هنا لا يكتفي الاستدمار بتشويه الهوية الأصلية أو فصل الأجيال عنها، بل يحل محلها منظومة كاملة من القيم والأفكار والمعايير المستوردة تصبح هي المرجعية الوحيدة في الحكم على الأشياء.

هذه المراحل الثلاث لم تأت بعشوائية أو عفوية، بل كانت استراتيجية مخططة بدقة، خصوصا لدى فرنسا العجوز وما ارتكبته من جرائم مادبة وغير مادبة في مستدمراتها وخاصة بالجزائر،حيث الاستراتيجية استهدفت كل مكونات الهوية: اللغة التي حوربت وهُمشت، الدين الذي صُوّر كعدو للتقدم، التاريخ الذي أُعيدت كتابته من منظور المستعمِر، القيم التي قُدمت كعوائق اجتماعية، وحتى طريقة التفكير نفسها التي أُعيد تشكيلها وفق قوالب غربية.

2- التعليم الاستدماري كأداة للهيمنة:

إذا كان الاستدمار الثقافي منظومة متكاملة، فإن التعليم كان محركها الأساسي وأداتها الأكثر فاعلية. السياسة التعليمية الاستعمارية لم تكن تهدف إلى نشر المعرفة - كما يُروَّج لها - بل كانت تهدف إلى تدجين العقول وترويضها لخدمة المشروع الاستعماري.

المنهجية كانت واضحة: فصل النخبة المتعلمة عن ثقافتها الأصلية، وإشباعها بثقافة دخيلة تجعلها أداة طيّعة في يد الاستعمار. الطالب الذي يدخل الجامعة متمسكاً بهويته العربية والإسلامية، يخرج منها بعد سنوات وقد أصبح غريباً عن ثقافته، ينظر إليها بعين الاحتقار، معتبراً اللغة الفرنسية لغة العلم والحضارة واللغة العربية مجرد رمز للماضي هذه النتيجة لم تكن صدفة، بل كانت الهدف المقصود من العملية التعليمية برمتها.

والأخطر من ذلك أن السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر اعتبرت تدريس القرآن والدين الإسلامي نوعاً من "المقاومة الثقافية" التي يجب محاربتها بكل الوسائل. فقد كانت الحياة الثقافية قبل الاستعمار مزدهرة، وكان أغلب المواطنين متمكنين من القراءة والكتابة بالعربية، لكن الاستعمار عمل بمنهجية على محو هذا الموروث الثقافي وزرع الأمية الحضارية محله.

الدرس الذي تعلمه الاستعمار مبكراً هو أن السيطرة على التعليم تعني السيطرة على المستقبل. فالجيل الذي يُصنع في مدارس الاستعمار وجامعاته سيكون هو الجيل الذي يقود المجتمع بعد الاستقلال، وإذا كان هذا الجيل مقطوع الصلة بثقافته الأصلية، متشبعاً بثقافة المستعمِر، فإن الاستعمار يكون قد حقق هدفه الأسمى: استعمار دائم لا يحتاج إلى جنود.

3- استلابات الاستدمار الثقافي:

الاستدمار الثقافي ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أعمق: صناعة إنسان مسلوب الهوية يتبنى قيم المستعمِر ويدافع عنها، ويصبح امتداداً للمشروع الاستعماري حتى بعد الاستقلال السياسي.

هذا الإنسان المسلوب يؤدي وظيفة خطيرة في المعادلة الاستعمارية: فهو يحمل جنسية وطنية لكنه يفكر بعقلية استعمارية، يتكلم لغة المستعمِر ويتبنى رؤيته للعالم، بل ويصبح - في كثير من الأحيان - أكثر حماساً في الدفاع عن ثقافة المستعمِر من المستعمِر نفسه.

أما عن الاستلابات الاستراتيجية فإنها تتمحور حول ثلاثة محاور جوهرية:

- تفكيك الوعي الجماعي عبر تشويه التاريخ الوطني وتقديمه كسلسلة من الهزائم والانحطاط، مقابل تمجيد التاريخ الاستعماري كمسيرة من التقدم والحضارة.

- تحطيم الروابط الاجتماعية التقليدية التي تمثل مناعة ثقافية للمجتمع، واستبدالها بروابط فردانية تجعل الإنسان معزولاً وسهل الاختراق.

- خلق تبعية دائمة تجعل النخب المحلية في حالة احتياج مستمر للمرجعية الغربية في كل شيء: في التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد بل وحتى في تعريف الذات.

هذه الاستلابات تتكامل لتنتج حالة من التبعية الحضارية، لا تحتاج إلى قوة خارجية لفرضها، لأنها تصبح نابعة من الداخل، من قناعات النخب المتعلمة التي أصبحت تؤمن بأن التقدم يعني الذوبان في الآخر، وأن الأصالة تعني التخلف.

4- إدارة الأزمة ومواجهة الاستدمار

مواجهة الاستدمار الثقافي تتطلب:

 أولاً، وعياً عميقاً بحقيقة المشكلة وأبعادها. فالكثيرون يعانون من آثار الاستدمار دون أن يدركوا أنهم ضحايا له، بل قد يدافعون عنه باعتباره "حداثة" أو "انفتاحاً" على العالم. لذلك، فإن المرحلة الأولى من إدارة الأزمة هي التشخيص الدقيق لمظاهر الاستدمار في واقعنا المعاش: من اللغة المستخدمة في الإدارة والتعليم، إلى القيم المتبناة في السلوك الاجتماعي، إلى المرجعيات الفكرية التي تحكم نظرتنا للعالم.

ثانيا، المقاومة الثقافية الفاعلة لا تعني الانغلاق على الذات أو رفض كل ما هو أجنبي - فهذا موقف ساذج وغير واقعي - بل تعني الانتقاء الواعي الناقد القائم على معايير واضحة تحمي الهوية وتعززها دون انغلاق. والتجربة التاريخية أثبتت أن المقاومة الثقافية نجحت حين اندمجت مع المجتمع ولم تنعزل عنه، وحين قدمت بديلاً حضارياً واضحاً وليس مجرد خطاب دفاعي رافض.

ثالثا، الاستراتيجية الفاعلة تعمل على ثلاثة مستويات متكاملة:

1. المستوى الفردي عبر بناء وعي نقدي يميز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة.

2. المستوى المؤسسي عبر إصلاح شامل للمنظومة التعليمية يحررها من التبعية الثقافية ويجعلها أداة لتحرير العقل لا لتدجينه.

3. المستوى الوطني عبر سياسات ثقافية واضحة تعيد الاعتبار للغة العربية والثقافة الأصيلة كمنطلق للإبداع الحضاري.

 5- الخطاب التنويري والمبادرة الحضارية

الخطاب المطلوب في مواجهة الاستدمار الثقافي يجب أن يتجاوز الموقف الدفاعي إلى موقف المبادرة الحضارية، فالخطاب الذي يكتفي برفض الغزو الثقافي دون تقديم بديل حضاري مقنع يبقى خطاباً ضعيفاً غير فاعل، لأنه يُفهم كنوع من النكوص الخائف على الذات. المطلوب هو خطاب يؤسس لسؤال النهضة الفكرية، خطاب يقدم رؤية حضارية متماسكة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

الأصالة هنا لا تعني التقوقع في الماضي أو رفض الحاضر، بل تعني الارتباط الواعي بالجذور الثقافية والروحية كمنطلق للإبداع الحضاري. والمعاصرة لا تعني التبعية العمياء للغرب أو الذوبان فيه، بل تعني الاستفادة النقدية من المنجزات الإنسانية وفق رؤية تحفظ الخصوصية الحضارية

و بالتالي المشروع النهضوي يقوم على مبدأ واضح: ثورة العقل هي الثورة الحاسمة في زمننا، فالأمة التي تملك عقولاً متحررة واعية تستطيع أن تواجه كل التحديات، أما الأمة التي عقولها مستدمرة فهي - حتى لو امتلكت كل الثروات - أمة ضعيفة قابلة للاختراق. ومعادلة النهضة تكتمل بتحقيق الاستقلال الثقافي مقابل الاستقلال السياسي، فالاستقلال السياسي وحده - كما أثبتت التجربة - لا يكفي إذا بقيت العقول تائهة والهويات قاتلة ومتقاتلة.

 نحو استقلال حقيقي

المجتمعات التي مرت بتجربة استعمارية تواجه اليوم استمراراً للاستدمار الثقافي في ثوب جديد: العولمة الثقافية التي تخترق المجتمعات من خلال ثقافتها وفكرها، وتنشر منظومة قيم ومعتقدات تقضي على التميز الثقافي الوطني. هذا الواقع يتطلب يقظة حضارية دائمة وبناء استراتيجيات طويلة المدى.

المقاربات الاستراتيجية تتطلب:

- تعميم اللغة العربية وجعلها لغة العلم والإبداع لا مجرد لغة التراث،

- إصلاح شامل للمنظومة التعليمية بحيث تصبح أداة لتحرير العقل،

- بناء وعي نقدي قادر على التمييز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة،

- تطوير خطاب ثقافي يخاطب الأجيال الجديدة بلغة العصر ويربطها بجذورها بشكل واعٍ ومبدع

الاستدمار الثقافي ليس من ماضٍ انقضى، بل هو مؤامرة واستراتيجية مستمرة تتطلب وعياً عميقاً وإرادة حضارية قوية. فالأمة التي تخسر ثقافتها تخسر وجودها، حتى لو امتلكت كل أشكال الاستقلال السياسي والاقتصادي. والتحدي الحقيقي اليوم هو بناء جيل واعٍ بهويته، معتز بثقافته، منفتح على العالم دون ذوبان، قادر على الإبداع الحضاري انطلاقاً من خصوصيته لا من محاكاة الآخر. هذا هو الطريق الوحيد نحو استقلال حقيقي: تحرير العقل وتجديد الخطاب واستشراف المصير.

***

أ. مراد غريبي

الفن ليس زينة تعلق على جدار الحياة ولا مجرد ترف جمالي يمر مرور العابرين بل هو مرآة داخلية تعكس اعمق ما في الانسان من ارتعاشات الروح وهمسات النفس. ان الوعي النفسي حين يفتح نوافذه على الفن فانه لا يبحث عن الجمال المصقول وحده بل عن التجربة التي توقظ فيه احساسا ما؛ احساسا قد يكون حزنا او نشوة او قلقا او حتى صمتا مبللا بالدهشة.

الفن بهذا المعنى ليس ترفا بل ضرورة لانه لغة الروح حين تعجز اللغة العادية عن البيان. ولعل اسمى ما يمنحه الفن هو تلك القدرة على ان يجعلنا نصغي الى انفسنا بعمق ان نتعرف على المشاعر التي نسكنها ونخشى الاعتراف بها ان نمد ايدينا الى مناطق في وعينا لم تطأها خطوات العقل بعد.

ان الوعي النفسي الذي يتذوق الفن هو وعي متجاوز لا يقف عند ظاهر الشكل او الاطار بل يسعى الى ما وراءه الى الرموز الى الدلالات الى المعنى الذي يتجاوز ذاته. فالفن حين يهزنا انما يكشف ان فينا شيئا كان ينتظر تلك الرعشة ليبعث من جديد.

ولهذا ليس مطلوبا من الفن ان يكون جميلا بالمعايير المألوفة بل ان يكون صادقا بقدر ما يوقظ فينا شيئا يوقظ الحي من الميت والصوت من الصمت والنور من الظلمة. ومن لا يتأثر بالفن لا لانه لم يعجبه بل لانه لم يشعر بشيء امامه انما يكشف عن فراغ في داخله عن جدار سميك يحجب صوته الداخلي عن سماع نفسه.

‏لطالما آمنت أن الأدب والشعر والفنون الإنسانية تهذب أخلاق الإنسان وتجعله أكثر رقة، وعاطفة، وإحساسا بالأشياء، واستشعارا لجماليات الحياة ومآسيها على حد سواء.. إذ أن ذلك المكان العميق في الإنسان لا يلمسه سوى أشياء غير مادية تخاطبه على متن الإحساس والشعور

‏الفن لا يقتصر على اللوحات والمسارح، الفن هو الألوان التي تراها دون اكتراث كل يوم، ستراه في الغروب أو في غيمة تعانق جبل، في اخضرار الشجر ورقص الزهور على أنغام النسائم، في غموض البحر وزرقة السماء ورهبة مشهد النجوم في المساء

أمعن النظر وستجد أن الفن يتجلى في كل شيء حولك، وفيك أنت ايضا

فالفن اذن ليس مجرد وسيلة للتسلية او التزيين بل هو اختبار للوعي امتحان لمدى قدرتنا على التواصل مع ذواتنا وقياس لحجم المسافة بيننا وبين اعماقنا. ومن يملك حسا فنيا حيا يملك نافذة مفتوحة على سر الوجود ذاته.

‏ظنوا أن الفن مجرد زهرة قرنفل في عروة الجاكت الرسمي

مظهر لطيف ووسيلة تسلية

وظنوا أن الفن هو أخبار المشاهير ووسيلة ربح تجارية

وظن غيرهم أن الفن حرام

كل هذه الظنون تحطم كل يوم جزءا من الساق الثانية لأي حضارة بعد أن تم بتر الأولى. وساقا الحضارة.. العلم والفن

للأسف نحن نعيش في زمن وحشية الاستهلاك لا على مستوى المادة بل حتى مستوى الوعي والمشاعر الإنسانية،

السلعة صارت معيارا  لكل شئ: الإنسان، القيم، الفن، المشاعر، التعليم، الثقافة، حتى الدين نفسه تحول مع شيوخ السبوبة إلي سلعة

كل شيء قابل لأن يستبدل او حتى يفقد القيمة وذلك هو سبب تصحر أرواح الناس حيث لم يعد الجمال والمعنى يكمن في الأعماق بل في الصورة الحسية ولذلك قد يتحول الإنسان التافه إلى ايقونه ونموذج

للأسف ‏شوارعنا ينقصها البهجه.. ينقصها الألوان والجمال والفن والحب، ينقصها العازفون والرسامون والمبتسمون، ينقصها أناس لا يتدخلون في شؤون غيرهم ..

شوارعنا كئيبة، جافه، ومعقدة وذات أنوف طويلة جدا. تتدخل فيما لا يعنيها

شوارعنا حزينة رغم زحمتها كقلوبنا تماما

 الفن ليس ترفا اذن، بل امتحان للوعي ونافذة على سر الوجود. من يملك حسه يمتلك طريقا الى ذاته، ومن يغلق قلبه دونه يعيش في صحراء بلا ماء، حتى لو امتلك كل مظاهر الغنى.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

فيورباخ:- تقول عنه الكتب الفلسفية بانه فيلسوف الماني مادي ملحد، وقد عاصر فيورباخ الفيلسوف الألماني (هيجل) وتذكر المصادر ان هيجل قبل وفاته باعوام انه قبل في عداد تلاميذه ببرلين شابا كان لاهوتيا يدعـى (فيورباخ) حيث انتمى الى مدرسة هيكل عام 1824 م بعد ان خاب ظنه من دراسة اللاهوت، غير ان هذا التلميذ كلما سمع استاذه يتحدث يرى في كلامه تناقضاً بين النظرة المثالية للإنسان وبين ما تقرره (البيولوجيا). ومن هذا المنطق اخذ ينتقد فلسفة هيجل بشدة وصرح قائلاً.. (.. فاذا قالت الفلسفة الهيغلية ان العقل هو وحده الحقيقي الموجود فعلاً قالت الفلسفة الحديثة عكس ذلك لان الانسان هو وحده العقل، الانسان مقياس العقل..) الله في الفلسفة الحديثة: كولتز ص 338 .

وقد تعلم ماركس هذا الدرس من فيورباخ وكتب (انجلز) عن ذلك يقول:- (.. كان الحماس عاماً فصرنا جميعاً فيورباخيين دفعة واحدة..) وكان نشوء وتطور الانسان السمة المميزة لمادية فيورباخ، وهكذا تفوق التلميذ على استاذه عند ماوضع فلسفة تتوافق مع الروح العلمية.

