قضايا

الحمد لله: الحمد لله على نعمتيّ الإيجاد والإمداد. الحمد لله أعظم الحمد وأكثر الثناء. يكمن الدين كله في ظلال الحمد، وبالحمد في البدء والمنتهى، والحمد لله سلوك الإنسان المؤمن بإزاء الغيب : أن يحمد الله على الدوام بغير انقطاع، وهذا الحمد ينقله إلى رحاب المعيّة نقلاً في مثل لمح البصر من الغفلة إلى الحضور، ومن الإستنامة إلى اليقظة والتنبُّه. إذا صَحّ - ولا بدّ أن يصح - أن يكون الحمد عنوان حضور داخل المعيّة الإلهيّة لا هو بخارجها، فهو من ثمّ فلسفة لها دعائمها المُثلى في الإسلام، فلسفة تحيط بالمعنى بداية ثم تنزع إلى العمل بمقتضى فهم المعنى وفهم المضمون من ورائه.
والحمدُ أساسٌ جامع للدين في مبادئه التأسيسية، وجامعٌ للشعور - كما هو جامع للتفكير- بموجبات التحقق بأجواء المعيّة الإلهية، فالذي يتحقق من فاعلية الحمد فيما هو بسبيل إدراك قوة وصلته بحضور المعيّة الدائمة، يصدق صدقاً مباشراً مع كل توجه من توجُّهات الحق، فيكون الحمد أساس توجهه، ومصدر فاعليته، وحركة تجاريبه الواعية في كل حال.
وإنمّا قلنا فلسفة؛ لاتصال مفهوم الحمد بالجانب العقدي بدايةً، أعني جانب الإيمان بالله كركن تتحقق فيه عمل الأحكام الشرعية الاعتقادية، ثم تطبيق هذا المفهوم من الناحية العمليّة كسلوك دائم للمسلم الذي يعرف بالتحقيق ألطاف الله عليه، ويحترم أقداره فيه، فيكون الحمد غاية مبتغاه؛ ديدنه الدائم وهجّيره العميم.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله. وأسماء سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد وأحمد ومحمود : محمودٌ في الأرض ومحمودٌ في السماء، والصلة بينهما أوثق ما تكون.
كان أبو طالب يقول:
وشقّ له من اسمه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
العلاقة بين سورة الحمد، (فاتحة الكتاب)، واسم سيدنا رسول الله علاقة وطيدة، لم يكن أحبّ إليه من فاتحة الكتاب، الحمد لله رب العالمين، وإنما سُمي نبينا بهذا الاسم العظيم؛ لأنه محمودٌ عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المُرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم، فإنّ ما فيه من صفات الكمال محمودةٌ عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحوداً وعناداً، أو جهلاً باتصافه بها.
وهو صلوات الله وسلامه عليه أختصّ بجماعٍ من صفات الحمد بما لم يجتمع فيها لغيره؛ فإنَّ اسمه - كما تقدّم - محمد، وأحمد، قال القاضي عياض صاحب كتاب (الشّفاء) قد حمي الله هذين الاسمين، يعني محمداً وأحمد، أن يتسمّى بهما أحدٌ قبل زمانه، أمّا (أحمد) الذي ذكر في الكتاب وبُشّر به عيسى عليه السلام، فمنع الله بحكمته أن يتسمّى به أحد غيره، ولا يُدْعى به مدعوّ قبله، حتى لا يدخل اللّبس ولا الشك فيه على ضعيف القلب. وأمّا (محمد) فلم يتسمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلا حين شاع قبيل مولده أن نبياً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وكما خصّه الله باجتماع صفات الحمد في ذاته وفي اسمه، كذلك خصّ الله أمته بخصوصية الحمد الدائم والتسليم القويم لله رب العالمين؛ فأمته الحمّادون، يحمدون الله على السّراء والضرّاء، وهو صلى الله عليه وسلم، حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبه مفتتحة بالحمد، وهكذا كان في اللوح المحفوظ عند الله، أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحاً بالحمد، وبيده، صلوات الله وسلامه عليه، لواء الحمد يوم القيامة.
ولمّا يسْجُد عليه السلام بين يدي ربّه للشفاعة، ويُؤذن له فيها : يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الآخرون والأولون كما قال تعالى :" وعسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً".. ، وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف العظيم كلهم، مُسلمهم وكافرهم، أولهم وآخرهم، فجُمعت له، صلى الله عليه وسلم، معاني الحمد وأنواعه.
وهو، صلوات الله وسلامه عليه، محمودٌ بما ملأ به الأرض من الهُدى والإيمان، ومحمودٌ بما ملأ به الأرض من مزايا العلم النافع وفضائل العمل الصالح، ومحمودٌ بما فتح الله به القلوب وكشف به الظلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به، والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا وشرف الآخرة وهو مُستحق الحمد تحقيقاً في كل ما أعطى وكل ما أبقى ممّا لا يقدر فضله علماً وهداية سوى الله.
ومُجرّد النظر إلى رسالته مستحقٌ الحمد، وكل ما فيها من مطالب وأغراض يستوجب الحمد ويستقصيه ومع ذلك لا يستوفيه؛ فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، وأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به الظّلَم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، وهَدَى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، ورفع به بعد الخَمالة، وسمَّى به بعد النكرة، وجمع به بعد الفُرقة، وألف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مُشتتة، وأمم مُتفرّقة، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صٌماً، وقلوباً غلفاً.
فعرف الناس ربّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قُواهم من المعرفة، فأبدأ وأعاد واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه حتى تجلّت معرفته في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والرِّيب عنها، كما ينجاب عن القمر ليلةَ إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف وغيره، لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم من الأولين والآخرين، بما أوتيه من جوامع الكلم وبدائع الحكم : (أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).
وكفى بهذا كله من محمدة لرب العالمين لا نظير لها ولا شبيه، ولا انقطاع لدوامها حيث ينقطع كل شيء ولا يدوم.
ومن صفته - صلوات الله وسلامه عليه - في التوراة : محمد عبدي ورسولي سمّيته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غُلفاً، حتى يقولوا: لا إله إلا الله ..
وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيراً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشدُّ الخلق ذَبَّاً عن أصحابه وحمية لهم ودفاعاً عنهم، وأقومُ الخلق بما يأمر به، وأتركُهم لما ينهى عنه، وأوصلُ الخلق لرَحِمه، إلى غير ذلك ممّا يجلُّ عن الوصف ولا يمكن حصره .. صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرآ.
فليس هنالك أحقُ بالحمد الذي ينقطع معه النظير من تكرار الحمد لله على نعمة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وجوداً وإمداداً واستمداداً، فهو الوجود الحق والإمداد الحق والاستمداد الحق، يستمد من الله مباشرة ونحن نستمد منه، وجوداً وإمداداً واستمداداً، هو وسيلتنا الى الله من حيث لا وسيلة لنا سواه، فلا شئ إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، كما تقول الصلاة المشيشية.
ونحن من بعدٌ ومن قبل لا نعرف الله، وليس لنا من قدرة على معرفته إلا من خلاله: "قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله"، مُمُد الهمم بالقيل الأقوم، صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وعظم وحقق وأكرم وعلى آله وصحبه وسلم.
ومن مولده المبارك حتى الانتهاء إلى الرفيق الأعلى عاش، صلوات الله وسلامه عليه، حياته في بعدها الزمني المحدود بزمان ومكان، تحت ظلال الحمد فكان كاملاً مكمّلاً في خصاله الشريفة ومناقبه العفيفة. لم تصف اللغة، ولن تستطيع أن تصف، وصفاً من أوصافه على التحقيق؛ لأن الكمال فيه لا يوصف بلفظ ولا يحيط به تصوّر محدود، وبخاصّةٍ إذا كان الكامل يجسّد صفة إلهيّة لا وصف لها إلا النور الذي يشملها ويضمّها.
محمدٌ رسول الله، ولكنه مع ذلك هو قبضة النور. محمدٌ المُبلغ رسالة الله للعالمين، هو الرحمة المُهداة من قبل الله إلى خلق الله، ولكنه مع ذلك لولاه لم تُخلق الدنيا من العدم، لولا محمد في البعد الروحي لا البعد الزمني ما خُلقت الدنيا من العدم. وجوده الروحي أسبق من وجود جميع الأنبياء، ومددُ الأنبياء وعلومهم ومعارفهم من مدد نوره السابق.
ولمّا أن ولد صلوات الله عليه في الفترة الزمنية التي وجدت في زمانها ومكانها، تمثل النور فيه كاملاً فظهرت حقيقته النوريّة الباطنة في مظهره الكامل، ولكنها مع ذلك لم تكن لتظهر فيه ولا في غيره من إخوانه الأنبياء إلّا لإظهار الحقائق الإلهيّة. ومع أنه السابق للخلق نوره إلا أن الأنبياء أسبق منه في الوجود الزمني، ولم يسبقوه في الوجود الروحي، غير أنه خاتمهم.
خاتم هذا الموكب الخالد، موكب النور الذي تقدّمه وختمه في نفس الحال.
لقد سمّاه القرآن الكريم داعياً إلى الله بإذنه، وسمّاه سراجاً منيراً، فالدّعوة إلى الله على الإذن خاصّةُ محمد رسول الله كما كانت خاصّة الأنبياء جميعاً من قبله، فهو يدعو إلى الله بالإذن المخصوص بالرسالة، فهو رسول مبلغ للرسالة، مأذونٌ بالدعوة إلى الله على بصيرة لا بل على وحي الشريعة والتنزيل.
هذا بعدٌ زمني محدود بزمان ومكان، المساحة فيه مع كمالها محصورة في تاريخ المولد والنشأة والدعوة ثم الانتقال إلى الرفيق الأعلى، لكنه في نفس الوقت رحمة للعالمين، تتجاوز حدود الزمان والمكان والمدّة الزمنية التي عاشها في حياته الشريفة المباركة بمدد لا ينقطع ولا يزول، هو مدد الحمد، ومدد النور المحمّديّ : أوليّته وقدمه.
ومن أجل هذا، سمّاه سراجاً منيراً، سراجاً منيراً للكون من الأزل إلى الأبد. الإنارة سرمديّة لا تتوقف على فترة زمنية محدّدة بزمانها ومكانها، فإذا السّراج المنير هذا لا ينصرف إلى البعد الزمني وحده بل يتعدّاه إلى البعد الروحي الذي لا ينقطع بانقطاع فترة النبوّة، فهو الذي منه يشع النور ليملأ الأرض والسّماء كما يملأ القلوب والأرواح والأسرار واللطائف والأذواق، ومنه تكون الهداية يتوخّاها الصُّلحاء، وفي التعلق به يكون الهُدى والكمال والرفعة كما تكون علوم الأولياء.
لم يكن عُرفاء الإسلام بالذين يستقون من مشكاة الأنوار نوراً غير نور النبوة؛ ليمدُّهم بمدد موصول لم يكن لينقطع ولا ليزول في حين انقطعت النبوة بوفاته على التحقيق، وبقى منها الميراث وهو الأبقى والأدوم، يدور في فلك إظهار الحقائق الإلهيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يكن ميراث النبوة سوى هذا المدد الدائم من فيض فضل نوره عليه السلام، سواء كان علماً أو خُلقاً أو نوراً أو ولاية وتحقيقاً.
وسمّاه القرآن الكريم الإمام المبين؛ إذ أحصى كل شيء فيه، (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). ولم يكن المجيئ سابقاً في الترتيب على المعجزة إلا بفضلٍ تقدّمه سبق النور (قد جاءُكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) فالنور أسبق في الترتيب من المعجزة التي هى الكتاب المُبين، إذا كان النور التام الكامل هو محمد رسول الله.
وسمّاه القرآن الرحمة المُهداة وأهداها منه ومن خلاله للعالمين: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ ممّا يجمعون)؛ ففضل الله هو القرآن، ورحمته هى سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا البعد الروحي جاز للذين عرفوه أن يصلّوا عليه بمطلق الأمر الإلهي، وبمطلق استمراريته في قوله "يصلون": الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرارية، بمثل هذه الصيغة: (اللّهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتيٍ والسرُّ السّاري سرُّه في سائر الأسماء والصفات، وعلى آله وصحبه وسلم). وفي الصلاة عليه اتصال باليقين الذي لا شك فيه. فلا يتصل متصل إلا من طريق الصلاة عليه، ولا ينقطع منقطع وفي قلبه محبته وموالاته على تحقق المنهج وموافقة الاتباع.
تحتاج الحفاوة بسيّدنا النبيّ إلى لطيفة ربّانية ملآنة بالمحبّة له تتحقق فيها ظلال الحمد على الدوام الذي لا ينقطع. والمحبّة اتّباع : (قُل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله). ولا يجب في كل ما كان محبوباً أن يكون محبوباً لشيء آخر وإلا لدار أو تسلسل، بل لا بدّ أن ينتهي إلى ما يكون محبوباً لذاته. وعليه؛ فالاستقراءُ يدلُّ على أن معرفة الكامل من حيث هو كامل يوجبُ محبّته. ومحبته تقتضي الحمد على نعمة وجوده وإمداده، صلوات الله وسلامه عليه.
***
بقلم : د. مجدي إبراهيم

مفتاح النجاح للأطفال العرب في الأهواز" تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز

تُعَدُّ اللغة أحد أبرز عناصر الهوية الثقافية، حيث تلعب دورًا حيويًا في تشكيل التفكير والتواصل بين الأفراد. في منطقة الأهواز، حيث يتحدث السكان اللغة العربية، يواجه الأطفال تحديات كبيرة نتيجة لتعليمهم باللغة الفارسية. هذا الوضع لا يؤثر سلبًا على قدرتهم على التعلم فحسب، بل يعيق أيضًا تفاعلهم الاجتماعي وتواصلهم مع محيطهم. في هذا السياق، تبرز أهمية تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز، التي تؤكد على الترابط الوثيق بين الكفاءة في اللغة الأولى (L1) والثانية (L2). إذ تشير هذه النظرية إلى أن تعزيز مهارات اللغة الأم يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين الأداء الأكاديمي واللغوي للأطفال في لغتهم الثانية، مما يسهل عليهم التكيف والنجاح في بيئة تعليمية متعددة اللغات.
تأسست فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز على فكرة أن المهارات اللغوية المكتسبة في اللغة الأم يمكن أن تعزز التعلم في اللغة الثانية. تنقسم هذه المهارات إلى نوعين: (المهارات الأساسية) (Basic Interpersonal Communicative Skills - BICS) التي تتعلق بالتواصل اليومي، و(المهارات الأكاديمية) (Cognitive Academic Language Proficiency - CALP) التي تتطلب فهماً عميقاً للمفاهيم. يشير كومينز إلى أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم سيكون لديهم قدرة أفضل على اكتساب لغة ثانية، مما يعزز من أدائهم الأكاديمي بشكل عام.
أهمية اللغة الأم
تشير هذه الفرضية إلى أن تطوير مهارات اللغة الأم يُعزز من قدرة الأطفال على تعلم لغة ثانية بشكل أكثر فعالية. هذا يعني أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم (مثل اللغة العربية) سيكون لديهم أساس قوي يمكنهم من اكتساب مهارات اللغة الثانية (مثل اللغة الفارسية) بسهولة أكبر.
لذلك، يعد إدخال مناهج تعليمية باللغة العربية في المدارس خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الهدف. فهذه المناهج لا تقتصر فقط على تعليم اللغة العربية كلغة منفصلة، بل تشمل أيضًا مواد دراسية متنوعة تعزز من فهم الطلاب لثقافتهم وهويتهم.
على سبيل المثال، يمكن أن تتضمن هذه المناهج دروسًا في الأدب العربي، حيث يتعرف الأطفال على نصوص أدبية غنية تعكس تاريخهم وثقافتهم. كما يمكن تضمين مواد عن التاريخ العربي، مما يساعدهم على فهم السياقات التاريخية والاجتماعية التي شكلت مجتمعهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إدخال دروس في الثقافة العربية، مثل الفنون والموسيقى والعادات والتقاليد، مما يعزز من انتمائهم وهويتهم الثقافية.
كل هذه العناصر تعمل معًا على بناء قاعدة قوية في اللغة الأم، مما يساهم في تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال ويشجعهم على استخدام اللغة العربية بشكل فعال. عندما يشعر الأطفال بأن لغتهم الأم تُدرس وتُقدّر في المدرسة، فإن ذلك سيعزز من قدرتهم على التعلم والتفاعل بلغة ثانية، مما يؤدي إلى تحسين أدائهم الأكاديمي العام.
تطوير المناهج المزدوجة
إذن من الضروري تصميم مناهج تعليمية تجمع بين الفارسية والعربية. يمكن أن تشمل هذه المناهج دروسًا متكاملة تتناول مواضيع مشتركة. على سبيل المثال، في مادة العلوم، يمكن تدريس المفاهيم الأساسية باللغة الفارسية مع توفير شروحات باللغة العربية. كما يمكن استخدام الكتب المدرسية التي تحتوي على نصوص ثنائية اللغة، مما يسهل الفهم ويعزز من التعلم.
تدريب المعلمين
يعتبر المعلمون حجر الزاوية في أي عملية تعليمية ناجحة. لذا، يجب توفير تدريب شامل للمعلمين حول كيفية تدريس اللغتين بشكل متكامل. على سبيل المثال، يمكن تنظيم ورش عمل لتعليم المعلمين استراتيجيات مثل "التعلم القائم على المشاريع"، حيث يقوم الطلاب بإنشاء مشاريع تتطلب استخدام كلتا اللغتين. هذا النوع من التدريب يساعد المعلمين على تطوير مهاراتهم ويعزز من فعالية التعليم.
تشجيع القراءة والكتابة
تعد القراءة والكتابة من المهارات الأساسية التي يحتاجها الأطفال للنجاح الأكاديمي. لذا، يجب إنشاء برامج تشجع الأطفال على قراءة الكتب باللغة العربية وممارسة الكتابة فيها. على سبيل المثال، يمكن تنظيم مسابقات للقراءة أو ورش عمل للكتابة الإبداعية لتعزيز هذه المهارات. كما يمكن إنشاء مكتبات مدرسية تحتوي على مجموعة متنوعة من الكتب العربية التي تناسب مختلف الأعمار والمستويات.
التفاعل الاجتماعي والثقافي
لتعزيز استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، يجب تشجيع الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تستخدم هذه اللغة. يمكن تنظيم فعاليات ثقافية مثل المهرجانات الأدبية أو العروض المسرحية التي تركز على التراث العربي وتعزز من استخدام اللغة. مثال آخر هو إقامة مسابقات شعرية أو قصص قصيرة باللغة العربية، مما يشجع الأطفال على التعبير عن أنفسهم بلغة أمهم.
ختاما نقول إن تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز في الأهواز يمثل خطوة حيوية نحو تحسين التعليم وتعزيز الهوية الثقافية للأطفال.
إن هذه النظرية لا تساهم فقط في تعزيز المهارات اللغوية، بل تحد أيضًا من ظاهرة الرسوب في المواد الدراسية والتخلي عن المدرسة. عندما يتمكن الأطفال من التعلم بلغتهم الأم، فإن ذلك يعزز من فهمهم للمحتوى الدراسي ويزيد من ثقتهم بأنفسهم. وبالتالي، يصبحون أكثر قدرة على التفاعل مع المواد التعليمية، مما يقلل من معدلات الرسوب ويشجعهم على الاستمرار في التعليم. فمن خلال إدخال التعليم الثنائي اللغة وتطوير المناهج المناسبة وتدريب المعلمين وتشجيع القراءة والكتابة، يمكننا توفير بيئة تعليمية تدعم النمو الأكاديمي والاجتماعي للأطفال وکل هذا یأتي من اهتمام حكومي ومؤسساتي شامل بالموضوع. إن الاستثمار في لغتهم الأم ليس فقط واجبًا ثقافيًا، بل هو أيضًا مفتاح لتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
***
سعيد بوسامر/ كاتب و باحث أهوازي
نوفمبر 2024
..........................
المصادر التي راجعها الباحث:
Teemant, A., & Pinnegar, S. E. (2019). The Interdependence Hypothesis: Jigsaw Reading B1. Principles of Language Acquisition. https://edtechbooks.org/language_acquisition/jigsaw_reading_d.
-أبوعميشة، خالد. كيف أطور مهاراتي في اللغة العربية؟ نشر في:
https://learning.aljazeera.net/ar/node/944
-كويونكو، علي. تأثير اللغة الام على اكتساب اللغة الثانية، مراجعة علمية. مجلة كلية اللاهوت. 2021.

 

يقال إن الحب هو تلك القوة الخفية التي تتجاوز كل المقاييس المادية والتصورات الحسية، فهو قوة شاملة، "كالمحرك الكوني" الذي يربط الوجود، كما أشار إليه أرسطو في حديثه عن "الصداقة الفضلى". هذا الحب يكتسب معناه من القدرة على تفتح النفس البشرية ونقلها إلى فضاءات أسمى، حيث لا حدود للإخلاص، وحيث النقاء النابع من الروح يُجبر الإنسان على إظهار أعمق ما لديه من جمال وأصالة.
فالحب الحقيقي، كإيمان أفلاطون بأن الخير والجمال هما غاية الوجود، يُعد عملًا روحانيًا ساميًا. هو مغامرة نغامر فيها بكل مشاعرنا وقلوبنا، دون أن نعرف ما إذا كان الطرف الآخر سيقدر هذه المشاعر أو يبادلنا الحب. إن الحب الحقيقي يبني الثقة، ويثبت الأمل، ويرسخ الصبر، وكما قال الروائي الفرنسي أنطوان دو سانت-إكزوبيري: "المحبة ليست أن تنظر في أحدهم، بل أن تنظر في نفس الاتجاه"، حيث يشير إلى أن الحب هو وحدة في الهدف والرؤية، لا في المصالح والمكتسبات.
ومن أبرز تجليات هذا الحب النقي هو مفهوم "الأغابي"، ذلك الحب الذي يتعالى عن الأنانية والشروط، فكما يرى الفيلسوف مارتن بوبر في نظريته عن "علاقة الأنا والأنت" بأن الحب الحقيقي هو أن ترى الآخر ككيان كامل، لا كوسيلة لإشباع رغباتك الشخصية. إنه الحب الذي يشمل الجميع بغض النظر عن سلوكهم أو ردود فعلهم؛ حب يعبر عن تعاطف غير محدود وعطاء غير مشروط.
وقد يرى البعض أن الحب هو نوع من الحرية المطلقة، أو كما قال سبينوزا: "الحب هو الفرح المصحوب بفكرة سبب خارجي." فالحب ينشئ علاقة بين الذات والآخر، لكنه لا يُحتكر في مطالب معينة أو شروط، بل يمتد ليُطلق حرية الشخص الذي نحبه، فيعطي دون أن ينتظر، ويتمنى الخير للآخر حتى ولو لم يُبادَل. إنه نوع من الترفع عن المكافأة والتقدير، لأن المحبة الحقيقية تكمن في أن تمنح دون أن تتوقع، فإذا لم تتوقع شيئًا ولم تطلب شيئًا على الإطلاق، فلن تخون أو تشعر بخيبة أمل؛ فقط عندما يطلب الحب، يُصبح سببًا للألم.
ومن هنا، فالحب ليس أنانيةً تتسع أو تعاظم، بل هو تجرد تام من الأنانية، ويُظهره الناس في "الاهتمام بالسعادة الداخلية للآخر"، كما قال أريك فروم، فهو يرى أن الحب فعل إرادةٍ ونضج، حيث إن العطاء هو جوهر الحب الحقيقي، وهو عطاء لا يحده شرط أو توقُّع، بل ينبع من قناعة داخلية بأن الفرح الحقيقي يكمن في إسعاد الآخر، حتى وإن لم يدرك هذا الشخص قيمة ما تقدمه له، لذلك فهو يتطلب قوة روحية عميقة. وكما قال الفيلسوف الصيني لاوتسو، "من يعرف الآخرين حكيم، ومن يعرف نفسه مستنير."، فالحب غير المشروط هو تجسيد لهذا الفهم العميق للذات، والقدرة على رؤية الآخرين كامتداد للنفس، دون الحاجة للسيطرة أو التحكم.
الحب الحقيقي هو عندما تخبر شخصًا ما أنك تهتم بمشاعره، بينما الحب المشروط هو عندما تخبره أنك تحب ما يجعلك تشعر به. الحب المشروط أناني وأحادي الجانب، وهو ما يقدمه الناس لنا عندما نفعل ما يريدون، وللأسف، هو النوع الوحيد من الحب الذي عرفه معظم الناس. لقد أحبنا الناس أكثر عندما جعلناهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم، مما يعني أننا بحاجة لشراء الحب المشروط. وعندما لا نعرف الفرق بين الحب الحقيقي والحب المشروط، نجد أنفسنا نستقر على "أخذ وعطاء" الحب المشروط الذي يتركنا دائمًا فارغين، غير سعداء، محبطين ومستائين، لذلك من المستحسن معرفة علامتين موثوقتين تدلان على أن الحب ليس حقيقيًا، وهما: التجاهل وخيبة الأمل.
وهنا تبرز أهمية "الثقة" كركيزة في الحب، فهي ذلك الجسر الخفي الذي يُمكننا من الاقتراب من الآخرين بصدق وأمان، كما قال سقراط، "إن النفس التي تملك فضائل الحب تستطيع أن تكون في سلام مع العالم." الثقة هنا ليست مبنية على ضمانات أو وعود، بل على استعداد دائم للعطاء دون مخاوف. إنها الثقة التي تتغذى على وعي عميق بأن الحب الحقيقي لا يُقاس بما يُنتظر، بل بما يُمنح بلا حدود.
أما عندما لا يعرف أحد كيف يحب، فإن واجبنا لا يقتصر على تعليمهم بالكلام، بل بإظهار ذلك الحب في أفعالنا اليومية، فالفيلسوف الروماني سينيكا يرى أن "التعليم الحقيقي هو أن يكون المعلم مثالًا حيًّا"، وهكذا فإن الحب الصادق يظهر نفسه في العطاء المستمر، الذي يُظهر للآخرين كيف يمكن أن يكونوا محبين بلا شروط.
ليظل الحب بمثابة تلك الطاقة الدافئة التي تتجاوز التوقعات، وتدفع الإنسان لأن يصبح جزءًا من كينونة جماعية أوسع، يسهم فيها بنقاء وإخلاص. إنه ذاك السلام الداخلي الذي يحقق الأمان النفسي، والذي لا يتبدد عند المحن، بل يزهر في ظل الصعوبات، متحولًا إلى قوة خلاقة تبث الحياة في النفس الإنسانية.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

الإقبال على إعادة محاولة فهم "الاستبداد"، ليس استثناء زمنيا، أو رافعة منذورة لتصيد الفراغ من أحداث تجبر العالم على النظر البعيد والانتظار الحاسم لعواقب شديدة العتمة.
لقد كان "الاستبداد" كحالة فلسفية متعاقبة وسيرورية، متحركا ومتشابكا، وأحيانا غامضا ومغلقا، يحتاج دوما إلى تفكيك متعالي عن طبيعة التفكير ومراوحة التأويلات المتعددة. ولهذا نجد أنفسنا محاطين بالشكوك حول درجاته، وقدراته الخفية، و(برمجياته) الخرافية التي تطبع جزءا كبيرا من تفوقه على نفسيات الإنسان وسلوكياته المتقلبة وتجاويف إحداثياته في الكينونة والمصائر المستتبعة.
إن أهم احتمالات وقوع الاستبداد، كما هو مطبوع في الذهنيات الثقافية والتاريخية، كونه ينتج عن صراع الفعل المرضي للسلطة لدى الحاكم، أو "الحكومة"، ما يشكل نسقا طبائعيا عنيدا، يراكم الخيبات والضلالات واللا عدل وتكريس الفساد وإغراق المجتمع بالنظام الفرداني الاستحواذي، وتعليق كل أشكال قيم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية؟، وهو أمر عكف معظم الفلاسفة والمفكرين على تحليله وشرحه، وتقريضه وتنكّبه، حتى بلغ الحلقوم، وانتهى في تخوم علوم النفس المرضي وأراجيفه، فلم يبق سوى النزوع إلى تعليق جثثه على حبل النفض والاستغفال.
ولم يصر الشعب المنقاد المستسلم، شعبا "توكليا" و"جاهلا" وفاقدا للهمم ومنشغلا بمعيشته البهيمية البدائية، بعيدا عن الحرية الفكرية والأخلاقية، إلا لأن المستبد أسير قفص التعظيم وهوى النفس، وما وُجِدَ الاستبداد إلا لتشويش الحقائق وقلب الموازين، والأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، كما قال الكواكبي.
وأضحت هذه الظاهرة العولمية القاهرة، مندوحة للقطعيات الكبرى، في عالم السياسة الدولية، ونوازعها المثاقفاتية المشمولة بقوة الصراع الحضاري والانزياحات الحاضرة في النسيج العام للقرية الكونية الصغيرة.
وهي إلى قهريتها المفرطة، وشدة بأسها في آليات الردع الجديدة، ضمن معيارية "التخلف" و"التبعية"، صارت تؤطر الواقع السياسي الدولي، بحمولاته التجزيئية وتفاعلاته مع وضعيات "سلط العالم الجديد" الذي تنظمه وتسيطر على قواعده "الدول العظمى" المسيطرة. وقارئ التاريخ الحديث، يعلم جيدا، أثر هذا "الاستبداد" وحتمياته الفظيعة، ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو الموقعة في 1916 ، المعاهدة السرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى، سوى دليل على استمرار اصطراع منظومة "الاستبداد الدولي" في تدوير "العالم" وإغاضته على الشكل المطلوب والآمن، بحسب المصالح والمنافع الاستعمارية المعلومة.
ومن ثمة يصبح "الاستبداد" طبعا عولميا متحولا، ينجذب إلى التقليد والمراوحة، ومغايرة الثقافة واستئثار لغة الآخر بكل صروف الحذاقة وسرعة التقييس، وتوطين مخالفة الذات ونقذها، مع التفريخ اللازم لتقبل تشويه الذاكرة وتحجيم قيمها وأخلاقها.
والعالم الآن، يهيأ لنزوع استبدادي أكثر قتامة ومسخا مما انجلى في قرون غابرة. فقد توسع افتراق الاستبداد بالحدود الجغرافية وبالعددية الديمغرافية للأوطان المستقلة بحدودها المفترضة. واستقصدت الحاضنة العقلية والوجدانية للشعوب، لتكون أحوازا بديلة للقارات الكونية المشدودة بمؤثرات وخلفيات أيديولوجية وسيكولوجية فتاكة، تسكر أدمغة التابعين الخانعين، وتجمد أوردة عروقهم، وتحاصر أفكارهم وأحلامهم وخيالاتهم، وتروض في أقصى مواجهاتها الصعبة مناطق الارباك والتشويش، حتى آخر الحسم، الذي يصل السكين بالعظم والقشرة الدقيقة بمخ المآل الحتف؟.
ومن قتامة هذا الغزو الجبروتي الكذوب الأفاق، أن يركب المثقفون ونخب المجتمع موج الكمين، فلا يكاد يرى من كثرة الغيم والشبورة، من يكون القدوة، ومن يحمي الحمى، ومن ينثر العدل، ومن يحفظ الكرامة ويصونها، ومن يقاوم العسف والإذعان، ومن يكسر شوكة الاستبداد ؟.
ذلك أن الاستبداد/ الموت الأسود الآن، أغلق مسامع كل شيء، مما كان يطلق به سحر البروبجندا قبلا، ك "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" وقيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية والرحمة... إلخ، متساقطا عبر واقع استعباد العالم وإحالته على السجن، بكل معاني الوحشية والتطويع والتركيع والتجويع والإبادة والتهجير القسري. وما عاد لنا اليوم، سوى العودة مجددا إلى اقتفاء أسرار تقشير بصل "الاستبداد" وتوسيع دياجيره، حتى يكون طعما مستحضرا لتجميل صورة "الغرب" النكوصي وتابعه "العربي" الطائع، الذي استنفذ وجوده الحضاري وأعادنا إلى الصكوك الأولى من وجع التخلف والقصور والشذوذ عن آفاق الممكن وحتمياته في الصيرورات والسنن الكونية.
***
د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

"نفي الهوية" خيار ليس بالارادي، منطو في الجوهر على نفي لمايعتبر "مجتمعية" بالحكم المتداول، مع شيء من التدقيق وتعديل زاوية النظر ومنظومة المقاربة، لن نعدم مايدلل على تاريخيته غير المكشوف عنها النقاب، متحققة واقعا ودائمه ابتداء من تبلور الظاهرة المجتمعية باللاارضوية السماوية الحدسية وتاريخها النبوي نشأة وانتهاء متعاقبا غير مقر ولامعترف بكينونته، لالنقص فيه بذاته، بدلاله وجوده ضمن اشتراطات امتناع تحققه، بقدرما في الطاقة الادراكية العقلية البشرية المتاحه والباقية مستمرة حتى الساعه، كما في غياب الوسائل الضرورية المادية.
تتبلور المجتمعية ابتداء كونية لاكيانوية متعدية للحدود والجغرافيا، متجاوزة اشتراطات الارضوية الجسدوية، غير انها تبدأ غير مهياة للتحقق بمقابل النمطية الاخرى الارضوية الموافقة لاشتراطات الجسدوية وقصوريتها التي تغلب وتسود على مدى التاريخ اليدوي، بينما تتخذ اللاارضوية شكل التعبيرية الشامله، تخترق كيانوية الدولة والبنية الارضوية، مكرسة حالة "الازدواج" المجتمعي الدال على المؤقتيه المميزه للطور اليدوي، بانتظار القفزة الفاصلة الالية حيث تتوفر الاسباب، وماهو لازم وضروري للتحقق اللاارضوي الكوني، بما يضعنا امام تعاقبية، تبدا باللاارضوية غير الممكنه التحقق، مايتيح الفرصة والمجال للغلبة الارضوية، وصولا الى الطور النهائي اللاارضوي، وكأن الحال لهذه الجهه يذكرنا بما قد وضع توهميا بخصوص المسارات الطبقية على يد ماركس، من "الشيوعية البدائية" الى "الشيوعيه الالية العليا"، بغض النظر عن بدائية المنظور "الحتموي" الاصطراعي الازدواجي الطبقي المشار اليه، والعائد الى لحظة متقدمه من محاولة الخروج من القصورية الارضوية،محكوما للطبقية بدل الحقيقة الاساس الكبرى الابتدائية، تلك الموصولة بالاصطراعية الازدواجية "المجتمعية".
اي من المجتمعيتين هي المجتمعية، اللاارضوية ام الارضوية، وهل لهذه الظاهرة سيرورة تشكلية تاخذها للاكتمال، مقابلها هل الكائن البشري الحالي هو الغاية والمنتهى كينونة، ام انه بالاحرى حالة توسط انتقالي بين الحيوان والانسان، لنا ان نرى مايتناسب مع مستوى وممكنات ادراكيتنا بالاخص بعد طول تراكم تصوري واعتقادي ليس لنا ان نتبين نطاق قصوريته المبني عليها، ولاحتى التساؤل الواجب الضرورة: كيف يمكن لكائن انتقالي لم يكتمل بعد وهو موضوع ضمن اشتراطات تفاعليه ترقوية منها يستمد اسبا ب نشوئه وصولا لغاية وجوده، كيف يمكن لكائن من هذا الصنف او النوع الانتقالي، ان يشكل بناء اجتماعيا مكتملا ابتداء من دون استثنائية في الاشتراطات وظروف النشاة والتبلور كما الحال في ارض سومر كمثال، الوضع الذي لم يكن وادرا بيئيا وطبيعة، شموله لاجمالي المعمورة الامر غير المتلائم مع الكينونه المستجده الانتقالية الناتجه عن الوثبة العقلية الاولى من مغادرة الاشتراطات الحيوانيه، مع حلول زمن الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية.
ثم هل من الممكن ان نتعرف على مروية تسرد لنا المعاش مجتمعيا تكون في حينه غير "انسايوانيه" الامر المستحيل بنية وكينونه بشرية، بانتظار ساعة الاقتراب من مغادرة المجتمعية الارضوية الانسايوانيه، مع بد توفر الاشتراطات الانتقالية النهائية العظمى التحولية، ساعة يصير لازما النظر في المجتمعية بما هي حالة انتقالية، تبدا كغلبة جسدوية ارضوية محكومة لتفاعلية مفضية الى الالية بعد اليدوية، حين تفقد مقومات استمرارها وصلاحيتها بما هي طور ومسار لازم، ومحطة اولية انتقالية في المسار المجتمعي، ليس من باب الاجحاف القول بانها" ليست مجتمعية" بل مجتمعية غير مكتملة او في طور الاكتمال، منطوية على اسباب وديناميات الانتقال والتحول الى المجتمعية.
فماذا بناء عليه بما خص الذاتيه، وهل مايعرف بالكيانات والدول والامم والقوميات هي غاية ومقصد، مقابل نفي الكيانيه ومايتصل بها، اذا كان لمثل هذا النفي ضرورة حتى يتلائم مع مقتضيات الانتقال التحولي الاكبر، والنضج، مايعني في التطبيق "نفي الذاتيه" باعتباره الهدف والمبتغى المطلوب كغاية لسيرورة المجتمعات وقت تتحول الى مجتمعات مكتملة القوام والبنيه، مايعني تحول هذا المقصد الى مهمة واجب الاضطلاع بها عند لحظة من التاريخ المجتمعي.
ومن المؤكد على هذا الصعيد ان "نفي الذاتيه" الكيانوية لن تكون له نفس المكونات واشكال التحقق الضروري مقارنه بالكيانيه المنقضية الصلاحية، مع عالم الدول، ومع الخروج من ربقة الجغرافيا والعيش المشترك وغيرها من التشابهات، فان قوة وحضور "الكتابية" اي الرؤية المعدلة للتاريخ المجتمعي وللحقيقة المجتمعية ومآلاتها، تغدو هي القوة الفاعلة، وهذا مايعيدنا الى الصيغة التحققية الكتابية الاولى الابراهيمه، المتخلصة من وطاة الجغرافيا، والحاضرة كتابيا كونيا على مر تاريخ الظاهرة المجتمعية، وان هي وجدت حدسيا متلائما مع اشتراطات عدم التحقق الطويل المستمر حتى اليوم.
تحضر "الكتابية" اللاارضوية الشرق متوسطية بما هي كينونه كونية متلائمه مع الحقيقة المجتمعية مع اكتمال اسباب نضجها بعبورها طور الاارضوية والقصورية العقلية البشرية الانسايوانيه حيث تتجلى بالاصطراع الافنائي الذي يسلطه الغرب على بؤرة اللاارضوية التاريخيه(1)، ضرورات الانتقال الكبير اتفاقا مع منطويات وحقيقة الانتقال الالي، بالضد من تلك التوهمية الارضوية التي يشيعها الغرب ويحولها الى مسلك تخبطي تدميري متناقض مع ماصار مع الاله وتدرجاتها وصولا الى " التكنولوجيا العليا/ العقلية" حال افتراق، بين وسيلة الانتاج العقلي، والعملية الانتاجية الارضوية الجسدوية، مايضع مع العولمه ولاندحار العملي للكيانوية كبداية، اجمالي الحياة القائمه ودولها مدعية الرفعة الحضارية الحداثية، في الاضطراب المستمر والفوضى والعنف الابادي الساخق للاخر، بما يحمل العقل على البحث عن مسرب اخر للاستمرار بظل اشتراطات استثنائية تعيد حضور حال "العيش على حافة الفناء" وقد صارت كونية شامله لعموم المعمورة، بينما يستمر الاصرار الارضوي بالقوة والتدمير على فرض ماقد صار من قبيل الماضي، وهو ماغدت البشرية تعيشه اليوم ومن هنا فصاعدا.
الذاتية الشرق متوسطية هي موضع "نفي الذاتيه"، الذي هو ومن هنا فصاعدا قضية وهدف الوجود الذي لا حياة ولا مجتمعات من دونها، بينما تكون هي قد بلغت عالم الانتقال من النبوية الحدسية اللاارضوية الاولى الانتقالية، الى العليّة التحولية السببيه، وهنا يتمثل " العصر" لافي التوهمية الحداثوية الغربية المواكبه للانتقال الالي بلحظته الافتتاحية، المغمورة بسطوة القصور العقلي الارضوي اليدوي.(2)
***
عبد الاميرالركابي
............................
(1) يراجع ( كتاب العراق)، عبد الامير الركابي، دار الانتشار العربي، بيروت.
(2) مايزال الطريق طويلا امام الرؤية الكتابيه الثانية الضرورة النهائية اغير النبوية تفصيلات ومنظورا.

شارك استيفان كوكاف من جامعة باديربورن الألمانية بورقة بحث قدمها لمؤتمر «العقلانية في علوم الدين الإسلامي بين التقاليد والحداثة»، وناقش فيها تطور مصطلح التسامح ومفاهيمه وتطبيقاته (وبالأخص في بلدان تمر بمرحلة غامضة وقلقة مثل العراق – الذي مزقته حربان، الأولى شنها النظام ضد أطياف متعددة من النسيج الوطني، والثانية شنتها قوات التحالف الدولي ضد النظام حتى نجحت بإسقاطه). وترتب على ذلك نوع من الفوضى الكونية، ما أعاد فكرة التسامح للصدارة.
يبدأ كوكيف مداخلته من اتهام راينر فروست للتسامح بأنه مصطلح تأزيم. فهو يفترض وجود مشكلة اجتماعية تحتاج للمصالحة. وقد ظهرت كلمة tolerantia لأول مرة على يد شيشرو المتوفى عام 43 ق. م. وكانت تعني بنظره تحمل الألم، ثم طورها الفكر المسيحي المبكر إلى معنى يحمل إساءة وتكفيرا للآخرين. ولكن تطور المفهوم لاحقا بعد الحروب التي عصفت بأوروبا الحديثة، وأصبح موضوعا مستقلا عكس الأزمة الناشبة بين الأديان والمعتقدات. ويرى فروست أن رسالة جون لوك 1689 هي ذروة هذا التيار، وأن الليبرالية كانت الحارس الحقيقي لكل التفاهمات. فقد وضعت حجر الأساس لثلاث نقاط هي: الاحترام المتبادل، احتفاظ كل طرف بسيادته، رعاية القانون للجميع. لكنه لم يبين ماذا يقصد بمعنى القانون.
وبعد دخول عصر التنوير أضيفت للتسامح ضمانات علمانية، ولكن بعد انتشار التطرف في القرن العشرين، وظهور الجماعات الراديكالية، بمعنى الجهاديين وليس الثوريين الحالمين والمبشرين بيوتوبيا واقعية، ضمن إطار اجتماعي، تبنت منظمة اليونسكو عام 1995 ما يعرف اليوم باسم «إعلان التسامح». وعلى أساسه أمكن لنا أن نفهم أنه «احترام وتقبل وتفهم التنوع الكبير في الثقافات». ويضاف لذلك الالتزام بتعدد الثقافات ودور القانون وحرية الاختيار والانتماء – ما يسميه الإعلان الديمقراطية. وهو تعبير اجتماعي إغريقي تمت تعبئته لاحقا لخدمة الأيديولوجيات والسياسات المتصارعة في الدول الغربية. وحسب كلام ويندي براون أنتجت السياسة الغربية هوية منفصلة للتسامح هدفها الأساسي التحكم بأشكال النفور بين جميع الأطراف لأجل إعادة رسم الحدود بين الأديان والثقافات والأعراق، وليس لإلغائها – وهو المفهوم نفسه الذي تبناه جاك دريدا، فقد كان مع التأكيد على الاختلاف وليس زيادة التكرار – والكلام الأخير للموريتاني السيد ولد أباه.
ويضيف كوكاف أن القرآن نظر للتسامح على أنه ضرورة تفرضها ظروف الدولة الناشئة. وبتعبير يوحانان فريدمان، كان القرآن نص إثبات يدعو للمسامحة. بمعنى الاستيعاب وحسن الجوار مع أتباع بقية الأديان، فقد منع القسر في مسائل الإيمان. وبدأت حركة الإصلاح الإسلامي المعاصر نشاطها من هذه الفكرة، ورغم وجود محددات منها دفع الجزية ومحاربة من يحاول التأثير على المسلمين، وبالأخص ضعاف النفوس، لم يفقد الذمي حقه بحرية التعبير عن معتقداته. ويذكر وجود أحاديث تعزى للنبي محمد، سمح فيها بالاختلاف واعتبر أنه رحمة.
ويعتبر فروست أن الغزالي وابن رشد من أهم الأمثلة التي تثبت وجود تنويع في قراءة وفهم الآيات القرآنية. ولكنه في الوقت نفسه أكد أن الغزالي غائب تماما أو تقريبا عن الساحة الأوروبية، بينما استطاع ابن رشد أن يشق طريقه وأن يفرض نفسه على عصر النهضة. ومن بين النهضويين العرب لا يمكننا غض النظر عن التونسي الطاهر بن عاشور الذي استمد معنى التساهل مع غير المسلمين من القانون الإلهي (الشريعة). وربما كان العراقي ماجد الغرباوي أحد أهم المشتغلين بالفكر الإسلامي، الذي خصص الطور الأخير من حياته لتحديد ضرورات التسامح، بحيث نفهم منه أنه تحول من ظاهرة إنسانية عامة إلى ضرورة حضارية وسياسية. وكما ورد على لسانه في أكثر من موضع لا يوجد إنسان ولا وجود دون ثغرات وأخطاء ونقاط ضعف، ولذلك لا بد من العفو على أخطاء الآخرين، لأننا نتوقع منهم أن يعفوا أيضا بالمثل عن هفواتنا. وبهذه الطريقة نضمن تقوية شروط حياتنا وبالمقدمة الحريات المدنية. وإذا ساعد تدهور سلطة الكنيسة في أوروبا على تغليب أخلاق العفو، نحن حاليا بحاجة ماسة لإعادة النظر بجملة من الثوابت المشكوك في أصالتها، ولذلك يتوجب علينا فتح النهايات والدروب المسدودة. وأن نتعامل مع الماضي بقراءة نقدية. بمعنى أن نفهم المعنى وأن لا نتوقف عند ظاهرية النصوص. وبهذا السياق يعود لفعلية كل نص ولدور الناسخ والمنسوخ ولحدود الأحكام والتشريعات. ويقدم جملة من الأدلة التي ترفض أي إكراه في الدين الإسلامي. وهذا في مرحلة القوة والتمكن، فما بالك الآن، والمسلمون بوضع أضعف، وأكثر من نصفهم يبحثون عن حل لمشكلاتهم المستعصية في بلدان غير مسلمة. ويتوقف مطولا عند مشكلة محاسبة المرتد. ويؤكد أن الحساب مؤجل ليوم الدينونة ولا يوجد أي نص يثبت أنه مطلوب في الحياة الدنيا.
وفي نهاية ورقته يذكر كوكاف أن الغرباوي لا ينفرد وحده بهذه الرؤية، ويقف معه الإيراني عبد الكريم سروش وزميله محمد مجتهد شبستري، والسوري هيثم مناع، والسعودي محمد محفوظ.
***
د. صالح الرزوق - كاتب سوري

 