فيورباخ والموقف من الدين

لقد استطاع فيورباخ ان يفسر الدين والله بالرجوع الى الطبيعة الإنسانية وميولها وقال: (ان ما يميز الانسان عن الحيوان هو قدرته على ان يدرك بتفكيره لا الفرد وحده بل النوع بأكمله فالانسان هو بنفسه الاله الحقيقي والوحيد) الله في الفلسفة الحديثة. ص 0339

لقد أراد اذا ان يجري عملية جراحية لاستئصال فكرة الله واراد ايضاً ان يحصر الدين داخل الاطار الالحادي ودعا الى دين انساني يخلو من الله. نفس المصدر ص 240.

وهو بهذا المنطق قد قطع كل علاقة له مع دياليكتيك هيجل واستحوذ عليه بقوة المنطق حيث قال.. (.. ان المادية بالنسبة لي هي أساس بناء الكيان الإنساني واساس المعرفة الإنسانية..) المادية والمثالية مهدي الحافظ ص7.

لقد قطع فيورباخ شوطاً كبيراً في ابتعاده عن الفلسفة الهيغلية (فقد كان من الذين فضحوا طبيعة الدين اللاعلمية وفي رد جذورها الى جهل الشعب وقلة معارفه) المعجم الفلسفي المختصر رؤية ماركسية – ص54 دار التقدم موسكو.

 كما انه طرح فكرة الانسان نقيضاً الفكرة والروح وهما المفهومان السائدان في المثالية السائدة في عصره.

تاثير فيورباخ على ماركس

يبدو ان تأثير فيورباخ على كارل ماركس واضحاً كل الوضوح في نظرته الى الدين عندما اعلن فيورباخ.. (.. ان محور الدين ليس الله بل الانسان وان الدين من ابتكار الانسان وان الصفات المميزة للطبيعة الإنسانية هي العقل وما الله سوى وهم خلقه الانسان لنفسه..) لهذا اعتبر ماركس فيورباخ بانه (لوثر الثاني) من حيث تحرير الناس من الوهم ولكن ماركس اعطى للجانب الاقتصادي تفسيراً للدين حيث قال (.. ان الطبقة الشعبية المسحوقة ابتكرت الله والسماء والحياة الثانية لمحاولة للخلاص من وضعها المتخلف.). العلمانية والدولة الدينية ص 19

تحويلات فيورباخ.. لماذا..؟

لقد ذكرت في بداية هذا المقال ان فيورباخ بدأ حياته لاهوتياً ثم تحول الى المذهب الهيغلي واعتنق ديالكتيك هيغل واصبح عضواً في الشباب الهيغلي الا انه انتقد أراء هيغل بشدة وهجرها الى المذهب المادي، ان هذا التحول لم يأتي اعتباطاً لقد كانت هناك عوامل ذاتية وموضوعية وراءه.

والحقيقة ان فيورباخ كان معاصراً لثلاث أكتشافات مهمة هي:-

1 – اكتشاف الخلية 2 – تحول الطاقة 3 – نظرية التطور المسماة باسم دارون.

 في الوقت نفسه كانت أوضاع المانيا أوضاع مؤسفة جعلت كراسي تدريس الفلسفة يحتلها التافهون وكان فيورباخ يقبع في قرية صغيرة).. المادية والمثالية – مهدي الحافظ ص 12

لقد ظل فيورباخ وفياً للمبادئ حتى وفاته 1872م، وختاماً فان المتتبع لمسيرة هذا الفيلسوف العظيم يرى انه قد لخص أراءه بهذا الكلمات المضيئه بقوله: (.. يؤمن الانسان بالألهة لانه يتمتع بالخيال، ويؤمن بالكائن السعيد لانه لدية فكرة عن السعادة، ويؤمن بالكائن الفاضل لانه يتطلع الى الكمال، ويؤمن بالكائن الخالد لانه يرفض الموت..) الماركسية في اطارها التاريخي، يتودور وايزرمن، ص 25-26.

***

غريب دوحي

 

  في مدونة الأحوال الشخصية التي سميت بالجعفرية والتي كتبت على عجالة منقطعة النظير، والتي أقرت في مجلس النواب العراقي في ٢٧/ ٨ / ٢٠٢٥، والتي عدها البعض نصرا للشيعة بعد ستين سنه من الاختطاف الفقهي في الأحوال الشخصية، نجد أنها قد استنسخت الأحكام الفقهية من كتب الرسائل العملية ووضعتها في مدونة لم تُقرأ مطلقا قبل التصويت عليها، فهم افترضوا مادام المرجع " الأعلى" هو من دونها في كتبه، أو بضعة مراجع قدماء كتبوها، فهي أذن صالحة لكل زمان ومكان ولأي فرد من الأفراد، ولأن التعديل للقانون ١٨٨ لسنة ١٩٥٩ وجلب مدونة فقهية،كان بأيادي قانونيين، فهم ربما لم يدركوا الفرق بين الحكم الشرعي الذي هو ظني وبين الحكم القانوني الوضعي الذي يراعي دستور الدولة المقر مجتمعيا عبر انتخابات رسمية موثقة.

الحكم الفقهي موجه للفرد المتدين الذي يريد تطبيق دينه كما يرى هو موضوعه بحسب مدرسته الفقهية، وهوحكم مرن ومتغير، أن تحويل الفتاوى الى قوانين يعني تقديس الاجتهاد البشري وتثبيته، واعتبار رأي الفقيه حكما وضعيا عاما مع أنه حكم ظني بطبيعته يفيد النجاة الأخروية، فهو لم يخصص لبناء عالم إنساني يراعي مصالح البشر الدنيوية بقدر إعطاء المعذرية الأخروية، والنجاة يوم القيامة وإبراء الذمة، هذه الذمة التي شُغلت بالتكليف منذ البلوغ الشرعي.

وهذا يدعونا الى الانتقال من فقه الضبط والتقييد الى فقه المعنى والمصلحة الإنسانية، فالشريعة جاءت لحفظ مصالح الإنسان في دينه وعقله وماله وكرامته، لكن الأحكام حين تتحول الى منظومة إلزام شكلي، تغيب الغاية الأخلاقية للنص،ويتقدم الشكل على المضمون والمعنى، وتمتهن كرامة الإنسان وحريته باسم حماية الحكم الشرعي، وتصادر إنسانية الفرد لصالح فتوى ظنية،ونصل الى نتيجة : فقه بلا روح، وقانون بلا عدالة.

إن الإنتقال الى فقه الإنسان يعني اجتهاد متجدد ينطلق من قيم شرعية قرآنية كبرى كالعدل والكرامة والمساواة، والحق والحرية والفردانية وعدم اتباع الآباء والأجداد وحفظ النظام، وأن يكون الاجتهاد في إطار سياقي يرعي سياقات العصر الحالي وماتجدد فيه من ظهور لذات المرأة واعتبارها ذاتا إنسانية فاعلة في الحياة،أي المطلوب التحول الى فقه يلتفت الى إيجاد ومعرفة المصالح ومراعاة مقاصد وغايات الشريعة التي من أجلها جاءت الشريعة.

أن تحويل الفقه التقليدي إلى قانون هو تحويل للمعرفة الدينية إلى سلطة قسرية تهمل الإنسان.

أن الفتوى متغيرة تبعا لظروف الزمان والمكان، أما القانون فيفترض فيه الثبات النسبي، لذا نقل النص الفقهي الى نص قانوني دستوري يعني إهدار مرونة الشريعة وتعطيل آلية الاجتهاد التي هي روح الفقه.

وهنا يظهر سؤال هل تشريع القوانين هو لحماية العقيدة أم سنَّ ليحمي الإنسان؟ فأن غاب الإنسان في أفق الشريعة أو القانون فلن يبقى لهما من معنى!..

***

د. بتول فاروق الحسون

المقدمة: في عالمٍ ترتفع فيه الأصوات أكثر مما تُسمع القلوب، يصبح الحديث عن التسامح ليس مجرد فضيلةٍ أخلاقية، بل فعلَ تحرّرٍ من ضجيجٍ يُهدّد إنسانيتنا. ولذلك، حين يحتفل العالم في السادس عشر من نوفمبر من كل عام بـ"اليوم العالمي للتسامح"، لا أراه يومًا يُذكّرنا بالآخرين  فحسب، بل هو أيضًا مرآة تُعيدنا إلى أنفسنا، لنراجع ما تراكم في أعماقنا من أحكامٍ وغضبٍ وصمتٍ مؤلم.

وبوصفي باحثًا في الفلسفة، لا أستطيع أن أمرّ على هذا اليوم مرورًا عابرًا، لأنني أؤمن أن التساؤل هو جوهر الفهم. فكلما جاء هذا اليوم، يتردّد في ذهني سؤال لا يفارقني: هل نحتاج فعلًا إلى يومٍ واحدٍ لنغفر فيه؟ وهل يُعقل أن نؤجّل الصفح إلى موعدٍ محدّد، ثم نعود إلى قسوتنا في اليوم التالي كما لو أن الغفران طقسٌ سنويٌّ لا روح له؟

ومن هنا، أرى أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير؛ فاليوم العالمي للتسامح لا يُطلب فيه منّا أن نغفر فحسب، بل أن نتذكّر. وأن نتذكّر أن التسامح ليس لحظة انفعالٍ عاطفيٍّ مؤقتة، بل وعيٌ مستمرٌّ يعيد تعريف إنسانيتنا في زمنٍ أصبحت فيه المشاعر تُوزن بالمصلحة، والعلاقات تُقاس بما نكسبه لا بما نفهمه.

وإنه، في نظري، ليس يومًا نمارس فيه الغفران، بل يومًا نمارس فيه إعادة اكتشاف أنفسنا.

وهو يومٌ يجعلنا نتوقف وسط الزحام، لا لنسأل مَن أخطأ في حقّنا، بل كم مرة أخطأنا نحن حين نسينا أن نغفر.

- حين يعلّمنا الواقع معنى الفلسفة:

كثيرًا ما كنت أظن أن الفلسفة تسكن بين دفّتي الكتب وحدها، حتى أدركت مع الوقت أنها تتنفس في تفاصيل الحياة اليومية. ففي كل مرة غادرت فيها مكانًا أحببته بسبب كلمةٍ قاسية، وفي كل مرة كبر في داخلي خلاف صغير حتى تحوّل إلى جدارٍ بيني وبين من أُحب، كنت أتعلم درسًا جديدًا لا تمنحه القاعات ولا المحاضرات. ولقد فهمت أن الفلسفة لا تُمارس في النصوص، بل في تلك اللحظة التي نختار فيها الهدوء بدل الانفعال، والفهم بدل الرد، والرحمة بدل القسوة.

وحين أهدأ بعد غضبٍ كان يوشك أن يشتعل، أكتشف أنني أفكر أكثر مما كنت أرغب أن أنتقم، فأشعر بأنني أمارس الفلسفة دون أن أقصد. فالتسامح في جوهره ليس مجرد تصرف أخلاقي، بل هو أعمق أشكال التفكير، لأنه يجعلنا نرى الإنسان قبل الموقف، والنية قبل الخطأ، والظروف قبل الإدانة.

وقد تعلّمت من تأملات سبينوزا أن الحرية الحقيقية لا تتحقق بالرد أو المقاومة، بل بالفهم. وبالمعنى نفسه، وأدركت أن التسامح ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو فهمٌ عميق لدوافع الآخر بدل أن نحاكمه. فالبشر لا يولدون قساة، وإنما تصقلهم التجارب وتربّيهم الجراح وسوء الفهم، وكلما ازداد فهمنا لذلك، اقتربنا خطوة من المعنى الإنساني الذي تتحدث عنه الفلسفة منذ نشأتها.

- بين الفلسفة والحياة اليومية:

في حياتنا اليومية لا يأتي اختبار التسامح على هيئة مواقفٍ كبرى أو قراراتٍ مصيرية، بل يتخفّى داخل التفاصيل البسيطة التي نمر بها كل يوم. ويحدث حين يتأخر أحدهم عن موعدٍ ننتظره، أو ينسى وعدًا ظننّاه مهمًا، أو يقول كلمةً غير مقصودةٍ تترك فينا أثرًا عميقًا. هناك، بين الفعل وردّ الفعل، يبدأ الامتحان الحقيقي: هل نغضب ونتسرّع في الحكم، أم نتأنّى ونفكر؟

كم من خلافٍ صغيرٍ اشتعل لأن أحد الأطراف اختار الغضب بدل الفهم، وكم من علاقةٍ انكسرت لأننا لم نمنح الآخر فرصة للتبرير. وهنا تكمن الفلسفة في أبسط صورها؛ إذ تدعونا إلى أن نفكر قبل أن نحاكم، وأن نفهم قبل أن نحكم. فالتسامح ليس في جوهره غفرانًا آليًا، بل عملية وعيٍ عميقةٍ تُعيد ترتيب علاقتنا بالإنسان وبأنفسنا.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم ما أشار إليه سقراط حين رأى أن الإنسان لا يفعل الشر عن قصد، وأن وراء كل سلوكٍ قاسٍ دافعًا خفيًا أو جرحًا غير مرئي. وكذلك فأن الغضب لا يمنحنا قوة، بل يسلبنا حريتنا من الداخل، بينما التسامح لا يبرّئ الآخر دائمًا، لكنه يحرّرنا نحن من أسرِ الخيبة المتكرّرة، ويمنحنا قدرةً أرحب على الفهم والتوازن والسلام.

- التسامح كتحرر داخلي:

من خلال تأملاتي في الحياة، أدركت أن التسامح ليس ضعفًا ولا تنازلًا عن الكرامة، بل هو في جوهره إعادة تعريفٍ للقوة. فالقوة الحقيقية لا تكمن في سرعة الرد، بل في عمق الفهم، ولا في أن تنتصر على غيرك، بل في أن تنتصر على نفسك. وفي كل مرة يتملكني الغضب من موقفٍ أو كلمةٍ قاسية، أكتشف أن أكبر معركةٍ أخوضها ليست مع الآخر، بل مع ذاتي. فالغضب، في حقيقته، نارٌ داخلية تأكل صاحبها قبل أن تمسّ غيره، والتسامح هو الماء الذي يطفئها برفقٍ ووعي.

كثيرون يظنون أن التسامح يُغيّر الآخرين، بينما هو في الواقع يغيّرنا نحن أولًا. إنه لا يُصلح الماضي الذي حدث، لكنه ينقذ الحاضر من التآكل، ويفتح بابًا للمستقبل كي يُكتب من جديد. وكل مرة أختار فيها الفهم بدل الحكم، أو الصمت بدل الجدال، أشعر بخفةٍ غريبة، كأن عبئًا من الغبار انزاح عن صدري. عندها أُدرك أن التسامح لا يُنسينا الألم، بل يُعلّمنا كيف نحمله دون أن يثقلنا، وكيف نحيا بسلامٍ أكبر مع أنفسنا ومع العالم.

- الفلسفة كمدرسة للتسامح:

لقد تعلّمت من الفلسفة أن الحقيقة ليست ثابتة كما نظن، بل إنها تتعدد وجوهها بتعدد الزوايا التي نراها منها، ولذلك فإنّ النظر إلى الحق من زاويةٍ واحدة قد يحجب عنّا أعمق معانيه. ومن هذا المنطلق، فإن الفلسفة الحقيقية لا تطلب منك أن تتنازل عن حقك، بل تدعوك إلى أن تراه من منظورٍ أوسع وأكثر إنصافًا.

وعلى هذا الأساس، يصبح التسامح في جوهره ليس نقيض الغضب، بل تهذيبه، لأن الغضب في حد ذاته طاقة إنسانية يمكن أن تدمّر أو تُنقذ، بينما تمنحنا الفلسفة البصيرة الكافية لاستخدام هذه الطاقة في الاتجاه الصحيح.

ومن ناحية أخرى، نمارس الفلسفة في حياتنا الواقعية أكثر مما نظن؛ إذ إننا نفعل ذلك كلما اخترنا الهدوء بدل الانفعال، أو قلنا في لحظة ضيق "ربما لم يقصد" بدل أن نرد بحدّة، أو أكملنا حديثنا بابتسامةٍ رغم الألم. وهكذا، تُصبح تلك اللحظات الصغيرة من الوعي أعمق الدروس الفلسفية، لأنها تذكّرنا بأنّ الحكمة لا تُقاس بما نحفظه من النظريات، بل بما نمارسه من اتزانٍ في لحظات الغضب. فالتسامح، في نهاية المطاف، هو الفلسفة التي تتحرك في الحياة لا تلك التي تُكتب في الكتب، لأنه يجعل الفكر سلوكًا، ويحوّل المعرفة إلى فعلٍ إنسانيٍّ حيّ.

- ولماذا نحتاج يومًا للتسامح؟:

قد يرى البعض أن التسامح قيمة نحتاجها كل يوم، وأن تخصيص يومٍ واحدٍ له أمر لا مبرر له، غير أنني أرى أن الأيام العالمية ليست احتفالًا بقدر ما هي تذكيرٌ بما نكاد ننساه وسط انشغالنا بالحياة. فكما نحتفل بيوم الأم كي لا نغفل عن فضلها في زحام الأيام، نحتفل بيوم التسامح كي لا نغفل عن إنسانيتنا التي تتآكل بصمت بين الغضب والعجلة واللامبالاة.

وفي خضم هذا الزحام، نحن بحاجة إلى إشارات توقظ القلب من غفوته وتدعوه إلى أن يتوقف قليلًا، ليفكر في من قسونا عليه دون قصد، أو في من ينتظر منا كلمة تداوي ما انكسر. ومن هنا، فإن اليوم العالمي للتسامح لا يدعونا إلى النسيان، بل إلى التذكّر الواعي؛ تذكّر أن في داخل كل إنسانٍ ظلًا وخطأً وجانبًا مظلمًا يحتاج إلى الرحمة أكثر مما يحتاج إلى الإدانة. إنه يومٌ يضعنا وجهًا لوجه أمام أنفسنا، يومٌ يحثنا على أن نعيد التفكير، لا في الآخرين فقط، بل في ذواتنا وفي العالم الذي نصنعه بتصرفاتنا الصغيرة كل يوم

- توصياتي كباحث في الفلسفة:

انطلاقًا من تجربتي كباحث في الفلسفة، أرى أن التسامح ليس موقفًا يُمارس لحظة الغضب، بل طريقة في العيش تحتاج إلى تدريبٍ طويلٍ على الفهم والصبر وضبط النفس. ولذلك، أوجه حديثي أولًا إلى من أثقلته الذكريات، وأقول له: لا تنتظر اعتذارًا لتغفر، فالتسامح لا يبدأ من الآخرين، بل منك أنت. وأتوجه ثانيًا إلى من يرى التسامح ضعفًا، مذكّرًا بأن القوة الحقيقية ليست في الرد، بل في القدرة على كبح الرد، وأن أعظم الانتصارات أحيانًا هي أن تختار الصمت وأنت قادر على الصراخ. أما من يسعى إلى الحكمة، فعليه أن يتعلم أن يفكر مرتين قبل أن يحكم، وأن يرى الإنسان لا الموقف، وأن يتذكر أنه هو أيضًا أخطأ يومًا ما. وللمربين والمعلمين، أقول إن عليهم أن يغرسوا في نفوس أبنائهم أن التسامح ليس ضعفًا، بل وعي، وأن قول كلمة "أنا آسف" شجاعة، وأن قبول الاعتذار قوة، وأن الجدال لا يربح شيئًا إن خسر الاحترام. وأخيرًا، أوجّه حديثي إلى الإنسان في عصر الشاشات الرقمية، ذاك الذي يكتب كلماته بسرعةٍ قد تجرح أكثر مما يتخيل، وأدعوه أن يتذكر أن وراء الشاشة الرقمية إنسانًا له قلب وعائلة وليلٌ طويل، فربما يكون التسامح في زمن الإنترنت أصعب وأعمق أشكال الفلسفة التي نحتاج أن نتعلمها اليوم.

- الخاتمة:

إن يوم التسامح العالمي ليس دعوة إلى النسيان، بل دعوة إلى وعيٍ ناضج بالذاكرة، لأننا حين نتذكر بصدق لا نُعيد الألم، بل نُعيد ترتيب قلوبنا. فالتسامح لا يعني أن نمحو ما جرى، بل أن نتعلم كيف نحمله دون أن يثقلنا. ومن هنا نفهم أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يتسع للآخر، وأن الفلسفة ليست في الجدل حول الحقيقة بقدر ما هي في القدرة على العيش بسلامٍ مع ما لا نفهمه بعد.

لقد علّمتني الفلسفة أن التسامح لا يغيّر من أخطأ، لكنه يغيّرنا نحن أولًا، إذ يجعلنا أهدأ، أنقى، وأكثر إنسانية. وكلما غفرت، شعرت أنني أقترب خطوةً من فهم العالم، لأن الغفران لا يحتاج إلى عقلٍ كبير فحسب، بل إلى قلبٍ شجاع يتّسع لما هو أبعد من الألم.

وفي النهاية، أقول إننا لا نحتاج إلى عمرٍ طويلٍ لنفهم الحياة، بل إلى لحظة صفاءٍ واحدة نغفر فيها بصدق، لأن من يغفر يفكر كما يفكر الفلاسفة، ويعيش كما يحلم الحكماء. فربما تكون أرقى درجات الفلسفة هي أن نحب رغم الخذلان، وأن نسامح رغم القدرة على الإدانة.

***

أ.د/ علي محمد عليان  عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب- جامعة المنيا- جمهورية مصر العربية

يدين باحثو الدراسات العلمية والنفسية في مجال الإنفعالات بالفضل للفلسفة ومفاهيمها ونظرياتها، وبالأخص فلاسفة عصر التنوير، فقد كتب كل من ديفد هيوم، وآدم سميث، وتوماس ريد، بإسهاب عن المشاعر والعواطف، وقد إعتقد هؤلاء المفكرون أن الإنفعالات ضرورية لبقاء الفرد والمجتمع، ولم يؤسس "سميث" علم الإقتصاد فحسب، بل ساهم في" تأسيس علم المشاعر" ، أو مايسمى (علم نفس الإنفعالات)، ففي كتابه الأول" نظرية المشاعر الأخلاقية"، المنشور في عام 1759م، ذهب "سميث" الى أن الإنفعالات هي الخيوط التي تشكل نسيج المجتمع، وقد إعتبر هؤلاء الفلاسفة أمثال: (ديفد هيوم، وتوماس ريد، وآدم سميث) أن إختبار العواطف هو أمر عقلاني، وأن أي علم يدرس العقل لايكتمل دون أن يبحث في المشاعر أيضاً، على الرغم من إعتقادٍ قديمٍ عند بعض الفلاسفة والمفكرين أن الإنفعالات في جوهرها متعارضة مع المنطق ، إلا أن الإهتمام العلمي بالإنفعالات عاد من جديد في تسعينيات القرن العشرين، وظهر الرأي القائل بعدم تعارض الإنفعالات في جوهرها مع العقل، وأنها حليف العقل وليس عدواً له، حيث أن (الفعل الذكي) هو نتاج مزيجٍ متناغمٍ من الإنفعالات والعقل، وأن إنساناً بلا إنفعالات سيكون أقل عقلانيةً وليس العكس، وعلى الرغم من ذلك فإن هنالك أوقات ومواقف معينة يُستحسن فيها الإستماع الى إملاءات العقل بدلاً من القلب، فمعرفة متى نتبع مشاعرنا ومتى نتجاهلها هي موهبة يُطلق عليها في عصرنا إسم (الذكاء الإنفعالي).

ديكارت وبكاء الكمبيوتر

إن أحدث التخصصات التي إستخدمت المفاهيم الفلسفية وبالأخص مفهوم (الإنفعال) هو الذكاء الإصطناعي، فمنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، إزداد إهتمام علماء الكمبيوتر ببناء آلات إنفعالية، وأحرز العاملون في مجال الروبوتات بالفعل تقدمات ملموسة في هذا المجال، وتُجرى الآن الأبحاث الأكثر إثارة حول الإنفعالات من قبل الباحثين وعلماء الكمبيوتر، وليس الفلاسفة، أو علماء النفس، أو الإنثروبولوجيا، حيث يسعى المجال الجديد المعروف بإسم (الحوسبة الوجدانية) أو مايطلق عليه حالياً إسم (الذكاء الإصطناعي الإنفعالي)، الى بناء أنظمة وأجهزة قادرة على التعرف على الإنفعالات البشرية، ومحاكاتها، بل تنبأ بعض الباحثين بأن الآلات قد يصبح لها إنفعالاتها الخاصة، في يوم من الأيام، حيث وجد الباحثون أنه يمكن توظيف أجهزة الكومبيوتر وجعلها قادرة على التعرف على الإنفعالات البشرية، والإستفادة من هذه التقنية في أغراض متنوعة،حيث أصبحت هذه التقنيات قادرة على إستخلاص معلومات إنفعالية من معطيات بشرية مختلفة، مثل الصوت، وتعابير الوجه، والملامح، والبيانات الفسيولوجية، حيث يتم تصنيف الإنفعالات تحت مسمى محدد مثل: الغضب والخوف ، أو الحزن، والسعادة، على سبيل المثال، مما يتيح للأجهزة الذكية مراقبة وتحليل العلامات الحيوية، وتكوين فكرة عن المعلومات الإنفعالية للإنسان، ومن ثم محاكاتها، ودمجها مع الذكاء الإصطناعي، ويتم دمج كل ذلك داخل نظام إحداثي (ديكارتي )، يعتمد في الأساس على النظرية الديكارتية التي يتبناها ديكارت في تصنيف الإنفعالات.

إن المفهوم الديكارتي لتصنيف الإنفعالات يعود الى الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت)، ونظريته حول الإنفعالات التي كان (يفصل فيها بين العقل والجسد)، ويعتقد ديكارت ان العقل هو المكان الذي توجد فيه هذه الأفكار والإنفعالات، ولقد إستفاد علماء وباحثوا الذكاء الإصطناعي من المفهوم الديكارتي حول الإنفعالات، وقاموا بناءاً على ذلك بتصميم إنفعالات الكمبيوتر، والروبوتات، والذكاء الإصطناعي.

 ونظراً لسرعة تطور الأبحاث في هذا المجال، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة في عصرنا هو: هل ستنجح التكنولوجيا في بناء روبوتات تمتلك مشاعر مثلنا تماماً؟ وماهي العواقب الأخلاقية المحتملة لمثل هذه التكنولوجيا؟ ومما لاشك فيه أن دراسة الإنفعالات من منظور (فلسفي- نفسي، وعلمي) هو أمر ضروري في خضم التطور التكنولوجي الكبير والسريع، ولكن كل مانتمناه هو أن يتم توظيف هذا التقدم والتطور العلمي لخدمة الإنسان، وأن تكون التكنولوجيا سببا في سعادته وليس تعاسته.

***

شيماء هماوندي

الإختصاص\ الفلسفة والعلاج الفلسفي

أربيل/ جامعة صلاح الدين/كلية الآداب /قسم الفلسفة

(العقل البشري يستطيع أن يتجاوز حدوده ظاهريًا، لكنه يضلّ حين يفعل ذلك دون نقد)... كانط

(المعرفة ليست مجرد بناء عقلي، بل هي تموضع جسدي للعقل داخل العالم)... مرلوبونتي

لم يعد الجهل، في الفلسفة المعاصرة مجرّد نقيض للمعرفة، بل غدا بنية إبستمولوجية قائمة على سوء الفهم، وعلى غياب الوعي بالجهل نفسه. فمنذ سقراط الذي جعل من الاعتراف بعدم المعرفة أولى خطوات الحكمة، ميز الفكر الفلسفي بين جهل بسيط يعترف صاحبه بالقصور، وجهل مركّب يتوهّم فيه الإنسان أنه عالم، بينما هو غارق في تمثلات زائفة للمعرفة.

في مستوى كهذا، يتحول الجهل من وضع معرفي إلى مأزق وجودي. فليس الإنسان جاهلًا فحسب، بل هو غافل عن جهله، وهذه الدرجة من العمى المعرفي هي ما يجعل الأفراد، بل والمجتمعات أكثر عرضة للخطأ، وأكثر استعدادًا لإعلاء الوهم إلى مرتبة الحقيقة.

وإذا كانت الحداثة قد وعدت بالتحرر من الجهل عبر العلم والتقنية، فإنها أنتجت أشكالًا جديدة من الجهل. جهلًا تتكفل التقنية نفسها بصناعته، لأنه لا يقوم على نقص في المعطيات، بل على فرط في تدفقها، وعلى إيهام الإنسان بأنه يمتلك المعرفة لمجرد أنه يلامس واجهاتها الرقمية. هنا يظهر ما يشبه "الجهل الرقمي المركّب"، حيث تزداد الثقة الذاتية بازدياد الأدوات، ويقلّ الوعي بازدياد الاعتماد عليها.

فالجهل لا يُفهم إلا داخل حقل المعرفة، كما أن المعرفة لا تكتمل إلا بوعيها بحدودها. هذا ما شدّد عليه كانط حين جعل من "حدود العقل" شرطًا لفهم إمكاناته، ثم عمّقه كارل بوبر بإقراره أن قابلية الخطأ هي جوهر الموقف العلمي. فالمعرفة ليست حالة رسوخ، بل حركة يقظة بين الشكّ والاختبار والتصحيح. أمّا حين تتوقف عن مساءلة ذاتها، فإنها تنقلب إلى أيديولوجيا: نظام مغلق يبرّر ذاته ذاتيًا ويحوّل معتقداته إلى حتميات.

من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تأسيس إبستمولوجيا نقدية تجعل من المعرفة فعلًا إنسانيًا لا تقنية صمّاء، وتفصل بين التفكير والتقليد، وبين الفهم والاستهلاك. نحن بحاجة إلى عقل يدرك أنه محدود، وإلى فكر يمارس الشكّ باعتباره منهجًا للحماية من الوهم، لا كحالة عدميّة.

إن "الجهل الواعي"، أي إدراك المرء لجوانب ما يجهله، ليس نقيضًا للمعرفة، بل شرطها الأول. فمن لا يعرف حدود معرفته، يظلّ عرضة للتحول إلى مجرّد مستهلك للأفكار، لا إلى صانع لها. والإبستمولوجيا الجديدة التي يحتاجها العالم اليوم ليست تلك التي تَعِد بحقيقة كاملة، بل التي توفّر أدوات دائمة للتساؤل، للحفر في المعنى، ولتفكيك ما يبدو بديهيًا.

ليست خطورة الجهل في غيابه، بل في قدرته على التسرّب إلى أنماط التفكير اليومية دون أن يعلن عن نفسه. فمجتمع المعرفة الحقيقي ليس من يملك أكبر قدر من المعلومات، بل من يمتلك القدرة على تحويل هذه المعلومات إلى وعي نقدي. ولذلك، فإن المعركة المعرفية الكبرى للإنسان المعاصر ليست بين الجهل والمعرفة، بل بين الوهم والحقيقة. بين منطق الاستهلاك ومنطق الفهم. بين إنسان يفكر كي يوسّع أفق وجوده، وإنسان توقف عن السؤال فصار أسيرًا لما يُملى عليه.