لا تحتاج الدعوة الدينية لشئ أكثر من التحقق برافدين: العلم والنور. ولكن يُلاحظ أن الذين يكتبون في الدين فضلاً عن الذين يقولون فيه ما ليس فيه، يركبهم غرور أجوف لا يستند لا على العلم، ولا على النور؛ بل على الصلف وحب الظهور وسياق الناس بالإكراه إلى حظيرة الإيمان، مع أن الدعوة الدينية شريفة سامية هى من معدن الرسالة تستقي مددها.
قال صاحبي وهو من ذوي العمائم المقدسة: لم ترد "التناكة" باسم الدين في الذهن بالمرة، ولكننا حين نكتب في الدين نكتب لأنفسنا لعل شيئاً ممّا كتبناه يرسخ في النفس فيقوِّيها على الهداية ويلزمها الاستقامة. وهذا هو القصد حتى إذا صادف توافقاً مع أحد فمسّ كلامنا فؤاده؛ فبها ونعمت، وإنْ لم يكن فالله من وراء القصد، وهو خير شاهد وخير معين.
قلت: وما الذي تراه من غرور بالعلم والعبادة، ومن تعالى بما ليس في الإنسان من حقائق بل متاجرة بالأكاذيب، ألم يكن الأمر بحاجة إلى تطهير؟ ثم استطرد ليصف مهمة التجديد التي يعتبرها في زماننا هذا مهمة شاقة، بل مستحيلة فرددت عليه قائلاً:
مهمة شاقة نعم. أمّا أن تكون مستحيلة أو شبه مستحيلة فلا؛ لأنها لو كانت مستحيلة لما وجد مجددون ومصلحون، وما تقدًمت الإنسانية قيد أنملة. الأصل يا صديقي هو الإمكان لا الاستحالة، وبالإمكان يقدم التفاؤل البناء على الهدم والإنكار، وليس التجديد هدماً ولا إنكاراً. وإنما تفاؤل بمستقبل إنساني أفضل وأرقى في ظل قيم جديدة تتجاوز وتستنير.
فالإنسان ليس من طبيعته الميل إلى التقوقع والخلود إلى الراحة، وإلا لما عمّر الأرض وصعد القمر وتحالف مع الشيطان، فهو ابن النضال مجبول على العزم والمضاء. غير أن التجديد في هذه المنطقة مشروط بشروط تستوفى في المجدد وفق تقدير شروط الاجتهاد، لكن البصيرة يا صديقي كالبصر أقل هفافة عابرة تؤثر فيها. والدين قائم على البصيرة ومن فقدها فقد الدعوة إلى الله على بصيرة، وفقد تباعاً التجديد في أسلوب الخطاب، ولم يعالج العارض الذي عرض لبصره حتى أعماه. خذ مثلا صارخاً على ما عساك هربت من التعليق عليه.
عندما اجتمع جلال الدين الرومي بـ شمس تبريزي للوهلة الأولى، كان الرومي ماسكاً بيده كتاباً، فأخذ التبريزي الكتاب من الرومي ومسكه بالمقلوب، وأخذ يتطلع فيه ثم رماه في النهر، فجن جنون الرومي وقال له: لماذا ألقيته في النهر، إنه علم، ولا توجد نسخة أخرى من الكتاب. غير أن التبريزي لم يكترث لحديث الرومي وقال: أتريد الكتاب؟ فقال الرومي: نعم فمد التبريزي يده في الماء وأخرج الكتاب سليماً، فتعجب الرومي، ولم يكد التبريزي يراه على هذا الحال حتى قال: أطلب علماً لا يمحوه الماء، علماً يثبت في القلب؛ فذهل الرومي وقال: أتبعك على أن تعلمني، فقال التبريزي: إنك لن تستطيع معي صبراً، قال الرومي: بل أصبر.
رد التبريزي: أريدك أن تأخذ جُرّة من الخمر وتطوف في المدينة لتبيعه، فقال الرومي: كيف أعمل هذا المحرم؟ فقال: كما تشاء. قال الرومي: أطلب مني شيئاً آخر فقال: لا أريد غير هذا.
ذهب الرومي ومكث الليل يفكر في الأمر ثم وافق. فأخذ جرة الخمر بملابسه وعمامته وهو يجوب الشوارع يبيع الناس الخمر، فقال الناس: جُن الرجل، وقال أناس آخرين: لقد فضحه الله، وهذه حقيقته. فعاد منكسراً ذليلاً إلى التبريزي وهو يقول: لم يشترِ مني أحد. قال التبريزي: هذا يكفي ألقِ ثيابك وأغسلها، وتطهر. فقال الرومي: ثم ماذا ؟ فقال لا شئ، بل أنت الآن إنسان عادي كنبتةٍ صغيرة، لقد كان على رأسك صخرة كبيرة من غرور عمامتك، وها قد كسرتها.
إنّما أردت أن أزيل عنك هذا العجب والشعور الدائم بالأنا؛ لترجع الى حقيقتك بلا عنوان ولا ألقاب، ترجع كما أنت وتنزع عن روحك كل ما يكدرها، وأن تذهب هذه الهيبة المصطنعة لرجال الدين على أنهم مقدّسون في أعين الناس.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم

عند تعريفنا الحضارة اي حضارة الانسان، ‏ سوف يبرز مفهوم المنتج، او التميز ولذلك فإن الحضارة توصف بانها ما يميز أمة عن امة أو شعب عن شعب في ‏مفهومين الأول هو نتاجهم في الجانب النظري والآخر هو الجانب التطبيقي أو العمل أو المادي، فهو تميز بشكل عام في جوانب العادات والتقاليد، او في الاداب والفنون والعلوم والعمران، والسياسة والاقتصاد، وقد تأتي كلمة “حضارة” من الجذر العربي “حضر”، مما يشير إلى التحضر والاستقرار في مكان معين، خلافاً للترحال أو البداوة.
وتتميز الحضارات بعناصر مثل النظام الاجتماعي، الأنظمة القانونية، التعليم، العمارة، اللغة، والأديان، التدوين، الادارة.
والحضارات عديدة ومتنوعة، منها الاصلية ومنها المصنعة التي هي اقرب الى النمو الورمي منها الى تكون طبيعي لنشاة متطورة، ومن الحضارات حضارة الظل فهي تعتاش على منتجات او مخرجات عباقرة الشعوب الاخرى، وهذه حضارة الفلاش او السرقة مع تاكيد لقوتها وعلومها، اي اننا نلحظ تطورها العمراني والدعم الفني، والنشاط الادبي، ولكنها تبدو اشبه بمجموعة من التائهين السارقين حصلوا على مغانم فاسسوا المشاريع العالمية، لاستقطاب اهل الادب والفن.
ويتوجب علي هنا العروج وتحليل حضارة الشيطان، وهو امر كتبت عنه مقالا تحت عنوان الموجات الحضارية السالبة، واستعرت في وقتها مصطلح توفلر لاقوم بنحت مفهوم الحضارة السالبة، والتي وزعتها على مراحل بدات باعتراض ابليس ثم النظرة ثم المراحل المتوالية حتى وصلنا الى الحروب العالمية التي تاسست فيها العلوم وخلع المجتمع الغربي الحياء، ومارس الحرية بابشع صورها.
وما يمكن تسميته بحضارة الشيطان تعني ان الانسان الذي يؤسس للعلوم او الاداب او الفنون او الادارة والاقتصاد والسياسة او العادات والتقاليد، وفق منظور عقلاني ومستقل عن الحث الشيطاني فيمكن وصفها بحضارة الانسان، اما صبغة الفعل او المنتج الانساني وتغليفه بغرض او قصد يتعلق بحرف الانسان عن القواعد الانسانية الصحيحة او الطبيعية او الفطرية او المنطقية والعقلانية، فان هذا منتج او سلوك، يدرج ضمن مفهوم حضارة الشيطان، ونحن هنا لسنا بمعرض الحديث عن مدينة الله او الانسان، بل تشخيص الفعل الانساني على مر التاريخ وتمييزه فيما اذا كانت بوصلته او غايته هي السير بمنهج الشيطان ام في منهج الانسانية.
لكن كيف نحدد هذه الحضارة او تلك من زاوية تبعيتها للانسان او الشيطان؟ اعتقد بان الحوادث التاريخية التي وصفت في يوم ما كانها قطع من الثلج تسير في محيط التاريخ والزمن، فان هذه الحوادث، تعطيك دليلا لا مجال للشك به، من تدخل شيطاني، يتصل من دون شك بالسرديات المقدسة التي اشارت الى ان الشيطان كان لديه فعلا قصديا وغائيا موجها الى منظومة الانساني لتغير خارطة وجودهم وبقائهم واسس عملهم، وحتى هيئاتهم واشكالهم (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْشَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)وقال تعالى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّـهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّـهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).
وخذ امثلة للحوادث في التاريخ تجد ان يد الاختلاف والعبث والتغيير نحو القبح والفساد حاضرة، ومنها الحروب وقتل الابرياء والمثلية، والبغاء، والدكتاتوريات، وقد تتضح لك صورة ان هذه الافعال هي نتاج انساني، وبالتالي فهي حضارة الانسان، الا ان الحد الفاصل بين فعل وفعل هو التدخل الالهامي الخارجي، وهو الايحاء، وللشيطان خصيصة الايحاء الى اوليائه، واخطر اساليب هذا الايحاء هو الجماعي والمدعوم من السلطة الغاشمة او العالمية.
وحتى التكنلوجيا يمكن تمييزها على هذا الاساس، فالالة الذكية والذكاء الاصطناعي اليوم قد يكون حضارة انسانية، لكن استثمار البعض منه في القصدية الشيطانية لغرض الهاء المجتمعات وتمرير الاهداف المختلفة، يجعله سكينا بحدين، فقد تنتمي للبشر او تاتمر بحضارة الشيطان.
اعتقد ان ما يميز حضارة الشيطان، انها كيان طولي في التاريخ، وليست كيانا عرضيا كما هي حضارة الانسان،فهذا المخلوق الذي رافق البشرية بوصفه عامل الاعاقة الاقوى والاكثر اجتهادا بتنفيذ منهجه، وبوصفه الثنائية التي ترافق نسخة الانسان الذي اعترض عليه في اول بدايات البشرية، تلك الثنائية التي جعلت الشيطان ايضا احد علل وجودنا، والا فان عدم وجود الشيطان وحضارته سيحيلنا الى مجموعة نساك وزهاد ومتالهين، اقول ان هذا الشر المضاف لوجودنا او الذي اضفناه نحن بفعل مخالفة ابونا ادم للوصية الالهية يمثل محرك تاريخ حضارته التي تتداخل بشكلها الطولي مع الجانب العرضي الذي يؤسسه الانسان بين فترة واخرى، وقد نقول بان ما فعله هولاكو وهتلر ومن تصادم معه وصدام وقتلة الاطفال والانبياء، وكل طغاة العالم هو فعل ينتمي الى الحضارة السالبة او حضارة الشيطان، وهو كلام منطقي لان غاية ونتائج هذه الافعال تتلائم وغاية حضارة الشيطان.
فكل مخرجات الفعل الانساني، لم تؤسس على اساس فائدة وتهذيب او تطوير او تنمية الجانب الاخلاقي والجمالي او المعرفة لديه، لاجل محبة المعرفة والاخلاق والجمال او العدل، بل لاجل تخريب جزئي للغريم الانساني على مر التاريخ، وبتعبير شعبي دارج جدا فان لدى الشيطان (عتبة) وهي تعني الثار الذي جرح كبرياء وجوده بتفضيل الطين على النار، وكان النار تعني النور، وهو وهم معرفي ووجودي واستراتيجي لدى منظومة حضارة الشيطان، وكل تمييز لفرد عن فرد اخر باي مواصفات يتمتع بها، انما هي مسالة تستند الى محاججة ابليس، القائل انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، وهذه صورة تستخدم اليوم في المجتمع بشكل مخيف، سيما مجتمعنا العشائري، الذي يميز الفرد عن عن الاخر، بالمواصفات الجينية او الحسبية العالية، في حين ان الية الاسلام هي التقوى.
ان ترفع وطغيان الدول العظمى اليوم ينتمي الى حضارة الشيطان الذي يغير العلاقات الاحتماعية، والتقاليد، والغرائز، ويشتري الدول ويبيعها، ويقوم بهيكلة الاوطان، ويغير الرؤساء، ويسطو على موارد الدول الفقيرة، ويخلق الحروب ويشرع القوانين لتخريب الخلقة، وتغيير حتى طعوم الاشياء وجينات البذور، والتلاعب بالانواء والزلازل والامطار والبيئة،ان كل ذلك وان قام به الانسان فانه فعل ينسجم وحضارة الشيطان، اما الافعال التي يقوم بها الانسان وتسمى حضارة الانسان فهي تشمل كل من يقدم خدمة فعلية من دون قصد تخريبي الى المجتمع.
يتبقى لي الحديث في مناسبة اخرى عن خضارة الله، وهذا يشمل الفعل الانساني الجيد الذي امر به الله، وقاد الى بناء جيد، وطقوس وتقاليد وعلوم واداب وفنون جيدة.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

 

بين الفينة والآخرى تخرج علينا كتابات تتناول فيها أحداث وتصورات حضارات التاريخ القديم عن خلق الإنسان وتكوين العالم وما جرى فيه من أحداث، متناولة ما له علاقة بالأديان السماوية، في محاولة للربط بين الحضارات القديمة من سومرية، وبابلية، ومصرية قديمة، أضافة لحضارات أخرى هندية وفارسية ويونانية، ناسبين جل ماتحمله الأديان السماوية من أحداث تاريخية الى هذه الحضارات كأساس، وباكورة لكل هذه التصورات والأفكار والأحداث، وإن الأديان السماوية، ماهي إلا صدى وأستنساخات لها، ولكن بطبعات منقحة وَمحورة لها، أضافها محرريها من كتاب وأنبياء، وإن هناك متوازيات بينها وبين ما جاء في ألواح هذه الحضارات، وقد برز كتاب قديرون لا نشك في روحهم العلمية أمثال الباحث فراس السواح، والأستاذ محمد القلاوي، ولكن لا نخفي سر بأن هناك من يسعى من خلال مايلتقطه من غيره كوسيلة في الصراع الآيديولوجي ضد الأديان، كما هناك مراكز تسعى للتشويش الفكري لأغراض ونوايا ذات بُعد أستعماري خبيث، ولكن ما نود الأشارة أليه، هو ما أنتجت أيدي الباحثين الجادين الذين نشد على أيديهم بما قدموه من بحوث علمية رصينة، مادامت الغاية الحقيقة، والهدف سامي، ولكن الى جانب هؤلاء الباحثين الجادين، هناك كتاب ينحون منحى ترقيعي، مغموسه بنفس آيديولوجي كما في كتابات البعض . من خلال ما مررت به من هذه البحوث لمست بها حساً علمياً خالصاً، ولكن كُتبت بروح أقرب للأطلاق، وكأنها حقائق نهائية، وهذا ما يُحيد عما يحملونه هؤلاء الكتاب من نمط فكري حداثي، وهو نمط يقول بنسبة الفهم، والتفسير، وعدم القول بالحقيقة المطلقة، كما إن مايقدمونه من أفكار، فهي لا تعدو من أنها من مصادر غير مكتملة المحتوى، ففيها الكثير من الحلقات المفقودة، بالأضافة الى أمكانية ضعف الترجمة للغات مندثرة، مما يعرض ترجمتها الى خلل اكيد، كما أشير الى أن ما نُقل لا يمثل إلا الجزء اليسير من التراث الإنساني القديم، ودليل ذلك هو الأكتشافات المستمرة للتراث الإنساني ليومنا هذا، وهناك من الأقوال مايُشير الى إن المستكشف لا يمثل حتى ١٥% من الموجود الحقيقي، وهناك حقيقة تَعرض الكثير من هذه البحوث للأهتزاز والشك، وهو إن هذه التصورات نقلت لنا معلومات في أقصاه هو النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، وهو تاريخ ليس بالبعيد مقارنة مع تاريخ وجود الإنسان على هذه الأرض، سما وأن هناك تاريخ طويل للإنسان لم تكن فيه كتابة، وهو تاريخ أطول بكثير لزمن مابعد الكتابة، وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أمكانية وجود أديان سماوية أقدم من هذه الحضارات التي جاءت بمدونات مكتوبة، ولاشك قد تكون ما نُقل من قصص من هذه الحضارات راجع بالأصل لما جاءت به هذه الأديان السماوية التي سبقت هذه الحضارات، وبما إن المنقول جاء بطريقة شفوية، وعبر آلاف السنين، فلاشك قد أدخلت الكثير من الأساطير والتخيلات الشعبية إليها مما جعلها بالصورة التي حصلنا عليها من خلال كتاباتهم . أن الدافع لما أكتبه في هذا المقال هو خطورة ما يتناول البعض لهذه البحوث وكأنها نتاج ذو نصوص نهائية، وأنها الحقيقة المطلقة، في حين عند التدقيق بها، تجد فيها الكثير من الظن، والترجيحات، وهي أمور لا تغني عن الحق شيء، ولا تعطي طابعاً يقينياً خالصاً، وهناك الكثير ما يمكن أن يأتينا به الزمن، وما تكتشفه التنقيبات الأركيولوجية المستمرة، ولكن ما أحببت أن أُشير إلية هو خطورة طريقة التسويق التي تستخدمها بعض المراكز ذات الوجودات المتخفية، والأهداف المشبوه للتموية والتشوية على الفكر العام، واستخدامها لغايات خطيرة، لذا رأينا ضرورة التنبيه، والوقوف على هذه الأبحاث بنفس علمي حقيقي، وأن لا نكون ضحية لبعض المدارس الإستشراقية العنصرية، الممهدة لطمس حضارتنا، وتمزيق هويتنا . أن خلاصة ما وددت القول حوله، إن ما جاءت به الحضارات السومرية والبابلية، ومحرري التوراة، والقرآن الكريم، هي حقائق حَدثت في الواقع في الزمن البعيد جداً، زمن لم يكن للكتابة وجود، ولكن مدوني الحضارات القديمة حين أكتشفوا الكتابة دونوا ما تلقوه شفاهةً، والذي جاءهم عبر آلاف ولعل ملايين السنين، ومن المعروف كم سيكون مقدار التغيير الذي يقع على قصة حدثت عبر هذا العدد الهائل من السنين، وما يلعبه المخيال الشعبي من أضافات لها، وعندما جاء كتاب سماوي كالقرآن الكريم، لاشك سيكون هناك بعض المشتركات لحقائق وقعت أصلاً، ولكن بالتأكيد سيختلف معهم بالبعض نتيجة لما طرأ عليها من تغيرات وتحولات ذكرنا أسبابها، لذا لا أتفق مع ما زُعم من تناص جاء به القرآن ممن سبقه من حضارات قديمة، ومدوني العهد القديم، ولكن لا أستبعد، إن هناك تناص حدث بين الحضارات القديمة والعهد القديم، وذلك بسبب واضح، إن العهد القديم كُتب بأيدي محررين بعد مضي فترة طويلة من موت النبي موسى عليه السلام، وخاصة بعد العودة من السبي البابلي، وهذه الفترة الطويلة بين موت موسى وكتابات العهد القديم، كفيلة بأحدث تغيرات كبيرة وهائلة، وخاصةً بعد النهل والتلاقح مع ثقافات وحضارات أخرى، ولكن ما حدث للعهد القديم غير ملزم، ولايمكن أسقاطه على القرآن الكريم، وذلك لسبب غاية بالوجاهة، وهو إن القرآن كُتب في زمن وجود النبي (ص)، ولم تكن هناك قطيعة زمنية بينه وبين كتابة النص القرآني، كما أني أنفي المزاعم التي أشار بها البعض وخاصة الأستاذ محمد القلاوي بأن النبي محمد (ص) لم يكن بعيداً عن ما جاء به العهد القديم من أخبار وروايات، وإنه كان على تماس مع اليهود في الزمن الذي عاش فيه، كما إنه تلقى الكثير من موروث بيئته العربية في العصر الجاهلي، وهناك مايدحض ذلك هو عدم تمكن النبي محمد (ص) من القراءة والكتابة لكي ينهل من العهد القديم، وكذلك لم يُعرف من سيرته إنه كان على تواصل مع يهود ونصارى ذلك الزمن، بل رجل كان راعي للغنم، وعمل بالتجارة في مقتبل عمره وهذه النوع من العمل لا يتيح له كثافة التواصل مع الآخرين، ولم توفر له درجة عالية من الأستقرار، لكي تسمح له بالأطلاع، والفهم العميق لما جاء في مدونات الحضارات، والأديان السماوية، كما من المعلوم إن النبي (ص) يذهب إلى عزلته في غار حراء، كمكان للتفكير والتأمل، لذلك ينبغي التنوية الى عدم الخلط بين ما مر على اللوائح المكتشفه للحضارات القديمة ومدونات العهد القديم، وبين ما جاء في القرآن الكريم للسبب التي ذكرناها أعلاه.
***
أياد الزهيري

 

ظاهرة فوز ترامب في العام 2016 على منافسته الديمقراطية (هيلاري كلينتون) هزّت العالم وصدمته في حينها.. بل ان بعضهم وصفها بالزلزال. وظاهرة فوزه على منافسته الديمقراطية الثانية (كمالا هاريس) في 2024 كان زلزالا اعنف، والسبب الرئيس يعود الى قدرته على مواجهة التحديات والانطباع الذي احدثته شخصية ترامب حدّ وصفه بالمجنون، وتوقعهم لخطر قد يوازي خطر النازية بصفته سيكون رئيس أقوى دولة في العالم.
وللتوثيق، فاننا كتبنا في 6 /11/ 2016 مقالة بعنوان من سيفوز (هيلاري ام ترامب.. تحليل سيكولوجي) فاجأت المحللين السياسيين الأمريكان والأطباء النفسيين الذين وصفوا فوز ترامب بالمستحيل.. فيما خالفناهم توقعهم مستندين في تحليلنا على قراءة سيكولوجية للمناظرات بين الديمقراطية هيلاري كلينتون والجمهوري دونالد ترامب.. وقد وضع غوغل صورتنا بين صورتين لترامب، وعلّق كاتب عربي في الحوار المتمدن بقوله:
(لو ان الدراستين العلميتين اللتين توقعتا فوز اوباما وفوز ترامب كتبهما سيكولوجست امريكي او بريطاني، لظهر مانشيت في الصحف والمواقع يقول: سيكولوجست اميركي/بريطاني يتفوق على المحللين السياسيين في تحليله السكولوجي بفوز ترامب كما تفوق عليهم قبلها في تحليله السيكولوجي بفوز اوباما!.. فلماذا لا يحصل هذا لعراقي حقق ذلك؟!)
لم يكن توقعنا بفوز ترامب (2016) حدسا، بل كان متابعة لادائه وأداء منافسته هيلاري في حملاتهم الانتخابية.. وكتبنا بالنص:
(ان احد العوامل الاساسية في نجاح المرشح في انتخابات الرئاسة الأمريكية هو تمتعه بـ(كاريزما) تدغدغ مشاعر الناخب الأمريكي التي لعبت هوليود والثقافة الامريكية وانتخابات اربعة واربعين رئيسا على ترسيخها في اللاوعي الجمعي الامريكي.وتقوم هذه الكاريزما على صفات الابهار والذكاء والنباهة والمظهر وقوة الشخصية والحذلقة الفكرية واللغة التجديفية Profanity).. ) والاتيان بافكار مدهشة تقوم على فكرة (التغيير) التي عزف عليها اوباما وجاءت به الى البيت الأبيض، ويميل هذا المؤشر الى ان يكون لصالح ترامب.فبرغم ان الرجل بدا في ايام حملته الانتخابية الأولى (سخيفا) ملفّق اكاذيب، عنصريا، مريبا، محرّضا على العنف وداعية حرب، مثيرا لانتقاد حتى حزبه، وغامضا لا يعرف من يستمع اليه ما الذي يريده بالضبط.. وبرغم تعرّضه الى حملة تشهير لفضائح جنسية جعلت الفارق بينه وهيلاري كبيرا، الا انه استطاع ببراعة ان يقصي اولا خصومه الجمهوريين من حلبة المنافسة على الانتخابات الرئاسية في السباق الرئاسي، وأن يتقدم ثانيا على هيلاري في الاسابيع الأخيرة.. ما يعني ان ترامب ضمن أهم عامل سيكولوجي في الفوز هو (كاريزما) شخصيته.. التي بها ايضا فاز على منافسته الجديدة كمالا هاريس.
أخطر ما في شخصية ترامب
مع ان ترامب يعد متطرفا، وانه " يعتنق صورة سلبية عن الأسلام والمسلمين" وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فأن أخطر ما فيه انه مصاب بـ( تضخم الأنا) للأسباب الآتية:
يعني (الأنا).. الفكرة او الصورة التي يحملها الفرد عن نفسه، وتكون على ثلاثة انماط: موضوعية، تكون فيها احكام الفرد عن نفسه وقدراته مطابقة لما يمتلكه فعلا.. وهذا ما يتصف به الأفراد الذين يتمتعون بالصحة النفسية. وتبخيسية، يتم فيها الحط من قيمة الفرد وقدراته ويصل فيها الحال الى ان يصف نفسه بأنه (تافه) في الأكتئاب الحاد.وتضخيمية، يحصل فيها ان الفرد ينظر الى نفسه بانه يمتلك قدرات استثنائية، ويعتبر نفسه بأنه (فلتة زمانه) ان وصل مرحلة النرجسية المرضية.
والغريب في شخصية " الأنا المتضخم " إنها تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية . فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب.. أي إنها تريد من الآخرين أن يعجبوا بها بالصورة التي هي تريدها، وأن لا يتوقفوا عن المديح والإطراء، فحالها في الإعجاب كحال جهنم، يسألونها: هل امتلئت ؟ تقول: هل من مزيد !. وتأخذ أيضا منها شعار النرجسي: " أنا مميز "، وخاصيتها الأساسية المتمثلة في الإحساس بتفخيم أهمية الذات، والتظاهر بامتلاك قدرات فريدة، وان على الآخرين أن يتعاملوا معه على أساس أنه مميز. وتأخذ من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائيات، في مقدمتها ثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء، أي من كان معي فهو صديقي وما عداه فهو عدّوي. وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم، سواء بالإبهار أو بأساليب درامية أو التوائية.
وواضح لدينا نحن المهتمين بدراسة الشخصية ان ترامب لديه تضخم أنا عال، ولكنه ليس من النوع المرضي او الذي يدّعيه الفرد بل ناجم عن انجازات استثنائية في ميدان المال والشركات والعقارات وناطحات السحاب.. اوصلته الى ان يكون مليارديرا مميزا واستثنائيا فعلا.وبالتعبير العراقي فان الرجل حقق ما عجز عنه آخرون (بزوده) وليس ادعاءا او هبة من آخرين.فضلا عن ذلك فأنه يمتلك جسما رياضيا بمواصفات (البطل) الأمريكي في السينما الأمريكية، ويتصرف بطريقة البطل الخارق الهوليودي!
والخطر في المصاب بتضخم الأنا يتعلق بـ(المعتقد) الذي يعني الفكرة التي يكّونها بخصوص شيء او موضوع ما اذا كانت عقلانية ام غير عقلانية، واقعية ام وهما.ولأنه يتصف بالعناد فانه يرى في معتقداته غير العقلانية وافكاره غير الواقعية بأنها حقائق مطلقة.ومن هنا كان خوف العالم.. ان يتخذ ترامب قرارات غير عقلانية ويجبر الآخرين على تنفيذها.ومثل هذه الأوهام لها سوابق.. فقد اعتقد صدام حسين بامكانية توحيد الدول العربية في دولة واحدة يكون هو رئيسها، واعتقد هتلر بأنه يمكن السيطرة على العالم، ومن هنا خشي الناس ان العالم سيدفع اضعاف ما دفعه في حرب الخليج والحرب العالمية الثانية، ان عمد ترامب الى تنفيذ أخطر اوهامه!
والأشكالية، ان القائد المصاب بتضخم الآنا يكون مستبدا برأيه، وستثبت الأيام القادمة ما سيفعله بخصوص وعده بانه سيوقف الحروب في العالم (فلسطين وأوكرانيا) تحديدا .واذا ما اضفنا لها أن مزاج النرجسي لا يراهن عليه، وان من يحاول عقلنة ترامب لم تلده أمه بعد!، وانه لن يكترث حتى بالمؤسسة الأمريكية، وانه يريد تحقيق شعاره (America Great Again Make)فأننا سنكون بين خيارين: اما ان يطيح تضخم الأنا والنرجسية بصاحبهما.. ترامب، او ان يطيحا بعالم ما كان في حساباته ان يحكمه (مجنون)!.
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

التجربة الالمانية 

بعد ان تجاوزت ازمات الماضي، برزت المانيا كقوة عالمية مؤثرة واثبتت مكانتها كقوة عالمية لا تضاهى. ففي هذا البلد العريق، حيث تزدهر الصناعة والابتكار، يعتبر التعليم ركيزة أساسية لبناء مستقبل مزدهر. فكيف تمكنت المانيا من تحقيق هذا التوازن بين القوة الاقتصادية والتميز التعليمي؟ وما هي العوامل التي جعلت من نظامها التعليمي نموذجا يحتذى به عالميا؟ دعونا نستكشف معا هذا النظام الفريد الذي يجمع بين الجودة والابتكار، ونكتشف كيف يوفر فرصا لا حصر لها للطلاب من جميع أنحاء العالم، ويغذي العقول المبدعة التي تقود عجلة التقدم.
يشتهر النظام التعليمي الألماني بجودته العالية وتنظيمه، ويشمل ذلك بشكل خاص المرحلتين الابتدائية والثانوية. تتميز هاتان المرحلتان بالعديد من الميزات التي تجعلها نموذجا يحتذى به عالميا:
التركيز على الجودة:
يتميز التعليم الألماني بجودته العالية التي لا تضاهى، ويرجع ذلك إلى معايير صارمة ومناهج شاملة تخضع لمراجعة مستمرة لضمان مواكبتها لأحدث التطورات، كما يعتمد على معلمون مؤهلون ومحترفون يخضعون لتدريب مكثف وتقييم دوري، ويتسم بتقييم أداء الطلاب بشكل مستمر من خلال اختبارات وواجبات ومشاريع، مع التركيز على التعلم العملي من خلال الزيارات الميدانية والتدريب العملي في الشركات والمؤسسات المختلفة، ويشجع على الاستقلالية والمسؤولية لدى الطلاب، كما يتميز بالتعاون الوثيق بين المدارس والجامعات، ويستقبل طلاباً من مختلف الجنسيات والثقافات مما يخلق بيئة تعليمية غنية ومتنوعة، وتشمل الأمثلة على التعليمات التي تميز التعليم الألماني مشاريع البحث والرحلات المدرسية والبرامج التبادلية والأنشطة اللاصفية، وباختصار يركز التعليم الألماني على تنمية الفرد ككل وليس فقط على الجانب الأكاديمي، فهو يهدف إلى اعداد طلاب قادرين على التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات والعمل بشكل جماعي مما يجعلهم اعضاء فاعلين في المجتمع.
التنوع:
بعد اتمام المرحلة الابتدائية التي تستمر أربع سنوات، يتم توجيه الطلاب الى أنواع مختلفة من المدارس بناءً على عدة عوامل، من بينها أدائهم الأكاديمي وتوصيات المعلمين ورغباتهم وأهدافهم المستقبلية. هذا التقسيم يضمن أن كل طالب يحصل على التعليم المناسب لقدراته وميوله، ويتضمن خمسة مسارات:
Gymnasium: يمثل المسار الأكاديمي المتقدم، ويعد الطلاب لدخول الجامعات
Realschule: يوفر تعليماً عملياً اكاديمياً، ويؤهل الطلاب للالتحاق بالتعليم المهني او مواصلة الدراسة في مدارس ثانوية عليا.
Hauptschule: يركز على التعليم المهني والتطبيقي، ويعد الطلاب لسوق العمل مباشرة.
Gesamtschule: تجمع بين المميزات الثلاثة للمدارس السابقة، وتتيح للطلاب المرونة في تغيير مسارهم الدراسي.
Sonderschule: تقدم برامج تعليمية مصممة خصيصا للطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة.
هذا التنوع الواسع يوفر للطلاب مجموعة واسعة من الخيارات، بدءا من المناهج الدراسية الشاملة التي تغطي مختلف المجالات كالعلوم والتكنولوجيا والفنون والانسانيات، وصولا الى الأنشطة اللاصفية المتنوعة كالرياضة والفنون والنوادي والرحلات المدرسية. هذا التنوع يتعدى المناهج الدراسية ليصل الى التعليم المهني الذي يوفر فرصاً واسعة للتعلم اثناء العمل والتدريب المهني، كما يقدم النظام الألماني مجموعة متنوعة من المدارس الثانوية العليا المتخصصة في مجالات دراسية محددة. هذا التنوع يزيد من فرص نجاح الطلاب بتوفير مسارات تعليمية تناسب قدراتهم واهتماماتهم، وتساهم في تطوير مجموعة واسعة من المهارات الأكاديمية والاجتماعية والعملية، مما يعدهم لسوق العمل ويساهم في تعزيز التنوع الثقافي والتفاهم المتبادل. باختصار، يعتبر التنوع في التعليم الألماني احد اهم العوامل التي تساهم في تحقيق اقصى استفادة ممكنة لكل طالب.
العمق:
يتميز النظام التعليمي الألماني بعمق يركز على فهم المفاهيم بدلا من الحفظ الببغاوي للمعلومات. هذا النهج يشجع الطلاب على التفكير النقدي وحل المشكلات، ويظهر جلياً في مختلف المواد الدراسية. فبدلا من حصر الطلاب في حفظ التواريخ والأحداث الجافة، كما هو الحال في العديد من الأنظمة التعليمية التقليدية، يشجع النظام التعليمي الألماني على تبني نهج تحليلي عميق لمادة التاريخ. ففي دراسة الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، لا يقتصر الأمر على حفظ تواريخ المعارك وأسماء القادة، بل يتعدى ذلك إلى تشجيع الطلاب على استقصاء الأسباب الجذرية التي ادت إلى اندلاع الحرب، ودراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعيدة المدى التي نتجت عنها. يتم ذلك من خلال طرح أسئلة مفتوحة تحفز التفكير النقدي، مثل: ما هي العوامل التي ساهمت في صعود النازية؟ كيف أثرت الحرب على حياة الناس العاديين؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه الصراع العالمي؟ هذا النهج يساعد الطلاب على فهم السياق التاريخي بشكل أعمق، ويربط بين الأحداث التاريخية بالواقع المعاصر، مما يجعلهم مواطنين أكثر وعياً وقدرة على تحليل القضايا المعقدة.
وفي العلوم، يتم تشجيع الطلاب على إجراء التجارب والاستقصاء، وفي الرياضيات على حل المسائل التطبيقية، وفي اللغات على تحليل النصوص ومناقشة القضايا المعاصرة. هذا التنوع في النهج يضمن حصول الطلاب على تعليم شامل يعزز قدراتهم على التعامل مع التحديات المستقبلية والتفكير النقدي والقدرة على حل المشكلات ويجعل الخريجين أكثر استقلالية وقدرة على الابتكار، ليساهموا بفاعلية في تقدم مجتمعهم.
التطبيق العملي:
يربط التعليم الألماني النظرية بالواقع العملي بشكل وثيق، مما يشجع الطلاب على تطبيق ما تعلموه في حياتهم اليومية. يتم تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة، مثل الرحلات المدرسية إلى المتاحف والشركات والمشاريع البحثية العملية والتدريب المهني في الشركات والبرامج التطوعية التي تساهم في خدمة المجتمع. هذا النهج لا يقتصر على تعزيز الفهم النظري فحسب، بل يساهم أيضا في تطوير مهارات حيوية مثل حل المشكلات والتفكير النقدي والعمل الجماعي. علاوة على ذلك، يزيد هذا النوع من التعلم من دافعية الطلاب ويجهزهم بشكل افضل لسوق العمل، حيث يكتسبون الخبرات والمعارف اللازمة للنجاح في حياتهم المهنية.
التعاون بين المدرسة والأسرة:
يعتبر التعاون بين المدرسة والأسرة في النظام التعليمي الألماني حجر الزاوية في بناء شخصية متكاملة للطالب وتحقيق نجاحه الأكاديمي. فمن خلال شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام المتبادل والتواصل الفعال، يساهم كلا الطرفين في خلق بيئة تعليمية داعمة تحفز الطالب على التعلم وتشجعه على تحقيق أهدافه. وتتنوع أشكال هذا التعاون لتشمل الاجتماعات الدورية وورش العمل وبرامج التطوع والمشاركة في الأنشطة المدرسية، مما يعزز من بناء علاقة قوية مبنية على الثقة بين المدرسة والأسرة. ورغم وجود بعض التحديات مثل اختلافات في وجهات النظر وقلة الوقت، الا ان النجاح في تجاوز هذه التحديات يكمن في وضع اهداف مشتركة والمرونة في التعامل مع المتغيرات. وبالتالي، فأن التعاون بين المدرسة والأسرة هو استثمار في مستقبل الطالب والمجتمع.
الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا:
يشتهر النظام التعليمي الألماني بتركيزه القوي على العلوم والتكنولوجيا، حيث يتم دمجها بشكل مكثف في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، مما يهدف الى تجهيز الطلاب لسوق عمل يتطلب مهارات تقنية عالية ويعزز قدرتهم على الابتكار والابداع. ولتحقيق ذلك، توفر المدارس الألمانية مختبرات علمية متطورة، وتشجع الطلاب على تعلم البرمجة وتطوير التطبيقات وتنظم مسابقات علمية وتشجع الزيارات الميدانية للشركات وتعزز التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية. هذا النهج يساهم في تحسين جودة التعليم وزيادة اهتمام الطلاب بالدراسة، بالإضافة الى تطوير مهارات حياتية مهمة وتهيئة الطلاب لسوق العمل، رغم وجود بعض التحديات مثل نقص المعلمين المؤهلين وتكاليف التجهيزات. وبالتالي، فإن الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا في التعليم الألماني يعتبر استثمار في مستقبل الأجيال القادمة، حيث يساهم في بناء اقتصاد قوي ومواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة. ويلعب نظام التعليم المزدوج بين المدرسة والصناعة دوراً حيوياً في دعم الاقتصاد الألماني. فهو يضمن توفير القوى العاملة الماهرة التي تحتاجها الشركات الألمانية، ويساهم في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني على الصعيد العالمي. بالاضافة الى ذلك، فإن هذا النظام يساهم في تطوير منتجات وخدمات مبتكرة، مما يدفع عجلة التنمية الاقتصادية.
سر التفوق الالماني:
بفضل المعلمين المؤهلين والكفاءة العالية، الذين يقدمون تعليماً مخصباً بالاهتمام الفردي بالطالب، وبيئة تعليمية منظمة وهادئة تحفز على التركيز والتفكير النقدي، الى جانب تقييم مستمر وشامل لأداء الطلاب يساعد على تحديد نقاط القوة والضعف وتقديم الدعم اللازم، فضلاً عن مجموعة واسعة من الأنشطة اللاصفية التي تنمي مهارات الطلاب المختلفة وتثري حياتهم الاجتماعية، يوفر النظام التعليمي الألماني بيئة تعليمية محفزة تساهم في نمو الطالب الشامل، وتؤهله لمواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار، مما يجعله قادراً على الاندماج بفعالية في سوق العمل أو مواصلة دراساته العليا.
مظاهر قوة التعليم في ألمانيا:
يشتهر النظام التعليمي الألماني بتميز نتائج طلابه في الاختبارات الدولية مثل PISA وTIMSS، وهو يعكس جودة التعليم العالي الذي يقدمه، والذي يرتكز على منهج دراسي شامل وبيئة تعليمية محفزة. هذا النجاح يجذب سنويا الاف الطلاب الدوليين الراغبين في الحصول على شهادة معترف بها عالميا، مما يدفع النظام التعليمي الألماني إلى التطوير المستمر لمواكبة احدث التطورات في مجال التعليم. ويركز التعليم الألماني على تنمية مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، لغرض تأهيلهم لمواجهة تحديات سوق العمل المتغيرة والاندماج بسهولة في الاقتصاد العالمي.
الخلاصة:
يعتبر النظام التعليمي الألماني نموذجاً يحتذى به عالمياً، حيث يتميز بتفوقه الأكاديمي وسمعته العالمية، وتركيزه على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين مثل التفكير النقدي والابداع والتعاون. يجمع هذا النظام بين التعليم النظري والتطبيقي، ويؤهل الخريجين لسوق العمل المتغير باستمرار. كما يشجع على التعلم المستمر، مما يضمن بقاء الأفراد على اطلاع دائم بالتطورات في مجالاتهم، ويساهم في بناء مجتمع معرفي متقدم.
***
محمد الربيعي
بروفسور ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن

بقلم: جولي سيديفي
ترجمة: د. محمد غنيم
***

"أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئًا خارجًا عن المألوف."

***

كأستاذة لغويات شابة، جاءت إليّ ذات مرة امرأة بعد المحاضرة الأولى من دورة كنت أدرسها. أبلغتني بأنها لن تواصل حضور الفصل. كانت شاعرة، كما قالت كنوع من التفسير، ولذلك كانت غير مرتاحة للنهج التحليلي المفرط في دراسة اللغة الذي شهدته للتو. أخبرتني بأنها ليست مهتمة بـ"تشريح" اللغة.
منذ ذلك الحين، كثيرًا ما واجهت هذا الموقف، وكأنه قد يختنق التفكير العلمي في اللغة بمصدر الإلهام الإبداعي. ربما هو جزء من الإحساس العام بأن التقدم العلمي والتكنولوجي قد أدى إلى شعور واسع بالخيبة، كما جادل الفيلسوف ماكس فيبر، حيث فقد البشر الوصول إلى أنماط التفكير غير العقلانية وإلى المشاعر من الإعجاب والدهشة التي يمكن أن تنشأ في مواجهة الغموض.
يجب أن أقول إن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لي. لقد كانت الدراسة الأعمق للغة ساحرة للغاية. الكثير عن بناء اللغة والعمليات الذهنية التي ترافقها غارق تحت الوعي الكامل؛ وقد شعرت أن التعلم عن هذه الأمور يشبه الدعوة إلى الغرف الخفية في روح الحبيب. وبعيداً عن إزالة الغموض عن اللغة، فإن طبقات التعقيد التي اكتشفتها لم تؤد إلا إلى مزيد من الغموض.
وعندما تركت الأكاديمية منذ بضع سنوات لأوجه جهودي نحو الكتابة، وجدت أن معرفتي العلمية تتخلل كل جانب من عملي، سواء كنت أكتب عن اللغة أو عن أي شيء آخر.
إن إسقاط الذات في ذهن القارئ هو تحدٍ يواجه جميع الكتاب. عملي كعالمة لغة يمنحني نموذجًا تفصيليًا لذهن القارئ لم أستطع اكتسابه من خلال الحدس وحده. إن انتباه الإنسان وذاكرته مقيدان بشكل مذهل، وعند تحليل جملة ما، يواجه القراء خطرًا دائمًا يتمثل في حدود كمية المعلومات التي يمكنهم الاحتفاظ بها نشطة في أذهانهم.
تساعدني معرفتي بهذه الحدود في فهم سبب شعور بعض الجمل بأنها غير متناسقة بينما تبدو أخرى أكثر سلاسة. إنها تساعدني في تسوية التجاعيد في التركيب النحوي التي قد تسيء إلى جملة مثل: "في سن السبعين، قبل الروائي العظيم جائزة نوبل التي لن تكون يومًا في متناول يده." أعلم من خلال تجاربي في المختبر أن عين القارئ قد تتعثر عند قراءة "لن تكون يومًا"، مما يشير إلى أنها قد قرأت "جائزة نوبل" بشكل خاطئ في البداية كموضوع للفعل "قبل"، وتتفاجأ عندما تكتشف أنها في الواقع هي فاعل جملة جديدة—وأن هذه التجاعيد يمكن تسويتها بسهولة إذا تم إدراج "أن" بعد "قبل" أو إذا تم استبدال الفعل بـ "عرف".
أعلم أن الانتباه يسلط على الجملة كما يسلط شعاع الشمس، فيضيء بعض الكلمات أكثر من غيرها. وقد استخدم دايفيد ماركسون هذه الظاهرة بمهارة كبيرة عندما كتب: "الآفات المقيتة، هكذا وصف هنري فيلدينج النقاد".
أعلم أن القراء هم خبراء في اكتشاف الأنماط وهم يتنبأون باستمرار بالمكان الذي ستأخذهم إليه اللغة؛ وهذا يمنحني إحساسًا بكيفية إدارة التوتر بين التوقع والمفاجأة.
وأنا أدرك أن الكلمات على الصفحة ليست أكثر من نقطة بداية للمعنى، وهذا يزيد من حدة إحساسي بما يمكن تركه دون أن يقال. فجملة "طعن بروستر ضحاياه بسكين" تبدو زائدة عن الحاجة، ولكن جملة "طعن بروستر ضحاياه بكعب عال من لوبوتان" لا تبدو زائدة عن الحاجة. وبمعرفتي بآليات التلميح، لدي إحساس بالحدود الدقيقة بين اللغز المغري والغموض المحير.
لكن أكثر من كل ذلك، فإن دراستي للغة قد زادت من تركيزي بطرق تعزز من متعتي بها.
إن الوقت الذي قضيتُه في "تشريح" أصوات الكلام جعلني أكثر انتباهًا للتناغمات وإحساس الكلمات في الفم. إن فهم كيفية تناسب العظام النحوية للجملة معًا يُعمق من تقديري للتراكيب الأنيقة في الجمل والعبارات، مدركة مجموعة من الترتيبات البديلة التي لم تكن لتحقق نفس التأثير. ولأنني منسجمة مع أنماط اللغة وانتظاماتها، أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئاً خارجاً عن المألوف.
وأي مجال آخر من المعرفة العلمية يمكن أن يضيء الحالة الإنسانية مثل دراسة اللغة؟ إن اللغة متشابكة مع كل جانب من جوانب حياتنا. فهي في آن واحد واسعة وهشة، مقيدة بحدودنا العقلية. الطريقة التي نتعلم بها اللغة في الطفولة تعكس حاجتنا الملحة للتواصل الإنساني، والطرق التي تخذلنا بها تُظهر مدى ضعفنا أمام وحدة الفهم الخاطئ. إن الأفكار العلمية التي اكتسبتها في حياتي البحثية توفر لي إلهامًا لا ينتهي ككاتب.
عندما أفكر في الشاعرة التي نبذت فصلي التعليمي، أشعر بالحزن لأنني أعتقد أنها لم تحصد نفس المكافأة أبدًا. لقد فكرت فيها طوال الوقت بينما كنت أكتب كتابي "محب للغات" ، الذي يمثل تتويجًا لعمل حياتي كعالمة لغة وكاتبة، حيث كنت أفكر في ما كنت أتمنى أن أقوله لها، وكيف كنت لأود أن أقوله. أردت أن أكتب كتابًا ليس فقط عن علاقتي باللغة، بل كتابًا يجسد هذه العلاقة.
آمل أن يجد هذا الكتاب طريقه إليها.
***
........................
المؤلفة : جولي سيديفي/ Julie Sedivy: تقوم جولي سيديفي بتدريس علم اللغة وعلم النفس في جامعة براون وجامعة كالجاري. وهي مؤلفة كتاب "الذاكرة تتحدث: حول فقدان اللغة واستعادتها" و"الذات واللغة في العقل: مقدمة لعلم اللغة النفسي"، فضلاً عن مشاركتها في تأليف كتاب "البيع على اللغة: كيف يتحدث المعلنون إليك وماذا يقول هذا عنك". تعيش في كالجاري، كندا.
https://lithub.com/julie-sedivy-on-amplifying-the-pleasure-of-language?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%2025%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

 

من اهم ان لم يكن الاهم من بين ما يكرسه المنظور القصوري الارضوي الاوربي للانقلابيه الالية/ البرجوازية، الابقاء على، ومواصلة القول بوحدانية المنظور البشري الادراكي، الامر الذي ظل ساريا على مدى الطور اليدوي، ارتكازا لشروط غلبة الارضوية الجسدية الاحادية بناء لنقص الطاقة الاستيعابيه العقلية في حينه، ماكان من المفترض ان يتم تجاوزه اليوم مع الانقلابيه الحاسمه الالية، علما بان ذلك كان يتطلب كمنطلق اساس انتقالة غير عادية على مستوى النظر الى "الظاهرة المجتمعية"، الامر الذي لم ينجح الغرب الاوربي بخصوصه في تعدي نطاق الابتداء واجتراح الخطوة الاولى المحكومه لاشتراطات الارضوية مع ماقد عرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، لنشهد على هذا الصعيد ايضا بداية ونقطة انطلاق ناقصة واحادية، كان المفترض ان يطلق عليها تعريف مطابق لصنفها هو"علم الاجتماع الارضوي الاحادي" مع اوغست كونت ودوركهايم وماكس فيبر، بدل الاحتفاء غير العادي بالانجازالفريد المتاخر، الدال على مجرد بداية ومنطلق قبل زوال قصورية العقل النهائية بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها.
اكثر من هذا فلقد زاد تكريس المنظور الاحادي وتاكيد اطلاقيته على انه "العلم" و " العقلانيه" بالذات بالمقارنه مع ماعد من قبيل الماورائية، اي كل مايخرج عن المنظور المرتكز للملموس الجسدوي المعاين، وبالذات مامعروف بصفة "الديني"، في وقت كان على العقل الالي ان يتميز عن ماقد مضى من ادراكية باعادته المنظور الماورائي المطرود لخانه "الدين"، بما هو واجب من اماطة اللثام عن كون المنظور النبوي المقابل للفلسفي الاغريقي، هو بالاحرى تعبيرية مجتمعية واقعية مستقله ومعاشة، سواء في قلب المجتمعات الاحادية كحالة ازدواج لااكتمال للمجتمعات وبنيتها من دونها، تحضر من دون كيانوية ارضوية محلوية، مستمدة اسباب تحققها من الكينونه البشرية وازدواجيتها والمكون اللاجسدي منها، مع انها محكومه "ماديا/ واقعا" شاخصا، الى نمطية مجتمعية متوافقه مع اشتراطات تحققها، علما بانها في المسار التاريخاني المجتمعي تمثل الابتداء بصفتها مجتمعية "لاارضوية"، وجدت انطلاقا في ارض سومر جنوب ارض مابين النهرين.
ولابد عند هذه النقطة بالذات من الانتباه الى فعل القصورية العقلية الارضوية، حتى بالصيغة الاخيرة الابتدائية الالية الاوربية الحداثية من حيث تدنيها المفهومي "الواقعي"، حيث التاكيد بالرفض لفكرة الاحالة الى السماء والعالم الاخر التي يقول بها المنظور اللاارضوي وتعبيريته عجزا عن الاحالة الى المصدر الواقعي الفعلي المجتمعي، واستبعادا لاحتمالية القول بان الدين هو تعبيرية مجتمعية واقعية وجهتها سماوية لاالعكس، متعلقة بخاصيات المجتمعية المشار اليها، غير المدركة نوعا، مع مالها المتجاوز للارضوية والجسدية.
وتزدحم لهذه الجهه مناحي القصور لتشمل بداهة النظر الى الكائن البشري ومصيره ومسارات وجوده على الكوكب الارضي، اذ يتم غلق الوجود لهذه الجهه على الابدية الجسدية الكوكبية الارضية، مع الاستبعاد الكلي لاحتماليات واستمرارية فعل قانون النشوء والارتقاء الذي هو من اكتشافات هذا الطور الانتقالي الالي البدئي وموحياته، ومايمكن ان يدل عليه من منقلبات وجودية تتكرس بعدم النظر الى الازدواج وفعله مجتمعيا وكينونه بشرية، فنحن ابناء الارض الى ابد الابدين، والكائن الحالي هو النهاية بعد الحيوانيه بصفته "الانسان"، باستبعاد كلي لاية احتمالية قد تتضمن النظر لواقع الكائن البشري الحالي من زاوية كونه حالة انتقال مابين الحيوان و"الانسان" الذي لم يوجد بعد، بينما نحن نعيش بصفتنا كائنات "انسايوانيه" مزيج من (عقل / جسد)، حياتها الحالية ووجودها محكوم الى التفاعلية النشوئية الترقوية العقلية بعد توقف الجسد عن الارتقاء مع بلوغ العضو البشري قمة تطورة، كنهاية ونتيجه للتفاعلية التاريخانية للعتبة"المجتمعية" الازدواجية"، اللاارضوية السماوية العقلية، ومقابلها "الارضوية" الارض جسدية.
هل النمطية المجتمعية وليدة وحدة الكائن البشري / البيئة كما تتبلور ابتداء ابان الطور اليدوي، متضمنة نوع اشتراطات دالة على عبقرية الطبيعة التي تبيح البحث عن "القدرة الالهية"، نازعة السلطة من الارض وحكامها نواب الاله سومريا مقابل الوهيتهم الفرعونيه(1)، ابان الطور التعبيري اللاارضوي الاول، بما يجعل النمطية اللاارضوية المجتمعية ممكنه، مع كيفياتها وعلائم مثل هذا النوع من المجتمعية.
نعلم ان المجتمعات تبلورت ابتداء في الشرق المتوسطي نهريا، بين مجتمعية النهرين العاتيين المدمرين المخالفين للدورة الزراعية، وانفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا للانصبابات البشرية النازله باتجاه ارض الخصب، وكل اسباب الطرد البيئي الانتاجوي المناخية، حيث الكائن البشري موضوع ضمن اشتراطات العيش على حافة الفناء، واحتلاب نتاج الارض بما يشبه الاحتراب واقتطاع اللقمة من فم الوحش، مايذهب بالعقل متجها الى ماهو "غير"، ومايمكن ان يؤمن التوازن المفقود مع الطبيعة من خارجها، ماكان قد ذهب بالتصورات والرؤى الى مافوق ارضوية، تبلورت في السماء، وهو ماكان حال ارض سومر حيث نتعرف على النزوع البشري اللاارضوي وعيا متالها قبل ان يستقر نبويا بالابراهيمه، مع المتوقع ساعتها من مجمل الادراكية المفارقة للارضوية، مقابل نمطية الارضوية الاولى النيلية حيث التوافق البيئي الانتاجي البشري النيلي، المتوافق كليا مع الدورة الزراعية، والحدود المحمية شرقا وغربا وشمالا، والمؤمنه ضد الغزو، ماكان من شانه تكريس " الكيانيه الوطنيه" مجسده في وحدة المجتمع/ الدولة مجسدة بالفرعون "الاله" كنموذج ونمطية، هي الاقرب نموذجية قياسا لمستوى الادراكية البشرية الغالبة حتى الساعه(2).
في الحصيلة وكواقع "ملموس" تنقسم التعبيرية والادراكية البشرية الى نوعين ونزوعين " اجتماعيا" ونتيجة فعل واقعين مختلفين كينونه، اللاارضوية تنتقل مع الصدام مع البيئة الطاردة ومن ثم الكيانيه المجتمعية الارضوية النازلة من اعلى مايحقق في حينه حالة " الازدواج المجتمعي" حيث الاصطراع اللاارضوي يكتمل بحضور المجتمعية المضادة نوعا، والساعية للافناء طلبا للهيمنه المستحيلة بحكم النوع والطبيعه المغايرة كليا، ليغدو ثنائيا مع الطبيعة مضافا لها الطاريء المجتمعي، المتشكل في دول "امبراطوريات مدن" من نمط بابل، وبغداد، المعزوله المحصنه اعلى تحصين بصفتها "آخر" يحتلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي، يعمد ساعيا للتخلص من وطاة الاصطراع المستحيل والمكلف مع الكيانيه اللاكيانيه السفلى، بالانكفاء الى الخلف ابتداء من سرجون الاكدي اول امبراطور ازدواجي في التاريخ، الى هروب العباسيين من الكوفة وبناء بغداد بعد محاولات فاشلة الى الرمادي والهاشميه تخلصا من الانتفاضات التي لاتتوقف بوجههم.
الكائن البشري اليدوي تعبيريتان، لاارضوية تالهيه تنتهي وتنضج نبويا ابراهيما، وفلسفية ارضوية اغريقية نخبوية، الاولى حياة ومجتمعية بلا كيانيه طابعها كوني لامحلوي، والاخرى كيانوية " وطنية/ قومية"، والاثنان محكومان لدياميات تصيرية ذاهبة نحو نهاية موافقه للحقيقة الوجودية صعدا، مابين يدوية اولى، وآليه انتهائية، حين ننتقل من الاغريقية الفلسفية الارضوية التاسيسيه، الى الحداثية الاوربية الراهنه، ومقابلها وختامها مابعد النبوية الحدسية الاولى، الى التعبيرية الراهنه اللاارضوية الكونيه الانتهائية "العليّة/ السببيه"، التي تنتظرها المعمورة اليوم ومن هنا فصاعدا.
***
عبد الاميرالركابي
......................
(1) يراجع/ ماقبل الفلسفه: الانسان في مغامرته الفكرية الاولى/ هـ فرانكفورت ـ جون. أ. ولسون ـ هـ .أ. فرانكفورت ـ توركيلد جاكسون/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر/ ترجمة جبرا ابراهيم جبرا/ مع اجمالي التمييز الذي ياخذ به الكتاب بخصوص الفوارق بين مايعرف بالحضارتين الرافدينيه والنيلية، طبعا من دون مقاربة الاختلاف الجوهر النمطي الكوني اللاارضوي ومقابله الارضوي المحلي.
(2) يعتقد الجغرافي المصري جمال حمدان، مستندا كالعادة الى المنظور الحداثي الغربي ونموذجيته متوقفا عند "الوطنية" معتبرا اياها قمة ومنتهى الممكن بشريا من حيث الادراك والمعاش واقعا/ د جمال حمدان في ثلاثيته الكبرى/ دراسة في عبقرية المكان : شخصية مصر/ عالم الكتب.

 

اللاادرية ترجمة لكلمة يونانية ذات مقطعين تعني (العجز عن المعرفة) وقد أطلقت على الفلسفة الشكية التوفيقية التي تدعو الى عقد مصالحة بين المثالية والمادية أي انها عبارة عن فلسفة حيادية بينهما وكطريقة ثالثة حين احتدم الصراع في اليونان بين الماديين والمثاليين ويعد (بيرون) الفيلسوف اليوناني مؤسسها الأول (360_270 ق.م).
وتتصل جذورها اللاادرية بمذهب الشك الذي نشأ في اليونان والذي يرى عدم أمكانية التوصل الى حقائق الأشياء نظرا لافتقار الانسان الى أداة ادراك حقيقية وذلك لان العقل يدرك ظواهر الأشياء ولا يعرف حقائقها كما ان الحواس تخدع الانسان ولا يمكن اعتبارها شاهد اثبات حقيقي، وكان (بيرون) يردد دائماً عبارة (لا ادري) في الإجابة عن السؤال الفلسفي الكبير: هل الوجود مادي أم روحي؟ لذلك لقب بصاحب مذهب اللاادرية ولقب أتباعه باللاادريين .
المراحل التي مرت بها الفلسفة اللاادرية:
1-العصور القديمة: الفلسفة اليونانية:
ظهرت الفلسفة الشكية في اليونان كما ذكرت على يد (بيرون) مؤسس هذه الفلسفة خلال فترة احتدام الصراع الفكري بين المادية والمثالية حتى ظهور الفيلسوف اليوناني هرقليطس (530_470 ق.م) الذي حسم موقفه لصالح المادية حين اعلن (أن العالم أزلي يعمل وفق قوانين خالدة ليست من صنع أله أو بشر وسوف يظل شعلة خالدة حية تتوهج وتنطفىء وفق قوانين معينة) وقد شكلت رؤية هذا الفيلسوف نقطة نوعية في مفهوم الجدل فأن كل شيء يوجد في العالم يوجد في حركة وتغير وقد أشار الى ذلك بمقولته الشهيرة "انك لا تعبر النهر مرتين لان مياه جديدة تتدفق من حولك "
2- مرحلة العصور الوسطى وعصر النهضة:
(استمرت اللاادرية كمحاولة توفيقية بين المثالية والمادية غير انها وضعت نفسها في خدمة الفكر اليميني الرجعي وأصبحت مطية له فأستغلت من قبل الطبقة البرجوازية في تبرير مؤامراتهم الدنيئة ضد الفلسفة والعلم في آن واحد بهدف سلب حق الفلسفة في ان تدرك وتدرس بإرادتها الخاصة جوهر العالم وحرمان العلم ايضاً من حقه في طرح فرضيات تتعدى الوقائع الظاهرية السطحية، لذلك تلقت اللاادرية دعماً وتأييداً من الطبقات الرجعية لأنها تشكل ركيزة للدين)
المعجم الفلسفي، رؤية ماركسية:
أما في الشرق الإسلامي وبصورة خاصة في البصرة " فقد ظهرت نتيجة للاصطراع الفكري والشك أربعة اتجاهات فكرية قوية : اتجاه غير واضح المسالك والغاية إلا انه خطير في النواحي السيادية ظهر عند بعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر بشار بن برد والحسن بن هاني (أبو نؤاس) وصالح بن عبد القدوس وابن أبي العوجاء وواصل بن عطاء وغيرهم .
وبالاضافة الى هذا ظهر في الشام الشاعر أبو العلاء المعري وفي بلاد فارس الشاعر عمر الخيام الذي ظهر من خلال رباعيته اتهم العلم والعقل بمعجزهما هن ادراك سر الحياة وهذه رباعية من رباعياته تؤكد حيرته وشكه.
حار الورى ما بين كفر ودين
وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى
يقول ليس الحق ما تسلكون
لقد بعثت لا ادريات الخيام في نفسه روح التشاؤم وكره الدنيا وما فيها وكان تشاؤمه هذا وليد حب الحياة والبقاء ولهذا نراه يتمنى لو انه يعود مرة أخرى الى الحياة ولو بعد مئات الألوف من السنين كما يعود العشب من قلب التراب .
3- مرحلة العصر الحديث:
(تعد هذه المرحلة امتداداً للمراحل السابقة إلا إن إضافات وأفكار جديدة طرأت عليها بمرور الزمن والتقدم العلمي الهائل الذي شهده العالم في مجالات متعدده فقد اثبت العلم الحديث إن للكون آلة تدير نفسها بنفسها وهذه الآلة لا تحتاج الى أي سبب فوق الطبيعة فإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو إن هناك حاجة الى خالق)العلم في منظوره الجديد.
(ويعد دافيدهيوم من إنكلترا وعمانوئيل كانت من المانيا من ابرز ممثلي هذا المذهب في العصر الحديث فيرى هيوم ان الانسان لا يتعامل إلا مع مشاعره الخاصة ومع وقائع تجاربه الذاتية ولذا يتعذر عليه معرفه شيء عن العالم الخارجي أيا كانت فيسلم بالوجود الموضوعي للاشياء بحد ذاتها وهو يرى انه ليس لعقل الانسان أن يدرك إلا ظواهر الأشياء) .تاريخية المعرفة منذ الاغريق حتى ابن رشد الموسوعة الصغيرة .
وقد اتخذ الفيلسوف الفرنسي ديكارت مبدأ الشك منهجاً في فلسفته حيث اعلن مقولته الشهيرة " انا اشك فأذاً انا افكر، أنا أفكر فأذاً انا موجود " وهي تلخيص لجوهر فلسفته.
لقد وجهت الى المذهب اللاادري انتقادات كثيرة فهم بزعمهم ان العالم لا يمكن معرفته وان الظواهر المحيطة بنا لا يمكن كشفها انما هم لا يريدون معرفة العالم بالعقل البشري، لقد هاجمهم "انجلس" "قائلا" إن التطبيق والعلم والصناعة والتجربة هو اكبر تكذيب لهم "كما سماهم بالماديين الخجولين كما ان العقل الإنساني غير عاجز كما يدعون عن كشف المجهول وليس هناك مشكلات في اكتشاف الحقيقة بفضل تطور النشاط العلمي رغم اكتشاف الانسان للحقائق قد تأخر بسبب ضعف قوى الإنتاج في بداية نشوء المجتمعات وتفسير الظواهر الطبيعية كالمطر والرعد والبرق تفسيراً خرافياً إلا ان الانسان تمكن من تفسيرها بسبب تقدم العلم .
فاللادرية اذاً حياد سلبي ولم تكن حلا للمعارك الفكرية السائدة، وختاما فان العالم والكون سيبقى أزلياً لا بداية ولا نهاية له سيبقى شعلة وحاجة تسير وفق قوانين خالدة، كما عبر عنها الفيلسوف اليوناني المادي العظيم "هرقليطس"
***
غريب دوحي

 

جمعتُ الرجلين في داري وكان طعام الضيفين مقصورا ًـ حسب رغبتيهما ـ على الدبس والعسل وبعض الحبوب كالعدس وأقراص التين والزبيب المجففين. ما كان الفيلسوف الألماني نيتشة يعرف الدبس بل ولم يسمع به ولم يذقه ولا من غرابة، فليس في بلده نخيل ٌ أو تمور لذا إشترط حضور العسل الذي كان يهوى. أما صاحبنا المعرّي فما كان يفضل في حياته إلا الدبس ولا أعرف السر. أفلم يكن العسل معروفاً في مِعرّة النعمان؟ أم يحبه لأنه يشكل مزجة جيدة مع مطبوخ الماش أو العدس؟ كان الرجل نباتياً وكذلك كان حال الفيلسوف (عدا لحم الخروف) وما أيسر وأهون ما طلب الضيفان. لا من حاجة للطبخ والنفخ والتسوق الثقيل. كل شئ جاهز في الأسواق. بدأ اللقاء ودياً للغاية بين الرجلين وحميمياً جداً فكلاهما مفكر وشاعر وكلاهما زاهد ثم إنَّ كليهما معتزلان، المعري مرهون في محبسين عماه وبيته، والألماني معتكف في مغارة في أعلى جبل يحلم بالإنسان المثال المتفرّد والإرادة السامية القوية. بأية لغة تخاطب الرجلان؟ تكلم كل ٌّ بلغته الأم إذ جهزتُ لهذه المناسبة جهاز ترجمة فورية من العربية إلى الألمانية ومن هذه لتلك. وإذا ما عصيَ أمر طارئ توسطتُ لتيسيره وشرح ما غمض منه. ما أن فرغ أبو العلاء المعرّي من طعامه حتى سألني هل في بيتك ماء ٌ جار ٍ؟ قلت أجل، الماء هنا يجري ليلاً ونهاراً في الحنفيات فهو دوماً جديد معقم ونظيف وخالٍ من الشوائب. قال هاتِ لي إبرقياً نظيفاً ودلني على حمامك لكي أتوضأ فقد حان موعد صلاتي. كيف عرفت أنَّ آنَ صلاتك قد حان يا رجل؟ قال عندي ساعة داخلية تسمونها الساعة البايولوجية وهي ساعة مضبوطة لا تخون. طالت صلاة الرجل وبقينا في إنتظاره. وما أن فرغ منها حتى سأل هل من قيلولة خفيفة؟ كما تحب يا شيخ المعرة. إضطجع على الأريكة ولم تكف شفتاه عن الحركة. كان نائماً لكنه كان يتمتم مع نفسه بصوتٍ يعلو وينخفض تبعاً لحركتي الشهيق والزفير. كان الرجل يتكلم بلغة غير مفهومة أغلبها ملغّز ومرمّز ظل نيتشة هادئاً طوال الوقت. لم يتدخل ولم يسأل عما يجري أمام عينيه. كان يحترم طقوس الرجل الضرير ويتفهم حاجاته كشاعر ومثقف كبير وفيلسوف يحمل فوق منكبيه هموم الدنيا بشراً وطبيعةً. ظللتُ بدوري ساكناً صامتاً أراقب نيتشة كيف يأكل. نهض أبو العلاء من نومه بعد ساعة تقريباً. إعتذر وبرر النومة الإضطرارية من أنه شيخ طاعن في السن وأن السفرة الطويلة من معرة النعمان في ضواحي حلب السورية إلى مدينة ميونيخ قد هدّت حيله وكسرت عظامه الهشة السريعة الكسر. سألته: وهل ركبت الطائرة في سفرتك أم أتيت بالقطار؟ تبسّم الرجل ساخراً ثم قال: لا بهذا ولا بذاك، إنما أتيتك راكباً جملاً ! أفلم تقرأ شعري:
طربنَ لضوءِ البارق ِ المتعالي
ببغدادَ وهنا ً ما لهن َّ ومالي
قلت محتجاً لكنك لستَ في بغداد ولستَ مُدلجا ً إلى حلب، إنما أنت في ميونيخ الألمانية. قال لا ريبَ في ذلك، لكني عنيتُ أن أقول إني أتيتك ملبياً دعوتك راكباً الجمال التي ركبتها حين غادرت بغداد َ قاصداً بيتي وضيعتي في مِعرّة النعمان. قد يكون البرق في سماوات ألمانيا غير البرق في بلداننا لكنَّ الظاهرة تكررت معي مرتين. طيب يا أبا العلاء، وكم من الوقت إستغرقت رحلتك على ظهور جمالك هذه؟ قال أقل من ساعة !! كيف يا رجل؟ قال ألم تقرأ رسالة الغفران؟ بلى والله قد قرأتها مراراً. قال وهل نسيتَ الطريقة والسرعة التي دخلت فيها الجنة؟ لا أتذكر يا ضيفي، أعذرني. قال تعلقت بركاب إبراهيم ممتطياً ظهر فرس من نور لا سلطان للزمن على حركته. كذا كان حال الجمل الذي حملني إليك إسراءً. برق ضوء خاطف في المدينة فقال المعري هذا ضوء بارق وسيأتي المطر بعده. بالفعل، لم تمض ِ إلا بضعة دقائق حتى تساقط المطر مدراراً. وهل رأيتَ البرق يا رجل؟ قال كلا، إنما ساعتي الداخلية قد أنبأتني أنَّ مطراً سينزل وستغرق شوارع المدينة وتعجز مجاري الصرف عن أداء المطلوب منها وإني سأقضي الليلة معك في بيتك. على الرحب والسعة يا شيخ. هذا بيتك. هل لديك من مانع لو إقترح ضيفنا الآخر أن يقضي هذه الليلة الماطرة معنا في بيتي؟ قال أهلاً وسهلاً، سنقضي ساعات الليل الطويلة نقاشاً وجدالاً وشعراً وفلسفةً شرط أن تكثر من الدبس والزبيب الأسود وأقراص التين وقليل من الماش. وماذا سيأكل وسيشرب الفيلسوف الألماني؟ سأل المعري. سيأكل ما تأكل أنت لكنه سيشرب النبيذ وما هو أقوى من النبيذ، فهل لديك مانع؟ لم يجب، كأنه لم يسمع سؤالي. طالت جلسة الليل الماطر وتشعبت في موضوعاتها وأسهب نيتشة في شرح وجهات نظره الفلسفية وشرّق وغرّب حتى شعر المعرّي بالضجر فأكثر من التثاؤب والتمطي والتململ في جلسته. لم يكترث نيتشة بما آل إليه حال الضرير الأعمى فواصل حديثه وكان فيه الغث السخيف وفيه الجيد الممتع. كان يركز على أمور مقننة محددة يلف حولها ويدور ويختلق المناسبات ليعود إليها شارحاً ولكن بألفاظ مغايرة. كان الرجل يمجد الأرض ولا من غرابة حيث يقول إنه جاء منها ثم إليها سيعود. هذا الكلام موجود في قرآننا حيث جاء بصيغ شتى في عدة سور ٍ منها على سبيل المثال [هو الذي خلقكم من تراب... سورة المؤمن / الآية 67] و[ومن آياته أنْ خلقكم من ترابٍ ثم إذا أنتم بشرٌ تنشرون / سورة الروم / الآية 20] وكذلك ورد مثل هذا الكلام في سورة الحج / الآية الخامسة [يا أيها الناسُ إنْ كنتم في ريبٍ من البعثِ فإنا خلقناكم من تُرابٍ ثم من نطفةٍ...]. ثم إنَّ كلام نيتشة معروف بين المسيحيين منذ زمن بعيد فإنهم حين توديع موتاهم يتقدم حضور ساعة الدفن الواحد تلو الآخر ويُلقي على تابوت الراحل المقفل وهو في حفرته حفنة ً من التراب أو الرمل قائلاً: الرماد للرماد والغبار للغبار.
Ash to ash , Dust to dust
نعمْ، إنه يمجد الأرض فضلاً عن مغالاته في تعظيم السخاء والفضيلة والتفرّد. كيف يعرف أو يمارس المتفردُ السخاءَ وعلى مّن يُسدي جميله وأفضاله إذا كان منعزلاً متوحداً معتكفا ً في مغارة في ذروة جبل؟ على من يسخو وعلى من يتفضل؟ كان المعرّي يتابع أقوالي مرهفاً السمع غير مبال ٍ بموقف الفيلسوف الذي راح يعبُّ من كؤوس النبيذ حتى الثُمالة. ولم يكترث هذا للنقد الذي كنتُ أوجهه له كلمات ٍ لكنها بقوة قذائف مدفع، ولآرائه المبثوثة في صفحات كتابه الموسوم (هكذا تكلم زرادشت). تركت المعري وإنصرفت لنيتشة فقلت له أنظر يا صديق: لم يتزوج المعري بل ولام أباه لأنه أنجبه وخاطبه بالقول [هذا جناه عليَّ أبي / ولم أجن ِ به على أحدِ] ومن ثم طلب نقش هذا الكلام على شاهدة قبره بعد موته وقد كان. قال وما علاقتي بموقف الصديق المعري وعزوفه عن الزواج؟ العلاقة وثقى يا صديق. قال كيف؟ لأني وجدتك شديد التناقض في مواقفك من المرآة. كنتَ مرةً مستعداً أن تتزوجَ المرأةَ التي تحبها فتنجب لك أطفالاً. لكنك إنقلبت عليها وعلى نفسك فقلتَ فيها كفراً أو ما يشبه الكفر. قال مثلاً؟ قلتَ [إنَّ الرجلَ الحقيقي يطلب أمرين: المخاطرة واللعب، وذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة فهي أخطر الألعاب]. ما وجه الخطر فيها يا هذا؟ إنك تخشاها لأنك لم تجربها. لم تجرؤ على الدنو منها صديقة ً أو زوجةً. لم تحاول إكتشافها وفك ألغازها والعثور على جواهرها الثمينة. إنك خائف منها لأنك جبان أصلاً رغم دعاواك الفارغة التي تمجد الشجاعة فيها. أين سخاؤك وعلى من تغدق فضلك المزعوم؟ أليست هي الأحق بالفضل والسخاء؟ ظل َّ نيتشة مطرقا لا يعلّق كأنه ما كان مكترثاً بما كان يسمع من ثقيل النقد والتجريح. ظل يعب كؤوس النبيذ مع العسل وظللتُ أمطره بجارح النقد مما إستخلصت مما كتب في كتابه آنف الذكر. رفع رأسه ببطء ورفع حاجبيه الكثين مستفسراً وطالباً المزيد من الكلام حول تناقضه بخصوص المرأة. قلت له أفلم تقل أنت على لسان إمرأة عجوز [إذا ما ذهبتَ إلى النساء فلا تنسَ السوط]. لقد ساويتَ بكلامك هذا بين المرأة والحيوان. السوط للحيوان في سالف الزمان. لأنك تخشاها فلا تقترب منها إلا ووسيلة تخويف وإرعاب معك تحملها في يدك. إنك لا شئ دون السوط رمزاً للقوة والبطش من جهة ٍ، وعلامة تفضح جبنك من الجهة الأخرى، كما كان شأن صدام حسين إذ ْ لم يفارقه مسدسه أبداً. السوط يضيف قوة أخرى خارجية تقوّي بها عزمك وعزيمتك لأنك تعرف جيداً أنك ضعيف وجبان. ما كان نيتشة آبهاً بما يسمع لكأنني كنت أخاطب غيره. ظل ثابت الجنان غير مكترث بما كنتُ أقول له. بمَ كان يفكر إذاً؟ بنسره وأفعوانه اللذين تركهما لوحدهما في مغارته. قال وقد عاد ليقظته إنك ظلمتني يا رجل وأنا ضيفك. ظلمتني مرةً بالحق ومراتٍ بالباطل. لقد أهملتَ ما قلتُ في مناسبة أخرى عن المرآة. ماذا قلتَ يا فيلسوف؟ قلتُ [ليتوهجَّ الكوكبُ السني في حبك أيتها المرأة. وليهتف شوقك قائلاً: لأضعن َّ للعالم الإنسان المتفوّق]. ثم قلتُ [ليحذرَ الرجلُ المرأةَ عندما يستولي الحب عليها، فهي تضحي بكل شئ في سبيل حبها إذْ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها تجاه قيمته]. هذا لا ريبَ كلام جيد يا سيد نيتشة ولكنك أفسدتَ ما قلتَ بجملة شديدة القسوة على المرأة إذ قلتَ [ليحذر الرجلُ المرأة َ عندما تساورها البغضاءُ لأنه إذا كان قلب الرجل مكمناً للقسوة فقلب المرأة مكمنٌ للشر]. ألم تقل هذا الكلام؟ قال بلى قد قلته وما زلتُ أصرّ على صحته. الشر في قلب المرأة. ما رأيك يا شيخ المعرة بهذا المنطق والموقف من المرأة سيدة وزينة الوجود، شمسنا في النهار وقمرنا في الليل؟ قال كنتُ طوال عمري نصيراً للمرأة ومدافعاً عنها وعن حقوقها بل وأكثر. فقد غامرتُ فجاهرتُ أنْ ليس فرض ٌ على النساء حج َّ بيت الله الحرام. ثم قد قبّحت محاولات بعض الصبية والشباب ترصد أحوال البنات في ساعات لهوهن مع بعضهن أو إرتياد السواقي والأنهار صيفاً للتبرد واللهو البرئ. صغت إحتجاجي ذلك شعراً ضمنته لزومياتي. لا أستطيع أكثر من ذلك وأنا كما ترياني رجل ضرير شبه مقعد. أردتُ جر َّ المعري لجولة ساخنة مع نيتشة ريثما أرتاح قليلاً مما عانيتُ من تشابك عنيف مع هذا الفيلسوف فقلت له يا شيخ وسيد مِعرّة النعمان، أعرف أنَّ لك مواقفَ ووجهاتِ نظر في بعض ما كتب هذا الخواجة حول الرسل والأديان والله... فهلا فتحت معه هذه المواضيع لنزداد فهماً ونتوسع فيما لدينا من معلومات؟ شعر الرجل بحرج غير قليل ولا من غرابة... فإنه هو الرجل الشديد الحذر والكثير التواضع والذي يكره الخصومات والمناكفات لأنه غير قادر على مطاولة الأقوياء الأصحاء الأبدان من ذوي البصر والبصائر وهو رجل قاصر ضعيف عليل البدن. لا يود إيذاء أحدٍ من العالمين ولا يميل إلى جرح مشاعرهم والنيل من كبريائهم الأدبي أو الإجتماعي. ألححتُ عليه أن يتكلم وهوّنتُ عليه الأمر بحجة أنَّ نيتشة لا يفهم لغة أبي العلاء العالية المقامات بل ويعجز عن إدراك مجازاته وكناياته ورموزه التي برع فيها أيما براعة وخاصةً في أشعار اللزوميات المعروفة. أفلم يقل هو بلسانه
[أنا رجلٌ تكلمي بالمجازِ]؟ تحركَ ببطءٍ في مجلسه، تنحنحَ، بسملَ وحوقل ومدَّ ذراعه اليمنى في الفراغ متحسساً ما ومن حوله كما هو شأن الفاقدي البصر جميعاً ثم قال بصوت شديد الخفوت موجهاً كلامه إلى الفيلسوف: قرأتُ عنك أنك تنفي وجود الله خالقنا وقد طالما كررتَ في كتاب " هكذا تكلم زرادشت " جملة مات الله !! لكنك كنت دوماً تحترم الأنبياء بل وتمجد بعضهم، فما سر هذا التناقض في موقفيك؟ رد َّ الفيلسوف بهدوء ونبرة عميقة واثقة: وأنت يا معري، ماذا تقول في هذين الأمرين؟ أنا... أنا أقول بأنَّ الله موجود ولكنْ لا من حاجة به للأنبياء !! إنه كخالق يستطيع الإتصال بعباده مباشرةً دون الحاجة لوساطة رسل أو أولياء أو أنبياء أو مَلك يوحي. أي أنَّ البشرَ مخلوقات الرب مستغنون عن الأنبياء، فصلتهم بربهم قصيرة مستقيمة واضحة لا عوجَ فيها ولا إعضال. الله ما مات ولن يموت... لكنَّ الرسل مّن سيموتون تباعاً. هزَّ نيتشة رأسه وهو يتناول كأس النبيذ العقيقي اللون فسأل المعري ومن أين عرفتَ بمواقفي من الله والأنبياء؟ عرفتُ مما أفادني به بعض الأصدقاء والعارفين بفلسفتك، أجاب المعري ثم أضاف، كيف عرفتَ أنت بعض طقوس الإسلام ومفرداته تلك التي تخص صلاة المسلمين حيث كررت جملة (حيَّ على الصلاة) في معرض حديثك عن الصحراء ثم ولعك بنخلة الشرق وتموره؟ تبسّم الفيلسوف محافظاً على وقاره الطبيعي وهو يشرح ما غمض على المعري حيث قال: قرأت كافة الكتب التي تسمى مقدسة وغير المقدسة. غير أني لم أقل ْ (حيَّ على الصلاة) كما تفضلتَ لكني قلتُ (هلموا للصلاة)... الجملة الأخيرة هذه موجهة لكل البشر ولكافة أصحاب الديانات. أما (حيَّ على الصلاة) فإنها نداء يحض المسلمين فقط على الصلاة وهو معروف وشائع في أوساطهم. إنه خطأ بل ذنب مَن قام بترجمة كتابي إلى اللغة العربية. أراد أن يتملق المسلمين فإستعار جملة الأذان المعروفة وهي جزء من النداء العام [حيَّ على الصلاة / حيَّ على الفلاح / حيَّ على خير العمل]. إرتاح المعري لهذا التفسير والتبرير فإنبسطت أساريره وأراح ظهره المقوَّس طالباً جرعة ماء قراح. هل من كأس شاي مع الماء يا شيخ؟ قال كلا، بل أفضِّل قليلاً من العسل مع الماء. إلتفت الفيلسوف الألماني نحوي قائلاً: وأنتَ، هل لديك ملاحظات على ما كتبت ُ في كتاب زرادشت؟ لديَّ الكثير يا ضيف، لكنَّ الظرف غير مناسب للخوض في هذه المسائل. قد نلتقي مرة ً أو مرات ٍ أُخرَ لنناقش الكثير مما في رأسي من مشكلات فلسفية وأخرى إجتماعية أو سياسية. نكتفي اليوم فالرجل الشيخ يشعر بالتعب ولا طاقة له على المزيد من النقاش. سنلتقي وحيدين وربما بحضور سيدة رائعة ستسحرك بفنها وجمالها وكتاباتها فإنها مثلك فيلسوفة على طريقتها الخاصة. من يدري؟ ربما ستقع في حبها فتعرض الزواج عليها بعد عزوبيتك التي طالت وتبدو لا من نهاية لها. لم يتحمس الفيلسوف لما قلتُ، لم ينطق لكني كنتُ أتحسس حرارة رغبة دفينة عميقة فيه لتناول هذا الأمر بالجدية المطلوبة. قال وهو يمد يده مودعاً: لسوف نرى، سنجتمع ثلاثتنا ولسوف نرى !!.
***
د. عدنان الظاهر
نيسان 2008

 

في 18 أيلول 2024 أطلق العراق "الاستراتيجية الوطنية لحماية وتحسين البيئة في العراق 2024 – 2030".وقد وصفتها وسائل إعلام عراقية وأجنبية بانها شاملة، وتهدف لتمكين العراق من الحفاظ على بيئته. ومن شأنها مكافحة التلوث، مع التركيزعلى الموارد المائية وحمايتها ومكافحة تلوثها، من خلال ضمان معالجة مياه المجاري وإعادة تدويرها لأغراض السقي، وإنعاش أهوار الجنوب التي تعاني من الجفاف. وأن الستراتيجية تعتمد على حلول مبتكرة بهدف حصاد مياه الأمطار، وتشجيع استخدام طرق الريّ الحديثة. وتسعى الخطة، أيضاً، إلى مراقبة النظم البيئية البحرية، وإدارة المناطق الساحلية، وإنشاء محميات بحرية، بالتزامن مع تطوير البنى التحتية لموانىء العراق، والتأكد من معالجة أي تلوث ناجم عن ذلك. وستعتمد أيضاً تطوير الطاقة المتجددة، والحد من الغازات المنبعثة، والاستثمار في وسائل النقل الكهربائي وتحديث قطاع النقل العام.
وبالاعتماد على التقييمات الشاملة للظروف البيئية الراهنة في العراق تقدم الستراتيجية خارطة طريق لمعالجة القضايا الملحة، مثل النمو السكاني ،واستخدام الموارد غير المستدام، وإدارة المياه الإقليمية، بهدف إيقاف عوامل التدهور البيئي، بما في ذلك التصحر وفقدان التنوع البيولوجي واستنزاف الموارد المائية. وتهدف الاستراتيجية إلى تخفيف الضغوط على الفئات السكانية الضعيفة ودعمها لتعزيز قدرتها على الصمود الاجتماعي والتنموي والبيئي وستوجه الاستراتيجية الجديدة جهود حماية البيئة في العراق على مدى السنوات الست المقبلة، مما يضمن إعطاء الأولوية للاستدامة في صياغة السياسات والتشريعات وتنفيذ المبادرات الرئيسية.
وأن المشروع مدعوم من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ويعتمد على استثمارات لا تقل قيمتها عن مليار دولار سنويا، بحسب أحد خبراء البرنامج الإنمائي، مشيراً إلى أن هذا التقدير تقريبي، ويتعلق فقط بجزء من البرنامج ("فرانس بريس").وأن المنظمتين الدوليتين المذكورتين "تفتخران بالتعاون مع وزارة البيئة في هذا المشروع.وان الاستراتيجية تمثل إنجازاً مهما في جهود العراق لمعالجة التحديات البيئية، وتتماشى مع أهداف التنمية الوطنية".(UNDP)..
تعقيباً نشير الى أن هذه الستراتيجية ليست الأولى، وإنما سبقتها العديد من الستراتيجيات والخطط البيئية الوطنية- سنأتي عليها..لا ندي أين صارت، وفيما إذا حققت شيئاً لتحسين الواقع البيئي، وهل تمت دراسة إيجابياتها وسلبياتها عند صياغة الستراتيجية الوطنية الجديدة..
ونوضح بإختصار بأنه عقب مخاض عسير وتأخير طويل وحصول تداعيات بيئية خطيرة ،أطلقت وزارة البيئة في 18/6/2013، اَخر "أستراتيجية وطنية لحماية البيئة وخطة العمل التنفيذية للاعوام 2013- 2017 ".وأوضح إعلام الوزارة بأنها هدفت لتأطير العمل البيئي في البلاد.وجمعت بين مكافحة التلوث وإدارة الموارد لتحسين البيئة.وأشارت مصادر إعلامية الى تضمن الأستراتيجية وخطة العمل 10 أهداف رئيسة لتحسين الواقع البيئي والتقليل من حدة التلوث، إحتوت على نحو 100 برنامج واكثر من 200 مشروع، تنفذ على مدى اربعة سنوات مقبلة من قبل وزارة البيئة، وبدعم فني من برنامج الامم المتحدة الانمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمية.
وأوضح وزير البيئة المهندس سركون صليوا،في وقتها، بان الهدف من الاستراتيجية هو استخدامهما كدليل عمل لمؤسسات الدولة والمجتمع من اجل حماية البيئة في العراق".واكد :"ان عدم وجود تخطيط بيئي استراتيجي سليم، وانتهاج العشوائية في اتخاذ القرارات ،كلف البيئة العراقية الكثير من التدهور، وانعكس سلبا على الصحة العامة والبيئة".وإعتبر تولي مجلس الوزراء لمسؤولية (المجلس الأعلى للبيئة) "سيشكل نقلة كبيرة في تطوير مستوى الاداء ويعطي الوزارة القيمة المعنوية والادارية اللازمة في تنفيذ واجباتها".
من جهتها، أكدت رئيسة لجنة الصحة والبيئة البرلمانية د. لقاء اَل ياسين:" ان اهم ما يميز هذه الاستراتيجية الوطنية هو تحديد اهم المشكلات البيئية والتحديات التي تواجه البلد، واقتراح البرامج والمشاريع لمعالجة المشاكل بهدف حماية وتحسين البيئة في العراق".وطالبت كافة الجهات الحكومية بـ "توفير الدعم المادي والمعنوي لوزارة البيئة من اجل النهوض بمهامها في تنفيذ واجباتها".
وتباهت وزارة البيئة في 5/6/2014 بأن " الحكومة العراقية هي اول حكومة تنجز استراتجية وطنية للبيئة "(كذا !!!)..ولم تنجز الخطة لتزامن فترة تطبيقها مع انطلاق العمليات العسكرية ضد تنظيمات داعش الإرهابية في العام 2014 والتي استمرت حتى العام 2017..
ومع إستتباب الأمن نسبياً، إضافة الى الالتزامات التي تعهد بها العراق للتصدي لأثار التغير المناخي، جعلت من تحديث الاستراتيجية الوطنية السالفة ضرورة ملحة.وفعلآ أُعلنت وزارة البيئة في 18/10 /2022 إطلاق "خطة عمل وطنية جديدة"، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.وقالت الوزارة بأن "التحديث يؤكد إلتزام العراق بالعمل البيئي، الذي يتماشى مع الأولويات الوطنية والدولية، ومع المساهمات المحددة وطنياً".
طبيعي كان يفترض ان تنفذ الخطة على مراحل، وإعلان ما يُنجز في كل مرحلة .. بيد ان ذلك لم يحصل، ومر دون توضيحات لماذا لم تنفذ الخطة.
وبعد 3 سنوات، أعلنت وزارة البيئة عن "الأستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي والخطة التنفيذية للفترة 2015-2020"، التي أُعدتها بالتعاون مع منظمات دولية معنية.. وإنتهت الفترة المحددة لها دون إعلان ما أُنجز منها أيضاً
وبعد 8 سنوات من إعلان ستراتيجية التنوع البيولوجي، نشر إعلام وزارة البيئة دعوة الوزير المهندس نزار ئاميدي لـ " البدء بوضع خطة عمل لتنفيذ بنود "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التلوث"،وتنفيذ مشروعي مرفق البيئة العالمي (GEF-7) وشفافية العمل المناخي (BTR)".
وفي 14/6/ 2023 أعلن عن توصيات وقرارات (مجلس حماية وتحسين البيئة الاتحادي)، ومنها: "الإستراتيجية الوطنية للحد من التلوث البيئي للأعوام 2023- 2030"، التي إستهدفت حماية وتحسين جودة الهواء والمياه والتربة، وتطوير وتحسين إدارة النفايات الصلبة، والحدّ من التلوث في قطاعي الصناعة والطاقة، وتعزيز الإطار المؤسساتي والقانوني. ودعا الوزير ئاميدي الجهات المسؤولة في الوزارات المختصة وكل القطاعات التربوية والاعلامية والمجتمع المدني والشباب "الى تكاتف الجهود ووضع حلول ومعالجات حقيقية لملف البيئة "..
وفي 20/8/2023 أعلنت الوزارة تفاصيل "أستراتيجية مواجهة التلوث البيئي" وجاهزية خطتها التنفيذية. وقد إعتبرها وكيل وزارة البيئة الدكتور جاسم الفلاحي:" رؤية وطنية متقدمة لوضع آليات عملية وفاعلة للحد من تأثير التلوث البيئي وانعكاساته على تحقيق أهداف التنمية المستدامة "..
وفيما إنتظرنا ان تعلن الوزارة ما الذي تحقق خلال 22 شهراُ من إعلان "الاستراتيجية الوطنية وخطة العمل التنفيذية" المُحَدثة، و16 شهراً من إعلان "ستراتيجية الحد من التلوث البيئي".. تفاجئنا بإعلان وزارة البيئة في 16/8/2024: " إقرار مجلس الوزراء للاستراتيجية الوطنية لحماية وتحسين البيئة للأعوام 2023-2030"..أي أنه أقر في اَب 2024 الخطة التي يفترض بدأ تنفيذها في عام 2023..
لم نجد تفسيراً لذلك سوى التخبط وسوء التنسيق وإنعدام المتابعة الحكومية للقرارات المتخذة,
وإستطراداً، ثمة قضايا مهمة تتعلق بالخطة البيئية الجديدة تستوجب التوضيح:
1-الخطة مدعومة من قبل منظمتين دوليتين، هي ذاتها التي دعمت الخطط السابقة.. فلماذا تعثر تنفيذها ؟
2- الخطة تعتمد على استثمارات لا تقل قيمتها عن 6 مليارات دولار للسنوات الست. فمن سيوفر هذا المبلغ الكبير جداً، ومن المستحيل ان توفر وزارة البيئة ولو جزء منه ومخصصاتها السنوية التشغيلية والإستثمارية لا تزيد عن 0.5 % من ميزانية الدولة ؟
3-ما هي ضمانات نجاح الخطة الستراتيجية الجديدة، والمهمات المطروحة عليها كثيرة جداً،ومختلفة، وليست بيئية فقط، وكلها ملحة، ولكنها صعبة التحقيق جداً، كالنمو السكاني، وتخفيف الضغوط عن الفئات السكانية الضعيفة لتصمد إجتماعياً وتنموياً وبيئياً-كما ورد، والإستخدام غير المستدام للموارد، ومكافحة التلوث، وإدارة المياه الإقليمية، واستنزاف الموارد المائية، والتصحر، وفقدان التنوع البيولوجي،الخ.. كيف ستحقق كل ذلك خلال 6 سنوات، والعراق ما يزال يتذيل الأداء البيئي؟
4- هذه الخطة لن تتحقق إلا بجهود مشتركة جبارة لكافة الوزارات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، والقطاعات التربوية والاعلامية،والشبابية.. فما هي ضمانات هذه المشاركة، والتجارب السابقة سلبية ؟
ختاماً، رغم قناعتنا بعدم توفر شروط نجاح الخطة الجديدة، نتمنى تحقيقها فعلآ. وبذات الوقت ندعو الى الكف عن نهج المبالغة وتضخيم الخطط والمشروعات المطروحة، كإعتبارها "إنجازاً مهماً" ولم يتم بعد الشروع بتنفيذها.وننبه الى ان الإدعاءات الكاذبة، من قبيل" الحكومة العراقية هي اول حكومة تنجز استراتجية وطنية للبيئة" أمام البيئيين الأجانب، لن تجلب سوى السخرية والإستهزاء، لأنهم يعرفون جيداً بان الطبقة السياسية الحاكمة لم تفلح طيلة عشرين عاماً بإنجاز أي خطة وطنية للبيئة. وبدلآ من ذلك، الأفضل والمفيد الإطلاع على تجارب الدول المتطورة والغنية في هذا المضمار للإستفادة منها.
***
الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد متخصص بالصحة والبيئة،عراقي مقيم في السويد

 