إن المعرفة التي لا تنتج سؤالًا ليست معرفة حيّة، والجهل الذي لا يُفضي إلى وعي حدوده يتحوّل إلى استعمار صامت للعقل. هكذا يصبح مستقبل الفكر مرهونًا بقدرتنا على التمييز بين ما نعرفه حقًا، وما نظن أننا نعرفه.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

هل آن الأوان أن نعيد الاعتبار للإنسان؟ لا بوصفه ظلا لطائفة، ولا حارسا لعقيدة، ولا مجرد رقم في قطيع، بل ككائن حر، ينبض بالمحبة، ويزدهر في فضاء الاختلاف، ويتوق إلى آفاق يتعذر اختزالها في يقين واحد؟

لقد طال بالإنسان زمن التشييء. تقاذفته الأنظمة، وغربته الأيديولوجيات، وسجنته الهويات في قوالب ضيقة صلبة، حتى غدا يخاف ذاته، ويستبدل أسئلته الحارقة بأجوبة جاهزة، ويكتم حدسه العميق خوفا من العزلة أو الاتهام. ففي مجتمعات تقدس الانتماء على حساب الفرد، تصبح الحرية تهمة، ويصبح الاختلاف جريمة. لكن، أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذا كله؟ أليس في الكائن البشري نفحة من اللامحدود، من المحبة التي لا تعترف بالحدود، ومن العقل الذي يرفض أن يختصر في سردية واحدة؟

 أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذه القيود؟ أليس هو الكائن الوحيد القادر على أن يشك في يقينه، وأن يحب المختلف عنه، وأن يمد الجسور نحو ما لا يشبهه؟

لقد آن للثقافة، إن أرادت أن تستعيد نبضها، أن تتخفف من أثقال الحراس والمفسرين، وأن تعود إلى ما يجعلها جديرة باسمها: إلى السؤال، إلى الانفتاح، إلى الجمال. فالثقافة، في أنبل تجلياتها، ليست سلاحا في يد سلطة، ولا مرآة لطائفة، بل هي لقاء بين الذوات، وبحث لا ينتهي عن المعنى، ومجال يتسع لتعدد الأصوات.

وإذا كانت الحضارات تنهض حين يمنح الإنسان حقه في أن يكون حرا، فإن الانغلاق لا ينتج إلا العنف، والخوف، والتقوقع. إن الإنسان لا يختصر في لونه، أو جنسه، أو عقيدته، ولا يقاس بمقدار ولائه للهوية. الإنسان كائن عبور، لا قرار له في الجمود، ولا خلاص له إلا في الترحال بين الأسئلة. ولعل أجمل ما فيه أنه قابل للحوار، وللمسامحة، وللاعتراف بالآخر، لا بوصفه خصما، بل مرآة تعكس ذاته في اختلافها.

لم يصنع الفكر الإنساني نهضته إلا حين احتفى بالاختلاف، واحتضن الحرية، وآمن بأن الحقيقة لا يمكن أن تصادر باسم يقين واحد

نعم، نستطيع أن نعيد الاعتبار للإنسان. ليس هذا حلما طوباويا، بل ضرورة أخلاقية وفكرية. فالمجتمع الذي لا يرى في الفرد أكثر من تابع، يعد مشروعا للقمع المؤجل. والثقافة التي تخاف من الحرية، تخفي في طياتها نداء للاستعباد. أما حين نصغي للإنسان لا كناطق باسم جماعة، بل ككائن يفتش عن ذاته، عندها فقط تشرق الثقافة بوجهها الكوني، وتستعيد اللغة عذوبتها، والفكر نُبله، والعالم روحه.

إنها دعوة إلى تحرير الإنسان من الأغلال التي صنعها لنفسه، أو فرضت عليه باسم الخلاص. دعوة لأن نحب لا على الرغم من الاختلاف، بل بفضله. لأن نختار التفكير لا التكرار، وأن نجعل من الثقافة احتفالا بالمعنى، لا مرآة للخوف

فهل نجرؤ؟

***

ابتهال عبد الوهاب

 

 

لقد دفع التقدم العلمي والثورة الصناعية وأفكار فلاسفة التنوير عجلة التطور الاجتماعي في أوروبا الغربيه إلى الأمام لبناء أنظمة ديمقراطية ليبرالية حديثة تلتزم بالعقلانية والموضوعية والمعرفة العلمية.

قبل أن نستعرض بعض فلاسفة عصر التنوير، لا بد أن نذكر شخصين يعتبران من أهم الشخصيات المبكرة في عصر التنوير: سبينوزا وابن رشد، اللذين استطاعا تحقيق التناغم بين العلم والدين والفلسفة، وضرورة استخدام العقل والمنطق لفهم النصوص.

إيمانويل كانط: (ولد في 22 أبريل 1724 - توفي في 12 فبراير 1804)

يعتبر كانط أحد أبرز المفكرين في عصر التنوير، وتبني أفكاره العقلانية رينيه ديكارت، والتجريبية فرانسيس بيكون. ويُعد كتابه "نقد العقل المحض" الذي نُشر في عام 1781، من أبرز الأعمال الفلسفية، حيث اوضح كانط فيه دور العقل البشري في تكوين المعرفة، ومحدودية القدرات العقليه في فهم بعض المسائل الميتافيزيقية.

كان كانط فيلسوفًا عقلانيًا وأخلاقيًا، وفي كتابه "أساسيات ميتافيزيقا الأخلاق"، اقترح أن الأفعال يجب أن تُقيَّم بناءً على نية الفاعل وليس فقط على نتائج الفعل.

ميخائيل باكونين (ولد في روسيا عام 1814 - توفي في برن، سويسرا عام 1876)

اشتهر ميخائيل باكونين بنظريته الفوضوية، وأن البشر يجب أن يتمردوا ضد السلطة من أجل أن يكونوا أحرارًا. رفض باكونين سلطة اي عقيده تجعل الإنسان يعيش في حالة خوف دائم. أشار باكونين إلى أن هدف الدولة الاستبدادية هو إبقاء الشعب في حالة من الطفولة الدائمة معتمدًا على الحكومة كمعلم ومرشد. كما أوضح باكونين أن آلية الطاعة هي آلية الإلغاء، وتزيف الواقع، وتجعل الأفراد يعتقدون أنهم يعملون من أجل الصالح العام بينما هم في الواقع يعيشون ما أسماه ماركس "الوعي الزائف“.

فريدريك نيتشه (ولد في 15 أكتوبر 1844 - توفي في 25 أغسطس 1900، ألمانيا)

طرح نيتشه فكرة "موت الإله" لتعبر عن انهيار القيم الدينية المسيحية التقليدية في أوروبا الحديثة، وكان يدرك أن فكرته عن "موت الله" سوف تسبب فراغًا أخلاقيًا وروحيًا قد يؤدي إلى "العدمية". ولكنه اعتبرها فرصة لمواجهة الواقع بشجاعة، وطرح فكرة "الإنسان الأعلى" الذي يستطيع خلق نظام أخلاقي جديد من خلال قوته الذاتية وإرادته والإبداع الشخصي.

اعتبر رجال الدين إعلان نيتشه عن "موت الله" بمثابة هجوم قوي على المبادئ الدينية ودعوة إلى الفوضى الأخلاقية.

سيجموند فرويد (ولد في 6 مايو 1856، فرايبرغ، النمسا - توفي في 23 سبتمبر 1939، لندن، إنجلترا)

ابتكر فرويد التحليل النفسي، وكان يعتقد أن المفاهيم الدينية انتقلت إلينا من أسلافنا الأوائل دون إثارة أي تساؤل حول صحتها، وأن الأديان ممارسة لـ"اضطراب الوسواس القهري".

شرح في كتابه "مستقبل الوهم" (1927) أن الإيمان بالله هو إسقاط لرغبات طفولية في التشبث بوجود الأب الحامي القدير، وان الاديان تقدم إجابات سهله لألغاز الكون، ومعنى الوجود، والحياة بعد الموت، وتوفر الأمان النفسي للانسان. كما أوضح فرويد أن القلق والتوتر والشعور بالذنب الذي يعاني منه الانسان سببه الصراع الداخلي بين القانون الإلهي والرغبة، وأنه صراع لا مفر منه، وأنه لا يمكن القضاء على الرغبة، ويمكن احتواؤها فقط.

ألبرت كامو (ولد في الجزائر 7 نوفمبر 1913 - توفي في فرنسا 4 يناير 1960)

حصل ألبرت كامو على جائزة نوبل للآداب في عام 1957، وهو في الرابعة والأربعين من عمره. وقد عبر في كتاباته عن عزلة الإنسان في عالم غريب، ومشكلة الشر، والحاجة إلى الدفاع عن قيم مثل الحقيقة والاعتدال والعدالة.

نشر كامو في عام 1942 مقالاً فلسفيًا مؤثرًا بعنوان "أسطورة سيزيف"، حيث حلل فيه العدمية المعاصرة والشعور بـ"العبث" في الكون غير المبالي. استخدم كامو في هذا المقال الأسطورة اليونانية "لسيزيف"، الملك الذي حكمت الآلهة عليه بدحرجة صخرة إلى أعلى التل، لتتدحرج الصخرة إلى أسفل كلما وصل إلى القمة. ويرمز هذا الصراع الأبدي إلى الحالة الإنسانية، حيث يسعى الأفراد إلى إيجاد المعنى في عالم لا يقدم أي معنى.

كان كامو متشائما، ورأى أن الكون لا معنى له، ويجب على الناس أن يتقبلوا الطبيعة العبثية للحياة،واعتبر الانتحار حلًا طبيعيًا لعبثية الحياة.

برتراند راسل (ولد في 18 مايو 1872 في ويلز - توفي في 2 فبراير 1970 في ويلز)

كان راسل مناضلًا من أجل السلام وكاتبًا مبدعًا في المنطق وفلسفة الرياضيات وفي الموضوعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1950.

اهتم راسل بالتعليم والقيم الأخلاقية في الزواج والممارسات الجنسية. نشر راسل عام (1945) كتابه الموسوعي "تاريخ الفلسفة الغربية"، الذي كان أكثر كتب راسل انتشارًا وحقق مكاسب مالية كبيرة حررته من أي ضغوط مادية.

كان راسل يؤمن بأن الدين يعزز الخوف والاتكالية، وسعي بجديه من اجل إيجاد نظرة عالمية علمية وإنسانية لمساعدة البشر في رحلة الوجود.

صمويل بيكيت (ولد في 13 أبريل 1906، دبلن، أيرلندا - وتوفي في 22 ديسمبر 1989 في باريس، فرنسا)

يعتبر بيكيت من أهم الكتاب في القرن العشرين، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1969. وكانت أشهر مسرحياته "في انتظار جودو " 1952 التي تعد استكشافًا بارعًا للحالة الإنسانية، وعبثية الحياة، والتذبذب بين الأمل واليأس، والميل البشري إلى التشبث بالأمل حيث ينتظر البشر بلا نهاية شيئًا قد لا يصل أبدًا. أدرك بيكيت أيضًا أهمية الروابط الإنسانية في توفير العزاء في وجود قاتم يكافح فيه الإنسان لفهم الحقيقة في عالم غير مبالٍ تتكرر فيه الأفعال والمحادثات.

ختامًا، إن الثقافة السائدة حاليًا في مجتمعاتنا العربية تعيق التقدم والتنوير، ولا بد من مواجهتها بشجاعة من أجل الأجيال القادمة. وذلك بنشر الثقافة العلمية والمعرفة الموضوعية، والتمسك بقيم الحداثة، لدفع عجلة التقدم من جديد، والخروج من كهف التخلف والركود الفكري ووهم المعرفة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

الزبائنية كآلية هيكلية لتدمير ثقافة القبول وحقوق الإنسان الشاملة

مقدمة: المواطنة في عين العاصفة، أو الوهم الكبير

صوت يرتفع ضدّ الأوهام

في عالمنا العربي - وغير العربي -، كثيراً ما نتحدّث عن "الاختلاف والتنوع" وكأنها ميداليات فخرية نعلّقها على صدورنا. ونُطلق الشعارات الرنانة حول "قبول الآخر"، ونتغنى بقدسية "حقوق الإنسان" كأنها منجزات راسخة لا يمسّها سوء. ونُقيم المؤتمرات عن "المواطنة" ونكتب عنها أضخم المجلدات.

ولكن، مهلاً! دعونا نتوقف عن هذا الهذيان المريح.

إن هذه المفاهيم النبيلة – التنوع، الحقوق، المواطنة – ليست سوى أكاذيب مزخرفة إذا ظلت حبراً على ورق، أو مجرد ترف فكري يمارسه النخبة في أروقة مغلقة. هذه المفاهيم تعيش اليوم حالة اغتيال صامت، لا بسلاح الديكتاتورية المباشر كما قد نتخيل، بل بـ "فيروس الزبائنية" الخبيث الذي تسلّل إلى أعمق شرايين المجتمع والدولة، ليحوّل العقد الاجتماعي كله إلى سوقٍ مظلم للمنافع والولاءات.

إن هذه الدراسة ليست عن كيفية تحقيق التنوع المثالي، فهذا قد كُتب عنه ما يكفي. بل هي إعلان حرب فكرية على الآلية الهيكلية الأكثر فتكاً التي تمنع التنوع الحقيقي من الازدهار، والتي تحوّل المواطن صاحب الحق إلى مجرد "عميل" أو "زبون" ينتظر الإحسان والمنّة: إنها الزبائنية (Clientelism).

الزبائنية: السرطان الذي يأكل المواطنة من الداخل

فلنسمي الأشياء بأسمائها: الزبائنية ليست مجرد فساد عابر أو محسوبية هنا وهناك. إنها نظام حكم موازٍ، وهيكل اجتماعي بديل يستبدل سلطة القانون بسلطة العلاقات، ويستبدل مبدأ الكفاءة بمبدأ الولاء والانتماء.

في ظل المواطنة الحقيقية، أنت تمتلك حقك في التوظيف، في العلاج، في العدالة، لأنك إنسان و مواطن، وهذا استحقاق عالمي وغير قابل للتجزئة (Universal Entitlement).

لكن الزبائنية تأتي وتصفع هذا المفهوم ببرود قاتل. تقول لك الزبائنية: "حقك غير موجود، لكن خدمتك موجودة... إذا عرفت كيف تصل إلى 'الراعي' أو 'الشفيع' المناسب، وإذا أثبتّ له ولائك القبلي أو الطائفي أو الحزبي."

هذا هو الجوهر المشاكس لأطروحتنا: الزبائنية لا تُبقي على مفهوم حقوق الإنسان إلا كـ صدقة تُمنح وكأنها امتياز، وتُفرّغ المواطنة من محتواها الأخلاقي والسياسي لتصبح مجرد هوية إجرائية بلا قيمة فعلية، حيث لا يوجد تكافؤ أمام القانون ولا تكافؤ في الفرص، بل مجرد تنافس محموم على كسرة خبز تُرمى من مائدة الزبائنية.

خيانة التنوع وقبول الآخر

والسؤال الفج الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لمجتمع أن يدّعي قبول الآخر وهو في جوهره لا يقبل إلا من يدخل تحت مظلة شبكة النفوذ المهيمنة؟

التنوع الحقيقي يتطلب مؤسسات حيادية، تضمن تكافؤ الفرص بغض النظر عن الانتماء. لكن الزبائنية تحوّل التنوع إلى محاصصة سياسية، حيث تُقسم الكعكة الوطنية بين "شيوخ الزبائنية" بمختلف ألوانهم، ليقوم كل شيخ بتوزيع "حقوق" جماعته الخاصة، ويصبح من لا ينتمي إلى هذه الشبكات مواطناً من الدرجة الثانية، أو حتى مواطناً "غير مرئي" تماماً.

- عندما يُعيّن شخص بناءً على قرابته، هل هذا قبول للتنوع أم خنق للكفاءة؟

- عندما تُنجز معاملات فرد بناءً على وساطته الحزبية، هل هذه مواطنة أم رشوة مقنّعة؟

إن الزبائنية تصنع غرباء داخل الوطن، ليس بسبب اختلافاتهم الفكرية أو الدينية، بل لأنهم خارج دائرة الولاء المُنتفع. قبول الآخر في ظل الزبائنية هو مجرد هدنة تكتيكية تُفرض حتى يتمكن اللاعبون الكبار من إدارة حصصهم، وليس قناعةً بمساواة جوهرية.

المنهجية: تشريح العدو وإعادة بناء الوعد

إن هذه الدراسة تنطلق من مبدأ أننا يجب أن نُعيد الاعتبار إلى المفاهيم النبيلة عبر مواجهة خصمها الشرس.

نحن سنرفض اللغة الوردية والتحليلات السطحية. سنذهب إلى حيث يكمن الألم:

1. سنُفكك هيكل المواطنة الشاملة (الفصل الأول) لنُثبت مدى الجمال والنظام الذي كان من الممكن تحقيقه.