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

ناقشنا في المساق السابق تلك المماحكات التي يثيرها بعض المحدثين حول ما وردَ في (سُورة الكهف: الآية ٨٦): «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا. قُلْنَا: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.» فيقولون: كيف وجدَ الشمس؟ وكيف تغيب الشمس في عَين؟ وكيف وجدَ عندها قومًا؟ وقد قال (ذو القُروح): إنَّهم إنَّما يحصرون دلالات الألفاظ والتراكيب في ما يريدون. وإنَّ ذلك يذكِّرنا- للمفارقة أو للموافقة- بما وردَ في «صُورة الكهف»، لدَى (أفلاطون)، في الكتاب السابع من «الجمهوريَّة الفاضلة»، الذي ضربَه مثلًا في أنَّ الإنسان يظلُّ في سُبات الغفلة، عَدُوًّا لما يجهل، وما يجهل أكثر ممَّا يعلم، بل لعلَّ ما يراه حقائق أو يظنُّه لا يعدو خيالات وأوهامًا. بما في ذلك ذهن أفلاطون نفسه، الذي كان ما يزال غارقًا في كهف الأساطير القديمة؛ حتى إنَّه- على جلال قَدره العقلي والفلسفي- لم يكن قد تخطَّى عقليَّة الجاهليَّة، كما عهدناها عند العَرَب أيضًا، المعتقدة في ألوهيَّة الشمس (اللَّات)(1)؛ لما لحظوه من دَورها العظيم في الحياة. قلتُ له:
- لا غرو؛ إذ يبدو أنَّ الإنسان عمومًا قابِلٌ للتأسطر والأسطرة ونزف الأساطير في العالمين، إنْ بتصديقٍ أو بتلفيق، وفي كلِّ زمانٍ ومكان، وليس بالضرورة أن يكون من الغارقين في كهف الأساطير القديمة، كـ(أفلاطون).
ـ ويكفي لإدراك ذلك أن تطَّلع على كتابَي (أنيس منصور، -2011) «العظيمين»: «الذين هبطوا من السماء»، و«الذين عادوا إلى السماء»، ونحوهما من منشوراته الغفيرة، على سبيل النموذج. تلك المنشورات المتناثرة على الأرصفة وفي المكتبات، ولطالما عبثتْ بأذهان الشباب العَرَبي، خلال السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن الماضي، وَفق ملهاةٍ تخديريَّةٍ غير بريئة، باسم الثقافة والفلسفة والآداب والمعارف والفنون، على الطريقة العَرَبيَّة المسيَّسة المعهودة، غير المعنيَّة بإنتاج شيءٍ، سِوَى الجهل والضياع والعَدَميَّة. وحينما تطَّلع على مثل ذاك النتاج، غير العِلمي ولا المعرفي ولا العقلاني، ستترحَّم على أساطير الأوَّلين المتواضعة قياسًا إلى أساطير القرن العشرين! قد تُماري في أنَّه تفتَّق ذهن الرَّجُل عن ذلك كلِّه لأنَّه كان يكتب حافيَ القدمين، مرتديًا بجامته، عند الساعة الرابعة فجرًا، كعادته في الكتابة. أو ربما قلتَ: إنَّه كان لا ينام من اللَّيل أو النهار إلَّا قليلًا جدًّا، كما عُرِف عنه. أو لعلَّك تزعم أنَّ مشروعه الحقيقي الكبير إنَّما كان- وهو الموصوف بالمفكِّر والفيلسوف والمثقَّف الذي لا يُشَقُّ له غبار- أنْ يُعِيْد مجد الأساطير المِصْريَّة القديمة إلى جانب الأساطير الإسرائيليَّة القديمة والحديثة في وعاءٍ واحد، ليس فيه شركاء متشاكسون. ولا سيما بعد تجلِّياته عَقِبَ معاهدة (كامب ديفيد)، وما حظيتْ به من سيولة صاحبنا المتناهية ضمن أوانيها المستطرقة، وبكلِّ ما أوتي من مواهبه المذكورة، التي كانت محطَّ إعجاب الصهاينة بصفةٍ خاصَّة، بشهادة الكاتب الصهيوني الإسرائيلي (عاموس إيلون، -2009)، الصحفي والمؤلِّف والمؤرِّخ، الذي لا يُشَقُّ له غبار، هو الآخَر.
- لكن عاموسوه هذا كان من الداعمين لإقامة دولة فلسطينيَّة مستقلَّة، الداعين إلى أن تكون على أراضي ما قبل 1967.
- يا حبيبي! يعني كما بات ينادي العَرَب اليوم! هل أضاف: «وعاصمتها القُدس الشرقيَّة»؟! وكأنَّ القُدس الغربيَّة والشماليَّة والجنوبيَّة وغيرها قد باتت حلالًا زلالًا للمحتل! مع أنَّها كلَّها أراضٍ محتلَّة أصلًا، ولكن العَرَبيَّ بات يرضَى من الهزيمة بالخَيَّاب بن هيَّاب!
- لا أعلم هل أضاف هذا القيد المعاصر: «وعاصمتها القُدس الشرقيَّة»، لكن، للاحتياط، ربما!
- هؤلاء الداعمون والداعون هم الأخطر!
- لماذا؟
- لأنهم يدعمون بذلك تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، داعين إلى خنق أهلها في حدودٍ محدودة من أرضهم:

جوَّعوا أطفالَنا خمسين عامًا،
ورَمَوا في آخِر الصَّومِ إلينا بَصَلَةْ...
تَركوا عُلبةَ سردينٍ بأيدينا تُسَمَّى (غَزَّةً)...
عَظمةً يابسةً تُدْعَى (أريحا)..
فُندقًا يُدعَى (فلسطينَ)،
بلا سَقفٍ ولا أعمدةٍ،
تركونا جسدًا دونَ عِظامٍ،
ويدًا دونَ أصابعْ!
كما قال (نزار بن قبَّاني).
- لنعُد إلى أصحاب الكهف المعاصرين، ولنُسَمِّ الأشياء بمسمَّياتها!
- كيف «نُسَمِّي الأشياء بمسمَّياتها»؟!
- لم أفهم مُرادك!
- ولا أنا! هل من مترجم في الأُمم المتحدة أو الاتحاد الأوربي؟!
- والحل؟
ـ الحلُّ أن تفرِّق بين الأسماء والمُسمَّيات!
ـ هكذا نسمع العبارة «نسمي الأشياء بمسمياتها»!
ـ بأيَّة لُغة هذه؟
ـ لُغةٌ يُسمُّونها اللُّغة العَرَبيَّة!
- هذه لم تعُد لا عَرَبيَّة ولا أعجميَّة! الصواب: «نسمي الأشياء بأسمائها»! لأن المُسَمَّى هو المُسَمَّى، أي الشيء نفسه، والاسم هو اسمه. وحين يصل المرء إلى عدم التفريق بين الاسم والمُسَمَّى، فقُل على لُغته السلام. «وعَلَّم آدمَ الأسماءَ كُلَّها»، ولم يقل «المُسمَّيات كُلَّها»، أي علَّمه أسماء الأشياء «المسمَّيات» بتلك الأسماء.
ـ طيِّب، ولا تزعل، ولنُسَمِّ الأشياء بأسمائها!
ـ هكذا نتفاهم! بالعودة إلى أصابع أصحاب الكهف المعاصرين، فإنهم لا يعانون معاناة أصحاب الكهف الأفلاطوني فحسب، بل يعانون الأيديولوجيَّات أيضًا، التي هي أشد ظلاميَّة من ظلام الكهوف؛ تحملهم حملًا على المغالطات، وعلى الانتقائيَّة، وعلى التدليس أحيانًا. فـ«وَجَدَ»، لديهم لا تعني إلَّا أَلْفَى ولَقِي حقيقة. لا تعني: رأَى، ظنَّ، وقعَ في وجدانه، إلى غير ذلك، من أفعال القلوب. والحرف «في»، في عبارة «في عَين»، لا تعني لديهم إلَّا الظرفيَّة، لا الحاليَّة. والضمير في كلمة «عندها» يعود لديهم إلى الشمس قطعًا. على حين أنَّ النصَّ ليس بقطعيِّ الدلالة على ما فهموا، بل هو محتملٌ لقراءات أُخَر. منها مثلًا: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، [رآها] تَغْرُبُ [فِي صورة عَيْنٍ حَمِئَةٍ]، وَوَجَدَ [عِندَئذٍ] قَوْمًا...». فأمَّا «وَجَدَ» بمعنى «رأَى»، فكثيرٌ في كلام العَرَب. قال الشاعر الجاهلي (بشامة بن الغدير):
وَجَدْتُ أَبِي فِيهِمْ وجَدِّي، كِلَاهُما ::: يُطـاعُ ويُؤْتَـى أَمْرُهُ وهْوَ مُحْـتَبِـي
وأمَّا «في» بمعنى: «في حال» أو «في صورة»، فقد جاء في «القرآن»، في مثل الآية: «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ، فِي صَرَّةٍ، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ.»
ـ غير أنَّ (القبَّانجي) يدندن تكرارًا، مثلما يفعل (زكريا بطرس)، على الحروف المقطعة في «القرآن»، متسائلًا ما معناها؟ لسان حاله: إذا كان الله أعلم بمُراده منها، فما وجه مخاطبتنا بما لا نفهم؟
ـ الحقُّ أنَّ المفسِّرين قديمًا وحديثًا قد خاضوا في ذلك خوضًا كبيرًا. ولعلَّ أقرب الآراء وأرجحها، في رأيي، أنها إشارات إلى أنَّ «القرآن» إنَّما هو نصٌّ مؤلَّفٌ من تلك الحروف، وأنَّ تلك هي معجزته، وذلك هو تحدِّيه. وهذا كمَنْ يلقِّن أطفالًا حروف الهجاء، قبل أن يلقِّنهم الكلمات، فالجُمل ثمَّ الأساليب. ولهذا ليس بمصادفةٍ أن تجد «القرآن» قد استعمل قرابة 50% من الحروف العَرَبيَّة في تلك المقاطع الرمزيَّة، موزَّعةً من أوَّل حرف في الحروف الهجائيَّة العَرَبيَّة إلى آخر حرف: (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي)، تُوظَّف في مستهلِّ أكثر السُّوَر الطِّوال. إنَّها إشارات إلى مادة المعجزة الأساس، وهي: الحرف، واللُّغة، التي مادَّتها الأوَّليَّة تلك الأصوات، لا سِواها. ونحن لو تأمَّلنا في (سُورة مريم)، على سبيل الشاهد، التي تستهلُّ بـ«كاف، هاء، ياء، عين، صاد»، للحظنا أنَّ الحكاية الأُولى التي تَرِد فيها، بعد هذه الرموز، هي حكاية (زكريَّا)، وأنَّ اسمه نفسه يتضمَّن حرفَين من تلك الحروف، ثمَّ يَرِد بعده اسم (هارون)، فـ(مريم)، فـ(عيسى)، فـ(إبراهيم)، المميَّز في الآيات بأنه كان (صِدِّيقًا نَبِيًّا). أفلا ترى هنا أن الكاف إشارة إلى: زكريا، والهاء إلى: هارون، والياء إلى: مريم، والعَين إلى: عيسى، والصاد إلى: الصِّدِّيق النَّبي: إبراهيم. واللافت أنَّ هذه الأسماء قد وردت في السُّورة بالترتيب نفسه الذي وردت به تلك الحروف، اللَّهم إلَّا أنَّ ذِكر مريم (أخت هارون) قد جاء قبل اسم هارون. ويُستثنى من هذه السلسلة النبويَّة اسم (يحيى بن زكريَّا)؛ لأنه ليس من أبطال قِصَّة زكريَّا. هذا اجتهاد، نضربه مثلًا، وليس صحيحًا بالضرورة في كلِّ حال، بَيْدَ أنه يومئ إلى مغزى تلك الحروف، وأنَّها لم تأت بلا معنى يفقهه السامعون من العَرَب ويلحظه المتأمِّلون. وإنَّها لَقائلةٌ لهم أيضًا: إنَّ هذا الكتاب، الذي يتحدَّى فصحاءكم وبلغاءكم، إنَّما هو مؤلَّف من هذه الأصوات اللُّغويَّة اليسيرة التي تعرفونها. وقد جاءت إشارةٌ جليَّةُ الدلالة على هذا المعنى في مستهل (سُورة قاف): «ق، والقرآن ذي الذِّكر...». قائلةً: فائتوا بمثله إنْ كنتم قادرين. حتى إنَّها لتَصدُق في هذا الشأن مقولة (طه حسين): إنَّ في العَرَبيَّة ثلاثة أنواع من النصوص: شِعرًا، ونثرًا، وقرآنًا.(2)
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
.............................
(1) عبدتْ القبائلُ العَرَبيَّة الشمس، وتَكنَّوا بعبادتها، كـ(عبد شمس)، كما عبدوا أصنامها، وتكنَّوا بعبادتها، كـ(عبداللَّات). وبقيتْ بعض آثار ذلك اللُّغويَّة والاجتماعيَّة معروفة في الأوساط الشعبيَّة إلى العصر الحديث. وليس هذا من اكتشافات الدراسات الحديثة أو تأويلاتها الشِّعريَّة، كما قد يزعم بعض الغافلين عن تراث العَرَب، بل قُل: بعض الصُّمِّ عن نصوصه العُمْي عن شواهده. وإنَّما جاء الإسلام، في ما جاء، ثورةً على عبادة الشمس والقمر. وقد نصَّ «القرآن» على ذلك، لا في الإشارة إلى العَرَب الأقدمين- كـ(سبأ)، الذين أشير إلى عبادتهم الشمس- فحسب، بل في الإشارة أيضًا إلى معاصري الرسول من العَرَب الوثنيِّين، الذين ما انفكُّوا يسجدون للشمس والقمر ورموزهما المتعدِّدة في الطبيعة. (يُنظَر كتابي: مفاتيح القصيدة الجاهليَّة: نحو رؤية نقديَّة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (الأردن: عالم الكتب الحديث، 2014)، 91- 94).
(2) يُنظَر: (1953)، من حديث الشِّعر والنثر، (مصر: دار المعارف)، 25.

 

لطالما عُرف أن القلب ليس مجرد مضخة للدم، بل يحمل في طياته أسرارًا أعمق، إذ يحتوي على خلايا عصبية تربطه مباشرة بالعقل. لكن ما بينته الاكتشافات الحديثة هو أن تأثير القلب يمتد ليشمل سلوكنا وأفكارنا، فهو يمتلك مجالًا كهرومغناطيسيًا أقوى بـ 5000 مرة من مجال الدماغ. ومع ذلك، لا يزال هذا التأثير المهول للحب والحنين، للفرح والحزن، خفيًا عنا في حياتنا اليومية.
عبر العصور، قدّس الإنسان القلب. في اليونان القديمة، كان القلب هو مصدر الحكمة، مرادفًا للذاكرة والعقلانية. كان يسعى المرء إلى "قلب صلب"، يُقاوم الإغراءات ويتحدّى نزوات النفس البشرية. أما عند الصوفيين، فإن القلب هو الجسر الذي يُوصل إلى المعرفة الروحية. وفي البوذية التبتية، هو نبع الحكمة الداخلية وضمير الإنسان.
العلم، كعادته، يأتي ليؤكد ما همس به الفلاسفة والمفكرون على مر العصور. فالقلب يتحدث بلغة الإيقاع، وليس أي إيقاع، إنه إيقاع متغير. نبض القلب، في حقيقته، ليس منتظمًا تمامًا، فكلما كان النبض منتظمًا جدًا، كان ذلك مؤشرًا على الخطر. وفي المقابل، تناغم النبض يظهر في لحظات الفرح، الحب، والامتنان، أما في لحظات الغضب والخوف، يظهر النبض في أنماط حادة وغير متناغمة. وهنا يتجلى دور القلب؛ فهو ليس منفذاً أعمى لأوامر الدماغ. أحيانًا، قد يعترض القلب ويهدئ من وتيرته رغم إشارات الدماغ بالخطر. إنه التصرف بحكمة وبتوازن، كحارسٍ أمين يوجه العقل لما يجب أن يكون عليه السلوك.
هذه "الحكمة القلبية" لا تتحقق إلا في حالة توازن داخلي أو ما يُعرف بحالة "الانسجام". فعندما نكون في انسجام مع أنفسنا، نكون قادرين على الإنصات لقلبنا، هذه الحالة تعزز منطقنا وسلوكنا المتزن، وتجنبنا الفوضى الناتجة عن الخوف والقلق.
لقد أظهرت أبحاث معهد "هارت ماث" في كاليفورنيا أن المشاعر الإيجابية، مثل الامتنان والتعاطف، تعزز التوافق بين القلب والعقل. لكن يجب أن تُستشعر هذه المشاعر بصدق، من أعماق القلب، وليس مجرد أفكارٍ عقلية عابرة. من التمارين التي ينصح بها المعهد هو التنفس بتركيز على القلب، مما يعزز التناغم بين القلب والعقل، وينقل الاهتزازات الإيجابية إلى خلايا الجسد والأشخاص المحيطين بنا. فليس غريبًا أن نجد أن القرب الجسدي، أو وضع اليد على القلب، يُستخدم كعلاج في ثقافات عديدة.
الدماغ، والقلب، يتفاعلان معًا عبر اللوزة الدماغية، المسؤولة عن تقييم الخطر والأمان. فإذا كانت أنماط القلب متناسقة ومتناغمة بسبب المشاعر الإيجابية، ستجد اللوزة الدماغية الأمور مألوفة، وتشعر بالأمان. أما في حالات التوتر الطويلة، عندما نعتاد على القلق والصراعات الداخلية، تصبح هذه الحالة "آمنة" و"مريحة" للدماغ، حتى لو كانت سلبية. وهنا يبرز مفهوم "الخط المرجعي المتغير"، حيث نتكيف مع السلبية حتى تصبح هي القاعدة.
لقد دأبت الثقافة الغربية على تمجيد العقلانية، وجعلت التفكير العقلي المرتكز على الماضي هو الأساس في بناء المستقبل. نقف بين الماضي المليء بالذكريات المؤلمة أو الحنين، وبين المستقبل المليء بالمخاوف والتوقعات. ولكن القلب لديه أسلوب مختلف: التفكير القلبي. إنه تفكير ينطلق من حالة سلام وامتنان، ينظر إلى الماضي بعين التفهم والغفران، ويتطلع إلى المستقبل بثقة وحماسة كالطفل المتطلع إلى المجهول.
لنتخيل معادلة بسيطة: 3 + 4 = 7. ولكن بدلاً من التفكير التقليدي الذي يُقيدنا بالماضي، دعنا ننظر إلى المستقبل ونبدأ من النهاية. يمكننا أن نصل إلى 7 بطرق غير محدودة، مثل 3 + 1 + 3 أو 3 + 2 × 2. هذا هو التفكير القلبي، الذي يفتح أمامنا إمكانيات لا حدود لها لتشكيل المستقبل.
كما يقول" كلاوس شارفمر" في "أساسيات نظرية U"، يظهر مفهوم الـ"Presencing"، أي الشعور باللحظة الحاضرة، واستشعار المستقبل المحتمل. فبينما يُقيدنا التفكير العقلي، يحررنا التفكير القلبي، ويفتح أمامنا آفاقًا لا نهاية لها، تجعل من الحاضر نقطة الانطلاق نحو المستقبل الذي نحلم به.
السؤال الذي يبقى: في أي مستقبل تحلم أن تعيش؟
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تستوقف قاريء أبي العلاء المعري واحدة من قصائده الطريفة، تلك التي كتبها مخاطبا خاله عليا بن محمد، وكان قد سافر الى المغرب. اسم القصيدة (تفديك النفوس) (1). فما هو الطريف في هذه القصيدة وما الذي يثير فيها الفضول؟

يمكن حصر الطريف والمثير في هذه القصيدة في ثلاثة أمور:

1- أن خال الشاعر كان قد ركب البحر في سفرته نحو المغرب.

2- أي مغرب قصد خال الشاعر بل وأي مكان أو مدينة في هذا المغرب؟

3- من هم (الروم العرب) الذين يحكمون بعض الأراضي ولا يركبون الجياد؟

1ـ ركوب البحر:

لدى قراءة قصيدة (تفديك النفوس) يتضح أن خال أبي العلاء كان تاجرا من جهة ومولعا بالأسفار من الجهة الأخرى. فلقد زار العراق ومصر قبل رحلته نحو المغرب وقال:

وقيل أفاد بالأسفار مالا

فقلنا هل أفاد بها فؤادا

فالخال اذن تاجر، وفيم كان يتاجر لسنا ندرى، لأن القصيدة لم تفصح عن هذا الأمر، وذاك أمر لا أهمية له أو يمكن تقديره: ماذا يحمل تاجر شامي الى بلاد المغرب غير الحرير والمنسوجات القطنية وربما بعض العطور وسواها مما يحمل الى الشرق الأوسط من الهند والصين وفارس وخراسان وما وراء النهر. وما كان هذا التاجر يحمل للشام من بلاد المغرب؟ يصعب التخمين لأننا لا نعرف على وجه التحديد أية مدينة أو مدن زارها هذا التاجر والأديب معا كما تصفه القصيدة. ليس بالكثير وصف الرجل بالرحالة ذاك لأن الشاعر نفسه قارنه بالأسكندر المقدوني ذي القرنين، قاهر الهند وفارس والشرق ومؤسس مدينة الأسكندرية في مصر واسكندرية أخرى في وسط العراق جنوب بغداد. قال الشاعر يخاطب خاله:

أبالأسكندر الملك اقتديتم

 فما تضعون في بلد وسادا

*

لعلك يا جليد القلب ثان

لأول ماسح  مسح  البلادا

أما دليلي على أن الخال كان قد زار العراق ومصر ففي قول أبي العلاء:

علام هجرت شرق الأرض حتى

أتيت الغرب تختبر العبادا

*

وكانت مصر ذات النيل عصرا

تنافس فيك دجلة والسوادا

لقد ذكر الشاعر مصر والنيل لكنه لم يذكر اسم العراق بل ذكر دجلة وعليها دار السلام بغداد (وقد مكث فيها الشاعر نفسه قرابة عامين) وعطف عليها بكلمة " السواد " وهومدلول غامض يقصد به جنوب العراق حينا، وكل ما يقع غرب نهر دجلة حينا آخر. على أن المعروف أن المقصود بالسواد هو العموم الغالب، غالبية سكان العراق يومذاك. والى هذا المعنى قصد أبو الطيب المتنبيء في هجائه لكافور الأخشيدي صاحب مصر في مقصورته الرائعة (2):

ونام الخويدم عن ليلنا

وقد نام قبل عمى لا كرى

*

وكان على قربنا بيننا

مهامه من جهله  والعمى

*

وماذا بمصر من المضحكات

ولكنه  ضحك  كالبكا

*

بها نبطي من أهل السواد

يدرس أنساب أهل  الفلا

في (مروج  الذهب)  (3)  يقول المسعودي ان الأنباط أو النبط هم سكنة اقليم بابل القديم من الكلدان وبقاياهم، فهل كان هذا مراد المتنبيء حين ذم كافورا ولمز مصرا في البيت الأخير؟ ثمة سؤال آخر يتبادر الى الذهن في هذا السياق: هل هناك من علاقة بين نبيط الماضي ونبطية جنوب لبنان اليوم؟ أعود لقصيدة أبي العلاء اياها، فلقد أوضح الرجل أن ممدوحه رحالة يبتغي التجارة فضلا عن الترحال، فأية الطرق كان قد سلك هذا الخال اذ زار العراق ومصر؟ قد تكون الطرق البرية - النهرية للعراق والبحرية لمصر. ذلك لا يعنينا كثيرا بل طبيعة سفرة هذا الخال الى المغرب انما تشكل مركز الأهتمام.

أبيات القصيدة تصف السفرة على أنها سفرة بحر. وفي الأبيات الأتية ينهض الدليل القاطع:

وسرت لتذعر الحيتان لما

ذعرت الوحش والأسد الورادا

*

قطعت بحارها والبر حتى

تعاللت  السفائن  والجيادا

*

فلم تترك لجارية  شراعا

ولم  تترك  لعادية  بدادا

وما في هذه الأبيات ما يكفي لأثبات أن الخال قد اتخذ البحر سبيلا في سفرته الى بلاد المغرب. ففيها ذكر للحيتان والبحار والسفن والجواري والأشرعة. قد يكون بعضنا ذا ميل لمعرفة تفاصيل هذه الرحلة: من أين بدأت؟ أين توقف السفين للأستراحة والتزود بالماء العذب والغذاء؟ كم استغرقت من الوقت وكم بلغت تكاليفها؟ وصف السفينة وعدد ملاحيها وراكبيها، ثم نوع المخاطر التي جابهتها من جهة الرياح أو البحر وقراصنته؟؟؟ أفلم تكن هناك طريقا برية سالكة قد تكون أكثر أمانا من البحر؟ تلك أسئلة لا أعرف الأجابة عنها. فقد تكون اللاذقية على الساحل السوري هي ميناء البداية، ومدن الساحل الشامي والمصري كصور وصيدا وعكا والعريش والأسكندرية هي موانيء الأستراحة والتموين أو الميرة.

كان ابن خلدون يركب البحر ما بين الشام ومصر وتونس. فلقد ذكر ذلك هو نفسه في كتابه (مع تيمور لنك) (4)  اذ أفاد للزعيم المغولي حين قابله في دمشق أن عائلته قد غرقت في البحر ما بين تونس ومصر. فاذا كان البحر واسطة نقل مدنية في القرن الثامن الهجري (عصر

ابن خلدون) فهل كان الأمر كذلك في القرنين الرابع والخامس للهجرة (عصر أبي العلاء)؟.

2ـ أي مغرب؟

أجل، أي مغرب زار هذا التاجر الخال؟ قد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى أن المقصود بالمغرب هو مغرب اليوم - مراكش أو المملكة المغربية. الجواب نعم ولا. نعم لأن مغرب اليوم كانت جزءا من المغرب القديم. فالمسعودي ذكر المغرب مع طنجة وفاس في موضعين (5)  وذكرها مع افريقية باعتبار هذه جزءا من بلاد المغرب في موضع آخر (6). توفي المسعودي عام 346 للهجرة وتوفي الشاعر المعري عام 449 للهجرة، فالفارق الزمني ما بين الرجلين قرن من الزمن. والمسعودي اعتبر " افريقية " بعضا من بلاد المغرب. فأية " افريقية " قصد المسعودي؟

قد نجد الجواب في ما يأتي من القرون، وبالضبط في مقدمة ابن خلدون (7) الذي قسم المغرب الى:

أولا - المغرب الأقصى: وحسب وصف ابن خلدون فان المغرب الأقصى ما هو الا المملكة المغربية اليوم. وقد ذكر مدينة مراكش والرباط وسلا وأصيلة والعرايش بأعتبارها تكون المغرب الأقصى.

ثانيا - المغرب الأوسط: وهو الجزائر اليوم، اذ يذكر ابن خلدون مدينة الجزائر ووهران وبجاية وقسنطينة. غير أنه يلحق بالمغرب الأوسط بعض المدن الليبية مثل غدامس وودان.

أما بلاد " افريقية "  فهي وبالوصف المحدد تونس اليوم. فقد ذكر ابن خلدون تحت اسم " بلاد افريقية " مدن تونس على البحر الرومي (الأبيض المتوسط) وسوسة والمهدية ثم القيروان وتوزر وقفصة. لقد ذكر ابن خلدون مدينة طرابلس (عاصمة الجماهيرية الليبية اليوم) ومدنا ليبية غيرها بعيدة عنها مثل سرت وأجدابية، فهل اعتبرها جزءا من بلاد " افريقية " أم أنها تشكل بلدا آخر مستقلا؟  انا أرجح الأحتمال الثاني اذا جوزنا لأنفسنا الأدعاء بفهم أسلوب ابن خلدون. وتأسيسا على هذا سنواجه مغربين فقط وليس مغربا واحدا ولا ثلاثة مغارب: مغرب أقصى ومغرب أوسط.

توفي ابن خلدون في تونس عام 808 للهجرة، أي أن المعري سبقه بما ينيف على ثلاثة قرون ونصف القرن. فهل كان تقسيم ابن خلدون وفهمه لجغرافية شمال افريقية سائدين في عصر المعري؟

هناك اشارات متفرقة في مقدمة ابن خلدون (8) توحي أن لفظ " المغرب " الشائع يومذاك كان يعني المغربين كليهما، ويستعمل هكذا للسهولة فالناس تميل الى تيسير أمورها وتبسيط لغتها ومفرداتها. ثم أنه أشار صراحة أن التجار (8) كانت تسلك مفاوز الصحراء (ولعلها الصحراء الكبرى اليوم) ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان (يقصد الشعوب الأفريقية الواقعة تحت المغرب والجزائر مثل مالي والنايجر) ويعتبر هذه الصحراء مجالا للملثمين من قبائل صنهاجة. اذن لم يميز ابن خلدون أيا من المغربين بل قال: بلاد المغرب.

الغريب أن ابن خلدون لم يذكر مدينتي طنجة وسبته حينما وصف المغرب الأقصى ولكن ذكر خليج طنجة عندما وصف البحر الرومي (الأبيض المتوسط). فلنتوقف قليلا عند هذه العبارة:

(ان التجار كانت تسلك مفاوز الصحراء ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان). من هم هؤلاء التجار؟ لأي قوم ينتمون؟ ما نوع تجارتهم؟ وما داموا يسلكون مفاوز الصحراء فوسائط نقلهم هي الجمال بالطبع. فهل يا ترى سلك خال المعري هو الآخر هذا الطريق بعد وصوله المغرب بحرا؟ جائز. فالشاعر قد ذكر الطريقين البحري والبري:

قطعت بحارها والبر حتى

تعاللت السفائن والجيادا

*

ثم: سنلثم من نجائبك الهوادي

ونرشف غمد سيفك والنجادا

*

ونستشفي بسؤر جواد خيل

قدمت عليه ان خفنا الجوادا

فاذا أخذنا بهذا الفرض وجدنا الأجابة عن بعض الأسئلة: السفر الى المغرب أولا (قد يكون الأوسط أو المغرب الأقصى) ومن ثم الأتجار مع بعض الشعوب الأفريقية  (السود أو السودان، ولا علاقة لهم بدولة السودان الحالية، فقد كانت تسمى يومذاك ببلاد النوبة) بما يتوفر من جلود وفراء وعاج الفيلة وبعض الأعشاب وربما الذهب والفضة وسواهما من المعادن والأحجار الكريمة.

تنقل هذه البضائع على ظهور الجمال متجهة في قوافل الى أحد موانيء المغربين يقودها أدلاء من الطوارق (الملثمين) أو من باقي قبائل البربر ممن لهم دراية فائقة بالطرق الصحراوية التي تربط مدن الأفارقة السود (السودان) بمدن المغربين على سواحل البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم). ولعل طبيعة هذه المهنة أسبغت على (الملثمين) صفة (الطوارق)، أي الذين يجوبون الطرق (والطوارق لغة  هو جمع الطارق). وقد يجوز أن يكون الطوارق هم قوم طارق بن زياد... صاحب القول المشهور (البحر من ورائكم والعدو أماملكم)... كما يعتقد اليوم بعض سكان شمال افريقيا من البربر.

3- الروم العرب:

قال أبو العلاء في قصيدته يخاطب خاله:

فلم تترك لجارية شراعا 

ولم تترك لعادية بدادا

*

بأرض لا يصوب الغيث فيها   

 ولا ترعى البداة بها النقادا

*

وأخرى رومها عرب عليها   

وان لم يركبوا فيها جوادا

هذا الخال الذي خبر أشرعة السفن الجواري وركب سرج العاديات من الخيول وجاب أرضا قاحلة ماحلة لا ينزل عليها مطر (قد تكون الصحراء الأفريقية الكبرى) قاطنوها بدو رحل لا يربون الأغنام (النقاد) لشحة الماء والمراعي والكلأ. طيب، اذا حدسنا ما هي هذه الأرض ومن هم مستوطنوها، فأننا سنقف حيارى أمام لغز الأرض الأخرى التي عربها روم لا يعرفون ركوب الخيل . فأية أرض هذه وأية روم مستعربة هذه؟؟  أما زلنا على أرض المغرب أم أن الكلام يصف أرضا أخرى؟ سنعرف الجواب بكل تأكيد لو أعدنا قراءة الأبيات الثلاثة الأخيرة وأضفنا اليها الأبيات التالية:

سوى أن السفين تخال فيها

بيوت الشعر شكلا واسودادا

*

ديارهم بهم تسري وتجري

اذا شاءوا مغارا أو  طرادا

عرفنا الأرض الأولى (صحراء البدو) أما الأرض الأخرى فهي السفينة التي استقلها خال الشاعر وأنها سوداء كبيوت الشعر (لطلائها بالقار) وأشرعتها كذلك مفتوحة للريح كبيوت الشعر في البوادي. فالسفينة أرض أخرى يأوي اليها هذا التاجر. انها بيت شعر ولكن على سطح البحر وأنه دائم التنقل بساكنيه مع فارق جد كبير واحد: ا ن ربابنة ونوتية  السفينة ليسوا عربا ! بل روم طليان يتخذون السفائن سكنا ووسيلة للتنقل والصيد وربما القرصنة. روم في الأصل وعرب من حيث طبيعة المعيشة وأسلوبها. بدو رحل خيامهم سفائنهم والبحر مداهم الصحراوي.تشبيه طريف ومقابلة ذكية.

لقد كان الروم قبل الأسلام سادة البحرالأبيض المتوسط (بحر الروم) فلا عجب ان سخروه لأوجه غير عسكرية بعد زوال نفوذهم من شمال افريقيا وسواحل بلاد الشام.

***

د. عدنان الظاهر

لا يخفى على أحد أن مهمّة الأستاذ(ة) داخل القسم ازدادت صعوبة مع هذا الجيل من التلاميذ، خاصة المراهقون منهم، بسبب فساد الأخلاق، لكن سبب انحطاط أخلاق الأطفال لا يقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي وما يقدمه الإعلام فقط، بل يرجع ذلك إلى سوء تربية الوالدين لأبنائهم وعدم مراقبتهم لما يقومون به وما يتفرجون عليه في هواتفهم ومن يصاحبون في الشارع. إضافة إلى دور المؤسسة التربوية التي قد تهمل مجموعة من الأنشطة التي تربي التلميذ على القيم الأخلاقية، ودور المدرس الذي أصبح يقتصر على تقديم الدرس فقط ونسي أنّ رسالته الأولى هي التربية ومحاورة التلاميذ في كل حصة عن الأخلاق وتذكيرهم ونصحهم بها.
ألا ترون الأطفال في الشارع والتلاميذ أمام مؤسسات التربية والتعليم لا يتلفظون إلا بالكلام الفاحش المنحط والمخل بالحياء، لا يتحرجون في كلمة نابية ولا لفظ قبيح، تسمع أقبح الألفاظ التي تدل على أبشع المعاني، يتلفظون بذلك أمام الصغير والكبير، حتى لو كنت مع أبنائك أو والديك تمرّ بجانبهم لن يحترمونك. فالأمر لا يبشر بخير بل ينذر بكل سوء، أيها الآباء أيتها الأمهات تربية أبنائكم مسؤوليتكم، فالوضع أسوأ مما تتصورون، واعلموا أنكم عنهم أمام الله مسؤولون.
الدور لا يقتصر على الأستاذ (ة) فقط، نرى أن الأستاذ هو خط الدفاع الوحيد والأخير عن القيم الجميلة، عليكم بمساعدته على تربية أبنائكم، راقبوا أبناءكم وبناتكم، نحن نعيش في زمن كثرت فيه الفتن والمحن، نحن نعيش في عالم يعج بالمصائب والآفات والمنكرات، أيها الأب رافق ابنك وتعامل معه بالرفق واللين وهو صغير قبل أن يكبر ويأخذ طريقا مشينا، ثم تقول يا ليتني فعلت وربيت، أيتها الأم اعملي على تربية بناتك على العفة والحياء والالتزام باللباس المحتشم والحجاب وعدم الخروج من غير حاجة وللضرورة، راقبوا هواتف أبنائكم وبناتكم ولا تجعلوهم يستعملونه إلا في المنفعة والفائدة، علموا أبناءكم الصلاة وحفظ القرآن وصلة الرحم واحترام الجار والكبير، علموهم أنّ العم هو الأب الثاني وأن الخالة بمنزلة الأم، علموا أبناءكم أن الخروج والتسكع في الشارع غير نافع بل جالب للبلاء، علموا أبناءكم أن العلاقات غير الشرعية هي مصدر كل أذية، علموهم أن يحافظوا على شرف البيت والعائلة والمجتمع المسلم، أيها الأب أيتها الأم أبناءكم وبناتكم رعايتهم وتربيتهم مسؤوليتكم ...الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّتهِ]. فعلى الرغم من ضغوطات الحياة والتزاماتها وثقل الايام اجعل لطفلك نصيبا من وقتك تتحدث معه ويتحدث معك، ازرعوا في أبنائكم الخصال الحميدة، وحثوهم على حسن السلوك مع المعلمين وحسن الاستماع أثناء الدرس وحسن التعامل مع الآخرين فأبناؤكم سفراء لكم في كل مكان يذهبون إليه. أبناؤكم عناوين لكم ولبيوتكم ولتربيتكم فليكونوا خير سفراء وعناوين يشار لها بالبنان. عليكم بتربيتهم على حب العلم واحترام المعلم لأنه بمثابة الأب، والمعلمة بمثابة الأم. وإذا تكلم ابنك عن المعلم(ة) بكلمة سيئة أو قبيحة أدّبه ولا تضحك في وجهه وتبتسم له، علّمه كيف كنّا ومازلنا نحترم معلمينا مع أننا أصبحنا آباء وبعضنا صار عنده أحفاد. فكما سبق الذكر دور الأسرة لا يقتصر على التوجيه والتنبيه والإشارة إلى ما هو صحيح أو خطأ، بل يجب أن تكون التربية مبنية على الحوار الهادئ الهادف بين الأبناء والآباء. ومن التربية أن تتم مراقبة ما يعرضه الإعلام في جميع وسائله مع تجسير العلاقات مع المدرسة. وتفقد الصحبة المرافقة له أو لها على الدوام.
وبما أننا تحدثنا عن الإعلام فلا ننسى دوره؛ إعلامنا اليوم الذي لا أراه يحث ويرشد إلى التحلي بالأخلاق الجميلة، صحيح أنكم تقدمتم في إعلامكم لكنكم لم تتقدموا في السلوك الأخلاقي بدرجة موازية، ما يثيرنا أن عدم التوازن بين الجانب الأخلاقي والجانب التكنولوجي يخلق إشكالية قد تكون مدمرة ولا تقف عند حد في المستقبل القريب أو البعيد، وهذا ما يثير القلق بأن هذا التقدم في انحلال الأخلاق سيتضاعف في السنوات القادمة إن واصلنا على هذا الحال. فانهيار الحواجز القيمية والأخلاقية راجع إلى الثورة التكنولوجية المتعلقة بالفضائيات الرقمية والإخبارية التي أسستها العولمة”، بمعنى أن مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية بشقيها السمعي البصري والكتابي، أضحت تؤثر على طريقة تفكير المجتمع، وطريقة تفكير الطفل والمراهق بالخصوص، بل وأصبحت توجه تصرفاته أيضا. فالوسائل التكنولوجية في حد ذاتها لها أضرار بالغة على أطفالنا، منها تعطيل قدراتهم العقلية، وتعويدهم على الاتّكالية؛ كما أنه يكبح جماح الإبداع لديهم، ويؤدي إلى التراجع الفكري والنفسي والتعليمي ويصنع جيلاً من الكسالى والمنعزلين والمعقدين نفسياً، كما أنه يتسبب في مشاكل صحية أهمها الإصابة بداء السمنة، ويفكك الروابط العاطفية بين الوالدين وأطفالهم ما يهدد كيان الأسرة والمجتمع. لا يمكن أن ننكر أننا في عصر التكنولوجيا، ولا ننكر فائدتها في حياتنا، لكنها سلاح ذو حدين، فهي كما تستطيع صُنع جيل ذات مستقبل مُبهر، تستطيع أيضاً أن تصنع جيلاً فاشلاً إنْ لم نُحسن التعامل معها، ولا يمكننا منع أطفالنا عن مختلف أنواع الأجهزة الإلكترونية واستخدام التكنولوجيا، لكن يمكننا التقرب منهم ومصادقتهم، والسماح لهم بالاستخدام المعتدل للتكنولوجيا خلال وقت محدد في النهار، ويكون ذلك تحت المراقبة دون أن يشعروا بذلك، فهناك الكثير من التطبيقات التي تتيح لنا التعرّف على تحركات أطفالنا وتحديد المواقع التي كانوا يتصفحونها، وقراءة الرسائل التي يتلقونها أو يرسلونها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كما يجب علينا توجيههم إلى كل ما ينفعهم ويساعدهم في بناء مستقبلهم، وتعريفهم بالضار ومدى ضرره عليهم وعلى مجتمعهم، وكذلك حثهم على المشاركة في مختلف أنواع الأنشطة التي يمارسونها، وتعريفهم بفائدتها في حياتهم، وعلى كل ما من شأنه رفع مستوى التركيز والخيال في عقولهم.
إنّ وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تعتبر أشعة مقطعية على الأخلاق في مجتمعاتنا، ومرآة كاشفة للمخفي من الميل الأخلاقي بشكل كامل، وفاضحة للكبت الذي تعيشه هذه المجتمعات وحالة الانجراف الأكبر وراء ما تعرضه هذه الشبكات من خدمات تشوش على الناس القيم الأخلاقية، وذلك من خلال كيفية انتقائهم ما يودون إطلاع الآخرين عليه.
وبهذا يمكن القول إننا أمام ثلاثة أضلاع، اختيار ما يعرضه الإعلام، وإقامة العلاقات مع المدرسة بالزيارات الدورية، ومراقبة الصحبة مع التوجيه الأسري، بالتالي يمكن التحسين من أخلاق أبنائنا، فإذا اختل التوازن في أحد الأضلاع ضاعت وتهاوت الأخلاق. لذا نرجو من الأسرة والإعلام مساعدة المؤسسة التربوية والمعلم على تربية أبنائهم وإرشادهم إلى طريق الصواب.
***
ذ. فؤاد لوطة

 

لاحظ العالم الاجتماعي كارل مانهايم أن اختلافات الأجيال تكون في انتقالهم من مرحلة الشباب إلى مرحلة البلوغ،، وقد درس علماء الاجتماع الطرق التي تفرق الأجيال عن بعضها البعض ليس فقط في المنزل بل في المناسبات الاجتماعية أو في الأماكن الاجتماعية (كالكنائس والنوادي، ويقصد أيضاً «مراكز لكبار السن» و«مراكز للشباب»). وظهرت النظرية الاجتماعية للفجوة بين الأجيال في عام 1960 عندما بدأ الجيل الجديد (المعروف لاحقاً بفترة طفرة المواليد) بمعارضة جميع معتقدات ابائهم السابقة من حيث الموسيقى والقيم والآراء الحكومية والسياسية، وقد أشار علماء الاجتماع اليوم إلى «الفجوة بين الأجيال» بالتفرقة الناتجة عن عمر الشخص، فقسم علماء الاجتماع فترة الحياة إلى ثلاثة مستويات: الطفولة ومنتصف العمر وسن التقاعد، وعادة عندما تمارس الفئات العمرية أي من هذه النشاطات الرئيسية، ينعزل كل جيل جسدياً عن الجيل الآخر مع التفاعل القليل بسبب الحواجز العمرية باستثناء الأسر النووية.
ثقافة المفاضلة بين الأفكار والأجيال، لا تُغادر مشهدنا الإنساني والتراث الحضاري، المقارنة بين مصادر المعرفة والثقافة بين زمنين أو شكلين، قضية معقدة وشائكة، ولكنها ضرورية وملحة. في العقود الماضية، كانت الأجيال المتعاقبة تستمد أفكارها وثقافاتها وآدابها وعلومها وفنونها وكل تفاصيلها الأخرى من المصادر والمراجع التقليدية كالتلفزيون والإذاعة والصحيفة والمجلة والكتاب والموسوعة والندوة والمحاضرة وغيرها من الأشكال والنماذج التقليدية التي كانت تتصدر المشهد. أما الآن، بل ومنذ عقدين من الزمن تقريباً، تصاعدت منافسة شرسة لتلك المصادر والمنابع والقوالب،
يتعامل الأهل مع الأبناء في مرّات كثيرة ـ حتّى عندما يكبرون ـ على أنّهم أطفال، لابدّ لهم لكي يتّخذوا أيّ قرار في حياتهم ـ صغيراً كان أم كبيراً ـ الرّجوع لآبائهم. بل ويُملي بعض الآباء قرارات سياديّة فوقيّة على الأبناء، يعتبرونها واجبة التّنفيذ من دون مُناقشة أو حوار أو إقناع، فيحرمون أولادهم من تعلُّم الخبرات ومن التّمرُّس على اتّخاذ القرارات وتحمُّل تبعاتها، بل ومن حقٍّ إنسانيٍّ طبيعيٍّ ألا وهو حقّ الإنسان في مُمارسة الحُريّة في حياته واختيار طريقه بنفسه وسلوكيّات كهذه من جهة الآباء لابدّ لنا أن نُحذّر منها ونعرف أنّها لا تكون في الطّريق الصّحيح أبداً، بل أنّها تزيد المُشكلة بين الآباء والأبناء سوءاً واحتداماً.
أخطاء من جهة الأبناء، أمّا من جهة الأبناء فإنّه لزاماً علينا أن نقول أيضاً، إنّهم يجب أن يأخذوا بعين الاعتبار وبكلّ التّقدير نصائح ذويهم لهم. تلك النّصائح الخالصة والعامرة بالمحبّة والتنزُّه عن أيّ هوى أو غرض شخصيّ، والمُمتلئة من خبرة الحياة وتجارب الأيّام. لكنّنا نجد بعض الأبناء لا يُلقون بالاً لنصائح ذويهم أو يحيدون عنها تماماً، إمّا عناداً أو تكبُّراً وازدراءً وادّعاءً لحُسن الفَهم وتقدير الأمور، لكنّهم كثيراً ما يدفعون ثمناً غالياً لذلك فيما بعد.
لكل زمان أناسه لكن ينبغي أن لا ننسى احترام الكبار والأخذ برأيهم حتى وإن لم نعمل بها فالواجب يحتم علينا إبداء اهتمامنا بالوالدين وعكس ذلك يشعرهم بالضعف وربما الإهانة
لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”،أبناؤنا أبناء الحياة نسعى في الكثير من الأوقات لنقل خبراتنا المتراكمة لهم، لكن للأسف لا نستطيع ولم نعد في ظل التطور الحاصل أن نجبرهم على الاقتداء بأفكارنا أو الاتعاظ بها، قد تكون التكنولوجيا قدمت كل شيء، لكن من المؤكد أنها عجزت عن تقديم الشعور والخوف الذي نراه بعيون الراشدين عند تقديم النصح بالتالي الخبرة عبر الشاشة تبقى صوراً متحركة لا إحساس فيها.
هناك فجوة بين جيل الأمس واليوم فما مرت به بلادنا من ظروف قاسية جعلت الصغير كبيراً ولم يعد أحد يستشير أحد فكل واحد على حد تعبيره بات رجلاً بعمر مبكر ورغم ضرورة و”بركة” الكبير في البيت،، بتنا لا نستشيرهم بشيء للأسف، وهذا أمر محزن لهم إذ يرون أنفسهم أعلم منا وذلك من مبدأ “أكبر منك بيوم أعلم منك بشهر” وكثيراً ما تكون آراؤهم صائبة لكن نحن من أصبحنا لا نعود لكبيرنا بشيء.
إن الاختلاف بين الأجيال هو اختلاف في الآراء بين جيل وآخر فيما يتعلق بالمعتقدات أو السياسة أو القيم والثقافة، ويشير الاختلاف إلى الفجوة التي تفصل بين الأفكار التي يعبر عنها أعضاء جيلين مختلفين في الأفعال والمعتقدات والأذواق، التي يظهرها أعضاء الأجيال الشابة، مقارنة بالأجيال الأقدم فنجد اختلافا كبيرا بين الآباء والأبناء في الآراء والأفكار فالأبناء يتهمون آباءهم بأنهم لا يفهمونهم وأنهم متأخرون عن إيقاع العصر ويصفونهم بالمتزمتين والمتشددين بينما يتهمهم الآباء بأنهم لا يحترمون القيم ولا العادات ولا التقاليد وهم قليلو الخبرة ومع هذا لا يحترمون آراء وخبرة الآباء، إن لم تتمّ مواجهة المُشكلة فإنّها تزداد حدّة وصعوبة، فيزداد تباعُد الأهل عن أولادهم والعكس صحيح. وتزيد الفجوة في التّفكير ممّا يجعل كلّ طرف لا يتقبّل الآخَر ولا يجد طريقاً للتّجاوب معه، بل ويُلقي كلّ طرف من الأطراف بعِبء السّبب في المُشكلة على الطّرف الآخَر!، ومن ثمّ يُؤدّي هذا أخيراً إلى انهيار العلاقات وتفكُّك الأُسَر والكثير من المُشكلات الأخلاقيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة، التي يكون لها تأثيرها السّلبي على الطّرفَين معاً، وكذلك على الأفراد أنْفُسهم ومُجتمعاتهم.
***
نهاد الحديثي

كثيرة هي اللحظات التي يشعر فيها المرء بأن الحرية كمفهوم يظهر أي يتجلى ويتشفف لنا، لكنه لا ينتبه إلى ما لا يظهر من الحرية من عوائق وحواجز وعراقيل وصعوبات يصطدم بها، مما تجعله غارقا في وهم الظهور والتجسد.

هناك دائماً ما يعرقل حرية الأفراد، بمعنى أن هناك دائماً ما لا يظهر لنا ويفرض علينا في نفس الوقت، فعندما أقول هذه أسرتي، لا بأس أن تحد من حريتي فهذا دليل على توهيم الأنا وإرغامه على تقبل ما تفرضه علي الأسرة من قيود، وقد تتحول القيود لتمتد إلى المجتمع، فعندما أقول هذا ما يفرضه علي المجتمع، أو هذا مجتمعي الذي أنتمي إليه، وكل ما يفرضه علي مقبول، أنذاك أكون خاضعا مباشراً لما لا يظهر من الحرية.

وقد يصل الأمر إلى المساس بحرية التعبير والتفكير والتصريح بالرأي الخاص بي في قضية عمومية، نجد أيضاً ما لا يظهر من موانع وعراقيل تحد من حريتي في الرأي، فتنتهي حريتي الظاهرة حينما أضجر أو أثور على أرائي وأفكاري، ولا أملك، في الأخير، إلا أن أعلن أن كل أرائي ومعتقداتي خاطئة ولا تتوافق والرأي العام والسائد، ما يعني أنني أنفي ما يظهر من حريتي لصالح ما لا يظهر منها أو ينفيها !!!

كل ما لا يظهر من الحرية هو كل ما أتقبله بصدر رحب، وبشكل بديهي وغير قابل للنقاش. فتبدو حريتي الظاهرة حرية محدودة ومسطرة من قبل، أي أنني سأفعل ما يريده المجتمع والأسرة مني فعله، أي ما يريده الآخر مني، لا ما أريد أنا فعله.

لعل هذا ما نقصده بالحرية الظاهرة، أي وكأنها حرية مظهرية، نتظاهر أننا أحرار، لكننا في الحقيقة عبيد من الدرجة الأولى، تعبد وتتبع رغبات وأهواء الآخرين التي لا تشبع.

يتصور المرء أن كل أفعاله وتصرفاته واختياراته حرة ومسؤولة، إلا أنه في الحقيقة، أو ما لا يظهر من حريته، مجرد عبد مقيد بأغلال أو هناك جدار خفي يحد من حريته، إنه يوجد داخل الصندوق ويفكر من داخله ويتوهم أنه حر من داخله !!!

غير أن وهم الإنسان بحريته الظاهرة، والذي قد يسكنه منذ نعومة أظافره وطفولته المبكرة، قد يحدث في بعض الأحيان وأن يصطدم دائماً بمطالب أسرته التي تكون بمثابة أوامر تفرض عليه، وبالتالي تصبح إطاعتها أمرا لا مفر منه يلازمه طيلة حياته ويحد من نشاطه السوي، كما قد يلاحظ في بعض الأحيان أن هذه الأوامر الأسرية تحولت بقدرة قادر إلى شروط تحد من استقلاله الذاتي.

نعترف في الواقع بأن مطلب الحرية، أو مطلب فعل ما يريد المرء أن يفعله، مطلب شبه مستحيل داخل الأسرة والمجتمع اللذان لا يظهران ما يفعلانه من قيود دائماً تجاه الأفراد.

وفي خضم وعي المرء بهذه الصدمات أو اللكمات والصفعات المؤلمة التي يتلقاها من الأسرة والمجتمع، سيجد نفسه، أنه ومنذ البداية هناك ثنائية السيد والعبد الهيجيلية تشرح لنا وضعية الفرد في هذا الوجود، إما أن تكون سيداً وتتحرر من مظاهر الحرية وما لا يظهر منها، رغم إستحالة حدوث هذا، لأن السيد بدوره خاضع للإشراط الطبيعي، وإما أن تكون عبداً يتوهم حرية ظاهرة، ويخفى عنه ما لا يظهر من الحرية، وبالتالي يفتقد حتى لحرية ممارسة التأمل النظري، الذي يشير عند اليونان إلى الفلسفة.

الفلسفة لدى اليونان كانت تعني ممارسة نوع من التأمل النظري الحر الذاتي حول الوجود والعالم والأشياء والمجتمع والدولة ...إلخ، لكن اعترف العديد من الفلاسفة بوجود نوع من الضرورات الداخلية من غرائز وشهوات ونزوات وأفعال وأفكار ولذات ونزعات ورغبات تتحكم في كل إنسان لم يستطع التخلص منها.

كما هناك العديد من الفلاسفة من أكدوا وجود الضرورات الخارجية، والمقصود هنا قوانين الطبيعة التي لا يمكن التخلص منها البتة، لكن في المقابل، يستطيع أي شخص التحرر من إكراهات الرغبات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع والأفعال والانفعالات واللذات الجنسية، لكن شريطة العيش وفق نمط أو نظام منسجم مع الطبيعة ويتوافق معها، لهذا جاءت العدالة الأفلاطونية عدالة تنسجم وفق نظام العقل والطبيعة، أي أن تكون منسجم والوظيفة التي هبتها الطبيعة إياك.

وهكذا عنت الحرية ما لا يظهر من إنسجام وتكامل وتداخل مع نظام الطبيعة، فالحرية توجد داخل الإنسان لا خارجه، أي لا تظهر للآخرين، ما يعني أن الحرية تعني الإيمان بالإنسجام والتناظم وفق نظام الكون والعالم، إننا نشعر بالحرية من خلال الخضوع لنظام الطبيعة الكامن داخلنا، هناك قوة توجد داخل كل واحد فينا تجعلنا أحراراً من كل شيء يقيدنا في هذا العالم.

وقد تحول التفكير في ما يظهر من الحرية، في ثقافتنا إلى الإقرار بغياب هاته الحرية الظاهرة لأن الله خلقنا من أجل الطاعة والعبادة، بمعنى أننا خُلِقْنا من أجل عبادة الله عز وجل دون أي نقاش، وبالتالي فكل أفعالنا وسلوكاتنا وأعمالنا هي جبرية لصالح الله، لكن يتضح لنا أن هناك ما لا يظهر من الحرية إنطلاقا من الشرع (القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة)، هذان الأخيران مرة تجدهما يقدمان آيات وأحاديث تقول بالعبادة والطاعة والتوحيد لله عز وجل، وتارة أخرى تجدهما يُقِرَّانِ معاً بحرية عبادة الله، دليل  ذلك كما ذكر في القرآن الكريم، في سورة الكهف، الآية 29، " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) "، وما قد نقف عنده في هذه الآية، هو قوله "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، هذه الآية دليل على حرية عبادة الله عز وجل والإيمان به، إما أن تؤمن وإما أن تكفر، وجزاء الكافر والظالم النار، وليس هذا هو موضوعنا الآن، لأن ما يهمنا أن الفرد يمتلك إرادة فعل ما يريد أو ما يشاء، بمعنى يستطيع أن يفعل ويريد خيراً أو يستطيع أن يفعل أو يريد شراً، ولكن يجب الإنتباه والتيقظ لمسألة في غاية الأهمية وهو أن الفرد محكوم ومشروط بقوانين الطبيعة، وأنه لا حول له ولا قوة أمام هذه الشروط الطبيعية.

هذا ما جعلنا نرفض فكرة الحرية الظاهرة، من أجل تأكيد ما لا يظهر من الحرية، ونقصد هنا الحتميات الطبيعية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والسيكولوجية التي تعبر عن شرطية الوجود الإنساني، ذلك أن الإنسان يوجد في هذا العالم وجوداً بالمعية، أو وجوداً مع الآخرين، فالغير شرط إنساني، لا وجود لإنسان يوجد وحده في هذا العالم ولا يمكن أن يوجد، كما لا يمكن لأي إنسان تغيير مصير حياته لوحده دون الاستناد إلى الآخرين، بل حتى عندما يبحث الفرد عن معنى أو فائدة لحياته، يبحث عنها بمعية الآخرين، للغير وجود ذهني في كياني الوجودي، لا يمكن نفيه البتة.

تنتفي الإشراطات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والسيكولوجية والثقافية والتاريخية بحضور حرية الإرادة أو إرادة الحرية التي تندرج ضمن ما لا يظهر من الحرية، لأنها إرادة توجد داخل كل فرد يسعى إلى التحرر الذاتي والاستقلالية والمسؤولية والإبداع الحر.

لكن هذا لا يعني أن هناك علاقات بين الإرادة والرغبات والنزعات والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات، بل بالعكس تماما، الإرادة هنا توجد خارج دائرة الرغبات، رغم أنه لا يمكن نفي البعد الغرائزي في الإنسان، ذلك أن هذا الأخير كائن رغبة وإنفعالات بالدرجة الأولى حسب باروخ إسبينوزا، فلا يمكننا قمع هذه الرغبات المتأصلة في الكيان الإنساني، كما لا يمكن إقصاء كل ما هو مادي، غريزي في الإنسان، يجب علينا أن نحافظ على كنه الإنسان من خلال مقاومة وازعاج كل حرية ظاهرة أو كل حرية لا تحترم ما لا يظهر من إرادة حرة تطلب الحياة وتدافع عن كل ما هو غريزي في الكيان الإنساني.

لكن يجب علينا هنا أن لا ننسى أيضاً البعد القانوني الذي طال تهميشنا له كل أجزاء المقال، هناك قوانين تؤطر ما يظهر من الحرية، تلعب هاته القوانين دور كبح جماح الرغبات والنزوات والميولات والشهوات، ما يجعل من الحرية حرية في حدود القانون السائد داخل المجتمع، فمثلاً ممنوع هنا في الدول العربية الإسلامية العلاقات الرضائية غير الشرعية أو خارج إطار الزواج بينما في الدول الغربية الأوروبية مسموح بها، بمعنى لا وجود لقانون يعاقب عنها هناك في أوروبا، ما يعني أن العلاقات المسموح بها هنا هي العلاقات الشرعية داخل إطار الزواج أو الأسرة، وهذه القوانين هي الوحيدة التي يمكنها أن تلعب دور كفيل الحرية، لكن في بعض الأحيان، رغم وجود هذا النوع من القوانين المقيدة للحرية، إلا أننا نلحظ ما لا يظهر من الحرية حاضراً وبقوة، ما يجعل من القوانين تضمر تناقضا ظاهريا عندما تطرح لنا ما لا يظهر منها، ما يعني أن الحرية تصبح مستحيلة في سياق وجود القانون، بل في بعض الأحيان، لا يحترم المواطنين القوانين، ويعملون جاهدا على مخالفة كل القوانين التي تحد من رغباتهم وشهواتهم.

ولعل هذا ما يفيد أن القوانين وضعت من أجل غاية واحدة هي: تقييد واستعباد الأفراد داخل المجتمع، لهذا وجب التنبيه أننا في حاجة إلى قوانين تلائم المستجدات المجتمعية وتتفق مع الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير السائدة داخل المجتمع، يجب أن تعبر هاته القوانين عن روح المجتمع لتتيح تحقيق النظام المرجو منها.

لكن ماذا نقصد في الواقع بالقول "الحرية حق" ؟ لا يعني هذا القول أن الحرية ضرورة مجتمعية بقدر ما يعني وجود نظام سياسي وقوانين إجتماعية تنظم هذه الحرية لتصبح حقا لكل الأفراد داخل النظام، خاصة وأن المجتمع هو مجال صراع الحريات لا مجال تعايش الحريات، فلا يمكن توهيم الأفراد بأن الحرية مسألة داخلية مكانها القلب أو ما يسميها الدين بالحرية الروحية التي بالنسبة لنا مجرد حرية وهمية، لا معنى لها، ولا يشعر بها الفرد الذي يؤمن بها، بل يجب على الحرية أن تشمل الواقع الفعلي الذي يعيش فيه مختلف أعضاء المجتمع.

لهذا قد نتفق مع هابرماس الذي طور مفهوم الفضاء العمومي ونقول أن مفهوم الحرية ليس مفهوما مجردا متعاليا عن الواقع، بل هو مفهوم لصيق بالمجال العمومي أو الفضاء العمومي الذي تنتفي فيه الخصوصية أو ما لا يظهر من الحرية.

وفي ختام مقالنا؛ نؤكد على أن ما يظهر من الحرية غير كافي بتاتا لتحقيق ما لا يظهر من الحرية من رهانات إجتماعية وثقافية واقتصادية وأخلاقية وسياسية، وبالتالي فكل هذه الأبعاد والتجليات تظل لصيقة ومتأصلة في مفهوم الحرية، خاصة المجال الأخلاقي والقيمي الذي لم نركز عليه جيداً، رغم أهميته الكبرى في تحديد روح الحرية، ذلك أن مراعاة الفرد للقيم الأخلاقية والقيمية الكونية يجعله يظفر بحرية تنسجم وروح العصر، ذلك أن الأخلاق والقيم الكونية المشتركة هي الأمل الموعود في تحقيق الحرية الحقيقية والفعلية لأنها تتوافق والحقوق الإنسانية المشتركة وتنسجم مع مفهوم المواطنة العالمية الذي يحترم الكرامة والمساواة الإنسانيين.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

 

يشكل الفساد المالي والاداري في العراق عقبة كأداء امام التنمية المستدامة، حيث يستنزف موارد الدولة ويحرم المواطنين من حقوقهم. هذا الفساد المنهجي يكلف العراق ملايين الدولارات سنويا، مما يعيق حل المشاكل الاقتصادية ويؤثر سلبا على مستوى المعيشة. ومع ضعف الاليات الحالية لمكافحة الفساد، تبرز الحاجة الى حلول مبتكرة. يعتبر الذكاء الاصطناعي احد هذه الحلول، حيث يمكنه ان يكون سلاحا فعالا في الكشف عن شبكات الفساد ومحاربته في مختلف القطاعات.

دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دوراً حاسماً في مكافحة الفساد في العراق من خلال عدة طرق:

مساعدة هيئة النزاهة في الكشف عن الفساد:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكون حليفا قويا لهيئة النزاهة العراقية في معركتها ضد الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. من خلال تعلم الالة وتحليل النصوص والرؤية الحاسوبية، يمكن للذكاء الاصطناعي كشف الاحتيال وتتبع شبكات الفساد وتقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات. يمكن للانظمة الذكية تحليل ملايين من المعاملات المالية وعقود المشاريع واقرارات الذمة المالية للكشف عن اي انماط غير عادية او متناقضة قد تدل على فساد، كما يمكنها تتبع التدفقات المالية بين الافراد والشركات لتحديد شبكات الفساد المعقدة ومقارنة البيانات الضريبية للشركات والافراد مع بيانات الدخل والمصروفات الاخرى للكشف عن اي تلاعب او سرقة مالية من الدولة. بالاضافة الى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النصوص والمستندات للكشف عن التلاعب بالوثائق وتحليل العقود واستخراج المعلومات المهمة من كميات كبيرة من النصوص القانونية والتنظيمية. كما يمكن للانظمة الذكية تقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات والبحث عن المؤشرات المبكرة للفساد مثل زيادة غير مبررة في الثروة او تغير مفاجئ في نمط الانفاق. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي اتمتة العديد من المهام الروتينية مثل تدقيق الفواتير واصدار التراخيص مما يقلل من فرص التدخل البشري والفساد ويزيد من كفاءة عمل المؤسسات الحكومية. كما يمكن للانظمة الذكية تحليل محتوى وسائل التواصل الاجتماعي للكشف عن معلومات حساسة قد تشير الى فساد مثل نشر معلومات سرية او التفاخر بالثروات غير المشروعة. وبأستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن لهيئة النزاهة العراقية تحقيق نتائج افضل في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية.

مثال على تطبيقات الذكاء الاصطناعي: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات المشاريع الحكومية للكشف عن اي تضارب في المصالح او ارتفاع غير مبرر في الاسعار، ورصد التحويلات المالية للمسؤولين الحكوميين والشركات المرتبطة بهم للكشف عن اي انشطة مشبوهة، وتحليل عقود النفط والغاز للكشف عن اي بنود غير عادلة او مخالفة للقانون.

تحليل البيانات الضخمة:

يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة في مكافحة الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. ويمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نماذج تتنبا بالاحتيال المالي والاداري، مما يساعد على منع وقوع الجرائم قبل وقوعها.

رصد التلاعب بالبيانات:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف بدقة عالية عن التلاعب بالبيانات والمستندات الرسمية التي غالبا ما تكون حجر الاساس لعمليات الفساد، وذلك من خلال مقارنة البيانات الاصلية بنسخها المعدلة، وتحليل الانماط والتشوهات التي تدل على التلاعب، مما يساهم في كشف المحاولات الخبيثة لاخفاء الادلة وعرقلة سير العدالة.

تحليل وسائل التواصل الاجتماعي:

يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على فحص وتحليل كميات هائلة من البيانات المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي، مما يمكنه من كشف معلومات حساسة قد تشير الى وجود فساد، وبالتالي يساهم في الكشف عن شبكات الفساد وتتبع تحركات الفاسدين.

اتمتة العمليات:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يحول المؤسسات الحكومية العراقية الى بيئة عمل اكثر شفافية وكفاءة، وذلك من خلال اتمتة العديد من العمليات الروتينية مثل معالجة المعاملات واصدار التراخيص وتدقيق الفواتير. هذه الاتمتة تقلل بشكل كبير من التدخل البشري وتحد من فرص الفساد المستشرية في الرشاوى والمحسوبية، مما يساهم في بناء نظام حكومي اكثر عدالة وشفافية، ويعزز الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

تحديات وتوصيات:

على الرغم من الامكانات الواعدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، الا ان تطبيقه الفعال يتطلب التغلب على مجموعة من التحديات. اولا، تعتمد فعالية انظمة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على جودة البيانات المدخلة، فبيانات غير دقيقة او ناقصة قد تؤدي الى نتائج مضللة. ثانيا، يجب الحفاظ على خصوصية البيانات الشخصية، خاصة وان الذكاء الاصطناعي يتعامل مع كميات كبيرة من المعلومات الحساسة. ثالثا، تتطلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي استثمارات مالية كبيرة في البنية التحتية التقنية والتدريب والتطوير. واخيرا، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي وجود كوادر بشرية مؤهلة قادرة على تصميم وتشغيل هذه الانظمة واتخاذ القرارات المستنيرة بناء على النتائج التي تقدمها. بالتالي، فان نجاح دمج الذكاء الاصطناعي في جهود مكافحة الفساد يتطلب تخطيطا استراتيجيا شاملا وتعاونا بين مختلف الجهات المعنية.

لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، يجب اتخاذ الاجراءات التالية:

لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد في العراق، يتطلب الامر جهوداً متكاملة ومتسلسلة. اولا، يجب بناء قدرات الكوادر العاملة في مجال مكافحة الفساد من خلال برامج تدريبية مكثفة تركز على استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في تحليل البيانات وتطوير النماذج التنبؤية. ثانيا، يتعين سن تشريعات وقوانين واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، مع ضمان الحفاظ على الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. ثالثا، يجب تعزيز التعاون الدولي من خلال تبادل الخبرات والمعرفة مع الدول التي حققت تقدما ملحوظا في هذا المجال، والاستفادة من الحلول التقنية الناجحة. رابعا، يجب ضمان الشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي من خلال نشر المعلومات حول اليات العمل والنتائج المحققة، مما يعزز الثقة في هذه التقنية. وفي السياق العراقي، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دورا حاسما في تحليل عقود المشاريع الحكومية وتتبع التدفقات المالية والكشف عن التلاعب بالبيانات، مما يساهم في مكافحة الفساد في قطاعات النفط والغاز والمشتريات الحكومية. علاوة على ذلك، يمكن الاستفادة من قدرات الشباب العراقي في مجال التكنولوجيا لابتكار حلول مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات الفساد. ومع ذلك، يجب توفير البيئة المناسبة لدعم هذه المبادرات من خلال توفير الموارد اللازمة وتشجيع الابتكار.

الاستفادة من التجارب العالمية:

يمكن للعراق الاستفادة من تجربة سنغافورة في استخدام نظام الكتروني شفاف للحكومة. يمكن تطوير نظام مماثل في العراق لجمع وتحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع الحكومية والعقود والمالية العامة. من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن الكشف عن اي انماط مشبوهة او مخالفات للقانون في وقت مبكر، مما يساعد في منع وقوع الفساد.

دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد باستخدام الذكاء الاصطناعي:

يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مكافحة الفساد، خاصة عندما يتعلق الامر باستخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي. يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في هذا المجال من خلال تطوير تطبيقات وادوات رقمية مبنية على الذكاء الاصطناعي تساعد المواطنين على الابلاغ عن حالات الفساد وتتبع سير التحقيقات، وبناء الوعي بأهمية النزاهة ومكافحة الفساد وتدريب المواطنين على استخدام الادوات الرقمية لمكافحة الفساد ومراقبة اداء المؤسسات الحكومية ومقارنتها بالمعايير الدولية للشفافية والنزاهة والشراكة مع الحكومة في تطوير وتنفيذ استراتيجيات مكافحة الفساد القائمة على الذكاء الاصطناعي واجراء البحوث والدراسات حول اثر الفساد على المجتمع وتقييم فعالية الاجراءات المتخذة لمكافحته واقتراح حلول مبتكرة والدفاع عن حقوق المواطنين في الوصول الى المعلومات والعدالة ومحاسبة المسؤولين عن الفساد. من خلال الاستثمار في التكنولوجيا وبناء القدرات، يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في بناء مجتمع اكثر عدلا وشفافية.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي من مكافحة الفساد المتجذر في اركان السلطة؟

حقيقة ان الفساد عندما يكون متجذرا في اركان السلطة يشكل تحديا كبيرا لمكافحته. ومع ذلك، فان الذكاء الاصطناعي يقدم ادوات قوية يمكن ان تساعد في مواجهة هذه القوى المتنفذة، حتى في ظل وجود حكومة فاسدة. يمكن للذكاء الاصطناعي ان يساهم في الكشف عن الانماط المشبوهة في البيانات الضخمة، وتعزيز الشفافية من خلال منصات البيانات المفتوحة وتمكين المجتمع المدني بادوات تحليل البيانات المتقدمة وحماية المبلغين عن الفساد وبناء بدائل لانظمة الحوكمة الفاسدة. وبذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف الفساد ويعزز الشفافية ويمكّن المجتمع المدني ويحمي المبلغين عن الفساد ويبني بدائل للانظمة الفاسدة. ولكن، يجب التاكيد على ان الذكاء الاصطناعي ليس حلا سحريا، فهو اداة قوية، ولكن يجب استخدامه ضمن اطار اوسع من الاصلاحات السياسية والمؤسساتية. كما يجب ان يكون هناك ارادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد، حتى يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحقيق اقصى تاثير.

خاتمة

الذكاء الاصطناعي يمثل اداة قوية يمكن ان تساهم بشكل كبير في مكافحة الفساد في العراق. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذه التقنية بحذر وبناء الاطار القانوني والتقني اللازم لضمان استخدامها بشكل فعال وامن. من خلال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، يمكن للعراق تحقيق تقدم كبير في مكافحة الفساد وبناء دولة المؤسسات والقانون.

***

ا. د. محمد الربيعي

.....................

* بروفسور ومستشار علمي مهتم بقضايا التربية والتعليم في العراق، جامعة دبلن

مقال له علاقة: محمد الربيعي. الذكاء الاصطناعي موّلد او مسرّع للابتكارات العلمية ؟ www.azzaman.com

في هذا الملف نسلط الضوء على سوء الإدارة البيئية والتخبط والفشل في عمل وزارة البيئة العراقية ومؤسساتها،خلال العقدين الأحيرين، متضمناً إستعراضاً لقرارات وخطط وبرامج ومشاريع وطنية مقررة لتحسين البيئة، لم تُنفذ، أو فشلت، أو ظلت حبراً على ورق، نتيجة للتخبط والعشوائية وحتى التقصير، والضحك على الذقون بالوعود المعسولة التي لم تتحقق...

تأريخياً، يُسجل لحماة البيئة العراقية أنهم أول من طالب بإستحداث وزارة للبيئة، وإستبشروا خيراً حال تشكيلها في عام 2003، معولين ان تنهض عاجلآ ، بمعالجة التركة الثقيلة من المشكلات البيئية، وفي مقدمتها التلوث البيئي، خاصة التلوث الإشعاعي، والنفايات، خصوصاً المخلفات الحربية، وتحسين جودة الهواء والمياه والتربة، ودرء تداعيات التغيرات المناخية، الى جانب إدارة الموارد الطبيعية، وبالتالي تحسين الواقع البيئي المزري..

بيد أنه سرعان ما خاب التعويل على وزارة البيئة  إثرَ إفتقارها طيلة سنوات لتخطيط بيئي استراتيجي سليم، بل وتخبطها وانتهاجها للعشوائية في اتخاذ القرارات وأنجاز المهمات، وبالتالي لم يحصل أي تحسن في معالجة المشكلات البيئية، بل وتفاقمت أكثر.

ولابد من توضيح ان ذلك  يعود لعوامل عديدة ، ومنها ما فرض على الوزارة فرضاً وأثر كثيراً على عملها..

ومن أبرز العوامل التي أثرت على الوزارة وأعاقت عملها:

أولآ- إعتبار مهمة الوزارة رقابية، وليست تنفيذية.والإصرار على ذلك مع أنه كان بالمستطاع جعلها رقابية وتنفيذية في اَن واحد.

تانياً- وجهت للوزارة ضربة موجعة بتجريدها من إستقلاليتها،عبر دمجها بوزارة الصحة، مما أربك عملها كثيراً .

ثالثاً- أفضى تكرار جعلها مرة مستقلة ومرة مُدمجة ومن جديد مستقلة،الى عدم إستقرارها، وشل عملها، وجعلها تتخبط وترتبك وحتى الفشل في جوهر مهماتها الأساسية المأمولة - تحسين وحماية البيئة.

رابعا- تجاهل الحكومات المتعاقبة بشكل صارخ للمشكلات البيئية القائمة، مجسداً بإهمال دعم عمل الوزارة، وعدم توفير كل ما إحتاجت إليه من كوادر علمية وفنية ومعدات حديثة، وغيرها.

خامساً- بؤس المخصصات السنوية..يكفي ان تعرفوا ان مخصصاتها  التشغيلية والإستثمارية في عام 2023 كانت (0.03 في المائة)  من إجمالي الموازنة العامة (198 تريليون دينار). وقد أعاق ذلك تنفيذ الكثير من المشاريع الحيوية.

علماً بان الفقر المالي للوزارة جعلها ان لا تكون ضمن قوائم  المؤسسات الخاضعة المحاصصة الطائفية والإثنية، وليست مرغوبة من قبل الأحزاب المتنفذة.

سادساً- تناوب على إدارتها 8 وزراء، أغلبهم لا علاقة له بالبيئة ومشكلاتها، ولذا لم ينجحوا في إدارتها.

سابعاً- الظاهرة المُعيبة في إدارة الوزارة، والوزارات الأخرى، ألا وهي إنعدام المراجعة وتقييم الأداء، حيث لم يكلف غالبية الوزراء أنفسهم عناء متابعة وتدقيق ما صدر من خطط وإجراءات في الفترة السابقة لهم، ليستفيدوا، ولا نقول ليتعلموا من إيجابيات ما تم إنجازه، وتطويره، الى جانب الوقوف على الأخطاء والنواقص لتجنب تكرارها. وقد تجسد ذلك بإهمال  كل وزير جديد  لمنجز من سبقه، بما في ذلك من قرارات وتوجهات مهمة، مدروسة ومقرورة.

ثامناً- تجاهل وإهمال الوزارة لكل ما قُدِمَ لها خلال عقدين من دراسات ومشاريع ومقترحات وتوصيات علمية وبناءة، وبضمنها لمؤتمرات علمية دولية كُرِست لمعالجة التلوث باليورانيوم في العراق.وتجاهلت حملة دولية نُظِمت لمساعدة العراق  على تنظيف بيئته من المخلفات المشعة، وغيرها.

تاسعاً تستر (مركز الوقاية من الإشعاع) التابع للوزارة على خطورة التلوث الإشعاعي، وخاصة إشعاعات اليورانيوم المنضب، الناجمة عن إستخدام الأسلحة المصنعة من نفايات نووية خطيرة على العراق في حربين مدمرتين. وبدلآ من توعية المواطنين بمخاطره، إنزلق الى مستوى الكذب نفياً وتعتيماً عليه، وأوقع نفسه في فضيحة مجلجلة، مغطياً على حجم المواقع الملوثة وعلى ما أحدثته الأسلحة المذكورة من كوارث صحية وبيئية وخيمة،على حساب صحة وحياة العراقيين، فقد حصدت الأمراض السرطانية، والولادات الميتة والإجهاضات والتشوهات الخلقية، وغيرها من العلل غير القابلة للعلاج، مئات الألاف من ضحايا الإشعاعات..

عاشراً- المبالغة وتضخيم إعلام الوزارة لما يصرح به كل وزير جديد، لدرجة إعتباره "إنجازاً كبيراً" و "رؤية متقدمة" و"خطة لا مثيل لها"، وما الى ذلك، ولم يتم بعد البدء بتنفيذه.

وهذا جزء من ظاهرة شاخصة وهي كثرة التصريحات والمبالغت.

حادي عشر-التستر والتعتيم، من جهة، والمبالغة والتضخيم، من جهة أخرى، وكثرة الوعود المعسولة التي لم تنفذ، جميعها أثرت كثيراً على مصداقية الوزارة، وجعلت المواطنين يفقدون الثقة  بمشاريعها، وإقتراناً بذلك رفضوا تنفيذ تعليماتها والتعاون معها.

ثاني عشر- لم يغتنم وزراء البيئة فرصة وجودهم على رأس (مجلس حماية وتحسين البيئة الأتحادي) بوصفه أعلى سلطة بيئية، قانونياً، لتحقيق إنجازات بيئية مهمة. وظل عمل المجلس روتينياً حتى يومنا هذا.

ثالث عشر- تجاهل أو عدم إدراك بان نجاح تنفيذ أي خطة أو مشروع وطني مرتبط وثيق الإرتباط بالحالة الأقتصادية- الإجتماعية لغالبية المواطنين، الى جانب مستوى الوعي البيئي في المجتمع.وان النجاح لن يتحقق في ظل مستوى معيشة متدني ويعاني المواطنون من الفقر والحرمان، وأرباب العوائل غاجزين عن تأمين لقمة عيش أطفالهم، وجل إهتمامهم منصب على ذلك، ولا مجال للمواطن للتفكيربالبيئة.,

رابع عشر- عدم إدراك ان تنفيذ الخطط والمشاريع  الوطنية المطروحة لا يتوقف على الوزارة وحدها، وإنما يستلزم مشاركة جماعية فاعلة من قبل كافة الوزارات والمؤسسات المعنية، إضافة لمنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة.

لقد لوحط بان جميع وزراء البيئة دعوا الى هذه المشاركة، ولكن نادراً ما تحققت. ولم نعثر على دراسة وزارية بحثت في أسباب ظاهرة عدم حصول المشاركة الجماعية فعلياً.وهذا يعني عدم الإهتمام بها.

خلاصة القول: ان كل ما مر ذكره، بدءاً من الإصرار على ان مهمة الوزارة رقابية وليست تنفيذية، وعدم جعلهاة رقابية وتنفيذية،في اَن واحد، ودمجها مع وزارة الصحة، وبذلك تم تجريدها من إستقلاليتها، وعدم وضع الحكومات المتعاقبة أزمة البيئة ضمن أولوياتها، والمخصصات البائسة، وعدم  إجراء متابعة ولا مراجعة ولا محاسبة، لعملها،طيلة عقدين، الخ، جعل الوزارة  ومؤسساتها موضع إنتقادات موضوعية وجدية  كثيرة، وجهت وتوجه لها لكونها غير فعالة في عملها، ولا دور لها يذكر في معالجة المشكلات البيئية. وبالتالي فشلت في تنفيذ الستراتيجيات والخطط والبرامج العديدة التي أطلقتها رغم مرور أعوام طويلة على إعلانها، وبالتالي لم يتحسن الواقع البيئي المزري، بل وتفاقمت المشكلات البيئية أكثر.

ولا أدل على ذلك من تذيل العراق في "مؤشر الأداء البيئي العالمي" (EPI)، منذ عام 2012. وهذا المؤشر منجز من طرف جامعتي بيل وكولومبيا الأمريكتين بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، مكرس لقياس الأداؤ البيئي لكل دولة، من أصل 180 دولة في أرجاء العالم، بالإستناد لتقييم 40 مؤشراً حيوياً، شاملة الصحة البيئية، وحيوية النظام البيئي من خلال جودة عناصر البيئة(الهواء والماء والتربة) والتغيرات المناخية، رابطاة نتائج السياسات الجيدة بالثروة (نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي)، وما يتيحه الرخاء الاقتصادي للدول الاستثمار في السياسات والبرامج التي تؤدي إلى نتائج مرغوبة، وينطبق هذا الاتجاه بشكل خاص على قضايا الفئات الواقعة تحت مظلة الصحة البيئية، اَخذاً بنظر الإعتبار ان بناء البنية التحتية اللازمة لتوفير مياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، والحد من تلوث الهواء، والسيطرة على النفايات الخطرة، والاستجابة لأزمات الصحة العامة، يحقق عوائد كبيرة لرفاهية الإنسان..

وتواصل في العراق تردي الأداء البيئي، وبعد 10 سنوات،أي في عام 2022، إحتل العراق المرتبة 14 عربياً، والمرتبة 169 عالمياً، بحصوله على 27.80 نقطة من 100. وبين المؤشر عدم حصول  تحسن، وإنما تراجع 5.30 %..

وتواصل الاتجاه العام لأداء العراق البيئي نحو الانحدار، حيث انخفضت درجة العراق من 43 من 100 في عام 2018 الى 39، وهبطت الى 27.8 في عام 2022، وإرتفعت الى 30 في عام 2024.. أما مرتبته، فقد إرتفعت من 153 في عام 2018 الى 169 في عام 2022، والى 172 في عام 2024 وأصبح ترتيب العراق دولياً أكثر تراجعاً، حيث انخفض بحدود 17 مرتبة (fcdrs.com)..

لم يصدر عن وزارة البيئة ولا عن الحكومة العراقية ما يوضح أسباب هذا الإنحدار في الأداء البيئي، ومن يتحمل مسؤوليته، وإنما صدرت عن مسؤولين تشكيكات بصحة الأرقام التي وردت في المؤشر العالمي ، دون إثباتات تؤكد شكوكهم، ساعين للتشويش على الحقائق، زاعمين بأنها " ليست" نتيجة حتمية لعدم ايلاء المشكلات البيئة العراقية الاهتمام المطلوب، في وقت تضع حكومات الدول،حتى الفقيرة منها، البيئة في سلم أولوياتها !.

وفوق ذلك، حل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024. فمن أصل 193 دولة شملها المؤشر حل العراق بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا.

وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر، السعودية ثم العراق.

ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل.

وإقتراناً بذلك لابد من التوقف عند الخطط والمشاريع الوطنية لحماية وتحسين البيئة العراقية، التي أطلقتها وزارة البيئة خلال الأعوام الـ 15 المنصرمة..

***

د. كاظم المقدادي

كانت معظم الامم السابقة تكاد ان تكون مغلقة على نفسها ومقفلة الحدود وكانت حريصة كل الحرص على المحافظة على تقاليدها وموروثها الحضاري والثقافي والفني الذي انحدر اليها عبر الاجيال والذي يحمل اكثر اصالة وهوية وخصوصية الامة. وكانت الصين من البلدان المغلقة طيلة التاريخ حتى وفات زعيمها ماوتسي تونغ عام 1976 الذي اسس الجمهورية الشيوعية الصينية. ولازالت ؟.. ويذكر ان صناعة الورق كانت من اختراع الصين عام 105 بعد الميلاد وقد احتفظوا بسر هذه الصناع اكثر من ستت قرون حتى ايام الخليفة العباسي المنصور حيث كانت الحملات العسكرية الاسلامية وصلت الى جدران الصين. وفي احد المعارك التي خاضها ابو مسلم الخرساني اسر عدد من الصينيين منهم من يعرف صناعة الورق. وعن طريقهم دخلت صناعة الورق الى الدول الاسلامية. واول ما بدأت في سمرقند ثم في بغداد... ثم عرجت الى اوربا عن طريق الاندس في بداية القرن الثامن الميلادي. وعلى اثر ذلك قامت ثورة صناعة الطباعة في اوربا... والحكاية الاخرى ايضا ترجع الى اسرار الصين الغامضة وهي اكتشاف صناعة الحرير فيها حوالي عام 2700 قبل الميلاد ولكنها لم تصل الى اوربا الا في عام 550 ميلادية عن طريق الرهبان البيزنطينيين الذين كانوا يزورون الصين بصفة رحالة وتجار. حيث سرقوا بيض دودة القز ووضعوه في قصب اجوف ثم نقلوه الى اوربا. وهكذا وصلت دودة القز الى اوربا وبدأت صناعة الحرير. وبالتالي ان كل ذلك التأخر في انتشار الورق والحرير يعود الى ان الامم السابقة كانت مغلقة ومتشددة ومحافظة على تراثها الحضاري والثقافي..501 shamhod

ومن الطرائف التي يذكرها الدكتور زكي محمد حسن في كتابه – الرحالة المسلمون في القرون الوسطى – بان الرحالة العربي ابن وهب القرشي -870 م – وصل الى الصين والتقى بالامبراطور بعد انتظار طويل ودار بينهما حدبثا حول العرب والدين والسياسة. ثم امر الامبراطور باحضار صفط واخرج منه مجموعة من الصور لبعض الانبياء وقال له هل تعرف صاحبك من بين هؤلاء؟. فشاهد القرشي صورة الرسول محمد -ص- على جمل واصحابه محدقون به..

وكانت الحروب في القرون الماضية وغزو الدول بعضها لبعض من العوامل التي ادت الى انتشار الاختلاط الثفافي والفكري والتحول الاجتماعي رغم وحشيتها وسفك الدماء وتهديم المدن.. الا ان هناك جانب مهم جدا وهو فك الانغلاق والحصار عن البلدان وتقبل الفكر الاخر وتقاليد المجتمعات الاخرى. وكان المغول والتتر والسلاجقة وغيرهم من الاقوام الوحشية التي هدمت الحضارة العربية والاسلامية. ولكن لازالت تأثيرات الفنون الصينية والمغولية ظاهرة في الفن الاسلامي خاصة مدرسة بغداد ورسوم الواسطي 1237 م.

اما اليوم فان التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والاتصالات فقد عبرت الحدود ودخلت الدول والبيوت من اقصاها الى اقصاها دون رخصة (ولا جواز سفر) وبدون حروب. وبقدر ما هي مهمة ومتطورة جدا. الا انها جلبت اشياء سلبية ومدمرة للانسان وهي التجسس على الناس. واحيانا اغتيالهم. وايضا كثر التشويش والتحريف على المعلومات التاريخية والدينية والعلمية وقلب الحقائق. وكثير من المعلومات المتناقضة تظهر عن حضارة وادي الرافدين تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي. مثلا منحوتة سومرية على شكل سفينة فضائية. يقول ناشرها ان السومرين غزوا الفضاء؟؟ فاذا كان كذلك، يجب ان تكون هناك سلسة من التطورات العلمية مرت بها الحضارات الانسانية التي اعقبت السومريين؟؟ فاين هي؟؟.503 shamhod

اما الاستاذ خزعل الماجدي (خريج كلية الصيدلة) فيصول ويجول وحده في ميدان التاريخ وعلم الاثار. ويفسير الالواح المسمارية معتمدا على بعض علماء الاثار الاجانب الذين يؤكدون على ان معلوماتهم قاصرة ومحدودة لان علم الاثار في تطور مطرد واكتشافات جديدة قد تغير المعلومات السابقة. يقول الخزعلي ان المصريين سبقوا السومريين في اكتشاف الكتابة بينما علماء الاثار الاجاب يؤكدون على ان السومرين هم اول من اخترع الكتابة حوالي 3500 قبل الميلاد ؟؟ وان المصرين اكتشفوا الكتابة الهيروغليفية بعدهم ب حوالي 500 سنة. مثل العالم صومائيل كريمر وسيتن لويد وغيرهم تاهيك عن علمائنا مثل طه باقر وفؤاد سفر وابو الصوف وجوني جورج وغيرهم. ثم يعود الخزعلي ويصحح قوله السابق بن عالم الاثار كريمر يقول ان السومرين هم الاسبق ؟؟.. ويذكر الخزعلي ان الاديان طيلة عمرها لم تبني حضارة ولا مدنية. وقد تجاهل، ان الحضارات القديمة كانت دينية وثنية والهه وطقوس وكهنة وعلماء فلك ؟؟.. وهكذا نجد الخزعلي وغيره من الصبيان والمعتزلة الجدد في سرد تناقضات الاقوال والتفسيرات. وكل هذه الامور المشوشة التي تجري على مسرح حياتنا هو من فضل التطور التكنولوجي الاغبر..

***

د. كاظم شمهود

(إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرفة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة)... أنجلز

قليلة هي المنعطفات التاريخيّة الهامة التي تؤدي إلى تحولات نوعيّة في الفكر والممارسة عند الذين يعملون على مجال الفكر والسياسة، ليكتشفوا فيما بعد أن الكثير من الرؤى والأفكار التي كانوا يناضلون من أجلها وقدموا لها التضحيات الجسام عبر عشرات السنين، أنها مجرد شعارات لم تحقق ما يسمح لها بالتفاعل مع  الواقع الذي طرحت فيه، الأمر الذي يدفع حملتها أو المنظرين لها إلى إعادة النظر بما طرحوه، وتبيان مواقع الصح والخطأ فيه.

أكثر من قرن ونصف من الزمن قد مرت على طرح مشروع النهضة العربيّة من قبل الكتاب والمفكرين العرب من جهة، ومن قبل القوى السياسيّة العربيّة ممثلة بأحزابها القوميّة والتقدميّة من جهة ثانية، هذا المشروع الذي مثلته كتابات هؤلاء النهضويين العرب الداعية إلى ضرورة خروج هذه الأمّة من مازق تخلفها وفواتها الحضاري، متبنيه في طروحاتها شعارات حداثويّة كانت أوربا الليبراليّة قد تبنتها، فجاءت دعواتهم تقليداً لهذه الشعارات الليبراليّة ممثلة في الحرية والعدالة والمساوة التي ناضل المجتمع الغربي من أجل تحقيقها مئات السنين ضد أعدائها من قوى الظلام والاستبداد ممثلة آنذاك بسلطات الكنيسة والنبلاء والملك.

نعم... منذ بداية الربع الأول من القرن التاسع عشر، هذه البداية التي عُرفت ببداية عصر النهضة العربيّة، وهي البدايات التي تأثر فيها العديد من الكتاب والمهتمين العرب النهضويين بأفكار الحريّة والعدالة والمساوة التي طرحتها الثورة الفرنسيّة، وما تضمنته هذه الشعارات من قضايا تتعلق بالحريّة الفرديّة وحريّة المرأة والرأي والرأي الآخر والمواطنة ودولة القانون وغير ذلك، أو ما يمكن اختزاله بقضايا النهضة والتقدم، أو الحداثة .

نقول: منذ تلك البدايات وأسئلة النهضة تُطرح من قبل الكتاب والنهضويين العرب مسلمين ومسيحيين، كالطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وفرح أنطون، وشبلي شميل، وأديب اسحق، وطه حسين، وسلامة موسى، وصولاً إلى مفكري النهضة العرب المعاصرين، أمثال الجابري، والتيزيني، وعبد الله العروي، وياسين الحافظ، وغيرهم الكثير.

ومن هذه الأسئلة: (لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟. ما لحل؟. من أين نبدأ؟.... وغير ذلك من هذه  الأسئلة.

إن المتابع لمجريات الواقع العربي منذ تلك الفترة حتى اليوم، يجد أن هذه الأسئلة ذاتها بقيت في الحقيقة تجتر نفسها أو يعاد التنظير لها من قبل الكتاب والمفكرين العرب النهضويين حتى تاريخه في العديد من الكتب والمحاضرات والمقالات والندوات التي أقيمت لهذا الشأن، مسلطين ضوء النقد على الواقع لعربي بكل ما يحمله من قضايا التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، التي حالت وتحول دون تحقيق النهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المتقدمة. وما سؤالنا اليوم أيضاً، (هل الإسلام هو الحل؟.) إلا أحد هذه الأسئلة التي يأتي طرحها تحت ظل هذه الظروف المأساويّة التي نعيشها بعد أن فشلت كل المشاريع النهضويّة السابقة، وهي مشاريع حركة التحرر العربيّة ممثلة في القوميّة والاشتراكيّة والليبراليّة.  ليأتي مشروع (الحاكميّة هي الحل) الذي راح "الإسلام السياسي" (الإخوان والقاعدة وفصائلها من داعش والنصرة وغيرها) يطرحها كبديل نهضوي انطلاقاً من مقولة (لن تصلح هذه الآمّة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها- ولا بد من العودة إلى النبع الصاقي).

إن قراءة أوليّة وسريعة للكثير من الإجابات التي قدمت كحلول لأسئلة النهضة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم، نجد بعضها يقول بأن تحقيق القوميّة العربية هو الحل، في الوقت الذي فشلت فيه كل التجارب الوحدويّة، بينما نجد بعضها الآخر يجد الحل في تبني الاشتراكيّة، في الوقت الذي فشلت فيه أيضاً كل التجارب الاشتراكيّة، وهناك من راح يعوّل كثيراً على الأيديولوجيا الإسلاميّة، وخاصة بعد فشل المشروعين القومي والاشتراكي، بل وحتى الليبرالي الذي روج له المستعمر أثناء احتلاله للعديد من البلاد العربيّة أولاً، والقوى السياسيّة التي استلمت السلطة بعد خروجه ثانياً، هذه القوى السياسيّة التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً فعليّاً للبلاد، حيث ظلت قوى كومبرادوريّة مرتبطة بالقوى الاستعماريّة وتعمل وفقاً لمصالحهما معاً وليس لمصالح الشعب، كونها عاجزة في الحقيقة عن تحقيق مصالح الشعب بسبب فقدان الظروف الموضوعيّة والذاتية التي تسمح لها بتحقيق ذلك، الأمر الذي أدى إلى محاصرة هذه الليبراليّة واجهاضها عبر انقلابات عسكريّة رفع قادتها شعارات نهضويّة وتقدميّة، تحولت فيما بعد هذه الشعارات إلى نظريات سياسيّة وفكريّة في قضايا النهضة العربيّة، التف حولها الجماهير لتعطيها أو تمنحها  شرعية الحركات الثوريّة أو الثورات الشعبيّة، بعد أن تحولت هذه الحركات العسكريّة إلى أحزاب سياسيّة منحت نفسها صفة (الديمقراطيّة الثوريّة)، واعتبرت نفسها قائدة لحركة التحرر العربيّة ووصيّة على تحقيق نهضة هذه الآمّة وتجاوز عوامل تخلفها.