2. سنُشرّح آليات الزبائنية (الفصل الثاني) لِنُظهر كيف تعمل كـ "آلة تدمير" صامتة للعقد الاجتماعي.

3. سنربط هذا التدمير مباشرةً بـ تآكل ثقافة القبول والتنوع (الفصل الثالث)، مُبرهنين على أن الانحطاط الأخلاقي في التعامل مع الآخر ما هو إلا نتيجة حتمية للانحطاط المؤسسي.

وفي الختام، لن نكتفي بالتشخيص، بل سنُقدّم خارطة طريق للمواجهة (الفصل الرابع)؛ خارطة طريق لا تتحدث عن مجرد "مكافحة الفساد" الشكلي، بل عن تفكيك نظام الزبائنية نفسه واستبداله بـ مواطنة مؤسسية شفافة وغير قابلة للاختراق.

إنها دعوة إلى التمرد الفكري. لن ينجو التنوع ولا حقوق الإنسان ولا المواطنة من هذا المستنقع إلا إذا اعترفنا جميعاً بأن العدو ليس خارجنا، بل هو ذلك النظام الموازي الذي يبيع حقوقنا في الخفاء تحت غطاء "الخدمة" و"الشفاعة".

فلنبدأ هذا العمل الجراحي المؤلم..

الفصل الأول: الأساس النظري: وعد المواطنة الجامعة وحقوق الإنسان (الخيار الوحيد)

تمهيد: المأساة في أن نُبرّر وجودنا

لنتفق على أمرٍ جوهري قبل البدء: هذا الفصل ليس مجرد استعراض لطيف للمفاهيم المثالية، بل هو بيان دستوري وأخلاقي نُشهره في وجه الخراب القائم. إنه يمثل "المدينة الفاضلة" التي يجب أن نُقارع من أجلها، لنتمكن في الفصل القادم من كشف زيف "المدينة الزبائنية" التي نعيشها.

إن المأساة الكبرى في عالمنا اليوم ليست في غياب التنوع، فالخالق قد أبدعه فينا. المأساة تكمن في أننا ما زلنا نضطر إلى كتابة فصول كاملة للدفاع عن حق الإنسان في أن يكون مختلفاً، وعن واجب المؤسسات في أن تكون محايدة. هذه الحاجة المُلحّة في حد ذاتها دليل إدانة على أننا سقطنا في فخ الأنانية القبلية والزبائنية الهيكلية.

إننا هنا لنُعيد بناء الإطار النظري الذي يجب أن يكون هو الخيار الوحيد لأي مجتمع يدّعي التحضّر: إطار المواطنة الشاملة التي لا تعرف المساومة، والحقوق العالمية التي لا تقبل التجزئة. فإما أن نكون مواطنين بالكامل، أو أن نعود إلى كهوف الولاء الضيقة. لا يوجد حل وسط، ولا يمكن أن يكون هناك حياد تجاه حقوق الإنسان.

المبحث الأول: الاختلاف والتنوع: المورد الاستراتيجي لا العبء الإداري

لقد جرت العادة في كثير من بلداننا، للأسف، على النظر إلى التنوع (العرقي، الديني، الثقافي، الفكري) بوصفه قنبلة موقوتة يجب إدارتها بالتهدئة والاحتواء، أو كمشكلة مزمنة يُمكن "مكافحتها" بالتنميط القسري. يا له من إفلاس فكري وإداري! إن هذا المنظور السلبي هو أول خرق لوعد المواطنة الجامعة.

في المقابل، يجب أن نرفع التنوع إلى مصاف "المورد الاستراتيجي". فالتنوع يعني تعدد زوايا النظر، يعني حلولاً أكثر ابتكاراً للمشكلات المعقدة، ويعني ثراءً حضارياً يرفد الهوية الوطنية بدلاً من أن يهددها. إن المجتمع المتنوع الذي يحترم أطيافه هو المجتمع الأكثر قدرة على الصمود في وجه التحديات، لأنه يمتلك آليات تكيف أوسع وقاعدة عريضة من الخبرات المختلفة (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي، الوثيقة الرسمية، 2001، ص 1).

إن القبول بالتنوع ليس مجرد فضيلة أدبية؛ إنه ذكاء اجتماعي. إن المجتمع الذي يخشى تنوعه هو مجتمع خائف من ذاته، يحكم على نفسه بالعقم والجمود. وعندما تُسخّر المؤسسات قوتها لإخفاء هذا التنوع أو قمعه، فإنها لا تُحقق الاستقرار، بل تُشيّد جدراناً من الهشاشة الداخلية التي سرعان ما تنهار عند أول عاصفة.

المبحث الثاني: قبول الآخر: من منّة الشفقة إلى واجب المؤسسة

نتحدث كثيراً عن "قبول الآخر" وكأننا نتصدق عليه ببعض التعاطف. إن هذه اللغة في حد ذاتها مُهينة وتفترض العلاقة العمودية بين السيد والخاضع. قبول الآخر ليس عملاً خيرياً يُثاب عليه الفرد، بل هو واجب مؤسسي وشرط أساسي لشرعية الدولة الحديثة.

إذا أردنا أن نخرج من وهم "الشفقة الطائفية" وندخل في فضاء "المواطنة العادلة"، يجب أن نُقر بأن: قبول الآخر هو في جوهره الالتزام بحقه الكامل في أن يكون مساوياً لك تماماً أمام القانون، بغض النظر عن انتمائه.

يُشير المفكرون في الفلسفة السياسية إلى أن هذا القبول المؤسسي يرتكز على مبدأ "الاحترام العام" (Public Reas-n)، حيث لا يجوز للدولة أن تفضل منظومة قيمية معينة على حساب أخرى. هذا الاحترام يجب أن يكون إلزامياً وغير قابل للتفاوض، ويجب أن يترجم إلى آليات دستورية وإدارية تضمن:

1. الوصول المتساوي إلى الخدمة العامة: يجب أن تكون المؤسسة "عمياء" تجاه انتمائك، تخدمك لأنك مواطن (الجابري، محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 59).

2. التمثيل العادل: حيث تُكفل المشاركة السياسية دون تهميش، ولكن ليس بناءً على نظام "المحاصصة الزبائنية" الذي يُكرّس التقسيمات، بل بناءً على الكفاءة والتنافس الشريف.

إن مجرد "التحمل السلبي" للآخر ليس قبولاً؛ إنه استسلام اضطراري. أما القبول الحقيقي فهو احتضان إيجابي للاختلاف كجزء أصيل من النسيج الوطني، وتجريم أي خطاب أو ممارسة تؤدي إلى الإقصاء.

المبحث الثالث: حقوق الإنسان: استحقاقات عالمية لا امتيازات ملوكية

هنا يجب أن نرفع صوتنا بحدة: حقوق الإنسان، كما نص عليها الإعلان العالمي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948، المادة 1)، هي حقوق متأصلة في الطبيعة البشرية؛ تُمنح بمجرد الميلاد، ولا تُنزع إلا بانتهاك القانون. إنها ليست هبات من حاكم كريم، ولا مُنحاً تُصرف بمرسوم خاص.

إن اللعبة القذرة التي تُمارسها الأنظمة التي تتغذى على الزبائنية، هي محاولة تقزيم هذه الحقوق وتحويلها إلى "امتيازات" يتمتع بها المقرّبون، أو "خدمات" تُقدم للولاة، بينما يُجرد منها المُعارضون أو المُهمّشون. هذا هو التزييف الأخطر لوعد المواطنة.

علينا أن نؤكد بقوة على مبدأين جوهريين تُحاول الزبائنية قتلهما:

1. العالمية والشمولية (Universality): حقوق الإنسان لا تتغير بتغير الحدود أو الأنظمة السياسية، ولا يجوز للدولة أن تبتدع تعريفاً خاصاً للحقوق يتماشى مع مزاجها أو مصالحها. هي قائمة على فكرة أن كل إنسان هو غاية في حد ذاته (Kant، Immanuel، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: حنّا مخول، دار التنوير، بيروت، 2004، ص 45).

2. الترابط وعدم التجزئة (Indivisibility): لا يمكن تجزئة الحقوق إلى "حقوق اقتصادية" يُسمح بها، و"حقوق سياسية" تُمنع. الحق في العمل مرتبط بالحق في التعبير، والكرامة الإنسانية لا تتجزأ. إن محاولة فصل هذه الحقوق عن بعضها البعض هي خطة منهجية لتركيع المواطن وجعله يعيش في حالة دائمة من التبعية المُذلة.

إن أي نظام يمارس الفصل بين الحقوق السياسية والاجتماعية، أو بين مواطن وآخر بناءً على انتمائه، هو نظام خارج عن منظومة حقوق الإنسان حتى لو ادّعى ذلك زوراً. فالحقوق ليست طعاماً شهياً يُقدم للبعض فقط؛ إنها الهواء الذي يتنفسه الجميع وإلا اختنق المجتمع كله.

المبحث الرابع: المواطنة الجامعة: العقد الاجتماعي غير القابل للفسخ

المواطنة الجامعة هي التتويج لكل ما سبق. إنها العقد الاجتماعي الوحيد المقبول في العصر الحديث. هي ليست مجرد جنسية أو وثيقة هوية، بل هي منظومة حقوق وواجبات متساوية، حيث الدولة هي "مؤسسة خدمة عامة" لجميع مواطنيها على قدم المساواة، والمواطن هو "صاحب سيادة" فيها.

إن المواطنة التي ندعو إليها هي مواطنة تُبنى على ركيزتين لا تنفصلان:

1. المساواة القانونية المطلقة: لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، الأغلبية والأقلية. فالقانون هو السقف الذي يحمي الجميع وهو السيف الذي يُطبق على الجميع بنفس الحدّة (الريس، محمد، الحقوق والواجبات في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 115).

2. المساواة في الفرص والإتاحة (Equity): يجب على الدولة أن تتدخل بشكل إيجابي لإزالة العوائق الهيكلية التي تمنع الفئات المُهمشة من الوصول إلى الخدمات والفرص، لضمان أن المساواة القانونية لا تبقى مجرد شعار أجوف.

إن المواطنة الجامعة ترفض بحدة أي شكل من أشكال "المواطنة الطبقية"، بما في ذلك ما يُسمى "المواطنة الزبائنية". فالمواطنة الزبائنية ليست مواطنة على الإطلاق؛ إنها نظام ولاء متبادل بين الراعي والزبون، يحوّل الحقوق إلى مُقايضات، ويُبقي المواطن رهينة لتبعية مُذلة.

عندما نُدافع عن هذا الإطار المثالي، فنحن لا نحلم بيوتوبيا مستحيلة، بل نُطالب بالحد الأدنى من الكرامة والعدالة التي نصت عليها دساتيرنا وأعرافنا الإنسانية.

هذا الفصل، إذاً، هو بمثابة بيان الاتهام الموجه ضد كل من يحاول إفساد هذا الوعد. لقد وضعنا المعايير؛ وفي الفصل القادم، سنرى كيف أن "الزبائنية" هي التحدي الأكبر الذي يضرب هذه المعايير في مقتل، مُحوّلاً التنوع إلى فتنة، وقبول الآخر إلى رياء، وحقوق الإنسان إلى سِلعة تُباع في سوق النخاسة السياسية.

الفصل الثاني: تشريح التهديد: آليات عمل "الزبائنية" (الإطار الموازي لإنتاج الفساد)

تمهيد: الوجه الآخر للسلطة

أهلاً بكم في المنطقة المُظلمة من البحث. لقد انتهينا من رسم صورة "الجنة المفقودة" للمواطنة، وحان الوقت لِنُشعل ضوءاً كاشفاً على "الجحيم الذي صنعناه بأيدينا".

هذا الفصل هو عملية جراحية بلا تخدير، لـ تشريح التهديد الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا: الزبائنية.

 لا يمكننا مكافحة ما نرفض تسميته أو نفهم آلياته

.في الفصل الأول، أشرنا إلى أن حقوق الإنسان والمواطنة هي نظام عمودي مُنظَّم بالقانون، يضمن المساواة بين الجميع. لكننا هنا سندخل إلى النظام الموازي والأفقي والمُختبئ؛ النظام الذي لا يظهر في الدساتير، لكنه يحكم الواقع: إنه "نظام الزبائنية".

الزبائنية (Clientelism) ليست مجرد كلمة في قاموس الفساد، إنها اقتصاد سياسي كامل يرتكز على تدمير مفهوم "المواطن المستقل" واستبداله بـ "الزبون التابع". إنه ليس سوء إدارة، بل هو إدارة استراتيجية للتبعية.

إذا كانت المواطنة هي وعد بالحرية والاستحقاق، فإن الزبائنية هي وعد بالنجاة مقابل التنازل عن الكرامة والحرية. إنها نظام يعمل في وضح النهار معتمداً على تواطؤ الضحية، ونحن هنا لنفضح هذا التواطؤ.

المبحث الأول: تعريف وتفكيك "الزبائنية": نظام المقايضة القذرة

الزبائنية، في أبسط تعريف لها، هي تبادل خدمات وموارد مقابل دعم سياسي أو اجتماعي أو ولاء شخصي غير رسمي. إنها علاقة غير متكافئة بين "راعي" يمتلك الموارد والسلطة (الطرف الأقوى)، و "زبون/عميل" يفتقر إليها (الطرف الأضعف) [cite: سكوت، جيمس سي، الاقتصاد الأخلاقي للفلاح: الثورات والحرب الخفية للطبقات الدنيا، ترجمة: أسامة الغزالي حرب، دار العين، القاهرة، 2010، ص 41].

الجوهر المشاكس هنا هو أن الزبائنية تستهدف المؤسسات الديمقراطية وتفرغها من محتواها:

1. الولاء مقابل الخدمات: يشتري الراعي ولاء الزبون عبر تقديم خدمة أو مساعدة (وظيفة، ترخيص، تساهل قانوني). هذه الخدمة هي حق أصيل للمواطن، لكن الزبائنية تُحولها إلى "هبة شخصية".

2. المحاصصة والمحسوبية: تستبدل الكفاءة بالانتماء، حيث تُوزع المناصب والثروات على شبكات الولاء (العائلة، الطائفة، الحزب) كنوع من "أجرة الولاء"، وليس بناءً على الاستحقاق الوطني. إنها تقسيم للسلطة والثروة لا لخدمة الدولة، بل لـ "رضاء المُنتمين" [cite: الحنفي، حسن، اليمين واليسار في الفكر الديني، دار التنوير، بيروت، 1989، ص 175].

3. تبادل المنفعة غير المتكافئ: العلاقة ليست تبادلاً نزيهاً، بل هي إدامة للتبعية. الزبون يحصل على منفعة عاجلة، لكنه يدفع ثمناً باهظاً على المدى الطويل: صوته، استقلاليته، وحقه في الاعتراض.

إننا لا نتحدث عن رشوة فردية؛ نحن نتحدث عن منظومة ثقافية تُعلّم الأجيال أن القانون لا يحميهم، بل الواسطة والشفيع. الزبائنية هي التي تقول للمواطن بصوت خافت: "لا تضيع وقتك في الإجراءات الرسمية النظيفة، اذهب مباشرة إلى الرجل الذي بيده مفتاح الخزنة".

المبحث الثاني: الزبائنية ضد المواطنة: اغتيال الاستحقاق

هنا يكمن التدمير الأكثر إيلاماً. المواطنة، كما أسلفنا، هي وضع قانوني يضمن ويعطي الحقوق بمجرد الانتساب إلى الوطن. أما الزبائنية، فتجعل الحقوق مرهونة بـ "الانتساب إلى الشبكة".

1. تحويل الحق إلى منّة وامتياز: الهدف الاستراتيجي للزبائنية هو تفريغ القانون من قدسيته. عندما يضطر المواطن للذهاب إلى "النائب" أو "الشيخ" ليحصل على تصريح بناء أو ليُعالج ابنه في مستشفى عام (وهو حق من حقوقه)، فإن "الراعي" السياسي يُظهر نفسه كـ "مُحسِن" وليس كـ "موظف عام" يقوم بواجبه. هذا الفعل ينسف كل مفهوم للمساءلة والمسؤولية [cite: الشرايبي، عبد القادر، الزبونية السياسية والسلطة في المجتمعات العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص 70].