عموماً نستطيع القول: إن كل المشاريع النهضويّة التي طرحت في الحقيقة على الساحة الفكريّة والسياسيّة العربيّة بعد فشل المشروع الليبرالي، قد انطلقت من المشاريع النهضويّة الثلاثة وهي: القومي والاشتراكي والإسلامي، بغض النظر عن طبيعة الكثير من المفردات الأساسيّة والجزئيّة التي تضمنتها هذه المشاريع الأيديولوجيّة مثل الحامل الاجتماعي لها، ودرجة التداخل الطبقي في هذه الحوامل، ودرجة حدّة تناقضه وصراعه، وكذلك درجة نضوج الظروف الموضوعيّة لتحقق هذه المشاريع، ثم البعد الأخلاقي والقيمي عموماً في بنية المجتمع العربي، وهناك أيضاً تأثير خصوصيات الواقع العربي، والعلاقة الجدليّة بين العام والخاص والداخل والخارج، يضاف إلى ذلك حالات الجهل والأمّية والتخلف البنيوي في مستويات الواقع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وغير ذلك من قضايا تتعلق في تحريض الفعل النهضوي أو عرقلته لكل مشروع من هذه المشاريع النهضوية الثلاثة.

نقول: إن الكثير من الكتاب والمفكرين النهضويين العرب وكذلك الأحزاب "الديمقراطيّة الثوريّة" التي تبنت هذه المشاريع النهضويّة فيما بعد، غالباً ما تناولوها من منطلق أيديولوجي، أي اتخذوا من الأيديولوجيا منطلقاً في تحليل أزمة النهضة أو طرح الحلول لتجاوزها، وذلك يعود برأيي إلى جهل معرفي (ابستمولوجي) في طبيعة هذه الأزمة والظروف الحقيقيّة الداخليّة منها والخارجيّة التي تكمن وراءها، ثم آليّة عملها، كون الأيديولوجيا في المحصلة هي مجموعة الرؤى والأفكار والقوانين والمبادئ التي تعبر عن واقع أمّة ما أو مجتمع ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة، وبالتالي فهي عندما تُستخدم كعتلة نهضوية في مجتمع لم يحوز بعد على الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي تستطيع استلهامها أو تكون هي المنتجة لها، ستظل حكماً في حالة مفارقة للواقع، أي تظل بعيدة عن متطلبات الواقع، وهنا ستتحول إلى وسيلة نهضويّة تُستخدم قسراً لتغيير الواقع، وبيد حوامل اجتماعية قد لا تعبر عن مصالح الجماهير كونها غير حواملها الحقيقيّة، أو تجد فيها هذه الحوامل بعضاً من مصالحها الأنانيّة الضيقة، الأمر الذي سيزيد من تعقيد هذا الواقع وتعميق أزمته بدلاً من إفراجها. وهذا ما تجلى بكل وضوح في محاولات التطبيق العملي القسري (وفقاً لسرير بروكست)، أي محاولة ليّ عنق الواقع العربي من قبل هذه الحوامل كي ينسجم مع هذه الأيديولوجيات القوميّة أوالاشتراكية أو اليوم الإسلاميّة .

إذن إن التعويل على أي مشروع فكري (أيديولوجي)، متعالي على الواقع - أي لا يشكل وعياً مطابقاً للواقع -  من أجل تجاوز تخلف هذا الواقع وخلق نهضة فيه، هو غير قادر بالضرورة على تفسير هذا الواقع وتحليل أواليّة عمله (الميكانزيم)، وبالتالي هو محاولة لليّ عنق الواقع وفرض حلول لمشاكله من الأعلى، أي تغييره برؤى فكريّة ذات طابع شمولي مجردة يعتقد حملتها أن هذه الرؤى الشموليّة، الفوق تاريخيّة، هي وحدها القادرة على تقديم الوصفات الجاهزة لكل زمان ومكان دون أي مراعاة لخصوصيات الواقع وطبيعة حركته وتطوره وتبدله، أي فرض الحلول من خارج أواليّة عمله، وهذا ما سيساهم بلا شك في تعميق أزمة هذا الواقع والسرديات الكبرى المتعاملة معه معاً. وهذه المسألة المنهجيّة كان قد اشار إليها إنجلز كما بينما في بداية هذه الدراسة بقوله: (إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرقة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة). (1).

يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا ما الحل أمام سقوط هذه السرديات الكبرى التي ساهم في إسقاطها أنظمة عربيّة متهالكة على السلطة بما تحققه لهم من جاه وغنيمة؟.

أقول: دولة مدنية بدستور يقره الشعب يعبر عن مصالحه بما يتضمنه من مفردات تحمي المواطن وتؤمن أمنه واستقراره ولقمة عيشه.. دستور يؤمن بالمواطنة، والتعددية السياسيّة وتداول السلطة، ومؤسسات ينظم سير عملها قوانين خاصة بكل مؤسسة، احترام للرأي والرأي الآخر وحريّة في التعبير الذي لا يتجاوز مصالح الوطن وأمنه...احترام للمرأة ومكانتها في المجتمع والدولة معا...

***

د. عدنان عويّدِ - كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1-  (د. أميل توما- الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي – بيروت- 1981. ).

 

حين نشرت كتابي "المجتمع المدني - الوجه الآخر للسياسة: نوافذ وألغام" في العام 2008، عاتبني بعض الأصدقاء بأن نقدي لمنظمات المجتمع المدني قد تستفيد منه الحكومات، وقال آخرون أنك أحد أعمدة المجتمع المدني عربيًا، فلماذا تصوّب السهام إليه؟

وكان جوابي أن قيمة أية تجربة بنقدها، وكنت باستمرار، كمثقف، أشعر بحاجة إلى نقد تجربتي السياسية والفكرية والثقافية والحقوقية، وذلك بهدف استشراف آفاق جديدة وتدقيق وتصويب توجهاتها، واستخلاص الدروس والعبر الضرورية منها، انطلاقًا من معيار أساس قوامه "النقد والنقد الذاتي"، لذلك لم أتوان عن إضاءة المظاهر الإيجابية والتوقف عند بعض المظاهر السلبية والنواقص والثغرات التي ترافق إداء إداراتها، والمثالب والعيوب التي تصاحبها على المستويين الموضوعي والذاتي.

لقد لعبت المنظمات المهنية في الأربعينيات والخمسينيات دورًا مهمًا في الدفاع عن الحقوق والحريات، وفي بلورة بعض المطالب الوطنية والمهنية، لاسيّما نقابات المحامين والصحفيين والمعلمين والعمال واتحادات الطلبة والمرأة وغيرها، لكن مثل هذا الدور تراجع كثيرًا بحكم الصراع السياسي، ومحاولات الأحزاب والقوى الهيمنة عليها وحرفها عن مسارها نحو توجهاتها الأيديولوجية الضيقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الصراع في العراق حادًا وإقصائيًا وإلغائيًا وتهميشيًا، وهو ما سارت عليه جميع القوى والجماعات السياسية دون استثناء، فبعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، احتدمت سوح المعارك، واحتربت القوى مع بعضها، وفاز الشيوعيون بالقدح المعلّا، في حين ظلّ غرماؤهم  قعيدي حسرات، بسبب محاولات احتكار العمل لصالحهم، سواءً أكان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولذلك انشطرت العديد من المنظمات أو تأسست منظمات موازية للأصل، مثل اتحاد الطلبة والمرأة لاحقًا واتحاد الأدباء والكتاب، وساد نوع من المنافسة المحمومة وغير العقلانية للاستحواذ على المواقع في العديد من النقابات والاتحادات، سواءً في القسم العربي من العراق، ولاسيّما في العاصمة بغداد أو في القسم الكردي من العراق، خصوصًا المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي.

وفي الفترة التي أعقبت انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، مورس شكل جديد من أشكال احتكار العمل المهني والنقابي لصالح البعثيين دون سواهم، فضلًا عن اعتقال واستشهاد العديد من قادة المنظمات المهنية السابقة، وفصل المئات من منتسبيها من وظائفهم.

وبعد انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته، ولاسيّما بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي (1964) اقتفاءً بالتجربة المصرية الناصرية، انحصرت إدارة المنظمات المهنية بالقوميين وأعضاء الاتحاد الاشتراكي عمليًا وضمن الظروف السائدة، وهكذا أُقصي العديد من إدارات المنظمات المهنية السابقة واعتُقل العديد منهم، ولم يسمح للصوت الآخر بالانتعاش، حتى بعد في بعض الانتخابات المهنية.

وبعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 بدأت مرحلة جديدة من احتكار العمل المهني، من جانب منظمات تابعة للسلطة، فتم توزيع المقاعد بين الأحزاب المؤتلفة وإقصاء الآخرين، لاسيّما الشخصيات المستقلة. وشهدت الفترة الأولى تحالفات محدودة في نطاق اتحاد الأدباء ونقابة الصحافيين والجمعية العراقية للعلوم السياسية، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، مع شروط يحدّدها الفريق القابض على السلطة، وشملت المرحلة الثانية تحالفات مع الكرد، ثم بسبب الصراعات السياسية تبخّرت هذه القوى جميعها، لينفرد حزب البعث لوحده في إدارة هذه المنظمات، وهو الأمر الذي ساد على نحو ربع قرن تقريبًا.

وحتى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حاولت بعض الجهات السياسية التمترس خلف بعض المنظمات المهنية، وتجييرها لصالحها، أو أسست منظمات تابعة لها. ولعلّ من يلحظ أداء بعض المنظمات المهنية، يستطيع أن يحكم على انحيازاتها لهذه الجهة أو تلك، ومحاباتها لهذا الفريق أو ذاك، واستبعادها لهذه المجموعة أو تلك، بما فيها عدم  قبولها للرأي الآخر ومنحه الفرصة المتكافئة، فضلًا عن الهوّة السحيقة التي تفصله عن المهنية، سواء لاعتبارات دينية أو طائفية أو قومية إثنية أو أيديولوجية حزبية، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه المال السياسي، بما فيه من الجهات الخارجية المانحة وأجنداتها الخاصة التي تريد توظيفها، وحسب بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار / مايو  2003 – 28 حزيران / يونيو 2004) فأإه أنفق 800 مليون و 800 ألف دولار على ما سمّاه المجتمع المدني. ولم تقل أية جهة مدنية أو إعلامية أنها تسلّمت أموالًا منه، مع أن بعض الجهات عاشت بحبوحة غير معهودة انعكست على ممالئاتها للاحتلال الأمريكي تحت عناوين مختلفة، في حين ظلت بعض المنظمات فقيرة ومعدمة، لاسيّما تلك التي اتخذت موقفًا رافضًا للاحتلال.

من مراقبتي لمجمل عمل المنظمات المهنية العراقية والعربية، خلال العقود المنصرمة، لاحظت غياب النقد الجاد والموضوعي، والنقص الفادح في ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر وعدم قبول حق الاختلاف والإقرار بالتعددية والتنوع والتسامح، وهو ما تناولته بالتفصيل في كتابي "المجتمع المدني - سيرة وسيرورة" (2012)، إذْ أن معظم مجالس الأمناء أو الإدارات شكلية ولا رأي لها باتخاذ القرار الذي يتحكم به الرئيس أو الأمين العام، وأحيانًا مع ثلة من أصحابه وعائلته.

وبالتدرّج فقد كانت الثقافة السائدة لعقود تقوم على الصوت الواحد والرأي الواحد والمسؤول الواحد، بل إن العديد من إدارات هذه المنظمات لم تحرك ساكنًا في الدفاع عن حقوق أعضائها، حين يتعرضون للاعتقال أو التعذيب، في حين كان مجرد اعتقال صاحب رأي سياسي في الخمسينيات يكفي أن يتطوّع نخبة لامعة من المحامين للدفاع عنه تحت عنوان "لجنة معاونة العدالة".

للأسف فقد أصبح السكوت أو التواطؤ أو المشاركة أحيانًا في قمع الرأي الآخر جزء لا يتجزأ من عقيدة الإدارات المتعاقبة، والتي تعتّق بعضها في إدارة هذه المنظمات، فلم يتجرّأ مسؤول في إدارة هذه المنظمات على السؤال علنًا عند اعتقال أو ملاحقة زملائه من أصحاب الرأي الآخر، إن لم يبرّر ذلك أو يشارك فيه وفقًا للمناهج الطائفية والحزبية والتوجهات الأيديولوجية، وهكذا اتّجهت أغلبية هذه المنظمات إلى الأحادية والإطلاقية وأصبحت رديفة للسلطات، ووجهًا آخر من أوجهها.

والأكثر من ذلك أن إدارات هذه المنظمات بدت وكأنها جزءًا من أثاثها، فهذا أمين عام مكث في موقعه نحو ربع قرن، وذاك أمين عام ثم رئيس أوشك على توليه المسؤولية نحو 5 عقود من الزمن، وذاك مسؤول جاء بموظفي مكتبه ليكونوا أمناء عامين بعده ليبقى هو من يسيّر عمل المنظمة التي يقف على رأسها، والأكثر من ذلك أن بعضهم ينتقد الحكومات التي لا تقر بالتعددية والتداولية والتناوبية، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل أن بعض إدارات هذه المنظمات والجمعيات من يبرر ذلك بزعم الإدارة التاريخية والحرص على بقاء هذه المنظمات في خطها الصحيح، والمقصود بذلك خطها التقليدي والمتوارث، الذي يقوم على أيديولوجية أو رأي سياسي عفا عليه الزمن، في حين أصبحت بعض هذه المنظمات التي يتشبث هؤلاء بإدارتها خاوية ولا عمل لها سوى إصدار بعض البيانات الروتينية بين حين وآخر، ولعلّ مثل هذه المؤسسات على المستوى العربي والإقليمي كان يمكنها القيام بدور أكبر وحيوية أكثر لو تجددت دماء العاملين فيها ووثقت بالكفاءات الشابة الجديدة ومنحتها الفرصة لتولي المسؤولية، ناهيك عن المبادرة إلى تقديم قوة المثل والنموذج والتخلي عن المسؤولية والتشبث بالمواقع، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

الجدير بالذكر، أن التنمية المستدامة التي تطمح إليها الأمة العربية ودولها، إضافة إلى دول الإقليم بجميع تكويناته وأممه، لا يمكن أن تتحقق، دون مشاركة فاعلة من المجتمع المدني والمنظمات المهنية، التي ينبغي أن تكون "قوة اقتراح" لتقديم مشاريع قوانين وأنظمة واقتراح لوائح، وليس "قوّة احتجاج" وحسب، لذلك لا بدّ من مشاركتها كرديف ومكمل وراصد  للحكومات، لاسيّما بعد تجاوز إشكالياتها ومشكلاتها الذاتية، وتجديد نفسها وابتداع أساليب عمل جديدة والتخلّص من الفوقية والهيمنة ومحاولة احتكار المواقع، ناهيك عن عدم قراءة المستجدات والمتغيرات في عصر الثورة العلمية – التقنية والطفرة الرقمية الديجيتل وتكنولوجيا الإعلام واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فما كان يصلح للسابق قد لا يصلح للحاضر والمستقبل، فما بالك حين يكون الماضي مشوبًا بالضبابية والقصور والفهم الخاطئ، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة مستقلة.

***

د. عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي عربي

هل يمكن للحكومة أن تهذب شعبها، بمعنى أن تجعله أكثر التزاماً بالفضائل ومكارم الأخلاق؟ أثيرَ هذا السؤال في نقاش حول معاني الأخلاق السياسية وتطبيقاتها في المجال العام. واستعرض أحد المتحدثين رؤية أفلاطون، الفيلسوف اليوناني المعروف، الذي قرر أن الدولة مسؤولة عن تربية الشباب، وتلقينهم المعارف، وتدريبهم على الحِرَف والعادات الحسنة.

ونعلم أن هذه الفكرة ما زالت سائدة حتى يومنا الحاضر. فالناس جميعاً، في شرق العالم وغربه، متفقون على أن أبسط واجبات الحكومة هو إنشاء وتشغيل نظام التعليم العام، من مستواه الأدنى، أي رياض الأطفال، حتى الدرجة الأخيرة من التعليم الجامعي.

لكننا نعلم أيضاً أن مبررات هذه الرؤية تختلف، في نموذجها المعاصر، عن تلك التي تحدث عنها أفلاطون. كان أفلاطون يرى إمكانية جعل الفضيلة سلوكاً عاماً، يمارسه جميع الناس من دون تكلف. كما رأى أن الجهل هو السبب الرئيسي لارتكاب الإثم؛ لأن الفضيلة في جوهرها هي الحقيقة، أو هي قرينة الحقيقة. ونحن نصل إلى الحقائق من خلال الدراسة والتعلم والتجربة. بعبارة أخرى، فإن الدراسة تؤدي إلى إدراك حقائق الحياة، وإدراك الحقائق يكشف عن الفضائل؛ لأن الفضيلة هي الحقيقة أو قرينتها. فإذا أمست الفضيلة سلوكاً عاماً، تحققت ما سماها الفيلسوف «المدينة الفاضلة»، وهي ما تُعرف في الأدبيات الغربية الحديثة باسم «اليوتوبيا».

أما في نموذج الدولة الحديثة، فإن التزام الحكومة بإنشاء نظام لتعليم الناشئة، معلل بالحاجات الاقتصادية في المقام الأول. لقد توصل البشر بعد قرون من التجارب إلى أن حياتهم تدور حول محور الاقتصاد. وهذا، وإن لم يشمل أطراف الحياة كافة، في حقيقة الأمر، المحرك الرئيسي لمعظم أطرافها. من هنا بات عمل الدولة مُركّزاً - في معظمه - على الاقتصاد. وبالنسبة إلى البلدان النامية على وجه الخصوص، فإن سياسات التعليم تستهدف، في المقام الأول، إنشاء قوة عمل ذات كفاءة، لإدارة المشروعات الاقتصادية والإدارة الرسمية (التي تنظم هي الأخرى على ضوء احتياجات السوق والاقتصاد). وهذا يفسر القول السائر إن «التعليم الناجح هو الذي يلبي حاجات سوق العمل»، وكذا الدعوة إلى جعل سياسات التعليم متوافقة مع حاجات السوق.

ويبدو لي أن مفهوم الأخلاق، السائد في علم السياسة المعاصر، أكثر انسجاماً مع أغراض الدولة ومبررات وجودها، من ذلك المفهوم الذي ناقشه قدامى الفلاسفة، أو نظيره الذي عرفته الدول الدينية.

رؤية أفلاطون عن أهمية التعليم مبعثها ارتيابه العميق في طبيعة الإنسان. فرغم إقراره بقابلية العقلاء لاكتشاف الخير والعدل واتخاذ طريق الحكمة، فإنه نظر إلى جمهور الناس على أنهم أسرى شهواتهم وأوهامهم وجهلهم بحقائق الحياة. وقد صور هذا المعنى في مثاله الشهير عن الأشخاص المقيدين في داخل الكهف، الذين لا يرون غير انعكاس ظلال الحركة التي تحدث في الخارج، فيتوهمون أنها هي كل ما يجري في عالمهم.

في التحليل يظهر أن أفلاطون نظر إلى أفعال الإنسان بوصفها انعكاساً لميوله الداخلية؛ سواء أَتَهَذَّبَتْ بفعل التعليم أم لا. ولذا تحدث عن التعليم بصفته وسيلة لتهذيب النفس.

خلافاً لهذا، ينظر علم السياسة المعاصر إلى الميول النفسية على أنها محصلة لتأثير العوامل البيئية والاجتماعية في المحيط الحيوي للإنسان. الإنسان السوي الميال للحلول العقلانية والتعاون هو ذلك الذي ينشأ في مجتمع يوفر الأمان والعيش الكريم لأهله. وبعكسه المجتمع الذي يسوده النزاع والانقسام أو شح مصادر العيش، وكذا المجتمع الذي يعاني الاحتقار والإذلال والقهر لزمن طويل. فمثل هذه الحالات تنعكس بشكل سلبي جداً على روحية أعضاء المجتمع، فتعزز فيهم الميول اللاعقلانية والارتياب والرغبة في الاستئثار.

زبدة القول أن علم السياسة الحديث يرى أن الدولة قادرة على تحسين المستوى الأخلاقي في المجتمع الوطني، لكن ليس بإضافة مادة الأخلاق إلى نظام التعليم، ولا بزيادة عدد الوعاظ، بل بتوفير سبل العيش الكريم وتعزيز الشعور بالأمان والكرامة لدى الأفراد.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لم تكن منطقة الشرق المتوسطي / العربي في وضع يؤهلها لكي تحضر فاعلة حين انبثقت الاله في الطرف المقابل من المتوسط  وفعلت فعلها في دفع وتسريع الاليات المجتمعية في المكان الاعلى والاكثر ديناميات ضمن صنفه المجتمعي الاحادي بحكم ازدواجيته الطبقية الاصطراعيه، هذا في الوقت الذي كانت منطقة شرق المتوسط ماتزال تعيش تحت طائلة الانقطاعية الانحطاطية الملازمه لتاريخها، والحاكمه لمساره كقانون متراوح دورات صعود وانقطاع. ومنذ 1258 يوم سقوط عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية بغداد، والمنطقة المشار اليها بحال انحدار، مظهره الابرز وقوعها تحت طائلة  وغلبة  البرانيه الشرقية  من متبقيات الدورة الثانيه الاسلاميه الشرق متوسطية، حيث تعاقب اشباه الامبراطوريات والدول المماليكيه  اليدويه، وصولا الى العثمانيه اخر محطاتها، قبل ان يتم الانتقال الى الصيغة البرانيه الاوربية الحالية المستمرة على انقاض العثمانية، باسم التوهمية النهضوية الحداثية الانتقاليه.

ولم يكن التعرف على الذاتيه امرا مرهونا فقط لمتوالية الانقطاع الانحطاطي والنهوض الدوراتي، بقدر ماكان بالاحرى مسالة متلازمة مع اجمالي العملية المجتمعية والبشرية ومراحل تطورها التاريخي، وبالذات بما يخص العقل البشري ومامتوفر له حتى حينه من قدرة وطاقة على الاستيعاب والادراك بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، الامر الذي جعل نقطة بعينها من الشرق الاوسط، هي الاعلى ديناميات بناء لبنيتها الاصطراعية الازدواجية المجتمعية، تعيش تاريخها الاطول بين التواريخ المجتمعية، وبعد دورتين وانقطاعين، الاول السومري البابلي الابراهيمي، والثاني العباسي القرمطي الانتظاري، من دون مقاربة مناسبة للجانب الجوهر والاساس كمنطوى وغاية غير مكشوف عنها النقاب، الظاهرة المجتمعية مرهونة لها، ومتجهه لبلوغها، الامر الذي لم تكن قد تهيأت اسبابه بعد.

ولم يكن المطلوب لهذه الجهه واردا اصلا لانه لم يكن قابلا للحضور من دون توفر اسباب تحققه على مستوى الظاهرة المجتمعية، لاوعيا وادراكا فحسب، بل ماديا وعلى صعيد وسيلة الانتقال/ الانتاج المطابقة للمطلوب ومايغدو واجبا مع اكتشاف الحقيقة المجتمعية، فلا يمكن التعرف على الازدواج المجتمعي الناظم لتاريخ المجتمعات،  وصولا للتفريق بين  اللاارضوية المجتمعية ومقابلها الارضوية المعاشة الى اليوم، ومنذ تبلور الظاهرة المجتمعية، من دون تبدل مجمل الحياة ووجهتها، ونوعها كليا، مابين اشتراطات الرضوخ للحاجاتيه  وحدود القدرة الجسدية، والذهاب للتحرر منها ومن وطاتها على العقل وحضوره المنتظرعلى انقاض الجسدية الحاجاتيه الارضوية الاحادوية الحالية، الموكولة طبيعة للانتاجية اليدوية وحدودها، وماتتيحه من افاق فعل حياتي، او مايعرف ب "الحضاري" الارضوي.

وحتى حينه والى ان يحصل الانقلاب الالي، تبقى الارضوية الجسدية غالبة ومهيمنه على العقل بصيغته الاولى، او وثبته  الابتداء مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطقية، وماقد مر به الكائن البشري من حينه من احتبارات تمهيدية، وصولا الى "اللقاط والصيد" قبل دخول العتبة الختام من مساره الارتقائي المتواصل مابين "الحيوان" و "الانسان"، حيث " "الانسايوان" الحالي ينتظر الانقلاب الاكبر التحولي التاريخي، وهو مايفترض ان تتظافر لاجل بلوغه الانتقالة الفاصلة في وسائل الانتاج،  والانقلابيه العقلية،  او الوثبة العقلية الثانيه بعد تلك الاولى التي اعقبت الطور الحيواني من ترقي  ونشوئية الكائن الحي، وهو ماكان مرهونا بعمل البيئة وديالكتيكها كطبيعة مواكبة للكائن الحي،  راعية  ومقرره بالاشتراطات والاسباب لمساره الارتقائي المنتهي الى مابعد ارضوية، وهو ماتتكفل به الطبيعة من دون تدخلية ذاتية للحيوان، او الكائن البشري "الانسايوان"، حتى نهايات امده واللحظة الفاصلة في سيرورته.

هكذا يترقى العقل، من الغياب ابان الفترة الحيوانيه بظل هيمنه الجسدية شبه المطلقة، الى  الحضور الابتدائي  بعد الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية، مع بلوغ الجسد حدود ترقية النهائية، الى   الانتقال الثاني الاعظم مع تجاوز القصورية الارضوية،  وتوفر اسباب التحولية المادية،  تقابلها اماطة اللثام عن  المنطوى المجتمعي، وتحديدا "اللاارضوية المجتمعية"  الجسدية وافقها الانتقالي الاكبر، بعد اطراح بقاياها العالقة،  ووقتها تتهيأ اسباب التحولية الانتقالية الفاصلة العظمى.

ماتقدم يضعنا بوضوح امام مهمة كونية متعدية للمكانيه والكيانيه، تعجز الارضوية عن رؤيتها او مقاربة نمطيتها، وبالذات كونها بدئية واساس تشكلي ابتدائي منطو على الحقيقة المجتمعية الكبرى الاساس، بما هي انتقالية تحولية من الجسدية الى العقلية، ومن الارض والكون المرئي،  الى الكون الاخر اللامرئي،كما وجدت في ارض سومر ابتداء، وكما تجسدت بعد اصطراع طويل تعبيريا كونيا نبويا حدسيا، بالابراهيمه، بصيغتها المحكومة لاشتراطات الحضور ضمن غلبة الارضوية اليدوية طويلة الامد، لانتفاء اسباب التحقق الانقلابي( ماديا وادراكيا) في حينه عند المبتدا،  لتعم مخترقة المجتمعات بغالبيتها بناء على ماتنطوي عليه من اسباب عامه ازدواجية غير مدركة، مرتكزها الازدواج التكويني البشري المجتمعي ( عقل / جسد)، عكس ماتعتقده الاحادية الجسدوية التي تجعل العقل اداة ملحقة بالجسد،  مدمجة به كعضو من اعضائه مثل اليد والعين والحاجب.

ليست المجتمعية هي ما نعيشه وعشناه او اعتقدنا اننا نعيشه، فالمعاش هو بالاحرى انتكاس ونقص  مادون مجتمعي، ارضوي يعاش يدويا تحت طائلة ووطاة الارضوية الجسدية واحكامها وممكناتها، بينما يكون العقل في حينه تحت فعل واثر الجسدوية الحاجاتيه، مايزال في العتبه الاولى من عتبات  وثبته الارتقائية، ينتظر التفاعلية التاريخيه المجتمعية ومساراتها عبر الدورات والانقطاعات الثلاث، وفعل الانتقال  الى الاله واحتداميتها وتحوراتها، وصولا الى التكنولوجيا العليا العقلية،  وقت تحين ساعة بلوغ عتبة الاكتمال التشكلي الضروري المقدر والحتمي بناء على اجمالي السياق الوجودي البشري، والحقبة الاخيرة المجتمعية منه بخصوصيتها، ودرجة ارتقاء العقل ضمنها.

واذن فلا ادراك او وعي بالمجتمعية الا بعد الالية ومرورها بالطور الاول التوهمي الاوربي الغربي الاحادي الاعلى، كذلك لاوجود ل الكائن "الانسان" الامن يومها، وعند تلك الساعة من التاريخ، حين يتحقق الانتقال وقتها من "الانسايوان"، وتنقلب شروط وموضوعات الفعل الحياتي، والمهمات الانتقالية التحولية الوجودية الحياتيه تكريسا للعقلية على حساب الحاجاتية الجسدية،  ذهابا لتقليصها والغائها(الحاجاتيه)، الى  العمرية حيث الانتقال من استبداد الموت الجسدي وسطوته المطلقة على العقل، ذهابا الى تحرر الاخير  بما يفضي لاضطلاعه بكينونته، ومايتفق مع طبيعته  الخلودية وجودا، تحقيقا للحلمية الغلغامشية المبكرة بشرط اطراح الجسدية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

 

وما علاقتها بتكوين هويات الشعوب؟!

هنالك فكرة سائدة خاطئة بأن (شخصيات البشر، افراد وجماعات) مرتبطة فقط بانتمائهم الديني والاقوامي والعائلي ومستواهم المعرفي. طبعا هذه الامور لها التأثير، لكن يبقى التأثير التاريخي الاكبر والثابت على الجماعات والشعوب، مرتبط اساسا بـ(المكان: الارض والبيئة).

روح وطاقة المكان(1)

منذ سنوات جلب انتباهي، تلك الفروق بالسلوكيات والعلاقات السائدة بين ابناء الجالية العربية في كل من (جنيف) السويسرية، و(باريس) الفرنسية، بسبب اختلاف "روحي المدينتين" في عدة امور، رغم انهما ناطقتان بنفس اللغة الفرنسية ونفس الثقافة السائدة.

ان اي (مكان)، صغير او كبير، بيت او حارة او وطن او اقليم وقارة، هو مثل الكائن الحي، له (روحه وطاقته الخاصة به التي تؤثر على الكائنات الحية والنبات والبشر، التي تعيش فيه). أي له ( روحه وشخصيته) التي هي نتاج عوامل كثيرة خاصة به: البيئة والمناخ وتاريخ الناس الذين عاشوا فيه والاحداث التي مرت عليه، بل حتى تأثير الموقع بالنسبة للفلك والنجوم. ان روح وطاقة (بناية السجن) تختلف عن( بناية المسلخ) و(الحديقة العامة) و(القرية الزراعية الهادئة) و(المدينة الاسمنتية الصاخبة)، بسبب اختلاف طبيعة ووظيفة مكوناتها وتاريخ ومشاعر الناس الذين عاشوا فيها.

ليس صدفة ان اهتمت الجماعات منذ القدم بمسألة (مكان تشييد المدينة والمعبد) فيختارونه حيث يستشعرون فيه (طاقة ايجابية). ويعتقد ان الكثير من الكنائس والمساجد القديمة في العالم، مشيدة في (اماكن طاهرة) متوارثة منذ الانسان الاول. ولنا مثال (الجامع الاموي في دمشق) الذي كان في الاساس معبدا كنعانيا ثم كنيسة مسيحية ثم مسجد.(2)

لا زال الاسلام يهتم كثيرا بمسألة (المكان الطاهر) و(المقدس) للصلاة والتعبد والدفن. يقال ان (الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور) قد اختار(مكان تشييد عاصمته بغداد) بعد تعليق العديد من الخراف المذبوحة في العديد من مناطق وسط العراق، لاختيار المكان الذي تبقى فيه الذبيحة لم تفسد اطول فترة ممكنة.

وقد اطلق الرومان تسمية (روح المكان: Genius loci). ويعتبر(ابن خلدون) اول من تحدث عن دور الجغرافية في خلق تاريخ الشعوب.(3)

كذلك كرس الصينيون مجالا من عقيدتهم (التاوية) اسمه (فانغ شوي:  Feng Shui) مختص بدراسة طاقة المكان وتنظيم هندسة واثاث المنزل والمكتب، بحيث تنتشر فيه الطاقة الابجابية والصحة والانتاج.(4). ومنذ سنوات هنالك مجالات عدة متعلقة بتأثير المكان: ( الجغرافية الاقليمية: Regional geography) و(علم النفس البيئي: (Ecopsycholo و(سلطة المكان: The Power of Place).

الانسان مثل النبتة، ابن الارض والبيئة

ان (روح المكان) هي نتاج عوامل كثيرة معروفة ومجهولة، مثل نوعية التربة وكمية الشمس والريح والغيوم، بل حتى نوعية الغبار والجراثيم السائدة، لها تأثير في الانسان كما في الحيوان والنبات. ليس صدفة ان النخيل يثمر فقط في المناطق المشمسة مثل العالم العربي، ولا يثمر في اوربا الكثيرة الغيوم. بل حتى المناطق الصغيرة في داخلها ثمة اختلافات كبيرة. إذ ترى  نفس الجبل تختلف فيه الحياة والزراعة بين جهتيه المتعاكستين، التي تشرق عليها الشمس عن التي تغرب عليها الشمس!  كذلل اختلاف حيوانات المناطق الاستوائية في افريقيا والهند، عن حيوانات المناطق الباردة في جنوب وشمال الارض.

ان هذا يشرح سبب تلك الفروق الكبيرة في الشخصية والسلوكيات والعادات بين سكان الجبال والبوادي والبحار. كذلك سكان المناطق شبه المستوية والجافة والنادرة الغابات مثل العالم العربي، عن سكان اوربا الكثيرة التضاريس والبرد والانهار والامطار والغابات.(5)

ليس صدفة ان جميع الحضارات، لم تنشا في المناطق المعزولة والصعبة، مثل الجبال والبوادي والجزر والمنجمدة والاستوائية. جميع الحضارات المعروفة نشأت، اما في السهول النهرية، مثل مصر والعراق والصين، او على ضفاف البحار مثل الكنعانية والقرطاجية واليونانية والرومانية، ثم الحضارة الغربية الحديثة في اوربا وامريكا.(6) ان عظمة (الحضارة العربية الاسلامية) متأتية من جمعها الجغرافي لهذين الجانبين: النهري والبحري. اما الهضاب العالية المحمية بالجبال، مثل الاناضول وايران والمكسيك، فانها قادرة على خلق الدول القوية والامبراطوريات، لكن ارتفاعاتها وعزلتها الجبلية التي تمنح ناسها الصلابة والذكاء التنظيمي،  تمنع عنهم (الانفتاح النفسي والفضول المعرفي) التي هي شروط الابداع الحضاري.(7)

روح المكان وروح الوطن

لهذا، يصح القول بأن اي وطن او اقليم بمختلف جماعاته الاقوامية والدينية، مهما تميزوا عن بعضهم لغويا وثقافيا ودينيا، فأنهم رغما عنهم بشتركون بالانتماء الى (روح الارض) التي يشتركون بالعيش فيها. وبالتالي فأنهم ينتمون جميعا الى (تاريخ وشخصية هذه الارض). أي مثلا، ان (الكردي والتركماني والسرياني، في العراق وسوريا) رغم تمايزه اللغوي والميراثي، فأنه يشترك مع باقي العراقيين والسوريين بنفس (روح وشخصية) هذين البلدين، وينتميان لنفس تاريخهما. نفس هذا الكلام ينطبق على (القبطي والمسلم) في مصر، و(البربري: الامازيغي والعربي) في البلدان المغاربية.(8)

أنها حقا لخطيئة تلك الفكرة العرقية العنصرية والدينية السائدة: بأن الانسان ينتمي فقط لجماعته الاقوامية والدينية في كل مكان وزمان مهما اختلفت الاوطان وتباعدت الازمان.

ان اشنع مثال عنصري هي (العقيدة الصهيونية) التي الغت جميع (الفروق المكانية والزمانية) بين الجاليات اليهودية المشتته في العالمين الاوربي والعربي، واعتبرتهم (شعبا واحدا موحدا) يحق له الاستيلاء بالقوة على ارض هجرها منذ اكثر من الفي عام، وتبرير طرد شعبها الذي يقطنها منذ الاف الاعوام نحو(ارضه العرقية) المفترضة: الجزيرة العربية!!

***

سليم مطر ـ جنيف

......................

المصادر:

(1) ـ ابحث عن: ـ  روح المكان/ كذلك: / Genius loci كذلك: The Power of Place

(2) ـ ابحث في ويكيبديا: الجامع الاموي

(3) ـ عن (ابن خلدون والجغرافيا) ابحث عن:

ـ مقدمة ابن خلدون: الجزء الاول: القسم الأول من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا

ـ جغرافيا عالم الاسلام في فكر ابن خلدون: الياس بلكا

(4) ـ ابحث عن: فانغ شوي:  Feng Shui

(5) ـ ابحث عن دراستنا المنشورة:

ـ لهذا السبب نشأت لدينا(الاديان السماوية) ونشأت عندهم (الفلسفة)! سليم مطر

ـ عشرة آلاف عام من تاريخ العلاقات بين اوربا والعالم العربي: سليم مطر

(6) ـ ابحث عن دراستنا: ماهي الحضارة، وما فرقها عن الثقافة؟ .... هل نحن مقبلون على (حضارة عالمية جديدة)؟: سليم مطر

(7) ـ ــ دراستنا المنشورة: ثلاثة آلاف عام من الاحتلالاتن الاناضولية ـ الايرانية لبلداننا! سليم مطر

(8) ـ ابحث عن دراستنا المنشورة: ـ من اجل تدوين جديد لتاريخ العالم العربي، غير التاريخ العرقي الفومي السائد.. تاريخ الارض والانسان: سليم مطر

 

قارئي الكريم، انتبهت وانأ ادرس اللغة الاسبانية ومنذ سنين ان حرفا لا وجود له في ألف بائية هذه اللغة ألاتينية البديعة لا كتابة ولا لفظا صوتيا. لغة تكسوها ستار من كلمات فينيقية، امازيغية وعربية ولاتينية واسبانية بطبيعة الحال ورغم تعلمي هذه اللغة أي الاسبانية وانأ على أعتاب السبعين وكلغة عاشرة ليس بالأمر الهين.

سألني صديقي الايرلندي عن حالي مع هذه اللغة ؟

فقلت ما اسمعه بأذاني الأيسر يخرج فورا من الأيمن. خلاصة الحديث (مربط الحچی كما يقول العراقي) ان هذا الحرف المجهول تحول مع الزمن الى حرف اخر كما هي في المعادلات الحسابية أي (X) المجهول. هذا الصوت الجميل هو حرف (الشين) يعتبر أساسا للحروف الشمسية التي أخذت طبيعتها من كرم شعاع الشمس في بلاد الرافدين. تلك التي بدا البشر ومنذ الخليقة معرفة أهميتها ومن ثم عبادتها كمصدر للحياة والحكمة على الثرى . نعم تلك هي" الشمش" والحرف هو الشين (ش).

نصوص الكتابة في اي لغة تعكس البيئة التي تنشأ فيها و(ديناميكية) اي كلماتها تتغير زمنيا ومكانيا وبيئيا وترتبط بتلك البيئة والحالة العلمية والاجتماعية السائدة. اللغة كائن حي ديناميكي تتطور تتغير تنمو وأحيانا تموت. اما حروف الكتابة في اي لغة من لغات العالم فهي ليست من أساسيات تلك اللغة اي اننا نستطيع كتابة اي لغة في العالم ب الحروف الأبجدية او ألاتينية وحتى المسمارية والمصرية القديمة. لكل حرف او شكل معين او حتى صورة صوت لفظي يقابله. اللغة المصرية القديمة فك رموزها عن طريق اكتشاف حجر الرشيد الموجود الان في المتحف البريطاني لوجود نص كتب بلغات ثلاث على النص. وكون النص واحد اي مترجم وعن طريق كلمة واحدة وهو اسم الملك الذي تكرر في النص بثلاث لغات تمكن علماء اللغويات من فك رموز الكلمات ومعانيها. الان يمكن الغناء بكلمات من اللغة المصرية القديمة وحتى بلغات الحضارات الرافيدينة القديمة.

حروف ورسم الأصوات تغيرت عبر العصور ولا زالت تتطور خاصة ما يشمل الرموز وتلك الكتابة الرمزية التي تطورت كثيرا مع اكتشاف عالم الانترنت والتواصل الاجتماعي ونفهمها اينما كنا على كوكبنا الأرضي وهي غير صوتية اي ساكنة (صامتة) تماما كما في إشارة  وإشارات اخرى كثيرة لا نحتاج الى قاموس لفهمها. هذه الإشارات تستخدم وتقرئ ساكنة اي دون إصدار اي صوت وأهمها ربما الإشارات المرورية.

هنا أود ان اروي لكم حادثة عن الپيشمرگة ابان اشتعال الحرب في ربوع كوردستان في ١١ ايلول من عان ١٩٦١ وقادها الخالد مصطفى محمد البارزاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني فكان على المخابر ان يتحدث عن طريق ألاسلكي بالشفرة مع المقاتلين على قمم الجبال الاخرى كي لا يفهم  ما يقال وقد فطن احد الپيشمرگة ان اللهجة الهورامية للتخاطب، وهي لهجة جبلية، صعبة لا يجيدها حتى الكورد أنفسهم فطلب من المراسل في الجهة التي يراسلها عبر جهاز ألاسلكي ان يبحث عن من يعرف تلك اللهجة وبذلك تمكن من التواصل دون الحاجة الى تشفير المحادثة و دون ان يكشف احد سر حديثهم. ونرى اثار كل ذلك التعددية في اللهجات لحد الان خاصة في بلاد الرافدين وفي بعض المدن العراقية نرى عدد من اللهجات المختلفة وفي كل حي لهجة خاصة به. اما المحور الأخر لاستخدام الكتابة فجاء من التجارة وتوثيق المبيعات والمشتريات والديون والقروض والاتفاقيات التجارية وتوثيق مقدار المبالغ عدديا او الكيل  (الاوزان).491 quran

الكتابة بحروف معينة يسهل نطق الكلمات من ناحية ومن ناحية اخرى يتجنب المرء التكرار في الكتابة والتشكيل كما في حرف الشين في الانكليزية حيث تكتب بعشرات الأشكال وتلفظ كلها شين. وقد انتبه الى ذلك اللغويون في لغات اخرى فكتبوها (ș) وذلك بإضافة همزة تحت او على حرف السين. من المعلوم بان الأبجدية التي يكتب بها العربية والفارسية ولغات اخرى وكانت التركية العثمانية تكتب بها كذلك . كانت الأبجدية بشكلها فی اللغة الارامية قبل الاسلام قاصرة على اللغة العربية الحجازية واليهودية في كتابة التواه والمسيحية في الإنجيل. مخارج الصوت للبيئة الصحراوية الجافة في إخراج أصوات كما في حرف القاف ، الحاء، العين، الغين ولا تحتوي كذلك على صور لأصوات اكثر لينا من اللغات الأخرى كما هو ( ۆ ئ ێ گ ڤ چ ڵ پ( وتم استخدام الأحرف الأبجدية المعتادة مع تغيرات أجريت عليها كي تعطي لفظ تلك الحروف قاران مع الاتينية (w è e g v ç  ll p)  بالإضافة الى وجود أصوات لا تكتب خاصة في اللغة الكوردية وفي التركية مثلا تم تغير حرف ألاتيني  ( i ) دون التنقيط

(ı ) أي للفظ ذلك الصوت ولم يتوفر مثلا صورة في ألاتينية لحروف ( ع غ ح خ ) الأبجدية في حين كتب الجيم (c) والحاء والخاء   (h ) والغين (ğ) والعين a) ) كما في اسم علي ، Ali  والضاد، الزاي والذال (z  ) كما في كلمة ظالم zalım ,

ترجيح الكتابة بإحدى الصور لا علاقة له باللغة القومية اي صورة الحروف الهجائية غير قومية. يمكن كتابة العربية بالحروف ألاتينية باتفاق اللفظ مع القارئ كما فعل الجمهورية التركية حين اصدر قانونا بتغير الأبجدية الى الحروف ألاتينية. هذا التغير يمكن تفعيلة لمعظم لغات العالم وتوحيد ألف بائية لجميع لغات البشر.

الا اننا نجد اتجاهات بهذا المسار مثلا في كتابة نصوص الإنجيل بجميع اللغات الاستثناء نراه في النص ألقراني المنحصر باللغة العربية والتوراة بالعبرية في حين يمكن كتابة نصوص الإنجيل وكما ذكرت باي لغة كانت وباستخدام اي خط و حرف من اي لغة: العربية، اليونانية، السلاڤية (السيريلية)، ألاتينية ، اليابانية، الصينية وكتابات اخرى ومن جميع أنحاء العالم وذلك لان فهم النص والمرويات عند التعبد كان اهم للناس ولم يتم تقديس كتابة او لغة النص كما هي عليه في العربية والعبرية مثلا.

كانت هناك عدد من المحاولات بكتابة النص القرآني بالفارسية والتركية وحتى بالبوسنية وشاهدت حتى كتبا ترجم فيها معنى النص الى الانكليزية و السويدية لكنها تبقى نصوص خارج النص العربي ولا يمكن التعبد بها فنحن نصلي بالعربية مهما كانت لغتنا إلام القومية وأينما كنا.وهذا يعني بدوره ان من يتكلم لغة ما ويجيدها وينتمي الى ثقافتها ليس من مطلوبا منه ان ينتمي الى ذلك القوم.

لا ريب ان حتى نصوص القران في بداية التدوين لم ترسم بالحروف الأبجدية الحالية ولم تكن هناك تنقيط او تشديد (الشدة والضمة والفتحة والكسرة، التسكين) وأمور أخرى يتحكم بتلاوة النص الحكيم من الوقفة الإلزامية والاسترسال وعدم التوقف. الحروف القديمة لكتابة النص كانت معروفة قبل ١٤٠٠ عاما ويكتب بها لغات اخرى في الجزيرة العربية كالحروف الكتابة بخطوط من الفينيقية والمصرية القديمة و الآرامية (الكنعانية) والمسندية (اليمنية).

اما الكتابات الأبجدية الحالية بجميع إشكالها (الرقعة، الديوان، النسخ، الكوفي، المحقق، الريحاني، المكسر، الثلث، الفارسي، المغربي التركي، ......) فكلها مستحدثة ولا علاقة لها بالشكل الذي ورد عند تدوين القران الكريم أيام نزول الرسالة المحمدية.

تشكيل الصوت اي إعطاء شكل للصوت الصادر من الحنجرة بدا مع الكتابة وفي الحضارات الشرقية والحاجة ام الاختراع كما يقال والحاجة للكتابة بدأت على محورين احدهما ديني استغل حصيرا من قبل رجال الدين والكهنة وأقربائهم وبقت بعيدة عن عامة الناس اذ بقى العامة يتحدثون بلهجاتهم الخاصة بهم وبما ان التواصل والسفر بين الأقوام كان صعبا جدا فكانت بعض العوائل تتحدث بلهجات خاصة بها تستخدمها كسلاح كي لا يفهم الآخرون ما يتحدثون به من إسرار.

تبقى مسالة توحيد لغات العالم قراءة وكتابة لتسهيل الاتصالات والتفاهم بين الشعوب أمل و حلما نبيلا للبشرية جمعاء في المستقبل.

***

د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

2024

 

لطالما كانت الطلاقة في الحديث من أهم الصفات التي تميز العرب، وقد أضحت هذه السمة جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الثقافية. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيان": "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق، ولا ألذّ في الأسماع، ولا أشدّ اتّصالاً للعقول السليمة، من طول استماع حديث الأعراب العُقَلاء الفُصَحاء والعُلَماء البُلَغاء."

تتجلى هذه الطلاقة في كل زاوية من زوايا الحياة العربية، حيث يُعتبر الحديث فناً يُمارَس بشغف وإبداع. تبرز قدرة المتحدث على استخدام اللغة كأداة لنقل الأفكار والمشاعر، مما يخلق جواً من التواصل العميق بين الناس. فكل كلمة تُنطق تحمل في طياتها عبق التراث وجمال البلاغة، مما يجعل كل حديث تجربة فريدة تنسج خيوط التواصل بين الأجيال.

بالطلاقة إننا نقصد عذوبة النطق التي تضمن التواصل السليم وترتبط مباشرة بالذكاء اللغوي لدى الفرد والذكاء اللغوي أحد أنواع الذكاءات التسعة التي تشكّل نظرية عالم النفس الأمريكي هوارد جاردنر. يعرّف الباحثون الذكاء اللغوي بأنه القدرة الفعالة علی استخدام اللغة في تحقیق أهداف معینة، مثل التعبیر عن النفس وفهم المعاني والاستماع الفعال وتذكر المعلومات والتعبیر عنها وأیضا التحدث بطلاقة وفاعلیة.

في هذا الشأن حاولنا اختبار الذكاء اللغوي أو قياس الذكاء اللفظي من خلال اختبار طلاقة اللسان وعذوبة النطق (باللغة العامية السليمة) على ١٦٣ فردا من الأهوازيين (٧٥ من الذكور و٨٨ من الإناث ) في الفئة العمرية بين ١٩ إلى ٢٣ عاما، فطلبنا منهم أن يتحدثوا عن موضوعٍ شرحنا تفاصيله دون انقطاع ودون خلط مفردات أو عبارات فارسية لثلاث دقائق. بعد إدارة البحث وجمع وتحليل وتفسير النتائج أظهرت النتائج أن نسبة الطلاقة عند العينة المستخدمة بلغت نحو ٣٠ بالمئة مما تشير إلى ضعف واضح في الذكاء اللغوي لدى الأهوازيين. استطاع ٥٤ فرداً من العينة (٤٣ من الذكور و١١من الإناث) أن يتحدثوا عن الموضوع المناقَش وفق قواعد منهجية واستخدام مفردات جيدة تضمن التواصل السليم مع المخاطب أي كان تدفق الكلمات لديهم طبيعيا إلى حد كبير. أما النسبة المتبقية (أي نحو ٧٠ بالمئة من العينة) فكانت ضحية اضطرابات لغوية كالتلعثم والتأتأة أو عدم تهجّى الكلمات بدقة، خلط الموضوع بمواضيع أخرى غير مرتبطة، اللجوء للمفردات الفارسية، الصعوبة في إيجاد المفردات المناسبة، النطق بجملات غير متماسكة، والتحدث بعبارات فارغة تفتقر إلى أي معنى.

تثبت هذه النتائج أن معظم الأهوازيين يعانون لغوياً بمعنى أنّ لديهم اضطرابات لغوية عند التحدث والتواصل السليم مع الآخرين شفوياً فلا يستطيعون أن يتحدثوا لدقائق (أو حتى لثوانٍ في بعض الأحيان) بلغتهم العربية السليمة) على الرغم من معدل ذكائهم الطبيعي وسلامة بقية المهام والقدرات فيهم.

بالطبع الأسباب التي تؤثر في تضعيف الذكاء اللغوي كثيرة نطرح ثلاثة منها هنا، فإذا وضعنا الفروق الفردية جانبا هناك:

الف) البنية المعرفية السابقة والتي تأتي من القراءة والاستماع للحوارات المفيدة وهذه ما تفتقدة معظم الأسر الأهوازية فعملية المعرفة وتطويرها شبه معدومة في الأسرة العربية وتُعوّل الأسر غالبا ما على المدرسة والنصوص المدرسية باللغة الفارسية التي قلّما يفهمها الأطفال.

ب) ذكاء الفرد اللغوي يرتبط بالظروف المحيطة ودرجة احتكاكه بالناس وتفاعله الاجتماعي. ينبغي أن تبعث البيئة التي يعيش فيها الفرد روح الثقة بالنفس، والمشاركة في الحديث مع الآخرين بعيدا عن الاستهزاء والسخرية

ج) التذبذب بين اللغتين العربية والفارسية وعدم اتقان كل لغةٍ على حِده. التذبذب يحدث حالة من الضياع والتشتت في ذهن الفرد مما يعسّر عملية النطق بطلاقة. لم يتقن أغلب الأهوازيين اللغة العربية السليمة فتراه يمزج بينها وبين الفارسية للتعبير عن نفسه وهذا يضر بلغته العربية لا محال. إنه لا يتقن الفارسية أيضا ليعبر فيها عن رأي أو خطاب يدور في ذهنه لذا تراه ضيّع المغنمين. نحن نعي أن تعلم أي لغة مفيد للعقل لكن هذا ليس معناه أن نتعلم لغة جديدة وننسى لغتنا أو نخلط بين هذه وتلك ولتكن كل لغة في مكانها ومكانتها.

الذكاء اللغوي مهم جدا لاشك أن التفكیر عند الفرد یرتبط بذكائه اللغوي ویمثل هذا الذكاء أكثر من 80% من نسبة نجاحه في التعلّم ومن دونه یصبح التعلیم المدرسي والجامعي محبطا كما یرتفع معدل الفشل لدی الأفراد بشكل كبیر علی الرغم من كفایتهم في الذكاءات الأخری ( الاحصائيات الرسمية تؤيد الفشل الدراسي في الأحياء العربية). أيضا أثبتت الدراسات أن 85% من ذكاءات الفرد في الحياة كالذكاء العاطفي، والذكاء المنطقي الرياضي وغيرها تعود إلى تواصله اللغوي.

إذن من منطلق أنّ معرفة المشكلة وتحديدها أهم نقطة في حلّها ينبغي إعمال المطلوب سريعا على ضعف الذكاء اللغوي بغية تحسينه لدى الأهوازيين وهناك أساليب عدة لهذا الغرض نشير إلى بعضٍ منها:

* الاستماع وتعويد الأذنين على الخطب والحوارات والأخبار والأفلام العربية حيث تتضمن مفردات وأساليب لغوية سليمة

* القراءة أو الاستماع للقصص العربية المتوفرة في الكتب وفي الشبكة العنكبوتية،

* تحفيز الدماغ من خلال حل الألغاز اللغوية العربية

* التحدث عن موضوع محدد أي تنفيذ حلقات نقاشية في الأسرة وبين الأصدقاء

* اهتمام الأسرة بقراءة القصص العربية لأطفالهم عند النوم

* حث الأطفال على حفظ سوَرٍ من القرآن الكريم وأيضا حفظ الأناشيد العربية وقراءتها أمام أفراد الأسرة والأصدقاء

* تفعيل وتنشيط القنوات العربية للصغار والكبار.

* الاستمرار بحملات قل و لا تقل.. (مثلا قل زقاق / "دربونه" لا تقل كوچه)

* تطبيقات الهواتف الذكية: الاستفادة من التطبيقات التعليمية المتخصصة في اللغة العربية، التي توفر تمارين تفاعلية وتحديات لغوية تساعد في تحسين المفردات والقواعد.

* المشاركة في المسابقات الأدبية: تشجيع المشاركة في مسابقات الكتابة أو الشعر، حيث يمكن للأفراد التعبير عن إبداعاتهم وتلقي الملاحظات البناءة.

* كتابة اليوميات: تشجيع الأفراد على كتابة يومياتهم باللغة العربية، مما يساعدهم على التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكل منتظم.

* مشاركة المحتوى الثقافي في الفضاء الافتراضي و الحقيقي.

كل هذه الأساليب تعمل على معالجة الاضطرابات اللغوية المتفشية وتحسين  الذكاء اللغوي وتعزيز مهارات التعبير بشكل ملحوظ لدى الأهوازيين. إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب عناية خاصة من الجهات المعنية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية الحکومیة والحرة، والمثقفين، والإعلاميين الذين يمتلكون القدرة على التأثير.

يجب أن تتضافر الجهود لتطوير برامج تعليمية وورش عمل تهدف إلى تعزيز الطلاقة اللغوية، بالإضافة إلى إنشاء محتوى إعلامي يساهم في نشر الوعي حول أهمية اللغة العربية غير المشوهة. كما ينبغي تشجيع المجتمع على المشاركة الفعالة في هذه المبادرات لضمان تحقيق نتائج إيجابية ومستدامة في تحسين الذكاء اللغوي لدى الأجيال القادمة.

***

د. سعيد بوسامر/ كاتب وباحث من الأهواز

.............................

المصادر التي راجعها الباحث:

-Shabibi asl. Nadereh. (2015). The impact of storytelling on verbal intelligence of preschoolers in Ahwaz. J.Appl. environ. Biol. Sci, 5(11s). 839-843.

- بوسامر، سعيد. أنا لغتي: دراسة حول اللغة الأم وتنميتها في الأهواز. نشر قهوة.

- جواد، حنافي. نظرة في الذكاء و الذكاءات. نشر في: www.alukah.net

- محمد، أسماء. تنمية الذكاء اللغوي للصغار والكبار. ٢٠٢١.

- يوسف، معاذ. دليل الطالب الشامل للتعامل مع أنواع الذكاء المختلفة . ٢٠٢٠. نشر في: www. Arageek. com

يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.

ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.

فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.

إذ يتربّع كثير من مقاوِلي الثقافة في الغرب على أقسام الاستشراق والاستعراب، وعلى كثير من مجالات البحث الأثري والأنثروبولوجي وما شابهها، وتروج أسماءهم على الألسن ويشيع صيطهم في الداخل والخارج، بَيْد أنّ التعامل معهم عن قرب يكشف للمرء عن رِجال مقاولة وصفقات ربحية، لا أصحاب مشاريع بحث علمي أو حوار حضاري، مثلما يردّدون كلّما سنحت الفرصة لهم باعتلاء المنابر العالية. تراهم يصطادون الجوائز السخية في الشرق، وثمة منهم من يقدّم الطلب تلو الطلب، بلا استحياء، مستجديا الجائزة الفلانية على اعتبار أنه الأجدر بها. وثمة من يختلق المشاريع الثقافية المزيفة (مجلات، مؤسسات بحث، أعمال ترجمة، عقد ندوات) لخلق وجاهة واهية لابتزاز االطيبين في الشرق بدعوى خدمة الثقافة العربية أو الصينية أو الفارسية أو غيرها.

يدفع هذا الوضع المريب المثقفَ المهاجرَ للتريّث والتأمّل، في مسعى للقيام بجرد حساب، أمام ما تتكشف لناظريه من أشغال المقاوَلة في قطاع الثقافة، تغلب فيها المصلحة ويتقلص منها الإبداع. إذ ثمة أسماء غربية في حقل الاستشراق، وفي حقل دراسات الأدب العربي والترجمة من العربية، يتحولون في الشوط الأخير من مشوارهم الأكاديمي إلى عرّابين لا إلى أعلام ومراجع، يرتّبون الصفقات بين الداخل والخارج لا غير. فبناء على رصيد الشهرة المتراكم في ماضي السنوات يغدو تكفّلهم بأي إنجاز ثقافي مبنيّا على تقييم مادي، وغالبا ما يُحوَّل إلى المتعاونين والمساعدين والطلاب. حضرتُ يوما مشادة كلامية بين مستعرِبة عرّابة ومترجم عربي أجير، لأنّ العرابة في غفلة منها، أُسقط اسمها من العمل المنجز، ولم يظهر على الغلاف الرئيسي فقامت الطامة الكبرى.

يراودنا سؤال أيّ دور ملقى على عاتق مثقف المهجر؟ في واقع الأمر ينبغي ألا يُحمّل هذا المثقف ما لا يحتمل، وألا يثقل كاهله بالالتزام، أو يُطلب منه ليتحول إلى جسر تعبر على عاتقه الأفكار والأخبار، ولكن تكفي شهادة صادقة له عن واقع لطالما افْتقدنا إلى الإلمام بخباياه من الداخل.

***

د. عز الدين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما-إيطاليا

 

علينا أن ندرك بدايةً أن للتطرف أسباب وتداعيات، وأن بداية المشوار الحديث بدأ من تنظيم القاعدة كنموذج ظلامي للتطرف الديني.

التطرف هو ثقافة، وموجود منذ القرن الأول الميلادي، ومن ثم في العصر الإسلامي، ومن ثم على هامش الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة، حيث استغلها متطرفون وهدموا العديد من الكنائس ومحتوياتها، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ. والعقلية الدينية المتطرفة في المجتمع العربي هي سبب تخلّف هذه المنطقة من خلال الإقصاء والتشدد في الأمور. ومن خلال الإكراه في الدين والعنف في المواقف. فلو أخذنا كلمة " الأمن " تراها مفردة واحدة، ولكن مفهومها شامل وتحتاجه كل الدول والشعوب وفي كل مجالات الحياة، فهناك بكل تأكيد أمن عسكري، وآخر غذائي، وأمن إقتصادي، وأمن فكري، وأشياء أخرى يحتاجها الإنسان لحماية نفسه، ولعل أهمها هو الأمن الثقافي الذي يمثّل أحد أهم إحتياجات الإنسان التي تضمن له نوعاً من الاستقرار والسلم الأهلي، وشروط استمرارية الحياة في مجالٍ آمن، ومن خلال الإرتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض بالأمة ويحصّن الوطن، ويصون المجتمع من خلال سياسة الحكمة والتسامح والتعايش. لذلك نرى أن أهم أسباب التطرف هو سوء التعامل السياسي بين السلطة والشعب بكل مكوناته وأطيافه، وغياب العدالة، وغياب العدل، إضافة إلى قمع الحريات وتهميش بعض مكونات المجتمع، ومضاعفة نسبة التخلف والجهل، وتحقيق زيادة في نسبة الفقر بدلاً من التقدم والرفاهية. ورغم كل ما واجهته المنطقة من التطرف والإرهاب خلال السنوات السابقة إلاّ أن الحكومات والمنظمات ولغاية الآن لم يضعوا خطةً أو برنامجاً جاداً لمواجهة التطرف بكل أشكاله، ولو على مستوى مشاريع قوانين أو آليات لمكافحة التطرف. وعلينا أن نعي بأن التطرف الديني والمذهبي صفةٌ طاغية في التاريخ العربي الإسلامي، ويظلّ أساس التطرف الديني أصل في تراثنا الفقهي، وكتب تاريخنا العتيدة، حينما يُنصّبون أنفسهم أوصياء بإسم الله على الناس، فإمّا أن يكونوا معهم أو يُقتلوا، لأنهم الفرقة الناجية من النار، وسواهم كفّار قتلهم واجب " كما يقولون ". لذلك أرى ومن باب الحرص على الثقافة والمجتمع والدولة والأمة، أنه لا بد من نقد وتنقية كتبنا وإعادة مراجعتها وبتر سياسة الإقصاء والكراهية ومبدأ الفرقة الناجية دون سواها. كما لا بد من رفع نظرة التقديس لّلآراء والنصوص والأفكار واستبدالها بسياسة المنطق والعقل، وبالتالي إطلاق حرية الفكر والعقيدة والتعبير عن الرأي. ومن جهة أخرى لا بد من تحرير الناس من تقديس البشر وعبادة الأشخاص، وتأهيلهم كي يُحاكِموا الأقوال والأفعال بدل سياسة الجري خلف الأشخاص كقطيعٍ من الغنم. فما نحتاجه هو أصوات معتدلة تدافع عن الآخر، وحكومةٌ تحمي الآخر، وقصرٌ جمهوري ينطلق منه صوت الشعب، حينها سيُعاد بناء الثقة، ويرتفع خطر التطرف والإرهاب، ويتم ترميم سلمنا الإجتماعي والثقافي والسياسي بشكلٍ تدريجي وسلس. وأنا هنا لا أقول بأن التطرف سينتهي أو يتلاشى، لكنه سيخفّ ويهدأ ويضعف، وقد يعود فيما إذا وجد أن هناك ظروف ملائمة لانتشاره من جديد. ومن هنا نؤكّد على ضرورة حاجتنا إلى تأسيس مركز لتشخيص الفكر المتطرف وعلاجه، ورعاية وتأهيل المتأثرين به، بهدف التأثير في تركيبتهم الفكرية المتطرفة وبترها. من خلال البحث الجاد في موضوع الحوار والوسطية و الاعتدال لبلورة المواجهة بطريقةٍ تتضمن البُعد الفكري والإستراتيجي. ولعل من أهم الأمور التي تساعدنا في محاربة التطرف والإرهاب هي ترشيد ومراجعة وتوجيه الخطاب الديني، ورفع مستوى تأهيل الأئمة والخطباء بهدف مواجهة التطرف الفكري ومنابته. ومن الأهمية بمكان مراقبة مواقع التواصل الإجتماعي التي هي نافذة حيّة لمحاربة ومكافحة التطرف. وعلينا أن نأخذ بعين الإعتبار أن المجتمعات الشرقية من السهل إختراقها عاطفياً، لأنها مجتمعات تربّت على كمٍ كبير من العاطفة على حساب التوجيه النصي والفكري والعقلي، فالبنية الفكرية الشرقية تميل إلى البساطة والتديّن، وهكذا تركيبة تكون مهيّأة لّلإستغلال والإختراق، لذلك لا بد من رفع مستوى الوعي معهم وعندهم، من خلال الأمن الثقافي والفكري كمنظومة متكاملة، التعاون والتنسيق مع الآخر مهم مع بقاء سمة التعددية والتنوّع كبصمةٍ وطنية، مع ثوابت حفظ الحقوق وتحريم وتجريم العنف والإعتداء على الآخر، والمحافظة على التعايش والمواطنة والتآلف وعلى الهوية الوطنية. لأننا لو قاربنا الأمور أو الواقع لثبت لدينا أن من أهم أسباب العنف والتطرف والإرهاب هو أن القمع في دولةٍ ما ألغى السياسة فيها وفي مجتمعها، وتحوّلت السلطة من خلال القمع إلى مجالٍ للتوحّش السياسي ضد الفرد والجماعة، ومن خلال هكذا واقع خرجت فئآت شبابية بشكلٍ خاص على مجال التوحش السياسي الرسمي من خلال لجوئها إلى تنظيماتٍ متطرفةٍ دينية، وراحت تناهض الأنظمة الإستبدادية من خلال العنف والتطرف الفكري والإرهاب الديني والثقافة التكفيرية، بمعنى أنها تكفّر الآخر بغض النظر إن كان مسلماً أو من طائفةٍ أخرى وتنبذه وتقصيه وتقتله. ومن خلال هذا السياق نقول أن ثقافة الفكر التكفيري هي من نتاج التعليم الديني المتشدد أو من القراءات السطحية للنصوص، ومن هنا تكمن العلّة الأكثر عمقاً وراء طغيان الإرهاب التكفيري. كما أن هناك أسباب اقتصادية لانتشار التطرف، مثل الفقر، والتهميش والبطالة، والمرض والجهل، وسوى ذلك من أمور كانت مناخاً مليئاً باليأس والإحباط، والذي دفع ببعض الشباب أو بكتل شبابية إلى الإلتحاق بتشكيلات الإسلام السياسي المتطرف، لمواجهة السلطة والتحرر من اليأس والإحباط والفشل.

المتطرف يستخدم العنف لجعلك أو إجبارك أن تؤمن بفكرته وعنفه وتطرفه ورؤيته. لذلك كي نحارب التطرف والإرهاب علينا أن نُصلح كل الأجهزة الأمنية، ونحسّن نظام التعليم، ونطوّر قطاع الأعمال والصحة والخدمات، وإصلاح القضاء، ودعم قدرات الشباب، بهدف إصلاح الدولة والمجتمع والفرد.

بيئة الفساد الفكري والسلوكي والاقتصادي بمرور الزمن تبيد المجتمع، وتبقى أجهزةٌ بعينها مستفيدةٌ من الفساد ومتورطة فيه، لذلك إن التداول السلمي للسلطة يفتح طريقاً فسيحاً لإستيعاب مختلف الطاقات و عملها بصورةٍ حقيقية، ويقف حائلاً أمام نشوء سلطةٍ منغمسة بالمال الفاسد، ومستفيدة من المتطرفين لترسيخ وحماية وجودها.

إن الفهم الخاطىء للدين ومبادئه، والإحباط الذي يلقاه الشباب نتيجة افتقادهم المُثل التي آمنوا بها في سلوك المجتمع. والخطأ في إدراك حقيقة المثل العليا وطبيعة المجتمعات الإنسانية وأسلوب الإصلاح، وشيوع القهر والقمع سواءً كان على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الشارع أو المجتمع والدولة، وغياب الحوار المفتوح، كل هذه الأمور وسواها هي السبب الرئيسي والأساسي لإثارة التطرف والعنف وليس علاجاً له. فلذلك إن مواجهة ومحاربة ظاهرة التطرف تتطلّب وضع إستراتيجية طويلة المدى على المستوى القومي ترتكز بشكلٍ أساسي على ضرورة التطوير الحقيقي للتعليم في كل مراحله، وتشجيع النقاش والنقد، والإبداع والإبتكار، ومحاربة الفساد بكل صوره وأشكاله، والعمل على إقامة مشروعٍ تنموي نهضوي حضاري وشامل يكون عماده كل مكونات المجتمع كوضعٍ وكمشاركةٍ وتنفيذاً، مع إعلاء قيم العمل والعلم والثقافة والهوية والولاء والإنتماء، وإطلاق سياسة الحريات والتعددية والتداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، والربط الجوهري بين العطاء للمجتمع والعطاء للفردِ أو المواطن.

قولاً واحداً إن التطرف لا يُواجه فقط بالسلاح، بل يواجه من خلال الثقافة والوعي والفكر والعلم ومحاربة الفقر، وإشاعةِ سياسة التعايش بين كل مكونات المجتمع الذي يجب أن يكون متآلفاً ومتساوياً في كامل حقوقه وواجباته من خلال سيادة القانون.

***

بقلم الكاتب: أنور ساطع أصفري

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

ناقشنا مع (ذي القُروح) ما أثاره بعض المحدثين ممَّا يزعمه تناقضًا في آيتين متجاورتَي الورود من (سُورة النساء: الآية 78 و79)، وهما: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ، وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّـهِ! فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، وَكَفَى بِاللَّـهِ شَهِيدًا.» وتساؤله: ألم يَقُل كلٌّ من عندالله؟! فكيف يعود للقول: « وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ»؟  وقول ذي القروح: إنَّك لن تجد أبلغ من الإجابة عن هذا التساؤل بالسؤال القرآني نفسه: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!» ذلك أنَّ الآية الأُولى تشير إلى الإرادة الإلاهية المطلَقة في كلِّ شيء، من حَسَنٍ وسَيِّء، والثانية إلى السبب البَشَريِّ المباشر، حسب السُنَن في عالم الكون والفساد.  ولا تناقض بين الأمرَين. ذلك أنَّ الإنسان، عادةً، يعرِّض نفسه وغيره للبلايا والمصائب، ثمَّ يجأر بالشكوى إلى الله. وهذا معنى الآية: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ.» كما جاءت الآية في معالجةٍ للتطيُّر عند العَرَب، وما كانوا ينسبونه ممَّا يصيبهم إلى النَّحس، أو الجنِّ، أو الشياطين، أو حتى إلى الرسول نفسه. وهي عادة لدَى الشعوب البدائيَّة عمومًا، تنهض على ما يُسمَّى (المغالطة البَعديَّة، أو السبب المتوهَّم). قلتُ:

ـ ومن جانبٍ آخر، تُشير إلى ما كانوا ينسبونه من هزيمةٍ إلى سوء تدبير الرسول.

ـ نعم. أمَّا إنْ كان ظَفَرٌ، فكانوا يُنكرون حُسن التدبير على الرسول، وينسبون ذلك إلى الله وحده! فأخبرَ أنَّ النصر والخُسران معقودان في نهاية الأمر بإرادة الله، التي كأنَّما هم لم يراوغوا لإسقاطها إلَّا لغرضٍ، وهو تجريد الرسول من الفضل، ورميه في المقابل بالتسبُّب في ما يقع لهم من سوء.  فأخبرَ أنَّ المتحكِّم في ذلك جميعًا هو الله.  ثم أردف تفصيلًا: بأنَّ ما يصيب المرءَ من سيِّئةٍ فبسبب أعماله هو، من عقابٍ على ذنبٍ أو تقصير في عمل.  ولذلك جاء الخطاب في الآية الأُولى للجمع، ثمَّ جاء، في الآية الأخرى، للحديث عن العمل الفردي، فنبَّه إلى مسؤولية الفرد في ما يقع له. وما كان ليقول: «ما أصاب من سيئة فمن الله» هنا؛ فالله لا يصيب بالسيِّئات، وإنما تقع بذنب، أو لتقصير، كما في الآية من (سُورة الشُّورى): «وَمَا أَصَابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ». أمَّا الإحسان، فما كان ليقول: «ما أصاب من حسنة فمن نفسك»، فالإحسان كلُّه من عند الله، إنعامًا أو توفيقًا. 

ـ إنَّه الفارق، إذن، بين الكلام عن الحاكميَّة والكلام عن السببيَّة.

ـ صحيح. فالحاكميَّة المطلقة لله، وكلُّ شيءٍ من الله، ولا يجري إلَّا بإذنه، أمَّا السببيَّة، فلها قانونٌ كونيٌّ وسُنن، لا تخطئ: من اجتهدَ نجح، ومن أهمل فإلى حيث ألقت. 

ـ فأيُّ تناقض؟

ـ إنما القائل بهذا يضاهئ حمقَى الملحدين، الذي يزعمون التناقض في الآيات: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ: رَبِّ، هَبْ لِي مِنْ لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ: أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّـهِ، وَسَيِّدًا، وَحَصُورًا، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ: رَبِّ، أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ؟! قَالَ: كَذَلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.»  فيقول الملحد: كيف يَستغرب (زكريَّا) الإجابة، وهو الذي دعا، وقال: «إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»؟  وواضح أن هذا القائل لا يقرأ.

ـ كيف؟

ـ بمعنى: لا يفهم ما يقرأ.  لأنَّ أيَّ عامِّيٍّ يفهم أنَّ (زكريَّا) لم يقل في الدُّعاء: رَبِّ، هَبْ لِي مِن لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، مِنِّي، أنا الطاعن في السِّن، ومن امرأتي العجوز العاقر (أليصابات)!  فالذُّرِّيَّة ليست بالضرورة من أبناء الصُّلب، فأبناء الأخ والأخت يُعَدُّون من الذُّرِّيَّة، فضلًا عن الأحفاد والأسباط.  بل أبناء العمِّ، وأبناؤهم من الذُّرِّيَّة.  فالمعنى يشمل غير الأبناء، من الأقرباء، وبخاصَّة الورثة منهم.  فتلكم «ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ.» إنَّ الذُّرِّيَّة في اللُّغة لها معانٍ كثيرة، لكنَّ أولئك لا يتعاملون مع العَرَبيَّة التي نزل بها «القرآن»، بل مع عامِّيَّاتهم المعاصرة، وبعض شذرات مدرسيَّة مختلطة من العَرَبيَّة في رؤوسهم. ومن معاني الذُّرِّيَّة في اللُّغة: النِّساءُ، والأطفال.  جاء في الحديث: أنَّ الرسول رأى امرأةً مقتولة، فقال: «ما كانت هذه تُقاتل! الحَقْ (خالدًا)، فقل له: لا تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً، ولا عَسيفًا!»  بل الذُّرِّيَّةُ: الآباء والأجداد، كما في الآية: «وآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُون».  وبذا فهؤلاء النَّقَدَة الأدعياء لا يقارِنون المفردات حتى في «القرآن» نفسه.  والذُّرِّيَّةُ: الطائفة من الناس، قال: «فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْن.» 

ـ هذا، كما قلتَ، يدل على أنَّ هؤلاء لا يقرؤون حتى «القرآن»، الذي ينتقدونه، ليقارنوا بين نصوصه، كي يفهموا دلالات الألفاظ. 

ـ ثمَّ يتبجَّحون، وكأنَّهم قد اكتشفوا اكتشافاتٍ خطيرة.  لكن لنسلِّم أنَّ المقصود بالذُّرِّيَّة الأولاد من المرء نفسه.  لقد كان تعجُّب (زكريَّا) لدهشته من سرعة الإجابة، كما تعجَّبت (مريم)، وكما تعجَّب (إبراهيم)، حتى قال: «رَبِّ، أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى؟!»  والمرء، من فرط فرحه، قد يقع في مثل هذا الاختلاط، وعدم التصديق.  ولعلَّ زكريَّا أيضًا إنَّما كان يدعو الله أن يهيِّئ حاله وحال امرأته أوَّلًا للذُّرِّيَّة؛ لأنه قد بلغ من الكِبَر عِتِيًّا، وامرأته كذلك، وفوق ذلك هي عاقر.  ولذا لم يقل «هَبْ لِي ذُرِّيَّةً»، بل «هَبْ لِي [مِنْ لَدُنْكَ] ذُرِّيَّةً.»  فهو مؤمن بقُدرة الله، غير أنَّه بقي محلُّ التساؤل لديه والتعجُّب: كيف تكون الذُّرِّيَّة منه، وقد بلغ من الكِبَر عِتِيًّا، ومن امرأته وهي عاقر.  فلمَّا جاءت البِشارة بيحيى، أو (يوحنَّا المعمدان)، تعجَّب من البِشارة بالولد مع عدم تغيُّر الظروف، فتساءل: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ، وَامْرَأَتِي عَاقِر؟!»  بدليل أنه قال: «رَبِّ، اجعلْ لي آية.»  فهو متعجِّب ممَّا يسمع.  هذا كل ما في الأمر.

ـ وهو موقفٌ واقعيٌّ وإنساني، ويمكن أن يشاهده هؤلاء في أي حادثةٍ واقعيَّةٍ أو سرديَّةٍ أو حتى سينمائيَّة، ولا تَنقاض في الموضوع، لولا المماحكات والتمحُّل. 

ـ واحتمالٌ آخَر وارد. وهو أنَّ الدُّعاء لم يكن في الوقت نفسه الذي أُجيب فيه.  وإنَّما نادته الملائكة، وهو قائمٌ في المحراب، في وقت لاحق. 

ـ الأمر هكذا أبسط حتى من افتراض بعض المفسرين، كـ(الطبري)، أن (زكريَّا) تشكَّك هل الصوت هو صوت الملائكة، أم صوت الشيطان؟ 

ـ وما أدراهم بحدوث ذلك التشكُّك؟!  وكيف هذا اللجوء الجاهلي، إزاء كل جهل، إلى تعليقه بالجِنِّ والشياطين لحلِّ الألغاز؟

ـ ما أكثر ما يهرف المفسِّرون- من أكياسهم أو من إسرائيليَّات «العهد القديم» و«التلمود»- بمثل هذه الخزعبلات الخياليَّة، التي ما أنزل الله بها من سُلطان! وكأنَّهم مفسرو رؤى مناميَّة لا مفسرو نصوص!

ـ لا تنس أنَّ هؤلاء، وإن لُقِّبوا بالعلماء، كان مفهوم العالم في عصرهم إنَّما يعني: الحافظ والراوية. الحافظ هو العالم، وإنْ لم يكن يعقل ما يحفظ، ولا ينقد ما يروي. وتراثنا العَرَبيُّ مليء كلُّه بحطب اللَّيل هذا، الذي كانت تُملَأ به الرؤوس ثمَّ يُفْرَغ على الطُّروس.

ـ وكلَّما كان الحطب أثقل حظي حامله بوصف العلَّامة النحرير!

ـ إنَّ موقف (زكريَّا)، إذن، لدَى تبشيره بـ(يوحنا المعمدان/ يحيى) هو موقفٌ إنسانيٌّ طبيعي، و«القرآن» يقصُّ ما وقع بصورة واقعيَّة.  فإنْ كان من تناقُض، ففي موقف زكريَّا نفسه، بوصفه إنسانًا، عوامله النفسيَّة والذهنيَّة قد تجعله يقع في مثل هذا، وليس تناقُضًا في النَّص، إلَّا في عقلٍ يتصنَّع مثل هذا، وعلى نحوٍ طريف، حقًّا. ولقد كان ينتحل أنماطًا من هذا النقد بعض المُجَّان قديمًا، للفرتخة والتفكُّه وإظهار الحذق الظاهري المجَّاني. ولو أُجري هذا النهج على أيِّ خطاب، لأمكن أن يبدي المرء عبر هذه اللُّعبة ما يبدو تناقُضًا، ولا سيما مع إبراز الناقد بعض العبارات من النصوص ودسِّ بعض. 

ـ وكذا هم يشغبون بوجهٍ قرائيٍّ أحيانًا على إمكانيَّات قرائيَّة يحتملها النصُّ. 

ـ مثل ماذا؟

ـ مثل الآية: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا. قُلْنَا: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، إِمَّا أَن تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.» (سُورة الكهف، الآية ٨٦). قائلين: كيف وجد الشمس؟ وكيف تغيب الشمس في عَين؟  وكيف وجد عندها قومًا؟ 

ـ لاحظ هنا أنهم يحصرون دلالات الألفاظ والتراكيب في ما يريدون.  وهذه المحاكمات لما ورد في «سُورة الكهف» يذكِّرنا- للمفارقة أو للموافقة- بما وردَ في «صُورة الكهف»، لدَى (أفلاطون)، في الكتاب السابع من «الجمهوريَّة الفاضلة»، الذي ضربه مثلًا في أنَّ الإنسان يظلُّ في سُبات الغفلة، عُدُوًّا لما يجهل، وما يجهل أكثر ممَّا يعلم، بل لعلَّ ما يراه حقائق ويظنُّه كذلك لا يعدو خيالات وأوهامًا.  بما في ذلك ذهن أفلاطون نفسه، الذي كان ما يزال غارقًا في كهف الأساطير القديمة؛ حتى إنَّه- على جلال قَدره العقلي والفلسفي- لم يكن قد تخطَّى عقليَّة الجاهليَّة، كما عهدناها عند العَرَب أيضًا، المعتقدة في ألوهيَّة الشمس، عبر رمزها (اللَّات)؛ لما لحظوه من دَورها العظيم في الحياة. لكنَّ هذا مهيعٌ يطول، فليكن مساقنا المقبل، بحول الله.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د.محمد غنيم

***

"أحب، ولكن احذر مما تحب"، كتب الفيلسوف الروماني الإفريقي القديس أوغسطينوس في السنوات الأخيرة من القرن الرابع. نحن، بعمق ما، نصبح ما نحب — نغدو امتدادًا له بقدر ما يغدو امتدادًا لنا، متشكلًا من شتى رغباتنا الواعية وغير الواعية، يأسنا، وشهواتنا المتكررة. ومع ذلك، ثمة تناقض عميق في الدعوة إلى العقلانية في فكرة أننا يمكن أن نمارس الحذر في مسائل الحب — فمن عرف الحب، عرف قيود اللاعقلانية التي تلتف على العقل الأكثر قوةً عندما يستولي القلب بجاذبيته المتهورة الساحرة.

كيفية الامتثال لتحذير أوغسطينوس، ليس بالخضوع ولكن بفهم أعمق لتجربة الحب، هو ما تتناوله هانا أرندت (14 أكتوبر 1906 - 4 ديسمبر 1975) في عملها الأقل شهرة، ولكن الأجمل في كثير من النواحي، الحب والقديس أوغسطينوس — أول مخطوطة كتابية لأرندت وآخر أعمالها التي نُشرت باللغة الإنجليزية، والتي أُنقذت بعد وفاتها من أوراقها على يد عالمة السياسة جوانا فيكاريلي سكوت والفيلسوفة جوديث كيليوس ستارك.

وبعد نصف قرن من الزمان منذ كتبتها كأطروحة دكتوراه في عام 1929 ــ وهو الوقت الذي كانت فيه رسولة العقل هذه، التي ستصبح واحدة من أكثر العقول التحليلية حدة وبرودة في القرن العشرين، تكتب رسائل حبها النارية إلى مارتن هايدغر ــ عكفت أرندت على مراجعة المخطوطة وشرحها بشكل مهووس. وعلى الرغم من شحذ أوغسطين، فقد عملت على صقل أفكارها الفلسفية الأساسية ــ وخاصة الانفصال المزعج الذي رأته بين الفلسفة والسياسة كما يتضح من صعود أيديولوجيات مثل الشمولية، التي فحصت أصولها بدقة لا تُنسى. ومن أوغسطين استعارت عبارة "حب العالم" ــ والتي أصبحت سمة مميزة لفلسفتها. وفي ظل انشغالها بالأسئلة حول سبب استسلامنا للشر وتطبيعنا له، حددت أرندت جذر الطغيان في فعل جعل البشر الآخرين غير مهمين. ومرة بعد مرة، عادت إلى أوغسطين للحصول على الترياق: الحب.

لكن رغم أن فكرة الحب الجار التي تعود إلى الزمن القديم — والتي ستلهم لاحقًا مارتن لوثر كينغ الابن — كانت محور اهتمام أرندت الفلسفي وسبب اهتمامها بأوغسطينوس، فإن أهميتها السياسية لا تنفصل عن منبع الحب الأعمق: الشخصي. فرغم الحكمة السياسية والفلسفية التي استقتها أرندت من هذا المفهوم، إلا أن اعترافات أوغسطينوس مفعمة بتجربته مع الحب الشخصي — تلك القوة الأبدية التي تحكم الشمس والقمر ونجوم حياتنا الداخلية، والتي تنعكس وتتجسد في هياكلنا الثقافية والاجتماعية.

مع التركيز على مفهوم أوغسطينوس للحب باعتباره "نوعًا من الشغف" — اللاتينية appetitus، التي اشتُق منها مصطلح الشهوة — وبيانه أن "الحب ليس شيئًا آخر سوى الشغف بشيء ما لذاته"، تتأمل أرندت في هذا الرغبة التوجيهية التي تحفز الحب:

كل شغف مرتبط بموضوع محدد، ويحتاج هذا الموضوع لإشعال الشغف نفسه، مما يوفر له هدفًا. يتحدد الشغف بالشيء المحدد الذي يسعى إليه، تمامًا كما تُحدد الحركة بالهدف الذي تتجه نحوه. كما كتب أوغسطينوس، فإن الحب هو "نوع من الحركة، وجميع الحركات تتجه نحو شيء ما". ما يُحدد حركة الرغبة يكون دائمًا موجودًا مسبقًا. شغفنا يتجه نحو عالم نعرفه؛ لا يكتشف أي شيء جديد. الشيء الذي نعرفه ونرغب فيه هو "خير"، وإلا لما بحثنا عنه لذاته. جميع الخيرات التي نرغب بها في حبنا الساعي هي أشياء مستقلة، غير مرتبطة بأشياء أخرى. يمثل كل منها شيئًا واحدًا هو خيره المعزول. السمة المميزة لهذا الخير الذي نرغب فيه هي أننا لا نمتلكه. بمجرد أن نحصل على الشيء، ينتهي شغفنا، ما لم نكن مهددين بفقدانه. في هذه الحالة، يتحول الرغبة في التملك إلى خوف من الفقد. باعتبارها بحثًا عن الخير الخاص بدلاً من الأشياء بشكل عشوائي، فإن الرغبة هي مزيج من "الاستهداف" و"الإشارة إلى الوراء". إنها تشير إلى الفرد الذي يعرف الخير والشر في العالم ويسعى للعيش بسعادة. لأننا نعرف السعادة، فإننا نريد أن نكون سعداء، ومنذ لا شيء أكثر تأكيدًا من رغبتنا في أن نكون سعداء، فإن مفهومنا عن السعادة يوجهنا في تحديد الخيرات المناسبة التي تصبح بعد ذلك موضوعات لرغباتنا. إن الشغف، أو الحب، هو إمكانية الإنسان في اكتساب ما يجعله سعيدًا، أي في امتلاك ما هو الأكثر خصوصية له.

لهذا السبب، فإن الحب السخي وغير المتملك — حب لا يتقلص بسبب الفشل في الحصول على الخير الذي يشتهيه — يمكن أن يبدو كإنجاز لا يقل عن كونه فوق بشري. ("إذا لم يكن بالإمكان تحقيق الحب المتساوي، / فليكن الأكثر حبًا هو أنا"، كتب صديق أرندت الجيد والمعجب الكبير و. هـ. أودن في قصيدته الرائعة التي تحتفي بتلك الانتصارات الخارقة للقلب.) ولكن الحب المبني على الملكية، تحذر أرندت، يتحول حتمًا إلى خوف — خوف من فقدان ما تم اكتسابه. بعد ألفي عام من تقديم إبيكتيتوس علاجه لكسر القلب من خلال قبول أن كل الأشياء زائلة، وبالتالي يجب أن يُحتفظ حتى بالحب بأصابع غير ملتصقة، تكتب أرندت — التي تلاحظ دين أوغسطينوس للستويين:

طالما أننا نشتهي الأشياء الدنيوية، فإننا نعيش تحت هذا التهديد باستمرار، وخوفنا من الفقدان يتناسب دائمًا مع رغبتنا في الاقتناء. تنشأ السلع الزمنية وتفنى بشكل مستقل عن الإنسان، الذي يرتبط بها برغباته. موثوقون بشكل دائم بالرغبة والخوف نحو مستقبل مليء بالشكوك، ننتزع من كل لحظة حاضرة هدوءها وأهميتها الجوهرية، التي نكون غير قادرين على الاستمتاع بها. وهكذا، يدمر المستقبل الحاضر.

بعد نصف قرن من تحذير تولستوي من أن "الحب في المستقبل غير موجود [لأن] الحب هو نشاط حاضر فقط"، تضيف أرندت:

إن الحاضر ليس محددًا بالمستقبل كما هو... بل بالأحداث المحددة التي نأمل فيها أو نخاف منها من المستقبل، والتي نسعى لتحقيقها أو نتجنبها. السعادة تتكون في الحيازة، في امتلاك الخير الذي لدينا، وحتى أكثر في التأكد من أننا لن نخسره. الحزن يتكون في فقدان الخير الذي لدينا وتحمل هذا الفقد. ومع ذلك، بالنسبة لأوغسطين، فإن سعادة الحيازة لا تتناقض مع الحزن، بل مع الخوف من الفقد. المشكلة في السعادة البشرية هي أنها تتعرض دائمًا للخوف. فالمسألة ليست في نقص الحيازة بل في أمان الحيازة.

إن الموت، بطبيعة الحال، هو الخسارة النهائية ـ للحب وكذلك للحياة ـ وبالتالي فهو الهدف النهائي لخوفنا الموجه نحو المستقبل. ومع ذلك فإن هذا الهروب من الوجود عبر بوابة القلق ـ ربما المرض الأكثر شيوعاً بين البشر ـ هو في حد ذاته موت حي. تكتب أرندت:

إن الذين يعيشون في خوفهم من الموت يخافون الحياة ذاتها، الحياة التي محكوم عليها بالموت... والطريقة التي تعرف بها الحياة نفسها وتدركها هي القلق. وبالتالي فإن موضوع الخوف يصبح الخوف ذاته. وحتى لو افترضنا أنه لا يوجد ما نخشاه، وأن الموت ليس شرًا، فإن حقيقة الخوف (أن كل الكائنات الحية تتجنب الموت) تظل قائمة.

في ظل هذا السياق من الفراغ السلبي، ترسم أرندت شكل الموضوع النهائي للحب وفقًا لأوغسطين:

الشجاعة هي ما يسعى إليه الحب. فالحب بوصفه شغفًا يتحدد هدفه، وهذا الهدف هو التحرر من الخوف.

وفي شعور يسلط الضوء على الآلية المركزية التي يغذي بها الإحباط الرضا (المؤقت) في الحب الرومانسي، تضيف:

الحب الذي يبحث عن شيء آمن ومتاح على الأرض، يشعر بالإحباط باستمرار لأن كل شيء محكوم عليه بالموت. في هذا الإحباط، ينقلب الحب ويصبح موضوعه إنكارًا، ولا يترك شيئًا مرغوبًا فيه سوى التحرر من الخوف. مثل هذه الجرأة لا توجد إلا في الهدوء التام الذي لم يعد من الممكن أن تهتزه الأحداث المتوقعة في المستقبل.

إذا كانت الحضور — إزالة التوقع — شرطًا مسبقًا للتجربة الحقيقية للحب، فإن الزمن هو البنية الأساسية للعاطفة. بعد ما يقرب من نصف قرن، وفي كونها أول امرأة تتحدث في محاضرات جيفورد المرموقة خلال 85 عامًا من تاريخ السلسلة، ستجعل أريندت هذه الفكرة عن الزمن كمكان لعقلنا المفكر محورًا رئيسيًا في محاضرتها البارزة "حياة العقل". الآن، مستشهدة بكتابات أغسطينوس، تتأمل في تناقض الحب خارج الزمن بالنسبة للمخلوقات الزمنية مثلنا.

حتى لو استمرت الأشياء، فإن الحياة البشرية لا تستمر. نحن نفقدها يوميًا. بينما نعيش، تمر السنوات من خلالنا وتستهلكنا حتى نفقد وجودنا. يبدو أن الحاضر هو وحده الحقيقي، لأنه "الأشياء الماضية والأشياء القادمة ليست موجودة"؛ لكن كيف يمكن أن يكون الحاضر (الذي لا أستطيع قياسه) حقيقيًا إذا لم يكن له "فضاء"؟ الحياة دائمًا إما لم تعد موجودة أو ليست موجودة بعد. مثل الوقت، الحياة "تأتي من ما هو ليس بعد، وتمر عبر ما لا يوجد له فضاء، وتختفي في ما لم يعد موجودًا." هل يمكن القول إن الحياة موجودة على الإطلاق؟ ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الإنسان يقيس الوقت. ربما يمتلك الإنسان "فضاءً" حيث يمكن الحفاظ على الوقت لفترة كافية ليتم قياسه، ألا يتجاوز هذا "الفضاء"، الذي يحمله الإنسان معه، كل من الحياة والزمن؟

الزمن موجود فقط بقدر ما يمكن قياسه، والمقياس الذي نقيسه به هو المكان.

بالنسبة لأوغستين، كما تشير، فإن الذاكرة هي الفضاء الذي يُقاس فيه الوقت ويُخزن:

الذاكرة، باعتبارها مخزن الزمن، تمثل وجود "ما لم يعد موجوداً" (iam non)، بينما يمثل التوقع وجود "ما لم يحن بعد" (nondum). وبالتالي، لا نقيس ما لم يعد موجوداً، بل نتعامل مع شيء في ذاكرتنا يبقى ثابتاً فيها. الزمن موجود فقط عندما نستحضر الماضي والمستقبل إلى الحاضر من خلال الذكرى والتوقع. لذلك، الزمن الوحيد الذي يمكن اعتباره صالحاً هو الزمن الحاضر، أي الآن.

إن أحد الموضوعات الرئيسية التي أستكشفها في كتابي "التصور" هو هذا السؤال المتعلق بزمنية حتى أكثر تجاربنا روعة. كتبت مارغريت فولر ـ إحدى الشخصيات الرئيسية في كتابي ـ تقول: "إن اتحاد طبيعتين في وقت واحد أمر عظيم للغاية". فهل ينبغي لنا أن نيأس أو نبتهج إزاء حقيقة مفادها أن أعظم الحب لا يوجد إلا "لوقت معين"؟ إن المقاييس الزمنية مرنة، تتقلص وتتوسع مع عمق وحجم كل حب، ولكنها دائماً محدودة ـ مثل الكتب، مثل الحيوات، مثل الكون نفسه. إن انتصار الحب يكمن في الشجاعة والنزاهة التي نتعايش بها مع الزوال المتسامي الذي يربط شخصين طيلة الوقت الذي يربطهما به، قبل أن يتحررا بنفس الشجاعة والنزاهة. إن تعجب فولر عندما رأت لوحات كوريجيو لأول مرة، والتي تغلب عليها الجمال الذي لم تعرفه من قبل، يشع بحقيقة أكبر عن القلب البشري: "يا روح الحب الحلوة! لقد سئمت منك أيضاً؛ لكن ذلك اليوم كان مجيداً".