2. خلق حالة "الاعتمادية المُذلة": الزبون الذي حصل على الخدمة بـ "واسطة" يشعر بالامتنان الشخصي لـ "الراعي"، وليس بالامتنان للدولة ومؤسساتها. هذا يرسخ في وعيه فكرة أن النظام الرسمي لا يعمل، وأن نجاته مرهونة بـ إدامة ولاءه للشبكة. هذا التبعية هي نقيض الحرية التي هي جوهر المواطنة الحقة.

3. قتل المواطنة الفاعلة: لماذا يشارك المواطن في الانتخابات أو يراقب أداء حكومته إذا كان يعلم أن وصوله إلى حقوقه لا يعتمد على الإجراءات الديمقراطية الشفافة، بل على همسة في أذن مسؤول؟ الزبائنية تُحوّل المواطن من فاعل سياسي مُطالب إلى متسول صامت لا يُسمح له بالصوت إلا في لحظة الولاء (الاقتراع للراعي).

إننا أمام عملية اغتيال ممنهج لوعد المواطنة، حيث تتحول الديمقراطية إلى مسرحية شكلية تُمارس لإضفاء الشرعية على شبكات التبادل السرية.

المبحث الثالث: إنتاج اللامساواة: المواطنون "الأشباح" والطبقات الزبائنية

الزبائنية لا تُنتج الفساد فحسب، بل تُنتج طبقات اجتماعية وقانونية غير رسمية داخل المجتمع. المواطنون يُقسمون قسراً إلى مجموعتين لا علاقة لهما بالجهد أو الكفاءة:

1. المواطنون "الأصلاء" (الزبائن): وهم الذين ينتمون إلى شبكات النفوذ، يحصلون على فرص التعليم والوظائف والعدالة بسهولة نسبية. بالنسبة لهم، النظام يعمل... ولكن ليس وفقاً للقانون، بل وفقاً للولاء.

2. المواطنون "الأشباح" (الضحايا): وهم الذين يعتمدون على القانون، يرفضون الدخول في لعبة الزبائنية، أو ببساطة لا يملكون "الواسطة" اللازمة. هؤلاء يُعاقبون ببطء ووحشية: يتعطل علاجهم، تُركل ملفاتهم، تُرفض طلباتهم رغم استحقاقهم. [cite: إدوارد سعيد، تأملات في المنفى، ترجمة: عبد الكريم الزياني، دار الآداب، بيروت، 2004، ص 101]. إنهم موجودون في السجلات لكنهم غير موجودين في معادلة الوصول إلى الحقوق.

هذه اللامساواة الزبائنية هي قنبلة موقوتة تُهدد كل مفهوم للتنوع وقبول الآخر. كيف يمكن للشباب، على سبيل المثال، أن يؤمن بقبول الآخر، إذا كان الآخر هو الذي يسرق فرصته في التوظيف بسبب انتمائه الطائفي أو القبلي لشبكة الراعي؟ الزبائنية هي التي تُنتج الكراهية والتقسيمات الاجتماعية عبر توزيعها الجائر للموارد.

المبحث الرابع: الزبائنية وقمع التفكير: العقل المُعلّق للزبون

وهنا نضيف مبحثاً رابعاً ليكتمل التشريح، وهو يتعلق بأخطر آثار الزبائنية على التكوين الفكري للمجتمع. الزبائنية لا تُفسد المؤسسات فحسب؛ بل تُفسد طريقة التفكير وتُعلق عمل العقل النقدي.

1. موت العقل النقدي: في نظام الزبائنية، لا يُشجع الزبون على النقد أو التفكير المستقل أو حتى المطالبة بالإصلاح. لماذا؟ لأن بقاءه مرهون بالصمت والطاعة للراعي. النقد هو تهديد للعلاقة، والمطالبة بالشفافية هي خيانة لـ "الشفيع" الذي أنقذه. هذا الوضع يُنتج أفراداً غير قادرين على التفكير بمنطق المواطنة الجامعة.

2. استبدال القانون بـ "الرغبة": بدلاً من أن يكون القانون هو المرجعية النهائية، تصبح "رغبة الراعي" أو "مزاج الشبكة" هي المرجعية. هذا يدمر مفهوم الثقة في المؤسسات ويجعل التوقع واليقين القانوني مستحيلاً. كل شيء يصبح مرهوناً بـ "من تعرف" و "كم أنت قريب" [cite: ميكيافيلي، نيقولو، الأمير، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت، 2004، ص 89، حيث يُشير إلى أهمية النفوذ الشخصي على القانون].

3. إدامة الخرافة الاجتماعية: الزبائنية تُعزز فكرة أن "الناس لا يمكنهم حكم أنفسهم" وأنهم بحاجة دائمة إلى "زعيم" أو "عرّاب" يحميهم ويجلب لهم الحقوق. هذا يُعيد إنتاج التبعية الأبوية ويقضي على أي محاولة لترسيخ الحكم الذاتي والمساءلة الديمقراطية.

هكذا، يتبين أن الزبائنية ليست ظاهرة هامشية، بل هي الهيكل الحاكم الفعلي الذي يلتهم كل آمالنا في المواطنة، ويحول مفاهيم التنوع وقبول الآخر إلى مجرد قناع يخفي وراءه نظاماً كاملاً من التمييز والاضطهاد. لقد كشفنا عن ماهية التهديد؛ وفي الفصل التالي، سنرى كيف يترجم هذا التهديد إلى دمار فعلي لنسيج المجتمع.

الفصل الثالث: الآثار المدمرة: الزبائنية وتدمير ثقافة القبول (النتائج الكارثية للتبعية)

لقد رسمنا في الفصل الأول لوحة المواطنة السامية، ثم شرّحنا في الفصل الثاني آلية تدميرها: الزبائنية. الآن، حان وقت النظر إلى الحطام. هذا الفصل هو عن النتائج الحتمية والمُدمرة للنظام الزبائني على النسيج الاجتماعي والإنساني.

نحن هنا لنُثبت أن الزبائنية ليست "طريقة عيش" يمكن التعايش معها، بل هي مُدمرة للقيم، ومُفجرة للاستقرار، وقاتلة لأي فرصة حقيقية لقبول الآخر

تمهيد: الوجه القبيح للمحسوبية

إذا كان هدف أي مجتمع متحضر هو بناء جسور الثقة والتعاون بين أفراده، فإن الزبائنية تعمل كـ "مدفعية" لتدمير هذه الجسور. إنها تُحوّل الاختلاف إلى مادة خام للاستقطاب، وتُحوّل المنافسة الشريفة على الموارد إلى حرب بقاء قذرة بين شبكات الولاء.

إن هذا الفصل لن يتحدث عن "الآثار الاجتماعية العامة" للفساد، بل عن تأثير الزبائنية المباشر والنوعي على مفاهيمنا التي بدأنا بها: التنوع، وقبول الآخر، والمواطنة الفعالة. لنكتشف كيف أن ثقافة المحسوبية ليست مجرد ظلم فردي، بل هي إعادة هيكلة للوعي تُجيز التمييز وتُشرعن اللامساواة.

المبحث الأول: تضييق مساحة القبول: إنتاج "الآخر" المُهمّش

الزبائنية، بطبيعتها، هي عملية استقطاب وحماية ذاتية تقوم على مبدأ "نحن مقابل هم". كل شبكة ولاء زبائنية تعمل على احتواء أعضائها (In-gr-up) عبر تقديم الخدمات والموارد، وفي المقابل، فهي تعمل على إقصاء وتهميش الآخر (-ut-gr-up) الذي لا يتبع لها.

هذا الإقصاء ليس عابراً؛ إنه إقصاء هيكلي يُكرّس مواطنة الدرجة الثانية:

1. المواطن "الزبون" مقابل المواطن "الضحية": المواطن الذي يجد فرصته في التوظيف أو العلاج عبر شبكة الزبائنية يشعر بالانتماء، بينما المواطن الذي يُرفض طلبه لأنه لا يمتلك "الواسطة" يشعر بأنه غريب في وطنه. هذا التهميش يولد شعوراً عميقاً بالظلم والغضب، ويقضي على أي قناعة بثقافة القبول .

2. تشويه مفهوم الكفاءة والعدالة: عندما يرى الفرد أن من هم أقل كفاءة منه يحصلون على أعلى المناصب لأنهم ينتمون لشبكة نفوذ معينة، يصبح لديه دافع قوي لـ رفض تلك الشبكة وأفرادها، حتى لو كانوا ينتمون إلى تنوع ثقافي أو ديني هو في الأصل يحترمه نظرياً. هنا، يتحول الاختلاف من ثراء إلى سبب للريبة والاتهام، لأن كل مجموعة ترى أن الأخرى تسرق حقها عبر الوسائل غير المشروعة.

إن الزبائنية ترفع جدراناً غير مرئية بين المواطنين. ليس قبول الآخر هو ما يتآكل فحسب، بل الثقة الأساسية في أن كل الأطراف تلعب وفقاً للقواعد ذاتها.

المبحث الثاني: تسييس التنوع: تحويل الاختلاف إلى أداة للصراع

هنا تُظهر الزبائنية وجهها الأكثر دهاءً وشراً. إنها لا تكتفي بتضييق مساحة القبول، بل تستغل التنوع الموجود أصلاً (الطائفي، العرقي، المناطقي) وتحوّله إلى أداة لإدارة الصراع والبقاء في السلطة.

نظام "المحاصصة" الطائفي أو العرقي، على سبيل المثال، ليس اعترافاً بالتنوع، بل هو تطبيق استراتيجي للزبائنية على مستوى الدولة:

1. المحاصصة كآلية زبائنية: يُقسم النظام المناصب والثروات على زعماء المكونات الرئيسية (الأطراف الزبائنية القوية). كل زعيم من هؤلاء يصبح "الراعي الأكبر" لجماعته، ويقوم بتوزيع المنافع والوظائف عليهم، مُلغياً بذلك مفهوم "المواطنة المباشرة" بين الفرد والدولة .

2. إدامة التقسيم وبث الكراهية: هذا النظام يُجبر الأفراد على التشبث بهويتهم الأولية (الطائفة/القبيلة) كطريق وحيد للنجاة، بدلاً من الانخراط في هوية وطنية جامعة. وفي كل مرة يحدث فيها صراع على الموارد، يتم تأطيره فوراً كصراع طائفي أو عرقي، بينما هو في حقيقته صراع بين شبكات زبائنية تتنافس على "حصة الزعامة". هذا التسييس للتنوع يقتل أي إمكانية للعيش المشترك الحقيقي، ويجعل كل مجموعة تنظر إلى الأخرى كـ "خصم سياسي أبدي" يسعى لسرقة حقوقها.

3. تجريد التنوع من العمق الفكري: بدلاً من أن يكون التنوع مصدراً للتعددية الفكرية والسياسية، تحوّله الزبائنية إلى مجموعة من الكتل المتجانسة داخلها (كل طائفة أو عرق)، تخضع لزعامة واحدة وتتبع أوامرها بشكل أعمى، مما يقتل الحوار البنّاء ويُعزز الانقسام الجاهز .

المبحث الثالث: تآكل الثقة والمواطنة الفعالة: ثمن التنازل

لقد رأينا كيف تُلغي الزبائنية مفهوم الحق وتستبدله بمفهوم المنّة. الأثر المدمر الأخير، والأكثر خطراً، هو تآكل الثقة الذي يضرب العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المواطنين أنفسهم، مما يُشلّ القدرة على المواطنة الفعالة.

1. موت الثقة في المؤسسات: عندما يرى المواطن أن المؤسسة الحكومية لا تحكمها الكفاءة بل الواسطة، وأن القضاء قد يتأثر بالانتماء، وأن القوانين تُطبّق على الضعفاء وتُعطّل من أجل الأقوياء، فإنه يفقد الثقة تماماً في فكرة الدولة الحديثة. هذا الانهيار في الثقة يدفع الناس نحو الانكماش على الذات، والبحث عن "الراعي" كملجأ أخير، مما يُعزز دورة الزبائنية الخبيثة.

2. شلل المطالبة بالحقوق المستقلة: إن عملية "شراء" ولاء المواطن عبر خدمات زبائنية (وإن كانت حقاً له) تضع المواطن في موضع الضعف الأخلاقي والسياسي. كيف يمكن للزبون أن يطالب بالشفافية والمساءلة من "الراعي" الذي أنقذه من براثن البيروقراطية؟ هذا يضمن أن المواطنين يتنازلون عن واجبهم في النقد والرقابة مقابل الحصول على خدماتهم. وهذا هو سر بقاء الزبائنية: قمعها لصوت المواطن المستقل.

3. إنهاء مفهوم الصالح العام: المواطنة الفعالة تتطلب أن يرى الأفراد أن مصلحتهم الشخصية تتقاطع مع المصلحة العامة. لكن الزبائنية تُعّلمهم العكس: مصلحتي الشخصية تكمن في الولاء لشبكتي الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. هذا التفكير يُحوّل أي مشروع وطني ضخم (تعليم، صحة، بيئة) إلى مجرد "غنائم" تُقتسم بين الشبكات، مما يُدمّر مفهوم التضامن الوطني وينذر بالانهيار المجتمعي في النهاية.

لقد اكتملت ملامح الصورة القاتمة. الزبائنية ليست مجرد سوء إدارة؛ إنها أيديولوجية قائمة على إدامة التبعية والتمييز. لقد رأينا كيف تقتل التنوع، وكيف تحطم الثقة، وكيف تجعل من كل مواطن لا يتبع الشبكة الحاكمة "شبحاً" في وطنه.

السؤال الملحّ الآن: هل نحن محكومون بهذا النظام المدمر؟ أم أن هناك سبيلًا لمواجهة هذه الآفة القاتلة وإعادة إحياء العقد الاجتماعي الضائع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفصل الأخير.

الفصل الرابع: خارطة طريق للتمرد: من المواطنة الزبائنية إلى الجمهورية النظيفة

تمهيد: جراحة جذرية لإنقاذ الوطن

لقد انتهى زمن الوعظ والإصلاحات الجزئية. المواطنة لا يمكن أن تنمو في بيئة مُلوثة بالزبائنية. إن نظامنا الحالي أشبه بمريض يحتاج إلى جراحة استئصال لجزء فاسد. إن لم ننزع سلاح الزبائنية السياسي والاقتصادي، فإن كل حديث عن حقوق الإنسان وقبول الآخر سيظل مجرد نكتة سمجة.

إن خارطة الطريق هنا ليست مجموعة من التوصيات، بل هي بيان ثوري من ثلاث محاور، يهدف إلى نسف مُبررات وجود الزبائنية نفسها.

المبحث الأول: نسف السلاح الاقتصادي: الإصلاحات التشريعية لـ "تجفيف المنفعة"

الزبائنية تزدهر عندما تكون الخدمات العامة (التعليم، الصحة، التوظيف) نادرة، أو عندما تكون عملية الوصول إليها معقدة. إننا بحاجة إلى تشريعات تُجفف المنفعة التي يبيعها "الراعي" السياسي:

1. الشفافية الراديكالية في التوظيف العام (القضاء على "سوق النخاسة"):

- التوظيف عبر المنصات الرقمية الموحدة: يجب حظر التوظيف المباشر بقرار إداري. يجب أن يكون التقديم للوظائف الحكومية على جميع المستويات (بما في ذلك الوظائف العليا غير السياسية) حصراً عبر منصة رقمية موحدة، تضمن العمى الكامل تجاه هوية المتقدم (لا أسماء، لا صور، لا عشيرة) حتى مرحلة المقابلة النهائية.

- فرض عقوبات "الخيانة العامة": يجب أن يُنظر إلى أي تدخل سياسي أو شخصي في عملية التوظيف كـ "خيانة للجمهورية"، وتُفرض عليها عقوبات جنائية قاسية على كل من "الراعي" المتدخل و "المسؤول" الذي نفذ التوصية. هذا ينسف مبرر وجود "الواسطة" أصلاً.