وتحدد أرندت هذه الحقيقة الأساسية المتعلقة بالقلب في كتابات القديس أوغسطينوس. فبعد قرن من تأكيد كيركيجارد أن "اللحظة ليست ذرة من الزمن بل ذرة من الخلود"، تلاحظ:

الآن هو ما يقيس الزمن إلى الوراء وإلى الأمام، لأن الآن، من الناحية الدقيقة، ليس زمنًا بل هو خارج الزمن. في الآن، يلتقي الماضي والمستقبل. لحظة عابرة، يصبحان متزامنين بحيث يمكن تخزينهما في الذاكرة، التي تتذكر الأشياء الماضية وتحمل توقعات الأشياء القادمة. في تلك اللحظة العابرة (الآن الزمني)، كأن الزمن يتوقف، وهذا الآن يصبح نموذج أوغسطين للأبدية.

يعبر أوغسطينوس عن هذا الزمن المتجاوز للأبعاد:

من يستطيع أن يمسك [القلب] ويثبّته بحيث يتوقف للحظة، ليختطف لمحة من بهاء الأبدية التي تبقى ثابتة أبدًا، ويقارنها بلحظات الزمن التي لا تثبت أبدًا، فيدرك أنها غير قابلة للمقارنة... إلا أن كل ما هو حاضر في الأبدية لا يمر بل يبقى كله حاضرًا.

تركز أرندت على جوهر المفارقة:

ما يمنع الإنسان من "العيش" في الحاضر الخالد هو الحياة نفسها، التي لا "تتوقف" أبدًا. فالخير الذي يتوق إليه الحب يقع خارج حدود الرغبات المؤقتة. وإذا كانت مجرد مسألة شهوة، لكانت جميع الرغبات تنتهي بالخوف. وبما أن أي شيء يواجه الحياة من الخارج كمحل شغفها يُطلب لأجل الحياة نفسها (الحياة التي سوف نفقدها)، فإن الهدف النهائي لجميع الرغبات هو الحياة نفسها. الحياة هي الخير الذي ينبغي أن نسعى إليه، أي الحياة الحقيقية.

تعود أرندت إلى الرغبة، التي تأخذنا خارج الحياة وتغمرنا فيها في آن واحد:

الرغبة تتوسط بين الذات والموضوع، وتقضي على المسافة بينهما عن طريق تحويل الذات إلى عاشق والموضوع إلى محبوب. فالعاشق لا يكون منعزلًا عما يحب؛ إنه ينتمي إليه... ولأن الإنسان ليس مكتفيًا ذاتيًا، فهو دائمًا يرغب في شيء خارج نفسه، مما يجعل مسألة "من هو" لا تُحسم إلا من خلال موضوع شهوته، وليس كما اعتقد الرواقيون من خلال كبح دافع الرغبة نفسه: "فالإنسان هو كما هو حبه" [كتب أوغسطينوس]. في الحقيقة، من لا يحب ولا يرغب هو كائن فارغ.

[…]

لا يمكن تعريف ماهية الإنسان لأنه يرغب دائمًا في الانتماء إلى شيء خارج ذاته، ويتغير تبعًا لذلك... وإذا كان له طبيعة جوهرية على الإطلاق، فستكون نقص الاكتفاء الذاتي. وبالتالي، هو مدفوع إلى الخروج من عزلته عبر الحب... ولأجل السعادة، التي هي نقيض العزلة، يتطلب الأمر أكثر من مجرد الانتماء. فالسعادة تتحقق فقط عندما يصبح المحبوب جزءًا دائمًا من كيان الفرد.

من المدهش تتبع خط هذه الأفكار عبر مسار حياة أرندت الفكرية. فبعد عقود من دراستها الجامعية، ستقوم بكتابة أطروحتها المؤثرة حول كيفية استخدام الطغاة للعزلة كسلاح للقمع ــ بعبارة أخرى، لا تمثل الشمولية إنكارًا للحب فحسب، بل إنها أيضًا اعتداء على جوهر البشر.

في بقية كتاب الحب والقديس أوغسطينوس، تستمر أرندت في فحص تراتبية الحب عند أوغسطينوس، وبنية الرغبة النفسية، ومخاطر الترقب، ومكونات "حب العالم" الضروري للحياة المتناغمة والمجتمع المتناغم.

***

...........................

الكاتبة: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

عن الاغتراب اللغوي في الأهواز

يحكى أن الروائي الجزائري رشيد بوجدرة اتخذ الفرنسية لغة للكتابة وانجز الكثير بهذه اللغة حتى قرر يوما أن يعود للعربية فوعد الوسط الأدبي الجزائري بأن يكتب من الآن فصاعدا بلغته الأم-العربية. إنه وفى كما وعد فكتب رواية بالعربية” التفكك” وروايات أخرى كـ “معركة الزقـاق” أرجعته إلى أحضان العروبة. قال ذات يوم إن العربية اجمل من الفرنسية فاستبدلتها. وقال أيضا الكتَّاب الذين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم يعيشون في المغترب وقد نفوا أنفسهم بأنفسهم أمَّا الكتَّاب الذين يكتبون بالعربية فموجودون في وطنهم وبين أحضان شعبهم، وبالنسبة لي هم أفضل بكثير من الذين يكتبون بلغة أجنبية. إنّ من يكتب بلغته هو أقرب إلى القلوب.حسب تعبير الروائية التركية “أليف شافاق” إنها تكتب بقلبها عندما تكتب بلغتها الأم التركية، وبعقلها عندما تكتب بالإنجليزية والكاتب بلغته أكثر إحساسا وأقل سذاجة من الكاتب بلغة أخرى.

الفكرة ممّا سبق أن المعهود والمتدوال في تاريخ الانسانية أنّ اللغة تبقى وتحيا بقدر ما يتعاظم رصيدها من الآثار الأدبية والعلمية التي كتبها الواعون من أبنائها. فما نؤلفه أو نكتبه نحن الأهوازيون باللغة الفارسية لا يعزز ولا يخدم لغتنا العربية ولا يصب في نهر الانتاج العلمي والأدبي والثقافي لهذه اللغة بل إنّه مجرد استهلاك لغة أخرى. ومن المؤكد أن ظهور كتّاب عرب يكتبون باللغة الفارسية لم يكن إنجازا ملفتا للساحة الثقافية العربية في الأهواز. بالعكس إن هذه الظاهرة مجرد استهلاك ولاتنفع التأصيل والتعزيز للغتنا، إذا لم تضرّها، وليس من المغالاة أو الشططِ إذا قلنا إن الكتابة بالفارسية خزيٌ علينا ونحن أصحاب لغة تعتبر لغة العلم في الماضي والحال والمستقبل وواحدة من اللغات الأربع الأكثر استخدامًا في الإنترنت والبحوث العلمية الآن، وكذلك الأكثر انتشارًا ونموًا متفوقةً على الفرنسية والروسية والصينية والفارسية

والكاتب الأهوازي قد يساهم بإزاحة اللغة الأم وهدم كيانها وفصلها عن اهلها عندما يقرر الهروب من أمه إلى زوجة أبيه.!

كتابتنا بالفارسية تحكيم لها وإغناء لمكتباتها. إنها مجرد عملية تقليد وخدمة للنموذج الفارسي ولاتمت لنا بصلة ولاتنفعنا إلا الّلهم الكتب التاريخية التي تريد أن ترسل رسالة إلى طرفي النزاع وياحبذا لو تعرّبت هذه الكتب لتروي التاريخ وتعزز اللغة العربية الأم وتنال مَغْنَمَيْنِ فِي آنٍ واحد. كما لا يخفى عن القارىء الكريم أن الأهواز مفخرةٌ في التأليفات العربية على مر العصور من فلسفة وأدب وتاريخ و… .فالإنجاز هو أن تكتب بلغتك الغنية المهجورة، هذه اللغة التي وسعت القرآن الكريم وكتبَ بها أعمدة الثقافة والعلم في العالم.

في ضوء ما سبق أرى أن التهافت على اللغة الفارسية ليس مجرد حبٍ لها بل هناك أسباب لهذه النزعة الانفصالية من اللغة الأم والرغبة في الكتابة والقراءة بلغة أخرى:

أولا- التماهي والسعي لتقمص هوية فارسية من خلال الكتابة باللغة الفارسية وجذب جمهور أكبر طبعا تحت ضوء الوهم الذي يعيشه هذا الفرد.

ثانيا- الرؤية الخاطئة بأن العالمية تعبر من جسر اللغة الفارسية. وهذه تأتي من فكرة أنه لا يمكن للكاتب أن يصل للمكانة المرموقة ولايذاع صيته إلا من خلال اللغة الرسمية.

ثالثا- إن الغة الفارسية تعد اليوم لغة الوجاهة الاجتماعیة (prestige language) أي اللغة الوحیدة للمدارس والجامعات والدوائر الحكومیة، المعوّل علیها من قبل مستخدمیها وهي العالیة والمتعالية اقتصادیاً وثقافیاً والمفضلة علی بقیة اللغات المتواجدة. سیطرة هذه اللغة تأتي من الإعلام الذي يروج لها ويهمل اللغة أو اللغات الأخرى الموجودة في الجغرافيا المعينة، لذا یمیل الأفراد غالبا لاستخدامها في الكتابة والقراءة اقتداءً بالفئة المسیطرة والمتعالية التي تستخدمها.

رابعا- الإحساس بدونية اللغة الأم والثقافة الأم مقابل اللغة والثقافة المسيطرة.

خامسا- لم تكن اللغة الأم موضع اهتمام حقيقي في الأهواز رغم الدراسات العلمیة الكثیرة التي أثبتت حاجتها لدیمومة حياة الانسان العربي.

سادسا- ليست هناك كفاءة لغوية مطلوبة عند الكاتب الأهوازي ولا يجهد ليتقنها رغم توفر آليات لإتقانها في عصرنا الحاضر.

سابعا- غياب كلٍّ من الأمن والاستقرار والثقة بالنفس وتسيطر الخوف الوهمي على الكاتب الأهوازي عند كتابته باللغة العربية.

ثامنا- غياب استعمال اللغة العربية على المستوى الأكاديمي في الجامعات والمحاضرات والنظرة اللاعلمية عليها باعتبارها تعكس التخلف مما يسبب الهروب البطيء من هوية المجموعة التي ينتمي اليها الفرد واللجوء لللغة التي بيدها المنصات العلمية والأدبية.

تاسعا- محاولة إرضاء القارئ العربي والفارسي معا من خلال نص يكتبه الفرد بلغة يفهمها الإثنان.

عاشرا- الجهل بالتاريخ العربي الأهوازي بوجه خاص وبمعالم الحضارة العربية والاسلامية بوجه عام.

بالطبع لا أحد يعارض الكتابة باللغة الفارسية أو بأي لغة أخرى لكن لا نكون سجناء هذه اللغة وننسى لغتنا في ظل هذا التنافس المسعور والهجمة العنيفة التي تريد إذلالها وزحها للهامش.

يقول الحجازي: “كلما استطعنا أن ندخل الصیغ العلمیة في لغتنا وإلی مجتمعنا، استطعنا أن نؤثر علی الذهن في مجتمعنا ونوجهه نحو إدراك علمي”، فالكاتب بدوره يساهم بتهميش اللغة العربية وهدم كيانها وفصلها عن أهلها عندما يقرر شطبها من حياته الأدبية والعلمية. من هذا ينبغي أن يلتزم الكتّاب الأهوازیین بإتقان واستخدام اللغة العربیة في تألیفاتهم والإصرار علی ذلك والتقلیل من الكتابة والترجمات بلغات أخری حتى نعلو بلغتنا إلى اسمى مراتبها وتكون هويتنا واضحة ومفهومة.

***

سعيد بوسامر- كاتب و باحث من الأهواز

يهتم بمواضيع ثقافية لغوية تاريخية وألف ونشر الكثير في مجالات اللثقافة واللغة والتاريخ.

................................

المصادر التي راجعها الباحث:

-بوسامر، سعيد. أنا لغتي: دراسة حول اللغة الأم وتنميتها في الأهواز. نشر قهوة.٢٠٢٠

- عبدالوهاب بوزيد. الكتابة بلغة الآخر. مجلة اليوم. ٢٠١٥.

- لعموري، زاوي. ازدواجية اللغة في أدب رشيد بوجدرة الكتـــابة وانشطـار

 الذات.https://ouvrages.crasc.dz/index.php

– محمد الحمّار. اللهجة العامية عربية فما الذي يزعج دعاة التعريب. ٢٠١٥.

بقلم: كارينا ريمير

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

تكشف الأبحاث عن الفوائد النفسية لاتخاذ القرارات بشكل حدسي، ولكن هناك مواقف تستدعي اتباع نهج تحليلي.

نتخذ العديد من القرارات يوميًا – بعضها من خلال التفكير المتأني، وأخرى بطريقة أكثر حدسية، أو بناءً على "الشعور الداخلي". لم يتجاوز الوقت السابعة صباحًا، لكنني قد اتخذت بالفعل بعض القرارات الحدسية. لدي ابن يبلغ من العمر أربعة أشهر، وكان جائعًا في الساعة الخامسة صباحًا. بعد إرضاعه، أراد المشاركة في لعبة الغناء الصباحية المعتادة. لكن، عندما نظرت إليه، شعرت أنه لا يزال متعبًا جدًا. لا أعلم السبب تحديدًا؛ ربما كان هناك شيء في عينيه أو في طريقة حركته. أيا كان السبب، اتبعت حدسي وقررت أن أقبّله وأتركه لينام قليلاً. شعرت بالرضا عند القيام بذلك. وبعد أن عدت إلى السرير، أدركت أنني، على عكس ابني، لم أشعر برغبة في النوم. كنت مليئة بالطاقة بالفعل. دون التفكير كثيرًا، قررت إعداد بعض القهوة واستغليت هدوء الصباح لكتابة هذا المقال.

الآن خذ لحظة للتفكير في القرارات التي اتخذتها بالفعل اليوم، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. ثم فكر في هذا: هل اتخذت قرارك بعد تفكير دقيق، أم اتخذته باستخدام حدسك؟ وكيف شعرت بعد ذلك؟

هذه الأساليب المختلفة في اتخاذ القرارات – المتأنية والحدسية – تتماشى مع نمطين لمعالجة المعلومات تم وصفهما في علم النفس. الأول، وهو الأسلوب الأكثر تأنيًا، يعمل ببطء وبشكل خطي وواعٍ. هذا النمط يعمل، على سبيل المثال، عندما تحاول حل مسألة مثل "18 × 24" أو عندما تفكر في مزايا وعيوب قضاء عطلتك القادمة في تايلاند. عادةً ما يمكن تبرير النتائج بشكل واضح. على سبيل المثال، بعد التفكير بعناية في أي سيارة ستشتري، يمكنك أن تشرح لشخص ما أسباب اختيارك لهذا الطراز بالتحديد وليس طرازًا آخر.

أما النمط الآخر، وهو أسلوب معالجة المعلومات الحدسي، فيعمل بسرعة وبطريقة ترابطية. ويتم الشعور بنتائجه كأحاسيس داخلية أو حدسية. قد تشعر وكأنك تعرف شيئًا دون أن تعرف كيف عرفته. ويرتبط هذا النمط بقوة بالعواطف والمشاعر الميتا-معرفية، مثل شعور الصواب والثقة. عندما تتخذ قرارًا حدسيًا في مطعم، فإنك ببساطة اخترت لأن الأمر شعرت أنه الصواب – مثل القرارات التي اتخذتها هذا الصباح.

تشير نتائج أبحاثي الأخيرة إلى أن الأشخاص غالبًا ما يُنصحون باتخاذ قراراتهم بناءً على الحدس، من حيث تأثيرها على مشاعرهم. هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن عملية اتخاذ القرار – وبخاصة القرارات الحدسية – تمنح شعورًا بالرضا العاطفي.

غالبًا ما يبلغ الأشخاص الذين يأتون للعلاج وهم يعانون من الاكتئاب عن صعوبات في اتخاذ القرارات

لقد نشأ اهتمامي بهذه الإمكانية جزئيًا من عملي كمعالج نفسي. لقد لاحظت أن الأشخاص الذين يأتون إلى العلاج وهم يعانون من الاكتئاب غالبًا ما يشكون من صعوبة في اتخاذ القرارات. وغالبًا ما يذكر المرضى أنهم فقدوا الثقة في حدسهم. قد يقول أحدهم: "لقد فقدت بوصلتي الداخلية"، أو: "كنت أعتمد على حدسي، لكن ذلك الشعور اختفى." لقد وجدت أنا وزملائي في البحث أدلة متباينة حول ما إذا كان المرضى المصابون بالاكتئاب يعانون من ضعف في العمليات التي تدعم الحدس. أشارت بعض النتائج إلى أن الأشخاص يكونون أقل اعتمادًا على حدسهم عندما يكونون قلقين. ومنذ ذلك الحين قادني اهتمامي بالحدس والرفاهية إلى استكشاف العلاقة بينهما بشكل أوسع.

تتمثل إحدى الفرضيات الأساسية في أن اتخاذ القرارات في الحياة اليومية – وخاصة القرارات الحدسية – يجعل الناس يشعرون بالسعادة. لماذا قد يكون هذا هو الحال؟ أولاً، ينبغي أن يشعر الشخص بالتحسن بعد اتخاذ قرار لأنه من خلال اتخاذه، يستعيد الموارد الإدراكية التي يمكن استخدامها في مهام أخرى. كما أن اتخاذ القرار عادة ما يقرب الشخص من تحقيق أهدافه الشخصية ويساعده على تلبية احتياجاته. الحدس مهم بشكل خاص في هذا لأنه يدمج الكثير من المعلومات (مثل الإشارات الجسدية والعاطفية والمعلومات البيئية) في آن واحد ضمن سياق متكامل. ومن خلال ذلك، قد يساعد الشخص في اتخاذ قرار يتماشى مع احتياجاته، حتى تلك التي قد لا يكون واعياً بها في لحظة معينة. تلبية الاحتياجات عادة ما تجعل الشخص يشعر بالتحسن. وأخيرًا، تتخذ القرارات الحدسية بشكل أكثر سلاسة من تلك المتأنية، ويميل الناس إلى تفضيل ما يحدث بسلاسة (وكره ما يتطلب مجهودًا ويبدو أقل سهولة).

لاختبار فرضياتنا، طلبنا أنا وزملائي من طلاب الجامعة أن يتأملوا في القرارات التي اتخذوها ذلك اليوم وكيف شعروا قبل وبعد اتخاذها. وبشكل عام، وجدنا أنهم تذكروا شعورهم بتحسن بعد اتخاذ القرار. وكما توقعنا، كان هذا التغيير الواضح في المزاج أكثر وضوحًا في القرارات التي اتخذها الأشخاص حدسيًا مقارنة بالقرارات المتأنية.

أردنا أن نكون قادرين بشكل أفضل على استخلاص استنتاجات حول العلاقة بين السبب والنتيجة، لذلك قمنا مؤخرًا بمتابعة دراسة ميدانية تجريبية، حيث شجعنا البالغين بشكل عشوائي على اتخاذ قرارات إما حدسية أو متأنية أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية. على مدار 14 يومًا على الأقل، طُلب من المشاركين في مشروعنا أن يبلغونا عبر الإنترنت عندما يكونون على وشك اتخاذ قرار – مثل ما إذا كانوا سيلتقون بصديق أم لا، أو ماذا سيأكلون، أو كيفية حل نزاع مع شخص آخر. وبعد تلقيهم توجيهًا لاتخاذ القرار المقبل إما حدسيًا (اتباع شعورهم الداخلي) أو متأنيًا (التفكير بعناية وأخذ وقتهم)، شاركوا معنا ما قرروا وكيف كانوا يشعرون بعد ذلك.

قد تؤدي القرارات اليومية إلى تعزيز أقوى للمزاج إذا اتخذتها بشكل حدسي بدلاً من اتخاذها بشكل متعمد.

وجدنا مرة أخرى أن الأشخاص يشعرون عمومًا بتحسن بعد اتخاذ القرارات – وكان هذا التحسن في المزاج أقوى بعد القرارات الحدسية مقارنة بالقرارات المتأنية. استمر هذا التغير الإيجابي في المزاج حتى تنفيذ القرار. علاوة على ذلك، قام الأشخاص بتقييم القرارات الحدسية على أنها أكثر إرضاءً وأكثر توافقًا مع تفضيلاتهم، وكانوا أكثر احتمالًا لتنفيذها (على سبيل المثال، الذهاب فعليًا إلى صالة الألعاب الرياضية بعد العمل إذا كان هذا هو القرار المتخذ). قمنا بدراسة أحد الآليات المتوقعة وراء هذا التغير الإيجابي في المزاج – وهو سهولة اتخاذ القرارات – ووجدنا أن كلما تم اتخاذ القرار بسهولة أكبر، كان الشعور بعده أفضل، وكانت القرارات الحدسية تُتخذ بسهولة أكبر من المتأنية.

في العديد من الحالات، تخبرك مشاعرك الغريزية بدقة عما هو جيد لك في حياتك اليومية، لأن الحدس يتطور بمرور الوقت بناءً على العدد الهائل من التجارب التي مررت بها. كلما زادت خبرتك في مجال معين، وكلما كانت ظروف التعلم التي طورت من خلالها حدسك أفضل، زاد الاعتماد على حدسك. يمكن أن ينطبق هذا على القرارات التي اتخذتها مرارًا من قبل، وحيث تكون مخاطر "اتخاذ القرار الصحيح" منخفضة: قد تؤدي الاختيارات اليومية حول أي وجبة تختارها، أو أي فيلم تشاهده، أو أي قميص تشتريه إلى تحسين مزاجك بشكل أقوى إذا اتخذتها حدسيًا بدلًا من التفكير المتأني. على الأقل، هذا ما تشير إليه نتائج دراستنا الأخيرة.

لأخذ مثال أكثر تعقيدًا، إذا شعرت شعورًا غامضًا بأن شريكك أو صديقك قد لا يكون على ما يرام بعد مكالمة هاتفية قصيرة، فقد يكون من الحكمة اتباع حدسك والذهاب لرؤيته. من المحتمل أن العديد من الإشارات أدت إلى هذا الحدس، من نبرة صوته إلى التوقفات الطفيفة بين الجمل، إشارات تعتبر ذات مغزى بالنسبة لك بسبب تجربتك الواسعة مع هذا الشخص. إذا اتبعت شعورك الغريزي في هذا الموقف، فهناك القليل من المخاطر، ومن المحتمل أن تشعر بتحسن مقارنةً بما إذا كنت قد فكرت بعناية في إيجابيات وسلبيات المتابعة.

من ناحية أخرى، قد لا تكون القرارات الحدسية دائمًا الأكثر تكيفًا. قد يكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، عندما تكون غير متأكد تمامًا مما هو القرار الأفضل بسبب قلة الخبرة ذات الصلة. قد يحدث هذا عندما تبدأ وظيفة في مجال جديد، أو إذا كان عليك الاستجابة لسلوك شخص في سياق ثقافي غير مألوف. في حين أن القرار الحدسي في حالة تفتقر فيها إلى الخبرة قد يجعلك تشعر بالارتياح لحظيًا، قد تكون أفضل حالًا إذا فكرت بعناية في الخيارات المختلفة وقارنت رد فعلك الحدسي بما يخبرك به "عقلك".

لقد أظهرت لي عمليتي السريرية مدى اعتماد فائدة الحدس على تجارب الشخص السابقة وجودة بيئته التعليمية. أتذكر مريضة لي، وهي امرأة شابة كانت تواجه صعوبة في تكوين علاقات وثيقة. كانت تشعر بالأمان أكثر عندما تبقي الناس على مسافة، لكنها كانت تشعر بالوحدة أيضًا. خلال عملنا، أصبح من الواضح أنها نشأت مع أم غير مستقرة عاطفيًا – أحيانًا تستجيب بحرارة عندما تبحث عن القرب، وأحيانًا أخرى تبتعد عنها وتنتقدها. بمرور الوقت، استسلمت بشكل شبه واعي لعدم التعبير عن حاجتها إلى القرب. ومع هذا الدرس، جاء شعور متكرر قادها إلى اختيار البقاء بعيدة وباردة في المواقف الاجتماعية. وعلى الرغم من أن اتباع هذا الحدس جعلها تشعر بالأمان والارتياح على المدى القصير، إلا أنه لم يساعدها في بناء علاقات قائمة على الثقة. كان الحدس يضللها.

في هذه الظروف والعديد من الحالات الأخرى، يمكن أن يكون للحدس تأثير كبير على ما يفكر فيه الناس ويفعلونه. لديه إمكانيات كبيرة، ليس أقلها لأن العمليات اللاواعية المرتبطة به مرتبطة بتفضيلاتنا وخبراتنا التعليمية السابقة. في العديد من المواقف اليومية، سيجعلك اتباع حدسك تشعر بالارتياح في اللحظة، وأحيانًا لن ينطوي على أي مخاطر. لذا، في تلك الحالات، اتبع حدسك. لكن في بعض الحالات الأخرى، قد لا تكون تفضيلاتنا الشخصية مثالية لتوجيه القرار، أو قد تكون لدينا تجارب علمت حدسنا درسًا خاطئًا. في بعض الأحيان، من الأفضل أن تفكر جيدًا قبل الاعتماد على الحدس. ولحسن الحظ، عندما نواجه هذه المواقف المختلفة، لدينا كلا الخيارين المتاحين.

***

........................

الكاتبة: كارينا ريمير: أستاذة علم النفس السريري والعلاج النفسي في جامعة الصحة والطب في بوتسدام، ألمانيا، ومعالجة نفسية ديناميكية مرخصة. نشرت العديد من الأوراق البحثية حول الحدس وتنظيم العواطف وعلم الأمراض النفسية.

المقدمة: أيمانوئيل كانط Kant Immanuel 1724 – 180، فيلسوف ألماني بارز من مواليد ميناء (كونسيبيرغ) ميناء على ساحل بحر البلطيق على الحدود الشمالية من ألمانيا تجاورها من الشرق بولندا، وإن مدينة كانط (كونسيبيرغ) هي ضمن مقاطعة بروسيا (ألمانيا الشرقية سابقا).

هو من جيل الفلاسفة الألمان بيد أنهُ ليس (مثاليا) بل يكون محسوبا فكريا وثقافيا ضمن مجموعة فلاسفة العالم الروسي السوفياتي المتحررفكراً وفلسفة، توفي كانط في 12 شباط 1804 وقد نُقشتْ على شاهدة قبرهِ عبارتهِ الشهيرة الأنسانية المقتبسة من كتابه النقد العملي {شيئان كلما تأملنا فيها بأمعان يملأن الذهن أعجاباً ورعبا متزايدين إنهما السماوات المرصعة بالكواكب فوقنا والقانون الأخلاقي في دواخلنا} .

النص:

 الأدب المقارن يحكي ما (بين) الفلسفة العدمية الألمانية وفلسفة السوفيتات الروسية الأنسانية!

- أن أنتشارالمد الفلسفي المعرفي لكلا الطرفين الألماني والروسي يحدد لهما القرنين السابع والثامن عشر، كانت العدمية السوداوية التشاؤمية هي السائدة على المعرفية القيمية الفلسفية الوجودية كمثل أستعرض أفكار الفيلسوف الألماني (شوبنهاور) الذي يقول: إن الوجود هو المادة الملموسة فقط، أما ما يطرح في عالم الغيبيات فلا قيمة لها ويميل بالتعمق في دراسة الديانة البوذية الهندية التي تقوم على أساس أن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة، فليس في الوجود غير المادة، ويتفق الأغلبية من فلاسفة الألمان في التشاؤمية السوداوية أن الموت نهاية للألام وعذابات الحياة.

ولآجل الحفاظ على (النوع) وديمومة أستمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم أمرين مهمين: (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب البعض أكثر في الغلو في السوداوية والأحباط النفسي يدعون إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار (كتاب أرادة وفكر لشوبنهاور)، فكان أنتشار هذه الأفكار المتطرفة الشعور بالعزلة والكآبة والخوف والقلق ترك أثرا كبيرأً في أضطراب البوصلة الأجتماعية والثقافية في زمن النازية 1939- 1945 والدعوة لتبني (النازية) والميل لثقافة ألفوقية البشرية لآصل النوع بتفضيل الجرمانية بعجرفة وغطرسة غير مبررة على البشرية وخاصة خطابات الفيلسوف اليميني المتطرف (نيتشه) وفي زمن هتلر بالذات صرخ بأعلا صوته {أيها الألمان عيشوا على فوهة بركان}، وهي دعوة لنشر الكراهية بين اليشر والتقوقع الضيق للهوياتية الشعبوية في قدسية وسموالجنس الجرماني.

أما التجربة السوفييتية البلشفية سوف أختصرها بشخصية الأديب الروائي والفيلسوف المشهور (ديستوفيسكي) ولآنهُ أشهرمفكرأنساني غاص في أعماق الذات البشرية للمجتمع الروسي والعالمي من مشاعر وأحاسيس وسوسيولوجية أجتماعية أنعكست تأثيراتها المعرفية القيمية بمدى عالمية أممية في منجزاته الثرة والثرية في الأنسنة وحب الخير والسلام: كالأخوة كارمازوف والأبله والجريمة والعقاب والمقامر والمراهق ورواية الشياطين حيث أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب43 منجز، يقول في مقدمة كتابه حياة لها معنى {علينا نحن البشر أن نتساعد ونحب بعضنا ونمسك أيدي بعضنا بعضاً فأما الوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) أما أن نهلك معاً في جحيم أتون مدينة الأشرار (الديستوبيا)

ويقول في عقيدته اللاهوتية عن الوجود أن نهب محبتنا للرب أحراراً لا عبيداً، ويقول في روايته (الأبله): خير للأنسان أن يكون تعيسا من أن يكون سعيدا ومخدوعاً، وأضيف نجاح السوفيتات في التجربة الأشتراكية العلمية في توزيع الأصلاح البنيوي الأنساني للمجتمع بشكل عادل، وثمة تجديد في عالم الفلسفة، أن في عالم الفلاسفة الروس السوفيت تتصارع الأضداد الخير والشر والحقيقة والزيف والرحمن مع الشيطان والموت والخلود والعاقل والأهبل فالنصر يكون للأفضل والأحسن الأكثر مقبولية، والآن حانت الفرصة بأن نأخذ *بيلوغرافية حياة وأفكار الفيلسوف الألماني الشرقي المفعمة بالأنسنة والحرية للفيلسوف:

أيمانوئيل كانط:

أيمانويل كانط 1724 – 1804 يُعدُ واحداً من أعظم فلاسفة الغرب الأوربي، لا سيما في* الميتافيزيقيا، ونظرية المعرفة، والأخلاق، وعلم الجمال.

ثمة أضافات للفيلسوف (كانط) للحداثة الفلسفية:

- في حقل فلسفة الأخلاق وضع كانط رافعة (الدافع) فكلما كان الدافع غريزي يكون الفعل ليس أخلاقياً، وأعطى أبرز مثال في المتدين يعمل الخير وينتظر حياة أخرى يترجم فيها شهواته وأشباع ملذاته وتهدئة غرائزهِ فيتحول العمل إلى عمل أنتهازي.

- في حقل الأمانة أعتبرها صائبة عندما تكون (لذاتها) قبل عواقبها السالبة.

- في فلسفة كانط يضع نظرياته حول محور الفكر الأنساني لكون الأنسان غاية بغض النظر عن أفكارهِ ولونهِ فهومصدر الأهتمام في الحدث والحديث.

- فلترة علم الأخلاق من الديماغوجية الوعود الكاذبة والوهمية.

- كانط هو أحد الفلاسفة الذين كتبوا في (نظرية المعرفة) في جعل الدين في حدود مجرد العقل و*أنطلوجية الوجود وتأسيس *ميتافيزيقية الأخلاق.

- لفد حقق كانط في منجزاته الفكرية معجزة أدبية في المعرفة القيمية والدعوة لنبذ العزلة والسوداوية التشاؤمية والأعتماد على قوة وقدرات الأنسان الأيجابية وقد غيرت خارطة الفكر الأنساني لاحقاً في منجزاته الثرة والممنهجة: كتاب نقد العقل الخالص 1781 وكتاب نقد العقل العملي 1788 وكتاب نقد ملكة الحكم 1790وكتابهُ لأجل السلام بين الأمم 1795 (لاحظ تلاحق الأنجازات في فترة قصيرة وتبدأ بالنقد).

الأفكار الرئيسة للفيلسوف كانط:

- النقدية الكانطية: وتعني الفلسفة النقدية التي تسعى إلى تحليل قدرات العقل المعتمدة على الحواس والعقل في كتابه نقد العقل الخالص يشير كانط إلى إن المعرفة ليست شيئا تأتي من العالم الخارجي وحده بل هي مزيج من البيانات الحسية وأسهامات العقل البشري في تنظيم تلك البيانات، مقسماً فلسفة المعرفة إلى قسمين: المعرفة المعتمدة على العقل والمعرفة التي تعتمد على التجربة فهو يؤكد على العقلانية في تفسير الحدث والحديث على طول سيرتهِ الفلسفية.، وتتجلى بشكلٍ رئيسي في كتابه نقد العقل الخالص " حيث سعى إلى حل الصراع بين التيارين الرئيسيين في الفلسفة في زمانه التجريبي (مثل جون لوك وديفد هيوم) والعقلانية (مثل ديكارت ولايبنيتز) نقد كانط هذه التيارات عبر القول: {إن المعرفة ليست مجرد نتاج العقل أو للتجربة وحدها بل هي مزيج من الأثنين أي إن العقل لديه أطر قبلية مثل (الزمان والمكان والقيم المعرفية)التي تنظم التجربة الحسية.

- العلاقة بين العقل والأرادة الحرة: يرى كانط التمييز بين العالم الظاهري الذي تحكمه قوانين الطبيعة والعالم الأخلاقي لذا أعلن إن الحرية شرط أساسي للأخلاق يجب أن يتصرف الأنسان بطريقة شاملة وعمومية كقانون عالمي معترف به ، وان الحرية لا تعني الأنقياد للشهوات والرغبات الطائشة بل التصرف وفقا للعقل.

- في الدين والعقل يرى كانط أن الدين يجب أن يكون في حدود العقل وحدهُ وأن الأيمان يجب أن يخضع على الأدلة العقلية والأخلاق.

- السلام الدائم يقدم كانط رؤيته حول كيفية تحقيق السلام الدائم على هذا الكوكب الجميل ونبذ تجار الحروب، وضح ذلك في كتابه (مشروع للسلام الدائم) طرح كانط رؤيتهُ لفكرة السلام العالمي الدائمي والدولة الجمهورية المثالية التي تعتمد على القوانين.

- أجمالا أسهم كانط في أحداث (تحول) جذري في الفلسفة من خلال {الربط بين المعرفة الحسية والعقلية وترسيخ القيم الأخلاقية على أسس عقلانية.

- كانط أحد فلاسفة عصر التنوير حيث حصل على شهادة التخصص في موضوع (المنطق والميتافيزيقيا) نشر كانط كتابهُ سنة 1755(التأريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات) The General Hystory and Theory of the Heavens وضع فيه آراءهُ في تأريخ يداية الكون ونقد الدين لخص وجهة نظره القابلة للجدل وربما مفاجئة ولبعضها القدسية.

- منجزات كانط الفلسفية والتي يبدأها بكلمة نقد: نقد العقل الخالص الذي يبحث في المعرفة القيمية الأنسانية بشرح الحدث المدني والديني بالعقل المادي لا الغيبي فكانط يعتبر من جماعة (المذهب العقلي) لكون المعرفة تنبع من العقل، ونقد كتاب نقد العقل العملي، وكتاب نقد ملكة الحكم، وكتاب تأريخ بداية الكون ونقد الدين.

شرح مصطلحات

* الأنطولوجيا: هي علم الوجود، أو فهم دراسة الوجود والكيان وطبيعة الأشياء وفهم ماهية الواقع.

* الميتافيزيقيا: يهتم بطبيعة الكون وما يحكم العقل بالوجود، تفسير الطبيعة للأشياء من هذه المخرجات (أصل تكوينها ومبدأ نشأتها)

* بيلوغرافيا: دراسة السيرة الشخصية للكبار (سياسيين ومؤرخين وفنانين) وفهرست سنة منجزاتهم وعنوان الكتاب والمقدمة والتقديم والممترجم.

***

عبدالجبارنوري - أبورفاه

كاتب وناقد أدبي عراقي مغترب

في أكتوبر2024

 

مفهوم الحداثة: الحداثة أو العصرنة هي مشروع حياة، يرمي إلى تحديث وتجديد ما هو قديم وبالِ ولم يزل هذا القديم فاعلاً وحيويّاً في حياة هذا المجتمع أو الأمّة، ومعرقلاً لنهضة وتقدم بنية هذا المجتمع أو الأمّة على كافة مستويات حياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. وعلى هذا الأساس فالحداثة هنا تشكل ثورة حقيقة على كل ما هو متخلف، وخلق عالم جديد في حياة الشعوب والأمم يتفق وقضايا حريّة الإنسان وعدالته وأمنه واستقراره.

نقول: عندما بدأت تظهر الطبقة البرجوازيّة الأوربيّة كطبقة قائدة للمشروع الحداثي مع قيام الثورة الصناعيّة، هذا المشروع الذي رمى آنذاك إلى تجاوز بنية المجتمع الاقطاعي بكل مستوياته المتخلفة، يساعدها في قيادة هذا المشروع الطبقة العماليّة، ضد السلطات المتنفذة آنذاك في هذا نظام، وهي سلطة الملك والنبلاء والكنيسة، استطاعت الطبقة البرجوازيّة الوليدة بما حققته من تحولات ماديّة وفكريّة عميقة في بنية المجتمع، بسبب الثورة الصناعيّة - كما بينا أعلاه - وتطوراتها اللاحقة، منذ القرن السادس عشر حتى وصول الطبقة البرجوازيّة ذاتها إلى السلطة بعد قيام الثورة الفرنسيّة /1789/، هذه الثورة التي حاولت تجسيد أفكار عصر التنوير التي رافقت هذه الثورة الصناعيّة بما مثله هذا العصر من رؤى فكريّة، تضمنت مفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة، والأهم المقدمات الأساسيّة لأفكار المسألة القوميّة التي كانت تطالب بتحقيق المشروع القوميّ للدول الأوربيّة، وتجاوز التفتيت الاقطاعي الذي حل بالدول الأوربيّة آنذاك من جهة، ثم تحقيق السوق الموحدة للدولة القومية خدمة لمصالح طبقتها البرجوازية الوليدة، وتطبيق الشعار "الميركانتيليّة" دعه يعمل دعه يمر..

هذا ويمكننا الإشارة إلى أهم ما تضمنه الخطاب السياسي الحداثي في أوربا الذي يهدف برأيي لتحقيق مسألتين أساسيتين على درجة عالية من الأهميّة هما:

الأولى: بناء دولة المؤسسات والمواطنة والقانون وتداول السلطة والعقد الاجتماعي، واعتبار الشعب هو مصدر السلطات، واختيار نظام الحكم، وهو وحده من يحق له تنصيب هذا الحاكم أو عزله عبر ممثليه، في المجالس النيابيّة المنتخبة من الشعب ذاته.

والثانية: بناء الدولة القوميّة، التي تعني توحيد مقاطعات الدولة، بعد القضاء على السلطة الاقطاعيّة، وبذلك مُنِحَتْ الدولة الأوربيّة الواحدة قوّة بعد ما كانت ضعيفةً ومجزأةً.

بيد أن الطبقة البرجوازيّة التي سيطرت على السلطة بالتعاون مع الطبقة "الرابعة" من عمال وفلاحين ومهمشين ومسحوقين، وبعد أن حققت دولها مشروعها القومي بعد القضاء على ما سمي آنذاك بدول المدن، راحت شيئاً فشيئاً تسعى للسيطرة على الدولة والتفرد بسلطتها، ثم تسخير إمكانيات الدولة والأمّة لمصالح مشاريعها الاستعماريّة التي كانت تهدف إلى كسب أسواق خارجيّة للحصول على مواد صناعاتها الأوليّة وتصريف منتجاتها. وتحت مضامين هذا التوجه الاستعماري راحت تبرر استعمارها لشعوب العالم الثالث باسم رسالة الرجل الأبيض، وبدعم من المؤسسات الدوليّة التي صنعتها هي منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، كعصبة الأمم المتحدة التي تأسست عام 1919، والجمعيّة العامة للأمم المتحدة 1945، ثم هي ذاتها راحت تمارس قهرها وظلمها على الطبقة العماليّة التي ساندتها في ثورتها ضد الاقطاع وحوامله الاجتماعيّة من جهة، وعلى البرجوازيّة الصغيرة من خلال المنافسة والاحتكار من جهة ثانية، وعلى عموم الشعب من جهة ثالثة، حيث عملت على تهجين ونمذجة شعوبها عبر إعلامها ودعواتها إلى الحريّة الفرديّة بحدودها شبه القصوى، وإدخالها عالم ما بعد الحداثة، وهو عالم الغربة والاستلاب والتشيء ونهاية التاريخ وموت الفن والأدب والدين والقيم.. الخ.

على العموم لا يمكن لنا أن ننكر ما حققته مرحلة الحداثة التي امتدت منذ استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة في أوربا منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى قيام الحرب العالمية الثانيّة، حيث ساد الأمان والاستقرار والعيش الرغيد للمجتمعات الأوربيّة رغم النتائج السيئة للحرب العالميّة الآولى، وذلك كله ساهم في الحقيقة بالوقوف ضد أية سلطة استبداديّة شموليّة دينيّة كانت أم سياسيّة وضعيّة، متبنية مضمون مقولة "لويس الرابع عشر": (أنا الدولة والدولة أنا).

الحداثة على المستوى العربيّ:

إن من يتابع سيرورة وصيرورة الكيان العربي على كافة مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، سيجد أن هذا الكيان العربيّ ظل يجتر تخلفه منذ مئات السنين دون تقدم على المستوى البنيوي للدولة والمجتمع معا، فالبنية الاقتصاديّة في سياقها العام، ظلت بنية متخلفة لم تستطع تجاوز الاقتصاد الريعي القائم على تصدير المواد الأوليّة للصناعة إن كان على مستوى الزراعة، أم على مستوى الثروات الباطنيّة. فالأسوق العربيّة هي أسواق للبضائع الأوربيّة راحت تدار بعد الاستقلال من المستعمر من قبل شرائح ولا أقول طبقة من التجار الكومبردور العرب، ثم من قبل طبقة من الطفيليين والسماسرة داخل هذه الدولة أو تلك من الدول العربيّة، وبخاصة في الدول التي ادعت التقدميّة، وإن وجدت طبقة صناعيّة فهي طبقة وليدة لم تزل في بدايتها، وإن أكثر صناعاتها تجميعيّة، أو صناعات اللمسات الأخيرة، وعلى مستوى البنية الاقتصاديّة ذاتها في الدول العربيّة التي تبنت التوجه الاشتراكي، فقد ساد أنموذج ما سمي برأسماليّة الدولة الوطنيّة، وهو أنموذج ساهم في تشكيل شرائح من القياديين الفاسدين للمشروع الاقتصاديّ الاشتراكيّ، الذين نهبوا أموال الدولة وأفسدوا بنيتها وآليّة عملها، وتحولوا كما بينا قبل قليل إلى برجوازيّة بيروقراطيّة وطفيليّة عاثت فسادا في الدولة والمجتمع معا.

أما على المستوى الاجتماعيّ: فهي دول ما قبل الدول. أي دول لم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعية المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.

وعلى المستوى السياسيّ: هي دول فرضت فيها المرجعيات التقليدية نفسها على السلطة، فكانت سلطة عشيرة وقبيلة وطائفة، وأمير وملك. أما في الدول التي قادتها أحزاب تدعي الثوريّة والعلمانيّة والديمقراطية، فقد غلبت على قادتها شهوة السلطة، فعسكروا الدولة، وفرضوا قادة لهم سمات كاريزميّة، راحوا يقودون الدولة والمجتمع وفق أجندات غالباً ما راحت تتحكم فيها المرجعيات التقليديّة أيضاً، وهنا أفرغت كل الشعارات التقدمية من علمانيّة وديمقراطيّة ودولة قانون ومؤسسات التي نادت بها هذه الأحزاب التقدميّة ودساتير دولها، لتتحول هذه الدول في بنيتها السياسيّة المؤسساتية التي تشكلت إرهاصاتها الأوليّة بعد الاستقلال، إلى بنية سياسيّة تأبدت فيها السلطة الحاكمة وتحول بعضها إلى طابع وراثي لا تختلف عن الدول التي يقودها الملك والأمير. أي سلطة استبداديّة شموليّة من نمط سلطة الأسرة والقبيلة والطائفة.

إن كل الشعارات  التقدميّة الحداثيّة التي رفعت باسم الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة، في الدول التي تدعي التقدميّة بشكل خاص قد أجهضت، فثورات الربيع العربي بينت أن هذه الأنظمة لم تستطع أن تحقق لا الوحدة الوطنيّة ولا الاشتراكيّة ولا العلمانيّة ولا الديمقراطيّة ولا دولة القانون أو دولة المؤسسات، إضافة لفشل مشروعها القوميّ فشلاً ذريعا، بحيث تحولت إلى دول أو أنظمة منبوذة من قبل شعوبها، التي قامت ضد هذه الأنظمة في أو فرصة سنحت لها للتحرك .

أمام هذا الفشل الذريع في تحقيق النهضة والحداثة لشعوب الدول العربيّة إن كان عن طريق المشروع القومي أو المشروع الاشتراكي، وجد أصحاب التيار السياسي الإسلاموي الفرصة سانحة للتحرك من أجل الوصول إلى السلطة، مستغلين قيام الثورة الإسلاميّة الخمينيّة في ايران ودعهما لأصحاب هذا المشروع، وتطبيق الحاكميّة، وقد لقى أصحاب هذا المشروع السياسيّ الإسلاموي، التجاوب الكبير في بداية انطلاقتها مع ثورات الربيع العربي من قبل الجماهير التي فقدت ثقتها بأنظمتها وقادتها وشعاراتهم التي لم تولد لها إلا الفاسدين والمطبلين والمزمرين وطلاب السلطة، علما أن الوعي الديني ذاته قد عملت كل الأنظمة العربيّة دون استثناء على تغذيته والحض على نشره وتعميمه من خلال مؤسسات الدولة الدينيّة التي تحولت إلى اداة بيد السلطات الحاكمة يتوجه موظفوها بتوجهات هذه السلطات ومصالحها، في الوقت الذي تم فيه محاصرة واقصاء كل المشاريع الفكرية التنويريّة ورجالتها على مستوى المسرح والسينما والبرامج التلفزيونيّة وحتى قيادة مؤسسات الدولة وإداراتها.

إن هذا التماهي بين الدين والسلطة السياسيّة الحاكمة تحت مسمى (العروبة والإسلام) بشكل خاص، أعطا مداً غير عادي لرجال الدين والفكر الدينيّ الامتثاليّ الجبريّ الاستسلاميّ القائم على النقل لا العقل، وعلى ثقافة الفم لا القلم.

أما النتيجة فكانت ضياع للفكر التنويريّ الليبراليّ والتقدميّ عموماً، بل وحتى الإسلامي المعتدل المؤمن بالعقل وفتح باب الاجتهاد. وهنا فقدت الأنظمة العربيّة اليمين واليسار والوسط، ولم يبق في هرمها السلطوي إلا من تحكمت بهم شهوة السلطة والفاسدين وتجار الوطن. وبذلك كرهت الشعوب بهم وبأنظمتهم وشعاراتهم، فكانت ثورات الربيع العربيّ بكل عجرها وبجرها، محاولة للتغير، بيد أن الفساد وغياب المشروع السياسيّ الموحد، والحامل الاجتماعيّ الموحد لها، كان عاملاً هداماً لهذه الثورات، أفقد هذه الثورات كل مضامينها الثوريّة، كون ما قام به قادة هذا الربيع من أعمال لا منطقيّة شكل بنظري مهازل الثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

في المثقف اليوم