2. ضمانة "جودة الخدمة كحق دستوري" (إلغاء حاجة الشفيع):

- تفعيل مبدأ "المحاسبة المباشرة": يجب سن قوانين تضمن أن أي تأخير أو تعقيد في إنجاز خدمة عامة مستحقة (جواز سفر، رخصة، علاج) خارج الإطار الزمني المعلن، يمنح المواطن حقاً قانونياً مباشراً في مقاضاة المسؤول أو الإدارة المسؤولة، مع فرض غرامات تدفعها الإدارة كتعويض. هذا يحول الخدمة من منّة إلى حق يمكن الدفاع عنه بقوة القانون.

- "الخدمة الفورية" كحق أساسي: يجب على الدولة تبسيط الإجراءات بشكل قسري وراديكالي عبر الأتمتة الكاملة، بحيث لا يحتاج المواطن إلى التفاعل مع موظف فاسد أو راعٍ لإنهاء معاملته.

المبحث الثاني: تعزيز سلطة القانون: تحصين القضاء ضد "فيروس النفوذ"

إن أخطر ما في الزبائنية هو قدرتها على ترويض القضاء والجهات الرقابية. القضاء ليس مجرد أداة لتطبيق القانون؛ بل هو الضمانة الوحيدة للمواطنة الجامعة. لا يمكن للإصلاح أن ينجح إلا إذا كان القانون فوق الجميع، بمن فيهم واضعو القانون.

1. استقلال القضاء المطلق (تفكيك الحماية الزبائنية):

- قطع التمويل والإدارة عن السلطة التنفيذية: يجب أن يكون تمويل القضاء، بما في ذلك أجور القضاة والبنية التحتية، مستقلاً تماماً عن ميزانية الحكومة التنفيذية، لضمان عدم وجود أي ورقة ضغط عليها.

- إقرار "قانون من أين لك هذا" المُجرّد: يجب تفعيل تشريعات تُلزم كبار المسؤولين بتقديم كشوفات ذمة مالية شاملة، لا تكون مجرد إجراء شكلي، بل تخضع للتحقيق من قبل هيئات رقابية مستقلة ومخوّلة، مع افتراض الفساد إذا لم يتمكن المسؤول من تبرير الزيادة في ثروته [cite: خوري، إلياس، تجربة الإصلاح الإداري في العالم العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 142].

2. تطبيق القانون على رموز الزبائنية (كسر هيبة "الراعي"):

- المحاكمة العلنية للفساد الكبير: يجب أن يتمتع القضاء بالشجاعة لتطبيق القانون على الرؤوس الكبيرة في شبكات الزبائنية، وتكون محاكماتهم علنية وشفافة. إن كسر هيبة "الراعي" الفاسد هو أبلغ رسالة للمجتمع بأن عصر "النجاة بالواسطة" قد انتهى. هذا ينسف اعتقاد الزبائن في حصانتهم ويُعيد الثقة في مبدأ "سيادة القانون".

المبحث الثالث: الإصلاح الوجودي: بناء وعي "التمرد النظيف"

الإصلاح القانوني والاقتصادي لا يكفي؛ يجب أن يواكبه تمرد ثقافي ضد عقلية التبعية. الهدف هو بناء مواطن يرفض أن يكون زبوناً، ويصر على أن يكون صاحب حق.

1. التعليم كـ "تطهير فكري":

- إدراج "ثقافة المواطنة والمساءلة" كمادة أساسية: يجب أن تُدرَّس المواطنة الفعالة وحقوق الإنسان كنقد مباشر لآليات الزبائنية والفساد، وأن يتعلم الطالب أن "الواسطة" ليست شطارة، بل سرقة جماعية لفرص الآخرين. التعليم يجب أن يزرع فكرة أن المطالبة بالحق هي واجب، وأن التنازل عن الحق مقابل خدمة هو خيانة للجيل القادم.

2. إعلام "الشراكة الوطنية" لا "الولاء الزبائني":

- حماية ودعم الإعلام المستقل: يجب دعم الإعلام الاستقصائي الذي يلاحق شبكات الزبائنية ويكشف المستور، وتوفير الحماية القانونية للصحفيين والنشطاء الذين يقومون بهذا الدور. يجب أن يكون الإعلام هو صوت "المواطن الشبح" المظلوم.

- إطلاق حملات "أنا لست زبوناً": يجب على المجتمع المدني والمنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة) العمل على حملات إعلامية تربوية تُفكك ثقافة "الامتنان المُذل" للراعي، وتُعلم الناس كيف يطالبون بحقوقهم بشكل مؤسسي ومستقل، وليس عبر قنوات الولاء.

خاتمة الفصل: نحو جمهورية الكرامة

إن هذه الخارطة ليست مُجرد أمنيات. إنها الحد الأدنى المطلوب لجراحة إنقاذ جذرية. المطلوب هو تحويل المجتمع من مجتمع "الراعي والزبون" إلى جمهورية الكرامة، حيث يكون القانون هو الشفيع الأوحد، وحيث المواطنة الجامعة هي الحقيقة الوحيدة.

***

خليل إبراهيم الحمداني

 

غازي القُصَيْبي (1940 - 2010) أديب وسفير ووزير سُعودي. يُعتبَر أحدَ أبرزِ المُفكرين والقِياديين السُّعوديين الذينَ تَركوا بَصْمةً مُميَّزة في الفِكْرِ الإداريِّ العربيِّ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التَّنظيرِ والمُمارَسة، وَلَمْ يَكُنْ مُجرَّد كاتب أو شاعر، بَلْ كانَ إداريًّا ناجحًا تَوَلَّى مَناصب قِيادية عديدة في مَجالات مُختلفة، مِمَّا جَعَلَ رُؤْيَتَه في الإدارةِ مَزيجًا فريدًا مِنَ الفِكْرِ والتَّجْرِبة.

كانَ يَرى أنَّ الإدارةَ لَيْسَتْ عِلْمًا جامدًا أوْ مَجموعة مِنَ القوانين الصارمة، بَلْ هِيَ فَن يَقُوم على التعامل مع الإنسانِ قبل التعاملِ معَ الأرقامِ والأنظمة. والقائدُ الإداريُّ في نَظَرِه هُوَ مَنْ يَسْتطيع فَهْمَ دوافعِ الأفراد، وتَحفيزَهم، واستثمارَ قُدراتهم لِخِدمةِ الأهدافِ المُشترَكة. وَقَدْ عَرَّفَ الإدارةَ بأنَّها القُدرة على تَحريكِ الناسِ نَحْوَ هدفٍ مُحدَّد، مُؤكِّدًا على أنَّ الجانبِ الإنسانيِّ هُوَ جَوهر العملية الإدارية الناجحة.

رَكَّزَ على مَبدأ الكَفاءةِ بِوَصْفِه الأساس الذي تُبنَى عَلَيه الإدارة السليمة، فَهُوَ يَنْتقد البيروقراطيةَ وَالمَحْسوبية، ويَدْعو إلى تَمكينِ الكَفاءاتِ بِغَضِّ النظرِ عَن الانتماءاتِ أو المَصالحِ الشَّخصية.

وَمِنْ خِلال تَجْرِبته الطويلةِ في الوِزاراتِ والسَّفَاراتِ، شَدَّدَ على أنَّ المُدير الناجح هُوَ مَنْ يَخْتار الأكفأ لا الأقرب، لأنَّ العَدالة في التَّعْيين تَخْلُق بِيئةَ عَمَلٍ مُنتِجة ومُخلِصة.

وَآمَنَ بأنَّ القائدَ الإداريَّ الحقيقي يجب أنْ يَكُون قُدوةً في الالتزامِ والانضباطِ والأخلاق. فَهُوَ لا يَطلُب مِنْ مُوظَّفيه مَا لا يُطبِّقه على نَفْسِه. وَيَرى أنَّ القُدْوةَ هِيَ أبلغُ وَسيلةٍ للقِيادة. وَقَدْ كانَ مِثَالًا على ذلك في حياته العملية، حَيْثُ اشْتُهِرَ بانضباطِه وتَواضعِه وَقُرْبِه مِن مُوظَّفيه، مِمَّا أكْسَبَه احترامَ الجميع.

يَجْمَع مَفهومُ الإدارةِ عِندَه بَيْنَ الصَّرَامةِ في التَّنظيمِ والمُرونةِ في التَّفكير، فَهُوَ يَرفُض الجُمودَ الإداريَّ، وَيَدْعُو إلى فتحِ المَجالِ أمامَ المُبادَراتِ الفرديةِ والإبداعِ المُؤسَّسِي. والمُؤسَّسةُ الناجحةُ في رأيه، هِيَ التي تَجْمَع بَين التَّخطيطِ المُحكَمِ والقُدرةِ على التَّكَيُّفِ معَ المُتغيِّرات.

لَمْ تَغِب القِيَمُ الأخلاقيةُ عَنْ فِكْرِه الإداريِّ، فَقَدْ رَأى أنَّ النجاح الإداريَّ لا قِيمة له إذا جاءَ على حِسابِ القِيَمِ والمَبادئ. وكانَ يُؤَكِّد على أنَّ الأمانة والإخلاص في العمل هُما الرَّكيزتان الأسَاسِيَّتَان لأيَّة إدارة ناجحة، وأنَّ غِياب الأخلاق يُؤَدِّي إلى الفَسادِ الإداريِّ مَهما بَلَغَت الأنظمةُ مِنَ الدِّقَّة.

وَيُمكِن القَوْل إنَّ مَفهوم الإدارة عِنده هُوَ مَفهوم شامل يَجْمَع بَيْنَ العقلِ والإنسانِ، وبَيْنَ النِّظامِ والإبداعِ، وبَيْنَ الكَفاءةِ والأخلاقِ.

بيتر دراكر (1909 - 2005) كاتب اقتصادي أمريكي مِنْ أصلِ نَمْساوي، يُعتبَر الأبَ الرُّوحي للإدارة. قَدَّمَ خِلال مسيرته الفِكرية الطويلة رُؤى ثَوْرية غَيَّرَتْ طريقةَ فهمِ المُؤسَّسات لِمَفهومِ القِيادةِ، والتنظيمِ، واتخاذِ القَرار. وأثرِ الإدارةِ في التَّنمية الاقتصادية والاجتماعية.

كانَ يَرى أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مُجرَّد مَجموعة مِنَ القواعدِ أو التِّقْنيات، بَلْ هِيَ فَن وعِلْم في آنٍ معًا. والإدارةُ في نظره، تَعتمد على مَهارةِ المُديرِ في فهمِ الناسِ وتَحفيزِهم، مِثْلما تَعتمد على القُدرةِ على التحليلِ والتخطيطِ والتنظيم. وَهِيَ عملية دِيناميكية تتفاعل فيها المَعرفة العِلْمِيَّة معَ الخِبْرَةِ الإنسانية. لذلك، فإنَّ المُدير الناجح لَيْسَ فقط مَنْ يَعرِف " ماذا يَفْعَل "، بَلْ أيضًا مَنْ يُدرِك " كيف " و " لماذا " يَفْعَل ذلك.

ويُؤَكِّد على أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مَحصورةً في قِطاعِ الأعمال فقط، بَلْ أيضًا تَشْمَل جَميعَ مَجالاتِ النَّشَاطِ الإنسانيِّ المُنظَّم : المدارس، المُستشفيات، الجَمْعيات، وحتى المُؤسَّسات الحُكومية. فالإدارةُ هي الأداة التي تَجْعَل الناسَ قادرين على العملِ معًا لتحقيق هدف مُشترَك بِكَفاءةٍ وفَعَالِيَّة.

مِنْ أبرزِ أفكارِه أنَّه جَعَلَ الإنسانَ في قلبِ العملية الإدارية. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيه بعضُ النظريات الإدارية الكلاسيكية تُركِّز على الآلَةِ أو الإنتاجِ الماديِّ، جاءَ لِيُؤَكِّد على أنَّ الناسَ هُمْ أعظمُ مَوْرِدٍ تَمْتلكه أيَّة مُؤسَّسة. ورأى أنَّ مُهِمَّة الإدارة هي تَمْكين الإنسانِ مِنَ الأداءِ الأفضل، وَجَعْلُ نِقَاطِ قُوَّتِه مُثمِرة، وتقليلُ أثرِ نِقَاطِ ضَعْفِه.

وَهُوَ يَعْتقد أنَّ المُدير الناجح هُوَ الذي يَعرِف كيفَ يَستثمر طاقاتِ الأفراد، وَيُحوِّلها إلى إنجازات مَلْموسة. فالإدارةُ عِندَه لا تَتعلَّق بالسَّيطرةِ على الآخَرين، بَلْ بِتَوْجيههم، وتَحفيزِهم، وَتَوفيرِ البيئة التي تُتيح لَهُم الإبداعَ. ولهذا السبب، كانَ مِنْ أوائل مَنْ تَحَدَّثوا عَنْ مَفهوم " الإدارة بالتَّحفيز " و " القِيادة بالخِدْمة "، أي إنَّ القائدَ الحقيقي يَخدِم فَريقَه لا العَكْس.

وكانَ مِنْ أوائل مَنْ صاغَ مَفهومَ "الإدارة بالأهداف "، وَهُوَ مَبْدأ أصبحَ حَجَرَ الأساسِ في الفِكْرِ الإداريِّ الحديث. وَيَقُوم هَذا المَفهومُ على أنَّ النَّجَاح الإداريَّ لا يُقَاس بالأنشطة، بَلْ بالنتائج المُحَقَّقَة، فالمُديرُ الفَعَّال هُوَ الذي يَضَع أهدافًا واضحة، وقابلة للقِيَاس، ثُمَّ يَعْمل على تحقيقها مِنْ خِلالِ التعاون معَ فريقه.

رَغْمَ اختلافِ السِّياقِ الاجتماعيِّ والثَّقَافيِّ، إلا أنَّ بَيْنَ القُصَيْبي ودراكر جُسورًا فِكرية عميقة، فَكِلاهُما يَرى أنَّ الإدارة الحقيقية تبدأ مِنَ الإنسانِ، وتَنتهي بِه. وكِلاهُما رَفَضَ فِكْرةَ الإدارةِ السُّلْطوية، وَدَعَا إلى التَّمكينِ بَدَل السَّيطرة، والتَّحفيزِ بَدَل التَّهديد. لكنَّ القُصَيْبي رَكَّزَ على القِيَمِ والمَشاعرِ والضَّميرِ، بَيْنما دراكر رَكَّزَ على النِّظامِ والكَفاءةِ والمُؤشِّرات.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قبل البدء نطرح السؤال التالي: لماذا سمّى مالك بن نبي مذكراته بالعفن ولم يعطها اسما آخر؟ هل يعود ذلك إلى حالة التعفن التي عاشها المجتمع الإسلامي في العالم الإسلامي كله؟ أم هي وصفٌ لحالة مجتمع العالم الثالث وبخاصة الجزائر وما يعانيه من التخلف والانحدار والانهيار في النظم التربوية، الأخلاقية والسياسية وحتى الدينية  لأنها بلغت مرحلة "التعفن" ، بعيدا عن الجانب العلمي (وما تقوم به الفطريات متعددة الخلايا)، فالتعفن من العفن وهو يشكل خطرا على الصحة النفسية والعقلية للإنسان، خاصة في عالمنا الرقمي، عالم نستهلك فيه كل الأفكار دون أن نعرف مصدرها وماذا يراد بها، الحديث إذن عن العفن الفكري وماهي الأضرار التي تعود على الإنسان ومحيطه، ففيما يتعلق بالأفكار، فالعفن الفكري  يرادُ به غياب المقدس، وغياب المقدس  له تأثيرات سلبية، إذ يسبب صراعا مدمرا، صراع الإنسان مع نفسه، ومع الأخر، وقد يؤدي به إلى الإجرام، (القتل) أي العنف عندما تنغلق كل أبواب الحوار وسبل الوصول إلى التفاهم، خاصة إن تعلق الأمر بالدين .

 والعفن هو وصفٌ للفساد والانهيار الأخلاقي في المؤسسات السياسية  (الأحزاب) والاجتماعية، والدينية، هو وصف للقابلية للاستعمار، وهي واحدة من الظواهر التي تتسبب في شقاء الإنسان وتهدد أمنه واستقراره، وتجعله يعيش حياة العبودية، حينها يصعب عليه تنظيم أفراده، ويصعب عليه كذلك  تشكيل حاضنة فكرية للبناء والتقدم، إن السلطة كآلية لتنظيم المجتمع كما يقول ميشال فوكو بحاجة إلى السلم والاستقرار وبناء علاقات إنسانية بين الأفراد ومن ثمّ  تحرير المجتمع من قيود التخلف والجهل والتبعية،  فإن مارست السلطة الضغوطات على الأفراد وأظهرت بطشها تجاههم من أجل فرض عليهم الطاعة والانصياع لأوامرها، وإن كانت هناك قابلية للاستسلام،  فنحن إذن إزاء الحديث عن مجتمع العفن، مجتمع  تطغى عليه السلبية ويرضى بالانهزامية، لقد عبّر الشعب الجزائري عن رفضه لكل هذه السياسات العفنة،  البداية كانت بمواجهته الاستعمار الفرنسي، ثم مواجهته السلطة بعد الاستقلال، بدءًا من الربيع الأمازيغي 1980، إلى أحداث أكتوبر 1988 ثم العشرية السوداء التي يمكن وصفها بمرحلة "العفن" في أعلى مستوياته، حين جَمَّدَ الخطاب الديني العقل والتقى السلاح  مع السلاح، انفجر البركان،  وكسّرت المعارضة الصّمت وخرجت إلى الشوارع باسم "الجهاد"، فقدت السلطة كل وسائل التحكم.

هي عشرية سوداء حملت كل ألوان العفن والركود الأخلاقي، اتخذت المعارضة من الجهاد شعلة مقدسة، وقالت إنه العنف المقدس، نقوده لنحصل على الشهادة،  هي الحرب الأهلية التي عاشها الجزائريون، وقد فسرها البعض بأن المجتمع الجزائري بعيد عن مجتمع الرفاهية والوفرة لذلك  انتفض وكثرت فيه نزعات العنف  ووصلت به الأمور إلى حالة العفن، وهذه نظرية  مغلوط فيها أو أن طارحوها أرادوا أن يغلطوا الرأي العام، فما حدث في الجزائر عنف سياسي تطور حتى تعفن، لأن مجتمعات الرفاهية والوفرة  كما نراه في الدول الأوروبية كفرنسا مثلا كانت ولا تزال تحمل نزعة العنف تجاه الشعوب، ليس لأنها  بحاجة إلى الرفاهية والوفرة عن طريق الاستيلاء على ثوراتها النفطية فحسب، بل  لتغريبها وطمس هويتها ومحاربة عقيدتها، كذلك هي الحرب على الإسلام التي تقوم بها الأنظمة الغربية واللوبي الصهيوني، ونسيت أن النزعة السلمية pacifisme  للعيش المشترك ضرورية،  دون اللجوء إلى القمع والتجويع والتقتيل.

 والعيش المشترك لا يعني أن يتخلى شعب أو يتنازل عن دينه وأرضه وثقافته وهويته، إن ما يحدث في غزة مثلا هي حرب دينية تريد إسرائيل ومَن وراءَها إلغاء فلسطين من خريطة العالم  لتحقيق حلم العودة  وجعل القدس عاصمة لها، وإن كانت هذه الحرب هي حرب بين دولة ودولة مزعومة اسمها إسرائيل، فمن المفارقات أن يقوم العنف بين أفراد داخل دولة واحدة، مثلما حدث في الجزائر، فالدافع لم يكن اقتصاديا كما زعم البعض،  كما لم يكن عقائدي من أجل بناء الدولة الإسلامية، كما توهمه البعض، ففي مخيل كل طرف أن ما يقوم به  هو عنف "مقدس"،  إن انتشار الفساد الفكري والسياسي  في البلاد العربية لا يعبر عن التخلف أو الدفاع عن المقدسات، وإنما كان صراع على السلطة والحكم، وكان الصراع سببا في تعفن الوضع، وهذا هو العفن الذي أراد مالك بن نبي أن يوصله إلى القارئ العربي.

***

علجية عيش

 

بفك الارتباط بالمركزية الغربية وتغيير محاور التحالفات

مقدمة: في عصر يشهد إعادة تشكيل النظام العالمي بوتيرة متسارعة، يبرز مفهوم القرار الأنطولوجي كأداة تحليلية عميقة لاستيعاب التحولات الجذرية التي تطرأ على هويات الشعوب والحضارات. هذا القرار، الذي يتجاوز الاختيارات الاستراتيجية السطحية ليغوص في جوهر الكينونة الجماعية، يُحدد بالضرورة في فك الارتباط بالمركزية الغربية كبنية هيمنة معرفية وسياسية، وفي تغيير محاور التحالفات نحو شراكات تعكس استقلالية وجودية حقيقية. ينطلق هذا التحليل الشامل من رؤية متعددة التخصصات تجمع بين الفلسفة الأنطولوجية، والنظرية السياسية ما بعد الاستعمارية، والدراسات الجيوسياسية، والتحليل المعرفي للهيمنة، ليكشف عن الآليات الدقيقة التي تحول هذا القرار من مجرد إعلان سياسي إلى فعل تأسيسي يُعيد صياغة الذات الحضارية والعلاقات الدولية. فهل يمكن اعتماد الأنطولوجيا السياسية كمدخل لفهم التحولات الاجتماعية والصدامات الحضارية؟

الإطار النظري:

القرار الأنطولوجي هنا ليس حدثاً عابراً، بل هو لحظة وجودية حاسمة تُشبه "الانقلاب الكوبرنيكي" في الفكر، حيث تنتقل الذات الجمعية من موقع التابع المُعرّف من الخارج إلى موقع الفاعل المُعرّف ذاتياً. هذه اللحظة تتطلب قطيعة معرفية جذرية مع المركزية الغربية، التي لم تكن يوماً مجرد تفوق مادي، بل بنية أنطولوجية تُحدد ماهية الوجود البشري انطلاقاً من مرجعيات أوروبية-أمريكية، مما يُحول الآخر إلى كيان ناقص يُقاس دائماً بمعيار الغرب. فك الارتباط، إذن، هو عملية تحررية متعددة الأبعاد تشمل المجالات المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بينما يُمثل تغيير محاور التحالفات الجانب الإبداعي لهذا التحول، حيث تُبنى علاقات جديدة تعكس تعددية الكينونات الحضارية وتُنهي عصر الهيمنة الأحادية.

البعد الأنطولوجي: رفض الوجود كتابع واستعادة السيادة على الوجود

في صميم الفلسفة الأنطولوجية، يُعرف الوجود بوصفه السؤال الأول والأخير عن ماهية الكينونة. عندما نتحدث عن قرار أنطولوجي للذات الجمعية، فإننا نتحدث عن رفض جذري للوجود المفروض، أي رفض للكينونة كما تُشكلها المركزية الغربية عبر آليات الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم العولمة النيوليبرالية. هذه المركزية ليست مجرد نظام سياسي-اقتصادي، بل هي بنية أنطولوجية تُحدد ما هو "حقيقي" و"عقلاني" و"تقدمي" انطلاقاً من تجربة تاريخية محددة، مما يُحول الذوات غير الغربية إلى هامش أو استثناء يُطالب دائماً باللحاق.

يُشبه هذا الرفض مفهوم "القطيعة الإبستمولوجية" عند غاستون باشلار، لكنه مُطبق على مستوى الجماعة: قطيعة مع الإبستمي الغربي كمعيار وحيد للمعرفة. فالذات الجمعية، سواء كانت الأمة العربية أو الحضارة الإسلامية أو الجنوب العالمي ككل، لم تُمنح يوماً الفرصة لتعريف وجودها بمصطلحاتها الخاصة. بدلاً من ذلك، وُصفت دائماً بوصف نقص: "متخلفة"، "غير ديمقراطية"، "لاعقلانية". فك الارتباط الأنطولوجي يعني، إذن، استعادة الحق في تعريف الذات، ورفض الوجود كـ"آخر" للغرب. في هذا السياق، يُصبح القرار الأنطولوجي فعلاً تأسيسياً يُشبه "الولادة الثانية" للذات الحضارية. يتطلب هذا الفعل شجاعة وجودية جماعية، حيث تُدرك الذات أن حريتها الحقيقية تبدأ من رفض التعريف الخارجي. كما يُذكرنا مارتن هايدغر بأن الوجود البشري هو دائماً وجود في العالم، فإن الذات الجمعية لا تستطيع أن تكون حرة إلا إذا أعادت تعريف عالمها بمصطلحاتها. هذا يعني بناء أنطولوجيا بديلة تستمد مفاهيمها من تراثها الحضاري: من ابن خلدون في فهم العمران، إلى غاندي في مفهوم الاكتفاء الذاتي، إلى مالك بن نبي في فكرة "القابلية للاستعمار" كحالة نفسية-وجودية يجب تجاوزها.

البعد المعرفي: فك الارتباط كقطيعة إبستمولوجية

لا يمكن فهم فك الارتباط دون التركيز على بعده المعرفي، إذ إن المركزية الغربية هي في الأساس هيمنة معرفية تُحدد ما يُعتبر "علماً" و"حقيقة". هذه الهيمنة تتجلى في سيطرة المناهج الغربية على الجامعات، والمؤسسات البحثية، والنشر الأكاديمي في الجنوب العالمي، مما يُنتج نخباً محلية تُفكر بمصطلحات غربية حتى عندما تنتقد الغرب. فك الارتباط المعرفي يعني، إذن، بناء إبستمي بديل يستمد شرعيته من التراث المحلي مع انفتاح نقدي على العالم.

هذا البناء يتطلب عدة خطوات عملية:

أولاً، إعادة كتابة التاريخ من منظور داخلي، بعيداً عن الرواية الاستعمارية التي تُصور الحضارات غير الغربية كـ"راكدة" قبل الاستعمار.

ثانياً، إحياء اللغات المحلية كأدوات للتفكير الفلسفي والعلمي، إذ إن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي بنية لتشكيل الواقع.

ثالثاً، تطوير مناهج تعليمية تُدمج التراث المحلي مع العلوم الحديثة، كما في تجارب الصين في دمج الكونفوشيوسية مع الماركسية، أو الهند في إحياء الآيورفيدا كعلم طبي موازٍ.

رابعاً، بناء مؤسسات بحثية مستقلة لا تخضع لتمويل غربي مشروط، مما يُتيح حرية البحث دون ضغوط أيديولوجية.

في السياق العربي، يُعد مشروع "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري نموذجاً لهذا التحول المعرفي. الجابري لا يرفض العقلانية الغربية، بل يسعى لاستعادة العقلانية العربية-الإسلامية كما تجلت في ابن رشد والفارابي، مما يُتيح بناء معرفة حديثة متجذرة في التراث. هذا النهج يُظهر أن فك الارتباط ليس رفضاً للغرب، بل رفضاً للهيمنة، مع انفتاح على الحوار بين الحضارات على قدم المساواة.

البعد الاقتصادي-السياسي: من التبعية إلى الشراكة المتكافئة

على المستوى الاقتصادي، يُمثل فك الارتباط رفضاً لنموذج التبعية الذي فرضته نظرية التحديث في القرن العشرين، والتي رأت في الغرب النموذج الوحيد للتنمية. هذا النموذج أنتج اقتصادات هامشية تعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد التكنولوجيا، مما جعل الدول النامية رهينة لتقلبات السوق العالمية. فك الارتباط الاقتصادي يعني بناء نماذج تنموية بديلة تعتمد على التكامل الإقليمي، والاستثمار في التكنولوجيا المحلية، والتنويع الاقتصادي.

تجارب مثل البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تُظهر إمكانية هذا التحول. هذه المجموعة لم تكتفِ برفض الهيمنة المالية الغربية، بل أسست بنك التنمية الجديد كبديل عن البنك الدولي، وطورت عملات محلية للتجارة البينية، مما قلل الاعتماد على الدولار. كذلك، مبادرة الحزام والطريق الصينية، رغم انتقاداتها، تُمثل نموذجاً للشراكة الجنوب-جنوبية يعتمد على البنية التحتية المشتركة بدلاً من الاستثمار الاستغلالي.

أما تغيير محاور التحالفات، فيتجاوز التحالفات العسكرية ليشمل الشراكات الثقافية والتكنولوجية. على سبيل المثال، تعاون روسيا مع دول إفريقيا في مجال الطاقة النووية، أو شراكة الهند مع دول الخليج في الذكاء الاصطناعي، تُظهر كيف يمكن للتحالفات الجديدة أن تُنتج قيمة مضافة مشتركة دون شروط سياسية مهينة. هذه المحاور ليست مجرد تحالفات براغماتية، بل هي تعبير عن رؤية عالمية بديلة ترى في التعددية القطبية ضماناً للاستقرار والعدالة.

البعد الثقافي-النفسي: مواجهة الاستلاب واستعادة الكرامة

على المستوى الثقافي، يتجلى فك الارتباط في مواجهة الاستلاب النفسي الذي أصاب الذات الجمعية جراء قرون من الاستعمار. هذا الاستلاب يُظهر نفسه في تفضيل المنتجات الغربية، واعتبار اللغات الأجنبية علامة على التحضر، وتقييم الذات بمعايير خارجية. استعادة الكرامة الثقافية تتطلب إحياء الروايات المحلية، وتعزيز الفنون والآداب الوطنية، وتطوير إعلام مستقل يُروج للقيم المحلية. في السياق العربي، تُعد حركة اليقظة العربية في القرن التاسع عشر محاولة أولية لفك الارتباط الثقافي، لكنها بقيت أسيرة للإعجاب بالغرب. أما اليوم، فإن منصات رقمية عربية، أو المسلسلات التركية التي تنافس هوليوود، تُظهر إمكانية بناء صناعة ثقافية مستقلة. كذلك، إحياء التراث الموسيقي والأدبي في إفريقيا وآسيا يُسهم في بناء هوية جماعية متماسكة.

التحديات والمخاطر: بين التحرر والعزلة

رغم أهميته، يواجه هذا القرار تحديات جوهرية.

أولاً، خطر الوقوع في النمطية أو الرومانسية الحضارية، حيث تُصور الذات الجمعية ككيان متماسك خالٍ من التناقضات.

ثانياً، صعوبة بناء بدائل اقتصادية في ظل الترابط العالمي، مما يتطلب استراتيجيات انتقالية مدروسة. ثالثاً، مقاومة النخب المحلية المرتبطة بالمركز الغربي، والتي قد تُفسر فك الارتباط كتهديد لمصالحها. رابعاً، التنوع الداخلي للذات الجمعية، الذي يتطلب حواراً ديمقراطياً شاملاً لتجنب الإقصاء.

خاتمة:

في التحليل النهائي، يُمثل القرار الأنطولوجي الحاسم بالنسبة للذات الجمعية لحظة تاريخية نادرة تُتيح إعادة تأسيس الوجود على أسس أصيلة ومستقلة. فك الارتباط بالمركزية الغربية ليس فعلاً سلبياً أو انعزالياً، بل هو عملية إبداعية تُتيح للذات الجمعية أن تُعيد اكتشاف ذاتها، وأن تُسهم في بناء عالم متعدد الأقطاب يعكس تنوع الكينونات البشرية. تغيير محاور التحالفات، من جانبه، هو التعبير العملي لهذا التحول، حيث تُبنى شراكات جديدة تعتمد على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة. هذا القرار ليس خياراً بين خيارات، بل هو ضرورة وجودية في عصر تتآكل فيه الهيمنة الغربية تدريجياً، وتبرز فيه قوى جديدة تُطالب بحقها في تعريف العالم. إنه مشروع حضاري مستمر يتطلب شجاعة، ووعياً، وصبراً، لكنه في الوقت نفسه وعد بمستقبل أكثر عدلاً وتنوعاً، حيث تُصبح الذات الجمعية ليست مجرد مشارك في التاريخ، بل صانعة له. فكيف يمكن تحويل هذا القرار الأنطولوجي الى مشروع حضاري مستمر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم