قضايا

منبع محدود

أصلي للعقل البشري

إمكانات لا حدود لها.

***

نظرا لهجومه الشديد على السياسة الخارجية الامريكية ومناصرته لشعوب العالم المضطهدة ، كان تشومسكي بالنسبة للعديد من الناس بطلا ثوريا. عمله الرائد الأقل شهرة كان في اللغويات والتي كان فيها تشومسكي مسؤولا عن ثورته الخاصة.

اهتمام تشومسكي في السياسة بدأ مبكرا. في عمر 10 سنوات كتب أول مقالة حول أخطار الفاشية، وفي عمر 12 سنة كان يعرّف نفسه كفوضوي (والداه كانا مسرورين بهذا). كطالب جامعي اصبح مفتونا باللغويات التي درسها الى جانب انشغاله بالسياسة اليسارية. هذا وضع نمطا لحياته مغيّرا الطريقة التي نفكر بها حول اللغة في محاولة تغيير العالم. انه أمر أصعب من ان يفعله رجل واحد، لكن بدا انه يستمتع به.

اعتقد تشومسكي ان اللغويات حقل فرعي لعلم النفس المعرفي، بسبب اهتمامها في البنى اللغوية التي تسكن دماغ الانسان وبالتالي عقله. هذه التراكيب للفهم النحوي هي جزء من موهبة عصبية ورثناها من خلال عملية تطورية. يقول تشومسكي نحن جميعنا وُلدنا ومعنا "نحو عالمي"، أدوات اساسية للتفسير نطبقها على أية لغة تبرز في بيئتنا (لو كنتُ وُلدت في مكان آخر، ربما لكتبت هذه المقالة باللغة الفليبينية او لغة شمال البانيا، ولكنتم انتم بحاجة الى قاموس). هذا يفسر لماذا الاطفال الشباب يمكنهم تركيب أشياء معقدة ومفيدة وجُمل صالحة نحويا بدون امتلاكهم لأي فهم للقواعد النحوية التي يستعملونها (معظم البالغين ايضا ليست لديهم فكرة عن ذلك). انه نظام مذهل حتى لو بقيت الشكوك حول طبيعته، او حتى على وجوده.

المتحدث عند استعماله مجموعة من القواعد المحددة، يمكنه خلق عدد لا محدود من التعابير اللغوية. لذا، فان اللغة تدور حول اتّباع القواعد، وان وجود اية فوضى سيوضح ذلك.

***

حاتم حميد محسن

من واقع الممارسة الصفية:

واقع الممارسة الصفية يفيد أن منظومتنا تعيش مشكل ضعف ناتج التعليم كما ونوعا بموازاة ضعف المردودية الداخلية والخارجية تعلما وأداء لأسباب عدة؛ منها ما هو متعلق بالمداخل النظرية للمنظومة التربوية والتكوينية، ومنها ما يتعلق بالسيرورة، ومنها ما هو متعلق بالتكوين الأكاديمي والمهني الأساس، ومنها ما تعلق بالسياسة التعليمية، ومنها ما يرتبط بالوضعية القانونية والمالية والاعتبارية لأطر التربية والتكوين، ومنها ما هو متعلق بالمتعلم/ة ومعطياته التي نعلمها، وتلك التي نجهلها وما أكثرها، ومنها ما هو ذاتي وما هو موضوعي. وضمن هذه الأسباب ما يرتبط بالتفكير وكيفيته، وما يرجع في أصله إلى المسألة الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية أو العقائدية بمفهوم الإيديولوجيا أو الدينية أو النفسية أو جميعها وزيادة. فعديد الأسباب لا تستوعبها ورقة محدودة المساحة والموضوع.

هذا الواقع يطرح عدة مشاكل وإشكاليات تستوجب الدراسة والبحث العلمي والتدقيق، وليس القول الإنشائي العام؛ بل المتخصص للخلوص إلى أجوبة وحلول وتوصيات تفيد في إصلاح أزمة التربية والتكوين والتعليم في مجتمعنا، بما يؤدي إلى جودتها. ومن هذه الأسئلة التي سأطرحها في ورقتي هذه، ما قد تلامس التفكير العاطفي فتثير فيه بعض المشاعر الحزينة أو تخلق ردود أفعال متسرعة بعيدة عن التفكير البارد وعن التفكير عن بعد، وبنظرة ناقدة للذات والموضوع والمنهج والأدوات معا. أو تخلق تعاطفا متشنجا لقضايا وإشكاليات ومشاكل غدت بحكم الشعبوية صناديق مغلقة مقدسة لا يرقى النقد البناء إلى الاقتراب منها، بحكم حرمتها وقدسيتها التي تغلفها بالقضايا المغلقة إلى الأبد.

والمقدسات في التربية والتكوين والتعليم عديدة؛ منها ما هو سياسي أو إيديولوجي أو إداري أو ثقافي أو فكري أو اقتصادي أو نفسي أو مصلحجي أو مهني. تحولها الموروثات الفكرية والمسلكيات الأدائية إلى مسائل شخصية، بمعنى الشخصنة التي لا يمكن الاقتراب منها. والكثير منها أدخل في إطار الشخصنة دون الخروج منها، ما يعقد مشهد طرحها ونقدها. لكن في سبيل رفع ركام الأنقاض والغبار والأتربة عن جسم المنظومة التربوية والتكوينية التي تتراجع يوما بعد يوم بمنطوق نتائج التقويمات الدولية والإقليمية والوطنية بعيدا عن تلط الاستثناءات والطفرات الرائدة التي في أغالبتها تبنى على مجهودات شخصية لا مؤسساتية؛ يحتمل كل شيء، وتحتمل كل الرذائل من ضعاف النفوس والضمائر وقليلي الوعي. والزمن كفيل بالمراجعة والتصحيح والاعتراف.

ـ من التساؤلات:

هي التساؤلات رحم تخليق الفكر التربوي الباحث، ومفاتيح الدراسات والبحوث، وسبيل التطوير والتجديد، وأداة الإصلاح. لذا، اعتمدت المنظومات التربوية والتكوينية المتقدمة في تطوير ذاتها منظومة علامات الاستفهام اتجاه ذاتها ومواضيعها، ونحو مكوناتها وأدواتها وأطروحاتها النظرية والعملية، ومشاكلها وقضاياها. فشيدت في جسمها آلية صناعة التطور الذاتي، وحضن الإبداع، وحقل البحث والتجربة والخبرة. وقد وعت مؤخرا في العقدين الأخيرين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة من خلال وحدة البحث التربوي ومن خلال المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب أهمية البحث العلمي في خلق بيئة من الباحثين المتخصصين من جهة أولى، ومن جهة ثانية توطين البحث التربوي مؤسساتيا في المنظومة، ومن جهة ثالثة تطوير المنظومة التربوية والتكوينية وتصفيتها من التحديات التي تقف في سيرورة أدائها التعليمي والتكويني. حيث أصدر المركز هذه السنة مشروعه البحثي عبر كراسة مواضيع البحث التربوي ذات الأولوية (نسخة2024)؛ تشمل تسع مجالات، وتتضمن 175 موضوعا إشكاليا للدراسة والبحث؛ من شأنها أن تقارب واقع المنظومة التربوية والتكوينية في أبعاد حكامة التدبير المؤسساتي، والمنهاج والبرامج، التكوين وتطوير الأداء المهني، والوسائط والتكنولوجيا التربوية، والمقاربة البيداغوجي، والإيقاعات الزمنية للدراسة والتعلم، التوجيه المدرسي والمهني، والتقييم والامتحانات.

وانسجاما مع هذا التوجه الجديد للفكر التربوي الرسمي المغربي، وتبعا لهذه الإشكاليات والقضايا والتحديات التربوية والبيداغوجية تبيح وتسمح هذه الورقة لنفسها أن تطرح التساؤلات التالية بعد التقعيد لها من واقع الممارسة الصفية بصفة خاصة، وبصفة عامة من واقع المنظومة التربوية والتكوينية.

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية أن سيرورة الأداء التعليمي يشهد توارث ثقافة بيداغوجية تقليدية ومتقادمة عبر سنين طويلة، وعبر أجيال متعاقبة من أطر التربية والتكوين؛ تحمل في طياتها نظريات تربوية ومدرسية متجاوزة، تتحكم في الذاكرة الجمعية والفردية للمنظومة التربوية والتكوينية من قبيل رؤى وأفكار ومقولات في بنية ووظيفة العملية التعليمية التعلمية سالبة لإرادة الفعل والكينونة لدى السياسي والمبرمج والمقرر والمدبر التربوي، فضلا عن رؤية مهنية خطية توحد سحنة الممارس البيداغوجي في قالب معين ضمن سلسة مهنية متشابهة الحلقات والدوائر والإجراءات والأفعال والخطاب. تكاد لا تجد فيها إلا القليل من التمايزات والتفردات نتيجة التكوين الأساس النمطي والثقافة البيداغوجية المشبعة بالنمطية والتقليد والتوحد المتعدد الكمي. والخروج عن هذه النمطية وهذا التقليد وهذه الخطية يوجب الشجب بأغلظ الألفاظ، والوصف بالخروج عن العادة، وعن الإجماع المهني، والانفراد عن الجماعة المهنية، ما يقوض تجاوز التراثيات من الأدبيات التربوية والتكوينية، ويؤدي إلى الانضباط للخطاب المدرسي وسياقه، ومن ثمة عدم كسر خطية الرؤية المهنية للمنظومة والممارسة الصفية، وعدم تهشيم سحنة الإطار التربوي بما فيه الممارس البيداغوجي. وخلاف ذلك فنشاز وخروج عن السلم الموسيقي ونغماته المعتادة، وخروج عن الفرقة الموسيقية.

هذه الثقافة البيداغوجية بمضمونها وحمولتها التقليدية قادت إلى بناء هرم من الامتيازات والمصالح والمنافع، وأحاطتها بهالة من القدسية والحرمة كأن تلمس عن قرب في واقع الممارسة الصفية عظم دور الدعم وتعظيمه إلى حد بعيد، أصبح معه الدعم مضمون الفعل التعليمي التعلمي بدل الفعل المدرسي تخطيطا وإعدادا وأداء ضمن أطر نظرية وتطبيقية حديثة تتساوق مع المعطى الواقعي للمتعلم/ة وحيثيات مستلزمات ومطالب ومتطلبات الممارسة الصفية الميدانية. فإن لامس النقد هذا الدعم بعلامات استفهام عديدة كالتساؤل عن اتساع رقعة الدعم المؤسساتي والخارجي مقابل الادعاء بأن المنظومة التربوية والتكوينية تؤدي واجبها المهني على أحسن وجه؟! واجهك الخطاب التربوي الرسمي بمجموعة من الدفوعات غير المنطقية وغير الموضوعية وغير العقلانية؛ من قبيل: المبرمج والمهندس والمخطط التربوي يدري ما يفعل، وكيف يفعل. ونجد أن النقد قاصر على بلوغ درجة فهم ووعي ماهية الدعم ووظيفته ودوره الحاسم في المعالجة التربوية، وتجويد الناتج التعليمي ... وما إلى ذلك من الأدبيات التربوية! ويبادر بعض أطر التربية والتكوين أن الدعم من حق المتعلم، وهو حق مشروع للإطار التربوي والتكويني يحسن به دخله وأجره، وما الضير في ذلك، وإنما ملامسة النقد للدعم تقع في دائرة الحسد ... وإلى ما يتساوق معه من قاموس الاستهلاك اللغوي الشعبوي والخرف التربوي. أو كأن تجد الارتخاء في أداء الواجب المهني والرسالي على مستويات مختلفة يبرر نفسه بحجج واهية كضعف الأجرة أو كثرة المهام أو كثرة الإعداد والوثائق ... أو كأن تجد تمثلات وتصورات مسبقة عن المتعلم/ة أو عن الممارس البيداغوجي أو عن أية أطر أخرى؛ بدعوى أنها ممارسة عامة، وهي في حقيقتها ممارسة شخصية أسقطت وانسحبت بالشعبوية إلى التعميم والقياس عليها. وهنا يحضرني موقف وقع مع إحدى أطر المراقبة التربوية في نهاية السنة الدراسية الماضية حين زارت إحدى المؤسسات التعليمية في بداية شهر يونيو، وأردفتها بأخرى؛ فألفت الدراسة متوقفة، وحين تساءلت عن الظاهرة واستنكرتها، لأن أبناء الأمة في هذه النازلة هم الضحية. اتحد الجمع الشعبوي عليها، من زارته ومن لم تزره، وقام ضدها بالاحتجاج والشجب واسمين إياها بالتصيد والضغط وما جاور هذه السمات. وهو أمر متوارث عبر الشعبوية التعليمية.

وهذه الثقافة البيداغوجية المتوارثة بصيغتها الماضوية تدفع إلى الركون للماضي وحيثياته التاريخية المنغلق على ما هو مألوف ومعتاد من تفاصيل الرؤية والإعداد والأداء. الأمر الذي يؤدي إلى سكون الفعل التعليمي وثباته في قوالب فكرية محددة، وتبريد الدرس المدرسي؛ في صيغ معينة؛ حيث يقود السيرورة التعليمية إلى تحصيل نفس الناتج التعليمي والمردودية الداخلية والخارجية عبر السنين. وإن كانت في كثير من الأحيان ومع مرور الوقت تتجلى بنسخ رديئة وسيئة الشكل والمداد والأوراق تبعا للتغيرات التي تحصل في تلك الثقافة البيداغوجية التقليدية، التي تنتهي صلاحيتها يوما بعد يوم، بما فيها ثقافة الممارس البيداغوجي ذات العوامل والمتغيرات العديدة كمعطى تنشئته الاجتماعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والنفسي، ومنظومة قيمه وقناعاته ومواقفه الشخصية من المسألة التعليمية التعلمية والمهنة؛ الذي أصبح اليوم بفعل اختلالات المنظومة التربوية والتكوينية يؤول إلى الضعف، وهو مؤشر ذو دلالة إحصائية عما يروج في المجتمع ككل. فهو لا ينفك أن يكون مظهرا من مظاهر المجتمع. وهو لا يلام في ذلك إلا إذا ركن إلى هذا التقليد دون أن يفعل إرادة تغيير الذات بالتكوين الذاتي انطلاقا من كونه باحثا ومثقفا ومثالا وقدوة.

ومن هذه الثقافة التقليدية وهذه النمطية والخطية ننطلق إلى التساؤل حول مدى دورها في مقاومة التغيير والتطور، بما تمنحه من سكون واعتياد وركون للعادة واستسلام للقائم المستمر بروتين اليومي، يريح الممارس البيداغوجي من عناء التفكير والإبداع والتجريب ومتطلباته المتنوعة، وعناء التخطيط والإعداد للممارسة اليومية حسب معطيات وحيثيات واقع الفعل التعليمي العملي. وهو ما إذا فعل؛ يتطلب جهدا إضافيا ووقتا كذلك. وهل الممارس البيداغوجي وغيره حاضر لتقديم ضريبة التفكير والنقد والإبداع والتغيير والتطوير؟ وهل السياسوي حاضر هو الآخر لإسناد هذا التطوير والتغيير بالمال والإرادة السياسية التي تقتنص الفرصة، وتمنحها ظروف النجاح؟

ـ يفيد واقع المنظومة التربوية والتكوينية والممارسة الصفية وجود مجموعات الضغط والمقاومة الداخلية لأي تغيير وتجديد وإصلاح؛ لما ترى فيه تهديدا لمصالحها وامتيازاتها، ودفعا لكل ما من شأنه أن يمس بها ويشكل في نظرها خطرا عليها! خاصة إذا كانت هذه المصالح والامتيازات مالية واعتبارية، أي متعلقة بالاقتصاد والوضع الاعتباري في المنظومة التربوية والتكوينية على مستويات متنوعة كالمستوى الإداري أو التربوي أو الفكري. الأمر الذي تجد معه هذه المقاومة تشتغل بأساليب صريحة ومضمرة من أجل التخلص من ذلك التغيير والتجديد. فلكل إصلاح مهما كان جادا ومسؤولا قسط من مجموعات الضغط والمقاومة تستخف بجدواه وتشكك في فاعليته ومفاعله ونتائجه، من حيث تركز على قضايا هامشية تشد انتباه أكبر عدد من أفراد المجتمع المدرسي والمجتمع العام، وتبث الإشاعات والكلام العام البعيد عن الحقيقة والموضوعية والعقلانية، وتعمل بشكل نشيط على ربط العلاقات المتنوعة مع صانعي السياسات والقرارات، وأصحاب المصلحة الأساسيين في مقاومة التغيير والتطوير والتجديد والإصلاح، وأصحاب المصالح المتقاطعة مع مصالحهم، بما يعطي دفعة قوية لأنشطتهم المخملية والناعمة في أغلبها، لحصار مشروع الإصلاح. ويهمسون في أذني صاحب القرار الأعلى بالأراجيف، ويظلون كذلك حتى ينساق إليهم وينفذ رغباتهم. وهكذا ينسف مشروع الإصلاح، أو يمارسون الضغط والمقاومة من خارج إطار مواقعهم الرسمية بالإيعاز لتوابعهم وزوابعهم وأزلامهم وزبنائهم بممارسة الضغط ضمن عواصف فكرية وهواجس نفسية مفتعلة، بمسوغات شتى داخل أطر جمعيات مدنية أو منظمات سياسية كالنقابات والأحزاب والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي ... وغيرها من وسائل بناء الرأي العام وتشكيله وفق توجهات واتجاهات معينة تدفعه إليها دفعا. وتكون فيها مجموعات ولوبيات الضغط ومقاومة التغيير المستفيد المستتر تحت البنية السطحية لتلك الأطر المدنية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية ... أو قل هي مجموعات ولوبيات المقاومة والضغط البنية العميقة لتلك الأطر.

وتسعى هذه اللوبيات والمجموعات إلى تزييف الوعي الفردي والجمعي والوعي العام بالقضايا التعليمية بتغييب عميقها وأساسيها عن التعرية عنها، وبتظهير تلك الظاهرة منها والسطحية والبسيطة كأنها هي الأساسية والمركزية، بمعنى تغييب القضايا والمشاكل الأركان، والإضاءة على القضايا والمشاكل الشرطية والثانوية والهامشية كأن تعلي من شأن الدعم التربوي وتجعله مشكلا رئيسا ومركزيا تتمحور حول مجمل القضايا التربوي، بدا التساؤل عن جودة الأداء التعليمي والممارسة الصفية تخطيطا وهندسة وإعداد وأداء؛ مما يقدمها كأنها هي الجوهرية في المنظومة التربوية والتكوينية، نتيجة غياب إعمال التفكير النقدي لدى الأغلبية، الذي يقود إلى حقائق الأمور. فالشروط تشكل المشترك بين الأغلبية، وتولد العواطف والمشاعر وتجذب الجمهور، وتدغدغ المشاعر، وتجلب فكر القطيع؛ خاصة إن كانت شروطا مادية ومالية. وتوظف في سبيل ذلك كل وسائطها ووسائلها، وتشكل حولها هالة ديماغوجية لاستقطاب الأتباع والجمهور الواسع والعريض. وتعمل هذه المجموعات واللوبيات على تعبئة أطر المنظومة والآباء والمتعلمات والمتعلمين والشارع وغيرهم من أعضاء المجتمع التعليمي والمجتمع العام ضد الإصلاح، وتنشئ حركة للوقوف ضده ـ ولو؛ لم يطلع عليه أولئك المنخرطون فيها! فلو سألت أحدهم لماذا أنت ضد هذا المشروع؟ وما هي تفاصيله التي أدت بك إلى اتخاذ هذا الموقف؟ لأجابك بنفي علمه بها، فهو تابع فقط ـ مقابل تشكيل شعبوية من أجل مناهضة التغيير والإصلاح. وهي الشعبوية التي تمارس الضغط الشعبوي على أصحاب القرار لمراجعة قراراتهم إقرارا أو توقيفا أو تعديلا أو إنشاء أو تصحيحا، مما يؤثر في مشروع الإصلاح ـ وهنا؛ يمكن القول بأن الفكر الشعبوي أخطر على المنظومة التربوية والتكوينية من الأخطاء التربوية.

كما هذه المجموعات بمقدورها في غياب التفكير النقدي والتفكير المنطقي والموضوعي وبحضور الشعبوية أن تغير سياسات برمتها لا قرارات فقط؛ فهي تعمد إلى اقتراح سياسات وقرارات بديلة، وتسوق حلولا، كثيرا ما تخدمها وإن أزمت الوضعية وعمقت أزمتها ورفعت درجة آلامها، دون أن تقارب المشكلات والقضايا الرئيسة في نظام التربية والتكوين والتعليم بحلول ملموسة وناجعة، أي التعاطي مع محيط الدائرة لا مركزها  ـ لذلك؛ نحن دائما نحل مشكلا بمشكل أكبر منه ـ وتسعى جاهدة لإقناع صناع القرار التربوي بوهم فعالية اقتراحاتها، من خلال المشاركة في المناقشات الدائرة حول الإصلاح وفي اللجان والمشاورات المتعلقة به، التي تفتحها الجهات العليا للمنظومة التربوية والتكوينية. وتحاول عبرها تغيير القرارات السياسية والإدارية والتوجهات البيداغوجية لصالحها لاستيفاء مصالحها. فمن خلال عملها واشتغالها من داخل أو من خارج المنظومة التربوية والتكوينية باعتماد استراتيجيات وأساليب ووسائط وأدوات مختلفة، يمكنها أن تلعب دورا حاسما في تعزيز موقعها ومفعولها في مقاومة التغيير والإصلاح التربوي.

وبما أن الشعبوية ـ وهي من المغالطات المنطقية ـ تستطيع تجييش الجموع ضد أو مع موضوع أو فرد أو مؤسسة أو فكرة أو قرار ... فهي قادرة على سحق نضالها حين تتخذ من التجمع دليلا على صحة وصدق طرحها، وتغدو بالمخالف إلى منطقة النعوت والشجب، وربما الاحتقار والاستهجان أو التعنيف. وهي الشعبوية تكون إيجابية حين تقوم على حقائق ووقائع واقعية ومنطقية، لأنها تملك حين ذاك المرتكز المنطقي والموضوعي للتحشيد والتجييش والتجميع تحت منطق المؤسسة أو منطق الرأي العام للدفاع عما التزمت به. وأما ما تقوم به من خارج ذلك؛ فهو ضرب من المشاعر والاندفاع والتشنج، تنتج ردود أفعال غير مرغوبة ولا مطلوبة أو نواتج سلبية في بعض الأوقات. ومن أجل توضيح هذا، نقدم بين يدي هذه الورقة مفردة من مفردات المعيش اليومي للممارسة الصفية. ذلك أن انخراط الفرد في مؤسسة ما، وهب هي نقابة أو تنسيقية أو منظمة، يلزمه ذلك حسب قوانينها الخاصة والمبادئ الأخلاقية للجماعة المهنية والإنسانية الانخراط في أنشطتها والامتثال لمقرراتها وقوانينها. وانخراطه هذا؛ انخراط مستقل عن باقي المنخرطين عضويا بحكم استقلالية شخصه وحريته الفردية. وهو مرتبط بالمنخرطين بحكم الامتثال للقرارات والمشاركة في الأنشطة فقط. لكن ـ مع الأسف الشديد ـ الشعبوية وفكرها تجعل هذا الارتباط ارتباطا عضويا وامتدادا للتجمع والتكتل البشري أو لمكونات المؤسسة في الفرد ذاته، تتجمع عنده وفيه، تلغي استقلاليته وحريته، تفرض عليه وصاية شاملة وكاملة، تلغي إرادته وحرية اتخاذ قراره الشخصي. فقد سمعت مؤخرا قصة أحد الممارسين البيداغوجيين الذي يشتغل مع منظمة مدنية غير حكومية في المجال التربوي، وهو منخرط في إضراب هيئة التدريس الحالي بكليته. وتعرض لأجل ذلك لاقتطاعات من أجرته ضخمة المبلغ؛ ولكنه عندما انخرط مع منظمته المدنية في الدعم أثناء العطلة، وهو قرار شخصي من خارج قرار نقابته لا علاقة لها به، وعلم به بعض الزملاء، استنكروا عليه ذلك وعاتبوه ووبخوه، ودفعوه إلى مقاطعة الدعم. وهنا تنبعث من رماد الشعبوية أسئلة تفصح عن خطابها بالقول:

* هل للدعم مع منظمة مدنية علاقة بقرار النقابة؟ وهل قرار النقابة يسري على مجموع أعمال وأفعال منخرطيها؟ وهل خرق هذا الممارس البيداغوجي قرار النقابة؟ أليس قرار النقابة محددا ومحدودا بمهام معينة في زمن ومكان معينين أم ممتدا إلى كل مهام وفي كل زمان ومكان؟

* أليست الشعبوية هنا أضرت بهذا الممارس البيداغوجي مرتين؟ مرة بالاقتطاع ـ ونحن نعلم أن النقابات الجادة والمسؤولة تأمن منخرطيها ومنتسبيها لدى شركات التأمين من أجل تعويضهم أثناء الإضراب حين تقتطع الدولة لهم أيام إضرابهم ـ ومرة ثانية حين منعته من الاشتغال في الدعم المأجور عليه والتعويض عن الاقتطاع من أجرته؟ وفي أي سياق يمكن تفسير الاستنكار والعتاب والتوبيخ والمنع؟

* هل عوضت الشعبوية وفكرها مبلغ الاقتطاع بالتبرع من جيبها لصالح هذا الممارس البيداغوجي باسم النضال والجماعة والمنفعة العامة والاتحاد ... وغيرها من هذه اللغة الديماغوجية؟ أم الشعبوية شاطرة فقط في اتخاذ المواقف والقرارات المتسرعة والخاطئة، والأحكام القاتلة خاصة منها أحكام القيمة السلبية التي لا تترك للتفكير العقلاني والموضوعي والنقدي مجالا للظهور بله تفعيله؟

* أليس لهذا الممارس البيداغوجي حرية اتخاذ قرار الفعل خارج قرار النقابة التي التزم به ومازال يلتزم؟ هل مارس الدعم أثناء الإضراب وفي زمن ومكان الإضراب؟ كيف لهذه الشعبوية أن تخلط الأمور وتعجنها في تركيبة عجيبة غريبة؟ هنا سقطت حرية واستقلالية وقرار وذاتية الممارس البيداغوجي بربطها بالآخر الذي لا يرتبط به إلا من خلال المؤسسة فقط، وأصبح مقيد اليدين بالشعبوية وفكرها المضطرب الذي لا يحلل مواضيعه داخل أطر فكرية سليمة وواضحة ويخلط الأمور ويعجنها عجنا.

وهنا؛ أسجل أن الممارس البيداغوجي هذا لا يملك شخصية قوية لمواجهة الآخر، أولا بالعقل والفكر والدفاع عن قراره مع نقد موقف شركائه في المؤسسة، ثم ثانيا بالفعل والاستمرار فيه دون تأثر بالآخر. فهو خارج قرار الإضراب وزمانه ومكانه حر ومستقل في قراراته وتصرفاته وأفعاله وسلوكه، المبني على منطق صحيح من حيث لا علاقة البتة لقرار الإضراب بقرار الدعم. ولا علاقة دموية ولا عرقية ولا مصاهرة أو ما وازاها، تربطه بالآخر داخل المؤسسة النقابية تسمح لهذا الآخر أن يفرض عليه رأيه أو قراره، فهو والآخر في كفتين متوازنتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى اتجاه المؤسسة النقابية. وله كامل الصلاحية أن يتخذ قرار المشاركة في الدعم أو غير الدعم لأن ذلك لا علاقة للنقابة به؛ لكن فيما يخص قرار النقابة فيظل ملتزما به بمعطياته وحيثياته وتوجيهاته. وهذا ما يميز الشخص المستقل والحر والمسؤول عن الشخص الشعبوي الذي يهرج أكثر مما يعقلن ويرشد ويوجه. فالفكر الشعبوي دائما يعمم الظواهر، ويندفع إلى الأمام؛ بينما غيره من الفكر لا يعمم، بل يفصل ويحلل ويدقق ويدرس الحيثيات وغيرها ثم يتخذ القرار بحكمة.

ومن مفعول هذه المجموعات واللوبيات الشعبوية، يمكن أن تتجلى بخصوصها علامات استفهام عديدة، أقلها:

* ألا تشكل المقاومة الداخلية للوبيات الضغط والعرقلة كوابل لمشاريع الإصلاح؟

* ألم تساهم هذه المقاومة الداخلية في ضعف وتخلف المنظومة التربوية والتكوينية؟

* ألم يحن الوقت أن نفعل التفكير النقدي لتبئير الرؤية في المشاكل والإشكاليات والقضايا الجوهرية الأساس في أزمة التربية والتكوين؟

* ألا يمكن عزل الشعبوية عن الملف التربوي والتكويني، وعن الملف المطلبي المهني لأطر المنظومة التربوية والتكوينية، للتدقيق العقلاني والعلمي للمشاكل والإشكاليات والقضايا والمطالب؟

* ألا يمكن مقاربة أزمة التربية والتكوين من خارج الدلالة السيميولوجية لمجموعات ولوبيات الضغط والمقاومة، التي تشير أولاها إلى وقوع أزمة المنظومة التربوية والتكوينية في دائرة التجاذبات السياسوية والنقابوية والتيارات الإيديولوجية بدل الحوار التربوي والثقافي والفكري؟

ـ يفيد واقع الممارسة الصفية أن المردودية الداخلية والخارجية ضعيفة وهزيلة، بدلالة رتب المنظومة في التقويمات الوطنية والإقليمية والدولية، وبدليل نسبة انخراط المنظومة الضعيف في البحث العلمي والإنتاج الفكري والتقني والتطبيقي المتطور والمطور. وبدليل مفارقة مردوديتها الداخلية والخارجية لمتطلبات سوق الشغل ... ما أسس لتمثلات سلبية عن المؤسسة التعليمية العمومية بصفة عامة ـ رغم وجود نماذج منها استثنائية مشرفة ومشرقة وناجحة ومتفوقة ـ أدى إلى هجرها والانسحاب منها اتجاه المؤسسة التعليمية الخصوصية. ويزيد هذه المشهدية السلبية تضخيما مشاهد زمر أبناء أطر التربية والتكوين، وهم يتسابقون على الدراسة في مؤسسات التعليم الخصوصي. فينطلق من رماد نار آلام الحسرة على التعليم العمومي أسئلة نقدية مؤلمة وحارقة:

* لماذا لا يدرسون أطر التربية والتكوين والتعليم أبناءهم في المؤسسة التعليمية العمومية التي هم جزء منها؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في ناتج التعليم عند المتعلم؟

* ألا يطرح انسحاب أبناء أطر التربية والتكوين والتعليم نحو التعليم الخصوصي شكا مبررا في جودة المنظومة؟

* ألا يشكل ذلك مبررا منطقيا لشرائح المجتمع أن تولي وجوه أبنائها وبناتها شطر المؤسسة التعليمية الخصوصية؟

* ألا يؤدي هذا الأمر إلى تفريغ المؤسسة التعليمية العمومية من مواردها ومدخلاتها، وبالتالي إلى إغلاقها؟

* ألا يعد هذا المشكل الجوهري والاستراتيجي بداية رفع اليد عن التعليم العمومي مع انخراطنا الواعي أو غير الواعي فيه؟

* إلى أي حد سنبقى حبيسي التفكير الآني دون التفكير الاستراتيجي والرؤية بعيدة المدى العميقة الواعية؟

ـ هو النظر العقلاني والموضوعي في مسيرة ومسار مجموع مشاريع الإصلاح منذ 1965 إلى 2015 واستمرارا حتى الآن، يفيد حركية عرقوبية، تفقد الأمل في الإصلاح، ويحيلنا على الفكرة الأساس الناظمة لكل هذه المشاريع، وهي وجود سؤال الجودة في عمق المنظومة. بما هي أم المشاكل الأخرى؛ ذلك أنه إن لم تحل مشكلة الجودة، وإن حلت المشاكل العرضية، يظل سؤال جودة النتائج والمردودية الداخلية والخارجية مطروحا. وبالتالي تبقى مسألة الثقة في المنظومة التربوية والتكوين بمنطوق المؤسسة التعليمية العمومية قائمة وملحة على آباء وأمهات وأولياء المتعلمات والمتعلمين، ومحفزة على إيجاد حلول لها، إما بالدعم الأسري أو المؤسساتي أو الخارجي أو الذاتي، أو الالتحاق بالتعليم الخصوصي، ما توفرت ميزانيته لدى الأسرة. ومشاريع الإصلاح دائما تولد لدى المجتمع أسئلة عديدة، من قبيل:

*ما المشروع الناجع لإصلاح المنظومة التربوية والتكوينية يقطع مع عرقوبية الإصلاح؟

*إلى متى ستنتهي هذه السلسلة من مشاريع الإصلاح بالقطع النهائي مع فكرة الإصلاح والترقيع بالابتكار والإبداع والتجدد، والإنشاء وفق الراهن والمتوقع المستقبلي من متطلبات العصر؟

*ما الضمانات التي تطمئن الأسر على انتهاء الاحتقان والإخفاق بتلبية مطالب الإصلاح؟ وتؤدي إلى جودة التربية والتكوين والتعليم العمومي؟ وتفعيل الأطر التربوية والتكوينية تحت سقف أداء الواجب المهني والرسالة التربوية على الوجه المطلوب والمحدد، واستيفاء الحقوق حسب المنصوص عليها قانونيا وتشريعيا؟ ما الكفاءة المهنية الدالة على جودة الممارسة الصفية، المساهمة في خلق الثقة في المؤسسة التعليمية العمومية من جديد؟

* ألا يوقع مسار هذه المشاريع المنظومة التربوية والتكوينية في التسيب والارتجال والتخبط والعشوائية والانتقائية، من خلال إصدار القرار والتراجع عنه، وإصدار الأمر وإلغائه، وإصدار المذكرات والتوجيهات والعدول عنها في ذات السيرورة؟

* إلى أي حد سيبقى إصلاح الإصلاح، وإصلاح إصلاح الإصلاح يستهلك الطاقة والجهد والزمن والمال دون أن يحدث إصلاحا، وإنما ينتج الثقافة المصلحجية في النسق التربوي والتكويني والتعليمي؟

ـ في ثقافتنا الإسلامية والعربية والخطاب التربوي التقليدي المغربي؛ العملية التعليمية التعلمية تربط بالبعد الديني، بما يضفي عليها طابعا من الأهمية والقدسية يوازي مكانة علوم الشريعة الإسلامية، وتوازي المؤسسة التعليمية فيها مقام دور العبادة من مساجد ومصليات. الطابع الذي يمنحها مقاما عقائديا محترما في المجتمع والدولة، حيث سجل التاريخ المغربي احتضان المجتمع للمؤسسة التعليمية ماديا ومعنويا واجتماعيا وثقافيا؛ إذ كان هو الذي يهيئ المؤونة لها فضلا عن بنائها وجري الأوقاف لأجل تدبير متطلباتها وتدبير مستلزمات أطرها. ذلك أن معجم المنظومة التربوية والتعليمية كثير من مدخلاته الاصطلاحية واردة عليه من الحقل الديني كالفقيه والتأديب والأدب والتهذيب والتزكية ...  ويستوجب حاليا العناية في كل المستويات والأبعاد، خاصة بعد الهندسة البيداغوجية والبعد الإنساني لأطرها. ذلك أن الهندسة البيداغوجية الواعية والمفكرة والناقدة والمبدعة كفيلة بخلق استراتيجيات تربوية وتكوينية تستهدف الحاضر والمستقبل عبر قراءة واعية للكائن وللممكن الذي يشيد رؤية واضحة لهما تسير بشكل منهجي وعملي إلى تحقيق الأهداف، ووضع مناهج دراسية وممارسة صفية جيدة وفعالة وفاعلة في سيرورة الفعل التعليمي التعلمي تؤدي إلى ناتج تعليمي جيد. والبعد الإنساني كفيل بالاهتمام بأطر التربوية والتكوينية من خلق الظروف البيداغوجية الجيدة، والظروف الاجتماعية والمادية والمالية المساهمة في الاستقرار النفسي والاجتماعي والمالي والارتياح للفعل التربوي والتكويني، واﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺴﻴﻜﻮﺳﻮﻣﺎﺗﻴﻜﻴﺔ المواتية التي تعمل على الرضا عن النفس وتخلق الحافز للعمل ... وغيرها.

هذه المكانة للمنظومة التربوية والتكوينية في التراث التربوي الإسلامي لم تعد قائمة في المجتمع؛ عندما تحولت أداتها الفاعلة وهي المؤسسة التعليمية من مؤسسة مجتمعية إلى مؤسسة مرفقية. بمعنى لم يعد المجتمع هو الحاضن والمسؤول عنها وإنما الدولة هي الحاضن والمسؤولة. وتحول الفعل التعليمي التعلمي من الرسالة إلى الوظيفة، فانتزع البعد العقائدي من واجب الرسالة، وعوض بالواجب المهني، الذي يرمز في أحد أبعاده إلى العمل مقابل الأجر بعيدا عن العامل العقائدي الذي يضفي على الممارسة الصفية البعد الإنساني الأخلاقي العام لا الأخلاقي المهني فقط كما في الواجب المهني؛ أي البعد الأخلاقي في الرسالة يغطي كل الممارسة الصفية وتفاصيلها وحيثياتها باستحضار الخوف من الله تعالى الضامن لعمق الضمير الإنساني في أعلى صفائه ونقائه. بينما في الواجب المهني هناك منظومة الأخلاق المهنية التي قد لا تغطي كل تفاصيل وحيثيات الممارسة الصفية. فمثلا في الرسالة نستحضر البعد الإنساني في الفعل التعليمي، وفي الوظيفة نستحضر الخدمة في حدود أخلاقياتها.

وهذا الانتقال من الرسالة إلى الوظيفة يسمح لمكونات المنظومة التربوية والتكوينية بمساحة معينة لتحييد البعد الإنساني من الممارسة الصفية تخطيطا وإعداد وإنجازا وتقويما. ونحن نلمس مدى الأخطاء الكبيرة والاستراتيجية التي وقعت فيها السياسة التعليمية والتنظير التربوي والتكويني والتدبير العملي لما خطط ونظر له دون أن يرف جفن لأحد، ونحن نلمس عن قرب ما يقع حاليا للمتعلم/ة من تأثيرات التجاذب والاحتقان والتحارب السياسوي والنقابوي والشعبوي، وليس له يد في هذه المحرقة السياسوية والاجتماعية! وعليه يمكن طرح بعض الأسئلة، لعل أجوبتها تقود إلى مراجعة الذات قبل فوات الأوان.

* ألم يشكل الانتقال من مفهوم ومضمون الرسالة إلى مفهوم ومضمون الوظيفة عاملا في فقد المنظومة التربوية والتكوينية روحها الإنساني؟

* ألا يمكن أن نستحضر بعدي الرسالة والوظيفة في تكامل بينها لأجل إحياء ضمير المنظومة التربوية والتكوينية من ألفها إلى يائها؟

* ألا تشكل الرسالة قبل الوظيفة دافعا رئيسا إلى التفكير الاستراتيجي في إنصاف كل مكونات المنظومة التربوية والتكوينية تحت سقف الجودة والارتياح والإبداع؟

ـ ألا يمكن العودة من الوظيفة إلى الرسالة لإحياء ما مات من الأخلاق والقيم في المنظومة التربوية والتكوينية؟

ـ ألا يمكن لمفهوم الرسالة أن يوحد الجميع تجاه المنظومة التربوية والتكوينية بما يخدمها، ويخلق التقاطعات والتقارب من أجلها؟

ـ نحو الوعي:

هذه مجرد علامات استفهام تقع على الواقع لتسائله عن آفاق المؤسسة التعليمية العمومية بالدرجة الأولى، وتحاول أن تخلق مساحة للحوار الاستراتيجي حول مآل قطاع حيوي، لا تنفك الأمم الراقية والمتقدمة أن تموضعه موضع الدماغ والقلب من جسدها المجتمعي والوطني، لعلها تحاصر به علل الجسم وتقضي على سرطاناته القاتلة. وما أكثرها حين يهن الجسم وتخور قواه، تتكالب عليه لأجل الانتعاش والاسترزاق عليه وامتصاص دمه ثم في الأخير نعيه والتكبير عليه.

ورافعة الحوار الاستراتيجي حول المسألة التربوية والتكوينية الوعي الفردي والجمعي للسياسة والسياسة التربوية أولا، ثم للقضايا والمشاكل والإشكاليات الحقيقية والمركزية والجوهرية، بمنظور بعيد المدى، يضع الغايات والأهداف والسيرورات والاستراتيجيات والتقويمات والتدخلات، ويقصد النتائج المستهدفة مباشرة ملغيا كل الهوامش والديدان الزائدة، بعزيمة جادة وقوية لا تلين لأحد مهما كان. ولا ترضخ للضغوطات ولوبيات المقاومة مهما كانت قوية وكثيفة، وهي رهن لمسؤولياتها المهنية والرسالية، وأخلاقها وإنسانيتها فقط. تاج وجودها الصالح العام للمتعلم والمتعلم فقط، وما دون ذلك من إنصاف أطر التربية والتكوين، ووضع المناهج والبرامج والمشاريع والخطط التربوية والتكوينية والاستراتيجيات ومتطلباتها المادية والمالية والظروف المناسبة والمسهلة، يهون ويسهل أمامه بالإرادة السياسية القوية في تهييئها من أجل تحقيق ذلك الصالح العام. ويتلاشى بعزمها على التغيير والتطوير والتجديد. وأما وأن تنتقي بعض المكونات منها للتعاطي معها؛ فذلك أسلوب أعرج أو عقل يرى بعين واحدة، لأن المسألة التربوية والتكوينية هي نسق مفتوح، تؤثر مكوناته البعض في البعض، ويؤثر في الأنساق الخارجية ويتأثر بها. وهو أمر جلي في الحراك والنضال الحالي.

والحوار الاستراتيجي هنا لابد أن يدرس التاريخ والسوابق والتجارب بكل معطياتها وحيثياتها لكي يستفيد منها، ويستفيد من الخبرة، خاصة أن منظومتنا التربوية والتكوينية راكمت ورصدت بنكا كبيرا من الخبرة التربوية والتكوينية والمعرفة والتجارب والطاقات والكفاءات. قادرا على إحداث التغيير والتجديد والتطور المنشود تحت جودة عالية بعيدا عن كوابح الإصلاح، وتحت غطاء الإرادة السياسية القوية والقادرة والحاضنة بكل حنان وسخاء لهذا البنك. لكن إذا غادرنا الوعي ومنطق التفكير بعيون متعددة إلى ما اعتدنا عليه؛ فلن نزداد إلا غرقا في وحل المستقبل الذي بدأ يبتعد علينا بسنين ضوئية كبيرة، أو لنقل يبتعد علينا بفرط الصوت المتسارع. ما سيتركنا ويرحل، ولعل عصر الذكاء الاصطناعي مؤشر عن بداية هذا المستقبل. وعليه؛ لابد للسياسة التربوية وللعقل التربوي والتكويني المغربي أن تذهب إلى التفكير في تحليل وتفكيك أزمة التربية والتكوين من كل مناحيها وجوانبها وتفاصيلها ومفاصلها للخلوص إلى نتائج معبرة عن الواقع ودالة عليه، لإقامة حلول عليها صحيحة وسليمة. ومنه؛ يمكن أن ننجح في الخروج من الأزمة وتجاوزها بأنفسنا.

وآمل أن نعي لما للمشاكل العميقة والسطحية من تأثير سلبي في سيرورة ومردودية وناتج المنظومة التربوية والتكوينية ومخرجاته، التي سجلت تراجعا ظاهرا وواضحا وبائنا وملموسا في نتائج التقويم الدولي PISA لمستوى التلاميذ دورة 2022 مقارنة مع دورة 2018، أخرت رتبته إلى 71 في مجال "الرياضيات"، وإلى 79 في مجال "القراءة"، وإلى 76 في مجال "العلوم"؛ مما تراجعت معه المنظومة التربوية والتكوينية المغربية ب 9 رتب في " القراءة والعلوم" من بين 81 دولة مشاركة!؟ فإن لم نع ما ذكر؛ فذلك خلل في التفكير والمنظور والأداة، يؤدي إلى استدامة أزمة المنظومة التربوية والتكوينية كما حدث ويحدث لنا في مسار الإصلاح. ويتطلب هذا تكثير وتبئير الجهود المختلفة نحو تجاوز التحديات. وذلك أمر ليس سهلا ولكنه غير مستحيل.

***

عبد العزيز قريش – باحث تربوي من المغرب

إن فرض الرقابة على اللغة المنفلتة يهدد حريتنا في التفكير

بقلم: بول هام

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الهوس الحديث بنقاء النص ينبع من سوء تطبيق فلسفات فتجنشتاين ودريدا

"دفنت كارين حقدها واستسلمت لقاعدة التلال البدينة السوية التي تنص على أنه يجب طرد السيدات والسادة المثليين من ذوي البشرة الملونة من الحفل."

هذه العبارة تسيء إلى الجميع تقريبًا، وفقًا التوجيهية اللغوية الشاملة التي تضعها الجامعات والشركات والمؤسسات العامة في العالم الغربي. كان من الممكن أن ترسم إرشاداتهم خطًا أحمر تحت كل كلمة.

ما كان يجب أن أكتبه هو: "المرأة البيضاء، من أجل السلام، قبلت الحكم الافتراضي للشخص البدين ومغاير الجنس من أوزاركس بأنه لا ينبغي دعوة LGBTQ+ وBIPOC إلى اللقاء".

من الواضح أن المقصود من هذا هو السخرية. لن يكتب أي كاتب يستحق ملحه (أو ملحها) مثل هذه الجملة (لأسباب جمالية، كما نأمل، وليس لأنها مهينة). لكن حقيقة أنني أشعر بالحاجة إلى أشرح لنفسي إلى ما  يشير إلى وجود قوة جديدة مخيفة في المجتمع، وهو نوع من فيروس الفكر الذي أصاب معظم المنظمات والأحزاب السياسية، يميناً ويساراً، وأبرز أعراضه هو الهوس بـ"النقاء" النصى، أي اللغة المجردة من الكلمات والعبارات التي يعتبرونها مسيئة.

ومع ذلك، فإنهم في محاولتهم خلق لغة لا تسيء إلى أحد، فإنهم يهينون الجميع تقريبًا.

لماذا نخاف جدًا من استخدام الكلمات بحرية، ومن الإساءة مع الإفلات من العقاب؟ من أين نشأ هذا الولع بـ "نقاء" النص؟ أتتبع أصول هذا الهوس بنقاء النص إلى انتصار فلسفة اللغة في أوائل القرن العشرين. دعونا نلقي نظرة على بعض اللحظات المهمة في ذلك التاريخ لنفهم كيف وصلنا إلى هذا.

وصف ريتشارد رورتي، محرر المختارات الأدبية المنعطف اللغوي: مقالات في المنهج الفلسفي (1992)، "الفلسفة اللغوية" بأنها "الرأي القائل بأن المشكلات الفلسفية هي مشكلات يمكن حلها (أو حلها) إما عن طريق إصلاح اللغة".أو من خلال فهم المزيد عن اللغة التي نستخدمها حاليًا. وقد أدى ارتقاء اللغة إلى هذه المكانة المذهلة إلى انقسام الفلاسفة: فظن البعض أنها أعظم بصيرة في كل العصور؛ وكان آخرون يشعرون بالاشمئزاز مما فسروه على أنه "علامة على مرض أرواحنا، وثورة ضد العقل نفسه".

كان "التحول اللغوي" الذي يتوقف عليه التفكير الجديد بمثابة إعادة تقييم جذرية لهدف الفلسفة ذاته. لقد ابتعدت عن الأنظمة الفلسفية العظيمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (كما أكد ذلك جي دبليو إف هيجل، وإيمانويل كانط، وآرثر شوبنهاور وآخرون أقل شهرة )، وانقسموا إلى تيارين من الفكر - الفلسفة "التحليلية"(1) و"القارية "(2) - اللذان اختلفا كثيرًا ولكنهما اشتركا في هذا: الهوس باللغة وحدود اللغة ذات المعنى.

يؤكد فيتجنشتاين أن اللغة ليست مرآة للعقل، بل هي عباءة تغطي الشخصية الحقيقية للمتحدث.

كان المفكر الذي بذل قصارى جهده لدفع الفلسفة إلى فلك علم اللغة هو عالم المنطق النمساوي والتلميذ النجم لبرتراند راسل المسمى لودفيج فيتجنشتاين (1889-1951). وأرجع ما اعتبره ارتباكًا في الفلسفة إلى «سوء فهم منطق لغتنا»، كما روى في أول أعماله الفلسفية «الرسالة المنطقية الفلسفية» (1921).

أوضح فيتجنشتاين أن "المعنى الكامل" لهذا الكتاب هو تحديد حدود اللغة ذات المعنى، وبالتالي، الفكر ذي المعنى: «ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح؛ وما لا يستطيع المرء أن يتحدث عنه يجب أن يصمت. لذلك فإن الكتاب سوف يرسم حدوداً للتفكير، أو بالأحرى ــ ليس للتفكير، بل للتعبير عن الأفكار. وفي رسالة إلى راسل، كان أكثر تحديداً: فقد كتب أن اللغة هي نفس الفكر: “النقطة الأساسية [في الرسالة] هي نظرية ما يمكن التعبير عنه… باللغة – (والذي يصل إلى نفس الشيء، ما يمكن التفكير فيه).”

لقد بُنيت الرسالة على سبعة مقترحات واسعة تحتوي على 525 تصريحًا تستكشف تصور فيتجنشتاين للعالم باعتباره تكتلًا من الحقائق وليس، كما يفترض معظم الناس، أشياء ذرية. يجادل البيان 4.002 بأن اللغة ليست مرآة للعقل، ولكنها عباءة تغطي الشخصية الحقيقية للمتحدث:

اللغة تخفي الفكر؛ بحيث لا يمكن من الشكل الخارجي للملابس استنتاج شكل الفكر الذي تحتويه، لأن الشكل الخارجي للملابس مبني لغرض آخر غير التعرف على شكل الجسم.

أقنعت الرسالة فيتجنشتاين بأنه قد حل مشاكل الفلسفة، وأنه يمكننا جميعًا العودة إلى المنزل والاسترخاء. لمدة 30 عامًا لم يعارضه أحد، حتى فعل ذلك في كتابه الثاني، تحقيقات فلسفية، الذي نُشر عام 1953، بعد عامين من وفاته، والذي قام فيه بمراجعة وتوسيع أفكاره حول حدود اللغة.

وجد اثنان من أفضل العقول في القرن العشرين أنفسهما يفكران ويكتبان في ظل فيتجنشتاين. وكان عالم الوضعية المنطقية الإنجليزي أ.ج.فريدي آير واحدًا من هؤلاء: "إن وظيفة الفيلسوف ليست ابتكار نظريات تأملية تتطلب التحقق من صحتها في التجربة"، كما لاحظ في كتابه "اللغة والحقيقة والمنطق" (1936)، "ولكن استخلاص نتائج استخداماتنا اللغوية".وكان الثانى الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر: "في الكلمات واللغة تأتي الأشياء إلى الوجود أولاً،" كما أشار في مقدمة للميتافيزيقا (1953)، وبنى على هذا الموضوع في "الطريق إلى اللغة" (1959). وأشار إلى أن اللغة هي التي تتكلم، وليس البشر؛ لقد كنا مجرد مشاركين في شكل من أشكال التواصل الذي سبقنا.

دعونا ننتقل سريعًا إلى حمى المثقفين الفرنسيين الذين عاشوا في باريس في الستينيات، والذين تجرأ أحدهم على إعادة بناء تفسير فيتجنشتاين لحدود اللغة من خلال القول بأن اللغة هي الحد.

وكان الجانى هو الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك دريدا (1930-2004) الذي قال:"لا يوجد شيء خارج النص". هذه العبارة  تصور "النص" - والنص وحده – كمفتاح رئيسي لديه القدرة على فتح عقل الكاتب أو المتحدث.

وكان له تأثير الكريبتونيت(3) على المحافظين والتقليديين الذين كانوا يتوقون إلى عودة النظام الموضوعي والتسلسل الهرمي للقيم، وليس الكلمات. تراجعت مجموعة ثالثة من النقاد، أقل فصاحة، عن الاقتراح القائل بأن الكلمات وحدها هي مرآة لعقولنا، ورفضت فكرة دريدا القائلة بأن جميع أشكال التعبير كانت مجرد «وجهات نظر» في عالم كان «يتفكك» بسرعة.

كانت «التفكيكية»، هدية دريدا للعالم، طريقة في التفكير جعلت كل الاتصالات (المرئية، الأدبية، الموسيقية، الدعائية) في وضعية «الخطابات» أو “السرديات” التي يمكن “تفكيكها” وإعادة تقييمها وفقًا لمجموعات جديدة من المعايير الاجتماعية.

إن أرقى الإنتاج الفني للعقل البشري لا يمكن تقسيمه أو اختزاله في بناء اجتماعي

يرى دريدا أنه إذا تم «بناء» الفنون البصرية والموسيقى والأدب لتعكس بعض القيم التقليدية أو النخبوية، فيمكن عندئذٍ «تفكيكها» بنفس السهولة - أي تجريدها من سياقها القديم وإعادة النظر فيها وفق نقاط مرجعية ثقافية جديدة، كما يوضح الكاتب بيتر سالمون (كاتب سيرة دريدا).

يمكن إعادة تقييم كل عمل فني من خلال منظور ثقافي جديد: الماركسي، والنسوي، والمثلي، والمتحول جنسيًا، والطبقي، وغيرهم. الأمر نفسه ينطبق على الإعلان، والنظام القانوني، والحكومة، والله، وهويتك ذاتها. لا عجب أن يكون دريدا مكروهًا من قبل اليمين باعتباره أب «الماركسية الثقافية» ويحتفي به اليسار باعتباره مُحلل الأرثوذكسية الثقافية.

من الواضح أن أولئك منا الذين تجرأوا على قراءة مسرحيات ويليام شكسبير باعتبارها صورًا غير قابلة للتجزئة لنصيب الإنسان فشلوا في فهم الانقياد السياسي لهاملت أو الملك لير أو ماكبث للقراءات الماركسية والنسوية والمثلية، من وجهة نظر التفكيكيين الدريديين. أي أننا فقدنا المعنى "الحقيقي" (أي المفكك) لمسرحيات شكسبير، والذي لا يصبح واضحًا إلا بعد تفكيك "النص" وإعادة وضعه في سياقه - على سبيل المثال، من خلال تطبيق قراءة نسوية لرواية ترويض النمرة أو قراءة ماركسية لرواية العاصفة. كلتا القراءتين، وفقًا لنظرية دريديان، صحيحة تمامًا، وربما تفسيرات أكثر «أهمية» للمسرحيات.

وهكذا مارس "النص" سلطة غاشمة على العقل التفكيكي، إلى درجة أن الأغنية الإعلانية، أو عنوان إحدى الصحف الشعبية، أو كتيب السفر لم تكن أقل "صحة" كتصوير لمصير الإنسان من الفنون الجميلة والأدب العظيم. كل هذا يتوقف على وجهة نظرك، والتي يمكن رد كل شيء إليها. لم يكن هناك شيء اسمه «الجمال الموضوعي» أو «الحقيقة الموضوعية»، بل فقط خليط متنافر من الآراء الذاتية. وهنا يكمن مهد ما يسميه ما بعد الحداثيين "ما بعد الحداثة"، وهي حركة فكرية تميل إلى أن يتم تعريفها بما ليس كذلك، ويصعب مراقبتها مثل الجسيم الكمي.

إن خطأ التفكيكيين الدريديين – والمهووسين بالنص اليوم – هو أنهم يفترضون الحكم على "قيمة" أو "أهمية" النص وفقا لمعاييرهم الثقافية الضيقة.

لقد رفضوا قبول فكرة أن أرقى الإنتاجات الفنية للعقل البشري ليست قابلة للتقسيم أو اختزالها في بناء اجتماعي. سواء له علاقة أم ليس له علاقة . فإنهم يتجاوزون الثقافات والطبقات والأجناس، ويجذبون شيئًا ما فينا جميعًا. إنها غير مقيدة بإعادة قراءة اجتماعية أو تاريخية، على وجه التحديد لأنها ليست «سردًا» أو «خطابًا» آخر، بالمعنى الديريدي.إنهم يتغلبون على الصراع الكئيب بين الأمم والطبقات والأجناس، ويلهمون كل الفكر والمشاعر الإنسانية، بقطع النظر عن "السياق". إنها أصيلة إلى الأبد، ولا تقبل عجن "التفكيكية". إنهم يتجاهلون محاولات ما بعد الحداثة لوضعها على لوح وتقطيعها. إنها، باختصار، مكتملة التكوين في المكان والزمان، و"غير قابلة للتفكيك". أولئك الذين يفترضون "تفكيك" ثلاثة أمثلة - آنا كارنينا لليو تولستوي، والكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري، وروايات جين أوستن - هم مثل الليليبوتيين (4)الذين يحاولون تقييد آلهة مجنحة.

ما علاقة كل هذا بأدلة إدراج اللغة والرقابة والشهوة النصية؟ أنا أؤكد أن الجامعات والشركات والمنظمات العامة الغربية، تماشيًا مع حقيقة أن الأفكار الثورية عادة ما تستغرق عقودًا حتى تصيب الجسم السياسي، استوعبت، بوعي أو بغير وعي، فكرة دريدا القائلة بأنه «لا يوجد شيء خارج النص».

المشكلة هي أن الكثيرين في «العالم الأنجلوسكسوني» (كما يطلق الفرنسيون على البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية) فشلوا في فهم أن دريدا كان مثقفًا فرنسيًا. لم تكن أفكاره توجيهية؛ لذا فمن المفترض أن يتم مضغها ومناقشتها وبصقها إذا لزم الأمر.

وبدلاً من ذلك، أخذت شرطة اللغة الإنجليزية "النص" وأعطت اللغة نوعًا من القوة الإيضاحية، جاعلة الكلمات والعبارات مقياسًا لعقولنا - وحتى محتوى شخصياتنا ذاته.

الكلمات هي أشباح أفكارنا، مجرد أصداء "لذواتنا".

عن قصد أو بغير قصد، فإن محاربي ثقافة الإلغاء الذين يحظرون الكتب أو يصوغون مبادئ توجيهية لتعلم اللغة يستخدمون أدوات التفكيكيين الدريديين لتشكيل العقل البشري والسيطرة عليه. كلامك يعبر عن وجهة نظر غير مقبولة لدى محكمي الصواب اللغوي في يمين السياسة ويسارها.

من خلال تحرير لغة الاستخدام التي يعتبرونها غير مقبولة، يقومون بعد ذلك باستنباط كلمات وعبارات وكتب معتمدة تملي علينا كيف يجب أن نفكر. وإذا عصينا واستمرينا في النطق أو الكتابة بأشياء غير مقبولة أو غير مسيحية، فإنهم يهددون "بإلغاء عقولنا" من خلال مهاجمة شخصياتنا، والإحساس "بذواتنا"، كما يوضح جريج لوكيانوف وريكي شلوت بشكل مخيف في كتابهما "إلغاء العقل الأمريكي: إلغاء الثقافة يقوض الثقة ويهددنا جميعًا - ولكن هناك حل" (2023).

وبهذا المعنى فإن أولئك الذين يسعون إلى حظر أو إلغاء النصوص التي يعتبرونها مسيئة يهددون ما هو أكثر بكثير من حقنا في حرية التعبير. إنهم يهددون حرية التفكير. إنهم يواصلون الافتراض السخيف بأنهم إذا استأصلوا اللغة المسيئة، فسوف يستأصلون الأشخاص المسيئين.من خلال طريقة التفكير الاستقصائية هذه، تصبح لغتنا المنطوقة وحدها هي التي تحدد ما إذا كنا أشخاصًا لطفاء أم سيئين، بمعزل عن أفكارنا ودوافعنا الخاصة. إن الطالب الشاب اللطيف الذي يستوفي جميع المعايير اللغوية المعتمدة قد يحمل أفكارًا قاتلة وعنصرية ومعوقة ولكن من سيعرف؟

إن كون اختيارنا للغة يجب أن يديننا هو بالطبع اقتراح مثير للسخرية. وهذا يجعل الاحتجاج الصامت على أفكارنا الخاصة غير ضروري. إنه يتجاهل تمامًا دوافع اللغة.يبدو الأمر كما لو أن كلماتنا المنطوقة أو المكتوبة هي الاختبار الوحيد لقيمتنا كبشر، والأبعاد الصامتة لنفسيتنا، واللاوعي، و"الروح"، والضمير، والأنا، والهو، والأنا العليا، بل والفرويدية بأكملها، لم يكن للتقاليد اليونجية والعلاج النفسي أي نتيجة.

بالنسبة لمعظمنا، الكلمات هي صمامات تخفف ضغط الدماغ، أو ببساطة الأصوات التي ننشرها بتكاسل لإرضاء أو ملء الفراغ.الكلمات هي أشباح أفكارنا، مجرد أصداء "لذواتنا". يبدو أن أفضل الشعراء فقط هم القادرون على الجمع بين عقولهم وكلماتهم.

لهذا السبب فإن حظر الكلمات لن يجعل العالم مكانًا أفضل. سيؤدي ذلك ببساطة إلى خنق التعبير عن الأفكار الموجودة على أية حال. ينبغي مناقشة الكلمات المسيئة ومواجهتها بكلمات مضادة.هذا هو التعليم، وليس الإلغاء، وهذا هو هدف الحرية. باختصار، لن يؤدي إلغاء اللغة إلى إنشاء "مساحة آمنة". سوف يخلق ديستوبيا من المهووسين بالنص: شرطة الفكر تتمتم في ارتباك محرر ذاتيًا.

(1) تتميز الفلسفة التحليلية بالتركيز على الوضوح والدقة والجدل في البحث الفلسفي. ويرتبط عادة بالفلاسفة من العالم الناطق باللغة الإنجليزية ومعروف بتركيزه على التحليل المنطقي واستخدام الأساليب الرسمية مثل المنطق الرسمي والتحليل اللغوي للغة. ومن الشخصيات الرئيسية في الفلسفة التحليلية برتراند راسل، ولودفيج فيتجنشتاين، وجي.إي. مور.

(2) من ناحية أخرى، تميل الفلسفة القارية إلى التأكيد على التفسير والمعنى والسياق الثقافي والتاريخي الأوسع للبحث الفلسفي. نشأت في أوروبا وترتبط بنهج أكثر تأويلية ووجودية، مع الأخذ في الاعتبار أسئلة حول الوجود والمعنى والذاتية. تشمل الشخصيات الرئيسية في الفلسفة القارية فريدريش نيتشه، ومارتن هايدجر، وجان بول سارتر. باختصار، يمكن رؤية الفرق بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في مناهجهما وأولوياتهما في البحث الفلسفي، حيث تركز الفلسفة التحليلية على الوضوح والدقة، بينما تؤكد الفلسفة القارية على التفسير والسياق الثقافي.

(3) الكريبتونيت هي مادة خيالية تظهر بشكل أساسي في قصص سوبرمان التي تنشرها دي سي كوميكس. في أكثر أشكالها شهرة، فهي مادة بلورية خضراء مصدرها عالم الكريبتون، موطن سوبرمان، والتي تنبعث منها إشعاعات سامة وفريدة من نوعها يمكن أن تضعف وحتى تقتل الكريبتونيين.

(4) The Lilliputians عبارة عن مجتمع من الأشخاص يبلغ متوسط طولهم حوالي ست بوصات، ولكن مع كل الغطرسة والشعور بالأهمية الذاتية المرتبطة بالرجال ذوي الحجم الكامل. عادةً ما يكونون جشعين، غيورين ، متلاعبين و ماكين و عنيفين، أنانيين وغير جديرين بالثقة؛ إنهم، في كل شيء، صورة مخلصة لنظرائهم "العملاقين". يعيشون في جزيرة ليليبوت الواقعة في المحيط الهندي.

***

.........................

المؤلف: بول هام/Paul Ham: بول هام مؤرخ ومحاضر في التاريخ السردي في معهد العلوم السياسية في فرنسا. وهو مؤلف كتاب "الروح: تاريخ العقل البشري"، الذي ستنشره دار Penguin Random House في يوليو 2024، وهو مؤلف العمود الفرعي القادم "من صنع عقولنا؟"

إذا كان بناء الهويّة، والحفاظ عليها بصورة مستقرّة وواضحة، إحدى مشكلات الحداثة، فإن إحدى مشكلات ما بعد الحداثة، هي كيف نتفادى سكونية الهويّة وانغلاقها أمام التفاعل مع الهويّات الأخرى في الإطار الإنساني. وفي هذا الصدد يناقش أدونيس في كتابه "موسيقى الحوت الأزرق" فكرة انفتاح الهويّة وحركيّتها، ويستهلّ حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقدَمِها نفسه حداثتنا نفسها، على حدّ تعبيره، والمقصود بذلك سورة الحجرات  - الآية 13 " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

والمقصود بالتعارف، حسب تفسيره، الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال "رؤية الذات خارج الأهواء"، سواء كانت هذه الأهواء أيديولوجية أم عرقية أم دينية أم لغويّة أم سلالية، فهل الهويّة جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها، صورتها ومضمونها، وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها إذا ما توخّينا الحرص على المشترك الإنساني، الأمر الذي يتطلّب الانفتاح والتواصل مع الآخر، والاعتراف به وبكلّ ما يتخطّى الركود والتقوقع والثبات.

وإذا كانت ثمّة تحوّلات تجري على الهويّة على صعيد المكان - الوطن، فالأمر سيكون أكثر عرضة للتغيير بفعل المنفى وعامل الزمن وتأثير الغربة والاغتراب، وهكذا فإن الزمان والمكان لهما تأثير كبير في المتغيّرات المتراكمة، التي تحدث على الهويّة، وخصوصًا بتفاعلها مع هويّات أخرى. وحسب محي الدين بن عربي "فالزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد"، وبهذا المعنى فاختلاف الهويّات ليس أمرًا مفتعلًا، لاسيّما باختلاف البلدان والقوميات أو حتى داخل الوطن الواحد، لأن ثمة مجموعات ثقافية مختلفة إثنيًا ولغويًا وسلاليًا ودينيًا عن الأخرى، ناهيك عن اختلاف هويّة الفرد الخاصة عن غيره من جهة، وعن الجماعة البشرية من جهة أخرى.

ومن المفارقة أن بعض المهاجرين من أصول غير أوروبية تراهم الأكثر حماسة، بل تعصّبًا لهوّياتهم الجديدة، لدرجة يبدو أن هذا التطرّف إزاء الهويّات الأخرى غير المندمجة، إقصائيًا وتهميشيًا وحتى عدائيًا، وهناك أمثلة صارخة على ذلك.

ثمة نوعين من الهويّات، الأولى-  التي يُطلق عليها "الأغلبية" مجازًا بحكم الكثرة العددية، والتي تستبطن التفوّق والتسيّد والهيمنة، والثانية - التي نسمّيها "الأقلية"، التي هي الأقل عددًا، والتي تشمل ضمنًا الاستتباع والخضوع والقبول بالمواقع الأدنى، ومثل هذه الثنائية فيها الكثير من التفريعات المتناقضة أحيانًا، والتي تحتاج إلى فحص دقيق في إطار مبادئ المواطنة والمساواة، التي تقوم عليها الدولة العصرية.

هكذا تظهر تعقيدات المجتمعات الثنائية المعاصر، من حيث التماسك الاجتماعي وحقوق ما نطلق عليه "الأقليات"، ارتباطًا بمفهوم التعدّدية الثقافية العرقية والدينية واللّغوية، لاسيّما في إطار المفاهيم الليبرالية وعلاقتها بالفرد والفردانية، سواءً من زاويتها الفلسفية أو الأنثروبولوجية، وثمّة سجالات عميقة في الغرب تتّخذ أحيانًا شكل قوانين وقرارات للسلطات المحليّة، وفي أحيان أخرى شكل احتكاكات مجتمعية وردود أفعال شديدة، وهذه وتلك ترتبط بعلاقات الاعتراف أو عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والهويّات المتمايزة والمختلفة، والمعيار هو سقف المواطنة، التي يحدّدها القانون.

وقد تكثّفت الأبحاث والدراسات إزاء هذه العلاقة وحساسيتها، بحثًا عن الهويّة قبل ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، ولاسيّما عشيّة وبُعيد انتهاء عهد الحرب الباردة.

لقد تسبّبت الهجرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، ومن البلدان المتخلّفة إلى البلدان الصناعية، في إحداث تغييرات على صعيد البنية الثقافية والاجتماعية في العديد من بلدان أوروبا، ونجم عنها سياسات رسمية وردود فعل غير رسمية، لأنها تتعلّق بالتنوّع الثقافي وقبول الآخر والحقوق والواجبات التي تترتّب عليها، ونجم عن ذلك توتّرات أحيانًا، وصراعات ونزاعات بسبب التعصّب ووليده التطرّف وأعمال عنف، سواء في محاولة لتحقيق الذات أم لحمايتها إزاء الوافدين الجدد، ناهيك عن السعي لتحقيق التوازن بين الوحدة والتنوّع.

إن الحديث عن هويّات فرعية أو خصوصيات قومية أو دينية لمجموعة ثقافية متمايزة، يستفزّ أحيانًا يعض التيارات الشعبوية المتعصّبة إثنيًا أو دينيًا، فهي لا ترى في مجتمعاتها سوى هويّة واحدة سائدة باسم القومية أو الدين، والأمر يزداد حساسيّةً وتعصّبًا لدرجة التطرّف في البلدان النامية ومنها مجتمعاتنا العربية، حيث تُعتبر كلّ رغبة في تحقيق الذات أو التعبير عن الخصوصية الهويّاتية خروجًا عمّا هو سائد أو انشقاقًا عنه أو رغبةً في الانفصال، تستحقّ أحيانًا العقاب والتحريم والتجريم، فما بالك إذا كانت هذه الرغبة باسم مجموعة ثقافية.

هنا قد تُتّهم الدولة بالظلم، سواء في علاقاتها مع المجموعات الثقافية الأخرى أو بسبب بعض إجراءاتها ضدّ المهاجرين، وهو أمر حاصل، ولاسيّما في أوقات الأزمات مع بلدان الأصل التي جاءوا منها أو بسبب تعارض الثقافات في بعض جوانبها، حيث يتمّ التعكّز على صراع الهويّات أو كما يُطلق عليها صاموئيل هنتنغتون "صدام الحضارات".

ومثل هذا الموقف، الذي يتهّم الدولة بالتقصير، ناجم أحيانًا عن طغيان الأغلبية، أو من شعور الأقلية بالاضطهاد، ولا يهمّ في ذلك مواقف الدولة، التي تدعو لتحقيق مساواة مواطنية في إطار الاندماج أو الإبقاء على الاختلاف والحفاظ على الهويّات.

أما الشعور بالغبن والإجحاف، فإنه يأتي من الطرفين، "فالأقلية" تشعر أن التمايز الثقافي لا يُحترم ولا يطبّق بما فيه الكفاية، وأن حدود هويّاتهم مهدّدة، بل مهدورة، وهو ما يعطيها الحق في "التمرّد"، ضدّ سياسات الهيمنة، وهو الشعور الذي رافق المسلمين وأنصار حقوق الإنسان إزاء "الحق في الحجاب" في فرنسا بالضدّ من القانون، الذي يفرض خلع الحجاب، والأمر يتعلّق أيضًا بالكاريكاتيرات المسيئة للنبي محمد (ص) في الصحافة الدانماركية، وبعض الصحف الأوروبية، وغيرها من القضايا.

في حين أن شعور "الأغلبية" المهيمنة، يقوم على الاختلافات الثقافية، التي هي شيء موضوعي وطبيعي بنظرها، في حين أنه بنظر "الأقلية" تمييز ضدّها، ويتم ذلك عبر استبعاد بعض أفرادها بزعم عدم إتقانهم اللغة الرسمية السائدة في البلد، أو ثمة حساسيات أمنية خاصة. ﻓ "الأغلبية" هي التي تمتلك القوّة لتقرّر "أن على الأقلية أن تصبح مثلها، مثلما هي التي تقرّر متى تبقى الأقلية مختلفة عنها، أي متى يتم استيعابها ودمجها والاستفادة منها، ومتى يتم استبعادها وعزلها وتهميشها، تبعًا لمصلحة الأغلبية".

وأحيانًا تجري عملية استخفاف بالمهاجرين واللاجئين في أوروبا أو الاستهانة بقدراتهم، بسبب عدم تقدير خصوصياتهم الثقافية، سواء بدمجهم دون إرادتهم أم وضع مسافة بينهم وبين السكّان المحليين، وفي الحالتين لمصلحة "الأغلبية" وقراراتها المهيمنة، لاسيّما بصعود الشعبوية في العديد من بلدان أوروبا، والأمر يتعلّق بإنكار ثقافتهم أو إقرارها، وفي كلي الحالتين ثمة نظرة إسقاطية مسبقة، حيث يتم وضع عقبات أمام الهويّات الفرعية كي تكون متميّزة، أي وفق نظرة تمييزية للاندماج القسري أو بفرض التمييز باسم "الأحقية" وحكم الأغلبية، وهكذا يسبب مثل هذا التمايز الثقافي تذمّرًا وسخطًا، سواء بسبب المعاملة المساواتية أم التفريقية للأقليات، وهو ما يثير احتكاكات وردود أفعال متبادلة.

وقد تنامت الانتقادات للتعدّدية الثقافية في أوروبا عمومًا من زاويتين، أحدها "للأقلية؛ وثانيها "للأغلبية"، بما له صلة بالإقرار أو الإنكار، وبما له علاقة بالهويّة والحقوق، قبولًا أو تحفظًا، فالتعدّدية الثقافية هي خاصيّة من خواص المجتمع المتعدّد الثقافات، أي كيف يمكن للدولة الحفاظ على الهويّات المتميّزة للجماعات الثقافية، لاسيّما الإثنية في مجتمع موحّد، لكنه يقوم على التنوّع الثقافي؟

وعلى مثل هذه القاعدة يعترض المتعصبون من الأغلبية، ويعتبرون ذلك تساهلًا مبالغ فيه للعادات والتقاليد الوافدة على حساب الثقافة الأصلية، لاسيّما بدعمها للهجرة، حيث يمنح المهاجرون الكثير من الحقوق وعليهم القليل من الواجبات، وهكذا أخذت تتّسع موجة العداء للأجانب "الزينوفوبيا"، وازدادت موجة العداء للإسلام والمسلمين، "الإسلاموفوبيا"، ولاسيّما بعد الأحداث الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجي التجارة العالمية في 11 أيلول / سبتمبر 2001.

أما المهاجرون فإنهم ينظرون إلى وفادتهم باعتبارها حق أصيل من حقوق الإنسان، وقّعت عليه الدول الغربية واعترفت به قوانينها، وما عليها إلّا تأمين تنفيذ هذا الحق، بما يتّفق مع الموقف الإنساني، بغضّ النظر عن الاختلاف الهويّاتي، إضافة إلى الاعتبارات الأنثروبولوجية، فليس من الضروري أن يكون المجتمع قائمًا على مجموعة إثنية أو دينية واحدة، لكي يكون متماسكًا، بل أن التعدّدية الثقافية والتنوّع تُحدث مثل هذا التوازن.

إن التعصّب هو اتّجاه إلغائي لمن لا يتعصّب له، ويكشف جدل الهويّات أن اختيار الصراع بدلًا من التعايش، والصدام بدلًا من الوئام، هو الأمر الذي سيكون ضارًا وخطرًا على الهويّات الكبرى والصغرى، وهذه الأخيرة إن لم يتمّ احترامها وتأمين حقوقها المتساوية، ستكون عنصر ضعف كبير يتّسع باستمرار على مستوى الهويّة من جهة والدولة من جهة أخرى.

***

عبد الحسين شعبان

 

ينفرد الدين بأن ما كتب عنه من مجلدات وكتب ومقالات يفوق ما كتب عن اي موضوع آخر، سواء من قبل الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين والمؤمنين والملحدين. حتى نحن السيكولوجيين ، ابتكرنا فرعا جديدا في علم النفس بعنوان (علم النفس الديني) وقبلها ابتكرنا (سيكولوجية العقيدة) وبعدها (التحليل النفسي) للدين عند فرويد ونقيضه يونغ، الى اريك فروم وصولا الى احدثهم سيريل بيرت الذي اوضح بأن " عالم النفس يدرس الدين لا ليكتشف كونه حقا او باطلا، فذلك من شأن المؤمنين بعقيدة ما تظن انها الحق وغيرها من العقائد هو الباطل،  مما قد ينجم عنه خصومات وجدالات ، وربما عداوات وحروب.. بل المهم هو دراسة الدين كظاهرة بشرية ، وانتاج للعقل الانساني،  وسواء كان هذا الدين توحيديا او كان تعدديا ، روحيا او وثنيا ".

ولا يعنينا هنا نشأة الاديان وتاريخها وانقساماتها ومناهجها المختلفة.. والانبياء والحكماء والحركات التي قادوها، والحروب التي يسمونها مقدسة ويسميها اخرون وحشية، والمتشككون الذين يرتابون حتى في وجود بعض الانبياء،  والتناقضات والخلافات في نصوص الاديان. كل هذا لا يعنينا هنا انما التنويه او التنبيه الى تشخيص حقيقة سيكولوجية جميلة امتازت بها كل الأديان.. هي انها ابتكرت اجمل المناسبات.. الأعياد.. وجعلوها تتجدد كل سنة!

سيكولوجيا العيد

يتميز العيد بطقوس دينية واجتماعية.. الجميل فيها انها مزجت موروثات الماضي وعصرنة الحاضر، وحافظت على رونقته وأصالته. ومع ان مظاهر الأحتفاء به تختلف من شعب الى آخر ، الا ان صلاة العيد وزيارة الأرحام والأقارب والأصدقاء ، وتبادل التهاني والتبريكات، واقامة الولائم والحلويات.. وفرح الأطفال بثياب العيد (والعيديات).. تعد من اجمل حالات تجسيد الخير والطيبة والمحبة والتسامح والألفة

في المجتمع التي تتوحد فيها نفوس اكثر من ملياري مسلم في العالم مع انهم من قوميات واجناس مختلفة. ليس هذا فقط ، بل ان الإحساس بالفرح يدعم البعد النفسي الاجتماعي خاصة في وقت الأزمات والطوارئ، ويؤمن دعامات نفسية واجتماعية تعد الأساس نحو الاستقرار النفسي الاجتماعي.

وينبهنا علماء الأجتماع الى ان مناسبات الأعيد الدينية تسهم في إرساء التكافل الاجتماعي والمساعدة على انسجام الناس وتواصلهم، وتحسين العلاقات فيما بينهم. فبابتسامة صادقة في وجه الآخر، وإلقاء تحية أو تهنئة، يمكن أن تحقق الكثير، وتقلص من العنف ومن المشاحنات، وتسهم في بناء مجتمع مستقر نفسيا. وينبهون ايضا الى قضية مهمة هي أن الأزمات الأجتماعية التي تصيب الكثير من أفراد المجتمع بحالات اكتئاب وقلق فأن مناسبات الأعياد الدينية تدخل مشاعر الفرحة والبهجة في نفوسهم ، وتدفع الفرد الى ان يكون اكثر ايجابية في علاقته مع أفراد بيئته ومجتمعه، وأكثر تكيفا للظروف والمتغيرات الاجتماعية، وأكثر إدراكا لتطوير تصرفاته مع الآخرين. ما يعني ان العيد ليس مجرد يوم سعيد، بل انه يجعل الفرد يعيد النظر في أسلوب عيشه وطريقة تفكيره.. ليمتد تأثيره على باقي ايام السنة.

ويقف علماء النفس وعلماء الاجتماع بالضد مما يقوله فلاسفة وكتّاب بأن هذه الأعياد خدعة او ترف ثقافي او سفاهة او ممارسة فارغة المعنى، ويتفقون بانها فعل جماعي يتوهج بالمعنى والسمو لا تستطيع رتابة الحياة اليومية أن تمنحهم إياها، وأن الأنسان بحاجة ماسة لمثل هذه الأفراح والمسرات لتفريغ المكبوتات والضغوطات، وتسريح جوانب كثيرة من الرغبات الدفينة، لاستعادة شعوره بالحياة الطبيعية المتوازنة، وبعث الأمل والتفاؤل حيث تتقوى المهارات والقدرات الاجتماعية والعاطفية، مما يساعد على خلق عالم مريح تحلو فيه الحياة.

شكرا لكل الأديان انها ابتكرت اجمل وسيلة سيكولوجية لأشاعة انبل الحاجات عند الانسان.. التسامح والمحبة بين الناس، وادخال الفرح والسرور الى النفس البشرية.. مع خالص التهاني والتبريكات بعيد الأضحى المبارك معطرة برائحة العراق.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بدأت يومي بمحادثتي للسيدة "أمينة" قائلةً لي: سنقضي ساعات الظهرية في نهار جميل مع محرر المرأة. وقد التقيت بالسيدة "أمنية" وصديقتي "نور الهدى" ننتظر قدوم أساتذتي الجليلين في طريقهما إلينا مع محرر المرأة. أخذت "نور" تشيد بجمال المكان حيث تتساقط خيوط أشعة الشمس على وجهها، ومع قدوم الجميع فوجئت باختفاء "أمينة" من جواري، على الرغم من تعطشها للقاء "قاسم أمين" أخذت أنظر في الجوانب كلها لم ألمح لها طيفًا. وقعت عيناي على رجل غريب طويل القامة وأسمر اللون، علامات الغضب تكسو وجهه ناظرًا لقاسم أمين نظرات حادة معلنًا فيها شن الحرب عليه وبدأ د. "عثمان" بالحوار وظل عقلي متسائلًا إلى أين اختفت "أمينة"؟! ومن هذا الرجل الغامض؟!

- دكتور حليم عثمان: بدأ حديثه بكلمات مليئة بالترحاب: الواقع أنه من دواعي السرور لقاؤنا اليوم بأهم رواد الفكر والتنوير في وطننا العربي، السيد "قاسم أمين"، والذي ارتبطت ريادته الفكرية بكتابه الشهير "تحرير المرأة" والذي تعرَّض لموجة عنيفة من الانتقادات يوجب علينا الوقوف في هذا اللقاء على بعض قضايا كتابك المثير للجدل، وسنبدأ بمحاولة توضح موقفك من إشكالية مساواة المرأة بالرجل؟ كان " قاسم أمين" يستمع بتركيز، وتبدو على وجهه علامات التأمل والتمعن، ويدرك أن كتابه أثارة الجدال بالأمس وسيثيره اليوم.  

- قاسم أمين: كم أنا سعيد بلاقي بكما د. "عثمان" ود. "راشد" والحضور الكريم، والحقيقة أن المرأة بالنسبة لي هي إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، اللهم إلَّا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف. فإذا تفوق الرجل على المرأة في القوَّة البدنيَّة والعقليَّة؛ فذلك يرجع إلى اشتغاله بالعمل والفكر أجيالًا طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوَّتين البدنية والعقلية. (1)

 - لقد كان مرتديًا بدلة بيضاء، وفي يديه كتابه "تحرير المرأة" يخرج من وسطه وردة حمراء. وإذا بالرجل الغامض مقطب الحاجبين يبادر بالرد على "قاسم أمين" دون أن يعرب عن اسمه.

الرجل الغريب: في حديثك عن مساواة المرأة بالرجل أحب أن أوضح لك سيد "قاسم أمين" أن المرأة أقل من الرجل إدركًا وحسًّا؛ فقد أجمعت كل الشرائع المنزلة على ما سلم به الطبع والعقل من أن المرأة أضعف من الرجل وأقل منه في جميع الحيثيات جسمًا وإدراكًا، وعلى أن الرجال قوامون على النساء دون العكس. ولهم عليهن السيادة، ولهن منهم حسن المعاملة والرفق والمحبة والاحترام.... إن الدليل الحسي على ذلك هو وجود " المرأة من ابتداء الخليقة للآن تحت سيطرة الرجل يوجهها كيف يشاء، ويحكم عليها بما تقتضي ميوله (2).

- د. نجيب راشد: للأسف الشديد اعتمد الذكور على التأويل الخاطئ للنص الديني الذي يرفع من شأن الذكور على الإناث، ففي قوله - تبارك وتعالى- : "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء..." [سورة النساء، من الآية 34] استندت أنت وغيرك من الذكور في مجتمعاتنا الشرقية على نص الآية الكريمة؛ لفرض الهيمنة والتّحكم في الزوجات، في حين تعد القوامة تكليفًا وليست تشريفًا لجنس الرجال. ولكننا نود التعرف بك.

- أنه حضرة المحترم "السيد أحمد عبد الجواد" جاء ليعرب عن رفضه القاطع لأطروحة "قاسم أمين"، يبدو لي أن آراءه " تحمل نفس آراء منتقدي "قاسم أمين" ك"فريد أفندي" و"طلعت حرب" ..إلخ.

- نور الهدي: إنكار مساواة المرأة بالرجل سيترتب عليه رفض تعليمها، مع أن التعليم يزيد من معارف الفرد، ويحسن مهاراته بحيث يتصرف بأسلوب ذات طابع عقلاني يتصف بالموضوعية سواء في الحياة العائلية أو العملية. فما رأي "مفكرنا حول قضية تعليم المرأة؟

- قاسم أمين: أوافقك أستاذة "نور" ففي رأيي أن المرأة لا يمكنها أن تدير منزلها إلَّا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقليَّة والأدبيَّة. فيجب أن تتعلَّم كل ما ينبغي أن يتعلَّمه الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل؛ حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوقها منها، وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت. فإذا تعلمت القراءة والكتابة، واطلعت على أصل الحقائق العلمية، وكذلك معرفتها بالعقائد والآداب الدينية استعدَّ عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء. (1)

-  على الرغم أن "قاسم أمين" لم يطالب بالمساواة المطلقة بين المرأة والرجل في التعليم، وإنما حصولها على التعليم الابتدائي؛ حتى يتثنى لها إدارة شؤون منزلها، إلا إنني لاحظت بلوغ الغضب ذروة عنفوانه على وجهة "سي السيد" متحدثًا بصوت متسلط يفتقر للدفء.

- سي السيد: في حين إنني أخالفك أشد المخالفة، إن تعليم المرأة لا ينفع إلا إذا كان في مقدمة تعليم العلوم الدينية بما فيها من عقائد وآداب ومعاملات وعبادات، وأن يتعوَّد الأطفال منذ بدء نشأتهم على التمسك بها. فالأولوية للعلوم الدينية، أما تعليم العلوم العقلية لا يلزم أن يكون إلا مجملًا مختصرًا حتى لا يقعدهم عن إتقان العلوم الدينية.(2)

- الواضح اتفاقكما حول تعليم المرأة، حيث أراد "قاسم أمين" إلمام المرأة بالتعليم الابتدائي من تعلم القراءة والكتابة، ومعرفة الحقائق العلمية بجانب العقائد الدينية، ولكن قصر "سي السيد" تعليمها العلوم الدينية فحسب من أجل تنشئة وتربية الأطفال على تعاليم الدين القويم، أخذت التساؤلات تتبادر إلى ذهني حول قصر تعليم المرأة العلوم الدينية أليست المرأة نصف المجتمع، والأم التي تعد أجيال المستقبل؟ فكيف لها أن تنشئ أبناءها على قيم العصر إذا كان تعليمها قاصرًا على العلوم الدينية فحسب؟ ألا يؤثر ذلك سلبًا على مستقبل مجتمعاتنا العربية وتطلعاتنا نحو الرقي والتقدم خاصة اليوم في ظل عصر التكنولوجيا والثورة المعرفية؟

وإذا تنقلنا صديقتي نور إلى إشكالية الوظيفة الاجتماعيَّة للمرأة بطرح تساؤل لقاسم أمين حول موقفه من عمل المرأة؟

- قاسم أمين: لا شيء يمنع المرأة المصريَّة من أن تشتغل مثل الغربيَّة بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة إلَّا جهلها وإهمال تربيتها، ولو أُخِذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهت عزيمتها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيويَّة، واستعملت مداركها وقواها العقليَّة والجسميَّة لصارت نفسها حيَّة فعَّالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عبئًا لا تعيش إلَّا بعمل غيرها. وكان ذلك خيرًا لوطنها لما ينتج عنه ازدياد الثروة العامَّة والثمرات العقليَّة فيه. (1)

- ولكنني عالمنا الجليل كنت أود في كتابك تحرير المرأة أن تعود لوظائف المرأة الاجتماعية في حضاراتنا الفرعونية بدلًا من التركيز على نموذج المرأة في المجتمعات الغربية، وها هو سي السيد يقاطعني بملامح يخيم عليها القسوة.

- سي السيد: أنني أرفض رفضًا قاطعًا عمل المرأة خارج المنزل؛ لأن وظيفتها منزلية محضة، وأن اشـتـغـالـهـا خـارج بيـتـهـا خلل اجـتـمـاعي خطير، بخلاف الرجل فـإن حـيـاته تقتضي المحاولات الخـارجـيـة؛ لأنه سيبعدها عن عائلتها، وتقويض دعائم بيتها، لأن تكوينهـا البيولوجي ضعيف، فعملها خارج المنزل يشكل نوعًا من الاستعباد للمـرأة؛ لأنه ضـد فطرتها. (3) أما حديثك بأن تشتغل المرأة الشرقية مثل النابغات من النساء بأوروبا وأمريكا في العلوم الطبيعية والفلكية، فإنهن فضلًا عن كونهن أقل إدراكا وحسًّا، ولم يبلغن شأن الرجال فيها على الإطلاق إلى جانب عدم الزواج إلا بعد أن يشارفن سن الهرم تقريبا لا تتزوج قبل أن يبلغ سنها الخامسة والأربعين. فقل لي بأبيك: ماذا ينتظر منها من النسل بعد هذا السن؟!، وهل يستفيد الوطن من أبحاثها في علم الطبيعة أو السياسة أو التشريع. إنني لا أسر إذا كانت امرأتي دكتورة؛ فإني أود أن تكون المرأة مرأة (2) .

- قاسم أمين: ولكن حضرة المحترم "سي السيد" أن الوقائع أظهرت لنا أن كثيرًا من النساء لا يجدن من الرجال مَن يعولهن؛ فالبنت التي فقدت أقرباءها، ولم تتزوَّج، والمرأة المطلَّقة، والأرملة التي تُوفيِّ زوجها، والوالدة التي ليس لها أولاد ذكور أو لها أولاد قصر- كل هذه المذكورات- يحتجن إلى التعليم؛ ليمكنهنَّ القيام بما يسدُّ حاجتهن وحاجات أولادهنَّ إن كان لهنَّ أولاد، أمَّا تجرُّدهنَّ عن العلم؛ فيلجئهن إلى طلب الرزق بالوسائل المخالفة للآداب، أو إلى التطفُّل على بعض العائلات الكريمة. ولو فُرِض أن المرأة لا تخلو من زوج أو ولي ينفق عليها أفلا تكون التربية ضرورية لمساعدة ذلك العائل إن كان فقيرًا، أو تخفيف شيء من انتقال إدارة المال داخل البيت إن كان غنيًّا؟ فإن كانت المرأة غنيَّة بنفسها- وهو نادر- بأن كان لها إيراد من عقارات ونحوها أفلا يفيدها التعليم في تدبير ثروتها وإدارة شؤونها؟! (1).

- د. حليم عثمان: أؤيد رأي "قاسم أمين" عن عمل المرأة؛ فكما أن للمرأة دورًا مهمًّا في حياتها المنزلية والعائلية إلا إن هذا لا يلغي دورها الاجتماعي في إدارة المجتمع وتحمل شؤونه، خاصة وقد أصبح عمل المرأة اليوم ضرورة من ضروريات الحياة في ظل صعوبة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاتنا الشرقية.

- د.نجيب راشد: ولكن شرط أن تسعى كل امرأة عاملة لإمكانية التوفيق بين العمل والحياة الشخصية والأسرية.

- نور الهدى: من أجل ذلك "د. راشد" لابد من دعم الأزواج لزوجاتهم؛ لتخفيف الأعباء المنزلية وعدم التمسك بالتقاليد والأعراف البالية التي ثقل كاهل المرأة بوصف العمل المنزلي خاصًّا بالنساء فقط.

- د. حليم عثمان: لقد كان حديثنا السابق مثمرًا للغاية، ولكن أرى استكماله في لقاءٍ آخر ، خاصة وأننا سنتحدث عن إشكالية الزواج وقضية تعدد الزوجات، وهذا يستلزم متسعًا من الوقت.

- د.نجيب راشد: هذه فرصة سعيدة أغتنمها لأدعو مفكرنا العزيز، والحضور الكرام كافة إلى حفل زفاف ابن عمي المقام في محافظة الأقصر. وسيكون هذا العرس مناسبة لقيام قاسم أمين بزيارة مدينتي.

–في إثر استجابة الجميع لدعوة "د.راشد"، أرى تعبيرات مبهمة على وجه "سي السيد"، أخذت أتسال ما يشغل باله؟ هل حضر لمعرفته بقدوم زوجته معنا؟ وإن كان كذلك، ماذا سيفعل معها؟ لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن أن تحيا السيدة "أمينة" - وغيرها من النساء- مع مثله من الرجال؟!، فكل تصرفاته تفيض بالنرجسية والتسلط، عبوسه المستمر ينم عن طبيعته القمعية والاستبدادية.

قبيل مغادرة "قاسم أمين" اتجه إلىّ وأعطاني الكتاب، وبداخله الوردة الحمراء، قائلاً لي: "هذا لك حتى تكملي المسير، ولكن لابد أن تراعي اللاند سكيب أثناء مناقشة قضايا المرأة مع مفكري الفكر والتنوير.

***

د. آمال طرزن

.....................

 (1) قاسم أمين: تحرير المرأة ص17.

(2) محمد طلعت حرب: تربية المرأة والحجاب، ط1،مطبعة الترقيب، بمصر، 1899م ، ص 11- 13.

(1) قاسم امين: تحرير المرأة ، مرجع سابق ،ص18.

(2) محمد طلعت حرب: مرجع سابق، ص 58.

(1) قاسم امين: تحرير المرأة ،مرجع سابق، ص18.

(3) أحمد محمد احمد سالم المرأة بين قاسم أمين وناقديه الوعي الإسلامي وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية 2003 ص74 .

(2) محمد طلعت حرب: مرجع سابق، ص 16.

(1) قاسم أمين: تحرير المرأة ص19.

نسوية شرقية

 

بقلم: بنيامين سانتوس جينتا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشكل الاستعارات، المتغلغة في نسيج اللغة، كيفية فهمنا للواقع. ماذا يحدث عندما نحاول استخدام أشياء جديدة؟

"اللغة هي الشعر الأحفوري. كما أن الحجر الجيري في القارة يتكون من كتل لا نهائية من أصداف الكائنات الحيوانية، فإن اللغة تتكون من صور،أو مجازات، والتي الآن، في استخدامها الثانوي، توقفت منذ فترة طويلة عن تذكيرنا بأصلها الشعري."

– من مقالة “الشاعر” (1844) للكاتب رالف والدو إيمرسون

"الاستعارات... تصبح ألفاظا عادية مع تراجع حداثتها."

– من كتاب لغات الفن (1976) لنيلسون جودمان

إذا كان رالف والدو إيمرسون على حق في أن «اللغة هي الشعر الأحفوري»، فإن الاستعارات تمثل بلا شك جزءًا كبيرًا من هذه البقايا اللغوية. تم العثور على مثال أحفوري لغوي محفوظ جيدًا بشكل خاص في البرنامج التلفزيوني الساخر Veep: بعد إجراء مقابلة ناجحة تهدف إلى صرف انتباه الجمهور عن أزمة دبلوماسية محرجة، نائب الرئيس الأمريكي - الذي صورته جوليا لويس المتميزة -دريفوس - تعلق على موظفيها: "لقد لفظت الكثير من الهراء، وسأحتاج إلى النعناع"

عند استخدامها بشكل صحيح، تعمل الاستعارات على تحسين اللغة. لكن جرعات التوابل المجازية في طبق اللغة بشكل صحيح ليست بالمهمة السهلة. "يجب ألا تكون بعيدة المنال، وإلا سيكون من الصعب فهمها، أو واضحة، أو لن يكون لها أي تأثير"، وقد لاحظ أرسطو هذا منذ ما يقرب من 2500 سنة. لهذا السبب، يُفترض عمومًا أن الفنانين - أولئك الذين ينقلون الخبرة بشكل ماهر - هم أكثر مستخدمي الاستعارة مهارة، وخاصة الشعراء والكتاب.

لسوء الحظ، من المحتمل أن هذا الارتباط بالفنون هو الذي أعطى الاستعارات سمعة من الدرجة الثانية بين العديد من المفكرين. الفلاسفة، على سبيل المثال، اعتبروها تاريخيًا استخدامًا غير لائق للغة. وما تزال هناك نسخة من هذا الفكر تتمتع بنفوذ كبير في العديد من الدوائر العلمية: إذا كان ما نهتم به هو المحتوى الدقيق للجملة (كما نفعل غالبًا في العلوم)، فإن الاستعارات ليست سوى إلهاء.وعلى نحو مماثل، إذا كان ما يهمنا هو تحديد مدى القيمة الغذائية لوجبة ما، فإن عرضها على الطبق لا ينبغي أن يحدث أي فرق في هذا الحكم - بل قد يؤدي إلى تحيزنا.

في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ بعض العلماء (وخاصة أولئك الذين لديهم استعداد نفسي) في قلب هذا التفكير رأسًا على عقب: فقد تحولت الاستعارات ببطء من كونها أدوات غير مناسبة ولكن لا مفر منها للغة إلى بنية تحتية أساسية لنظامنا المفاهيمي.

وفي المقدمة كان اللغوي جورج لاكوف والفيلسوف مارك جونسون. في كتابهما المؤثر "الاستعارات التي نحيا بها" (1980)*، ذكرا أن "معظم نظامنا المفاهيمي العادي هو مجازي بطبيعته". ما يقصدانه بهذا هو أن نظامنا المفاهيمي يشبه الهرم، مع العناصر الأكثر واقعية في القاعدة. بعض الألفاظ الممثلة لهذه المفاهيم الأساسية الملموسة (أو "الحرفية") هي تلك الخاصة بالأشياء المادية التي نواجهها في حياتنا اليومية، مثل مفاهيم الصخور والأشجار. تقوم هذه المفاهيم الملموسة بعد ذلك بترسيخ البناء المجازي لمفاهيم أكثر تجريدًا في أعلى الهرم.

يبدأ لاكوف وجونسون من ملاحظة أننا نميل إلى الحديث عن المفاهيم المجردة بقدر ما نتحدث عن المفاهيم الملموسة. على سبيل المثال، نميل إلى الحديث عن الأفكار (مفهوم مجرد لا يمكننا ملاحظته بشكل مباشر) بنفس اللغة التي نستخدمها عندما نتحدث عن النباتات (مفهوم ملموس له العديد من الخصائص التي يمكن ملاحظتها). يمكننا أن نقول عن فكرة مثيرة للاهتمام إنها "مثمرة"، وأن أحدًا "زرع" فكرة في رؤوسنا، وأن الفكرة السيئة "ماتت على الكرمة".

إن الهدف من الجدال في إطار "الرقص" لن يكون "الفوز به" بل إنتاج منتج نهائي مرضي.

لا يقتصر الأمر على أننا نتحدث بهذه الطريقة فحسب: بل يقودنا لاكوف وجونسون إلى  الفهم الحقيقي والتوصل إلى استنتاجات حول المفهوم (المجرد) لفكرة ما من فهمنا الملموس أكثر للمفهوم (الملموس) للنبات. وخلصا إلى أننا نضع في اعتبارنا الاستعارة المفاهيمية "الأفكار هي النباتات".(بعد التقليد، سأستفيد من الاستعارة المفاهيمية، حيث يأتي المفهوم المجرد أولاً ويتم تنظيمه بواسطة الثاني.)

يشرح لاكوف وجونسون هذا الأمر بشكل أكبر من خلال المثال التالي. في اللغة الإنجليزية، عادة ما يتم بناء المفهوم المجرد للحجة بشكل مجازي من خلال المفهوم الأكثر واقعية للحرب: نقول إننا "نفوز" أو "نخسر" الحجة؛ إذا اعتقدنا أن الشخص الآخر يتحدث هراء، فإننا نقول إن ادعاءاته "لا يمكن الدفاع عنها"؛ وقد نلاحظ "خطوط ضعف" في كلامه. تأتي هذه المصطلحات من فهمنا للحرب، وهو مفهوم مألوف لدينا بشكل لافت للنظر.

إن حداثة اقتراح لاكوف وجونسون لا تكمن في ملاحظة انتشار اللغة المجازية في كل مكان، بل في التأكيد على أن الاستعارات تذهب إلى ما هو أبعد من الكلام غير الرسمي: "إن العديد من الأشياء التي نقوم بها في الجدال يتم تنظيمها جزئيًا وفقًا لمفهوم الحرب". يقترح استعارة مفاهيمية أخرى، الحجة هي رقصة. من المؤكد أن الرقص أكثر تعاونية من الحرب - والهدف، في هذا الإطار، لن يكون "الفوز" به، بل إنتاج منتج نهائي مرضي أو أداء يستمتع به الطرفان. ستكون ديناميكيات كيفية تفكيرنا في الحجج ضمن هذا الإطار مختلفة تمامًا. وهذا يسلط الضوء على دور الاستعارة في خلق الواقع بدلا من مجرد المساعدة في تمثيله.

ومن ثم يبدو أن الاستعارات توفر الأساس لكيفية تصورنا للمفاهيم المجردة (وبالتالي الكثير من العالم).ومع ذلك، فإن الاستعارة الواحدة لا تبني سوى مفاهيم معقدة بشكل جزئي، وعادة ما يتم استخدام المزيد منها. خذ مفهوم الحب الرومانسي. إن الاستعارة المفاهيمية واسعة الانتشار في مختلف اللغات هي الحب الرومانسي عبارة عن رحلة. من الشائع أن نقول إن العلاقة "على مفترق طرق" عندما يتعين اتخاذ قرار مهم، أو أن الناس "يذهبون في طريقهم المنفصل" عندما ينفصلون. (تعد قصيدة تشارلز بودلير التي كتبها عام 1857 بعنوان "دعوة إلى رحلة" مثالا بارزا على هذه الاستعارة المفاهيمية، حيث يدعو المتحدث المرأة إلى رحلة مجازية وحقيقية على حد سواء). مرة أخرى، هذه الأفكار المجازية لها تأثير كبير على كيفية تصرفنا في العلاقة: لولا فكرة وجود مفترق طرق في علاقتي، ربما لم أكن لأفكر في الحاجة إلى محادثة جادة مع شريكي حول وضعنا.

لكن الحب، المهم جدًا لحياة الإنسان، منظم جزئيًا من خلال استعارات أخرى لا حصر لها. وهناك اتجاه آخر - ربما تحجر في قصيدة أوفيد التي تحمل نفس العنوان - وهو الحب الرومانسي هو الحرب. من الشائع أن نقرأ أن أحد الطرفين "ينتصر" على الآخر أو "يكسب الأرض" من شريك متردد في البداية، وأن يد أحد الطرفين قد "تفوز" بالزواج. (من خلال هذا المثال بالفعل، نرى أن الأطر المجازية المنتشرة في كل مكان يمكن أن يكون لها دلالات معادية للنساء بشكل غير دقيق).

إلى السؤال الأبدي "ما هو الحب؟" »، فإن نظرية الاستعارات المفاهيمية لها إجابة: مجموعة الاستعارات المستخدمة لتصوريه. الحب هو رحلة والحب هو الحرب هما مثالان من هذه المجموعة التي تسلط الضوء وتخلق جوانب مختلفة لمفهوم الحب.

يعلم كل متحدث أن اللغة التي نستخدمها مهمة وأن هناك تفاعلات معقدة بين اللغة التي نتحدث بها والأفكار التي نفكر بها. تدعم الدراسات التجريبية هذا الحدس: عندما يحمل الناس استعارات مفاهيمية مختلفة في أذهانهم، فإنهم يميلون إلى اتخاذ قرارات مختلفة في نفس السياق (مؤشر معقول على أنهم يحملون مفاهيم مختلفة).

تؤثر الاستعارات على الآراء، بما في ذلك كيفية رؤية الناس لتغير المناخ أو الشرطة

في إحدى هذه الدراسات،  عُرض تقرير على مجموعتين الناس حول ارتفاع معدل الجريمة في المدينة. تلقت إحدى المجموعتين تقريراً بدأ بعبارة "الجريمة فيروس يخرب المدينة"، فيما تلقت المجموعة الأخرى تقريراً بدأ بـ "الجريمة وحش يفترس المدينة". وهكذا كانت المجموعتان مستعدتين لبناء مفهوم الجريمة مجازيًا بمفهومين مختلفين: الفيروس أو الوحش. ثم سُئلوا عن التدابير التي سينفذونها لحل مشكلة الجريمة. وكان أولئك الذين استعدوا لاستخدام الاستعارة المفاهيمية "الجريمة وحشية" أكثر ميلاً إلى التوصية باتخاذ تدابير عقابية، مثل زيادة قوة الشرطة وسجن المجرمين (تماماً كما قد يضع المرء وحشاً في قفص). وكان أولئك الذين كانوا على استعداد لاعتبار الجريمة فيروساً يميلون إلى اقتراح تدابير مرتبطة بعلم الأوبئة: احتواء المشكلة، وتحديد السبب وعلاجه، وتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية. والمثير للدهشة أن المشاركين لم يكونوا على دراية بتأثير هذه الأطر المجازية على خياراتهم. عندما سُئلوا عن سبب اختيارهم للحلول التي قاموا بها، حدد المشاركون "بشكل عام إحصاءات الجريمة، التي كانت هي نفسها لكلا المجموعتين، وليس الاستعارة، على افتراض أنها الجانب الأكثر تأثيرًا في التقرير".

ليست الجريمة حالة شاذة: تشير الدراسات ذات السياقات المشابهة بقوة إلى أن اختيار الاستعارات المفاهيمية يؤثر بشكل كبير على آراء الأفراد وقراراتهم في مجموعة متنوعة من البيئات. وتشمل هذه، من بين أمور أخرى، كيفية رؤية الناس للتهديد الذي يشكله تغير المناخ، ومواقفهم تجاه الشرطة واتخاذهم للقرارات المالية.

إن أهمية الاستعارات والتفكير التشبيهي تكون أكثر وضوحًا عند الأطفال. وبقيادة عمل العلماء المعرفيين ديدري جينتنر وكيث هوليواك، أصبحت دراسة الاستدلال التشبيهي الآن برنامجًا بحثيًا مزدهرًا. هناك أدلة كثيرة على أهمية استخدام التشبيه في نمو الأطفال؛ تشير الدراسات إلى أن التفكير العلائقي – الضروري لإجراء التشبيهات – يتنبأ بدرجات اختبار الأطفال ومهارات التفكير المنطقي. على الرغم من أن العديد من هذه الدراسات لم يتم تكرارها بعد، يبدو أن الاستعارات تشكل الدماغ حرفيًا.

وليس من المبالغة أيضًا أن نقول إن الاستعارات تدعم العلم، ذلك النظام المفاهيمي لتنظيم المعرفة. في كتابه "القطبية والقياس" (1966)، وهو دراسة رائعة لاستخدام التشبيهات والاستعارات في العلوم اليونانية القديمة، يقدم المؤرخ السير جيفري لويد حجة مقنعة لأهمية التشبيهات في توجيه الفكر العلمي المبكر. على سبيل المثال، يسلط لويد الضوء على كيف ساهمت التشبيهات مع المنظمات السياسية في تشكيل وجهات النظر حول الكون. كان النهج اليوناني القديم النموذجي لتفسير الكون يتضمن افتراض المواد الأساسية ثم شرح كيفية تفاعلها. (اقترح إمبيدوكليس أن المواد الأساسية الأربعة هي النار والهواء والماء والأرض). وللمساعدة في تحديد العلاقات بين المواد، كان هؤلاء العلماء القدماء يستشهدون بأنظمتهم السياسية. إحدى الاستعارات المفاهيمية البارزة المستخدمة هي أن الكون ملكي، حيث تتمتع مادة واحدة بسلطة عليا على المواد الأخرى. وما تزال هذه اللغة تُستخدم في الفيزياء الحديثة عندما نسمع أن قوانين الكون تحكم عالمنا. هناك استعارة مفاهيمية سائدة أخرى وهي أن الكون ديمقراطية؛ وهذا التأطير، الذي لم يظهر إلا بعد تأسيس الديمقراطية في أثينا، يرى أن المواد الأساسية متساوية في المرتبة وتعمل بنوع من التتوافق فيما بينها.

هذا الاستخدام للاستعارات السياسية ليس مجرد أسلوبية. يكتب لويد أنه «مرارًا وتكرارًا، في عصر ما قبل سقراط وأفلاطون، كانت طبيعة العوامل الكونية، أو العلاقات بينها، تُفهم من حيث الوضع الاجتماعي أو السياسي الملموس.» من وجهة نظر نظرية الاستعارة المفاهيمية، فإن هذا منطقي: لاستيعاب مفهوم جديد ومجرد وغير مرئي (المواد الأساسية للكون)، فمن الطبيعي أن يقارنه هؤلاء المفكرون بالظواهر التي لديهم خبرة مباشرة بها (تنظيماتهم السياسي).

إن الاستعارات والتشبيهات ليست مجرد مسكوكات من صنع العلم القديم، ولكنها أيضًا أدوات حيوية للأوركسترا العلمية المعاصرة. فهي تساعد في صياغة وتأطير النظريات: إن الاستعارات السياسية، التي لا تختلف عن تلك التي استخدمها اليونانيون القدماء، شائعة في علم الأحياء الحديث، الذي يعج بلغة "الهيئات التنظيمية" ــ في استحضار الهيئات التنظيمية الموجودة الآن في الحكومات الحديثة. تسلط هذه الاستعارات الضوء على الضوابط والتوازنات الموجودة داخل الأنظمة البيولوجية المعقدة، بالتوازي مع الطريقة التي تحافظ بها الهيئات التنظيمية الحكومية على النظام في المجالات الخاصة بها. الاستعارات العسكرية شائعة أيضًا: حيث يتم تأطير الجهاز المناعي بشكل متكرر كجيش يحمي الجسم من مسببات الأمراض "الغازية". غالبًا ما تُشبه الممرات الفلزية أيضًا بالطرق السريعة، المجهزة بـ "الطرق الالتفافية"، والتي تواجه أحيانًا "حواجز الطرق" أو "حركة المرور"، كما لاحظت الفيلسوفة لورين روس**.

تعتبر التشبيهات ضرورية أيضًا لتوليد فرضيات جديدة (ما يمكن أن نطلق عليه الإبداع العلمي). ومن الأمثلة البارزة على ذلك فكرة تشارلز داروين عن الانتقاء الطبيعي، والتي توصل إليها من خلال تشبيهها بالممارسات الانتقائية للمزارعين. وبشكل عام، يمكن صياغة هذا التشبيه على النحو التالي: تختار الطبيعة الكائنات الحية من أجل اللياقة بنفس الطريقة التي يختار بها المزارعون أفضل المحاصيل من حيث المذاق ومقاومة الأمراض والصفات الأخرى.

ونظرًا لطبيعة عقولنا المجازية، فمن الجدير أن نسأل: هل استعاراتنا التصويرية مناسبة؟ نحن مدينون لأنفسنا وللآخرين بالتفكير في مدى ملاءمة الاستعارات التي نستخدمها لتأطير العالم. وهذه الاختيارات -سواء كانت واعية أم لا- يمكن أن تكون بناءة أو كارثية.

خذ بعين الاعتبار الخطاب المجازي بين الأطباء والمرضى في رعاية مرضى السرطان. تشكل هذه المحادثات الطريقة التي يحكم بها المرضى على تجربتهم الخاصة، وبالتالي تؤثر حتماً على صحتهم. استعارات الحرب موجودة في كل مكان، والتي تقول الكثير عن ثقافتنا. ومن غير المستغرب أن لا تختلف رعاية مرضى السرطان عن ذلك: فغالبًا ما يقال إن المرضى "يخوضون معركة" مع السرطان ويتم الحكم عليهم على "روحهم القتالية".ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن هذا التشبيه التصويرى يسبب ضررا حقيقيا لبعض المرضى. على سبيل المثال، خلص طبيب الرعاية التلطيفية/ التخفيفية في جامعة ستانفورد، فيجيانثي بيرياكويل، إلى أن "اختيار رفض خيارات العلاج عديمة الفائدة أو الضارة يرقى الآن إلى مستوى الانسحاب الجبان من "ساحة المعركة" الذي يمكن اعتباره عملاً مخزيًا من جانب المريض". وبعبارة أخرى، فإن المريض الذي يشعر بالقلق بالفعل من الموت بسبب المرض قد يشعر بالمزيد من العار ــ غير الضروري والقاسي ــ لعدم الاستمرار في "القتال".

تشير مقالة مراجعة كتبها طبيب أورام تحث الممرضات والأطباء على إعادة التفكير في فائدة هذا الاستعارة العسكرية. البديل المقترح هو استخدام الاستعارة التصويرية "السرطان رحلة" لوصف تجربة المريض. إن إعادة صياغة مفهومه بهذه الطريقة تؤدي إلى أفكار مختلفة: السرطان ليس معركة يجب التغلب عليها، بل هو طريق فردي وفريد يجب اتباعه؛ إن تجربة المرض ليست شيئاً ينتهي (كما هو الحال غالباً مع الحرب) بل هي عملية مستمرة لا تنتهي (مع زيارات دورية إلى المستشفى لمراقبة أي تكرار).

يجب اختبار أى إعادة تشكيل استعارة تصويرية مقترحة لمعرفة ما إذا كانت تعمل بشكل أفضل من الإطار السابق. يبدو أن هذا هو الحال بالنسبة لاستعارة الرحلة: المرضى الذين أعادوا صياغة تجربتهم مع السرطان بهذه الطريقة كان لديهم نظرة أكثر إيجابية، وزيادة في الرفاهية بشكل عام، ونمو روحاني. (أظن أن تحولًا مماثلاً في العقلية من شأنه أن يفيد كثيرًا الأشخاص الذين يعانون من مشكلات الصحة العقلية والأمراض المزمنة، نظرًا لأن هذه كيانات أقل وضوحًا تحتاج إلى "محاربتها"، ولكنها بالأحرى تجارب يجب على المرضى التعايش معها، في كثير من الأحيان لبقية حياتهم.)

ومن المعروف أيضًا أن استعارة الحرب تزيد من المشاعر العنصرية، وهو أمر رأيناه خلال الوباء

من الضروري أن نكون واضحين عند كلا الطرفين اللغويين (المريض والطبيب، وبشكل عام غير الخبير والخبير) حول الاستعارات المستخدمة لتصور المرض: يتحدث محاوران عما يعتقدان أنه نفس المفهوم، ولكن كل منهما يضع هذا المفهوم في إطار استعارة مختلفة، فهذه وصفة واضحة لسوء الفهم. ومن ثم يكون الافتقار إلى التواصل مؤلمًا، خاصة عندما يعاني أحد الطرفين من مرض يستهلك بعمق كل جانب من جوانب كيانه.

ويجب علينا أيضاً أن نتساءل عن الإطار المجازي الحالي للتحديات الاجتماعية المعقدة ــ حذر الخبير الاقتصادي بول كروجمان في صحيفة نيويورك تايمز في عام 2010 من أن "الاستعارات السيئة تؤدي إلى سياسة سيئة". ولعنا نعد  جائحة كوفيد-19 مثالا على ذلك: فالممارسة طويلة الأمد لاستخدام استعارات الحرب للحديث عن الأوبئة كانت اتجاهًا لوحظ مع تفشي فيروس كورونا أيضًا. وتضمنت العبارات الشائعة "الممرضات في الخنادق"، والنظر إلى العاملين في مجال الرعاية الصحية على أنهم  "خط الدفاع الأول"، وإعلان السياسيين أن الأمة في "حرب" ضد عدو غير مرئي.

للوهلة الأولى، قد تبدو استعارات الحرب وكأنها تنقل خطورة الوضع وتحشد الناس للعمل. ولكن في مثل هذه الحالات من المهم النظر في العواقب غير المقصودة لاختيار إطار مجازي. فالحرب، على سبيل المثال، تتطلب عمومًا تعبئة وطنية مكثفة للعمل، في حين تتطلب الأوبئة من غالبية السكان البقاء في منازلهم وعدم القيام بأي شيء. ومن المعروف أيضًا أن استعارة الحرب تزيد من المشاعر العنصرية، وهو أمر رأيناه خلال جائحة كوفيد-19.

وكبديل لهذا، اقترح بعض اللغويين أن الاستعارة الأكثر ملاءمة هي إعادة صياغة مفهوم الوباء على أنه حريق، لأن هذا يؤكد على إلحاح الأزمة الصحية وتدميرها، مع تجنب بعض عيوب استعارة الحرب. هذا لا يعني أنه من الخطأ أو غير الأخلاقي أن نأخذ في الاعتبار أن الوباء هو حرب - فمن الممكن أن يكون تأطير الحرب هو في الواقع الأفضل لتعبئة الناس وتحفيزهم على البقاء في منازلهم أثناء حالات الطوارئ الوبائية. بل النقطة المهمة هي أن معرفة مشاكله المحتملة يجب أن تدفعنا إلى استخدام الاستعارة مع احتياطات إضافية.

يجب أن يكون واضحًا أن قوة اختيار الاستعارة (الاستعارات) لتنظيم أفكارنا تجعل الأداة عرضة للاختطاف من قبل المحتالين والسياسيين لتحقيق أجندتهم الخاصة. على سبيل المثال، استخدم دونالد ترامب في عام 2017 نسخة من حكاية إيسوب عن المزارع والثعبان لتقديم المهاجرين بشكل مجازي في ضوء سلبي. تحكي الحكاية عن مزارعة، في طريق عودتها إلى المنزل، وجدت ثعبانًا متجمدًا ومريضًا. تشفق المرأة على المخلوق، وتعيده إلى المنزل وتدفئه وفي طريق عودتها من العمل في اليوم التالي، رأت أن الثعبان أصبح بصحة جيدة مرة أخرى. غمرتها الفرحة، فعانقت الثعبان.وعند ذلك يعضها الثعبان عضة قاتلة.وقبل أن تموت تسأله المزارعة الثعبان لماذا تفعل مثل هذا الشيء؛ يقول الثعبان، وهو لا يشعر بأي ندم: "كنت تعلمين جيدًا أنني كنت ثعبانًا قبل أن تأويني" .من خلال قراءة هذه القصة في خطاب، هيأ ترامب الجمهور لتصور أن المهاجرين ثعابين، والولايات المتحدة امرأة. وتقدم الفيلسوفة كاثرينا ستيفنز حجة مقنعة مفادها أن ترامب استخدم هذه الحكاية لدعم الاعتقاد بأن المهاجرين يشكلون تهديدا للأمن القومي (تماما كما يشكل الثعبان تهديدا للمرأة).

يمكن للاستعارات أيضًا إدامة لغة التجريد من الإنسانية التي تمهد الأسلوب التصويري لأسوأ أنواع الفظائع البشرية. أثناء الإبادة الجماعية في رواندا، لعبت المحطة الإذاعية الرئيسية في البلاد دوراً رئيسياً في تحديد الكيفية التي تنظر بها أغلبية الهوتو إلى أقلية التوتسي: فقد استخدموا بشكل متكرر الاستعارات لتجريد التوتسي من إنسانيتهم ــ ومن الأمثلة المعروفة تشبيه التوتسي بالصراصير. عندما تستوعب مثل هذا الاستعارة إلى درجة أنها تشكل المفهوم الذي لدى الناس عن مثل هذه المجموعة، فإنه يتبع ذلك على الفور تقريبًا أنهم سيرغبون في التخلص منهم (تمامًا كما يفعلون مع الصراصير الحقيقية). هذا ما حدث. إن القوة المخيفة بشكل خاص للاستعارات المجازية لا تتمثل في أن المجموعة يُنظر إليها بشكل غير مفضل ومن ثم، للتأكيد على وجهة النظر هذه، تتم الإشارة إليها من خلال استعارات تجرد الإنسان من إنسانيته. بل إن البناء المجازي المستخدم لتأطير مجموعة معينة في المقام الأول هو سبب رؤية المجموعة الأخرى لهم بهذه الطريقة. وكان لاكوف على حق عندما حذر من أن «الاستعارات يمكن أن تقتل».

لنفترض أننا لاحظنا أننا نحتضن مفاهيم تسبب أسسها المجازية الأذى. هل يمكننا حقًا إعادة بناء المفهوم بأساس مجازي مختلف؟ ويعتقد لاكوف وجونسون ذلك ــ وآمل أن يكونا على حق، حتى ولو لم يكن القيام بذلك بالمهمة السهلة.

الخطوة الأولى هي ملاحظة الاستعارة. وليس هذا واضحا دائما. إحدى الطرق لإعادة بناء جزء من تاريخ الفكر النسوي هي القول إن المفكرين اكتشفوا الاستعارة الخبيثة المتمثلة في تأطير النساء كأشياء في البنية المجازية للمجتمع الأبوي من حولهن. من بين أولئك الذين أشاروا إلى الاستعارة المجازية السائدة، "النساء أشياء"، كانت الناشطة النسوية أندريا دوركين، التي كتبت أن "التشييء يحدث عندما يصبح الإنسان... أقل من إنسان، ويتحول إلى شيء أو سلعة". على الرغم من وجود اعتراف في الخطاب المعاصر بأن هذا المفهوم منتشر على نطاق واسع (سواء بوعي أو بغير وعي)، إلا أنه في وقت كتابة "امرأة تكره" (1974)***، يؤكد دوركين صراحة على الحاجة إلى توعية الناس به.

إذا ما ذكرت الاستعارة التصويرية بوضوح، فإن الخطوة التالية هي شرح سبب كونها غير مرغوب فيها وتتطلب التغيير. فمع التشييء، تنشأ العديد من المشاكل الأخلاقية؛ وبشكل ملحوظ، يتم تقليل استقلالية المرأة، مما يسمح بديناميكية سلطة غير متوازنة. وهذا ضرر كبير يستوجب التعويض الحتمي. للرد، بحثت الكاتبات النسويات عن سبب هذا التصور المجازي وسعين– وما زالن يسعين – إلى تفكيكه. (تعتبر دوركين وزميلتها الناشطة النسوية كاثرين ماكينون أن المواد الإباحية هي السبب الرئيسي، على الرغم من أن هذا قد تم دحضه من قبل مفكرين آخرين).

الخطوة الأولى، المهمة للغاية هي أن ندرك أن المفهوم الذي لدينا مبني بشكل مجازي

كلما كانت الاستعارة متجذرة في النفس الجماعية، كان من الصعب استبدالها. ولكن حتى عندما تكون التغييرات الصغيرة متأصلة، فقد يكون لها في بعض الأحيان تأثيرات مهمة. أحد هذه التغييرات الطفيفة أجرته صحيفة الجارديان: في عام 2019، قاموا بتغيير دليل أسلوبهم لتقديم المشورة للمؤلفين لاستخدام مصطلح "أزمة" أو "طوارئ" بدلاً من "تغير المناخ".وبررت رئيسة التحرير كاثرين فاينر ذلك بالإشارة إلى أن اللغة الحالية تبدو "سلبية ولطيفة إلى حد ما عندما يكون ما يتحدث عنه العلماء بمثابة كارثة على الإنسانية". هذا النوع من التغيير في اللغة يمكن أن يغير ببطء كيفية فهم القراء لخطورة الوضع المناخي.

لا يزال هناك الكثير من الأبحاث التي يتعين القيام بها. كيف يمكننا معرفة ما إذا كانت الاستعارة المفاهيمية تؤدى الغرض المطلوب؟ ما هي الخصائص المشتركة بين الاستعارات المفاهيمية البديلة الجيدة؟ كيف يمكننا تفكيك الاستعارة الأساسية للمفهوم بنجاح؟ سيكون من الصعب علينا أن نحرر أنفسنا من بعض الاستعارات الضارة أكثر من غيرها؛ ومع ذلك، فإن الخطوة الأولى الأكثر أهمية هي أن ندرك أن المفهوم الذي لدينا يتم بناؤه بشكل مجازي. وفي كثير من الحالات، ينبغي أن يكون العثور عليها سهلا بالقدر الكافي: ففي نهاية المطاف، كما لاحظ الفيلسوف نيلسون جودمان، "تتخلل الاستعارة كل الخطاب، العادي والخاص،وسنواجه  صعوبة  شديدة للعثور على فقرة حرفية بحتة في أي خطاب"

تُنسج الاستعارات (مجازيًا) في نسيج لغتنا وفكرنا، وتشكل طريقة فهمنا للمفاهيم المجردة والتعبير عنها. ولذلك ينبغي لنا أن نشعر بالحرية في استكشاف الاستعارات البديلة بحذر والحكم على ما إذا كانت تعمل بشكل أفضل. إن الجهد الجماعي لملاحظة وتغيير الاستعارات التي نستخدمها له إمكانات هائلة للحد من الضرر الفردي والمجتمعي.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: بنيامين سانتوس جينتا / Benjamin Santos Genta  يدرس للحصول على  الدكتوراه في قسم المنطق وفلسفة العلوم في جامعة كاليفورنيا، إيرفين.

* الاستعارات التي نحيا بها /Metaphors We Live By: وكتاب من تأليف جورج لاكوف ومارك جونسون نُشر عام 1980. يقترح الكتاب أن الاستعارة هي أداة تمكن الناس من استخدام ما يعرفونه عن تجاربهم الجسدية والاجتماعية المباشرة لفهم أشياء أكثر تجريدًا مثل العمل والوقت والنشاط العقلي والمشاعر.

Polarity and analogy: two types of argumentation in early Greek thought / by G.E.R. Lloyd.

Lloyd, G. E. R. (Geoffrey Ernest Richard), 1933-

Cambridge: University Press; 1966

** لورين .إن .روس / lauren n. ross أستاذ مشارك في قسم المنطق وفلسفة العلوم في جامعة كاليفورنيا، إيرفين.

*** تدرس دوركين مكانة المرأة وتصويرها في القصص الخيالية والمواد الإباحية (مع التركيز على الروايات المثيرة الفرنسية Story of O وThe Image والمجلة Suck). ثم تنظر بعد ذلك في الممارسات التاريخية لربط القدم الصينية وحرق الساحرات الأوروبية في العصور الوسطى من منظور نسوي جذري.

رابط المقال:

https://aeon.co/essays/how-changing-the-metaphors-we-use-can-change-the-way-we-think

وكما تستعملها الاوساط الاخرى

قبل الخوض في تعريف الثقافة culture نقول: ان معظم المحاولات التي بذلت لتفسير النمط الثقافي العام بدأت بما يسمى بالوحدة النفسية لبني البشر[2]، أي ان جميع الشعوب المعاصرة تتشابه في الجوانب الاساسية من تركيبها وتجهيزها النفسيين فضلا عن وجود اوجه شبه كثيرة بين ثقافاتها كامتلاك كل ثقافة لغة ومراسيم الجنازات والزواج و...، وذلك بصرف النظر عن الفروق الجسمية والجغرافية القائمة بينها  .

وهناك عدة عوامل لعبت دورا مهما في تشابه هذه الثقافات منها انتقال الثقافات عن طريق الهجرة وكذلك عن طريق الاحتكاك والاقتباس.

اما الفروق الثقافية بينها فتعود[3] إلى ان الكائنات البشرية رغم التشابه الاساسي بينها، فإنها تستجيب للمنبهات او الظروف المختلفة بطرق متفاوتة. كما يجب ان لا ننسى ان جميع الثقافات تتشابه لان هناك مجموعة من الدوافع الفطرية المتماثلة والتي تحفز الناس في كل مكان على العمل وتوجه سلوكهم في خطوط متوازية.

ان فكرة الثقافة لدى علماء الانثروبولوجيا والاوساط العلمية الاخرى (كما الحال عند رجال الاعمال والاطباء والادباء والفلاسفة و...) تحمل في طياتها فكرة التدخل الانساني، أي اضافة شئ إلى حالة من الحالات الطبيعية او ادخال تعديل عليها.. وهناك عدة مدارس تناولت موضوع التغير الثقافي[4] منها:

1- المدرسة الانجليزية التي نادى مؤسسوها (اليوت، سمث، وبري) بمبدأ الانتشار الثقافي أي انتقال معالم الحضارة من مكان ما إلى بقية انحاء العالم.

2- المدرسة الالمانية النمساوية المسماة بالمدرسة الثقافية التاريخية التي تستند إلى فرضيات وضعها العالمان فرتز جرايبنر وزميله فوي وطورها من بعدهما الاب شمدت والتي لا تفترض وجود مصدر اصلي واحد للحضارات المختلفة انما يقترحون وجود سلسلة من الحلقات الثقافية.

وتشدد هاتان المدرستان على الصفة التاريخية للثقافة مما ادى إلى ولادة مدرسة ثالثة مناقضة للمدرستين، أي لا تلتزم وجهة النظر التاريخية بل تعني بظاهرة الاستقرار الثقافي فتتخذها اساسا لابحاثها.

في نقاش جرى بين علماء الانثروبولوجيا ومجموعة اخرى من علماء العلوم الاخرى[5] وقف احد الانثروبولوجيين وقال: (ايها السادة ان قدر الطبخ يمثل نتاجا ثقافيا يستوي في الاهمية مع اية قطعة موسيقية من تلحين بتهوفن او موزارت...)، ما قاله الانثروبولجي يذكرني بمقابلة أجرتها احدى المجلات العربية مع زوجة الرئيس اللبناني ألياس هراوي حين قالت: (المرأة اللبنانية تفضل دائما ان يدعو زوجها اصدقاءه إلى وليمة غداء أو عشاء في بيته بدلا من خارجه كي تظهر مهارتها من خلال المقبلات ووجبة الاكل.. اي بمعنى آخر المرأة اللبنانية تريد ان تكشف عن ثقافتها من خلال مهارتها في اعداد قدر الطبخ ومقبلاته.

الا ان احد رجال الاعمال المشاركين في الحوار قال: (اما انا فزوجتي تعتقد ان الشخص لا يكون مثقفا الا اذا استطاع التحدث عن اليوت وبيكاسو و...).

من هنا لا بد ان يتبادر إلى الذهن تساؤل هو: (هل ثمة فرق بين الحضارة Civilization (مجموعة ما ابدعه الفكر من منجزات مادية ومعنوية مثل العلوم والفنون والاداب والاثار) والثقافة Culture (التي هي مجموعة الافكار والعادات التي يتعلمها الناس وينقلونها من جيل لآخر) .

وللاجابة على سؤال كهذا لا بد لنا ان نفهم ما يعنيه علماء الانثروبولوجيا في مفهوم الحضارة.. فلو طلبت من عالم انثروبولوجي أن يعرف لك الحضارة لما تردد بالقول: (الحضارة هي ثقافة اهل المدن الذين اتجهوا دائما الى تطوير نمط معقد نسبيا من الحياة.. انهم نجحوا في تطوير لغة مكتوبة) الا ان علماء الاجتماع Sociology يميزون بين الحضارة بوصفها المجموع الاجمالي للوسائل البشرية وبين الثقافة باعتبارها المجموع الاجمالي للغايات البشرية..

وأثناء الحوار تساءل أحد الاقتصاديين الذي حضر الندوة بالقول هل يريدون علماء الانثروبولوجيا من خلال كتاباتهم أن يقولوا لنا (الثقافة والمجتمع مصطلحان مرادفتان؟ )

الا ان الحقيقة ليست كذلك لان علماء الانثروبولوجيا يعرفون المجتمع بانه (جماعة من الناس تعلم اعضاءها ان يعملوا معا) اما مصطلح الثقافة فيدل (على النمط المميز للحياة التي تعيشها هذه الجماعة) .

الا ان تعريفاً كهذا غير مقبول لدى الفلاسفة، لانهم يفهمون الثقافة (بانها ضرب من التجريد) اما المجتمع فلا يدل على مفهوم مجرد، أي بمعنى اخر بامكانك رؤية الافراد الذين يتألف منهم المجتمع ولكنك لا تستطيع ان ترى الثقافة او تلمسها.. وبالحقيقة مفهوم كهذا مقبول إلى حد ما، الا ان علماء الانثروبولوجيا يردون على ذلك بقولهم (صحيح انك ترى الكائنات البشرية التي يتألف منها المجتمع الا انك لا تستطيع رؤية الثقافة مثلما لا تستطيع رؤية الجاذبية والتطور. ومثلما لا تستطيع التخلي عن الجاذبية والتطور لا تستطيع التخلي عن الثقافة ايضا، ولكنك وبنفس الوقت ترى الأشياء التي صنعها اعضاء المجتمع وبامكانك ملاحظة التغيرات التي ادخلوها على بيئتهم الطبيعية، تلك التغيرات الناتجة عن التجديدات التي تتسرب إلى الثقافة من الداخل (على شكل اختراعات او اكتشافات) او من الخارج (عملية اقتباس).

وكلا الحالتين تعتمدان على ما اذا كان المجتمع يتقبل العنصر الجديد او يرفضه. أي بمعنى آخر ان الثقافة ليست ضرباً من التجريد كما يفهمها الفلاسفة. ان عالم الانثروبولوجيا ينظر إلى الثقافة والمجتمع كما لو كانا موادَ خام، يحاول العالم الانثروبولوجي القاء الضوء على الاشياء التي يشاهدها فعلا ويهمل الجوانب التي لا تستأثر باهتمامه، أي انه يصور كل من المجتمع والثقافة كما يتوصل اليه.

ان كان العالم الانثروبولوجي يفهم الثقافة:

(كونها تدل على النمط المميز للحياة التي تعيشها الجماعة وتشترك فيها وتنقلها من جيل لآخر)

فإن علماء النفس يفهمون الثقافة بانها:

(مجموعة من العادات الاجتماعية).

لذا علينا الآن ان نتساءل مع علماء النفس psychology ماذا يعني مصطلح العادة؟

العادة في نظر علماء النفس عملية انتقال الثقافة، من الاب إلى الابن، ومن مجتمع لآخر، وقد تضاف اليها عادات جديدة موازية للقديمة، وعادات مقتبسة موازية للاصلية، وان هذه العادات تتصارع وتتنافس حتى تنتصر العادات الاصلح فيكتب لها البقاء..

وبناءَ على هذه النظرية[6] هناك عملية انتقائية تلعب دورها في الثقافات وهي مماثلة لعملية الانتقاء الطبيعي على الصعيد البيولوجي، كما انها مسؤولة عن نشوء حالات التكيف واستمرارها في الثقافات.

الا ان عملية الانتقال في نظر علماء النفس مرتبطة كليا بمفهوم التعليم والتعلم وذلك لان الثقافة ليست غريزية، وانما هي امر لا يكتسب الا بالتعلم[7]. وعلى هذا الاساس يعلل العالم الانثروبولوجي سبب اختلاف الثقافة من مجتمع لآخر استنادا إلى:

1- المواد الثقافية التي تعلم   2- الاوساط التي تعلمها  3- الفترات التي تجري فيها تعلم مهارات معينة

الا ان موضوع التعليم في نظر العالم الانثروبولوجي لا يقتصر على التدريس الواعي او على المفهوم الدارج لهذا المصطلح، فالافراد يتعلمون جانبا كبيرا من ثقافتهم من الايماءات والحركات التعبيرية، ففي التربية تنشأ دوافع مكتسبة لدعم عملية التعليم، والشعور بالاعتزاز والرغبة في تحقيق الشخصية والظفر باحترام المجتمع، اما الاطفال فانهم يتلقون عن طريق التربية تدريبا اجتماعيا ويكتسبون مهارات جديدة وبذلك تزداد قدرتهم على التجاوب والتعاون. اذن الثقافة هي مجموعة من الاساليب التي يكتسبها الفرد بوصفه عضوا في المجتمع، والتي تساعده على التكيف على البيئة الخارجية وعلى العمل مع زملائه.

الا ان علماء الامراض العقلية يميلون في تعريفهم للثقافة إلى القول: (ان الثقافة هي وسيلة لكبت طبيعة الانسان الفطرية او عاملا يؤدي إلى اضطرابات عصبية بسبب ما يتطلب من متطلبات ومعاكسات خلال عملية تكييف الافراد على أنماط لا تتلائم في الاصل مع أمزجتهم الفطرية. تعريف كهذا دفع احد علماء الاقتصاد بالتساؤل. هل بامكاننا ان نعرف الثقافة بالوراثة الاجتماعية؟ فرد عليه أحد الانثروبولوجيين (من الحاضرين) نعم ان الكائنات البشرية تملك ارثا إجتماعيا مثلما تملك إرثا بيولوجيا، ان الانسان يكتسب ثقافته مثلما يكتسب جيناته دون ان يبذل أي جهد في التكيف عليها او في مقاومتها. لان الانسان كما وصفه دولارد مجرد ناقل سلبي للتقاليد الثقافية، الا ان سيمونس ينبهنا الى ان دور الانسان لا يقتصر على نقل الثقافة او توفير الوقود لها وانما خلقِها وممارستها. وخلاصة القول ان تعريف الوراثة الاجتماعية Social genetics يشدد على استقرار الثقافة وعلى اثر التقاليد الموروثة فيها.. الا ان تعريفا كهذا يكون ناقصا في نظر علماء الامراض العقلية، فمن وجهة نظر السيكلوجيا الفردية كل تعريف للثقافة يكون ناقصا ما لم يبين لنا ان للفرد دورا فعالا بالنسبة لثقافته، لان ما يلفت الانتباه في الكائن البشري هو انه يسعى إلى فهم نفسه وفهم سلوكه .

واستنادا إلى العوامل الاندفاعية المشتركة في السلوك لجميع بني البشر توصل مجموعة من العلماء إلى ان جميع الثقافات تتشابه لان هناك مجموعة من الدوافع الفطرية المتماثلة التي تحفز الناس في كل مكان على العمل وتوجه سلوكهم في خطوط متوازية. كما علينا ان لا ننسى ان الاجزاء الفعلية التي تتالف منها كل ثقافة هي العناصر السلوكية (الحركية والكلامية والضمنية) وان اية وحدة محددة من وحدات السلوك الاعتيادي يمكن ايجادها في مجتمع معين او في عدد من المجتمعات التي تربط بينها صلات تكفي لانتشار التبادل الثقافي بينها[8].

وخلاصة القول نقول ان الثقافة في نظر علماء الانثروبولوجيا تتمثل بمفهومين[9]:

اولا:المفهوم الايضاحي: نجد ان رواد هذه المدرسة يقصدون بالثقافة (عمليات انتقائية تاريخية المنشأ توجه ردود فعل الناس تجاه المنبهات الداخلية والخارجية) هذا التعريف جاء نتيجة للتخلص من عبارة (يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع) لان هذه العبارة توحي بان الثقافة لا تشير الا إلى ابعاد سلوك الافراد الناجم عن انتسابهم إلى عضوية مجتمع معين اما بالولادة واما نتيجة انضمامهم إلى المجتمع في وقت لاحق.. اذن موضوع الثقافة يفيدنا في تحليل اعمال الافراد (سواء درسناها على اساس جماعي او فردي. وفي توضيح التوزيع الجغرافي للاشغال اليدوية وفي القاء الضوء على التتابع التاريخي. وعلى هذا الاساس يمكن صياغة التعريف على الشكل الاتي[10]:

(نقصد بالثقافة منبهات تاريخية المنشأ للوضع الذي ينزع الافراد إلى اكتسابه بسبب انضمامهم إلى جماعات معينة او احتكاكهم بفئات معينة تجمعها انماط من الحياة تتصف في بعض نواحيها بخصائص مميزة...) الا ان هذا التعريف يقودنا إلى التساؤل لماذا الاشارة إلى المنبهات التاريخية؟ يجيب احد علماء الانثروبولوجيا من المشاركين في الحوار: (ان عملية الاكل عند الانسان مثلا هي ردة فعل او استجابة لدافع داخلي كالانقباضات المتصلة بالجوع، فضلا عن ثقافة ذلك المجتمع، هذا يعني ان عالم الانثروبولوجي يستعمل عبارة - رد الفعل- بدلا من المصطلح المباشر -الفعل- وذلك لان عبارة رد الفعل يقرب إلى فهمنا الشعور الذي يقترن بالتخطيط الانتقائي الذي نرسمه لحياتنا... وعلى ضوء ذلك يتساءل العالم البايولوجي (هل تعني ان الثقافة تتالف من الطرق المتبعة في مواجهة الاوضاع المتصلة برغبة الانسان في البقاء على قيد الحياة؟) فيجيب العالم الانثروبولوجي نعم من الممكن اعتبار الثقافة كما لو انها شئ يضاف إلى طاقات الانسان البيولوجية الفطرية فهي التي تعلمنا بان البشرية سوف لا تخسر ما يتعلمه الفرد بمجرد موته.. لذا نقول لا يقتصر دور الثقافة على التكيف او على الاسهام في مساعدة الانسان على البقاء على قيد الحياة والواقع انها تلعب احيانا دورا معاكسا تماما لهذا الدور. وعلى هذا الاساس يتوجب علينا ان نستعين بمفهوم الانسجام او الملائمة بالاضافة إلى مفهوم التكيف.هناك جوانب من الثقافة كانت فيما مضى تتصل اتصالا مباشرا بفكرة البقاء، هذا يعني واستنادا إلى علم النفس ان الكائنات البشرية تستطيع ان تتعلم بعضها من البعض الآخر، فلو افترضنا (استنادا إلى علم الاقتصاد) ان مجموعة من اليابانيين اقصوا من بلادهم إلى أمريكا وحل محلهم مستوطنون من الامريكيين البيض، فان الامريكيين قد يطورون بعد عدد من الاجيال مفاهيم اجتماعية متصلة بوضعهم الجديد، قد لا يكون من الصعب تمييزها عن مفاهيم الخاصة باليابانيين اليوم، لانهم سيكيفون انفسهم على الحياة الجديدة بأربعة دوافع قوىة حددها العالمان سمنر وكلمر وهما:

الجوع – الخوف – الحب - الغرور.

وكذا الحال مع اليابانيين المستوطنين في امريكا.

بعد كل هذا تأتي الفلسفة لتتسال: اين المحل الهندسي للثقافة، هل هو في المجتمع ام في الفرد؟ هل يمكن باي حال من الاحوال وصف الثقافة بانها سبب أي شئ؟

بالنسبة للسؤال الاول فيه مغالطة منطقية لان الثقافة ليست شكلاً ملموسا قابلاً للمشاهدة، بل هي وصف مجرد لمنازع الفئات البشرية نحو الاتساق في الكلام والافعال والاشغال اليدوية.. اما فيما يخص بالسؤال الثاني نقول ان مصطلح السبب يوحي بوجود قوة مندفعة في اتجاه واحد.. وهذا حسب رأي الانثروبولوجي غير صحيح. نعم ان الثقافة تنتقل من خلال الافراد والاشغال اليدوية، فعلى سبيل المثال لنفترض ان رجلا اصيب بمرض وبائي ناتج عن احد الفيروسات وانه دخل مدينة ما ونقل اليها المرض.. فاذا تسائلنا عن سبب الوباء الذي سينتشر هل هو الفرد ام الفيروس؟ ان كلا الجوابين صحيح لذا نستطيع ان نقول:

ان الافراد يمكن ان يصبحوا مضيفين لها، ومن الخطأ ان نقول بان الثقافة هي السبب، لان الثقافة ليست وراثة اجتماعية.. وليست ببكتريا تكتسب في جميع الحالات بالاحتكاك او الملامسة على نحو عرضي خارج عن وعي الافراد واراداتهم.. فعبارة الوراثة الاجتماعية قد تكون غير صحيحة لان الجينات تتخذ شكلا ثابتا لا تتغير منذ اكتسابها للمرة الاولى والاخيرة عند الميلاد بينما تعتبر البكتريا تبعا لناقليها.

ثانيا: المفهوم الوصفي: تسائل احد علماء الامراض العقلية المشاركين في الحوار قائلا:

(هل نستطيع القول بان الثقافة باعتبارها مفهوما تعني بوجه عام ما يجمع من تراث الابداع الانساني على مر الاجيال: الكتب واللوحات الفنية والمباني... الخ، ومعرفتنا بطرق التكيف على البيئة الطبيعية والاجتماعية واللغة والعادات واداب السلوك والاخلاق... فاجاب عليه احد الانثروبولوجيين قائلا: ان وصف الثقافة على انها ابداع انساني قد يستهوي خيالنا ويحظى بموافقتنا جميعا.. فكثير من مظاهر الثقافة لا يعبر عنها بالكلام أي انها ضمنية.. فرد عليه الطبيب المتسائل: من الخطأ ان نقول ان الثقافة تتكون من افكار لاننا نعرف من خلال دراستنا المقارنة في طب الامراض العقلية ان هناك اعتبارات خارجة عن نطاق المنطق والاستدلال العقلي. وبهذا يقسم العالم الانثروبولوجي مظاهر الثقافة إلى عقلي (منطقي) وغير عقلي (لامنطقي)، وبهذا يكون التعريف على الشكل الاتي [11]:

نقصد بالثقافة جميع التصاميم التاريخية المنشأ التي خططت للحياة، بما في ذلك التصاميم الضمنية والصريحة والعقلية واللاعقلية، وهذه توجد في وقت لو كانت تمتلك قدرة كامنة على توجيه سلوك الناس وارشادهم.

من هنا تساءل احد الحاضرين قائلا: لماذا كان من الضروري ان نضمن التعريف العبارة (في أي وقت معين؟ فأجابه احد زملائه:

لان الثقافة تكون عرضة لان تخلق او تفقد، ولا يجوز القول بان الثقافة ساكتة او مستقرة كليا.

وخلاصة القول نقول من خلال ما سبق نجد ان الثقافة تعني عند البعض بأعمال الفرد باعتبارها منطلقا لكل ما نصدره من احكام وعند البعض الآخر كانت تنطلق من تجديدات منسوبة إلى الجماعات.. فعلينا ان نهتم كثيرا بالتمييز بين التعاريف الوصفية والتعاريف الايضاحية. ومن خلال ما سبق نجد ان المدرسة الاولى (الايضاحية) تهتم باعمال الفرد باعتبارها منطلقا لكل ما نصدره من احكام اما المدرسة الثانية (الوصفية) فنجدها تنطلق من تجديدات منسوبة إلى الجماعات.

***

نزار حنا الديراني

..................

[1]   نقصد بالانثروبولوجيا علم الانسان واعماله ويقسم هذا العلم إلى: (1) الانثروبولوجيا الطبيعية (علم الانسان) وتقسم إلى:  أ- الحفريات البشرية (الباليونتولوجيا) ب- علم الاجسام البشرية (السوماتولوجيا). (2) الانثروبولوجيا الثقافية او الحضارية (تتناول أعمال الانسان) وتقسم إلى: أ- علم الآثار القديمة (الارخلوجيا) ب- علم السلالات البشرية ج- علم اللغويات. وسنتاول في مقالنا هذا مفهوم الثقافة عند العلماء الارخلوجيا (الذين يبحثون في الاصول الاولى للثقافة وفي الثقافات او الاطوار الثقافية المنقرضة) والعلماء الاثنلوجيا (الذين يبحثون في الثقافات الحالية لمختلف الاجناس البشرية)

[2]  جورج بيتر مردوك، المقام المشترك للثقافات، الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث ص221.

[3]   جورج بيتر مردوك، نفس المصدر.

[4]   ملفيل هيرسكوفتر، عمليات التغير الثقافي، الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث ص253.

5  كما دونها كل من كلايد كلكهوهن ووليم هـ. كلي وأعتمدت عليه في درج آراء المتحاورين الواردة في المقال.

[6]   المقام المشترك للثقافات، جورج بيتر مردوك ص221 الانثروبولوجيا.

[7]  جورج بيتر مردوك، المقام المشترك للثقافات.

[8]   جورج بيتر، المقام المشترك للثقافات.

[9]   كلايد كلكهوفن، وليم كلي، مفهوم الثقافة ص141 الانثروبولوجيا وازمة العالم الحديث.

[10]  كلايد كلكهوفن، نفس المصدر.

[11] كلكهوفن، نفس المصدر.

 

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!)

من أمثال العَرَب قولهم: «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏». قال (أبو هلال العسكري، -395هـ= 1005م)(1): «معناه: اِعْجَلْ. وهو من الكلام الذي قد عُرِف معناه سماعًا من غير أن يَدلَّ عليه لفظُه. وهذا يَدلُّ على أنَّ لُغة العَرَب لم تَرِد علينا بكمالها، وأنَّ فيها أشياء لم تعرفها العلماء.» وأقول: هذا كلامٌ غريب، بل غريبان: أوَّلًا، لشرح المَثَل لدَى العسكري بأنَّه يعني: اعْجَلْ، تحديدًا؛ وثانيًا، لزعمه أنَّه غير مفهومٍ لفظًا. ثمَّ جاءنا حديثًا (شوقي ضَيف، -2005)(2) فتابع بقوله، وهو يتحدَّث عن أمثال العَرَب في الجاهليَّة: «ولا بُدَّ أن نلاحظ أنَّ بعض أمثالهم يخفَى المعنى المراد منه، ومن أجل ذلك كان لا يُفهَم إلَّا بالرجوع إلى كُتب الأمثال، كقولهم: «بعَيْنٍ ما أرينّك» [كذا، ولم يضبط الفعل بالشَّكل؛ ليزداد إشكالًا!]؛ فإنَّ معناه: أسرِعْ، وهو معنى لا يتبادر إلى السامع من ظاهر اللفظ، ومن ثمَّ علَّق عليه أبو هلال العسكري بقوله:...». وهذا الزعم هو من عقابيل الثقافة الاتِّباعيَّة بلا تدبُّر! وإنَّما معناه، كما ذكرَ (الميداني، - 518هـ= 1124م)(3): «اعملْ كأنِّي أَنْظُرُ إليك‏.»‏ ولقد كنتُ ممَّن يسلِّم بغموض معناه، بناء على كلام العسكري ومتابعة ضَيف، حتى تبيَّنتُ ضبطَه لدَى (الميداني)، وأنَّه «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏». على حين أورده لنا ضَيف غير مضبوطٍ، ما قد يذهب بالقارئ إلى أنه «بِعَيْنٍ ما أُرِيَنَّكَ‏». غير أنَّ معناه ليس محصورًا في معنى: اعْجَلْ أو أَسْرِعْ، كما فسَّره العسكري، بل معناه: يا فلان، إنِّي أراكَ بعَينٍ ما، إنْ لم تكن الباصرة، فبعَين البَصيرة والقَلب؛ فتنبَّه، وأَحسِنْ عملَك كأنِّي أَنْظُرُ إليك، كما ذكرَ الميداني. ونحو هذا المَثَل يتردَّد في تعبيراتنا الشعبيَّة، كمثل قولنا، محذِّرين أحدًا من الإهمال أو من الغش: «أنا شايفك، يا فلان!» إذن، ما سِرُّ التهويل من غموض مَثَلٍ عَرَبيٍّ مألوفٍ كهذا، سِوَى غفلةٍ قديمةٍ تُتوارث، حتى يَكُفَّ العقلُ عن مراجعتها؟! نعم، لقد شرحَه الميداني بعبارةٍ سليمة، وإنْ زعمَ، هو الآخَر، أنَّ معناه الأمر بـ«ترك البُطْء»؛ فقال: «يُضرَب في الحثِّ على ترك البُطْء‏.» وهذا كذلك من العقابيل القديمة لثقافة النقل بلا جرأةٍ على المراجعة ولا تدبُّر! ذلك أنَّ الميدانيَّ قد نقل عن العسكري- في ما يبدو- حصره المعنى في الأمر بالعَجلة أو الإسراع. وما هو، في رأيي، إلَّا مَثَلٌ يُضرَب في الحثِّ على ترك الإهمال عمومًا، أو الغِش في العمل إجمالًا، كما بيَّنَّا. أمَّا تحليل الميداني مركَّب المثل، فجاء فيه: «و(‏ما‏) صِلة دخلتْ للتأكيد، ولأجلها دخلتْ النون في الفعل. ومثله‏:‏ ومن عَضَةٍ ما يَنْبُتَنَّ شَكِيرُها.» ويُلحظ أنَّ المؤلِّفين، قديمًا وحديثًا، ظلُّوا مشغولين بشرح كلمة (شكير) هاهنا، وقلَّما التفتوا إلى ضبط كلمة (عضه)، أو شرحها. والواقع أنَّ نِصف اللُّغة العَرَبيَّة يضيع جرَّاء الضبط بالشكل، والنِّصف الآخر يضيع جرَّاء الإعجام، ولمَّا يقيِّض الله لها بَعْدُ مَن يَفُكُّ طلاسمها التاريخيَّة تلك، التي نشأت منذ معركة الإعجام والشكل، خلال القرن الأوَّل والثاني الهجريَّين، أيَّام (أبي الأسود الدؤلي، -69هـ)، و(نصر بن عاصم اللَّيثي، -89هـ)، و(يحيى بن يعمر الوشْقي، -129هـ)، ثمَّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي، 170هـ)! فما (العَضَة)، حسب ضبط (الميداني)؟ بل أهي (عَضَة)، أم (عِضَة)، أم (عِضَه)؟ هي (عِضَهٌ)، بالهاء- كما نُرجِّح- من (العِضاه)، وهو كلُّ شجر ذي شوك. غير أنَّ اللغويِّين يضيفون أنَّها تُسمَّى أيضًا: (عِضَة)، و(عِضْهة). أمَّا الشَّكير، فما ينبت من أصول الشجر. ومعنى ذلك التعبير- وهو شطر بيت، فيه حِكمة، وليس بمَثَل، بالمعنى النوعي لجنس الأمثال(4)- أنَّ معظم الشيء ينشأ من مستصغره، والعكس كذلك. ولعلَّنا نضيف في معنى المَثَل المُشكِل «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ‏» ظِلالًا دلاليَّةً أخرى: أنْ ربما صحَّ القول: إنَّ (ما) تتضمَّن معنى الإبهاميَّة، التي تأتي صِفَةً لما قبلها، مقترنةً بالنَّكِرة لتزيدها عموميَّةً، أي: بعَينٍ غير معيَّنةٍ أراكَ، وإنْ لم ترني. وهو ما يقع في التحذير موقعًا أبلغ؛ كيلا يحسبنَّك المخاطَبُ غافلًا عمَّا يفعل. إلَّا أنَّ النون في «أَرَيَنَّكَ‏» ستصبح، وفق هذا الفهم، محلَّ نظر.

وبذا يبدو أنَّ التساؤل عن مدَى عِلم أعلام تراثنا باللُّغة العَرَبيَّة، أو قُل مدَى ذوقهم اللُّغوي، قد يشمل بعض المشتغلين بها أيضًا، أمثال (أبي هلال العسكري)، صاحب «الصناعتَين». وما من أحدٍ فوق أن يُؤخَذ من كلامه ويُرَد؛ فجلَّ من له الكمال والجمال، على كلِّ حال!

-2-

وبالعودة إلى ما سبق في المقال الماضي من حديثٍ حول المفسِّرِين، فإنَّ (الطَّبري، -310هـ= 922م) كان أحسن حالًا من (ابن كثير، -774هـ= 1373م)، السابق التوقُّف مع تفسيره، وإنْ كان بدَوره أستاذ المفسِّرين في النقل والإسرائيليَّات وحشو الكتب بالروايات، أنَّى وجدها التقطها. فقد جاء الطَّبري(5) قائلًا: «وقوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه : فآمنَّا به ولن نُشرِك بربِّنا أحدًا ، وآمنَّا بأنه تعالى أمرُ ربِّنا وسُلطانه وقُدرته.» ثمَّ انخرط في سلسلة من المرويَّات، من حدَّثنا إلى حدَّثنا... حتى أضاف: «وقال آخرون: عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجنِّ.» وما هو بجَهْلَةٍ من كلام الجنِّ، بل هو عربيَّةٌ من كلام الإنس، كما أوضحنا في المساق السابق! هذا على الرغم من أن الطَّبري لم يورد ما نسبه ابن كثير إلى (ابن عباس)، بل روى عنه رواية أخرى، هي: «حدثني محمَّد بن سعد، قال... عن ابن عباس، قوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» يقول: تعالى أمر ربِّنا.» غير أنَّ الطَّبري قد عاد- بعد طول مطال- إلى كلام العرب، ورجَّحه. وقد أحسن في هذا؛ لأنَّ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، وليس بلسان جِنِّيٍّ عَيِيٍّ جاهل! وذلك خيرٌ من صنيع ابن كثير، الذي أوجز إيجازًا بدا مُخِلًّا وموهِمًا. على أنَّنا لا نجد محقِّق تفسيره قد توقف ليعلِّق على هذا. أ ذلك عن إهمال معتاد؟ أم عن جهل؟ أم عن تقديسٍ للسَّلف، وتصوُّر أنه لا ينبغي أن يُناقَشوا، فضلًا عن أن يُردَّ كلامهم أو يُستدرَك عليه؟(6)

إنَّ هذا التفسير يذكِّرنا بطُرفة انتشرت عبر بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي منذ حين لأحد المتحذلقين، حذَّر فيها من القول في الدعاء: «تبارك اسمُك وتعالى جَدُّك»؛ فقال: «لا تقولوا: «تعالى جَدُّك»، والعياذ بالله، بل «تعالى جِدُّك»، بكسر الجيم؛ لأن الله ليس له جَدٌّ»!

واستطرادًا في شأن استعمال كلمة (الجَدِّ) في لغة العَرَب، فقد كان من آلهة العَرَب الشماليِّين إلهٌ اسمه (جَد)، يُعَدُّ إله الحَظِّ والسَّعد. أُنثاه إلهة يسمُّونها (جدت/ جَدَّة). عُثِر على اسميهما في الكتابات الصفويَّة واللحيانيَّة بشَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة و(الأردن).(7) واسم هذا الإله الجاهلي مشتقٌّ من الجَدِّ بمعنى: الحظِّ والسَّعد وعلوِّ المكانة.

والواقع أن بعض من يبجِّلهم الخلَف من السَّلَف قد يبدون، عند التدقيق، أقرب إلى العوامِّ عِلميًّا، على فضلهم، ومكانتهم التأسيسيَّة في الثقافة الإسلاميَّة. وإنْ كان هذا الحُكم مرهونًا- في النهاية- بصِحَّة ما يُنسَب إلى أحدهم من مرويَّات. من شواهد هذا ما يستوقفك في ما يُنسَب إلى (مجاهد)- وهو: (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م). وكان يوصف بأنه من أعلم الناس، وله تفسير- إذ تقرأ عنه، مثلًا، في تفسير بعض آيات (سُورة الدُّخان): «قال مُجاهِد: «رَهْوًا»: طَريقًا يابِسًا، ويقال: «رَهْوًا» ساكِنًا. «على عِلْمٍ على العالمِينَ»: على مَن بَيْنَ ظَهْرَيْهِ. «فاعْتِلُوْهُ»: ادْفَعُوْهُ. «وزَوَّجْناهُمْ بِحُوْرٍ عِيْنٍ»: أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ. «تَرْجُمُون»: القَتْلُ.»(8) وبعيدًا عن اضطراب الكلام، وترتيب الآيات مع التفسير، فإن مجاهدًا لم يكن ليفهم معنى (الرَّهْو) في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ،‏ وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(9)، بل قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى (سُورة طه: 77). وهذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ لأنَّ «يَبَسًا» في الآية الأخرى إنما تعنى: لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا.. وقالوا.. وقالوا... إلخ. مع أنَّ الكلمة ما برحت مستعملةً في بعض اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم بالمعنى الأقرب إلى المعنى القُرآني المُراد.

وفي مساق الأسبوع المقبل سنناقش معنى كلمة (رهوًا)، في ضوء اللهجات العَرَبيَّة الحديثة، التي حفظت لنا من العَرَبيَّة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

......................

(1) (1988)، كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، وعبدالمجيد قطامش، (بيروت: دار الجيل)، 1: 236، المثل 303.

(2) (2003)، العصر الجاهلي، (القاهرة: دار المعارف)، 408.

(3) (1955)، مجمع الأمثال، اعتناء: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (مِصْر: مطبعة السُّنَّة المحمَّديَّة)، 1: 100، المثل 494.

(4) كثيرًا ما يقع الخلط بين الأمثال والحِكم. حتى إنك لتجد كُتب الأمثال محشوَّةً بحِكَم على أنها أمثال. والصواب أنَّ المثَل: مقولة شعبيَّة تتكئ على حكاية ما، وغالبًا ما تكون مجهولة القائل.

(5) (2001)، تفسير الطَّبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 23: 312- 313، 315.

(6) وكم من سَلَفٍ يُقدَّس ليظهر بعد حينٍ أنَّ مقدِّسيه كانوا على ضلال مبين، وهذا لدَى الشعوب كافَّة. من ذلك، مثلًا، تقديس الإسبان سيِّدَ مدريد (سان إسيدرو المزارعLabrador San Isidro، -1130)، على أنه مسيحيٌ أوربيٌّ أبيض أشقر، «يُخزي العَين»، وكان يتبرَّك الملوك الإسبان بزيارة قبره، ثمَّ كشفت (جامعة كومبلوتنسي بمدريد)، 2022، عبر التقنيات العلميَّة الحديثة، اللِّثامَ عن أنَّ قديسهم التاريخيَّ القديم كان شريفًا إدريسيًّا مسلمًا من شمال أفريقيا! ويا لشماتة التاريخ!

(7) يُنظَر: علي، جواد، (2007)، أصنام الكتابات، (بغداد: دار الوراق)، 35- 36، 44، 48- 49، 51- 52؛ الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 213.

(8) البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.

(9) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.

 

استكشاف البنية والمعنى عند د. مولاي أحمد العلوي

اللغة العربية، بتنوعها وتعقيداتها، تمثل نموذجًا مميزًا للدراسة في مجال النحو والعاملية. هذا البحث يتعمق في تلك التعقيدات، مستكشفًا تفاعل العوامل اللغوية المختلفة مثل الفعل، الفاعل، والمفعول به مع بنيات الجمل وتأثيرها على مستويات البنية اللغوية المختلفة، من البنية العميقة إلى السطحية. يقدم البحث رؤية شاملة لكيفية تكوين المعاني الدقيقة والدقيقة من خلال هذه التفاعلات.

العوامل اللغوية وتأثيرها على بنيات الجمل

يفتتح البحث بتحليل معمق لدور العوامل اللغوية الأساسية مثل الفعل، الفاعل، والمفعول به، وكيف تسهم هذه العناصر في تشكيل البنية النحوية للجملة. يتجاوز التحليل الرؤية التقليدية التي تعتبر هذه العوامل مجرد أجزاء ملتزمة بقواعد نحوية جامدة، ليكشف عن ديناميكية تفاعلها الذي يلعب دورًا حيويًا في بناء المعنى. تُظهر هذه العوامل تأثيرًا ملحوظًا في تراكم المعنى داخل الجملة، وتُعزز من الدقة والوضوح اللغوي، مما يُثري فهمنا للبنية النحوية العربية وكيفية تأثيرها في التواصل الفعّال.

استكشاف البنية العميقة والسطحية

يقدم البحث تحليلاً تفصيليًا للتمييز بين البنية العميقة والبنية السطحية في اللغة العربية، موضحًا الأدوار المختلفة التي تلعبها كل منهما. البنية العميقة، التي غالبًا ما تظل خفية، تحمل العلاقات النحوية الأساسية والأسس اللغوية التي لا تظهر دائمًا بشكل مباشر في النص المنطوق أو المكتوب. من ناحية أخرى، تعالج البنية السطحية كيفية ظهور هذه العلاقات النحوية بوضوح في الاستخدام اليومي للغة، مما يتيح للمتحدثين والكتاب تشكيل رسائلهم بطريقة مفهومة وفعالة. يستعرض البحث كيف أن التفاعل بين هذه البنيات يؤثر بشكل كبير على تفسير النصوص وفهمها، وكيف يمكن أن تقود الفروق الدقيقة بينهما إلى تباينات في التعبير والفهم. يتطرق البحث أيضًا إلى كيفية تأثير هذا التشابك بين البنية العميقة والسطحية على دقة التعبير اللغوي، مما يحدد في نهاية المطاف كيفية استقبال الرسالة وتقبلها من قبل المتلقي.

الأعمال النظرية للدكتور مولاي أحمد العلوي

البحث يولي اهتمامًا بارزًا لمساهمات د. مولاي أحمد العلوي في مجال النحو والعاملية، مشددًا على الطريقة التي يقارب بها د. العلوي التحديات النحوية واللغوية. يُعرض بتفصيل كيف يفسر د. العلوي التفاعلات بين مختلف العوامل النحوية مثل الفاعل والمفعول به، والأثر الذي تخلفه هذه التفاعلات على البنية اللغوية بأكملها. يُظهر الباحث كيف أن تحليلات د. العلوي تفتح آفاقًا جديدة لفهم كيفية تداخل هذه العوامل ليس فقط في تكوين الجملة النحوية ولكن في تشكيل معناها العميق. بالإضافة إلى ذلك، يبين البحث كيف تسهم نظريات د. العلوي في تقديم تفسيرات مبتكرة للديناميكيات النحوية واللغوية، وكيف تساعد هذه النظريات في تحليل وفهم اللغة العربية كنظام لغوي معقد وديناميكي يتفاعل بشكل مستمر. يتم التأكيد على كيفية استخدام د. العلوي للأدوات التحليلية لكشف الطبقات المخفية وراء الاستخدام الظاهري للغة، مما يتيح فهمًا أعمق لكيفية تأثير هذه العوامل في تشكيل النصوص وتفسيرها. يخلص البحث إلى أن دراسة أعمال د. العلوي تقدم مساهمة قيمة في البحث اللغوي، حيث تعزز من فهم النحو والعاملية في اللغة العربية وتحفز على مزيد من البحث في كيفية تفاعل العناصر اللغوية لتكوين بنيات نحوية ودلالية معقدة.

الأهمية الأكاديمية والتطبيقية

يُناقش البحث بعمق الأهمية الأكاديمية والتطبيقية للدراسات حول النحو والعاملية في اللغة العربية، مؤكدًا على أن الفهم المتعمق لهذه المفاهيم يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تطوير وتحسين طرق تعليم اللغة العربية. يسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الدراسات في تعزيز الاستيعاب اللغوي لدى المتعلمين، مما يمكنهم من فهم واستخدام اللغة بشكل أكثر فاعلية وجاذبية. بالإضافة إلى ذلك، يشير البحث إلى أن هذه الدراسات تفتح آفاقًا جديدة لفهم التراكيب اللغوية والعمليات النحوية بشكل أوسع، مما يحفز الباحثين والمتخصصين على استكشاف ومناقشة النظريات اللغوية في سياقات مختلفة تشمل متعدد اللغات والثقافات. هذه الأبعاد الجديدة تقدم تحديات وفرص للتفكير في كيفية تطبيق النظريات النحوية واللغوية عبر اللغات المختلفة، مما يساهم في تعزيز التبادل العلمي والثقافي بين الدارسين من مختلف أنحاء العالم. يؤكد البحث على أهمية تجديد النظر في كيفية فهمنا للغة وتعليمها، مما يؤدي إلى تحسين مستمر في الأساليب التعليمية وتحقيق نجاح أكبر في التواصل اللغوي. إضافة إلى ذلك، يفتح البحث آفاقًا جديدة في فهم التراكيب اللغوية والنحو في اللغة العربية، مما يحفز على نقاش أوسع حول النظريات اللغوية في سياقات متعددة اللغات والثقافات. يستعرض البحث كيف أن الفهم العميق لهذه النظريات يمكن أن يسهم في تحسين الأساليب التعليمية والتعلمية، ويعزز الكفاءة اللغوية لدى المتعلمين على المدى الطويل. يوفر البحث إطارًا شاملاً لفهم تفاعل العوامل اللغوية في اللغة العربية وتأثيرها الكبير على بنية الجملة، مما يعزز من قيمة البحث في الدراسات اللغوية ويؤكد على ضرورة الاستمرار في البحث والتقصي لاستكشاف أبعاد جديدة في علم اللغة العربية.

***

زكية خيرهم

تتداول في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي المنتديات وبعض المؤتمرات والندوات على مستويات مختلفة اكاديمية وثقافية واجتماعية وهيئات ومنظمات مصطلح المجتمع المدني، حتى " أصبح مفهوم المجتمع المدني من أهم مفردات الديمقراطية والإصلاح التي تتداولها الكتابات والندوات والملتقيات الفكرية منذ تسعينات القرن العشرين. وجاء مفهوم المجتمع المدني مرتبطا بمفاهيم أخرى كالحرية والمشاركة السياسية وثقافة حقوق الإنسان ودولة المؤسسات والقانون" ، كما يصف معهد البحرين للتنمية السياسية ذلك، وعلى الرغم من تأخر مجتمعاتنا بتداول مفهوم المجتمع المدني كقول وليس فعل، إذ اكتشف على الاغلب مع ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي – العشرين – ليرتقي تدريجياً ليصبح مكوناً ايديولوجياً وحركياً رئيسياً في رؤى القوى الليبرالية واليسارية وتيارات الاسلام السياسي، تزامناً مع الاخفاقات في انجاز اهداف  اهداف التنمية المستدامة وعدم الخضوع للاجندات الخارجية فضلاً عن الاخفاق الواضح في صياغة عقد اجتماعي توافقي يضمن للمواطن حقوقه وحرياته ويشركه في ادارة الشأن العام، (بتصرف عن: عمر حمزاوي، في شرح أهمية المجتمع المدني في بلادنا).

ثمة اجتهادات متنوعة لتعريف المجتمع المدني، لكن جميعها كما يقول: حسام شحادة في كتابه (المجتمع المدني، منشورات بيت المواطن(دمشق:2025)، ص14)،  تميز المجتمع عن الدولة، وتشير الى منظومة الأطر الاجتماعية الطوعية التي تتوسط بين الدولة من ناحية والمكونات الاساسية للمجتمع من الناحية الاخرى( الأفراد، الاسرة، الشركات)، لذا نجد بأن هناك من يُعرف المجتمع المدني على أنه" مجموعة التنظيمات الحرة التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة، اي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لامجال للاختيار في عضويتها، وهذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح افرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة انسانية متنوعة، وتلزم وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحتلام والتراضي والتسامح والادارة السليمة للتنوع والاختلاف ( وائل السواح،الديمقراطية، سلسلة" التربية المدنية"، منشورات بين المواطن (دمشق:2014)، ص14)، في حين يُعرف  معهد البحرين المجتمع المدني: على أنه مجموعة التنظيمات والمؤسسات التي تنشأ بمبادرات أهلية ، من خلال العمل التطوعي ، والتي لها طابعها الاجتماعي .

 هذه المنظمات تعمل في مجالات ثقافية واجتماعية واقتصادية وحقوقية متنوعة وهي في عملها هذا تحظى باستقلال نسبي عن المؤسسات الرسمية إلا أن هذا الاستقلال لا يمنع التنسيق والتكامل مع تلك المؤسسات وذلك من خلال علاقات التعاون والانسجام فيما بينها، ويظهر العمل التطوعي الذي يميز تلك المنظمات طبيعتها والهدف من أدائها الوظيفي، والذي لا يكون في كل الأحوال الحصول على الربح، وإنما يكون الهدف منه التعبير عن مصالح الأعضاء والغايات والمثل التي ينشدونها، والتي قد تكون على سبيل المثال، نقابية أو مهنية كالاتحادات المهنية والعمالية، وثقافية وفكرية كإتحادات الأدباء والمفكرين والجمعيات الثقافية ، أو حقوقية ودفاعية لجماعات وفئات معينة في المجتمع كالجمعيات المعنية بشئون المرأة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان.في حين الواقع الملموس الذي نعيشه في مجتمعاتنا يشير الى أن تأسيس المجتمع المدني قد اعطى للعلاقات طابع،اجتماعي فأصبحت تعاقدية كالجمعيات،النقابات والأحزاب، وذلك ما يمكن ان نسميه بالحركيات الاجتماعية، والتي من شأنها تعزيز شبكة النسيج الاجتماعي، والتي لامناص من مقارنتها بالنظم التي تنتهجها مجتمعاتنا ضمن الأطر السياسية، والتي هي منوطة بالدرجة الاساس للسلطوية المتحكمة بكل اواصر الحياة، وفق ما يمكن ان نصفه بالمجتمع الأبوي المتجذر في غالبية المجتمعات الشرقية (حول ذلك ينظر: هشام شرابي، النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع الأبوي ، ص 20)، وذلك على الرغم من محاولتها الخروج من عباءة الدين إلا أنها لاتخرج منه إلا للدخول فيه من باب آخر، فضلاً عن سوء توظيف المفاهيم السلطوية كالديمقراطية والحريات، بحيث نجد تحكماً اقرب بالدكتاتورية في فرض النظام ليس مؤسساتياً فحسب، انما اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ايضاً، فضلاً عن سوء استخدام التكنولوجيا بكل مفاصلها، ناهيك عن انعدام الوعي وغياب المسؤولية، والتغافل عن المؤشرات الدالة على الوطنية الاستقلالية، كل تلك الامور تعد طفيليات العقل الشرقي بالاخص الشرق اوسطي، لذا تخوض مجتمعاتنا حرباً ذاتية دون وجود هدف محدد، لأن اسباب الحرب نفسها هي نتاج عقلياتها، ونتاج طبيعي لوعيها السالب (ينظر: جوتيار تمر، الوعي السالب للبناء في كوردستان، الحوار المتمدن، 2013)، كل ذلك ساهم ويساهم حالياً في اعاقة تجذر المفاهيم سواء الحداثية او ما بعد الحداثية وحتى المفاهيم المتعلقة بالتجدد والتطور والنظام العالمي الجديد وغيرها من المفاهيم التراكمية التي توالت على المجتمعات، كبنيةشاملة وسياق متكامل ووعي ناضج للتحديث والمساهمة في عملية التحول على جميع الاصعدة، لاسيما المجال المدني الذي بات اشبه بشعارات تتخذها الجهات السلطوية من جهة، واحزاب المعارضة من جهة اخرى كمسارات استغفالية إن صح التعبير ليس بعقول العامة فقط، إنما بعقول الفئات النخبوية والثقافية والسياسية ايضاً، فالمجتمع المدني في مجتمعاتنا ليس إلا وجه آخر من أوجه السلطة والتي تم تعريفها في معجم جميل صليبا بأنها " القدرة والقوة على الشيء، والسلطان الذي يكون للانسان على غيره ويطلق مفهوم السلطة النفسية على الشخص الذي يستطيع فرض إرادته على الآخرين لقوة شخصيته، وثبات جنانه وحسن اشارته وسحر بيانه، أما السلطة الشرعية فهو مفهوم يطلق على السلطة المعترف بها في القانون كسلطة الحاكم والوالي والوالد والقائد "(المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب (بيروت:1994)، ص670)،  وهنا نحن أمام الهيمنة، والتبعية، والولاء، والأسبقية بين الناس جميعاً، والتي تتبلور من خلال مؤسسات اجتماعية،" أن السلطة في العلوم الاجتماعية تعني قدرة أشخاص أو مجموعات على فرض إرادتهم على الآخرين، إذ يستطيع الأشخاص ذو النفاذ، إنزال عقوبات أو التهديد بها، على أولئك الذين يطيعون أوامرهم أو طلباتهم وتكاد السلطة تكون موجودة في كل العلاقات الانسانية، كما إن أطر هذه السلطة، الأسرة، المدرسة، القبيلة، الحي، الجماعة الدينية، الجماعة الوطنية ، ففي كل هذه المؤسسات تتبلور سلطات أو نوع من السلطات التي تشكل معايير تنظيم الحياة الاجتماعية ومؤشرات لتوجيه سلوك الفرد وادماجه في بيئته ومحيطه، وكل مؤسسة تقوم على سلطة وولاية لابد منها سواءا ً كانت هذه السلطة في المدرسة أو المؤسسة الدينية أو السياسية ( شرقي ميمونة، النقد الحضاري للمجتمع العربي،ص145)،  ووفق تلك المفاهيم حول السلطة والقوة والهيمنة وفرض الرأي يمكن الوقوف على المسارات التي تتخذها الجهات المعنية بالمجتمع المدني أو تلك المنظمات التي تتخذ من اسمها كمدخل تشريعي للولوج بين الفئات والشرائح المختلفة داخل المجتمعات، وهي في الحقيقة ليست إلا وجه سلطوي آخر تحقق مآربها وتفرض ايديولوجيتها المنمقة لكسب ود المجتمع، دون أن تقدم في مجمل افعالها ما يمكن أن نحسبه خدمة للمجتمع، أو تغييراً في الانماط السلوكية بين الافراد والاسر ، فضلاً عن كونها تحولت في مجتمعاتنا الى مصادر كسب لبعض الافراد المقربين من الجهات السلطوية على الاغلب ولكن برداء استقلالي مُسير، وليس مُخير، وفي الاجمال فان المجتمع المدني المنشود ضمن دوائر الايديولوجيات المتوفرة لم تستطع أن تحول اقوالها الى افعال يمكن الاتكال عليها لإحداث تغييرات مرجوة على البنى الاساسية في المجتمعات الشرقية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية.

***

د. جوتيار تمر / كوردستان

7-6-2024

........................

- حول وظائف المجتمع المدني، ينظر: حسام شحادة، المجتمع المدني، ص 16-19.

 

مصطلح الكوسموبوليتانية مشتق من الكلمة اليونانية kosmopolites، والتي تعني "مواطن العالم". تم استخدامه لأول مرة من قبل المتهكمين ثم الرواقيين لاحقاً، الذين استخدموه لتحديد الأشخاص على أنهم ينتمون إلى مجتمعين متميزين: المجتمع المحلي والمجتمع الأوسع "المشترك". هذا الفهم للكوزموبوليتانية لا يشير إلا إلى واحد من معانيها. ومفهومه اليوم واسع، ولا يكفي تعريف واحد ليشمل كل معانيه. ويمكن التمييز بين العالمية الأخلاقية والسياسية؛ يمكن فهم العالمية باعتبارها منظوراً للعدالة العالمية وكمفهوم يتم من خلاله الحديث عن حقوق الإنسان ونظرية العدالة. ويمكن أيضاً فهم الكوسموبوليتانية على أنها موقف أخلاقي، حيث ينخرط الأفراد مع الآخرين في الحوار والتفاهم من أجل تجاوز ضيق الأفق. كما يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يتم التعبير عنه في الظواهر الثقافية، كما هو الحال في أنماط الحياة والهويات. الكوسموبوليتانية هي وجهة نظر معيارية يمكن من خلالها تجربة العالم وفهمه والحكم عليه، وهي أيضاً حالة يتم من خلالها إنشاء القوانين والمؤسسات والممارسات التي يتم تعريفها على هذا النحو.

تشمل الكوسموبوليتانية أربع وجهات نظر متميزة، ولكنها متداخلة: (1) التماهي مع العالم أو مع الإنسانية بشكل عام والذي يتجاوز الالتزامات المحلية. (2) موقف الانفتاح والتسامح تجاه أفكار وقيم الآخرين المتميزين. (3) توقع الحركة التاريخية نحو السلام العالمي. و(4) موقف معياري يؤيد الأهداف والأفعال العالمية.

 للكوزموبوليتانية جانب جماعي مثل نظريات عالم الاجتماع الفرنسي "ديفيد دوركهايم" David Durkheim حيث كان الكثير من أعمال دوركهايم معنياً بكيفية الحفاظ على سلامة المجتمعات وتماسكها في الحداثة، وهو العصر الذي أصبحت فيه الروابط الاجتماعية والدينية التقليدية أقل عالمية بكثير، وظهرت فيه مؤسسات اجتماعية جديدة. لقد أرسى مفهوم دوركهايم للدراسة العلمية للمجتمع الأساس لعلم الاجتماع الحديث، واستخدم أدوات علمية مثل الإحصائيات والمسوحات والملاحظة التاريخية في تحليله للسلوك الاجتماعي في الجماعات الكاثوليكية والبروتستانتية. وللكوزموبوليتانية جانب يتمحور حول الفرد، وقد طورها الفيلسوف الألماني التنويري "إيمانويل كانط"  Immanuel Kant بشكل خاص. يعتقد كانط أن العقل هو مصدر الأخلاق، وأن الجماليات تنشأ من ملكة الحكم النزيه. كانت آراء كانط الدينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظريته الأخلاقية. لقد رسم كانط تشابهاً مع الثورة الكوبرنيكية في اقتراحه للتفكير في موضوعات الخبرة باعتبارها تتوافق مع أشكال حدسنا المكانية والزمانية وفئات فهمنا، بحيث يكون لدينا معرفة مسبقة بتلك الأشياء. وقد أثبتت هذه الادعاءات تأثيرها بشكل خاص في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، التي تعتبر الأنشطة البشرية موجهة مسبقاً بواسطة المعايير الثقافية.

في النظرية السياسية

الكوسموبوليتانية في النظرية السياسية، تعني الاعتقاد بأن جميع الناس يحق لهم الحصول على نفس القدر من الاحترام والتقدير، بغض النظر عن حالة جنسيتهم أو انتماءاتهم الأخرى.

كان من بين المؤيدين الأوائل للكوزموبوليتانية الفيلسوف اليوناني الساخر "ديوجين" Diogenes كان ديوجين شخصية مثيرة للجدل. تم نفيه أو هربه من "سينوب" Sinope بسبب انخفاض قيمة العملة. لأنه كان ابناً لرئيس سك العملة في سينوب. تم القبض على ديوجين من قبل القراصنة وبيعه كعبيد، واستقر في نهاية المطاف في "كورنثوس" Corinth. وهناك نقل فلسفته الساخرة إلى "كراتس" Crates الذي علمها لـ "زينو السيتيوم" Zeno of Citium ، الذي حولها إلى مدرسة الرواقية، وهي من أبقى مدارس الفلسفة اليونانية. رفض هؤلاء المفكرون فكرة أنه يجب تحديد هوية الفرد بشكل مهم من خلال المدينة الأصلية، كما كان الحال بالنسبة للذكور اليونانيين في ذلك الوقت. وبدلا من ذلك، أصروا على أنهم "مواطنو العالم".

عارض الفلاسفة الرواقيون التمييز التقليدي (اليوناني) بين اليونانيين والبرابرة من خلال تطبيق مصطلح الكوزموبوليتانيين Cosmopolitans على أنفسهم، مما يعني ضمناً أن بوليسهم، أو دولتهم المدينة، كانت الكون بأكمله. وقد ثبط "الإسكندر الأكبر" Alexander the Great هذا التمييز من خلال السماح لجنرالاته بالزواج من نساء الأراضي التي غزوها، لكن سياسته واجهت مقاومة في الميدان وصدمة في الداخل. اخترق الرواقيون (من القرن الرابع إلى الثالث قبل الميلاد) الافتراض اليوناني بتفوقهم العرقي واللغوي ونظروا إلى العالمية الجديدة من منظور فلسفي.

كان اليونانيون الأوائل قد شعروا أنه كان من إملاء الطبيعة نفسها (أو العناية الإلهية زيوس) Zeus أن الإنسانية قد انقسمت إلى يونانيين وبربريين. على العكس من ذلك، جادل الرواقيون بأن جميع الناس يشتركون في سبب واحد مشترك ويخضعون للشعار الإلهي الواحد، وبالتالي، فإن الحكيم الرواقي الحقيقي ليس مواطناً في أي دولة واحدة، بل مواطناً في العالم كله.

نفذ الرواقيون اللاحقون هذه الفكرة من خلال التأكيد على أعمال اللطف حتى تجاه الأعداء والعبيد المهزومين. كانت هناك أيضاً نصائح لتوسيع حب الذات الرواقي المميز (oikeiōsis) في دائرة دائمة الاتساع من الذات إلى العائلة، إلى الأصدقاء، وأخيراً، إلى الإنسانية ككل. وقد ذهب كثير من المؤرخين إلى أن هذا المبدأ الرواقي ساعد في التمهيد لقبول المسيحية، التي ليس فيها، بحسب القديس بولس الرسول، يهودي ولا يوناني، حر ولا عبد، ذكر وأنثى.

ذكّر "إبكتيتوس" Epictetus، وهو أحد الرواقيين المتأخرين (القرنين الأول والثاني الميلادي)، أتباعه بأن جميع البشر إخوة بطبيعتهم، وحثهم على أن يتذكروا من هم ومن يحكمون، لأن المحكومين أيضاً هم أقرباء، وإخوة بالطبيعة، وكلهم أبناء زيوس.

الكوزموبوليتانية السياسية

تطبق العالمية السياسية وجهات النظر الدولية التي وصفناها للتو على سياق العلاقات الدولية والسياسة العالمية. هناك تناقض جوهري بين المفاهيم الأخلاقية التي تنطبق على العلاقات الدولية. أنهت معاهدة وستفاليا Treaty of Westphalia عام 1648 حرب الثلاثين عاماً في أوروبا من خلال تحديد حقوق الحكام على الدول والحد من حقوقهم فيما يتعلق بالدول الأخرى. لقد أسست فكرة الدولة القومية ككيان سياسي له الحق في حكم نفسه بأي طريقة يراها مناسبة والدفاع عن سلامته الإقليمية والوطنية ضد الدول المتنافسة الأخرى. ونشرت القوى الأوروبية هذا المفهوم إلى بقية أنحاء العالم من خلال الاستعمار والغزو، وقد أصبح راسخاً في القانون الدولي وفي ميثاق الأمم المتحدة باعتباره مفهوم سيادة الدول.

 بالنسبة للعديد من المنظرين السياسيين، وخاصة أولئك الذين يتمتعون بإقناع واقعي، فإن فكرة سيادة الدولة هي حجر الأساس للقانون الدولي وترخص أي أنشطة دبلوماسية وعسكرية وحتى تجارية تعمل على توسيع نفوذ الدولة وقوتها وتعزيز مصالحها الوطنية. في هذه النظرة، يصبح الاستعداد للحرب موقفاً لا مفر منه بالنسبة للدول القومية التي ترغب في الحفاظ على هويتها وقدرتها على تقرير المصير في عالم معادٍ. علاوة على ذلك، فإن الحكومات الوطنية لديها ما يبرر رفضها لأي تدخل في شؤونها الداخلية من جانبها باعتباره انتهاكاً لسيادتها من قبل الدول القومية الأخرى أو الوكالات الخارجية الأخرى مثل المنظمات غير الحكومية.

ومع ذلك، فإن هذا التأكيد على السيادة أصبح موضع تساؤل من قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (UDHR) الذي نشرته الأمم المتحدة في عام 1948. ولا يقتصر هذا الإعلان على إدراج عدد كبير من الحقوق التي يقول إنها مملوكة لجميع البشر فقط من خلال بحكم كونهم بشراً، فإنه يمنح أيضاً جميع دول العالم مسؤولية الدفاع عن تلك الحقوق ودعمها. وهذا يوحي، كما تؤكد الإعلانات اللاحقة الصادرة عن الأمم المتحدة، أن الدول تتحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق الإنسان واحترامها ليس فقط لمواطنيها، بل أيضاً لمواطني الدول الأخرى في حالة عدم قيام حكومات تلك الدول بالدفاع عن تلك الحقوق. حقوق. فإذا قام طاغية بقمع شعبه أو مجموعة من الأقليات داخل بلده، فإن الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية من الممكن أن يجيز ما أصبح يعرف بالتدخل الإنساني. وقد تتراوح مثل هذه التدخلات بين تقديم المساعدات الغذائية للسكان الذين يعانون من الجوع، إلى الغزو العسكري من أجل إزالة الحكومة التي تنتهك حقوق شعبها. وبهذه الطريقة، تتعارض حقوق سيادة الدولة مع حقوق الإنسان العالمية للأفراد.

إن الفرضية المركزية للكوزموبوليتانية السياسية هي أنه في هذا الصراع، يجب إعطاء الأفضلية لحقوق الأفراد بدلاً من حقوق الدول. ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الموقف إدراك أن العديد من الحروب الدولية (على عكس الحروب الأهلية والثورات وحروب التحرير الوطني) تعتمد على الحاجة إلى إبراز قوة الدولة القومية على العالم سعياً لتحقيق مصلحتها الوطنية. والسيادة. وبناءً على ذلك، يزعم الكوزموبوليتانيون أن المثل الأعلى للسلام الدولي الدائم يتطلب تقليص الحقوق المرتبطة بالسيادة واستقلال الدول.

سوف تختلف المقترحات المحددة التي تنبع من هذا الموقف. في أحد طرفي نطاق الاحتمالات، ستكون الدعوة إلى إنشاء حكومة عالمية. وكما زعم الفيلسوف الانجليزي "توماس هوبز" Thomas Hobbes أن المجتمع المدني لا يمكن أن يخرج من حالة الطبيعة العنيفة إلا إذا حكم الطاغوت ذو السلطة المطلقة مثل هذا المجتمع، كذلك يقال إن السلام العالمي والحفاظ على حقوق الإنسان لا يمكن تحقيقهما إلا إذا كانت الدولة المماثلة لقد تحولت الطبيعة الموجودة في عالم تحتله دول قومية متبادلة العدوان إلى مجتمع عالمي مقيد بالقوانين الدولية التي يمكن فرضها ومراقبتها من قبل قوة عليا.

ومع ذلك، حتى إيمانويل كانط، الذي ربما كان أول فيلسوف حديث يدافع عن هذه الفكرة، سرعان ما أدرك أن احتمال الاستبداد العالمي في مثل هذا الاقتراح كان أكبر من أن يكون مقبولاً. وفي غياب أي قوة موازية لاحتواء قوة مثل هذه السلطة العالمية، فإن خطر القمع والاستغلال الذي تفرضه النخبة السياسية على نطاق عالمي هو ببساطة أكبر من أن يقبله أي منظر سياسي ليبرالي. بالطبع، إذا اعتبرت أنك تمتلك كل المعرفة والبصيرة المطلوبة لحكم العالم بعدل، فلن تتبنى مثل هذا الموقف المتخوف.

إن المدافعين عن الملوك الفلاسفة الأفلاطونيين، أو الحكم العالمي للعالم المسيحي، أو الخلافة العالمية، أو دكتاتورية البروليتاريا الدولية لا يشعرون بمثل هذا المنع.

ولايات إقليمية

تشير حجة أخرى ضد الحكومة العالمية إلى الضرورة العملية والفاعلة للدول. ويقال إن هناك حاجة إلى ولايات قضائية قانونية إقليمية تتمتع بامتيازات وواجبات الدول من أجل ضمان حقوق المواطنين والتوزيع العادل للمنافع الاجتماعية، وأن هذه الواجبات لا يمكن عملياً أن تؤديها حكومة عالمية. وكما نحتاج إلى السلطات البلدية لتنظيف مصارف المياه في المدن والتخلص من القمامة، وحكومات المقاطعات لإدارة المدارس والمستشفيات، فإننا في احتياج إلى حكومة وطنية لضبط القوانين (والتي سوف يستند الكثير منها إلى تقاليد ومعايير لا تنطبق عالميا). وجمع الضرائب وتوزيع السلع الاجتماعية في ضوء المفاهيم المحلية للحياة الجيدة، وتنظيم حقوق الملكية للشركات المحلية والدفاع عنها، وتأمين حقوق الإنسان بأشكال معترف بها في المناطق ذات الصلة. ورغم أن العديد من المعايير التي يتعين على الحكومات أن تطبقها تتمتع بصلاحية عالمية، فإن صياغة هذه القواعد وتطبيقها سوف تكون ذات صبغة محلية. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج المطالبون بحقوق الإنسان إلى السلطات المحلية للتوجه إليهم في حالة انتهاك حقوقهم. علاوة على ذلك، يُقال إنه بغض النظر عن القوانين والصكوك الملزمة دولياً والتي قد تحد من سيادة الدولة أو حتى تنشئ حكومة عالمية، فإن حكومات الدول القومية فقط هي المخولة بالدخول في مثل هذه الاتفاقيات.

من جانبه، دعا كانط إلى إنشاء اتحاد عالمي للدول ذات السيادة حيث تلتزم الدول بعدد من القواعد الأساسية للتعاون الدولي، بما في ذلك قواعد الإدارة السليمة للحرب، من أجل ضمان السلام الدائم بينهما. وكانت الفكرة المركزية في وصفاته هي أن الدول الديمقراطية من المرجح أن تعيش في سلام مع بعضها البعض مقارنة بالملكيات المطلقة. فالشعوب القادرة على تقرير المصير الديمقراطي ستكون أقل احتمالاً لخوض حرب مع الشعوب الأخرى لأنها ستعرف أنها هي نفسها ستعاني من تكاليف القيام بذلك. وفي حين يستطيع الملوك عادة حماية أنفسهم من هذه التكاليف، فإن الناس العاديين لا يستطيعون ذلك.

وقد أوضح المفكر السياسي الأمريكي "جون راولز" John Rawls هذا الارتباط بين التعاون الدولي وأشكال الحكم في كتابه "قانون الشعوب" Law of peoples، حيث يرى أنه إذا اجتمع ممثلو الشعوب معاً لتصميم نظام دولي للتعاون، فإنهم سيؤيدون نظاماً دولياً للتعاون. مجموعة من المبادئ التي تشمل السيادة وأي قيود على هذه السيادة بما يضمن السلام الدائم بينهما وحماية حقوق الإنسان. لم يعتقد راولز أنه من الضروري أن تخضع جميع الشعوب التي تدخل في مثل هذا الميثاق إلى الحكم الديمقراطي. وحتى لو كانت حكوماتها مستبدة، فسيكون كافياً لتأمين السلام والتعاون إذا كان ممثلوها عقلانيين في تعاملهم مع العقد العالمي المتخيل.

انتقد العديد من المفكرين العالميين تفسير راولز على أساس أنه لا يزال دولانياً في الشكل. فهو يعطي قدراً كبيراً من المصداقية للقيم المزعومة للسيادة الوطنية ولامتيازات النخب الحاكمة، وبالتالي لا يعطي وزناً كافياً للمجموعة الكاملة لحقوق الإنسان الموضحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الشيء المهم في مساهمة راولز في هذا النقاش هو اعترافه بتعددية القيم العالمية. لا يقتصر الأمر على أن العالم يحتوي على حكومات متعددة الأشكال ــ كثير منها مستبدة وغير ليبرالية ــ بل إن العالم يحتوي أيضاً على العديد من الفلسفات السياسية، بما في ذلك الثيوقراطية، والاستبدادية، والليبرالية. وقد تكون بعض الحكومات غير الليبرالية محتشمة من حيث إنها توفر الحد الأدنى من حقوق الإنسان الأساسية لمواطنيها.

 إن العالم المسالم يجب أن يكون عالماً يسوده التسامح والتعايش رغم هذه الاختلافات. إن اتحاد كانط للدول الديمقراطية لن يغطي الكثير من سطح الأرض. إن المجتمع العالمي الحقيقي لا يمكن أن يقوم على افتراض أو فرض القيم الليبرالية الغربية على المستوى العالمي. ولا ينبغي لنا أن ننظر إلى العالمية السياسية مع تحول الليبرالية إلى إمبريالية.

تقلص سيادة الدول

مهما كانت المآزق التي تفرضها الكوسموبوليتانية على النظرية السياسية، فإن الحقيقة هي أن المجتمع العالمي قد تطور على النحو الذي أدى في الواقع إلى تقليص سيادة الدولة. وفي سياق العولمة، هناك حاجة متزايدة إلى القانون الدولي وغيره من أشكال التعاون الملزمة. وحتى لو كان الأمر يقتصر على حماية حقوق الملكية في المعاملات التجارية عبر الحدود، فيجب على جميع البلدان احترام السلطات القانونية الدولية. إن الاحتياجات العالمية الناشئة حديثاً، مثل تلك المتعلقة بحماية البيئة، واستدامة مصايد الأسماك في المحيطات، ومعايير الترابط في الاتصالات والتكنولوجيا، إلى جانب تنظيم الترتيبات المالية الدولية، أدت إلى قبول المؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة، البنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (GATT)، والاتفاقيات المتعلقة بالسيطرة على الأسلحة النووية، وما إلى ذلك، والتي تعمل جميعها على تقليص نطاق سيادة الدولة.

إذا كانت الدعوة إلى الحكومة العالمية هي أحد طرفي طيف الإمكانيات داخل الكوسموبوليتانية السياسية، فإن الدعوة إلى الديمقراطية العالمية هي الطرف الآخر. ما نتصوره هنا هو أن المندوبين إلى مثل هذه المؤسسات الدولية كما ذكرت سابقاً لا ينبغي أن يتم تعيينهم من قبل النخب السياسية التي تحكم البلدان التي يأتون منها، بل يجب أن يتم انتخابهم من قبل الشعوب التي يمثلونها. وإذا كان بوسع هيئات مثل الأمم المتحدة أن تشتمل على مجلس شعبي يتم انتخاب المندوبين إليه بشكل مباشر من قِبَل شعوب العالم، فمن الممكن أن تظهر هذه الهيئات مستوى حديث من الاستجابة للأجندات السياسية العالمية المشكلة ديمقراطياً. وكثيراً ما يُقدَّم البرلمان الأوروبي كمثال لما قد يكون ممكناً على هذا المنوال. إن ما إذا كان هذا الاقتراح ممكنا في سياق السياسة العالمية الحالية ليس سؤالا يسمح للفلاسفة السياسيين ذوي الميول الأكثر طوباوية لأنفسهم بالانحراف عنه.

الاعتبارات الأنثروبولوجية والاجتماعية

إن المشاعر التي تثيرها العالمية لا تقتصر على العالم الغربي. يهتم البشر دائماً بمعرفة من أين يأتي الناس. تعتمد القدرة على تحديد موقع الفرد أو الآخرين من الناحية الجغرافية والثقافية والسياسية على مجموعة من الفئات التصنيفية التي تم بناؤها ثقافياً وتاريخياً. هذه الأنماط لتمثيل العضوية في الوحدات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهي الأنماط التي تربط الناس بالجماعات والأقاليم، يمكن تصورها على أنها سلسلة متواصلة من المفاهيم والدوائر الداخلية التي تتراوح من المؤثرات المحلية والظاهراتية إلى مستويات التكامل الإقليمية والوطنية والدولية وعبر الوطنية الأكثر بعداً، والتي يكون تأثيرها حاضراً بشكل متغير في حياة الفاعلين الاجتماعيين. ونظراً للطبيعة الحالية لتكامل النظام العالمي، فإن جميع هذه المستويات موجودة في وقت واحد مما يسمح بمشاعر الانتماء المتعدد، والتي يتم تصورها عموماً من حيث "التهجين". التي تحدد حدود الهوية الصارمة أو المرنة ومواقف الرعايا التي بدورها توجه التعاون الاجتماعي أو المنافسة. يمكن لأي شخص أن يحمل ولاءاته لحي، أو مدينة، أو منطقة، أو بلد، أو قارة، أو أن يكون مهاجراً في مدينة عالمية، أو موظفاً في شركة عبر وطنية. إن الكثير من النقاش حول ما إذا كانت الكوسموبوليتانية ممكنة أم لا يعتمد على عدم الاهتمام بالوجود المتزامن لقوى بناء الهوية هذه، والذي يتردد صداه مع المفاهيم الجوهرية للهوية. إن وجود أشكال شاملة واسعة النطاق لدمج الناس والأراضي تحت نفس المظلة السياسية والرمزية لا يعني نهاية الأشكال الأضيق. وإلا فكيف يمكن للمرء أن يفسر استمرار النزعة الانفصالية الإقليمية والعِرقية داخل الدول القومية؟ ومع ذلك، ينبغي أن يكون واضحاً أنه في حين أن الجميع محليون، فليس الجميع عالميين.

لقد جعلت العديد من القوى العالمية المعاصرة كثير من الأشياء ممكنة، مثل الفردية مع انفصالها النسبي عن التضامنات المباشرة والضيقة، والتوسع العالمي للأنظمة الاقتصادية والسياسية بالوسائل العسكرية والتجارية والدينية، وتطوير تقنيات النقل والاتصالات التي أدت إلى تفاقم ضغط الزمان والمكان، وبالتالي، تداول الأشخاص والمعلومات والسلع على نطاق الكوكب، ونمو المدن العالمية وزيادة التباين الثقافي والعرقي الذي جلبته. إمبراطورية وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون العالمي وظهور عصر المعلومات بشبكته الافتراضية العالمية. وكذلك الجهات الفاعلة السياسية الجديدة مثل المنظمات غير الحكومية التي تغذيها المنظمات والإيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية.

هناك انتقادان شائعان موجهان ضد العالمية: الأول، أنها تمثيل اجتماعي نخبوي، والآخر أنه مشروع مستحيل. يمكن تقديم الحجج لموازنة هاتين النقطتين. لقد ولدت حركات الهجرة العالمية المكثفة في القرنين الماضيين أعداداً كبيرة من الأشخاص المقتلعين، وتقسيمات عرقية حضرية ووطنية معقدة، وشبكات عابرة للحدود الوطنية، وثقافات الشتات التي اختلطت بأعمال وسائل الإعلام، وخلقت عالمية شعبية، وغذت العمليات والرؤى. العولمة من الأسفل ومن ثم فمن الضروري استكشاف وجود العديد من الكوسموبوليتانية.

 تختلف الكوسموبوليتانية الشعبية عن تلك الخاصة بالشركات، والتي تختلف بدورها عن تلك الخاصة بالسياح البرجوازيين، أو رجال الأعمال، أو العلماء الدوليين. ليس هناك شك في أن التعرض للاختلاف والتنوع الثقافي يتزايد بسرعة، كما هو الحال مع عدد المهاجرين العابرين والمجموعات المتمايزة، وهي في أغلب الأحيان مجموعات مهنية، والذين يعتبر الولاء للدولة القومية أمراً ثانوياً. فعالية الحقائق التاريخية والاجتماعية (مثل القنبلة الذرية، والتكامل الكوكبي عبر الأقمار الصناعية، والترابط العالمي لأسواق الأوراق المالية، وثقافة الاستهلاك العالمية، والاتحاد الأوروبي) والأيديولوجيات العالمية الجديدة (مثل حماية البيئة والدفاع عن حقوق الإنسان)، جنباً إلى جنب مع ظهور موضوعات سياسية وحركات اجتماعية جديدة، أدى ذلك إلى تحفيز المزيد من التعبيرات وأفعال النشاط العابر للحدود الجديد. بالنسبة للبعض، كل هذا سيؤدي إلى تنظيم مجتمع مدني عالمي. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه العمليات تولد أيضاً انتقادات نسبية في مواجهة التوزيع العالمي غير المتكافئ للسلطة (يرسم الانقسام بين الجنوب والشمال في النشاط أيضاً خطاً من العلاقات غير المتكافئة والوصول إلى الرؤية والبنية التحتية)، إلا أنها تولد إطاراً أكثر واقعية للعالمية وأكثر من أي فترة سابقة. إن الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية تمثل تحدياً حقيقياً آخر للأنظمة القانونية الراسخة في التشريعات الوطنية والسلطات القضائية في نظام عالمي تعمل فيه القوى الإمبريالية أو التحالفات العسكرية المتعددة الجنسيات.

خلاصة

يجادل بعض الفلاسفة والعلماء بأن الظروف الموضوعية والذاتية الناشئة في اللحظة التاريخية الفريدة اليوم، وهي مرحلة كوكبية ناشئة من الحضارة، تخلق إمكانات كامنة لظهور هوية عالمية كمواطنين عالميين وتشكيل محتمل لحركة مواطنين عالمية. تشمل هذه الظروف الموضوعية والذاتية الناشئة في المرحلة الكوكبية تحسين الاتصالات السلكية واللاسلكية وبأسعار معقولة؛ السفر إلى الفضاء والصور الأولى لكوكبنا الهش وهو يطفو في الفضاء الشاسع؛ وظهور ظاهرة الاحتباس الحراري وغيرها من التهديدات البيئية لوجودنا الجماعي؛ والمؤسسات العالمية الجديدة مثل الأمم المتحدة، أو منظمة التجارة العالمية، أو المحكمة الجنائية الدولية؛ وظهور الشركات عبر الوطنية وتكامل الأسواق غالبا ما يطلق عليه اسم العولمة الاقتصادية؛ وظهور المنظمات غير الحكومية العالمية والحركات الاجتماعية العابرة للحدود الوطنية، مثل المنتدى الاجتماعي العالمي؛ وما إلى ذلك وهلم جرا. والعولمة، وهي مصطلح أكثر شيوعا، تشير عادة بشكل أضيق إلى العلاقة الاقتصادية والتجارية

أحاول تسليط الضوء على حدود الفهم عبر العوالم المختلفة التي يصنعها الناس ويسكنونها، والإشارة بدلاً من ذلك نحو الاعتراف المتبادل - الاعتراف بممثلي الآخرين. إن الاستياء من عوالمهم، بشروطهم الخاصة ولأغراضهم الخاصة؛ والاعتراف بجهلنا بعوالم الآخرين، والخطوط غير المتكافئة لذلك الجهل، والتي شكلها تاريخ الإمبراطورية والاستعمار والعنصرية والنظام الأبوي، يدعونا مثل هذا التنظير إلى استخدام الأدوات السيميائية لاكتشاف المزيد من المعرفة معاً، لا سيما في استغلال قدرة الفن والأشكال الجمالية للمعرفة عبر الثقافات، ودعوة الناس إلى إدراك حدود كل فهم.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

تكاد تكون روح التصوف المُثلى الحقيقية شفافةً خاليةً من التزييف،  تتجاوز الرسوم إلى التحقيق، مرموقة الأثر فى واقع النفوس الكبيرة والقلوب العظيمة والعقول المستنيرة بنور الهدى المحمدي، لم يمثلها فى الإسلام على الحقيقة مثل ما مثلها وجسّد قيمها الخالدة الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه.

إنك إذا أردت موروثاً أدبياً فكريًّا روحياً أصيلاً خالصاً، يصل الطارق بالتليد، لم تُداخله عوامل خارجة عن القيم الدينية فى الإسلام فلتنظر فى أقواله.

كل أقواله صادرة عن عُمق البصيرة وجذوة الإيمان، تأمل ماذا يقول :  رحم الله امرأ أحيا حقًّا وأمات باطلًا، ودحض الجور، وأقام العدل. إذا أحبّ الله عبدًا ألهمه حُسن العبادة.

(فقد البصر أهون من فقد البصيرة). (أحسن الكلام ما لا تمجّه الآذان ولا يُتعب فهمه الأفهام). (احذر كلّ قول وفعل يؤدّي إلى فساد الآخرة والدّين)، (ثلاث يوجبن المحبّة : الدّين، والتّواضع، والسّخاء). وليس للقرابة شفاعة فى معصية الله، وإنّ عدوّ محمد صلّى الله عليه وسلّم مَنْ عصى الله، وإنْ قربت قرابته.

ومن أبدع ما قال فى دحر التشاؤم والقنوط وفى إرادة الثقة بالله والتسليم له، والاعتماد عليه، وحُسن الظن به : كل مُتوقع آتٍ : منتظر الفرح سيحصل عليه، وصاحب اليقين بفكرته ستتحقق، ومُسيء الظن سيناله، فتوقع ما تتمنى، فأقداركم تؤخذ من أفواهكم).

ولم تكن الحكمة الخالدة فى الحضارة الإسلامية آية من آيات النور والهدى والصفاء والبقاء إلا حين جرت فياضة بها كلمات الإمام علي، وهو أكثر الصحابة علماً وحكمة وتبتّلاً وزهادة، وأكثرهم كما كان يقول الإمام أحمد، أثراً بالنقل عنه، فلم ينقل لأحد من الصحابة كما نقل عن الإمام عليّ، وهو مع تربيته فى حجر النبيّ، صلوات الله وسلامه عليه، وتمكّنه من الحديث النبويّ، وتحريه واستوثاقه، لم يروِ عنه، كما تقول الروايات، سوى ستة وثمانين بعد الخمسمائة حديث.

وكان رضى الله عنه تلميذ ربّه، وأعلم أهل الأرض بكتاب الله، وأعرف العرفاء بأسراره، وهو القائل: (سلونى سلوني! سلونى عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلمُ أنزلت بليل أو نهار).

ومن زهده ومحبته للعلم ونفرته من الحطام كان يردد : العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال. ولا شك فى أفضيلة الحارس على المحروس، وشرف العلم وفضله والانشغال به أكرم عند الله من جمع الحطام، لكن الناس لا يعلمون، حتى إذا علم الرّجل، زاد أدبه وتضاعفت خشيته، فإذا لم تكن عالماً، كما يُوصي عليه السلام، فكن مُستمعاً واعياً.

ونموذج كلام الإمام علي هو نموذج يحتذى فى المعرفة بأسرار خزائن العلوم فأقواله التى تمثل حكماً مختصرة لا تدل من قريب إلا على إحاطة وشمول، واختزال المعانى العميقة فى عبارات قصيرة فياضة بالدلالة والإيحاء كمثل قوله : (سوء الجوار والإساءة إلى الأبرار من أعظم اللّؤم. لن يحصل الأجر حتى يتجرّع الصّبر. بالعافية توجد لذّة الحياة. صحبة الأخيار تكسب الخير، كالرّيح إذا مرّت بالطّيب حملت طيباً. إيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

أسفه السّفهاء المُتبجّح بفحش الكلام. آفة النّفس الوَلَه بالدّنيا. الدّنيا سجن المؤمن، والموت تحفته، والجنّة مأواه.

أفضل النّاس أنفعهم للنّاس. أشدّ القلوب غِلّاً القلب الحقود. كلّ شيء فيه حيلة إلّا القضاء. من وَقَّرَ عالِماً فقد وَقَّرَ ربّه. إذا رأيت من غيرك خلقاً ذميماً فتجنّب من نفسك أمثاله. الجاهل ميّت بين الأحياء. والمُحسن حيٌّ وإن نُقِل إلى منازل الأموات).

ومن كلامه، رضوان الله عليه، الذى يجرى مجرى الأمثال، وهو بالفعل  جواهر نادرة تبدو فيها جوامع الكلم، أوابد حكمة وخلاصة تجربة وحياة : (أشبه النّاس بأنبياء الله أقولهم للحقِّ وأصبرهم على العمل. وأعلم النّاس بالله سبحانه أكثرهم له مسألة. العقل أن تقول ما تعرف، وتعمل ممّا تنطق به. ينبّئ عن عقل كل امرئ لسانه، ويدلّ على فضله بيانه. عليك بمقارنة ذى العقل والدّين فإنّه خير الأصحاب. إنّ أحببت أن تكون أسعد النّاس بما علمت فاعمل. إنّ الله تعالى يُدخل بحسن النّية وصالح السّريرة من يشاء من عباده الجنّة. آفة العمل ترك الإخلاص فيه).

وهكذا تجرى حكم الإمام علي فى الأدب والأخلاق والمعرفة والإخلاص وفلسفة العمل ومطالب السعى والوعى والمنهاج، قوام من أفق أعلى ممدود الصلة بفيض التعليم النبوى موصول بالبقاء والخلود والقيمة الباقية، حِكم لا يبليها فعل الزمان وربما تعالت على الزمن واتصلت من فورها بمشاعل النور التى فاضت عنها في البدء والمنتهى؛ لكأنما هى الأسس الأولى تتأسس عليها خصائص المبدأ الخلقي في الإسلام، من حيث إنه مطلق لا يخضع لقيود الزمان والمكان بل فلسفته كلها صالحة لكل زمان ومكان، والعمل بها يُصلح الزمان والمكان، فضلاً عن أنها خصائص لا يختلف العقل حول قيمتها ولا يجد غضاضة فى الأخذ بها وتعاطي حكمتها، قانعة قبل التجربة، وتزيدها التجربة مع الممارسة وضوحاً وإشراقاً ونفعاً لبني الإنسان.

(وللحديث بقيَّة)

***

د. مجدي إبراهيم

بقلم: إليف باتومان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يبدو أن إبكتيتوس، الذي وُلد قبل داروين وفرويد بحوالي ألفي عام، ويبدو أنه توقع طريقة للخروج من سجنيهما.

وُلد الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس عبدًا، حوالي عام 55 بعد الميلاد، في مدينة هيرابوليس اليونانية الرومانية - المعروفة حاليًا باسم باموكالي، بتركيا. التقيت بتعاليمه لأول مرة في عام 2011، بعد وقت قصير من انتقالي من سان فرانسيسكو إلى إسطنبول. كنت أعيش بمفردي في حرم جامعي داخل غابة. في خضم علاقة طويلة المدى مضطربة، كنت أحيانًا أقضي أيامًا دون التحدث إلى أي شخص باستثناء رأس صديقي المتجسد على Skype. لقد أحبطتني السياسة التركية، التي جعلت العلمانيين والمتدينين يشعرون وكأنهم ضحايا. إذا كنت امرأة، بغض النظر عن ما ترتدينه - متبرجة أو حجابا - فسوف ينظر إليك شخص ما بطريقة قذرة.

الجملة الأولى من كتاب الإنشيريديون، وهو دليل إبكتيتوس للنصائح الأخلاقية ـ "بعض الأشياء تحت سيطرتنا والبعض الآخر ليس تحت سيطرتنا".جعلتني أشعر وكأن حملاً قد أُزيح عن صدري. بالنسبة لإبكتيتوس، الشيء الوحيد الذي يمكننا التحكم فيه تماماً، وبالتالي الشيء الوحيد الذي يجب أن نقلق بشأنه، هو حكمنا الخاص على ما هو جيد. إذا رغبنا في المال أو الصحة أو الجنس أو السمعة، فسنكون حتماً غير سعداء. إذا كنا نتمنى بصدق تجنب الفقر أو المرض أو الوحدة أو الغموض، سنعيش في قلق وإحباط دائمين. بالطبع، الخوف والرغبة لا يمكن تجنبهما. الجميع يشعر بتلك الومضات من الرهبة أو الترقب. أن تكون رواقياً يعني أن تستجوب تلك الومضات: أن تسأل ما إذا كانت تنطبق على أشياء خارج سيطرتك وإذا كانت كذلك، عليك أن تكون "مستعداً للرد " إذن فهذا ليس من شأني"

عندما قرأت إبيكتيتوس، أدركت أن معظم الألم في حياتي لم يأت من أي حرمان أو إهانات فعلية، بل من الخجل من التفكير في أنه كان من الممكن تجنبها. ألم يكن خطأي أنني عشت في مثل هذه العزلة، وأن المعنى ظل يراوغني، وأن حياتي العاطفية كانت في حالة من الفوضى؟ عندما قرأت أنه لا ينبغي لأحد أن يشعر بالخجل من أن يكون بمفرده أو أن يكون وسط حشد من الناس، أدركت أنني غالبًا ما شعرت بالخجل من هذين الأمرين. نصيحة إبكتيتوس: نصيحة إبكتيتوس: عندما تكون وحيدًا، "سم هذا السلام والحرية، واعتبر نفسك مساويًا للآلهة"؛ وسط حشد من الناس، فكر في نفسك كضيف في حفلة ضخمة، واحتفل بقدر ما تستطيع .

كما لفت انتباهي إبكتيتوس بنبرته، التي كانت نبرة مدرب ألعاب القوى الغاضب. وقال إنه إذا كنت تريد أن تصبح رواقياً، "فسوف ينخلع معصمك، ويلتوي كاحلك، وتبتلع كميات من الرمال"، وسوف تظل تعاني من الخسائر والإهانات. ومع ذلك، بالنسبة لك، كل نكسة هي ميزة وفرصة للتعلم والمجد. عندما تأتيك صعوبة ما، يجب أن تشعر بالفخر والإثارة، مثل "المصارع الذي وضعه الله، المدرب، مع شاب قوي". بمعنى آخر، فكر في كل أحمق غير عقلاني يتعين عليك التعامل معه كجزء من محاولة الله أن "يجعلك مخلوقا من الطراز الأولمبي". هذه خدعة قوية جدًا.

الكثير من نصائح إبكتيتوس تتعلق بعدم الغضب من العبيد. في البداية، اعتقدت أنني يمكنني تجاوز هذه الأجزاء. ولكن سرعان ما أدركت أنني كنت أمتلك نفس الأفكار المتمثلة في لوم الذات وغير المنطقية في تعاملي مع أصحاب الأعمال الصغيرة ومقدمي الخدمات. عندما يكذب سائق التاكسي بشأن الطريق، أو عندما يغشني صاحب المحل، كنت أشعر أن ذلك كان خطأي، بسبب تحدثي التركية بلكنة، أو لأنني جزء من نخبة. وإذا تظاهرت بعدم ملاحظة هذه الإهانات، ألم أكن أثبت أنني فعلاً مضطهدة منعزلة وذات امتيازات؟ لقد أخرجني إبكتيتوس من هذه الأفكار بهذه التمرين البسيط: "ابدأ بالأشياء ذات القيمة القليلة — قليل من الزيت المسكوب، قليل من النبيذ المسروق—ردد لنفسك: 'بهذا الثمن الصغير، أشتري الهدوء."

يبدو أن إبكتيتوس، الذي وُلد قبل داروين وفرويد بنحو ألفي عام، توقع طريقة للخروج من سجنيهما: شعور العذاب والبهجة المبرمج في جسم الإنسان؟ يمكن أن يتجاوزها العقل. الحرب الأبدية بين الرغبات اللاواعية ومتطلبات الحضارة؟ يمكن كسبها. في خمسينيات القرن العشرين، جاء المعالج النفسي الأمريكي ألبرت إليس بنسخة مبكرة من العلاج السلوكي المعرفي، مستنداً بشكل كبير إلى قول إبكتيتوس: "ليست الأحداث هي التي تزعج الناس، بل أحكامهم المتعلقة بها." إذا مارست الفلسفة الرواقية لفترة كافية، يقول إبكتيتوس، ستتوقف عن الخطأ بشأن ما هو جيد حتى في أحلامك.

(تمت)

***

.........................

الكاتبة: إليف باتومان/ Elif Batuman: إليف باتومان (نيويورك، 1977) كاتبة وصحفية أمريكية. تخرجت من جامعة هارفارد وحصلت على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة ستانفورد عام 2007. وعملت في دوريات دولية مهمة بما في ذلك هاربرز والجارديان. نشرت مجموعة المقالات "الممسوسون: مغامرات مع الكتب الروسية والأشخاص الذين قرأوها" (النهائي لعام 2010 لجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية 2010) ورواية "الأبله" (2017، الدور النهائي لجائزة بوليتزر لعام 2018). حصلت على منحة من مؤسسة رونا جافي وكانت كاتبة مقيمة في مؤسسة سانتا مادالينا. وهي حاليًا كاتبة عمود في صحيفتي نيويورك تايمز ونيويوركر. تعيش في نيويورك حيث تكتب الجزء الثاني من روايتها.

«لكن فكرة الإجماع الوطني، وأختها الهوية الوطنية الجامعة، ليستا منزهتين عن التأسيس الآيديولوجي». هذه خلاصة اعتراض على مقالة الأسبوع الماضي، الذي ختمته بالزعم أنه ينبغي على الدولة ألا تتبنى خطاباً آيديولوجياً متمايزاً، وأن واجبها هو تعزيز الإجماع والهوية الجامعة.

في رأيي أن هذا اعتراض غير وارد. فما يقال في المجال العام، ينبغي ألا يؤخذ حرفياً؛ بل ضمن السياق العرفي للفكرة أو بيئة التطبيق. فإذا ذكرت الآيديولوجيا في سياق النقد، فالمقصود هو الوظيفة الأبرز للآيديولوجيا؛ وهي حجب الحقيقة، وليس إنكارها كلياً، أو عدّها باطلاً مطلقاً. لقد قلت سابقاً إنه لا يوجد شخص واحد في العالم متحرر تماماً من قيود الآيديولوجيا أو تأثيرها. الآيديولوجيا أداة للتواصل مع الطبيعة وجمالياتها، ومع البشر في مشاعرهم العميقة. وهذه وتلك ليستا من الأشياء التي يمكن للعلم وصفها أو تفسيرها؛ على نحو يستغرق تماماً ما يظهر منها وما يختفي تحت سطحها الخارجي. هذه وظيفة تشبه وظيفة الفن، حيث استعان الإنسان بأنواع التعبير الفني كي يقتنص الجوانب التي لا يمكن التعبير عنها بالكلام المباشر. ولو تأملنا ما يقوله الشعراء وما يرسمه الفنانون والموسيقيون، لوجدنا أفضله هو المكرس لتصوير مشهد لا يمكن شرحه أو وصفه من دون التخييل الفني. عمل الفنان هو تصوير الفكرة التي لا يمكن إثباتها بالدليل المنطقي أو التجريبي؛ تصويرها للسامع أو المشاهد حتى كأنه يراها، فإذا رأى ما يظنه مشهد الفكرة، فما الحاجة إلى التدليل عليها؟.

ولو سألت: لماذا نحتاج إلى تصوير الأفكار والتخيلات التي لا برهان علمياً عليها، لأجبتك بأن الأفكار نوعان: نوع يريده الإنسان بما هو، وبالكيفية التي يجده عليها، ونوع يسعى لتفكيكه وإعادة تركيبه. والأول أعمق أثراً، حتى لو كان أضعف تأسيساً؛ لأنه مرتبط بنظرة الإنسان إلى الحياة، وهو سابق على الممارسة الحياتية. أما الثاني فيواجه الإنسان في سياق حياته اليومية؛ في المهنة، والمدرسة، وفي تعامله مع الناس... ولأن النوع الأول من الأفكار سابق على الممارسة، والإنسان يتبناه بإرادته (التي قد تكون عقلانية – علمية، أو لا تكون)، فإنه سيكون - بالضرورة - حاكماً على الثاني. بمعنى أنه يحدد زاوية النظر إلى الأشياء، فيحدد - تبعاً لهذا - طريقة فهمها والتعامل معها، أو ربما يتعايش مع الأفكار التي يحصل عليها الإنسان في تجربته الحياتية اليومية، حتى لو تناقض الاثنان. وقد ذكرت في مقال قديم قصة جمع من أهل بلدنا يتعالجون في مستشفى أوروبي، فصلّوا الجمعة بإمامة واحد منهم، فدعا بأن يهلك الله اليهود والنصارى صغيرهم وكبيرهم، فقام إليه أحدهم قائلاً: توقف يا رجل... فلو استجاب الله دعاءك الآن، فمن يكمل علاجنا ومن يعيدنا إلى بلادنا؟ وكانت هذه إشارة إلى الفاعلية المتوازية لنوعي الثقافة: النوع الذي يدعوه إلى العلاج عند من يظنه عدواً، والنوع الذي يدعوه إلى السعي في فنائه.

هذه الثقافة التي تتحكم في رؤية الإنسان للحياة والأشياء، هي - في غالب الأحيان - قناعات موروثة أو مكتسبة، لا يسندها دليل قطعي لا يقبل الشك والجدل. وهي تكوين آيديولوجي، نريده وإن دل الدليل على غيره. إن فكرة الهوية الوطنية الجامعة، مثل أختها فكرة الإجماع الوطني، من هذا النوع من الأفكار التي لا يسهل إثباتها بأدلة لا تقبل الشك أو النقض، لكننا نعرف مئات الشواهد على منافعها، وما يترتب عليها من صلاح لعامة الناس، ومئات الشواهد على المفاسد التي نتجت من ضعفها أو ضياعها، في زماننا هذا، في بلدان قريبة منا. ربما نذهب مع الفيلسوف المعاصر ديفيد هيوم في أن اقتران شيئين لا يعني أن أحدهما علّة للثاني، لكن ألا يحكم عامة العقلاء بأن الاقتران المتكرر مدعاة للاعتقاد بأن بروز الأول سيأتي - غالباً - بالثاني؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام. كانت البضائع الصينية متوفرة في أسواق مكة، وكان أبو سفيان يرعى الأدب والأدباء ويكرم الشعراء ويحضر وغيره من سادات مكة مهرجانات الشعر. كانت الصناعة رائجة، وقوافل التجار تحمل من بلاد الأرض مختلف السلع. وكان عدد الآلهة يزداد كلما إزدادت مواردهم، حتى صار حول الكعبة اكثر من ثلاثمائة صنم. كانت الطبقية هي السائدة، والمال هو الحاكم، والعصبية هي دين القوم. لقد إعتاد الناس آنذاك على قبول الواقع الإجتماعي والإقتصادي حيث السادة والعبيد، الأغنياء والفقراء. ومن يدخل مكة لا يكاد يكتشف ان هناك ظلماً وظلاماً، وما كان لغير الراسخين في العلم ان يتنبؤوا بأن الأرض تنتظر منقذاً بات ظهوره ضرورة حتمية اقتضتها إرادة الخالق، فكان محمد بن عبد الله رسول الدعوة الى الإنسانية عن طريق التوحيد.

كانت الأعراف الإجتماعية تملي على الأبناء طاعة آبائهم، فما كان “ للصادق الأمين “ أن يجمع الناس حوله في ذلك الوقت لولا فسحة الوعي التي كان عليها بعضهم. أما أغلبية أبناء المجتمع فكانوا مستسلمين لإرادة العرف الإجتماعي السائد، إذ هم تبع آبائهم وأسيادهم الذين وجدوا في عبادة رب واحد ما يتقاطع مع توسع التجارة وإزدهار الصناعة ودوام النفوذ والسيادة. لذلك عرض سادة مكة، المال والجاه على النبي الجديد من أجل ان يترك لهم حياتهم تسير على ما هي عليه.

كانت الكلمة هي المادة الخام التي استخدمها النبي الخاتم في مشروعه الرسالي المتضمن صناعة وعي ذاتي في الفرد والمجتمع يحمله على تغيير واقعه الى ما ينبغي أن يكون عليه كوجود إنساني لا كتواجد بشري، ففي عبارة (أفلا ينظرون) التي جاءت في سياق آيات قرآنية، دعوة إلهية للناس لكي يستخدموا التفكير الموضوعي في تعاطيهم مع الطرح الجديد في ضوء الواقع الذي كانوا يظنونه آمناً بوجود تلك الأصنام في الكعبة وفي بيوتهم. الوعي هو الذي حث الذات الإنسانية في (سميّة) و(ياسر) بعدما أظهرا قلقهما وخوفهما حال سقوط الصنم الى الأرض في حركة غير مقصودة من ولدهما عمار وهو يحاول ان يطمئنهما على حاله بعد علمهما بأنه يلتقي بالنبي الجديد. سرعان ما تحول ذلك القلق والخوف الى باعث للتامل ودعوة الى إسترجاع الأحداث حين اخبرهما (عمار) ان هذا الصنم لا يضر ولا ينفع، والكلمات التي جاء بها النبي محمد فيها من الطاقة الروحية ما يشجع على قبول الفكرة. هكذا تهيأت للذاكرة أجواء العودة بـ (سميّة) الى الوراء لتقف عند مشهد وأد أبيها لأختها، وما خلفه ذلك الفعل اللاإنساني من الم مزمن في نفسها لم يغادرها برغم السنين، ولم تتمكن وهي بقرب الألهة من ان تشعر بالأمان، فأستمدت من إستقرار نفس ولدها (عمار) وهو يذكر كلمات الله، طاقة حركتها وزوجها لإستنهاض وعيهما الذاتي.

وعندما اصبح (عمار) في مواجهة مع سادة مكة، دعوه الى التعقل والى استخدام المنطق الذي يظنونه في جانب تخلي عمار عن اتّباعه الدين الجديد، واتسعت دائرة الوعي الإنساني حين أمر (أمية بن خلف) عبده (بلال) بجلد (عمار) بالسوط، فكان إمتناع (بلال) عن تنفيذ الأمر إيذاناً ببدء مرحلة التعذيب الجسدي البشع، تلك المرحلة التي كان اهون خطواتها هي هلاك جسم ذلك العبد، لكن رحمة الله شاءت ان ينجو بعرض قدمه (ابو بكر) الى (أمية)، فكانت حياة بلال مقابل 100 دينار.

مات (ياسر) وماتت زوجته (سمية) ميتة بشعة أُرغم (عمار) على حضورها في مشهد تعذيب علني أدّاه سادة مكة. ترك ذلك المشهد أثره العميق في نفس (عمار). فمثلما كانت قوة العضلة غالبة في ذلك الوقت الذي لم تصل فيه قوة الكلمة الى ما يكفيها من قدرة على المواجهة، كانت معادلة التوازن تدّخر شخص (حمزة) ليوظف قوته البدنية المشهود له بها، في الدفاع عن كلمة العدل والحق، ودعم حرية الكلام والتعبير.

 (كيف نقاتل رجلاً لا ندرك سر قوته) هذا ما قاله أبو سفيان حين قاس بعين رؤيته المادية إمكانات محمد التي تفتقر الى المال والسلاح والرجال الأشداء، فالذين يتبعون الدين الجديد هم من العبيد والفقراء، ومع كل صنوف التعذيب والتنكيل والقتل والقمع كانوا يصمدون ويزدادون. لا يفرطون بالكلمة التي خاطبهم بها نبيهم بوحي الله، حتى عندما حمل روع المشهد الأليم (عمار) الى ذكر (هبل) بخير، كانت كلمة النبي الخاتم أكبر من مجرد تهدأة للنفس وتطييب للخاطر ومواساة على الفاجعة. لقد كانت تكريماً ووعداً إلهياً بأعلى مرتبة في الجنة.

“ محمد إنسان، ونحن لا نركع إلا لله “. هكذا وجد جعفر بن أبي طالب طريقه الجديد في الحياة، فوظف رؤيته الجديدة في حضرة ملك الحبشة حين أمر بالسلاسل لتقييده ومن جاء معه من مكة. فأنبرى مخاطباً الملك بثنائية الدين والعدالة، حين قال له ان نبينا ارسلنا اليك لأنك ملك عادل، ولأنك من أهل الكتاب.

وجد الملك في قول جعفر ما يحمله على الإصغاء اليه، فوجد كلامه مقنعاً ملزماً له، فمنحهم حق اللجوء والإقامة في المدينة. هكذا مثلت الكلمة شرارة الثورة العظيمة التي زلزلت المجتمع في ذلك الوقت. وكأي تغيير لم تخل أحداث تلك المرحلة من وقوع ضحايا وخسائر بالأرواح والممتلكات. فكان الصبر رافد النبي في دعوته التي كلفته وفاة زوجته وعمه في عام الأحزان، وكلف أتباعه إغترابهم عن عوائلهم وفقدانهم أموالهم وأعمالهم. لكن تنمية الذات والعمل من أجل لحظة وعي ذاتي في كل شخص كان مشروعاً إستحق كل ذلك العطاء وكل تلك القرابين التي أفصح عنها قوله صلى الله عليه واله (ما أوذي نبي مثلما اوذيت). وبينما كانت الحروب الأهلية متوقعة في تلك الظروف وكان متوقعاً توسعها كلما اتسعت دائرة الدعوة الى الدين الجديد، كان الإسلام يرى نواة دولة انسانية جديدة في طريق انشطارها محدثة بركاناً وجدانياً، إيمانياً، إنسانياً، أدهش سادة مكة لما اقتحم رجالهم بيت النبي ليلاً، فإذا بـ (علي بن ابي طالب) ينام مكان رسول الإنسانية ليفتديه بنفسه حين دبر العقل التسلطي القرشي مكيدة قتل النبي بيد جماعية يضيع معها دمه بين القبائل. كان الصدق رفيق خطوات الدعوة الإيمانية الجديدة في تدابيرها وهو يكفي علياً خطر الموت المحتمل على أيدي القوم وهم يتعجلون الإنتقام، لقد كان الله معه يسمع ويرى، هذا هو سرّ قوة الدين الجديد التي حيرت أبا سفيان ومن معه.

كانت الدفوف التي استقبل بها المسلمون نبيهم في المدينة إيذاناً بدخول المجتمع لأول مرّة مرحلة التصويت الحر لحكومة جديدة دستورها الكتاب المبين، يتحركون بهديه الى ما يرتقي بهم ويحفظ لهم كرامتهم وامنهم وحريتهم وحقهم في العيش في مجتمع عادل، هو اليوم وبعد أكثر من الف عام ينادي بكتاب الله دستوراً. لكن الكتاب لم يعد كائناً حياً حين اكتفت أنظمة الحكم المعاصرة بوجوده للتبرك والعمل به في حدود لا تشمل كل مفاصل حياة الناس اليومية، الأمر الذي دفع بالناس في ظل ظروف الدولة الجديدة الى هجر القرآن، ثم العزوف عن القراءة، ثم دخل فارق التطور الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي أو الأوربي على خط جذب الناس الى الكلمة العلمية، المادية البحتة الخالية أحياناً من الروح التي حركت مجتمع الأمس قبل أكثر من الف عام. شيئاً فشيئاً تحولت آلهة الأمس الحجرية الى آلهة بشرية في زمن الرياء والنفاق والمصالح المادية والصراعات والنزاعات التي كادت تفتك بالبلاد وترجع بها الى زمن السبي والظلم والظلام، ليس باسم اللات وهبل، ولكن باسم الله هذه المرة. انه الإستغراق في المادة بعيداً عن الروح، الأمر الذي من شأنه أن يقود المجتمع المعاصر الى جاهلية وثنية بشرية بتقينة رقمية وبأدوات معاصرة غير التي كان يستخدمها مجتمع الأمس. ان تفعيل المشروع المحمدي الإنساني يقتضي منا اليوم ان نتفاعل مع الكتاب ككائن حي، لا مجرد كلمات في صفحات كتاب على رفوف مكتبة لا نقصدها إلا في أوقات معدودة ولحاجات محدودة بسبب عزوف كثير من الناس عن القراءة، حتى ممن يتخرجون من الجامعات. الذين إذا قرأوا فإنهم لا يقرأون إلا كتباً في مجالات تخصصاتهم التطبيقية فقط. أما عوام الناس فقد استسلموا لروتين الحياة وتعقيداتها وانغمسوا في طلب العيش فأقصروا وجودهم على تأمين احتياجاتهم من مأكل وملبس ومسكن وتكاثر.

***

د. عدي عدنان البلداوي

وكالات:

(استيقظت مدينة الناصرية صباح الأحد (2 / 6 / 2024) على موجة احتجاجية جديدة أمام بوابات شركات نفطية حكومية، وأخرى عند دوائر بلدية تعنى بتوزيع قطع الأراضي على شرائح المواطنين. وبدأت التظاهرات بشكل سلمي، إلا أن التوترات تصاعدت بسرعة عندما حاولت القوات الأمنية تفريق المحتجين، لتبدأ صدامات اسفرت عن إصابات متعددة بين الطرفين. وقال ممثل عن المحتجين إن "عدد المحتجين من أصحاب العقود يبلغ ثلاثة آلاف عقد وهم يطالبون بالتثبيت على الملاك الدائم، لبلوغ المدة القانونية لهم).

حدث (الأحد 2 /6 / 2024) يعيد الى الذاكرة حدث (الثلاثاء، الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019) يوم انطلقت في المحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات تطالب بتوفير فرص عمل للشباب وحملة الشهادات العليا، وتأمين الخدمات ومكافحة الفساد واستعادة وطن كان حصيلتها اكثر من ستمئة شهيدا واكثر من(24) الف جريحا، اثار غضب واستنكار حتى المرجعية الدينية التي طالبت في خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019) على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم.. ليؤكد الحدثان وما سبقهما بدءا من تظاهرات شباط 2011 ان الحاكم المستبد، اذا انفرد بالسلطة والثروة فانه يعتبر سلوك الأحتجاج.. تمردا يجب القضاء عليه، وانه اذا تلطخت يداه بدماء ابناء شعبه، يصبح القتل لديه سهلا وحقا مشروعا.

ثقافة الأستبداد- تحليل سيكوبولتك

الهدف الرئيس لثقافة الاستبداد هو بقاء الحاكم في السلطة، وقد شاعت في العراق بعد (2006)، مع ان المبدأ الاساس للنظام الديقراطي هو تبادل السلطة سلميا. والأغرب انها صارت حاضنة لاعادة انتاج نظام بثقافة استبدادية اخطر، لأن قادة أحزاب السلطة عزفوا على اوتار الطائفية والمحاصصة والقومية، وبها استطاعوا جذب جماهير مغيب وعيها. وكنّا شخصنا اسباب شيوع ثقافة الاستبداد في النظام الديمقراطي! بخمسة اهمها سبب رئيس واحد هو ان الأشخاص الذين كانوا في الخارج زمن النظام الدكتاتوري، واستلموا السلطة بعد(2003)، اعتبروا أنفسهم (ضحية).. ومن سيكولوجيا الضحية هذه نشأ لديهم الشعور بـ(الأحقية) في الأستفراد بالسلطة والثروة، معتبرين ملايين العراقيين في الداخل اما موالين لنظام الطاغية أو خانعين.. وأنهم، بنظرهم، لا مشروعية لهم بحقوق المواطنة، حولتهم، بحتمية الغطرسة السيكولوجية، الى حكّام مستبدين.

والذي مكنهم اكثر ان القوى الأمنية، كانت معبأة بثقافة الأنظمة المستبدة. ومع انه لا يراد منها ان تتضامن مع محتجين مستلبين مطحونين في فعل سلمي يتظاهرون من اجل احقاق حق يخص شعبا ووطنا.. فان ما قامت به من تصرفات في (17 و 20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من 25 منهم ما اساءوا الى احد، والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات، وما تعرض له اھالي قضاء المدينة في محافظة البصرة في اثناء قيامهم بداية تموز (2018) بتظاھرة سلمية مجازة رسميا، وقيام قوات الامن بالتصدي العنيف للمتظاھرين بإطلاق النار بالرصاص الحي بشكل عشوائي نجم عنه استشهاد الشاب (سعدي يعقوب المنصوري).. تؤكد ان الاستبداد سيبقى هو الوسيلة التي يتعامل بها قادة احزاب السلطة مع سلوك الاحتجاج حتى لو كان سلميا.

ثقافة التظاهر

يعدّ التظاهر سلوكا حضاريا سلميا يمارسه مواطنو البلدان الديمقراطية.. يحصل حين تخرج الحكومة او السلطات عن القانون او تتلكأ في تنفيذ فقراته، ليردعها ويجبرها على الالتزام بالقانون والدستور. ذلك ما يراه الخبراء السياسيون فيما يفضل علماء النفس والاجتماع السياسي مصطلح (الاحتجاج الجمعي) ويصنفونه الى نوعين:تمرّد غوغائي لمحرومين(رعاع او حثالة) يقعون في اسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع، واحتجاج سياسي لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية.

وحديثا توصل العلماء المعنيون بدراسة سلوك الاحتجاج السياسي في الصين ودول اخرى الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالتظاهر ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الانسان والآحساس باللامعنى والاغتراب، والشعور باليأس من اصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره نحو الأفضل وما استجابت الجهة المسؤولة لمطالبهم. ونضيف بأن سلوك الاحتجاج بوصفه ناجم عن مظالم اجتماعية وعدم عدالة اقتصادية يؤدي الى قهر وضغوط نفسية تتجاوز حدود القدرة على تحمّلها خمس سنوات.. فكيف اذا استمرت عشرين سنة.. دون بارقة أمل!

وما حصل ان بين المحتجين.. المتظاهرين من لا يمتلك اخلاقيات سلوك الاحتجاج فيدفعه شعوره بالظلم ونفاد صبره الى الاعتداء على موظف ليس صاحب قرار.. ويبدو ان هذا حصل من بعض المحتجين في مدينة الناصرية.

ومع كل ما حصل فان على الحكومة النظر الى ان اي سلوك احتجاج جماهيري هو حق مشروع لهم، وان عليها ان تتحاور مع قيادات المحتجين وتحقيق مطالبهم.. مع ان المعادلة معكوسة في العراق.. ولن تستقيم ما دام حيتان الفساد الذين افقروا 13 مليون عراقي، باعتراف وزارة التخطيط، هم الدولة العميقة في العراق.

***

د. قاسم حسين صالح

       

المشهد الاعلامي والثقافي العراقي يخضع لظاهرة تسمى (الصرعات الثقافية) او (الموضات الثقافية) وهى بروز شخصيات اعلامية وثقافية ودينية سرعان ما تنتشر بسرعة البرق عند الشباب والمتعلمين والمثقفين، حتى تصبح حديث الساعة، الا انها ايضا سرعان ما تنزوي بعد فترة، والسبب ابتعادها عن الواقع، لأنها بلا دراسة أكاديمية أو دينية متخصصة، وعدم تاصيلها نفسها ضمن الواقع العلمي الحقيقي. كلنا يتذكر صرعة احمد القبانجي والانسان الكوني، وصرعة عبد الرزاق الجبران، وصرعة خزعل الماجدي، وكلها بالطبع هدفها مواجهة الموروث الديني التقليدي،  واخرها عندنا صرعة الاخ حسين سعدون.

حسين سعدون هو بائع كتب في شارع المتنبي، ويبدو ان هذه المهنة قد ساهمت بصورة كبيرة في اطلاعه الهائل جدا على المؤلفات التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية، وبما انه يمتلك ذاكرة وصفت بالاسطورية، فان له القدرة العجيبة بعرض آراء تلك الكتب وأسماء مؤلفيها وتاريخ طبعها ومضمونها باختصار، وبالطبع ان اغلب تلك المؤلفات هى غربية واوربية لانها تحوي القيمة المعرفية الاولى في العالم .

ومن خلال اطلاعي خلال الاشهر الاخيرة التي انتشرت فيها ظاهرة حسين سعدون  بصورة مباشرة او غير مباشرة على الفديوات في الفيس بوك او التكتك او الفضائيات وغيرها، والتي ربما بلغت المئات منها، وجدت ظاهرة غريبة عند حسين سعدون لا توجد عند تلك الشخصيات والصرعات التي ذكرناها سابقا، وهى (ان حسين سعدون ليس له اي رأي شخصي بالقضية التي يطرحها)، فهو ليس سوى (رام) للمعلومات والاراء والافكار او (سي دي) للكتب، يستعرض المؤلفات ومضمونها دون نقد او اضافة او تحقيق مدى صحتها او مطابقتها للواقع، او غير ذلك من الامور المعرفية التقليدية، وقد تعمدت ان اتابع تلك المقابلات والفديوات من جديد، ولم اجد اي رأيا شخصيا له، (عدا رأيه الشخصي في مدح الاماراتيين ابان دعوته له لزيارتها، وادعى ان نظرية علي الوردي حول صراع البداوة والحضارة لا تنطبق عليهم) واعتبره البعض تملقا للامارات والخليج، وهو طبعا ليس بالمستغرب، فالمثقفين والادباء والفنانين العراقيين ترنو عيون الكثير منهم للامارات وجوائزها المالية وتغطيتها الاعلامية الرفيعة .

ان عدم وجود راي خاص او رؤية شخصية عند المثثقفين والكتاب العراقيين في الاحداث والكتب هى ظاهرة منتشرة بصورة كبيرة جدا جدا، فالاغلبية تعتمد التبعية للاعلام او النسق الثقافي او الخطاب السياسي والثقافي والخضوع للشارع، ولا يمكنها الخروج عن تلك الانساق، لانها ستفقد حضورها وسمعتها وشعبيتها في تلك الاوساط .

ادعو الاخ حسين سعدون مخلصا ان لا يكتفي بذكر الآراء والمعلومات والافكار واستعراض الكتب ومضمونها دون تحقيق او نقد او رأي او اضافة، لان ذلك يعد اختلالا كبيرا وترويجا لمفهوم التبعية والتلقين السائد في مدارسنا وجامعاتنا الذي رسخه المنظر القومي المعروف ساطع الحصري اولا، وهو ما نريد او ندعو للتخلص منه . ولا اريد ان اذكر جميع تلك الفديوات والامثلة، ولكن يحضرني الان عرضه لكتاب فراس السواح (دين الانسان) عن انواع التدين الثلاث وهى (الفردي والجماعي والمؤسساتي) وامتدح السواح التدين الفردي وانتقد الجماعي والمؤسساتي . وبالطبع انساق حسين سعدون لرأي السواح وذكره كما هو دون نقد او اضافة، وخاصة في مجال ربطه بالشيعة على اعتبار ان عندهم مؤسسات دينية وطقوس حسينية جماعية، الا ان حسين سعدون لم يكلف نفسه التفكير بان هناك تدينا اخر ضرب العراق وقتل مئات الالاف من العراقيين وهو (التدين الارهابي) او التدين العنيف او الاصولي او الجهادي او السلفي، ولا اعتقد ان حسين سعدون لا يعتبرهم متدينين او يجعلهم ضمن خانة العلمانيين، وطبعا متوقع من الاخ حسين سعدون عدم ذكره الارهاب، لانه يخالف منهجه بعدم ذكر اي رأي شخصي له بالكتب التي يعرضها فهو مجرد ناقل ومستعرض لها اولا . وثانيا هو ربما لا يذكر الارهاب حتى لايتهم بالطائفية، ويفقد بالتالي حضوره وسمعته باعتباره معتدلا وتنويريا وعلمانيا بحسب الفهم العراقي لهذه المفاهيم .

***

د. سلمان الهلالي - كاتب عراقي متخصص بالتاريخ.

العوامل والتيارات الفلسفية التي ساهمت في إنتقال اوروبا من العصر الوسيط إلى العصر الحديث

بينما كانت الفلسفة ذائعة في فكر العصور الوسطى، وأوروبا تعيش تحت سيطرة الكنيسة واللاهوت، ظهرت جهات وشخصيات تمردت بفكرها على النظام الفكري الذي كان يسود في العصر القروسطي. من المعاناة التي عاشها الفكر، انبثق فكر جديد، فكر لا يدرس الوجود بل يدرس المعرفة وكيفية نشأتها، لا يدرس الأنطولوجيا بل يدرس الإبستيمولوجيا. وعلى سبيل المثال، المذهب العقلاني مع الفيلسوف ديكارت الذي خصص منهجًا وطريقًا للعقل، وكذلك في إنجلترا انبثق المنهج التجريبي مع فرانسيس بيكون ونقده للمنطق الأرسطي وتسليطه الضوء على الأوهام المحيطة بالعقل البشري. وهكذا كانت بداية لفلسفة جديدة وعصر جديد فكريا وهو العصر الحديث، الذي تمرد فيه على اللاهوت وفتح آفاقًا للعقل، وكانت بداية لخروج أوروبا من ظلمات العصر الوسيط، أي الظلام من جهة الحروب التي كانت تعيشها في تلك الفترة والسيطرة الكنسية.

التأسيس الفعلي للفكر والفلسفة في العصر الحديث يبدأ مع ديكارت وتركيزه على الهيمنة على الطبيعة ويصبح الانسان حاكم الطبيعة. هكذا اعتبر البعض أن العصر الحديث بدأ مع ديكارت.

وللغوص في فكر  العصر الحديث، لا بد لنا من ذكر الفلاسفة الذين ساهموا في تحقيق ثورة ونهضة فكرية على المستوى الأوروبي وافكارهم، وكذلك الظروف المساعدة على تحسين الفكر من التعصب والانغلاق إلى الانفتاح والتسامح والتطور.

الفكر لا يتغير إلا بظهور فكر أفضل ومقنع أكثر. بدايةً، شهدت أوروبا تحولاتٍ كثيرة في شتى المجالات مما جعل النهضة الفكرية حليفها. قاد هذه الثورة الفلاسفة، بدايةً مع رينيه ديكارت(1650-1596) الذي خصص قواعدًا للمنهج وجعل الشك سبيلًا للتفكير، خاصةً الشك في الأمور كلها باستثناء الدين والسياسة استبعدهما ورغم أنه شك في وجود الله ومسح الطاولة، إلا أنه ظل وفيا للكنيسة. وظهر بعده باروخ سبينوزا (1677-1632)من نفس المذهب لكي يسقط القناع عن السياسة و يواجه الاستبداد الديني من خلال كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة "، وأيضا كتابه " علم الأخلاق "، ويمكن القول أن باروخ سبينوزا واحد من أعظم فلاسفة القرن السابع عشر وأحد أهم مكتسبات الحداثة الأوروبية الذي كان قد جاء قبل أوانه في عصر لا يزال يغرق في الظلام ولم تكن حتى بوادر التنوير قد ظهرت بشكلها المعروف، لذلك كان المُفكر المُفترى عليه من المتدينين اليهود والمسيحيين في أوروبا للدرجة التي جعلت أحد اللاهوتيين يكتب عبارة لتوضع على قبر سبينوزا تقول “هنا يرقد سبينوزا.. أبصقوا على قبره”.(1)

كما قال هاشم صالح "سبينوزا جاء قبل الأوان بوقت طويل…" (2)، ويقصد هنا أنه أتى قبل زمن التنوير الأوروبي الذي من ابرز من قاده، على سبيل الذكر نذكر كانط وجان جاك روسو وأيضا فولتير.

وكذلك ظهر التجريبيون في انجلترا في نفس فترة ديكارت، أولهم فرانسيس بيكون (1626-1561) مؤسس المنهج التجريبي الذي انتقد منطق أرسطو بشراسة واعتبره منطقًا عليلًا وأنه سبب تأخر العلوم. وأيضًا من جهة أخرى، أنتج المنهج الاستقرائي وكذلك تحدث في كتابه الأورغانون الجديد عن أربعة أوهام محيطة بالعقل البشري ويجب تخطيها.

وهي (أوهام القبيلة) و(أوهام الكهف) و(أوهام السوق) و(أوهام المسرح).

أما (أوهام القبيلة) فهي مشكلة عقل الإنسان، أنه مرآة مقعرة، على نحو ما، بمعنى أنه يرى الأشياء في ضوء الهوى والتقاليد التي نشأ فيها. أما (أوهام الكهف) فهي شخصية، كما وصفها (أفلاطون)، أن أحدنا يسكن في كهف من التصورات، وأن النور الذي يأتي من الخارج يترك ظلاله على جدران الكهف؛ فلا نرى الحقيقة إلا بعمل عقلي مجرد.

أما (أوهام السوق) فهي تنشأ من عالم المال والأعمال، واجتماع الناس وتأثر بعضهم ببعض. وأما (أوهام المسرح) فهي التي انتقلت إلينا من الفلاسفة والمفكرين، أي تلك الأفكار التي نتلقاها دون تمحيص.(3)

وبعده جاء جون لوك(1704-1632) من نفس التيار ليعتبر العقل صفحة بيضاء وأننا نملؤها بالتجارب. وجون لوك الذي كان له نفس غاية ديكارت ونفس غاية كل فلاسفة عصر النهضة وعصر التنوير أي الانتقال من الظلمات إلى النور، واعتبر أن المعرفة تأتي من الخارج، من الحواس وليس من الداخل أي من العقل. وبين الصراع والتكامل الذي كان يعيشه الفكر في أوروبا بين التجريبيين والعقلانيين، جاء كانط (1804-1724) بعد هؤلاء لكي يتجاوز التيارين من خلال مذهبه أي الفلسفة النقدية، ليدرس العقل ذاته. كانط زعيم التنوير الأوروبي الذي أنتج لنا المفاهيم مثل النومين وغيره من المفاهيم الاخرى، و مبدع المفاهيم هو الفيلسوف الحق، و كانط قد أنتج لنا العديد من البشر الذين تجرأوا على استخدام عقلهم الخاص، وعندما نتحدث عن كانط فإننا نتحدث عن رمز الثورة الإنسانية في عصر التنوير الأوروبي، تحدث عن التنوير ذاته في مقالته، " ما التنوير؟ " ليعبر عنه بأنه " خروج الإنسان من القصور الذي ارتكبه في حق نفسه من خلال عدم إستعماله لعقله إلا بتوجيه من إنسان أخر "*

وركز على الحرية الكاملة للعقل وان لا سلطان على العقل إلا هو نفسه.

ومن أهم العوامل التي ساهمت في ظهور الفلسفة الحديثة وبداية العصر الحديث نجد على رأس الأسباب الثورة العلمية، حيث بدأ الناس يستعملون العقل بدل التأويلات الدينية. بدل الملاحظة، قاموا بالتجربة، وألغوا الخرافات التأويلية التي سادت في العصور الوسطى. كأن أوروبا أتاها الحنين إلى العصر اليوناني، بعدما ضلت الطريق في القرون الوسطى.

وهذه الثورة العلمية تتمثل، مثلاً، في اكتشافات كوبرنيكوس (1543-1473) الذي طور نظرية مركزية الشمس ووضعها في قالب علمي رصين، وطورها بعده جاليليو وغيره. وهنا نستنتج أيضًا أن العلم عبارة عن نظرية تستمر لمدة طويلة، أي أن العلم عبارة عن اتصالات بين العلوم وليس انفصالًا. لأن نفس النظرية نجد لها وجودًا عند أرسطرخس في اليونان قديمًا وكذلك في العصر الوسيط عند نيكولاس الكوسي. النظرية تستمر لمدة طويلة لكن قد يظهر براديغم جديد كما قال عنه ذلك بيير دوهيم.

وهناك عوامل أخرى بالإضافة إلى الثورة العلمية مثل الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ميلادي الذي قاده مارتن لوثر وآخرون من اجل تحرير العقل من سطوة الكنيسة، وهذا العامل فتح باب النقاش في جميع المسائل التي كان لابد لحضور التعصب فيها. في جانب ذكر التعصب، على سبيل الذكر نجد أن هناك شخصية، لم يعرف التاريخ شخصًا كرس حياته لمواجهة التعصب كما فعل فولتير.(4) كما قال عنه ذلك هاشم صالح. فولتير واجه التعصب في متنه، وهذا العامل كان مهمًا جدًا بالنسبة للحرية في التفكير، تمرد على ما كان سائدا هو و جان جاك روسو وغيره، وهذا كان سبيلاً لبداية الثورة الفرنسية وتكريس الفكر الأنواري.

نكتفي بهذا القدر، لكن لا ننسى أن هناك عوامل مثل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأوروبية وغير ذلك الكثير. وهكذا مرت أوروبا من عالم الجهل إلى عالم التفكير الصحيح، من الظلمات إلى النور ومن سيطرة الكنيسة إلى سيطرة العقل. بدأ الأوروبيون منذ القرن السابع عشر ميلادي الاهتمام بالعلم والفلسفة وكل ما هو سبيل لتطورهم، خاصة في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر ميلادي مع ظهور منورين لعقول الناس الذين ركزوا على النقد، نقد كل ما كان يستحيل نقده سابقا كالمجال الديني والسياسي.

أوروبا التي كانت تعيش في ظلمة التاريخ بسبب الحروب وما غير ذلك، انتقلت لتعيش السلام والسلام الفكري خاصة حتى اللحظة الراهنة. كان الحظ والعمل من أجل الوصول حليفهم، وهل لنا نحن أيضًا أبناء الحضارة العربية الإسلامية ربيع إسلامي ننتقل فيه من العصور الوسطى إلى العصر الحالي؟ بإعتبار سلفنا العرب المسلمين ذوي مساهمة مهمة في تكوين الحضارة الغربية الحديثة، خاصة ابن رشد.

***

طارق بوعزاتي

.......................

1- إما أن تكون سبينوزيا وإما ألا تكون فيلسوفاعلى الإطلاق على الرابط ادناه

        ‏https://alarab.co.uk/

2- فلسفة وتربية/36، فلسفة/889-2010-07-04-23-33-50

https://anfasse.info/

3-

https://www.aleqt.com/2009/08/13/article_262449.htm

4- هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، دار الطليعة، بيروت.

في حوار مع الأستاذ عباس عبيد جاسم رئيس تحرير مجلة (الأديب الثقافية) العراقية المستقلة، جرى على صفحته في الفيس بك، طرحت سؤالا أو ملاحظة تتعلق بالعنوان الجانبي الموازي للمجلة، الذي يقول إنها (مجلة تعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية)، وددت فيه أن أرى شيئا من التوضيح الخاص بعنوان لا يجعلنا نكتفي في هذه المجلة وفي كثير من المطبوعات والخطابات الثقافية عندنا بالعناية بالحداثة وقضاياها، بل نتعدى ذلك إلى ما نسميه (الحداثة البعدية)، أو ما بعد الحداثة، التي تتجاوز مفاهيم الحداثة ومصطلحاتها وأوضاعها التاريخية لتؤسس مجتمعات قائمة على أسس علمية واقتصادية واجتماعية وجنسية مختلفة، ولا تقتصر على المفاهيم والمصطلحات الأدبية والإبداعية ذات الطابع النظري، وحدها.

وهو طموح مشروع بطبيعة الحال إذا كانت لدينا تعريفات محددة وواضحة لما نعنيه بالحداثة، وما بعد هذه الحداثة في مجتمع عراقي وعربي لم يخرج في غالبيته العظمى بعد من بطن ماضيه، وما زال يئن تحت وطأة التمزقات الطائفية والإثنية والقومية، وسيطرة القوى السياسية والحزبية البعيدة عن الإيمان بفلسفة العقد الاجتماعي الحديث في الحكم بأبسط مفاهيمه، وما يتصل بذلك من بناء مؤسسات ديمقراطية حديثة تستجيب لحاجات الناس الواقعية وتراعي ظروفهم العملية المتصلة بحريتهم وكرامتهم الإنسانية.4033 الاديب الثقافية

ولست أدري في الواقع عن أيّ (حداثة) نتكلم هنا، والكيفية التي تمكننا من العناية بقضاياها الأساسية، ثم (البعدية) التي نشأت كرد فعل على نظريات الحداثة وسردياتها الكبرى، كما عرفها العالم الحديث في أوربا وأمريكا منذ قرون، في مطبوعة ثقافية وأدبية من هذا النوع..! وما إذا كان استخدام مصطلحاتها المترجمة في خطابنا الأدبي والنقدي بهذه الكيفية أو تلك كافيًا لضمان تحقيقنا لهذه الحداثة وتوطيننا لمفاهيمها في بيئتنا العراقية والعربية المناظرة، أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى ما هو أهمُّ وأوسع من ذلك..!؟

فالحداثة كما نعرف مشروع غربي بدأ منذ القرن الثامن عشر في أقل تقدير، وليست مشروعا عراقيا أو عربيا، وأنها لم تستكمل حتى الآن بعضَ أهدافها في مواطنها الاوربية والأميركية الأصلية، التي تغطي طائفة كبيرة من العناصر التي تشمل الثقافة والفنون والمعتقدات الدينية والسياسية والأفكار والفلسفات، بالإضافة للتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة، وما تعرضت له المجتمعات الغربية، وتلك المرتبطة بها والخاضعة لتأثيرها من تحولات جذرية، وإخفاقات أو صعوبات بسبب من هذه الحداثة، وكانت محلا دائما للحراك الاجتماعي والسياسي والنقاش الفكري في المؤسسات الفكرية والجامعات ومراكز البحوث، فضلا عن الجانب الأدبي والثقافي، الذي يظل انعكاسا وعاملا فاعلا ومنفعلًا،مؤثّرا ومتأثرا على نحو ما بما حوله من تطورات واتجاهات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية مرافقة.

والكثير من المفكرين الغربيين يرون أن هذه (الحداثة) لم تنجز أهدافها بعد، وأنها ما زالت "حداثة ناقصة" بعبارة الألماني يورغن هابرماس، سواء فيما يتعلق منها بالدوافع الخاصة بالمناهج الفكرية والثقافية المتبعة، كالمنهج البنيوي الذي سيطر على الساحة النقدية  الأوربية، والفرنسية منها بشكل خاص ردحًا من الزمن قبل أن يتراجع قليلا وتخف وطأته، ويخلي الساحة لمناهج فكرية وفلسفية أخرى، أم بالحداثة البعدية، التي ما زالت تتلمس طريقها بعد أن شهدت وضع العقل الغربي في طريق محفوف بالمخاطر والمشكلات والتحديات التي يفرضها عصر البرمجيات الإلكترونية والفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي الآخذ بالاتساع والسيطرة المخيفة والمثيرة للتساؤلات هذه الأيام. وغير ذلك من تطورات علمية وضعت الحداثة وتيار ما بعد الحداثة postmodernism، الذي كان الوريث الشرعي للنجاحات والمشكلات التي خلّفها عصر النهضة الأوربي، في دائرة الشك والاتهام، حتى وصل الحال عند بعضهم إلى إعلان نهاية هذه الحداثة والدعوة إلى التخلي عنها، وتبني خطابات مغايرة لها.

ويكفي أن نشير بهذا الصدد، مثلا، إلى ما طرح ضمن هذه الحداثة البعدية من آراء نقدية تتعامل مع النص وتأويله بطريقة عدمية باعتباره لعبا حرّا للدوال، وأن كل فهم هو، في الواقع، إساءةُ فهم، وكل قراءة هي إساءة قراءة، وغير ذلك من غرائب وعجائب نقدية تداولها بعض نقادنا ومثقفينا الحداثيين العرب بطريقة ببغاوية أحينا باعتبارها فتوحا ثقافية ونقدية لا شكّ فيها، ولا غبار عليها، مع أن ثمة شكوكا في مدى فهمهم لها وتقديرهم للسياقات التاريخية التي ظهرت فيها. وهي، في أفضل أحوالها، نوع من التقليد أو إعادة الإنتاج لما لدى الآخرين، يلتقي أصحابها مع السلفيين ويجعلهم، كما يقول عبد الإله بلقزيز، حلفاء لهم! وتغنينا بحداثة الآخرين وما بعد حداثتهم يجعلنا كما يقول هذا المفكر المغربي مثل تلك الصلعاء التي تفاخر بشعر جارتها..

أقول إن التزامنا النظري بهذه الحداثة المستنسخة أو الموضوعة على المستوى الخطابي ببعديها القبلي والبعدي، اللذين نصرّ على جعلهما عنوانا من عناوين مشروع عملنا الأدبي والثقافي والفكري في هذه المجلة وفي غيرها، قد لا يخلو من المبالغة والبعد عن الواقع، في الوقت الذي لا نعرف فيه حتى الآن إن كنا قد بدأنا بالفعل مشرع حداثة حقيقيا في مجتمعنا العراقي على صعيد الإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجي والعلمي والتربوي والإعلامي القائم في عالم اليوم المتحضّر، وما يتصل به من تغيير للمفاهيم الفكرية والدينية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية الحاكمة، وما يرافقها من بنى تحتية وفوقية، مادية ومعنوية مكمّلة، كانت المجتمعات الغربية قد بدأت بها وأنجزت الكثير منها منذ قرون، كما قدمنا. والمشكلة الجوهرية هي هذا الفصل القائم بين فكر الحداثة والتراكم التاريخي الذي أنتج منظومة البنى الديمقراطية والعلمانية secularism والحداثة الفكرية نفسها، بما فيها فكر ما بعد الحداثة الذي يعدّه الكثيرون نوعا من تفكير الحداثة في نفسها ومراجعة لمنجزاتها.

ويكفي أن ننظر إلى (دگتنا) العشائرية العراقية التي لا تعترف بغير "سناينها" أو تقاليدها المتبعة في الأخذ بالثأر وتحصيل الحقوق بعيدا عن القانون المدني للدولة الحديثة، أو إلى شوارعنا العراقية وما تمتلئ به كلّ عام بمناسبة عاشوراء من حشود مليونية تسدّ المنافذ والآفاق، وتتدفق من كل حدب وصوب دون هدف واضح غير الإعلان عن الإيمان بمبادئ العدالة المفقودة التي ضحّى الإمام الحسين من أجلها في بلد يُعدّ اليوم من أكثر بلدان العالم فسادا، لنرى ان كان ما نتحدث عنه من حداثة أولية أو بعدية ارتبطت، أول ما ارتبطت، بتحرير الذات من الأوهام وإرث الماضي الثقيل، حقيقيا وفاعلا. وما إذا كنا بحاجة فعلية إلى مراجعة اختياراتنا، وإعادة نظر في مفاهيمنا الثقافية والأدبية الخاصة بهذه الحداثة للتأكد من مواقع أقدامنا. وأن ما نحتاجه، أكثر من غيره ربما، هو شيء من التواضع الذي نعرف فيه أنفسنا، ونقدّر احتياجتنا وأولوياتنا الثقافية والفكرية تقديرًا واقعيا بالنظر إلى ذواتنا وعلاقتنا مع الآخر، وقياس ما عندنا إلى ماعنده؛ دون أن يقلل ذلك من خصوصيتنا وحماسنا، وما نمتلك من طموح فكري وثقافي ينظر إلى الحاضر والمستقبل بكل آفاقه الحداثية وما بعد الحداثية بشيء من الاطمئنان والثقة بالنفس في بلد غنيّ بتاريخه وثرواته وموقعه الجغرافي وإمكانات شعبه.

لا يمكن الخلاص من واقعنا وما فيه من إرث ثقيل عن طريق القفز عليه، ولا حتى عن طريق التصالح مع ما هو سلبي فيه، وأنما محاولة تقليص الفجوة الزمنية بيننا وبين العصر إلى أقلّ عدد ممكن من السنوات.

ولا يتم ذلك عن طريق الانتماء إلى ماض ذهب ولن يعود، ولا إلى حداثة غربية لا علاقة حقيقية لنا بها، وإنما عن طريق معرفة واقعنا التاريخي وإمكاناتنا المتوفرة، وما يمكن أن نتوفر علية من إنتاج ذاتي وتجديد وابتكار من شأنه تحفيز إمكانات الأمة واستثارة ما يختزنه وجدان شعوبها من أمل وعمل تصنع به حياتها ومصائرها من جديد، وتطور وسائلها وأدواتها وطرق تفكيرها لتكون متلائمة مع المتغيرات التي يفرضها مشروع هذه الحداثة.

وما يجري من عمليات استيلاء وهمية، ذات طبيعة لفظية وبلاغية مقنّعة على مكاسب حداثة الآخرين وما بعد حداثتهم، والتغنّي ببعض مقولاتهم ومفاهيمهم النقدية والفلسفية بالترجمة أو المحاكاة، لا يعدو أن يكون حركة اعتماد في المكان نفسه، وإرضاءً لغرور شخصي، وتطمينا لكبرياء وطنية غير قادرة على الاعتراف بحقيقة عريها وتأخرها التاريخي، وتخلفها عن العمل على اللحاق بركب الثقافة والحضارة الحديثة بطريقة أخرى أكثر فاعلية وواقعية. وهي جزء مما صار يسميه البعض فوبيا ضياع الهوية والحاجة للحضور الأصيل في العالم بعيدا عن التلفيق والكذب والادعاء.

***

الدكتور ضياء خضير

علم التجهيل (Agnotology، الاغنوتولوجيا) هو مصطلح يستخدم لوصف دراسة الافعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف الى نشر التضليل وخلط الامور للتأثير على الرأي العام ولكسب التأييد او لبيع منتج ما او للاضرار بالسمعة، واحب تسميته بفن اللف والدوران. تم ابتكار هذا المصطلح من قبل العالم روبرت بروكتور وخبير اللغويات ايان بوال في عام 1995. يعتبر علم التجهيل مهما لفهم كيف للمعلومات المضللة ان تؤثر على الرأي العام واتخاذ القررات.

لماذا علم التجهيل علم مهم؟ لان المعلومات الخاطئة يمكن ان تجعل الناس يتخذون قرارات خاطئة وتؤثر على الرأي العام. لكن عندما تدرك كيف تشتغل الخدعة، يمكنك ان تحمي نفسك منها. والموضوع ليس سهلا كما تظن، فالجهل عنده خارطته الخاصة ويتغير حسب السياسة والمصالح. نحن نعيش بزمن الجهل الشديد، والعجيب بالموضوع ان الحقيقة غير قادرة ان تخترق كل هذا الضجيج الصادر من وسائل الاعلام والسوشيال ميديا. الجهل ينتشر أولا عندما لا يفهم الناس ما هو مفهوم او ما هو حقيقة، وثانيا عندما تأتي مجموعات ذات مصالح خاصة – مثل حزب او مجموعة سياسية – وتشتغل بجد لخلق التشويش حول موضوع معين. باختصار، ان فهم الجهل السياسي هو جزء رئيسي لكي نفهم العالم حولنا بشكل ادق واصح.

ان علم التجهيل، بدراسته لتأثير المعلومات المغلوطة على القرارات والسلوكيات الفردية والجماعية، يسلط الضوء على تعقيد الجهل وتشكله وفقا للسياقات السياسية والمصالح المختلفة.

المؤرخون وفلاسفة العلم يميلون الى معاملة الجهل على انه فراغ يتمدد باستمرار ليمتص المعرفة.  ومع ذلك ، فان الجهل اكثر تعقيدا من هذا، اذ ان له جغرافيا سياسية مميزة ومتغيرة.  وغالبا ما يكون مؤشرا ممتازا على سياسات المعرفة. فبدلا من كونه مجرد غياب للمعرفة، يتجلى الجهل باشكال متعددة: جهل مقصود ينبع من الاهمال او الرفض او الخوف، وجهل غير مقصود ناتج عن نقص التعليم او الفرص او القيود الثقافية، وجهل اختياري يتغذى على التحيز او الايديولوجية او رغبة في الحفاظ على السلطة.

وتتوزع هذه الاشكال من الجهل على مناطق وفئات اجتماعية محددة، مما يخلق "خرائط جهل" تتغير مع مرور الوقت وتتأثر بالتغيرات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية.

ويمثل الجهل مؤشرًا قيما لسياسات المعرفة، حيث يكشف عن اولويات البحث، والتفاوتات في السلطة، والديناميات الاجتماعية. فمثلا، تظهر الرقابة والتضليل الاعلامي والتعليم الموجه كيف يتم استخدام الجهل وتوظيفه في السياقات الاجتماعية والسياسية. وفهم الجهل ضروري لتصميم سياسات فعالة تهدف الى زيادة المعرفة وتقليل التفاوتات. كما يساعد على تعزيز التفكير النقدي وبناء مجتمعات اكثر عدلا.

ولذا، يجب اتخاذ خطوات لمواجهة الجهل، مثل تعزيز التعليم النوعي ودعم الصحافة المستقلة وفتح نقاشات عامة، ومكافحة التمييز. فالمعرفة ليست مجرد سلاح لمواجهة الجهل، بل هي اساس بناء مجتمعات اكثر ابداعا وازدهارا. والمعرفة ليست مجرد ملء فراغ، بل هي اضاءة دروب نحو مستقبل افضل.

وبناءً على فهمنا لعلم الجهل، يمكننا ملاحظة تطبيقاته العملية في مجال التضليل، نذكر ادناه بعض منها على سبيل المثال: 

1. التشكيك في الخبراء:

- الهجوم على نزاهة العلماء والمؤسسات العلمية: قد يسعى الفاعلون السياسيون الى تقويض ثقة الجمهور في الخبراء والمؤسسات العلمية من خلال نشر معلومات مضللة او تشويه سمعتهم. على سبيل المثال، قد يتم مهاجمة العلماء الذين يدرسون تغير المناخ باعتبارهم متحيزين او مدفوعين باجندات (بأجندات) خفية، او قد يتم التشكيك في نزاهة الدراسات العلمية التي تدعم سياسات معينة.

- نشر معلومات مضللة حول مواضيع علمية: قد يتم نشر معلومات مضللة او زائفة حول مواضيع علمية معقدة، مثل تلوث البيئة او السلامة النووية او الصحة العامة، بهدف ارباك الجمهور وجعله غير قادر على تقييم المخاطر بشكل صحيح.

- الترويج لنظريات المؤامرة: قد يتم الترويج لنظريات المؤامرة التي تشكك في الدوافع او النتائج العلمية، بهدف زرع الشك وعدم الثقة في المعلومات الموثوقة.

2. استخدام اللغة الغامضة او المضللة:

- استخدام مصطلحات علمية زائفة او مضللة: قد يتم استخدام مصطلحات علمية زائفة او مضللة لخلق انطباع زائف من الدقة او المصداقية. على سبيل المثال، قد يتم استخدام مصطلح "علم مزيف" لوصف اي بحث علمي لا يتوافق مع وجهة نظر سياسية معينة.

- التلاعب باللغة لاخفاء المعلومات المهمة: قد يتم استخدام اللغة الغامضة او المضللة لاخفاء المعلومات المهمة او التهوين من شأنها. على سبيل المثال، قد يتم استخدام مصطلح "مخاطر محتملة" بدلا من "مخاطر جسيمة" لوصف مخاطر احد المنتجات او السياسات.

- استخدام الايحاءات العاطفية بدلا من الحقائق: قد يتم استخدام الايحاءات العاطفية بدلا من الحقائق لاثارة مشاعر الخوف او الغضب لدى الجمهور، مما يجعله اكثر عرضة للتأثر بالرسائل المضللة.

3. استغلال عدم اليقين والشك:

- الترويج لعدم اليقين العلمي على انه دليل على عدم وجود اجماع: قد يتم الترويج لعدم اليقين العلمي الطبيعي على انه دليل على عدم وجود اجماع علمي حول قضية معينة، بهدف اضعاف ثقة الجمهور في العلم.

- التضخيم من مخاطر تقنيات او سياسات جديدة: قد يتم تضخيم مخاطر تقنيات او سياسات جديدة بشكل مبالغ فيه، بهدف اثارة الخوف لدى الجمهور ومنعه من دعمها.

- التقليل من شأن فوائد تقنيات او سياسات قائمة: قد يتم التقليل من شأن  فوائد تقنيات او سياسات قائمة، بهدف اقناع الجمهور بأنها غير فعالة او غير ضرورية.

4. استغلال السلطة لثقة الشعب بها:

- نشر معلومات مضللة من قبل مسؤولين حكوميين او شخصيات سياسية: قد يتم نشر معلومات مضللة من قبل مسؤولين حكوميين او شخصيات سياسية، مما يمنحها مصداقية زائفة ويجعل الجمهور اكثر عرضة لتصديقها.

- استخدام وسائل الاعلام المملوكة للدولة لنشر الدعاية: قد يتم استخدام وسائل الاعلام المملوكة للدولة لنشر الدعاية والمعلومات المضللة، مما يحد من قدرة الجمهور على الوصول الى المعلومات الموثوقة.

- التضييق على حرية التعبير والصحافة: قد يتم التضييق على حرية التعبير والصحافة، مما يمنع الصحفيين من التحقيق في المعلومات المضللة وتقديم تقارير عنها.

امثلة على الاغنوتولوجيا في نشر المعلومات المضللة في العراق:

- نشر معلومات مضللة حول ازمة كوفيد 19: خلال جائحة كوفيد 19، تم نشر العديد من المعلومات المضللة حول الفيروس وطرق الوقاية منه وعلاجه. تضمنت هذه المعلومات ادعاءات كاذبة حول عدم فعالية اللقاحات ووجود علاجات "معجزة" للفيروس.

- التضليل السياسي ضد النشطاء: يشكل التضليل السياسي اداة قوية يستخدمها بعض الفاعلين السياسيين في العراق لقمع المعارضة واضعافها. ويشمل ذلك نشر معلومات مضللة واستخدام خطاب الكراهية والعنف ضدهم ونشر معلومات مضللة عبر وسائل الاعلام والسوشيال ميديا وشن حملات تشويه سمعة. وكذلك نشر معلومات مضللة لقمع حرية التعبير وحجب المعلومات او التلاعب بها لمنع الجمهور من معرفة الحقيقة حول قضايا مثل الفساد او انتهاكات حقوق الانسان

- استخدام الاغنوتولوجيا لنشر الكراهية والعنف الطائفي: غالبا ما يتم استخدام الاغنوتولوجيا لنشر الكراهية والعنف الطائفي. على سبيل المثال، قد يتم نشر خطاب كراهية ضد مجموعات عرقية او دينية معينة.

- استخدام لغة عاطفية بدلا من الحقائق:  لاثارة مشاعر الخوف او الغضب لدى الجمهور، مما يجعله اكثر عرضة للتأثر بالرسائل المضللة.

- التعميم بدلا من تقديم تفاصيل محددة:  لاخفاء المعلومات المهمة.

- نشر معلومات مضللة من قبل جهات سياسية:  لجعل الجمهور اكثر عرضة لتصديقها.

من المهم ملاحظة ان هذه مجرد امثلة قليلة، وان هناك العديد من الطرق الاخرى التي يمكن من خلالها استخدام الاغنوتولوجيا في التضليل السياسي.

للتصدي للتضليل السياسي، من المهم ان يكون لديك وعي نقدي للمعلومات التي تستهلكها، وان تبحث عن مصادر موثوقة، وان تفكر بطريقة انتقادية في ادعاءات الاخرين. بالاضافة الى ذلك، من المهم دعم الصحافة المستقلة والمنظمات المدنية التي تعمل على مكافحة التضليل الاعلامي.

***

ا. د. محمد الربيعي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

- ما مدَى علم بعض سلفنا الصالح باللُّغة العَرَبيَّة؟ أ وليس من شروط المفسِّر، مثلًا، التبحُّر في علوم العَرَبيَّة والبلاغة؟ ولا سيما أنَّ معجزة «القرآن» الأُولَى والمعلَنة لُغويَّةٌ بلاغيَّة، لا فلكيَّة، ولا طبيَّة، ولا عدديَّة! [سألتُ مولانا (ذا القُروح)، بعد ما أثاره حول الموضوع في المساق السابق].

- لا جدال في ذلك. أمَّا في عصرنا، فقد بات يخوض في التفسير كلُّ من فشل في مجال تخصُّصه! فالمهندسون الزراعيُّون، بدل أن يشتغل أحدهم بالطماطم والخيار والبقدونس، يختار أن يشتغل مهندسًا تفسيريًّا للقرآن؛ ليكشف لنا، مثلًا، عن أسرار (سُورة يونس)، فإذا هي تتفتَّح له أكمام القنوات الفضائيَّة العَرَبيَّة على مصاريعها، ليصرعنا صبحًا وعشيًّا بإلهاماته العجيبة! وهذه تجارةٌ لن تبور، أربحُ له بكثير من الهندسة الزراعيَّة! والمهندسون الميكانيكيُّون كذلك، بدل أن يفتح أحدهم ورشة ميكانيكا، يفتح ورشة تفسيرٍ على ناصية إحدى القنوات؛ وللغايات نفسها!

- ولا تغمط الأطباء وغيرهم نصيبهم في هذه السوق الحديثة!

- وثَمَّة، إذن، معجزةٌ في الأمر، يؤكِّدها أنَّ هؤلاء المعجزين- أقصد المهندسين- ينتمون إلى بلدٍ عربيٍّ واحد، غالبًا! فجأة نزل عليهم إلهامٌ تفسيريٌّ في القرن الماضي وهذا القرن لكشف أسرار «القرآن»، وليس هذا بمصادفةٍ ولا بعبث!

- لكن ماذا عن سلفنا الصالح؟ تُرى ما مدَى علم (ابن كثير، -774هـ= 1373م)، أو قبله (الطَّبري، -310هـ= 923م)، مثلًا، وهما أبرز أعلام التفسير، بعلوم اللُّغة العَرَبيَّة، بل باللُّغة العَرَبيَّة في ذاتها، ودع عنك (علومها)؟

- ليس الكمال إلَّا لربِّ الكمال وحده. وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، وليس فوق النقد. لننظر! كيف تجد الأوَّل يورد في تفسير الآية «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»، بعد سلسلةٍ من الروايات ساقها في معنى «جَدِّ رَبِّنا»: «فأمَّا ما رواه ابن أبي حاتم: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدَّثنا سُفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: الجَدُّ: أبٌ. ولو عَلِمَتِ الجِنُّ أنَّ في الإنس جَدًّا، ما قالوا: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا». فهذا إسنادٌ جيِّد، ولكن لستُ أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعلَّه قد سقط شيء، والله أعلم.»(1) وذلك بعد أن أوردَ رواياتٍ أخرى حول معنى «الجَدِّ»، لم يلتفت قَطُّ في واحدةٍ منها إلى كلام العَرَب، بل إلى: قال فلان عن فلان، وحدَّثنا شعبان عن رمضان. ما يعني أنه هنا ناقل روايات، لا أكثر. وروايته الأخيرة هذه أغرب وأفدح. فكيف يُقبَل أنَّ معنى «الجَدِّ» هو «الأب» في الآية؟! ثمَّ كيف يحتجُّ بعِلم الجِنِّ على ما وردَ في «القرآن»؟ وهل جاء «القرآن» لينقل حرفيًّا ما قالوا، وإنْ جهلوا وأخطأوا، أم «القرآن» يحكي عن لسانهم ببيانه، لا بعِيِّهم وجهالتهم المفترضة؟ ثمَّ هل الإسناد الجيِّد يشفع لإيراد مثل هذه الرواية الغريبة؟ ليُعتذر عنها بعدم فهم هذا الكلام! فهذا الكلام مفهوم، لكنه ساقط المعنى، مهما صحَّ إسناده. وما بُني على باطلٍ فهو أبطل. ما بُني على ذلك الفهم الخاطئ- وهو أنَّ الجِنَّ لو عَلِمت أنَّ في الإنس «جَدًّا» ما قالوا: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»- أشنع. لأنه يعني أنَّ «القرآن» يسوق ما يقال، وإنْ حمل جهالةً في المعنى أو في التعبير، وإنْ تعلَّق بالذات الإلهيَّة، بأن يجعل لها جَدًّا، في سياق ينفي عنها الصاحبة والولد. ثمَّ كأنَّ الإشكال إنَّما يكمن في «جَدِّ الإنس»، الذي لم يعلم الجِنُّ عن وجوده! وليس في «الجَدِّ= الأب» من حيث هو. بل كيف افترض عدم معرفة الجِنِّ ذلك؟ أكان معهم؟ أم سألهم؛ ليوثِّق لنا المسألة؟ مَن افترض هذا عِلَّته جهله هو بالمشترك اللفظي، وهو أنَّه لا يَعلم للكلمة معنى في اللُّغة غير (أبي الأب)؛ فما وجد مَخرجًا إلَّا في ذلك الافتراض، وعَزْوِه إلى عالَم الجِنِّ البُرآء.

- ولقد كانت في أقرب مرجع في لغة العَرَب وأدبهم مَنْجاةٌ من هذه التُرَّهات.

- نعم، كما كانت في ذلك مَنْجاةٌ عن إزجاء المطاعن، عبر هذا الجهل المعنعن، للطاعنين، وتنزيه «القرآن» عن ذلك كلِّه. ألم يسمع هؤلاء- من الإنس والجِن معًا!- قول (عنترة)، مثلًا:

يُكَلِّفُني أَنْ أَطلُبَ العِزَّ بِالقَنا ::: وأَينَ العُلَى إِنْ لَم يُساعِدْنِيَ الجَدُّ؟

فإنْ ينزهوا «القرآن» عن كلام الشعراء، أ فلم يفتحوا كتاب لُغة، أو معجمًا، ليقرؤوا ما ورد في «لسان العَرَب»، مثلًا، من قولهم: «الجَدُّ: البَخْتُ والحُظْوَةُ. والجَدُّ: الحَظُّ والرِّزق؛ يقال: فلان ذو جَدٍّ في كذا أَي: ذو حَظٍّ؛ وفي حديث القيامة: قال، صلى الله عليه وسلم: «قُمتُ على باب الجَنَّة، فإِذا عامَّة من يدخلها الفقراء، وإِذا أَصحاب الجَدِّ محبوسون.» أَي: ذوو الحَظِّ والغِنَى في الدُّنيا. وفي الدُّعاء: «لا مانعَ لما أَعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»، أَي: مَن كان له حَظٌّ في الدُّنيا، لم ينفعه ذلك منه في الآخرة. والجمع: أَجدادٌ، وأَجُدٌّ، وجُدودٌ، (عن سيبويه). وقال (الجوهري): أَي لا ينفع ذا الغِنى عندك، أَي لا ينفع ذا الغِنى منك غِناه. وقال (أَبو عُبَيد)، في هذا الدُّعاءُ: الجَدُّ، بفتح الجيم لا غير، وهو الغِنى والحَظُّ؛ قال: ومنه قيل: لفلانٍ في هذا الأَمر جَدٌّ، إذا كان مرزوقًا منه، فتأَوَّل قوله: لا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، أَي لا ينفع ذا الغِنى عنك [كذا! والصواب: عندك] غِناه، إِنَّما ينفعه الإِيمان والعمل الصالح بطاعتك؛ قال: وهكذا قوله: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»؛ وكقوله تعالى: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى»... قال أَبو عُبَيد: وقد زعمَ بعض الناس أَنَّما هو ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ، والجِدُّ إِنَّما هو الاجتهاد في العمل؛ قال: وهذا التأويل خلاف ما دعا إِليه المؤمنين ووصفَهم به؛ لأَنه قال في كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ، كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا»؛ فقد أَمرهم بالجِدِّ والعمل الصالح، وحَمِدهم عليه، فكيف يَحمدهم عليه وهو لا ينفعهم؟! وفلانٌ صاعدُ الجَدِّ: معناه البَخْتُ والحَظُّ في الدُّنيا. ورجلٌ جُدٌّ، بضم الجيم، أَي مجدودٌ عظيم الجَدِّ؛ قال سيبويه: والجمع جُدُّون، ولا يُكَسَّرُ، وكذلك جُدٌّ وجُدِّيٌّ ومَجْدُودٌ وجَديدٌ. وقد جَدَّ وهو أَجَدُّ منك أَي أَحَظُّ... أَبو زيد: رجلٌ جَديد، إذا كان ذا حَظٍّ من الرِّزق، ورجلٌ مَجدودٌ مثله. ابن بُزُرْج: يقال هم يَجِدُّونَ بهم ويُحْظَوْن بهم، أَي: يصيرون ذا [كذا! ولعلَّه «ذوي»] حَظٍّ وغِنى. وتقول: جَدِدْتَ يا فلان، أَي: صِرتَ ذا جَدٍّ، فأَنت جَديدٌ حَظيظٌ، ومجدودٌ محظوظ. وجَدَّ: حَظَّ. وجَدِّي: حَظِّي، عن ابن السِّكِّيت. وجَدِدْتُ بالأَمر جَدًّا: حظيتُ به، خيرًا كان أَو شرًّا. والجَدُّ: العَظَمَةُ. وفي التنزيل العزيز: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»؛ قيل: جَدُّه عَظَمته، وقيل: غِناه، وقال مجاهد: جَدُّ رَبِّنا جلالُ رَبِّنا، وقال بعضهم: عَظَمة رَبِّنا؛ وهما قريبان من السَّواء. [قال ابن عبَّاس: ولو عَلِمتِ الجِنُّ أنَّ في الإنس جَدَّا، ما قالت: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»؛ معناه: أَنَّ الجِنَّ لو عَلِمت أَنَّ أَبا الأَبِ في الإِنس يُدعَى جَدًّا، ما قالت الذي أخبر الله عنه في هذه السُّورة عنها]. وفي حديث الدُّعاء: «تبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك»، أَي علا جَلالُك وعَظَمتك. والجَدُّ: الحَظُّ والسعادةُ والغِنَى: وفي حديث أَنس: أَنَّه كان الرَّجُل مِنَّا إذا حَفِظ (البقرة وآل عمران)، جَدَّ فينا، أَي عَظُم في أَعيُننا، وجَلَّ قَدرُه فينا، وصار ذا جَدٍّ. وخَصَّ بعضهم بالجَدِّ عَظَمة الله عزَّ وجَلَّ، وقول أَنس هذا يَرُدُّ ذلك؛ لأَنَّه قد أَوقعه على الرَّجُل. والعَرَب تقول: سُعِيَ بِجَدِّ فلانٍ، وعُدِيَ بجَدِّه، وأُحْضِرَ بِجَدِّه، وأُدْرِكَ بِجَدِّه، إذا كان جَدُّه جَيِّدًا. وجَدَّ فلانٌ في عَيني يَجِدُّ جَدًّا، بالفتح: عَظُم.»

- وها أنت ذا ترى أرباب اللُّغة أنفسهم قد ساقوا الرواية المنسوبة إلى (ابن عبَّاس).

- أجل. وما أكثر ما حُمِل على (ابن عبَّاس) في تراثنا من الروايات، بل من الخرافات والأساطير أحيانًا!(2) لكنَّ ابن عبَّاس لم يقل: إنَّ معنى الجَدِّ في الآية «أبٌ، أو أبو أب»، بل أراد- حسبما يُستشفُّ من شرح (ابن منظور) الآنف- أنهم لو عَلِموا المعنى الآخَر لكلمة (جَدٍّ)، وهو: (أبو الأب)، لنزَّهوا الله عن استعمالها في هذا السياق.

- لكن يا للعجب! كيف لا يشمئز هؤلاء من معنى كلامهم، حين يزعمون أنَّ «القرآن» يورد كلام الجنِّ على عواهنه وعواره المزعوم.

- ثمَّ كيف يعتذرون بالجِن وبجهلهم مع أن كلمة «الجَدِّ» ذات معنى عَرَبي «إنسي»، وقد وردت في كلام العَرَب، كما رأينا، قبل نزول «القرآن»، بل في كلام الرسول نفسه، وفي معرض الدُّعاء لله؟!

- واضحٌ أن (ابن كثير) إنَّما أورد الرواية ليردَّها. لكنه ما كان له أن يوردها أصلًا، أمَّا وقد أوردها، فقد كان عليه أن يردَّها ردًّا عِلميًّا لُغويًّا، غير مكتفٍ بالقول: «لستُ أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعلَّه قد سقط شيء، والله أعلم!» 

- ذلك وباء الرواية الشفويَّة في التراث، فإنَّما يقع مثل هذا عن الحرص على النقل، والتكثُّر من العنعنات، والتعالم بكلِّ روايةٍ شاردةٍ أو واردة، ليصنع ذلك كل هذا النسيج المتضارب، والأمشاج المتقاطعة، لتبتلينا. فيغدو كتاب المؤلِّف من هؤلاء «حطب ليل»، في غياب تفكير، وتأمُّل، وتحليل، ونقد، يتلوه غياب تحقيقٍ يستحق هذا الاسم في عصرنا الحديث. ولقد عبَّر عن هذا الوباء الروائي في تراثنا (المسعودي، -346هـ= 957م)، بما يدلُّ على أنها مصنَّفات لا مؤلَّفات في معظمها.

- ما الفرق؟

- (المؤلَّف) فيه قدرٌ من تحليل المادَّة ومقارنتها ونقدها. أمَّا (المُصنَّف)، فعلى اسمه، جمعٌ وتصنيف، أي ترتيب وتبويب للمادَّة، لا أكثر.

- ماذا قال (المسعودي)؟

- قال- وقد صدقَ في التعبير عن معظم التأليف قديمًا- عن (الجاحظ، -255هـ= 868م)، مثلًا: «وإنَّما كان حاطبَ ليل، ينقل من كُتب الورَّاقين.»(3) ويصحُّ هذا أكثر على من يتلقَّف الروايات بلا تمحيص. وقال في موضع آخَر: «ولولا أنَّ المِكثار كحاطب ليل، والإيجاز لمحةٌ دالَّة، ووَحْيٌ صَرَّح عن ضمير، والبلاغة إيضاحٌ بإيجاز، لأسهبتُ في هذا الباب.»(4) بل إنَّه ليبدو واصفًا نفسه هو بما وصف به غيره من المصنِّفين، حيث قال: «ولولا أنَّ المُصَنِّف حاطبُ ليلٍ؛ لذِكره في تصنيفه مِن كلِّ نوع، لما ذكرنا هذه الأخبار؛ إذ الناس من أهل العِلم والدِّراية في قبول الأخبار على وجوه.»(5)

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السَّلامة، (الرِّياض: دار طيبة)، 8: 238 (تفسير سورة الجِن).

(2)  ذلك أن الاضطرار إلى العنعنات الشفهيَّة في القرنين الأوَّل والثاني من الهجرة دليل على أنْ لم تكن بين أيديهم مدوَّنات سابقة مطلقًا، وأنَّ سابقيهم، لم يجمعوا، ولم يكتبوا، ولم يروا لذلك ضرورة، بل رأوا فيه ضررًا. ولعلَّهم كانوا محقِّين في بعض ذلك، فما تمزَّقت فِرق الإسلام، وتشعَّبت بها السبل، إلَّا بعد أن اتخذت كلُّ طائفةٍ من تلك المرويَّات المدوَّنة مصدر تشريعها.

(3)  المسعودي، (1978)، مُرُوْج الذَّهب ومعادن الجوهر، عُني بفهرسته: يوسف أسعد داغر، (بيروت: دار الأندلس)، 1: 67.

(4)  م.ن، 1: 265.

(5)  م.ن، 2: 408.

 

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) تقنية شائعة بشكل متزايد في العالم الحديث، مما يؤثر على جوانب مختلفة من المجتمع بما في ذلك النظام القانوني. في القرن الحادي والعشرين، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث ثورة في الإطار القانوني، لكنه يطرح أيضًا تحديات يجب معالجتها. ستستكشف هذه المقالة تأثير الذكاء الاصطناعي على النظام القانوني والإطار القانوني في القرن الحادي والعشرين.

إحدى الطرق الرئيسية التي يؤثر بها الذكاء الاصطناعي على النظام القانوني هي من خلال الأتمتة. يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي تبسيط العمليات القانونية من خلال أتمتة المهام المتكررة، مثل مراجعة المستندات وصياغة العقود. يمكن أن يساعد هذا المحامين في توفير الوقت والتركيز على المهام الأكثر تعقيدا واستراتيجية، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة الكفاءة والإنتاجية في المهنة القانونية. ومع ذلك، فإن التبني الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي في النظام القانوني يثير المخاوف بشأن النزوح الوظيفي المحتمل للمهنيين القانونيين.

طريقة أخرى يؤثر بها الذكاء الاصطناعي على الإطار القانوني من خلال التحليلات التنبؤية. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات للتنبؤ بالنتائج والاتجاهات القانونية، مما يساعد المحامين على اتخاذ قرارات أكثر استنارة. يمكن أن يؤدي هذا إلى إدارة أكثر كفاءة للقضايا ونتائج أفضل للعملاء. ومع ذلك، هناك مخاوف بشأن التحيزات المحتملة في خوارزميات الذكاء الاصطناعي والآثار المترتبة على العدالة والإنصاف في النظام القانوني.

كما أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تعزيز الوصول إلى العدالة من خلال جعل الخدمات القانونية أكثر بأسعار معقولة ويمكن الوصول إليها. يمكن لروبوتات الدردشة والمساعدين الافتراضيين الذين يعملون بالذكاء الاصطناعي تقديم المعلومات القانونية والتوجيه للأفراد الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الخدمات القانونية التقليدية. يمكن أن يساعد هذا في سد فجوة العدالة وضمان وصول الجميع إلى النظام القانوني. ومع ذلك، هناك تحديات في ضمان دقة وموثوقية الخدمات القانونية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي.

إن استخدام الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني يثير أيضا قضايا أخلاقية وخصوصية مهمة. غالبا ما تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات الشخصية، مما يثير مخاوف بشأن خصوصية البيانات وأمنها. هناك أيضا مخاوف بشأن إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تنتهك حقوق الأفراد وحرياتهم. من الأهمية بمكان أن يطور صناع السياسات أطرًا قانونية قوية لمعالجة هذه المخاوف الأخلاقية والخصوصية وضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول في النظام القانوني.

وعلاوة على ذلك، فإن صعود الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني له آثار على التعليم والتدريب القانوني. تحتاج كليات الحقوق والمهنيون القانونيون إلى التكيف مع المشهد المتغير للمهنة القانونية من خلال دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مناهجهم وممارساتهم. وهذا يتطلب التحول نحو المزيد من النهج متعددة التخصصات للتعليم القانوني، ودمج مهارات التكنولوجيا وعلوم البيانات في التدريب القانوني التقليدي. وهذا من شأنه أن يساعد في ضمان استعداد المهنيين القانونيين للتنقل بين تعقيدات الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني.

بالإضافة إلى ذلك، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني أطر تنظيمية جديدة لحكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الممارسة القانونية. يحتاج صناع السياسات إلى وضع إرشادات ومعايير لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المهنة القانونية، بما في ذلك قضايا مثل الشفافية والمساءلة والإنصاف. وهذا من شأنه أن يساعد في التخفيف من المخاطر المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني وضمان استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة وأخلاقية.

وعلاوة على ذلك، يتطلب دمج الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني التعاون بين المهنيين القانونيين وخبراء التكنولوجيا وصناع السياسات. ومن الضروري أن يعمل أصحاب المصلحة معًا لتطوير أفضل الممارسات والمعايير لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المهنة القانونية. إن هذا التعاون من شأنه أن يساعد في معالجة التحديات والفرص التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني، وضمان دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة تعود بالنفع على المجتمع ككل.

بشكل عام، يقدم دمج الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني فرصا وتحديات للإطار القانوني في القرن الحادي والعشرين. يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث ثورة في المهنة القانونية من خلال زيادة الكفاءة وتحسين الوصول إلى العدالة وتعزيز النتائج القانونية. ومع ذلك، هناك مخاوف بشأن تشريد الوظائف، والقضايا الأخلاقية والخصوصية، والحاجة إلى أطر تنظيمية جديدة. ومن الأهمية بمكان أن يعمل أصحاب المصلحة معا لمعالجة هذه التحديات وضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي في النظام القانوني. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي لتحويل الإطار القانوني وتحسين الوصول إلى العدالة للجميع.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: جيسون داربي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تؤكد العديد من الدراسات الحديثة والتقليدية في علم النفس على خمسة أبعاد أساسية للشخصية. تزايدت الأدلة على هذه النظرية على مر السنين مع ظهور النظرية الأساسية في عام 1949. السمات الشخصية الخمس العريضة التي وصفتها النظرية هي الانبساط ، والقبول، والانفتاح، والضمير، والعصابية.

السمات الشخصية الخمس الأساسية هي نظرية تم تطويرها في عام 1949 من قبل د. دبليو فيسك (1949) وتوسعت لاحقًا من قبل باحثين آخرين، بما في ذلك نورمان (1967)، وسميث (1967)، وجولدبرج (1981)، وماكراي وكوستا (1987).

لقد أمضى الباحثون سنوات قبل أن يحاولوا تحديد سمات الشخصية كوسيلة لتحليل سلوك الناس. في مرحلة ما، اكتشف جوردون ألبورت أكثر من 4000 سمة. وحتى عندما تم تخفيض هذا الرقم إلى 16، كان يُنظر إليه على أنه معقد للغاية. هذا هو المكان الذي بدأت فيه السمات الشخصية الخمس الكبرى.

وكانت هذه الفئات العريضة موضوع بحث وتطوير على مر السنين، وعلى الرغم من وجود دراسات مستفيضة في كل مجال، إلا أن الباحثين لا يتفقون دائمًا على تعريف كل سمة.

ما هي السمات الشخصية الخمسة الكبرى؟

1- الانفتاح/ Openness

الانفتاح صفة تتضمن الخيال والبصيرة. يعد العالم والأشخاص الآخرين والرغبة في التعلم وتجربة أشياء جديدة أمرًا مرتفعًا بشكل خاص بالنسبة لهذه السمة الشخصية. إنه يؤدي إلى وجود مجموعة واسعة من الاهتمامات ويكون أكثر ميلاً إلى المغامرة عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار.

يلعب الإبداع أيضًا دورًا كبيرًا في سمة الانفتاح؛ وهذا يؤدي إلى منطقة راحة أكبر عندما يتعلق الأمر بالتفكير المجرد والجانبي.

فكر في ذلك الشخص الذي يطلب دائمًا أكثر الأشياء غرابة في القائمة، ويذهب إلى أماكن مختلفة ولديه اهتمامات لم تكن لتفكر فيها أبدًا... إنه شخص يتمتع بسمة انفتاح عالية.

يميل أي شخص لديه مستوى منخفض من هذه السمة إلى أن يُنظر إليه على أنه يتبع أساليب أكثر تقليدية في الحياة وقد يكافح من أجل حل المشكلات خارج منطقة الراحة الخاصة به من المعرفة.

2- الضمير الحي/Conscientiousness

الضمير هو سمة تتضمن مستويات عالية من التفكير، والتحكم الجيد في الاندفاعات، والسلوكيات الموجهة نحو الهدف. غالبًا ما يوجد هذا النهج المنظم والمنظم لدى الأشخاص الذين يعملون في مجال العلوم وحتى تمويل التجزئة العالية حيث يلزم التوجيه التفصيلي والتنظيم كمجموعة مهارات.

سيخطط الشخص ذو الضمير العالي بشكل منتظم للمستقبل ويحلل سلوكه ليرى مدى تأثيره على الآخرين. تضم فرق إدارة المشاريع وإدارات الموارد البشرية بانتظام أشخاصًا ذوي ضمير عالٍ يعملون في فرقهم للمساعدة في تحقيق التوازن بين الأدوار الهيكلية ضمن التطوير الشامل للفريق.

من الأمثلة الجيدة على الشخص الذي يتحلى بالضمير الحي هو شخص تعرفه ويخطط دائمًا للمستقبل في المرة القادمة التي تقابل فيها - وفي هذه الأثناء، يظل على اتصال بانتظام، ويتحقق من صحتك. إنهم يحبون التنظيم حول تواريخ وأحداث معينة ويركزون عليك عندما تلتقي.

يميل الأشخاص ذوو الضمير المنخفض إلى كره الهيكلة والجداول الزمنية، والمماطلة في المهام المهمة، والفشل في إكمال المهام أيضًا.

3- الانبساط/Extraversion

الانبساط هو سمة قد يصادفها الكثيرون في حياتهم الخاصة. يمكن التعرف عليه بسهولة ويمكن التعرف عليه على نطاق واسع على أنه "شخص ينشط بصحبة الآخرين".

هذا، من بين السمات الأخرى التي تشمل الثرثرة والحزم والكميات الكبيرة من التعبير العاطفي، جعلت الأشخاص المنبسطين معروفين على نطاق واسع على مدار سنوات عديدة من التفاعل الاجتماعي.

لدينا جميعًا صديقًا واحدًا أو أحد أفراد العائلة - أو عدة أفراد - لا يمثلون زهورًا حائطية في التفاعل الاجتماعي. إنهم يزدهرون لكونهم مركز الاهتمام، ويستمتعون بمقابلة أشخاص جدد ويميلون بطريقة ما إلى أن يكون لديهم أكبر مجموعة من الأصدقاء والمعارف الذين عرفتهم.

والعكس بالطبع هو وجود شخص آخر في حياتنا قد نعرفه، وهو شخص انطوائي. إنهم يفضلون العزلة ولديهم طاقة أقل في المواقف الاجتماعية. قد يكون كونك مركز الاهتمام أو الدردشة أمرًا مرهقًا للغاية.

يميل المنبسطون إلى القيام بأدوار عامة جدًا بما في ذلك مجالات مثل المبيعات والتسويق والتدريس والسياسة. نظرًا لكونهم قادة، فإن الأشخاص المنبسطين سيكونون أكثر عرضة للقيادة من الوقوف وسط الحشود وسيُنظر إليهم على أنهم لا يفعلون أي شيء.

4- القبول / Agreeableness

الأشخاص الذين يظهرون درجة عالية من القبول سيظهرون علامات الثقة والإيثار واللطف والمودة. يميل الأشخاص المقبولون للغاية إلى أن يكون لديهم سلوكيات اجتماعية إيجابية عالية، مما يعني أنهم أكثر ميلًا لمساعدة الآخرين. تعد المشاركة والراحة والتعاون من السمات التي تناسب أنواع الشخصيات المقبولة للغاية. يُفهم التعاطف تجاه الآخرين بشكل عام على أنه شكل آخر من أشكال القبول حتى لو لم يكن المصطلح مناسبًا تمامًا.

تعد المشاركة والراحة والتعاون من السمات التي تناسب أنواع الشخصيات المقبولة للغاية. يُفهم التعاطف تجاه الآخرين بشكل عام على أنه شكل آخر من أشكال القبول حتى لو لم يكن المصطلح مناسبًا تمامًا.

عكس القبول هو عدم القبول ولكنه يتجلى في سمات سلوكية غير سارة اجتماعيًا. التلاعب والخسة تجاه الآخرين، وقلة الاهتمام أو التعاطف، وعدم الاهتمام بالآخرين ومشاكلهم، كلها أمور شائعة جدًا.

يميل الأشخاص الذين يمتعون بالقبول إلى العثور على وظائف في المجالات التي يمكنهم تقديم المساعدة فيها أكثر. العاملون في المؤسسات الخيرية والطب والصحة العقلية وحتى أولئك الذين يتطوعون في مطابخ الحساء ويكرسون وقتهم للقطاع الثالث (الدراسات الاجتماعية) يحتلون مرتبة عالية في مخطط القبول.

5- العصبية/Neuroticism

تتميز العصابية بالحزن وتقلب المزاج وعدم الاستقرار العاطفي. غالبًا ما يتم الخلط بينه وبين السلوك المعادي للمجتمع، أو ما هو أسوأ من ذلك أنه مشكلة نفسية أكبر، فالعصابية هي استجابة جسدية وعاطفية للتوتر والتهديدات المتصورة في الحياة اليومية لشخص ما.

الأفراد الذين يظهرون مستويات عالية من العصابية يميلون إلى تجربة تقلبات مزاجية وقلق وتهيج. بعض الأفراد الذين يعانون من تغيرات مفاجئة في الشخصية من منظور يومي يمكن أن يكونوا عصبيين للغاية ويستجيبون لمستويات التوتر العالية في عملهم وحياتهم الشخصية.

القلق، الذي يلعب دورًا كبيرًا في تكوين العصابية، يتعلق بقدرة الفرد على التعامل مع التوتر والمخاطر المتصورة أو الفعلية. الأشخاص الذين يعانون من العصابية سوف يفرطون في التفكير في الكثير من المواقف ويجدون صعوبة في الاسترخاء حتى في مساحتهم الخاصة.

بطبيعة الحال، فإن أولئك الذين يحتلون مرتبة أدنى على المستوى العصابي سيظهرون موقفًا أكثر استقرارًا ومرونة عاطفيًا في مواجهة التوتر والمواقف. نادرًا ما يشعر الأشخاص الذين يعانون من انخفاض العصابية بالحزن أو الاكتئاب، ويأخذون وقتًا للتركيز على اللحظة الحالية ولا ينخرطون في الحساب الذهني حول العوامل المحتملة المسببة للتوتر.

من الذي طور السمات الشخصية الخمس الكبرى؟

تم تطوير السمات الشخصية الخمس الكبرى في الأصل في عام 1949، وهي نظرية وضعها د. دبليو فيسك وطورها لاحقًا باحثون آخرون، بما في ذلك نورمان (1967)، وسميث (1967)، وجولدبرج (1981)، ومكراي وكوستا (1987).

يُقترح أنه في أوائل القرن التاسع عشر، كان علماء النفس الاجتماعي يحاولون الحصول على فهم علمي أكثر للشخصية، ولكن لم يكن حتى أول دراسة رسمية في ثلاثينيات القرن العشرين أجراها جوردون ألبورت وهنري أودبرت أن الشخصية حظيت بنوع من الاعتراف العلمي. لقد أخذوا 18000 كلمة من قاموس ويبستر لوصف سمات الشخصية ووجدوا صفات تصف الخصائص غير الجسدية مما أدى إلى إنشاء بنك مكون من 4500 كلمة من علامات السلوك التي يمكن ملاحظتها.

تمكنت الدراسات اللاحقة من تحديد العديد من التداخلات والسمات المحددة لكل شخص مما سمح بمراجعة أكثر كثافة وشمولاً لسمات الشخصية. لا تزال الخمسة الكبار تستخدم على نطاق واسع اليوم كأساس للدراسة العالمية.

لماذا تعتبر السمات الشخصية الخمس الكبرى مهمة؟

عند التفكير في السمات الشخصية الخمس الكبرى، من الحكمة أن يفكر مديرو التوظيف والرؤساء التنفيذيون وحتى المرشحين في سبب أهميتها عندما يتعلق الأمر بالانضمام إلى فريق. قبل أن نخوض في أسباب أهميتها، دعونا نذكر أنفسنا بسرعة بما هي عليه.

السمات الشخصية الخمس الواسعة التي وصفتها النظرية هي الانبساط ، والقبول، والانفتاح، والضمير، والعصابية.

السمات الشخصية الخمس الأساسية هي نظرية صاغها د. دبليو فيسك (1949) عام 1949 وتوسع فيها لاحقًا باحثون آخرون بما في ذلك نورمان (1967)، وسميث (1967)، وجولدبرج (1981)، وماكراي وكوستا (1987).

إذًا، ما سبب أهميتها عندما يتعلق الأمر باختيار المرشحين؟

لا تساعدنا السمات الشخصية الخمس الكبرى على فهم أفضل لكيفية مقارنتهم بالآخرين وتسمية خصائصهم فحسب، ولكنها تُستخدم أيضًا لاستكشاف العلاقات بين الشخصية والعديد من مؤشرات الحياة الأخرى.

فكر في معرفة مدى قبول شخصيتك وماذا يعني ذلك بالنسبة لعلاقات زملاء العمل؟ أو كيف يمكن أن يكون للعصابية تأثير على التوازن بين العمل والحياة؟ بشكل عام، ومع ذلك، يمكننا أن نبدأ في تفصيل سبب أهميتها في مجالات مختلفة مثل؛

فهم علاقات الموظفين

كيف سيتعايش الناس؟ هل تقوم ببناء فريق حيث قد يكون التواصل أو الثقة مكبوتاً أو مفتوحاً؟ هل سيكون لديك عضو في الفريق يمكنه التواصل مع الآخرين ويكون ضميريًا مع الآخرين؟

بناء وإدارة فريق أكثر فعالية

يمكن أن تؤدي الميول الخمسة العالية في الانفتاح والقبول وحتى الانبساط إلى إدارة أفضل للفريق وبناء الفريق. على سبيل المثال، الشخص الذي يُظهر درجة عالية من القبول يكون قادرًا على أن يكون متعاونًا وجديرًا بالثقة ومباشرًا، مما يسهل العمل معه ولكنه أيضًا يُظهر المهارات اللازمة لإدارة الفريق بشكل فعال.

فهم دوافع الموظفين

إن الميول الضعيفة في شيء مثل الانبساط يمكن أن تجعل من الصعب فهم دوافع الموظفين. على الرغم من وجود ميل نحو القبول الذي يشمل التعاطف، فمن الأسهل الوصول إلى الأسباب الجذرية للدوافع وحتى الحصول على فهم أفضل للناس بشكل عام.

بناء فرق متنوعة

إن شيء مثل الانفتاح الشديد لقبول الاختلافات وقبول التحديات يمكن أن يؤدي إلى قدر أكبر من الانفتاح حول من يجب توظيفه، وإيجاد الحلول بطرق ومجالات مختلفة. في حين أن الفريق الذي يتكون في الغالب من أفراد يتمتعون بضمير حي هو الفريق الذي من المرجح أن ينجح.

غالبًا ما تُظهر هذه الفرق أخلاقيات عمل جيدة، وتنتج عملاً عالي الجودة وتكون متعاونة. سيؤدي هذا في المقابل إلى طرح المزيد من الحلول حول الأشخاص المطلوبين وأين يمكن بناء فرق متنوعة بمرور الوقت للمساعدة في الإجابة على هذه المشكلات.

تحسين التفاعلات والتواصل

مرة أخرى، قد يكون شيء مثل سمات الشخصية الانبساطية العالية أمرًا ضروريًا في تطوير التفاعلات، في حين أن كونك مقبولًا للغاية يكون أكثر ملاءمة للاتصالات المفتوحة.

ما هي العوامل التي تؤثر على السمات الخمس الكبرى؟

من الطبيعة والتنشئة إلى العمر والنضج، تمت دراسة هذه السمات الأساسية الخمس على نطاق واسع، حيث يمكننا معرفة تأثيرها على سلوك الشخص وشخصيته.

غالبًا ما يتم افتراض الشخصية على أنها مسألة تتعلق بالتنشئة أو الطبيعة. نظرت إحدى الدراسات المحددة في 123 زوجًا من التوائم المتماثلة و127 زوجًا من التوائم غير المتماثلة. "تشير النتائج إلى أن نسبة توريث كل سمة كانت 53% للانبساط، و41% للقبول، و44% للضمير، و41% للعصابية، و61% للانفتاح".

من المسلم به أيضًا على نطاق واسع أنه كلما تقدمنا في السن، كلما تغيرت سمات سلوكنا. نصبح أقل انبساطًا، وأقل عصبية، وأقل انفتاحًا على التجارب الجديدة، بينما ينمو قبولنا وضميرنا مع تقدمنا في السن.

هل يختلف الرجال والنساء في السمات الخمس الكبرى؟

الإجماع العام هو أن الرجال والنساء متشابهون في الواقع أكثر مما يريدنا علم الاجتماع المعياري أن نعتقده. ولكن كما يوحي العنوان، هناك بعض الاستثناءات.

في عام 2011، درس وينبرج وديونج  السمات الخمس الكبرى وتحديدًا الاختلافات بين الجنسين في الشخصية عبر عشرة جوانب من السمات الخمسة الكبرى. وخلصا إلى أن النساء سجلن درجات أعلى من الرجال في الانبساط والقبول والعصابية.

وخلصت دراسات أخرى إلى أنه حتى في حالة وجود اختلافات، فإن بعض السمات لا تختلف على نطاق واسع. تتوافق السمات السلوكية مثل القبول والانبساط مع بعضها البعض مع زيادة العمر، مع انخفاض درجات كلا الجنسين بمرور الوقت.

ما هي أنواع الشخصيات الخمس الكبرى التي تصنع أفضل القادة؟

إذا كنت تتطلع إلى بناء قائد عظيم، فأنت بحاجة إلى التفكير في أهمية نموذج الخمسة الكبار لأنه سيمنحك جميع الأدوات التي تحتاجها لفهم المكان الذي قد يختبئ فيه القادة في مؤسستك سرًا.

على سبيل المثال، قد تعتقد أن الشخص المنفتح قد يكون قائدًا جيدًا. على الرغم من أن المنفتحين يميلون إلى إظهار مهارات قيادية جيدة، وأن يكونوا اجتماعيين ويشجعون المناقشات، فقد أشارت الأبحاث إلى أن وجود عدد كبير جدًا من المنفتحين في الفريق يمكن أن يتسبب في الواقع في انخفاض الفعالية.

في حين أن الانبساط عادة ما يكون أقوى السمات، يليه الضمير الحي، والانفتاح على الخبرة، والعصابية، وأخيرًا القبول باعتباره الأقل شيوعًا، فمن المفيد التفكير في ما يميز القائد الجيد.

على سبيل المثال، يعد الضمير أو الانضباط الذاتي أحد أهم العوامل في القائد، خاصة في المواقف العصيبة عندما تكون المسؤولية والموثوقية مطلوبة.

إن ما تحصل عليه مع القائد الواعي هو شخص مجتهد في المهام الفردية وسيبقى معهم حتى الانتهاء منها، وبالتالي يمكن الاعتماد عليه للقيادة كشخص جدير بالثقة. إن شيئًا مثل كونك فردًا موثوقًا به يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالمعلومات المتعلقة بالمسألة المطروحة. في حين أنه قد يكون هناك العديد من أشكال الذكاء الأخرى التي قد يفتقر إليها الفرد، فإن المعرفة بالموقف ذي الصلة أمر أساسي.

الانفتاح على الخبرة مهم عند قيادة الفريق. سيجد القادة أنفسهم في مواقف خارجة عن سيطرتهم، وهي حالة تتطور باستمرار، حيث إذا كانت هناك مشكلة غير متوقعة أو شيء ما في الطريق، فإن قدرتهم على اتخاذ القرارات التنفيذية تكون إيجابية فقط. هناك أيضًا مستوى من الإبداع يأتي مع الانفتاح، وفي المواقف الصعبة أو الأوقات المربكة، يكون القائد واسع الحيلة - عادةً ما يكون الانفتاح العالي مفيدًا.

اثنتان من السمات الخمسة الكبرى  أقل جاذبية للأدوار القيادية هما العصابية والقبول. فى الأولى سنجد الفرق يقودها شخص غير متأكد من القرارات التي يتم اتخاذها وربما ما هو أسوأ من ذلك، حيث يكون خائفًا من القرار الذي يتم اتخاذه لذلك لا يتم اتخاذ أي قرار على الإطلاق. قد تتمتع الأخرى بمهارات أكثر في التعامل مع الأشخاص، لكن هذا لا يعني أن لديهم سمات قيادية. قد يجدون أنفسهم يرضون الناس بدلاً من وضع المهمة في الاعتبار.

ومع ذلك، فإن العنصر الرئيسي في كل هذا هو أن الخمس الكبرى ليست ثابتة ولا يعني أنه يمكن التنبؤ بالقادة على أساس نوع الشخصية. وهناك عوامل أخرى أكثر أهمية بكثير لتوظيف القادة وتدريبهم، ولكن هذا تمرين مفيد لأولئك الذين يتطلعون إلى الوصول إلى مناصب قيادية.

أهم 5 اختبارات للسمات الشخصية

يمكننا قياس السمات الشخصية بنجاح باستخدام أدوات وتقنيات مختلفة. بشكل عام، تحاول هذه الاختبارات اكتشاف مدى اختلاف سلوكك من الأعلى إلى الأدنى في السمات الخمس التي تشمل؛ الانفتاح والضمير والانبساط والقبول والعصابية.

كيف يتم قياس السمات؟

بشكل تقليدي، يتم إجراء اختبار الشخصية الخمسة الكبار باستخدام استبيان وإجابات متعددة الاختيارات.

على سبيل المثال، ستسأل هذه الأسئلة عن مدى موافقة الشخص أو عدم موافقته على أنه شخص يمثل عبارات محددة مختلفة، مثل:

* على استعداد لتجربة تجارب جديدة  (الانفتاح أو الانفتاح)

* التفكير دائمًا في الآخرين  (من أجل الضمير)

*  أن تكون مركز الاهتمام في إحدى الحفلات (للانبساط)

*  أن  يثق بالآخرين  (من أجل القبول)

*  القلق بشأن المستقبل طوال الوقت  (للعصابية أو الانفعالية السلبية)

الإجابات التي تتراوح من أوافق بشدة إلى أعارض بشدة (مع وجود خيارات بينهما) ستحدد على أي مقياس يمكن تصنيف الفرد عبر سمات الشخصية المختلفة.

هل يمكن الاعتماد على اختبارات الشخصية الخمس الكبرى؟

تعتبر التقييمات المبنية على الاختبارات الخمسة الكبرى للشخصية موثوقة للغاية، بشرط إجراء أبحاث كافية وإثباتها. بل هو، حتى الآن، النموذج النفسي الأكثر موثوقية وموثوقية لقياس الشخصية. يتم استخدامه للمساعدة في التنبؤ بالسلوك وكذلك الشخصية.

كما يظل نموذجًا موثوقًا تمكنت الشركات والدراسات العلمية من استخدامه باستمرار على مدى فترة طويلة من الزمن للمساعدة في إنشاء نماذج جديدة تتنبأ بسلوك الشخص في العمل، والاستجابة للمواقف العصيبة، وحتى فهم جوانب الدراسات الاجتماعية المسجلة.

كيف تتنبأ السمات الشخصية الخمس الكبرى بالسلوك في العمل؟

عند تعيين الموظفين (أو اختبار الموظفين الحاليين)، تساعدنا السمات الشخصية الخمس الكبرى على فهم السلوك في مكان العمل والتنبؤ بدقة، في كثير من الحالات، بالأداء المستقبلي. سيكون لكل نوع شخصية تأثير داخل بيئة العمل وبين الموظفين الآخرين.  إن القدرة على تحديد أين يمكن أن يكون هناك تأثير إيجابي أو سلبي يمكن أن تساعد في التأثير على القرارات المتعلقة بتعيين الموظفين أو الاحتفاظ بهم.

سيكون المرشحون الحاصلون على درجة انفتاح عالية على استعداد لتعلم مهارات وأدوات جديدة. عندما يتم تقديم مشاكل أكثر تجريدًا، فمن المرجح أن يفكروا في حلول مجردة وسيركزون على معالجة المشكلات الجديدة التي ربما تم تجاهلها سابقًا.

لن يكون من الضروري أن يجلس المرشحون الحاصلون على درجة عالية من الوعي في مكاتبهم حتى منتصف الليل كل مساء! ومع ذلك، سيكونون حريصين على إنجاز عملهم، والوفاء بالمواعيد النهائية، والبدء بأنفسهم؛ تتطلب القليل من الإمساك باليد لإنجاز المهمة. من ناحية أخرى، سيحتاج الشخص الذي يسجل نقاطًا منخفضة إلى مزيد من التركيز والوقت والاهتمام بالمهمة التي بين يديه.

ستعتمد درجة الانبساط المثالية على الدور الذي تقوم بتعيينه. يعتبر الأشخاص الذين يتمتعون بدرجات عالية من الانبساط، الذين يعتبرهم الكثيرون قادة في الفريق، أداءً جيدًا في البيئات التي يزدهرون فيها في التفاعل مع الآخرين: تتطلب المبيعات والتسويق والعلاقات العامة مهارات موجهة نحو الأشخاص. ومع ذلك، فإن إعدادات الوظائف الأكثر تقنية والتي تتطلب تركيزًا محددًا أو درجة من العزلة لن تكون مناسبة بشكل جيد.

إن المرشح الذي يُظهر درجة عالية من القبول سوف يتناسب مع الدور الذي يتطلب المهارات الشخصية والقدرة على أن يكون في خدمة الآخرين. وبطبيعة الحال، فإن العكس سيكون سيئاً في بيئة فريق قوية ويسبب مشاكل كبيرة من أجل العمل على تحقيق هدف أو مهمة مشتركة.

وأخيرًا، فإن المرشح الذي يُظهر درجة عالية من العصابية لن يكون مناسبًا لدور يتميز بالتغيير المستمر، أو المهام التي تتطلب ميولًا قوية للمبادرة، أو مستويات عالية من التوتر. ومع ذلك، فإن أولئك الذين لديهم درجات منخفضة من العصابية سوف يزدهرون في هذه الأنواع من سيناريوهات العمل.

تساعدنا هذه السمات على فهم الطريقة التي قد نتصرف بها في المستقبل، في مكان عملنا وفي ظل ظروف معينة. بالنسبة للشركات، يمكنهم تحديد المواهب المستقبلية، والعوائق، وحتى إمكانية النجاح.

كيف يمكن أن يساعدك توماس في العثور على الشخص المناسب لدورك؟

يغطي اختبار توماس وورك بليس للشخصية مجموعة من اختبارات الشخصية بناءً على نظرية الخمس الكبرى. يُعرف أيضًا باسم مؤشر السمات المحتملة العالية (أو HPTI)، وهو يوفر رؤية قيمة حول نقاط قوة الشخص وانحرافاته المحتملة، بما في ذلك إمكاناته القيادية.

تم تطوير HPTI بواسطة إيان ماكراي وأدريان فورنهام في عام 2006، بناءً على نموذج "الأمثلية"، الذي يفترض أن سمات الشخصية يمكن اعتبارها "مثالية" بناءً على متطلبات دور أو منصب معين، مثل القيادة التنفيذية العليا.

استنادًا إلى استبيان التقرير الذاتي، تحتوي الإجابات على 7 مستويات من الاتفاق على مقياس ليكرت 1-7 (1 "لا أوافق تمامًا" إلى 7 "أوافق تمامًا) مع 78 عنصرًا فريدًا، ويستغرق الاختبار أقل من 8 دقائق لإكماله.

***

....................

المؤلف: جيسون داربي/ Jayson Darby: عالم نفسي في مجال الأعمال يتمتع بخلفية قوية في إدارة المواهب، فقد كرس  مسيرته المهنية للاستفادة من العلوم النفسية والبيانات لإحداث تأثير مفيد داخل المؤسسات.

https://www.thomas.co/resources/type/hr-guides/what-are-big-5-personality-traits

ما قبل ظهور علم اللسانيات

قبل أن يظهر اصطلاح علم اللسانيات الذى هو غربى النشأة، كانت هناك اصطلاحات أخرى ظهرت على يد اللغويين العرب، وهى: فقه اللغة، علم اللغة، علم العربية، علم أصول اللغة، العربية وأصولها. فكل هذه الاصطلاحات وما شابهها تدور وتسبح فى فلك واحد، وكلها مضمونها هو الدرس اللغوى. فالعرب هم أصحاب التأسيس لهذه الاصطلاحات التى تدور كلها فى فلك واحد، وهذه الاصطلاحات بما تعنيه هى الأصل والأساس الذى اعتمدت عليه أوروبا والغرب فى تحقيق نهضة متقدمة فى مجال الدراسات اللغوية، ضمن رؤيتها ومنهجها فى تحقيق نهضة حضارية شاملة فى مختلف المجالات، بدأت منذ عصر النهضة فى القرن السادس عشر الميلادى.

ظهور مصطلح علم اللسانيات

علم اللسانيات هو اصطلاح غربى النشأة كما تعرفنا، وقد ظهر على يد العالم السويسرى " دى سوسير 1857 – 1913 " فهو مؤسس المصطلح والأب الروحى لعلم اللسانيات. ولم يكتب الذيوع لهذا المصطلح إلا بعد رحيل دى سوسير بثلاث سنوات أى عام 1916م، ذلك حين نـُشر كتابه " محاضرات فى علم اللسانيات " وهو مجموعة محاضرات ألقاها على طلابه، ولم يُنشر هذا الكتاب فى حياته، ولكن بعد موته قام طلابه بجمع محاضراته التى ألقاها عليهم تحت عنوان " اللسانيات " ثم نشروها بعنوان " محاضرات فى علم اللسانيات " تكريمًا لأستاذهم واعترافـًا بفضله، من هنا طار المصطلح فى ربوع أوروبا وانتقل إلى أمريكا وغيرها، ثم عرف طريقه إلى العربية، إذن هو مصطلح وليد القرن العشرين أسسه " دى سوسير " مطلع القرن العشرين، ثم انتشر عام 1916م.

وأول استعمال لمصطلح اللسانيات فى المجتمع العربى، كان فى الجزائر، إذ ظهر لأول مرة عند إنشاء معهد العلوم اللسانية التابع لجامعة الجزائر عام 1966م، ومنه انتقل إلى المغرب وغيرها من الأقطار العربية.

ولعل من أهم أسباب ذيوع مصطلح اللسانيات، هو:

1 – خفته وسهولته على اللسان، حتى صرنا نقول " لسانى " بدلا من " عالم لغة " فالمشتغل بعلم اللغة وأصولها وهذا المجال، أصبحنا ننسبه إلى هذا الاصطلاح ونقول " لسانى " فنفهم أنه عالم لغة. وصرنا نقول " الدرس اللسانى " بدلا من الدرس اللغوى.

2 – أنه يجمع العديد من المباحث اللغوية أو بعبارة أخرى يجمع كل مباحث اللغة ويحتويها، فإن اختلف بعضٌ حول دلالة مصطلحات علم اللغة وفقه اللغة وأصول اللغة وعلم العربية وأن بينها فروقـًا جوهرية، فإنه يأتى مصطلح " لسانيات " ليقطع أى لغط ويأخذ كل المباحث تحت عباءة مصطلح "لسانيات"، عدا مبحث الإشارات الجسمية.

مغالطات تزعم لـ " ديوى " إرهاصات تأسيس المصطلح

يهمنا هنا تخليص مسألة التأسيس الاصطلاحى من أكدار وشوائب قاتلة علقت بها، ذلك أن البعض ذهب إلى أن الفيلسوف الأمريكى " جون ديوى 1859 – 1952 " قد استخدم مصطلح اللسانيات فى تصنيفه العشرى الذى قسَّم فيه العلوم إلى عشرة أقسام جعل منها اللسانيات فى المرتبة الرابعة. وهذا خطأ فادح لأن ديوى استخدم مصطلح " اللغات " ولم يستخدم مصطلح اللسانيات. والخطأ هنا بدايته عند السادة المترجمين الذين ترجموا كلمة مستخدمة بمصطلح حديث عُرف فيما بعد، فبدلا من أن يترجموها " لغات " قالوا " لسانيات " ولم يكن ظهر اصطلاح لسانيات وقت أن وضع ديوى تصنيفه هذا، هنا وقع الخطأ والخلط، فتوهم نفر من الباحثين أن ديوى له إرهاصات تأسيس المصطلح ثم جاء دى سوسير وحدد معالمه، وهذا خطأ قد بيناه.

هل يعنى ظهور مصطلح لسانيات انقراض المصطلحات السابقة؟

لا. وهذه مسلمة بدهية، فولادة ابن لا تعنى موت الأب. إن ظهور مصطلح اللسانيات لا يعنى انقراض وغياب المصطلحات السابقة، وخير دليل على ذلك هو أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، حتى وإن انتشر مصطلح اللسانيات. كما أن المؤلفات الأولى التى حملت أسماء هذه الاصطلاحات قد حفظت لها البقاء والخلود، ومنها " الصاحبى فى فقه اللغة " لابن فارس، " فقه اللغة وسر العربية " للثعالبى. فضلا عن الكم الهائل من الدراسات والمؤلفات الحديثة التى تحمل من العناوين مثل: فقه اللغة، دراسات فى فقه اللغة، علم اللغة، دراسات فى علم اللغة، دراسات فى أصول اللغة. وغير ذلك من عناوين تسبح فى فلك هذه الاصطلاحات.

والذى نقرره هنا أنه لولا هذه الاصطلاحات لمَا ظهر اصطلاح اللسانيات الذى وضعنا مفهومه فى سياق حديثنا، فهو العلم الذى يدرس كل الظواهر والنظريات المتعلقة بالنشاط اللسانى. عدا مبحث الإشارات الجسمية فهو طريقة ولغة تواصلية تخرج عن إطار النشاط اللسانى. وختامًا للقارىء الكريم خالص المودة والتحية.

***

د. أيمن عيسى

 

من داروين إلى 2023

بقلم: جلين جير

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

النقاط الرئيسية:

1- يمكن إرجاع علم النفس التطوري، كحقل، إلى أعمال داروين.

2- ظهرت على الساحة العديد من المتغيرات في علم النفس التطوري على مر العقود.

3- فيما يلي جدول زمني مختصر للمجال – مع نظرة نحو المستقبل.

إن محاولة فهم السلوك البشري (السمة الأساسية لجنسنا البشري، التي شكلها الانتقاء الطبيعي) من دون فهم المبادئ التطورية ستكون أشبه بمحاولة فهم تفاصيل السيارة دون إدراك أن الغرض منها هو التنقل. وكما أكد العديد من العلماء، بما فيهم أنا، على مر السنين، فإن فهم التطور هو ببساطة أمر ضروري للحصول على فهم كامل للتجربة السلوكية البشرية (انظر علم النفس التطوري 101).

وفي محاولة للمساعدة في توثيق بعض المنعطفات الحاسمة التي شكلت هذا المجال من البحث، إليك تسلسلًا زمنيًا موجزًا* لهذا المجال.

1859: نشر تشارلز داروين كتابه "أصول الأنواع"، والذي يوضح عملية الانتقاء الطبيعي، وهي العملية الأولية للتطور من حيث صلتها بطبيعة الحياة، والعالم.

1872: نشر داروين كتابه التعبير عن عواطف الإنسان والحيوان. ومما لا شك فيه أن أفكاره في هذا الكتاب تمثل بالكامل نهجًا تطوريًا لعلم النفس البشري. مع منشورات داروين حول العمليات التطورية المطبقة على الحالات النفسية، وُلد مجال علم النفس التطوري.

1953: قام نيكو تينبرجن وغيره من علماء السلوك بتطوير مجال علم السلوك من خلال تطبيق المبادئ التطورية على نطاق واسع على قضايا السلوك الحيواني.

1964: رسم ويليام هاملتون حدود أفكار "اللياقة الشاملة" و"الإيثار الانتقائي للأقارب" للمساعدة في شرح كيف يمكن للنظرية التطورية تسليط الضوء على السلوك الاجتماعي الإيجابي (الموجه نحو الآخرين).

في أوائل السبعينيات: نشر روبرت تريفرز العديد من المقالات النظرية حول أهمية الاستثمار الأبوي في أنظمة التزاوج، والإيثار المتبادل، والصراع بين الوالدين والأبناء. مهدت هذه الكتابات الطريق لتطبيق المبادئ التطورية على نطاق واسع على جوانب مختلفة من التجربة السلوكية.

1975: نشر إي أو ويلسون، من جامعة هارفارد، كتاب علم الأحياء الاجتماعي، حول كيفية تشكيل التطور للسلوك الاجتماعي في الأنواع المختلفة، بما في ذلك جنسنا البشري. ولم يكن الجميع متحمسين لهذه الفكرة. لكنه دفع بهذا الكتاب هذه الفكرة إلى الأمام بطريقة كبيرة.

1976: نشر عالم الأحياء في أكسفورد ريتشارد دوكينز كتابًا رائدًا بعنوان "الجين الأناني"، والذي يعرض بشكل أساسي أفكار داروين لجمهور حديث نسبيًا. ويركز الكتاب على تطور السلوك بشكل خاص.

الثمانينيات والتسعينيات: اتصال هارفارد

بوصفه عضوًا مبتدئًا في هيئة التدريس آنذاك، تولى عالم النفس التطوري ديفيد بوس (الذي يعمل الآن في جامعة تكساس) منصبًا في جامعة هارفارد، التي كانت، كما سيخبرنا التاريخ، بمثابة مرتع لتنمية العلوم السلوكية التطورية.

على الرغم من أنهما لم يكونا هناك في نفس الوقت بالضبط، إلا أن المفكرين التطوريين ستيف بينكر (الذي كان لا يزال في المراحل الأولى من تطبيق المفاهيم التطورية في عمله في تلك المرحلة) وروبرت تريفرز شغلا مناصب في جامعة هارفارد في نفس الوقت تقريبًا. والأهم من ذلك، أن مارتن دالي ومارجو ويلسون تولىا منصبي إجازة لمدة عام في جامعة هارفارد أثناء وجود بوس هناك، مما شكل جزئيًا هذا المركز المزدهر للفكر التطوري.

في الوقت نفسه، كان المفكران اللذان أصبحا في نهاية المطاف باحثين رئيسيين في هذا المجال، ليدا كوزميدس والراحل العظيم جون توبي، يطلقان على جامعة هارفارد موطنهما في ذلك الوقت. حصل كلاهما على شهادتي البكالوريوس والدراسات العليا أثناء وجودهما هناك، وتعرفا على هذا المفكر التطوري الشاب الناشئ، ديفيد بوس، مع مرور الوقت .

تزوج كوسميدس وتوبي لاحقًا وقاما، بالتعاون، بإطلاق مركز علم النفس التطوري في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، والذي لا يزال يعمل كمركز مشهور عالميًا للمنح الدراسية التطورية حتى يومنا هذا. كما قاما بتقديم بوس إلى عالم الأنثروبولوجيا التطورية الأسطوري بجامعة هارفارد، إيرف ديفور، خلال هذه الفترة الزمنية. كانت الروابط والأفكار المتعلقة بالتطور والتجربة الإنسانية تنتشر بكامل قوتها.

وكما ذكر بوس (2023)، فإن هذا العمل الذي قام به كوزميدس وتوبي مهد الطريق "لتطوير الأسس المفاهيمية لعلم النفس التطوري، ودمج (العلم) المعرفي/معالجة المعلومات مع النظرية التطورية."

ظل بوس صديقًا مقربًا لـ كوزميدس وتوبي. لقد كانت التأثيرات التي أحدثها كل هؤلاء العلماء على تقدم علم النفس التطوري هائلة على مر السنين.

العديد من أنصار التطور المهمين الآخرين، مثل إي أو ويلسون، وإرنست ماير، وبول بينجهام، أطلقوا أيضًا على جامعة هارفارد اسم الموطن خلال هذه الحقبة العامة.

1987-1990: بناء أسس علم النفس التطوري

بين عامي 1987 و1990، في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد، قاد ديفيد بوس مبادرة فكرية تهدف إلى تحديد المفاهيم الأساسية لعلم النفس التطوري. وكجزء من هذه العملية، قام بتكوين فريق من العلماء المتميزين، بما في ذلك ليدا كوزميدس، وجون توبي، ومارتن دالي، ومارجو ويلسون. أمضت المجموعة الجزء الأكبر من العام في إعداد مسودة كتاب دراسي محتمل في مجال علم النفس التطوري. وفي نهاية اليوم، عاد الجميع إلى حفلاتهم بدوام كامل في جامعاتهم، ولم يكتمل الكتاب أبدًا. لكن بذور العديد من المشاريع التطورية التي من شأنها أن تصبح أساسية في هذا المجال كانت قد زُرعت بالفعل.

1989: إطلاق جمعية السلوك البشري والتطور (HBES)

هناك حدث بارز آخر في هذا المجال يكمن في تشكيل أول مجتمع فكري في العالم (والأكبر حاليًا) مخصص لدراسة السلوك البشري والتطور (جمعية السلوك البشري والتطور؛ HBES).

مع عمق جذوره في عمل العلماء الذين كانوا متمركزين في ميشيغان في ذلك الوقت (بما في ذلك بيل آيرونز ونابليون شاجنون في نورث وسترن وديفيد بوس وراندي نيسي في جامعة ميشيغان)، تم الإطلاق الرسمي لـ HBES، مع عالم الأحياء التطوري الشهير ويليام هاميلتون. بصفته الرئيس المؤسس ومؤسس مجال الطب الدارويني، كما لعب راندي نيسي دورًا رائدًا في إضفاء الطابع الرسمي على المنظمة، وحقق نجاحًا فوريًا. ومن بين المتحدثين المدعوين في هذا الاجتماع الأول للجمعية كان ريتشارد دوكينز وويليام هاميلتون. كان عالم الأحياء التطوري الموقر للغاية جورج ويليامز حاضرًا بشكل منتظم في الاجتماعات المبكرة لـ HBES. لوضع الأمور في نصابها الصحيح، في مجال الدراسات التطورية، هؤلاء الأشخاص ليسوا أقل من أيقونات وكان المجتمع في طريقه إلى إحداث ضجة كبيرة خارج البوابة.

1992: نشر جيروم باركو وكوزمايدس وتوبي كتاب العقل المتكيف، والذي سرعان ما أصبح كتابًا كلاسيكيًا في هذا المجال، مما مهد الطريق لكيفية تقدم مجال علم النفس التطوري.

1992: نشرت مارجي نبي، وهي طالبة دراسات عليا آنذاك، عملًا مذهلاً (جزئيًا في كتاب العقل المتكيف) يوضح أن مرض الحمل (الغثيان والقيء أثناء الحمل والقيء الحملي)، وهو سمة أساسية للتجربة الإنسانية واسعة النطاق، يمكن فهمه بشكل أفضل ضمن إطار تطوري. مهد هذا العمل الطريق لفهم جميع أنواع الظواهر البشرية من منظور تطوري.

1994: نشر بوس الطبعة الأولى من كتاب تطور الرغبة، وهو عبارة عن أطروحة ذكية حول كيفية تسليط الضوء على المبادئ التطورية على جميع جوانب تجربة التزاوج البشري. لقد كان تأثير هذا الكتاب على التفكير في العلوم السلوكية عميقًا وأثبت أهميته لجميع أنواع القضايا الإنسانية.

1994: صاغ راندي نيس مصطلح "الطب النفسي الدارويني" وأظهر مدى قوة المبادئ التطورية التي يمكن تطبيقها في مجال الطب النفسي على وجه التحديد، وكذلك في الطب بشكل عام. كما صاغ مصطلح "الطب الدارويني" وكان مناصرًا قويًا لدمج الأفكار الداروينية في جميع فروع العلوم والممارسات الطبية.

1998: قدم ديفيد سلون ويلسون فكرة الانتقاء متعدد المستويات في محاولة لتسليط الضوء على الإيجابية (مساعدة الآخرين)، مما يؤكد حقيقة أن القوى التطورية تعمل باستمرار على مستويات متعددة فيما يتعلق بتطور الكائنات الحية، بما في ذلك البشر.

1998: نشر بوس أول كتاب دراسي بعنوان علم النفس التنموي. بمعنى ما، وُلد هذا الحقل (الذي كان يتخمر وينقع ويتحرك لأكثر من قرن من الزمان).

2009 (أو نحو ذلك): بدأ الباحثون في جميع أنواع المجالات (التعليم، والسياسة، والصحة العقلية، والتغذية، وغيرها) في تطبيق نظرية التطور على نطاق واسع لمعالجة عدد من القضايا الإنسانية. يقع هذا المجال تحت مظلة علم النفس التطوري التطبيقي، وله مجتمع خاص به (جمعية علم النفس التطوري التطبيقي). وكان من بين قادة هذه المبادرة علماء  مثل دانييل كروجر، ونيكولاس أرمينتي، ودانيال جلاس، إلى جانب العديد من المفكرين الرئيسيين الآخرين.

2009 (أو نحو ذلك): تعمل مجموعة مماثلة من العلماء على دمج المجالات المتباينة غالبًا لعلم النفس التطوري والنسوية، لتأسيس جمعية وجهات النظر التطورية النسوية. وكان من بين قادة هذه المبادرة روزماري سوكول، وماريان فيشر، وجاستن جارسيا، وريبيكا بورتش، ولورا جونسن، وآخرون. ربما يكون المنتج الأكثر وضوحًا لهذا العمل موجودًا في كتاب إمبراطورة التطور: وجهات نظر داروينية حول طبيعة المرأة.

الأهم من ذلك، أن كلا من AEPS وFEPS مشتقان من جمعية علم النفس التطوري الشمالية الشرقية (NEEPS)، التي عقدت مؤتمرها الأول في حرم جامعة ولاية نيويورك نيو بالتز في عام 2007 وضمت ديفيد سلون ويلسون وجوردون غالوب كمتحدثين مدعوين افتتاحيين.

2019 (أو نحو ذلك): العديد من العلماء (بمن فيهم أنا ونيكول ويدبيرج – علم النفس التطوري الإيجابي: دليل داروين لعيش حياة أكثر ثراءً)، ودوج كينريك وديفيد لوندبيرج كينريك (حل المشكلات الحديثة باستخدام دماغ العصر الحجري) وديفيد سلون ويلسون (هذه النظرة للحياة) - من بين عدة كتب أخرى - يعمل على تطبيق المبادئ التطورية على الجانب المشرق من التجربة الإنسانية. بمعنى آخر، هناك حاليًا جهد دولي كبير لاستخدام المعلومات من علم النفس التطوري للمساعدة في تحسين الحالة الإنسانية بشكل عام.

خلاصة القول ومستقبل علم النفس التطوري

الأهم من ذلك أن التسلسل الزمني المعروض هنا محدود في أحسن الأحوال. ومن الجدير بالملاحظة أيضًا (كما تم وصفه سابقًا) أن العديد من الجمعيات الفكرية الإقليمية والوطنية والدولية الكبرى قد تشكلت على مر السنين للمساعدة في تطوير العمل في مجال علم النفس التطوري. (على سبيل المثال، جمعية السلوك البشري والتطور، وجمعية علم النفس التطوري الشمالية الشرقية، والجمعية الدولية لعلم الأخلاق البشرية، والمزيد). علاوة على ذلك، فإن العديد من العلماء الرئيسيين الذين تم تكريس عملهم لتطوير بعض المجالات الفرعية في علم النفس يستحقون أيضًا تقديرًا كبيرًا (على سبيل المثال، جوردون جالوب من حيث ارتباط التطور بعلم الأعصاب، وديفيد بيوركلوند من حيث كيفية ارتباط التطور بعلم النفس التنموي، وبيتر جراي من حيث كيفية ارتباط التطور بالتعليم، والمزيد).

نأمل أن يلقي التسلسل الزمني أعلاه الضوء على بعض العلامات التاريخية الحاسمة لعلم النفس التطوري. في عام 2011، ناقشنا مع العديد من المتعاونين (Garcia et al., 2011)، مستقبل مجال علم النفس التطوري بالتفصيل. فمن ناحية، وجدنا سببًا للتفاؤل - على سبيل المثال، وجدنا أن العمل في مجال علم النفس التطوري يُظهر جميع أنواع العلامات الأكاديمية لكونه مجالًا أكاديميًا متعدد التخصصات حقًا. ومع ذلك، فقد أظهر عملنا، إلى جانب العديد من الأعمال الأخرى، مقاومة كبيرة لطريقة التفكير هذه حول الحالة السلوكية البشرية داخل التعليم العالي.

باختصار، إن هذا المجال القوي من البحث، والذي أظهر قدرة غير عادية على تسليط الضوء على الحالة الإنسانية، له مستقبل غامض إلى حد ما. نأمل أن تساعد مقالات مثل هذه في تحريك البوصلة قليلاً وجعل الناس يفكرون في كيف يمكن لأفكار داروين الكبيرة أن تكون لديها القدرة على المساعدة في جعل العالم مكانًا أفضل لجميع البشر .

***

.........................

الكاتب: جلين جير/  Glenn Geher دكتوراه فى علم النفس، وأستاذ علم النفس في جامعة ولاية نيويورك في نيو بالتز. والمدير المؤسس لبرنامج الدراسات التطورية (EvoS) بالجامعة.

المراجع

References

Note: This article was largely inspired by conversations with David Buss—and is dedicated to a pioneer in (and champion of) the field, the late Dr. John Tooby

*and hardly complete!

Barkow, J., Cosmides, L., & Tooby, J. (Eds.; 1992), The adapted mind: Evolutionary psychology and the generation` of culture. New York: Oxford University Press.

Buss, D. M. (November 10, 2023). Personal communication.

Buss, David M. (1994). The Evolution of Desire: Strategies of Human Mating. New York: Basic Books.

Buss, D. M. (1998). Evolutionary Psychology: The New Science of the Mind (1st Edition). New York: Allyn & Bacon.

Darwin, C. (1859). On the origin of species by means of natural selectionor the preservation of favoured races in the struggle for life (1st ed.). London, UK: John Murray.

Darwin, C. (1872). The expression of the emotions in man and animals. London, UK: John Murray.

Dawkins, R. (1976). The Selfish Gene. Oxford: Oxford University Press.

JR Garcia, G Geher, B Crosier, G Saad, D Gambacorta, L Johnsen & E Pranckitas. (2011). The interdisciplinary context of evolutionary approaches to human behavior: a key to survival in the ivory archipelago. Futures, 43, 749-761.

Geher, G. (2014). Evolutionary Psychology 101. New York: Springer.

Geher, G. & Wedberg, N. (2022). Positive Evolutionary Psychology: Darwin’s Guide to Living a Richer Life. New York: Oxford University Press.

Hamilton W.D. (1964). "The genetical evolution of social behaviour. I" J. Theor. Biol. 7, 1–16.

Profet, M. (1992). Pregnancy Sickness as Adaptation: A Deterrent to Maternal Ingestion of Teratogens. The Adapted Mind: Evolutionary Psychology and the Generation of Culture. Oxford University Press. pp. 327–365.

Tinbergen, N. 1953. The Herring Gull's World. London: Collins.

Trivers, R. L. 1971. The evolution of reciprocal altruism. Quarterly Review of Biology 46:35-57.

Trivers, R. L. 1972. Parental investment and sexual selection. In B. Campbell, ed. Sexual Selection and the Descent of

Man, 1871-1971, Aldine-Atherton, Chicago, pp. 136-179.

Trivers, R. L. 1974. Parent-offspring conflict. American Zoologist 14:247-262.

Wilson, D. S. (1998). Hunting, sharing and multilevel selection: The tolerated theft model revisited. Current Anthropology, 39, 73–97.

Wilson, E. O., (1975). Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University Press.

لقد أثر التقدم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (AI) بشكل كبير على طريقة تفكير البشر وتفاعلهم مع العالم من حولهم. أثار دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب المجتمع، مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل، تساؤلات حول مستقبل الفكر البشري في ما يشار إليه الآن باسم عصر الذكاء الاصطناعي. سنستكشف آثار الذكاء الاصطناعي على عمليات التفكير البشري وكيف يمكن أن يشكل مستقبلنا.

أحد المخاوف الرئيسية المتعلقة بمستقبل الفكر البشري في عصر الذكاء الاصطناعي هو إمكانية أن تحل التكنولوجيا محل القدرات المعرفية البشرية. ومع ازدياد تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، هناك خوف من أن يصبح البشر يعتمدون بشكل مفرط على هذه الأنظمة ويفقدون القدرة على التفكير النقدي والمستقل. وقد يؤدي هذا إلى تراجع الإبداع والابتكار، حيث يصبح البشر مستهلكين أكثر سلبية للمعلومات بدلا من المبدعين النشطين.

ومن ناحية أخرى، يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تعزيز القدرات المعرفية البشرية وتوسيع حدود الفكر البشري. ومن خلال الاستفادة من أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، يستطيع البشر تعزيز قدراتهم المعرفية والوصول إلى ثروة من المعلومات التي لم يكن من الممكن الوصول إليها في السابق. وهذا يمكن أن يؤدي إلى اختراقات في البحث العلمي، وحل المشكلات، واتخاذ القرار، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين نوعية الفكر البشري.

يمتاز الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة وجعل التعليم في متناول الناس في جميع أنحاء العالم. وبمساعدة الأدوات التعليمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، يمكن للطلاب الحصول على تجارب تعليمية مخصصة تناسب احتياجاتهم وقدراتهم الفردية. وهذا يمكن أن يحدث ثورة في طريقة تفكيرنا في التعليم وتمكين الأفراد من تحقيق إمكاناتهم الكاملة.

ومع ذلك، فإن اعتماد الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع يثير أيضا مخاوف أخلاقية بشأن تأثير التكنولوجيا على الفكر والسلوك البشري. على سبيل المثال، هناك خطر من أن تعمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تعزيز التحيزات القائمة وإدامة التمييز في المجتمع. ومن الأهمية بمكان بالنسبة للمطورين وصناع السياسات معالجة هذه المخاوف والتأكد من استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي من أجل حماية مستقبل الفكر البشري.

ثمة جانب آخر مهم لمستقبل الفكر البشري في قرن الذكاء الاصطناعي هو قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز التعاون والتواصل البشري. مع التقدم في معالجة اللغات الطبيعية والتعلم الآلي، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تسهيل التواصل بين الأشخاص من خلفيات ثقافية ولغات مختلفة. وهذا يمكن أن يعزز التفاهم والتعاون بين الثقافات، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى مجتمع أكثر ترابطا وانسجاما.

يتميز الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث ثورة في الرعاية الصحية من خلال تحسين نتائج التشخيص والعلاج. ومن خلال تحليل كميات هائلة من البيانات الطبية وتحديد الأنماط، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي مساعدة المتخصصين في الرعاية الصحية في اتخاذ قرارات أكثر دقة وفي الوقت المناسب. وهذا يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل للمرضى وتحسين جودة الفكر البشري في نهاية المطاف من خلال تمكين اتخاذ قرارات أكثر استنارة وقائمة على الأدلة في مجال الرعاية الصحية.

بالإضافة إلى ذلك، تتمتع تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز بالقدرة على تغيير الطريقة التي ينظر بها البشر إلى بيئتهم ويتفاعلون معها. ومن خلال غمر المستخدمين في عوالم افتراضية وتعزيز تجاربهم الحسية، يمكن للذكاء الاصطناعي توسيع حدود الإدراك البشري والإبداع. وهذا يمكن أن يؤدي إلى أشكال جديدة من التعبير والابتكار الفني، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء التجربة الإنسانية.

على الرغم من الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي، هناك حاجة إلى معالجة الآثار الأخلاقية والاجتماعية المترتبة على اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، من المهم التأكد من دمج القيم والأخلاق الإنسانية في أنظمة الذكاء الاصطناعي لحماية مستقبل الفكر البشري. ويتطلب هذا جهدًا تعاونيا بين الباحثين والمطورين وصناع السياسات والجمهور لوضع مبادئ توجيهية وأطر لتطوير الذكاء الاصطناعي ونشره بشكل مسؤول.

يتشكل مستقبل الفكر البشري في قرن الذكاء الاصطناعي من خلال إمكانات الذكاء الاصطناعي لتعزيز القدرات المعرفية البشرية، وتوسيع المعرفة، وتسهيل التعاون. ومع ذلك، هناك أيضًا مخاوف أخلاقية بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع والحاجة إلى معالجة التحيز والتمييز في أنظمة الذكاء الاصطناعي. ومن الأهمية بمكان أن يعمل أصحاب المصلحة معا لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي من أجل حماية مستقبل الفكر البشري والابتكار. ومن خلال تسخير قوة الذكاء الاصطناعي لتحقيق الخير، يمكننا خلق مستقبل يعمل فيه البشر والآلات معًا لتعزيز المعرفة وإثراء التجربة الإنسانية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اتفقت أن ألتقي بصديقتي "نور الهدى" في الساعة الثانية عشرة ظهرًا في النادي، وقالت أنها ستحاول أن تجعل ابنة خالتها "فرحة" تخرج معنًا حتى تغير من حالتها النفسية بعد انفصالها عن زوجها. "فرحة" في العقد الثاني من عمرها رزقها الله جمالاً جذاباً، فقد شبهوها بجورجينيا رزق ملكة جمال الكون، إلا أنها تحيا حياة تعيسة بعد زواجها بشاب في أواخر العقد الثاني من العمر، فقد استمر هذا الزواج عامين ونصف من الإهانة اللفظية والجسدية والضرب المتكرر، قد أثمر زواجهما عن إنجاب طفلة. وبعد انفصال "فرحة" تعرضت لمواقف جارحة من بنات جنسها المتزوجات؛ بسبب الخوف من المطلقات خشية أن يخطفن أزواجهن، لذا آثرت الوحدة والعزلة وابتعدت عن الأصدقاء جميعهم لكي تبتعد عن الأقاويل.

جاءت نور بمفردها للنادي، وجلست فسألتها أين فرحة؟

- نور الهدى: قالت لي أنها ستحاول أن تحضر، ولكن كانت حالتها النفسية سيئة للغاية؛ لأن زوج أختها يرفض التعامل معها، بل إنه يضع معوقات ليحول دون لقائها بأختها، خوفًا من أن تفسد عقلها، وتحرضها على عصيانه والطلاق منه.(1)

- لقد أصبحت معاناة كثير من المطلقات في رفض أسرهن والمجتمع على حد سواء.

- نور الهدى: نعم فقد تولد لدي - فرحة وغيرها من المطلقات- الإحساس بالحزن والاكتئاب والقلق وغيرها، فعلى الرغم من اختيارها لفك الرابطة الزوجية، إلا أن الطلاق غالبا ما يترك في نفس المرأة شعورًا بالألم والوحدة وفقدان الأمل في الحصول على السعادة الزوجية، لفقدان ثقتها بالرجل والوثوق به ثانيةً. إلى جانب ذلك - يا آمال- من الناحية المالية يماطل بعض الرجال في دفع النفقة للأولاد من مسكن ومشرب وملبس، فتضطر دائما إلى ملاحقته في المحاكم؛ مما يسبب لها ضررا كبيراً يؤثر فيها وفي الأبناء، مما تعانيه من ضعف النفقة التي يدفعها الرجل لأولاده، لذلك تسعى الكثير من المطلقات لمحاولة إيجاد دخول أخرى تساعدهن على العيش، وهذا حال ابنة خالتي فرحة.(2)

- أتدرين "يا نور" أن من أصعب اللحظات على أي امرأة هي لحظة الانفصال، حيث يخيم الحزن على أوتار قلبها ليصبح بحراً لا شاطي له، وأكثر ما يؤلمني تأثير الطلاق على نفسية الأبناء.

- نور الهدى: أعلم أنكِ من أكثر المنادين بضرورة الحفاظ على كيان الأسرة، ولكن توجد حالات وأسباب متنوعة لا يمكن أن تستمر بها العلاقة الزوجية تتباين من امرأة لأخري فقد تكون ضعف شخصية الزوج وخضوعه لتأثير أمه وسيطرتها على آرائه وميوله وسلوكه نحو زوجته، أو تردده وعجزه عن الحسم واتخاذ القرارات المناسبة في وقتها الملائم. وبعض الأزواج يعمد إلى إهانة أو تحقير زوجته وإساءة معاملتها وضربها ونقدها أمام الغير في كل كبيرة وصغيرة. وقد يكون بسبب عدم توفير المسكن المستقل للزوجة؛ مما يؤدي إلى نشوب الخلافات التي قد تنتهي بالانفصال. وأيضا الغيرة الشديدة لبعض الأزواج والتي تدفعهم إلى فرض قيود حديدية على زوجاتهم، وقد تنقلب إلى حالة من الشك والريبة، وقد يكون السبب بخل الرجل خاصة إذا كان ميسورًا. وكذلك خيانة الرجل لزوجته. واختلاف المستوى الاجتماعي والاقتصادي لكل منهما. وكذلك اختلاف العادات والتقاليد والميول والقيم والمعايير....إلخ(3). المشكلة الكبرى يا آمال في نظرة مجتمعاتنا العربية إلى المرأة المطلقة، ووصفها بأنها سهلة المنال في تصور بعض الرجال وخرابة البيوت في تصور بعض النساء فما السبيل إلى دعم المطلقات للتخلص من الأحكام النمطية التي سادت مجتمعاتنا الشرقية؟

- نحتاج إلى تغيير النظرة التي يتعامل بها المجتمع مع المرأة بعد الطلاق لنساعدها على أن تبدأ حياة جديدة حياة تتخطى ألم التجربة السابقة وفيما أعتقد:

لابد من تقديم الاستشارات النفسية والقانونية للمطلقات وتمكينهن اقتصاديا للتأهل لسوق العمل من خلال تأسيس عدد من الجمعيات والمبادرات - على سبيل المثال- جمعية "دعم" والتي تأسست لرعاية الأرامل والمطلقات بمنطقة "مكة المكرمة" لتقدم الخدمات لشريحة المطلقات والأرامل في المجتمع، والتي لديهن عدد من الاحتياجات المهمة حيث تسعى الجمعية لتقديم المساندة اللازمة والعاجلة لهن، والتي تشتمل على الاستشارات النفسية والقانونية والاجتماعية بالإضافة لتوفير السكن وغيره من الاحتياجات. ولا يقف تقديم الدعم لهذه الفئة على الاستشارات بل تسعى الجمعية لتمكينهن في المجتمع بتأهيلهن على مهارات سوق العمل ومحاولة توظيفهن بالشراكة مع القطاعات ذات العلاقة.(4) ومن المبادرات لدعم المنفصلات- على سبيل المثال- مبادرة "حياة" رُوشتة للتعافي من الطلاق لمساعدة السيدات المعيلات، سواء كُنَّ أرامل أو مطلقات، على المضي قدما في الحياة. تتمثل في تقديم مشورة نفسية من خلال جروبات "واتس آب" وليس "فيسبوك"، حفاظا على الخصوصية. يشارك بالمبادرة إخصائيون نفسيون واثنان من استشاريي العلاقات الأسرية. (3) المبادرة تستهدف تقديم الدعم النفسي للمطلقات ومساعدتهن على تخطي العقبات التي يواجهنها، كغياب الأب عن حياة الأبناء، أو تسلط الابن المراهق على أمه بتوصية من الأب، وهناك مشكلات تعانيها اللائي يرغبن في الزواج ثانية، ويصطدمن برفض الأهل الذين لا يستوعبون احتياجاتهن النفسية. هذا إلى جانب نظرة المجتمع للمطلقة على أنها المذنبة. حن نبدأ بتهيئة المرأة لتقبل العلاج المعرفي السلوكي ومساعدتها على اختيار الأنسب لها من ناحية العمل أو الزواج أو غيره بما يتوافق مع ظروفها وشخصيتها دون توجيه منا. (5)

كذلك استخدام المنظور الفني لتصحيح الصورة النمطية عن المرأة المطلقة، والتي اكتسبت من العادات والتقاليد وثقافة المجتمعات، وترسخت في أذهان الرجال والنساء. وأخيرًا تأسيس عدد من المنصات الإلكترونية التي تتناول قضايا المطلقات، وتعمل على توعيتهن بحقوقهن القانونية، وتقديم الدعم النفسي لهن.

وأخيراً تأسيس عدد من المنصات اللإلكترونية التي تتناول قضايا المطلقات، وتعمل على توعيتهن بحقوقهنّ القانونية، وتقديم الدعم النفسي لهن مع رفع شعار "امرأة مطلقة: تخطي، تحوّل، تقدم" لإدماجهن في المجتمع وتغيير الصورة السلبية تجاههن.

وبالرغم من انتظارنا لـ (فرحة) إلا أنها فضّلت العزلة، فكتبت لها رسالة عبر الواتساب محتواها " عزيزتي (فرحة) كل منا يحيا بين الظلام والنور الضعف والقوة عندما يواجه مواقف حياتية عصيبة كالتي تمرين بها بعد الطلاق، فلا بأس من أن تشعري بالحزن والألم والإحباط ، ولكن عليكِ ألاّ تسمحي لهذه الذكريات المؤلمة أن تأسرك، وتغرق مستقبلك المشرق. لا تقولي أن هذه التجربة نهاية العالم، بل اعتبريها بداية فصل جديد من حياتك، فأنتِ من يقرر مسار حياتك . أنتظرك لتشاركينا إحدى هواياتك المفضلة".

وعلى الرغم من قراءتها لرسالتي إلا أنها لم تبادر بمحادثتي . أتشعر معنا ـ عزيزي القارئ، عزيزتي القارئةـ كم الضغوط النفسية والاجتماعية والمهنية والقانونية التي تواجهها المطلقات في مجتمعاتنا العربية؟

نسوية_شرقية

***

د. آمال طرزان

.....................

(1) عيسى، بريهان فارس: المرأة ومعضلة الطلاق وزارة الاوقاف والشئون الإسلامية عدد 530 .2009م.ص61.

(2) حسين خلف الله، واخرون : الطلاق أسبابه وآثاره على الأسرة والمجتمع. ص779.

(3) سامية عبداللطيف: الطلاق ودور المرأة وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية عدد 256 1986م ص111- 112

(4)   https://www.daam.org.sa/#

(5)   https://gate.ahram.org.eg/News/2545140.aspx

بقلم: جلين جيهر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عشرة مفاهيم نفسية مهمة لا يفهمها الناس حيث يخطئون في فهم السلوك

الشيء المثير للاهتمام في علم النفس هو أن الجميع، بقطع النظر عن خلفيتهم التعليمية، يشعرون وكأنهم خبراء في هذا المجال.وهذا لا ينطبق، على سبيل المثال، على الكيمياء الحيوية أو الكيمياء الجيولوجية أو الفيزياء الفلكية.

كشخص يدرس علم النفس البشري من منظور علمي من أجل لقمة العيش - وكشخص يريد فقط أن يفهم ما يحدث مع الناس - فأنا أفهم هذا. ليس كل من حصل على دكتوراه في علم النفس عبقريا خاصة فيما يتعلق بفهم حالة الإنسان. وقد ألقى الكثير من "غير علماء النفس" ضوءًا مهمًا على طبيعة السلوك البشري، مثل كورت فونيجت، وفريدا كاهلو، وبوب ديلان، ومارك توين، وويليام شكسبير، وغيرهم.

ومع ذلك، كشخص من داخل المجال الرسمي لعلم النفس العلمي، وباعتباري شخصًا قام بتدريس فصول على المستوى الجامعي في هذا المجال لعقود من الزمن، أعتقد أنه من الجدير بالملاحظة أن هناك العديد من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول علم النفس البشري. وبعبارة أخرى، هناك مفاهيم في هذا المجال يجد طلاب علم النفس صعوبة في فهمها بشكل واضح .

فيما يلي قائمة بعشرة مفاهيم نفسية يجد الطلاب صعوبة في فهمها بانتظام:

1. أنواع الشخصية مقابل أبعاد الشخصية

في أغلب الأحيان، يتحدث علماء النفس الذين يدرسون مفاهيم الشخصية، مثل النرجسية، عن بُعد مستمر يختلف الناس عليه، وليس متغيرًا قاطعًا. بالنسبة لحصة الأسد من السمات الشخصية، يتحدث علماء النفس عن الدرجة التي يسجل بها شخص ما درجات عالية في أحد الأبعاد (على سبيل المثال، سجل جو أعلى بقليل من المتوسط في النرجسية)، وليس ما إذا كان الشخص "في هذه الفئة" بشكل قاطع أم لا.

2. الطبيعة مقابل التنشئة

نادراً ما يعتبر علماء النفس أن سبب بعض السلوكيات يرجع فقط إلى "الطبيعة" (أي علم الأحياء بشكل عام) أو "التنشئة" (البيئة). في أغلب الأحيان، سيتحدث علماء النفس عن بعض الخصائص النفسية (على سبيل المثال، مدى انفتاح شخص ما) باعتبارها نتاجًا للتفاعل بين الطبيعة والتنشئة طوال الحياة. إن فكرة أن السلوك يرجع فقط إلى الطبيعة أو التنشئة هي في الواقع مجرد أسطورة.

3. عالم النفس مقابل المعالج

ربما يكون مصطلح "عالم النفس" أوسع مما تعتقد. عالم النفس هو أي شخص يدرس السلوك (عبر الأنواع) و/أو يسعى جاهداً لتطبيق أفكار من أبحاث العلوم السلوكية للمساعدة في حل مشكلات محددة، مثل الصحة العقلية للعملاء. مصطلح "المعالج" أكثر تحديدًا وينطبق فقط على الأشخاص الذين يطبقون المفاهيم النفسية لمساعدة الأفراد على التعامل مع المشكلات النفسية (مثل مستشاري الصحة العقلية). المصطلحان غير قابلين للتبادل.

4. عالم النفس مقابل الطبيب النفسي

علماء النفس هم علماء أو ممارسون سلوكيون يدرسون السلوك من منظور علمي أو يطبقون مثل هذه المفاهيم على القضايا التطبيقية (مثل مساعدة الأفراد على التعامل مع المشكلات الشخصية).أما الأطباء النفسيون فهم أطباء يستخدمون مزيجًا من التدريب على العلوم الطبية والسلوكية لمساعدة الأشخاص على التعامل مع المشكلات. لذا فإن الطبيب النفسي هو نوع خاص من المعالجين. والمصطلحان: عالم النفس والطبيب النفسي غير قابلين للتبادل.

5. الخطأ من النوع الأول

يعتمد البحث النفسي إلى حد كبير على النتائج الإحصائية. عندما يحصل أحد الباحثين على نتيجة في دراسة تظهر أنها "مهمة"، فقد يكون مخطئًا - في الواقع، لا يمكن أن تكون النتيجة تمثيلًا صحيحًا لكيفية سير الأمور في العالم، بغض النظر عما وجده الباحث. إذا وجد الباحث شيئًا مهمًا، لكنه في الواقع خاطئ، فإننا نسمي هذا "خطأ من النوع الأول".

6. الخطأ من النوع الثاني

إذا توصل الباحث إلى نتيجة في دراسة تبين أنها "غير هامة"، فمن الممكن أن يكون مخطئًا. عندما يجد أحد الباحثين أن شيئًا ما ليس مهمًا ولكنه خاطئ بالفعل، فإننا نسمي هذا "خطأ من النوع الثاني".

7. التجربة مقابل شبه التجربة

التجربة الحقيقية هي الطريقة الوحيدة لاستخلاص استنتاجات سببية فيما يتعلق بالعلاقة بين المتغيرات. وتتطلب التجربة الحقيقية تعيينًا عشوائيًا لظروف مختلفة.

إذا كنت تجري دراسة وتريد معرفة ما إذا كان الأشخاص في موقف ما (على سبيل المثال، أولئك الذين يشربون الكثير من القهوة) يتصرفون بشكل مختلف عن أولئك في حالة أخرى (على سبيل المثال، أولئك الذين لا يشربون القهوة)، فأنت بحاجة إلى تعيين الأشخاص عشوائيًا إلى أحد هذين الموقفين.إن الدراسة التي تبحث عن الاختلافات في بعض النتائج بين المجموعات التي تحدث بشكل طبيعي (على سبيل المثال، الأشخاص الذين يشربون القهوة بانتظام مقابل أولئك الذين لا يشربونها) هي "شبه تجربة" ولا يمكنها تحديد ما إذا كانت التغييرات في متغير واحد تسبب تغييرات في المتغير الآخر.

8. التفاعلات الإحصائية

في بعض الأحيان، يكون للمتغير تأثير واحد على مجموعة واحدة من الأشخاص وتأثير مختلف تمامًا على مجموعة أخرى من الأشخاص. ولذلك، فإن تأثيرات بعض المتغيرات على بعض متغيرات النتيجة تعتمد في كثير من الأحيان على بعض المتغيرات الأخرى.

إذا كنت تريد معرفة ما إذا كان المراهقون أكثر عرضة من الفئات العمرية الأخرى لاختيار أن يكونوا بصحبة الآخرين، فسيكون من المفيد معرفة ما إذا كانوا، على سبيل المثال، قد قاموا بتمشيط شعرهم خلال الـ 24 ساعة الماضية، وما إذا كانوا سيفعلون ذلك. كن بصحبة أفراد العائلة أو الغرباء. قد يكون المراهقون الذين لم يمشطوا شعرهم أكثر عرضة لاختيار صحبة الآخرين إذا كانوا سيكونون بصحبة أفراد الأسرة.

في بعض الأحيان، تعتمد تأثيرات متغير واحد (أي الأشخاص الذين ستقضي معهم الوقت) على متغير آخر (سواء قمت بتمشيط شعرك) في تحديد بعض النتائج (سواء اخترت رؤية هؤلاء الأشخاص). يساعدنا فهم التفاعلات الإحصائية على فهم الفروق الدقيقة في السلوك.

9. ما هو "طبيعي" مقابل ما هو "صحيح"

أحيانًا يسمع الطالب سلوكًا يوصف بأنه "طبيعي" ويخطئ في تفسير ذلك على أنه يعني أن السلوك صحيح أو مبرر من الناحية الأخلاقية. على سبيل المثال، قدم ديفيد بوس (2006) حجة جيدة مفادها أن القتل في البشر له أساس تطوري قوي. الأهم من ذلك، أن بوس لا يجادل بأن جرائم القتل "يجب" أن تحدث بين البشر. بل إن تحليله العلمي للقضايا يشير إلى أن القتل جزء من طبيعة الإنسان.

إن الخلط بين ما هو "كائن" وما "يجب أن يكون" هو مثال على التفكير المضلل. يتم ويُدرب علماء النفس المؤهلين علميا على هذا التمييز المهم.

10. الأسباب المتعددة

إحدى المشاكل الأساسية في كيفية فهم معظم الناس لعلم النفس هي: غالبًا ما يقع الناس في فخ الاعتقاد بأن هناك سببًا واحدًا لأي نتيجة سلوكية. في الواقع، يدرك علماء النفس المدربون جيدًا أن الأسباب المتعددة غالبًا ما تشارك في تكوين أي سلوك.

وتقدم حوادث إطلاق النار الجماعي، التي تمثل جانباً مروعاً من جوانب الحياة الحديثة، مثالاً واضحاً لهذا النوع من التفكير. يجادل البعض بأن عمليات إطلاق النار الجماعية هي نتيجة لمشاكل الصحة العقلية. ويرى آخرون أن عمليات إطلاق النار الجماعية هي نتيجة لضعف قوانين السيطرة على الأسلحة. في الواقع، لقد ثبت أن كلتا القضيتين تلعبان دورًا. كما دخلت عوامل أخرى عديدة في هذه القضية الاجتماعية المعقدة. بالنسبة لغالبية السلوكيات، هناك عوامل متعددة تلعب دورًا.

الحد الأدنى

سواء أحب الآخرون في مجالنا ذلك أم لا، فإن الحصول على درجة الدكتوراه في علم النفس لا يؤهلنا حقًا لأن نكون خبراء في السلوك البشري برمته. في الواقع، هناك خبراء في السلوك البشري من مختلف المجالات.

ومع ذلك، فقد ألقى المجال الرسمي لعلم النفس العلمي ضوءًا مهمًا على معنى أن تكون إنسانًا. من وجهة نظر شخص قام بالتدريس في هذا المجال لعقود من الزمن، أستطيع أن أقول إن القضايا الموضحة هنا هي مفاهيم يجد الطلاب صعوبة في فهمها بانتظام. لتعزيز معرفتنا بما يعنيه أن تكون إنسانًا، سيكون من الحكمة التأكد من أن طلاب علم النفس يظهرون فهمًا قويًا لهذه المفاهيم قبل الخروج إلى العالم.

(تمت)

***

..........................

مراجع بوس، دي إم (2006). القاتل المجاور: لماذا تم تصميم العقل للقتل.  نيويورك: بنجوين.

المؤلف: جلين جير/  Glenn Geher دكتوراه فى علم النفس، وأستاذ علم النفس في جامعة ولاية نيويورك في نيو بالتز. والمدير المؤسس لبرنامج الدراسات التطورية (EvoS) بالجامعة.

عالمنا الحالي مأهول بعدد واسع من مختلف الاشياء – تتراوح من الجينات والحيوانات الى الذرات والجزيئات والمجالات. وبينما يمكن وصف جميع هذه الاشياء بواسطة العلوم الطبيعية، لكن بعض منها يمكن فهمه فقط بلغة البايولوجي بينما اخرى يمكن استطلاعها فقط باستعمال الكيمياء او الفيزياء. وعندما نأتي لسلوك الانسان، نجد موضوعات مثل السوسيولوجي او السايكولوجي هي الأكثر فائدة. هذا الثراء دفع الفلاسفة للتفكير في الكيفية التي تترابط (او لا تترابط) بها العلوم، وكذلك حول الكيفية التي تتصل بها الأشياء مع بعضها في العالم . المشروع الجديد الذي يعكف عليه الخبراء اليوم يسمى التوحيد الميتافيزيقي للعلوم ويُموّل من جانب مجلس البحوث الاوربي، حيث يحاول الاجابة على هذه الاسئلة.

الفلسفة عموما، تميّز بين سؤالين رئيسيين اثنين في هذا المجال. اولا، هناك السؤال الابستيمولوجي عن الكيفية التي ترتبط بها علوم معينة او نظريات معينة مع بعضها. فمثلا، كيف يرتبط البايولوجي بالفيزياء او علم النفس بالبايولوجي؟ هذا يركز على طريقة معرفتنا بالعالم. انه يستلزم النظر الى مفاهيم، توضيحات ومنهجيات مختلف العلوم والنظريات، وفحص كيف تترابط مع بعضها. لكن هناك ايضا سؤال ميتافيزيقي عن الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم. هل هي فوق المادة التي تفترضها الفيزياء الاساسية؟ أي، هل ان الجزيئات، الكراسي، الجينات، الدولفينات فقط تراكم معقد لجسيمات ما دون الذرة ولتفاعلاتها الفيزيائية الأساسية؟ اذا كان الامر كذلك، بماذا تختلف المادة الحية عن المادة غير الحية؟

هذا سؤال صعب جدا نظرا لما يحمله من وزن وجودي. اذا كان الانسان، من بين اشياء اخرى، هو فقط مجموع أجزاء مادية، عندئذ نحن قد نتسائل كيف نجعل هناك معنى للوعي والعواطف والرغبة الحرة.

رؤيتان متطرفتان

يمكننا تحديد المواقف الفلسفية القائمة حاليا ضمن قطبين متطرفين. من جانب، هناك موقف اختزالي يدّعي ان كل شيء مصنوع ومقرر بلبنات البناء المادي – لا وجود هناك لكراسي، دولفينات، او جينات، هناك فقط جسيمات و مجالات. هذا يعني ان العلوم مثل الكيمياء والبايولوجي هي فقط أدوات مفيدة لفهم واستعمال العالم الذي حولنا.

من حيث المبدأ، الفيزياء "الصحيحة" سوف توضح كل شيء يحدث ويوجد في هذا العالم. لهذا هي يمكن ان تكون، او تبني الأساس لنظرية موحدة. وفق هذه الرؤية، حتى الشيء المعقد مثل الوعي، الذي لم يوضحه العلم بعد، هو بالنهاية ينحدر الى سلوك فيزيائي للجسيمات التي تشكل الخلايا العصبية للدماغ.

ومن جهة اخرى، هناك موقف تعددي يرى ان كل شيء في العالم له وجود مستقل لا يمكن تجاهله. وبينما هناك فهم تُحكم فيه الوجودات الكيميائية، البايولوجية، الاقتصادية بقوانين مادية، لكن هذه الوجودات ليست مجرد تراكم للمادة الفيزيائية بل، هي توجد بمعنى ما فوق المادي. هذا يعني ان العلوم الخاصة ليست فقط وسائل تخدم اهدافا معينة وانما هي اوصاف دقيقة وحقيقية تعرّف سمات حقيقية للعالم. لذلك، فان العديد من التعدديين هم لذلك يشككون حول ما اذا كان الوعي يمكن توضيحه بواسطة الفيزياء – معتقدين انه في الحقيقة اكثر من مجموع أجزاءه المادية.

هناك دليل لدعم كل من الاختزالية والتعددية، لكن هناك ايضا معارضات ضدهما. بينما العديد من الفلاسفة حاليا يعملون على معالجة هذه المعارضات، آخرون يركزون على ايجاد طرق جديدة للاجابة على تلك الأسئلة. هنا تأتي "وحدة العلوم". ان الفكرة التي تنشأ من الجانب الاختزالي ترى ان العلوم موحدة. لكن بعض اشكال الوحدة ترفض الاختزالية والهرميات الصارمة التي تدعو لها بين العلوم، لكنها مع ذلك تتبع اطروحة واسعة بان العلوم بطريقة ما هي مترابطة او تعتمد على بعضها البعض.

فريق البحث، المؤلف من فلاسفة ذوي خبرة في مختلف حقول الفلسفة والعلم، يحاول ايجاد طرق جديدة للتفكير حول وحدة العلوم. الفريق يريد تحديد المعيار الملائم الذي يكفي للادّعاء المقنع بان شكلا من الوحدة حاصل بين العلوم الطبيعية. هم ايضا، ينظرون في دراسة حالات لكي يحققوا في العلوم "المجاورة" وكيف تعتمد على بعضها.

المحصلة من المشروع ستكون لها نتائج هامة تتعدى الفضول الاكاديمي، ستساعد بالنهاية في تقدّم العلوم. اذا كانت هناك حقا طريقة لوصف كيفية ارتباط الحياة بالجزيئات الاولية، فهي سوف تغير اللعبة بالكامل. حتى الان، قام المشروع بعدد من حالات دراسية على الحدود الفاصلة بين البايولوجي والكيمياء، وبين الكيمياء والفيزياء. الان يجري تطبيق نتائج تلك الحالات على اطار ميتافيزيقي لوحدة العلوم. فمثلا، أحد الطلبة بيّن ان العديد من خصائص البروتونات البايولوجية يمكن توضيحها وفق بنيتها المجهرية الكيميائية، بدلا من بيئتها. هذا لا يثبت ان الاختزالية صحيحة، وانما هي فقط تدعم الرؤية.

دراسة اخرى حققت في قضايا مشابهة من منظور الكيمياء وميكانيكا الكوانتم. كلا النظريتين تفترضان ان المركب المنعزل له تركيب معين وهو ثابت، لكن الدراسة جادلت بانك لا تستطيع اثبات ان هذه هي الحالة بالضبط – هذا عادة يوصف بـ المثالية. انها بيّنت ان كل من الكيمياء وميكانيكا الكوانتم تعتمدان على صنع مثل هذه المثاليات وجادلا بان تحديدها يمكن ان يحسّن فهمنا الميتافيزيقي للمركّبات . بالنهاية، فهم الترابطات للعلوم الطبيعية هو مصدر ثمين لفهم ليس فقط العالم الذي حولنا، وانما لفهم أنفسنا. البعض يأمل ان التحقيق في هذه الارتباطات يمكن ان يسلط الضوء بطرق جديدة على الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم مع بعضها.

***

حاتم حميد محسن

المنطق هو عنصر أساسي في التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات. إنه الأساس الذي تُبنى عليه الحجج العقلانية وتُتخذ القرارات. وبدون المنطق، سيواجه الأفراد صعوبة في فهم العالم من حولهم والتعامل مع المواقف المعقدة بفعالية. ولهذا السبب من الأهمية بمكان أن تعطي المدارس الأولوية لتدريس علم المنطق للطلاب.

أحد الأسباب الرئيسية وراء ضرورة تدريس المنطق في المدارس هو أنه يساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم التحليلية. من خلال تعلم كيفية تحديد وتقييم أنواع مختلفة من الاستدلال، يمكن للطلاب فهم نقاط القوة والضعف في الحجج المختلفة بشكل أفضل. وهذا يمكّنهم من التفكير بشكل أكثر نقدًا بشأن المعلومات التي يواجهونها واتخاذ قرارات أكثر استنارة.

المنطق ضروري للتواصل الفعال. إن القدرة على بناء الحجج المنطقية واكتشاف المغالطات في حجج الآخرين أمر بالغ الأهمية للمشاركة في مناظرات ومناقشات هادفة. وبدون فهم أساسي للمنطق، قد يواجه الأفراد صعوبة في توصيل أفكارهم بشكل واضح ومقنع، مما يحد من قدرتهم على التأثير على الآخرين والتعاون بشكل فعال.

يلعب المنطق دورا رئيسيا في حل المشكلات. ومن خلال تطبيق التفكير المنطقي على المشكلات المعقدة، يمكن للطلاب تقسيمها إلى أجزاء يمكن التحكم فيها وتحديد الحلول المحتملة. وهذا يمكنهم من التعامل مع التحديات بطريقة منهجية ومنظمة، مما يزيد من فرصهم في تحقيق نتائج باهرة.

إن تدريس المنطق في المدارس يمكن أن يساعد الطلاب على تطوير قدراتهم الإبداعية. و من خلال تعلم كيفية التفكير النقدي والتفكير المنطقي، يمكن للطلاب توسيع عقولهم واستكشاف إمكانيات جديدة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى أفكار وحلول مبتكرة لم يكن من الممكن النظر فيها بطريقة أخرى.

وبدون أساس قوي في المنطق، يكون الأفراد أكثر عرضة للتضليل والتلاعب. في العصر الرقمي اليوم، حيث المعلومات متاحة بسهولة وغالبا ما تكون مشوهة، أصبحت مهارات التفكير النقدي أكثر أهمية من أي وقت مضى. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا تمكين الطلاب من التشكيك في ما يرونه ويسمعونه، واتخاذ خيارات مستنيرة بشأن المعلومات التي يستهلكونها.

يعد المنطق جانبا أساسيا للنجاح الأكاديمي. تعد القدرة على بناء حجج واضحة ومسببة بشكل جيد أمرا ضروريا لكتابة المقالات واستكمال المشاريع البحثية والمشاركة في مناقشات الفصل الدراسي. ومن خلال تزويد الطلاب بمهارات التفكير المنطقي، يمكن للمدارس مساعدتهم على التفوق في دراستهم وإعدادهم لمواجهة التحديات الأكاديمية المستقبلية.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن المنطق ليس مهما للنجاح الأكاديمي فحسب، بل للنجاح الشخصي والمهني أيضا. الأفراد الذين يمتلكون مهارات تفكير نقدي قوية هم مجهزون بشكل أفضل للتعامل مع تعقيدات العالم الحديث واتخاذ قرارات سليمة في حياتهم الشخصية والمهنية. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا مساعدة الطلاب على تطوير هذه المهارات الأساسية وإعدادهم لتحقيق النجاح في المستقبل.

المنطق هو مهارة حاسمة يجب أن يمتلكها جميع الأفراد. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا مساعدة الطلاب على تطوير تفكيرهم النقدي وحل المشكلات ومهارات الاتصال، وإعدادهم لتحقيق النجاح في جميع مجالات حياتهم. وبدون المنطق، يتعرض الأفراد لخطر التأثر بالمعلومات المضللة، وعدم القدرة على التفكير بشكل نقدي في العالم من حولهم، وعدم التجهيز لاتخاذ قرارات مستنيرة. لذلك، من الضروري أن تعطي المدارس الأولوية لتدريس المنطق لضمان تزويد الأجيال القادمة بالأدوات التي يحتاجونها للنجاح في عالم متزايد التعقيد.

المنطق الرياضي:

المنطق الرياضي هو فرع من الرياضيات الذي يتعامل مع المنطق الرسمي. ويهتم بدراسة النماذج الرياضية للاستدلال والبراهين.  و أحد المفاهيم الأساسية في المنطق الرياضي هو العبارة المنطقية. العبارة المنطقية هي جملة تعريفية يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة. يمكن تمثيل العبارة برمز، مثل P أو Q أو R. ويمكن دمج العبارات المنطقية باستخدام عوامل تشغيل منطقية، مثل AND وOR وNOT. على سبيل المثال، تكون العبارة "P AND Q" صحيحة إذا كان كل من P وQ صحيحة، وتكون خاطئة بخلاف ذلك.

هناك مفهوم آخر مهم في المنطق الرياضي هو النظام المنطقي. يتكون النظام المنطقي من مجموعة من البديهيات، أو الافتراضات الأساسية، ومجموعة من القواعد لاستخلاص بيانات جديدة من هذه البديهيات. النظام المنطقي الأكثر شهرة هو المنطق الافتراضي الكلاسيكي، الذي يتعامل مع البيانات المنطقية ومجموعاتها.

إحدى النتائج الرئيسية في المنطق الرياضي هي نظرية الاكتمال، والتي تؤكد أنه يمكن إثبات كل عبارة منطقية صحيحة باستخدام قواعد نظام منطقي معين. توفر هذه النظرية مبررا رسميا لاستخدام التفكير المنطقي في الرياضيات والمجالات الأخرى.

ثمة نتيجة أخرى مهمة في المنطق الرياضي هي نظرية عدم الاكتمال، والتي أثبتها كورت جودل في عام 1931. تنص هذه النظرية على أن هناك بيانات رياضية صحيحة لا يمكن إثباتها ضمن نظام منطقي معين. هذه النتيجة لها آثار عميقة على أسس الرياضيات وأثارت جدلا كبيرا بين الفلاسفة وعلماء الرياضيات.

للمنطق الرياضي العديد من التطبيقات العملية في علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، تعتمد لغات البرمجة المنطقية، مثل Prolog، على المنطق الرياضي وتستخدم لتمثيل المعرفة في أنظمة الكمبيوتر والتفكير فيها.

يلعب المنطق الرياضي أيضًا دورًا حاسمًا في تطوير الأساليب الرسمية للتحقق من البرامج وصحتها. باستخدام الاستدلال المنطقي وتقنيات الإثبات، يمكن لمطوري البرامج التأكد من أن برامجهم تعمل على النحو المنشود وأنها خالية من الأخطاء.

بالإضافة إلى تطبيقاته العملية، كان للمنطق الرياضي أيضا تأثير كبير على فلسفة الرياضيات. لقد أدت دراسة الأنظمة المنطقية وخصائصها إلى تعميق فهمنا لطبيعة الحقيقة الرياضية وحدود الاستدلال الرسمي.

يعد المنطق الرياضي مجالا غنيا ومتنوعا ساهم في العديد من مجالات الرياضيات وعلوم الكمبيوتر والفلسفة. وتستمر مفاهيمها ونتائجها في تشكيل فهمنا للتفكير المنطقي وتطبيقاته في مختلف التخصصات.

المنطق الفلسفي:

المنطق الفلسفي هو فرع من فروع الفلسفة يتعامل مع دراسة النظم الرسمية للاستدلال وكيفية ارتباطها بطبيعة الواقع والمعرفة واللغة. أنه ينطوي على تحليل الهياكل المنطقية والحجج من أجل فهم المبادئ التي تحكم الفكر والخطاب العقلاني. يعد المنطق الفلسفي أداة حيوية للفلاسفة في سعيهم لتوضيح وتقييم الحجج والنظريات والمفاهيم في مجالات مختلفة من الفلسفة.

إن أحد الأهداف الرئيسية للمنطق الفلسفي هو تقديم تفسير واضح ودقيق لمبادئ الاستدلال الصحيح. تُستخدم الأنظمة المنطقية مثل المنطق المقترح والمنطق المسند والمنطق المشروط لتحليل بنية الحجج وتحديد ما إذا كانت صالحة أم غير صالحة. ومن خلال فهم قواعد الاستدلال والقوانين المنطقية، يستطيع الفلاسفة تقييم صحة وصحة الحجج، وتقييم تماسك النظريات والمفاهيم المختلفة.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الفلسفي هو دراسة المفارقات المنطقية وآثارها على فهمنا للغة والواقع. المفارقات مثل المفارقة الكاذبة، ومفارقة الكومة، ومفارقة الاستدلال التراكمي تتحدى الافتراضات التقليدية حول الحقيقة والمعنى والهوية. يستخدم الفلاسفة أدوات منطقية لتحليل هذه المفارقات واستكشاف كيفية حلها أو استيعابها ضمن أطر منطقية مختلفة.

بالإضافة إلى تحليل الهياكل والحجج المنطقية، يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا حاسما في دراسة الدلالات وفلسفة اللغة. تدرس الدلالات المنطقية العلاقة بين اللغة والعالم، وكيف يمكن للغة أن تنقل الحقيقة والمعنى. من خلال تحليل البنية المنطقية للأنواع المختلفة من التعبيرات اللغوية، يمكن للفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل كيفية عمل اللغة وكيف يمكن أن تمثل الواقع.

يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا مركزيا في دراسة الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. يستخدم المنطق لتحليل وتقييم النظريات الميتافيزيقية المختلفة حول طبيعة الواقع والوجود والسببية. ومن خلال تطبيق الأدوات المنطقية على الحجج الميتافيزيقية، يستطيع الفلاسفة تقييم تماسكها وصلاحيتها، وتحديد ما إذا كانت تقدم تفسيرا مرضيا للطبيعة الأساسية للواقع.

يرتبط المنطق الفلسفي ارتباطا وثيقا بدراسة نظرية المعرفة، التي تتناول طبيعة المعرفة ونطاقها. المنطق ضروري لتحليل وتقييم الأنواع المختلفة من ادعاءات المعرفة، وتحديد ما إذا كانت مبررة أو مبررة. ومن خلال تطبيق المبادئ المنطقية على الحجج المعرفية، يمكن للفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل طبيعة المعرفة والاعتقاد والتبرير.

إن أحد التحديات الرئيسية في المنطق الفلسفي هي مشكلة التعددية المنطقية، التي تنشأ من تنوع النظم والمناهج المنطقية. يمكن استخدام أنظمة منطقية مختلفة لتحليل وتقييم الحجج في سياقات مختلفة، مما قد يؤدي إلى نتائج واستنتاجات متضاربة. يجب على الفلاسفة أن يتعاملوا مع مسألة كيفية التوفيق بين تنوع الأنظمة المنطقية وتحديد النظام الأكثر ملاءمة لسياق معين.

هناك جانب آخر مهم من المنطق الفلسفي هو دراسة النتيجة المنطقية والصلاحية. النتيجة المنطقية هي العلاقة بين المقدمات والاستنتاجات في الحجة، حيث يتبع الاستنتاج منطقيا من المقدمات. الصدق هو خاصية الحجج التي تكون النتيجة فيها بالضرورة من المقدمات، وفقا لقواعد الاستدلال والقوانين المنطقية. يستخدم الفلاسفة أدوات منطقية لتحليل وتقييم صحة الحجج، وتحديد ما إذا كانت توفر أساسا سليما لقبول أو رفض استنتاجات معينة.

يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا حاسما في دراسة المنطق الرياضي وأسس الرياضيات. يتم استخدام الأدوات المنطقية مثل نظرية المجموعات والأنظمة الرسمية ونظرية الإثبات لتحليل وإضفاء الطابع الرسمي على المفاهيم والهياكل الرياضية. ومن خلال تطبيق المبادئ المنطقية على الاستدلال الرياضي، يستطيع الفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل طبيعة الحقيقة الرياضية، وحدود المعرفة الرياضية، والعلاقة بين الرياضيات والمنطق.

المنطق الفلسفي هو فرع حيوي من الفلسفة يتعامل مع دراسة أنظمة التفكير الرسمية وآثارها على فهمنا للواقع والمعرفة واللغة. من خلال تحليل الهياكل والحجج المنطقية، يمكن للفلاسفة توضيح وتقييم النظريات والمفاهيم المختلفة في مختلف مجالات الفلسفة. يلعب المنطق الفلسفي دورا مركزيا في دراسة الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، وعلم الدلالة، وأسس الرياضيات. كما يتناول تحديات مثل التعددية المنطقية، والمفارقات، وطبيعة النتيجة المنطقية وصلاحيتها. بشكل عام، يوفر المنطق الفلسفي للفلاسفة أداة قوية لفحص وإلقاء الضوء على المبادئ التي تحكم الفكر العقلاني والفلسفة.

المنطق والذكاء الصناعي:

الذكاء الاصطناعي، هو مجال من علوم الكمبيوتر يهدف إلى إنشاء آلات قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشري. أحد المكونات الرئيسية للذكاء الاصطناعي هو المنطق، وهو الأساس لبناء الأنظمة الذكية. يشير منطق الذكاء الاصطناعي إلى القواعد والمبادئ التي تحكم سلوك أنظمة الذكاء الاصطناعي، مما يسمح لها باتخاذ القرارات وحل المشكلات والتعلم من تجاربها.

أحد المفاهيم الأساسية في منطق الذكاء الاصطناعي هو الاستدلال، والذي يتضمن القدرة على استنتاج استنتاجات من معلومات معينة. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي أشكالا مختلفة من الاستدلال، مثل الاستدلال الاستنتاجي والاستقرائي والابعادي، لاتخاذ القرارات وحل المشكلات. يتضمن الاستدلال الاستنباطي استخلاص استنتاجات منطقية من مجموعة من المقدمات، في حين يتضمن الاستدلال الاستقرائي التعميم من ملاحظات محددة. من ناحية أخرى، يتضمن التفكير الافتراضي إجراء تخمينات مدروسة بناءً على الأدلة المتاحة.

هناك جانب آخر مهم من منطق الذكاء الاصطناعي هو تمثيل المعرفة. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي تقنيات مختلفة لتمثيل المعرفة، مثل القواعد والأطر والشبكات الدلالية، لتخزين المعلومات وتنظيمها. تسمح هذه التمثيلات لأنظمة الذكاء الاصطناعي بالوصول إلى المعرفة ومعالجتها بكفاءة، مما يمكنها من أداء مهام معقدة مثل معالجة اللغة الطبيعية والتعرف على الصور والقيادة الذاتية.

يشمل منطق الذكاء الاصطناعي أيضًا استخدام الخوارزميات، وهي عبارة عن إجراءات خطوة بخطوة لحل المشكلات أو أداء المهام. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخوارزميات لمعالجة البيانات واتخاذ القرارات والتعلم من تجاربها. هناك أنواع مختلفة من الخوارزميات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، مثل خوارزميات البحث، وخوارزميات التحسين، وخوارزميات التعلم الآلي، وكل منها مصمم لمعالجة أنواع مختلفة من المشكلات والمهام.

ثمة مفهوم آخر مهم في منطق الذكاء الاصطناعي هو الاستدلال في ظل عدم اليقين. غالبا ما يتعين على أنظمة الذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات في ظل وجود معلومات غير كاملة أو غير مؤكدة. يعد المنطق البايزي والتفكير الاحتمالي ونظرية القرار بعضا من التقنيات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي للتعامل مع عدم اليقين واتخاذ قرارات مستنيرة.

يتضمن منطق الذكاء الاصطناعي أيضًا دراسة البنى المعرفية، وهي أطر لبناء أنظمة ذكية تحاكي الإدراك البشري. توفر البنى المعرفية، مثل ACT-R، وSOAR، وCLARION، للباحثين والمطورين مخططا لبناء أنظمة ذكية يمكنها التفكير والتعلم والتكيف مع المواقف الجديدة.

إن أحد التحديات في منطق الذكاء الاصطناعي هو مسألة المنطق السليم. غالبًا ما تكافح أنظمة الذكاء الاصطناعي لفهم المواقف اليومية التي يعتبرها البشر أمرًا مفروغًا منه. يعد تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها التفكير بناء على المعرفة المنطقية مجالا مستمرا للبحث في منطق الذكاء الاصطناعي.

يلعب منطق الذكاء الاصطناعي أيضا دورا حاسما في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخلاقية. مع ازدياد تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وانتشارها، هناك قلق متزايد بشأن الآثار الأخلاقية لأنظمة الذكاء الاصطناعي. يمكن لمنطق الذكاء الاصطناعي أن يساعد الباحثين والمطورين على تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تلتزم بالمبادئ الأخلاقية وتحترم القيم الإنسانية.

يعد منطق الذكاء الاصطناعي جانبا أساسيا من الذكاء الاصطناعي الذي يدعم تصميم وتطوير الأنظمة الذكية. من خلال دراسة المنطق، وتمثيل المعرفة، والخوارزميات، وعدم اليقين، والبنى المعرفية، والمنطق السليم، والمخاوف الأخلاقية، يمكن للباحثين والمطورين إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي ذكية وأخلاقية. منطق الذكاء الاصطناعي هو مجال ديناميكي يستمر في التطور حيث يسعى الباحثون لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً ومسؤولية.

المنطق العلمي:

المنطق العلمي هو جانب أساسي من المنهج العلمي. إنها العملية التي يستخدم من خلالها العلماء الاستدلال والأدلة لدعم أو دحض الفرضيات، واستخلاص النتائج، والتنبؤات حول العالم الطبيعي. يعتمد المنطق العلمي على الالتزام بالاستدلال المرتكز على الأدلة والملاحظة والتجربة.

في قلب المنطق العلمي توجد فكرة تكوين فرضيات يمكن اختبارها من خلال الملاحظة والتجريب الدقيقين. تعتمد هذه الفرضيات على المعرفة السابقة والنظريات الموجودة والتفكير المنطقي. يستخدم العلماء المنطق الاستنتاجي للتوصل إلى فرضيات يمكن اختبارها للتنبؤ بالعالم الطبيعي.

بمجرد تشكيل الفرضية، يقوم العلماء بتصميم تجارب لاختبارها. يتم التحكم في هذه التجارب بعناية لإزالة التحيز والعوامل المربكة الأخرى التي يمكن أن تؤثر على النتائج. يجمع العلماء البيانات من خلال هذه التجارب ويستخدمون التحليل الإحصائي لتحديد ما إذا كانت البيانات تدعم الفرضية أو تدحضها.

يتضمن المنطق العلمي أيضا استخدام الاستدلال الاستقرائي. في هذا النوع من الاستدلال، يستخدم العلماء الملاحظات والبيانات لإجراء تعميمات أو استخلاص استنتاجات حول كيفية عمل العالم الطبيعي. على سبيل المثال، إذا أظهرت التجارب المتكررة باستمرار تأثيرا معينا، فقد يستنتج العلماء أن هناك علاقة سبب ونتيجة.

يتضمن المنطق العلمي أيضا عملية مراجعة النظراء. لكي يتم قبول النتائج العلمية من قبل المجتمع العلمي الأكبر، يجب أن تخضع للتدقيق من قبل علماء آخرين. وتساعد هذه العملية على ضمان إجراء البحث بطريقة صارمة وشفافة، وأن تستند الاستنتاجات إلى الاستدلال والأدلة السليمة.

هناك جانب آخر مهم من المنطق العلمي هو فكرة قابلية الدحض. وهذا يعني أن الفرضيات العلمية يجب أن تكون قابلة للاختبار وربما قابلة للدحض. إذا لم يكن من الممكن اختبار الفرضية أو إثبات خطأها، فإنها لا تعتبر صالحة من الناحية العلمية.

يتضمن المنطق العلمي أيضًا مفهوم شفرة أوكام. وينص هذا المبدأ على أن التفسير الأبسط الذي يناسب البيانات هو عادة التفسير الأكثر احتمالا. يستخدم العلماء شفرة أوكام لتوجيه تفكيرهم ولمساعدتهم على الاختيار بين الفرضيات المتنافسة.

كما يتميز المنطق العلمي بالشك. يتم تدريب العلماء على التشكيك في الافتراضات، وتحدي الحكمة التقليدية، والمطالبة بالأدلة لدعم الادعاءات. وتساعد هذه الشكوك على ضمان أن يكون البحث العلمي صارما وغير متحيز.

المنطق العلمي جانب أساسي من المنهج العلمي. إنه العملية التي يستخدم من خلالها العلماء الاستدلال والأدلة لدعم أو دحض الفرضيات، واستخلاص النتائج، والتنبؤات حول العالم الطبيعي. يتضمن المنطق العلمي تكوين الفرضيات، وتصميم التجارب، وجمع البيانات، واستخدام المنطق الاستقرائي والاستنتاجي، والمشاركة في مراجعة الأقران، وتطبيق مبادئ مثل قابلية التكذيب، وشفرة أوكام، والشك. ومن خلال الالتزام بهذه المبادئ، يستطيع العلماء إحراز تقدم في فهم العالم من حولنا وتطوير المعرفة الإنسانية.

المنطق الطبيعي:

المنطق الطبيعي هو مصطلح يستخدم لوصف القدرة الفطرية للبشر على التفكير والتفكير بطريقة منطقية دون المعرفة الصريحة لقواعد المنطق الرسمي. إنها عملية إصدار أحكام وقرارات بديهية ومنطقية بناءً على ملاحظاتنا وتجاربنا في العالم الطبيعي. يعتمد المنطق الطبيعي على قدرتنا على التعرف على الأنماط، واستخلاص النتائج، وإجراء اتصالات بين أجزاء مختلفة من المعلومات.

إحدى السمات الرئيسية للمنطق الطبيعي هي بساطته وسهولة الوصول إليه للجميع. على عكس المنطق الرسمي، الذي يتطلب تدريبا وتعليما متخصصا، فإن المنطق الطبيعي هو شيء نمتلكه جميعًا منذ الولادة. إنه جانب أساسي من الإدراك البشري الذي يسمح لنا بالتنقل في العالم المعقد من حولنا وفهم تجاربنا.

يرتبط المنطق الطبيعي أيضا ارتباطا وثيقا بعواطفنا وغرائزنا. غالبا ما تلعب مشاعرنا وحدسنا دورا حاسما في عملية صنع القرار لدينا، حيث توجهنا نحو ما نشعر أنه صواب أو خطأ بناء على تجاربنا ومعرفتنا السابقة. قد يؤدي هذا المكون العاطفي للمنطق الطبيعي في بعض الأحيان إلى الضلال، ولكنه يسمح لنا أيضا بالاستفادة من حكمة اللاوعي لدينا وإصدار أحكام غريزية سريعة في المواقف التي قد لا يكفي فيها التفكير العقلاني وحده.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الطبيعي هو قدرته على التكيف والمرونة. على عكس المنطق الرسمي، الذي يعمل ضمن قواعد وقيود صارمة، يمكن تطبيق المنطق الطبيعي بشكل إبداعي وديناميكي لحل مجموعة واسعة من المشاكل والتحديات. فهو يسمح لنا بالتفكير خارج الصندوق، والقيام بقفزات منطقية بديهية، والتوصل إلى حلول جديدة للمشكلات المعقدة.

ويرتبط المنطق الطبيعي أيضًا ارتباطًا وثيقًا بمهاراتنا اللغوية والتواصلية. إن الطريقة التي نستخدم بها اللغة للتعبير عن أفكارنا وحججنا هي طريقة منطقية بطبيعتها، حتى لو لم نكن على وعي باتباع قواعد المنطق الرسمي. تعتمد قدرتنا على التفكير وإقناع الآخرين بشكل كبير على قدراتنا المنطقية الطبيعية، حيث نستخدم اللغة لنقل أفكارنا بطريقة واضحة ومتماسكة ومقنعة.

في العديد من النواحي، المنطق الطبيعي هو شكل من أشكال التفكير غير الرسمي الذي يرتكز على تجاربنا اليومية وتفاعلاتنا مع العالم. إنه أساس فهمنا المنطقي للعالم ويسمح لنا بالتنقل في تعقيدات الحياة دون التورط في تعقيدات المنطق الرسمي. يساعدنا المنطق الطبيعي على فهم العالم من حولنا، واتخاذ قرارات مستنيرة، والتواصل بشكل فعال مع الآخرين.

ومع ذلك، فإن المنطق الطبيعي لا يخلو من حدوده. إن تحيزاتنا المتأصلة، واختصاراتنا المعرفية، واستجاباتنا العاطفية يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى تشويش حكمنا وتؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية. في هذه الحالات، من المهم أن نكون على دراية بميولنا المنطقية الطبيعية ونسعى جاهدين للتغلب عليها من خلال الانخراط في التفكير النقدي والتأمل.

على الرغم من محدودياته، يظل المنطق الطبيعي أداة قوية لحل المشكلات واتخاذ القرار في حياتنا اليومية. من خلال الاستفادة من قدراتنا المنطقية الفطرية والاستفادة من مهاراتنا المنطقية الطبيعية، يمكننا التنقل في تعقيدات العالم بثقة ووضوح. المنطق الطبيعي هو أحد الأصول القيمة التي تسمح لنا بفهم العالم وإصدار أحكام سليمة بناءً على ملاحظاتنا وتجاربنا وحدسنا.

المنطق الطبيعي هو جانب أساسي من الإدراك البشري الذي يسمح لنا بالتفكير والتفكير بشكل حدسي وبطريقة منطقية. إنه أساس فهمنا المنطقي للعالم ويلعب دورا حاسما في عملية صنع القرار اليومية. ومن خلال احتضان قدراتنا المنطقية الطبيعية وصقل مهاراتنا المنطقية، يمكننا اتخاذ قرارات مستنيرة، وحل المشكلات المعقدة، والتواصل بشكل فعال مع الآخرين. المنطق الطبيعي هو أداة قوية تساعدنا على التنقل في تعقيدات الحياة وفهم العالم من حولنا.

المنطق الديني:

غالبا ما يُنظر إلى الدين والمنطق على أنهما قوتان متعارضتان، حيث يعتمد الدين على الإيمان والإيمان بالغيب بينما يعتمد المنطق على العقل والتفكير المبني على الأدلة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى المنطق الديني كوسيلة للتوفيق بين وجهتي نظر عالميتين متباينتين ظاهريا وإيجاد توازن بين الإيمان والعقل.

أحد جوانب المنطق الديني هو مفهوم الإيمان كشكل من أشكال التفكير. في أنظمة المعتقدات الدينية، غالبا ما يُنظر إلى الإيمان على أنه وسيلة للمعرفة تتجاوز الأدلة التجريبية والتفكير العقلاني. يعتمد هذا النوع من التفكير على الثقة والولاء والثقة في قوة أعلى أو كائن إلهي.

ثمة جانب آخر من المنطق الديني هو استخدام المنطق التناظري لشرح المفاهيم المعقدة أو المجردة. يتضمن التفكير التناظري إجراء مقارنات بين شيئين مختلفين من أجل الحصول على فهم أفضل للموضوع المطروح. في السياقات الدينية، غالبا ما يستخدم المنطق التناظري لشرح طبيعة الله، والحياة الآخرة، والمفاهيم الروحية الأخرى التي قد يكون من الصعب فهمها من خلال وسائل عقلانية بحتة.

يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق الاستنتاجي لدعم المعتقدات الدينية والتحقق من صحتها. يتضمن التفكير الاستنتاجي البدء بمبدأ أو فرضية عامة ثم تطبيق المنطق للوصول إلى استنتاجات محددة. في السياقات الدينية، يمكن استخدام المنطق الاستنتاجي للدفاع عن وجود الله، أو الآثار الأخلاقية للتعاليم الدينية، أو صحة الكتب الدينية.

بالإضافة إلى ذلك، يشمل المنطق الديني استخدام الاستدلال الاستقرائي لاستخلاص النتائج بناءً على الملاحظات والأدلة. يتضمن الاستدلال الاستقرائي النظر إلى حالات أو أمثلة محددة واستخدامها لإجراء تعميمات أو تنبؤات. في السياقات الدينية، يمكن استخدام الاستدلال الاستقرائي لدعم الادعاءات حول فعالية الصلاة، أو فوائد الممارسات الدينية، أو تأثير المعتقدات الدينية على رفاهية الفرد والمجتمع.

يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق الافتراضى لعمل تخمينات أو فرضيات مدروسة حول ظواهر غير معروفة أو غير مفسرة. يتضمن الاستدلال الافتراضى النظر في جميع التفسيرات المحتملة ثم اختيار التفسير الأكثر ترجيحا بناء على الأدلة والاستدلال المتاح. في السياقات الدينية، يمكن استخدام المنطق الخاطف لتفسير الأحلام أو الرؤى أو التجارب الصوفية الأخرى التي تتحدى الفهم التقليدي.

كما يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق النموذجي لاستكشاف الإمكانيات والضروريات الكامنة في أنظمة المعتقدات الدينية. يتضمن المنطق النموذجي النظر في أوضاع أو أنواع مختلفة من الضرورة والإمكانية والاستحالة من أجل فهم أفضل لطبيعة الواقع، خاصة فيما يتعلق بالمفاهيم الدينية مثل الإرادة الحرة والعناية الإلهية واللعنة الأبدية.

يشمل المنطق الديني استخدام المنطق المخالف للواقع لاستكشاف سيناريوهات بديلة ومواقف افتراضية تتحدى التفكير والافتراضات التقليدية. يتضمن الاستدلال المضاد للواقع النظر في ما كان يمكن أن يحدث لو كانت أحداث أو ظروف معينة مختلفة، ويمكن استخدامه في السياقات الدينية لاستكشاف الآثار المترتبة على المذاهب أو التفسيرات اللاهوتية المختلفة.

و يتضمن المنطق الديني أيضا استخدام الحجج للدفاع عن المعتقدات الدينية ومناقشتها بطريقة عقلانية ومتماسكة. يتضمن الجدال تقديم الأسباب المنطقية والأدلة والدعم لوجهة نظر أو موقف معين، ويستخدم عادة في السياقات الدينية لإقناع الآخرين بالحقيقة أو صحة بعض التعاليم أو الممارسات الدينية.

المنطق الديني هو شكل معقد ومتعدد الأوجه من التفكير الذي يتضمن عناصر الإيمان، والتفكير التناظري، والتفكير الاستنتاجي، والتفكير الاستقرائي، والتفكير الابعادي، والمنطق النموذجي، والتفكير المخالف للواقع، والحجج. ومن خلال الجمع بين هذه الأساليب المختلفة للتفكير، يمكن للأفراد و روحيا. في نهاية المطاف، يقدم المنطق الديني منظورا فريدا حول تقاطع الإيمان والعقل، ويوفر جسرا بين الغيب والمعروف، والصوفي والعقلاني، والمتعالي و الجاهلي.

المنطق التحليلي:

المنطق التحليلي هو جانب أساسي من التفكير والتفكير النقدي، لأنه يتضمن تحليل وتقييم الحجج والبيانات لتحديد صحتها وسلامتها. إنه فرع من المنطق يركز على بنية الحجج والعلاقة بين المقدمات والاستنتاجات. يهتم المنطق التحليلي بتحديد وإزالة المغالطات والتناقضات والأخطاء في الاستدلال للوصول إلى نتيجة منطقية ومتماسكة.

إحدى السمات الرئيسية للمنطق التحليلي هو تأكيده على الوضوح والدقة في اللغة والفكر. وهو يتضمن تقسيم الحجج المعقدة إلى الأجزاء المكونة لها، وتحديد المقدمات والاستنتاجات والعلاقات بينها، وتقييم الاتساق المنطقي وتماسك الحجة. تساعد هذه العملية على تحديد أي نقاط ضعف أو فجوات في الاستدلال وتسمح بإجراء تحليل أكثر دقة وصرامة للحجة.

يتضمن المنطق التحليلي أيضًا استخدام الأنظمة والرموز الرسمية لتمثيل الحجج والعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. يوفر المنطق الرسمي إطارا منظما لتحليل الحجج وتحديد المغالطات المنطقية واختبار صحة الاستنتاجات بناء على المقدمات المحددة. فهو يسمح بالتقييم المنهجي للحجج وتحديد الأنماط والهياكل التي يمكن أن تساعد في الكشف عن الافتراضات والتحيزات الخفية.

و أحد المبادئ الأساسية للمنطق التحليلي هو مبدأ عدم التناقض، والذي ينص على أن العبارات المتناقضة لا يمكن أن تكون صحيحة في نفس الوقت. هذا المبدأ أساسي للاستدلال المنطقي ويستخدم لتقييم تماسك واتساق الحجج. ويعتمد المنطق التحليلي أيضا على مبدأ الهوية، الذي ينص على أن الشيء مطابق لذاته ولا يمكن أن يكون أي شيء آخر. تساعد هذه المبادئ على ضمان اتساق وموثوقية التفكير المنطقي.

يرتبط المنطق التحليلي ارتباطا وثيقا بالتفكير النقدي، لأنه يتضمن تقييم وتحليل الحجج لتحديد مدى صحتها وسلامتها. التفكير النقدي هو عملية التشكيك في الافتراضات، وتحدي الافتراضات، وتقييم الأدلة للوصول إلى استنتاجات مستنيرة ومعقولة. يوفر المنطق التحليلي إطارا للتفكير النقدي من خلال تقديم أساليب وتقنيات لتقييم الحجج وتقييم قوة الأدلة والتفكير.

ويرتبط المنطق التحليلي أيضا ارتباطا وثيقا بالرياضيات وعلوم الكمبيوتر، لأنه يتضمن استخدام الأنظمة الرسمية والتمثيلات الرمزية لتحليل الحجج والعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. تعتمد الرياضيات بشكل كبير على الاستدلال المنطقي والأنظمة الرسمية لإثبات النظريات وحل المشكلات وبناء الحجج. يستخدم علم الكمبيوتر الأنظمة المنطقية والرسمية لتصميم الخوارزميات وتحليل البيانات والتفكير في الأنظمة المعقدة. يوفر المنطق التحليلي المبادئ والأدوات الأساسية التي تدعم هذه التخصصات.

أحد تحديات المنطق التحليلي هو التعامل مع الغموض والغموض في اللغة والفكر. يمكن أن يؤدي الغموض والغموض إلى الارتباك وسوء الفهم وسوء تفسير الحجج، مما يقوض صحة الاستدلال وسلامته. ويساعد المنطق التحليلي على معالجة هذه التحديات من خلال توفير أساليب وتقنيات لتوضيح اللغة، وتحديد المصطلحات، وتحديد المعنى المقصود من البيانات.

التحدي الآخر للمنطق التحليلي هو التعامل مع التحيزات والافتراضات التي يمكن أن تؤثر على التفكير وتؤدي إلى أخطاء في الحكم. يمكن للتحيزات المعرفية، والمعايير الثقافية، والمعتقدات الشخصية أن تشكل تصورنا للحجج وتعرقل قدرتنا على التفكير بموضوعية. يساعد المنطق التحليلي في تحديد هذه التحيزات ومواجهتها من خلال تشجيع التحليل المنهجي والدقيق للحجج، واختبار الافتراضات، وتقييم الأدلة بناءً على المبادئ المنطقية.

يلعب المنطق التحليلي دورا حاسما في التفكير والتفكير النقدي وحل المشكلات من خلال توفير إطار منظم لتحليل الحجج وتقييم الأدلة واختبار صحة الاستنتاجات. ويؤكد الوضوح والدقة والتماسك في اللغة والفكر، ويعتمد على النظم الرسمية والتمثيلات الرمزية للعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. يعد المنطق التحليلي ضروريا لتحديد المغالطات والتناقضات والأخطاء في الاستدلال، وللتوصل إلى استنتاجات منطقية ومتماسكة بناء على أدلة سليمة واستدلال موثوق به. إنها أداة قوية لتحسين عملية صنع القرار، وحل المشكلات، والتواصل، ولتعزيز فهم أعمق لمبادئ وأساليب التفكير المنطقي.

المنطق الاقتصادي:

يشير المنطق الاقتصادي إلى المبادئ والأسباب الكامنة وراء القرارات والسلوكيات الاقتصادية. إنه أساس النظرية والتحليل الاقتصاديين، فهو يرشد الأفراد والشركات والحكومات في اتخاذ خيارات عقلانية لتعظيم مواردهم وتحقيق أهدافهم. يعتمد المنطق الاقتصادي على فرضية أساسية مفادها أن الأفراد يتصرفون من أجل مصلحتهم الذاتية لتحقيق أقصى قدر من المنفعة أو الرضا.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الاقتصادي هو قانون الطلب، الذي ينص على أنه مع زيادة سعر السلعة أو الخدمة، تنخفض الكمية المطلوبة، والعكس صحيح. تساعد هذه العلاقة في تفسير سبب تقلب الأسعار استجابة للتغيرات في العرض والطلب. على سبيل المثال، إذا ارتفع سعر الوقود، فقد يختار المستهلكون تقليل القيادة أو البحث عن وسائل نقل بديلة لتوفير المال.

مفهوم آخر مهم في المنطق الاقتصادي هو مبدأ تكلفة الفرصة البديلة. يشير هذا إلى قيمة البديل الأفضل التالي الذي يتم التخلي عنه عند اتخاذ القرار. ومن خلال النظر في تكلفة الفرصة البديلة لخياراتهم، يستطيع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة تتماشى مع تفضيلاتهم وأولوياتهم.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد المنطق الاقتصادي على أهمية فهم قوانين العرض والطلب. وعندما يزداد العرض ويظل الطلب ثابتا، تميل الأسعار إلى الانخفاض. وعلى العكس من ذلك، عندما يزداد الطلب ويظل العرض ثابتا، تميل الأسعار إلى الارتفاع. ومن خلال تحليل قوى السوق هذه، يمكن للشركات تحديد استراتيجيات التسعير الأمثل لتحقيق أقصى قدر من الأرباح.

يلعب المنطق الاقتصادي أيضا دورا حاسما في صنع السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي. تستخدم الحكومات المنطق الاقتصادي لصياغة السياسات التي تعزز النمو الاقتصادي والاستقرار والازدهار. على سبيل المثال، تم تصميم السياسات المالية والنقدية لإدارة التضخم والبطالة والمؤشرات الاقتصادية الأخرى لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام.

علاوة على ذلك، فإن مفهوم الاختيار العقلاني يدعم المنطق الاقتصادي، على افتراض أن الأفراد يتخذون قراراتهم على أساس دراسة متأنية للتكاليف والفوائد. ومن خلال تحليل النتائج المحتملة لخياراتهم، يمكن للأفراد اتخاذ القرارات التي تتوافق مع تفضيلاتهم وأهدافهم. تعتبر عملية اتخاذ القرار الرشيد هذه ضرورية لتحسين تخصيص الموارد وتحقيق الكفاءة في النظم الاقتصادية.

فضلاً عن ذلك،  فإن المنطق الاقتصادي يعترف بأهمية الحوافز في تشكيل السلوك الاقتصادي. يستجيب الأفراد للحوافز – سواء كانت إيجابية أو سلبية – في عملية صنع القرار. ومن خلال فهم الحوافز التي تحرك السلوك الاقتصادي، يمكن للشركات تصميم استراتيجيات فعالة لتحفيز المستهلكين والموظفين على اتخاذ الإجراءات المطلوبة.

يسلط المنطق الاقتصادي الضوء على دور المنافسة في دفع الكفاءة والابتكار في الأسواق. في بيئة السوق التنافسية، تسعى الشركات جاهدة لتقديم منتجات وخدمات أفضل بأسعار أقل لجذب العملاء. تدفع هذه المنافسة الشركات إلى تحسين الكفاءة وخفض التكاليف والابتكار، مما يؤدي إلى النمو الاقتصادي الشامل والازدهار.

ومن المهم أن نلاحظ أن المنطق الاقتصادي لا يخلو من القيود. غالبا ما يتأثر السلوك البشري بالعواطف والتحيزات المعرفية والعوامل الاجتماعية التي قد تحيد عن اتخاذ القرار العقلاني. ونتيجة لذلك، فإن النماذج الاقتصادية القائمة على العقلانية البحتة قد لا تتنبأ دائما بدقة بنتائج العالم الحقيقي. ومع ذلك، من خلال دمج رؤى الاقتصاد السلوكي وعلم النفس، يمكن تحسين المنطق الاقتصادي لفهم تعقيدات عملية صنع القرار البشري بشكل أفضل.

يوفر المنطق الاقتصادي إطارا لفهم وتحليل الظواهر الاقتصادية، وتوجيه الأفراد والشركات والحكومات في اتخاذ قرارات عقلانية لتحقيق أهدافهم. ومن خلال تطبيق المبادئ الاقتصادية مثل العرض والطلب، وتكلفة الفرصة البديلة، والاختيار العقلاني، يستطيع صناع القرار تحسين تخصيص الموارد، وتعزيز الكفاءة، ودفع النمو الاقتصادي. ورغم أن المنطق الاقتصادي قد يكون له حدوده، فإن مبادئه تظل ضرورية للتعامل مع تعقيدات الاقتصاد العالمي ومعالجة التحديات الاقتصادية.

المنطق الأخلاقي:

المنطق الأخلاقي هو عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية باستخدام المنطق العقلاني. إنه فرع من الفلسفة يسعى إلى فهم المبادئ والقواعد التي توجه أحكامنا وسلوكياتنا الأخلاقية. في جوهره، يساعدنا المنطق الأخلاقي على تحديد ما هو صواب وما هو خطأ في المواقف المختلفة ويوفر إطارا لاتخاذ الخيارات الأخلاقية في حياتنا اليومية.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الأخلاقي هو فكرة أن الأحكام الأخلاقية يجب أن تستند إلى العقل والمنطق، بدلا من العاطفة أو التحيزات الشخصية. وهذا يعني أنه عندما يواجه المرء معضلة أخلاقية، ينبغي له أن يأخذ في الاعتبار الحقائق والأدلة المتاحة، فضلا عن العواقب المحتملة لمختلف مسارات العمل. وباستخدام التفكير العقلاني، يستطيع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر موضوعية ومستنيرة بشأن ما هو صواب وما هو خطأ من الناحية الأخلاقية.

جانب رئيسي آخر من المنطق الأخلاقي هو مفهوم الاتساق. وهذا يعني أنه يجب على الأفراد تطبيق نفس المبادئ والقواعد الأخلاقية في مواقف مماثلة، بدلا من إجراء استثناءات أو تغيير معتقداتهم بناءً على التفضيلات الشخصية أو الراحة. يساعد الاتساق في التفكير الأخلاقي على ترسيخ الشعور بالعدالة والمساواة في اتخاذ القرارات الأخلاقية، لأنه يضمن التزام الجميع بنفس معايير السلوك.

ويؤكد المنطق الأخلاقي أيضًا على أهمية المبادئ الأخلاقية مثل الصدق والإنصاف والاحترام والرحمة. تعمل هذه المبادئ كأساس لاتخاذ القرار الأخلاقي وتوجيه الأفراد في تفاعلاتهم مع الآخرين. ومن خلال اتباع هذه المبادئ، يمكن للأفراد تنمية الشعور بالنزاهة والشخصية الأخلاقية، والمساهمة في مجتمع أكثر أخلاقية وعدالة من الناحية الأخلاقية.

أحد تحديات المنطق الأخلاقي هو الصراع بين المبادئ والقيم الأخلاقية المختلفة. في بعض المواقف، قد يضطر الأفراد للاختيار بين القيم المتنافسة، مثل الصدق والولاء، أو العدالة والرحمة. في هذه الحالات، يمكن للمنطق الأخلاقي أن يساعد الأفراد على تقييم عواقب كل خيار واتخاذ القرار الأفضل بناءً على الأدلة والمنطق المتاح.

ويشكل المنطق الأخلاقي أهمية بالغة أيضًا في معالجة القضايا الأخلاقية المعقدة مثل القتل الرحيم، والإجهاض، وعقوبة الإعدام. تتطلب هذه المواضيع المثيرة للجدل مداولات متأنية وتفكيرا أخلاقيا لتحديد مسار العمل الأكثر أخلاقية. ومن خلال تطبيق المنطق الأخلاقي على هذه القضايا المعقدة، يمكن للأفراد المشاركة في مناقشات هادفة ومستنيرة حول الآثار الأخلاقية لوجهات النظر والحجج المختلفة.

يمكن للمنطق الأخلاقي أن يساعد الأفراد على التنقل في المناطق الرمادية الأخلاقية والمواقف الغامضة حيث لا يكون مسار العمل الصحيح واضحا على الفور. في هذه الحالات، قد يحتاج الأفراد إلى الاعتماد على مهاراتهم في التفكير الأخلاقي لتحليل الموقف، والنظر في وجهات نظر مختلفة، واتخاذ قرار يتوافق مع مبادئهم وقيمهم الأخلاقية. وباستخدام المنطق الأخلاقي في هذه المواقف الصعبة، يستطيع الأفراد التصرف بنزاهة واتخاذ الخيارات التي تتفق مع معتقداتهم.

بشكل عام، يلعب المنطق الأخلاقي دورا حاسما في توجيه عملية صنع القرار الأخلاقي وتعزيز السلوك الأخلاقي في المجتمع. ومن خلال تطبيق التفكير العقلاني والمبادئ الأخلاقية على المعضلات الأخلاقية والقضايا المعقدة، يستطيع الأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة ومسؤولية تساهم في خلق عالم أكثر عدلا وأخلاقا. من خلال ممارسة المنطق الأخلاقي، يمكن للأفراد تطوير شعور أكبر بالوعي الأخلاقي والتعاطف والرحمة، والمساهمة في مجتمع أكثر أخلاقية وانسجامًا.

المنطق المالي:

يشمل المنطق المالي المبادئ والنظريات والاستراتيجيات التي تحرك عملية صنع القرار في عالم التمويل. إنها عملية التفكير العقلاني والتحليلي التي تساعد الأفراد والمنظمات على تقييم المخاطر وتقييم الفرص واتخاذ خيارات مستنيرة بشأن إدارة أموالهم واستثماراتهم.

أحد الجوانب الأساسية للمنطق المالي هو مفهوم المخاطرة والعائد. وينص هذا المبدأ على أن إمكانية تحقيق عوائد أعلى ترتبط عادة بمستويات أعلى من المخاطر. يفرض المنطق المالي على الأفراد أن يفكروا بعناية في قدرتهم على تحمل المخاطر وأهدافهم الاستثمارية عند اتخاذ القرارات بشأن مكان تخصيص أموالهم. ومن خلال فهم العلاقة بين المخاطر والعائد، يمكن للأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة حول كيفية تنمية ثرواتهم وحمايتها.

هناك عنصر رئيسي آخر في المنطق المالي هو مفهوم التنويع. التنويع هو ممارسة توزيع الاستثمارات عبر مجموعة من فئات الأصول والصناعات والمناطق الجغرافية لتقليل المخاطر وزيادة احتمالية تحقيق عوائد إيجابية. ومن خلال تنويع محافظهم الاستثمارية، يمكن للأفراد تقليل تأثير تقلبات السوق والأحداث غير المتوقعة على ثرواتهم الإجمالية. ويشير المنطق المالي إلى أن وجود محفظة متنوعة بشكل جيد أمر ضروري لتحقيق النجاح المالي على المدى الطويل.

كما يؤكد المنطق المالي على أهمية وضع أهداف مالية واضحة ووضع خطة لتحقيقها. ومن خلال تحديد أهداف محددة، يمكن للأفراد وضع خارطة طريق لمستقبلهم المالي واتخاذ قرارات مستنيرة حول كيفية تخصيص مواردهم. يفرض المنطق المالي على الأفراد مراجعة خططهم المالية وتعديلها بانتظام للتأكد من أنها تظل متوافقة مع أهدافهم وغاياتهم.

بالإضافة إلى تحديد الأهداف، يؤكد المنطق المالي أيضًا على أهمية الميزانية والادخار. ومن خلال العيش بأقل من إمكانياتهم وادخار جزء من دخلهم، يستطيع الأفراد بناء وسادة مالية لحالات الطوارئ والفرص المستقبلية. يملي المنطق المالي أن الأفراد يجب أن يعطوا الأولوية للادخار والاستثمار على المدى الطويل، بدلا من الاستسلام لإغراء الإشباع الفوري.

ويؤكد المنطق المالي أيضا على أهمية فهم القيمة الزمنية للنقود. ينص هذا المفهوم على أن الدولار المستلم اليوم يساوي أكثر من الدولار المستلم في المستقبل، وذلك بسبب احتمال أن يكسب هذا الدولار فائدة أو ينمو من خلال الاستثمار. ومن خلال إدراك القيمة الزمنية للمال، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر استراتيجية بشأن الادخار والاستثمار والاقتراض.

جانب رئيسي آخر من المنطق المالي هو مفهوم الرافعة المالية. تشير الرافعة المالية إلى استخدام الأموال المقترضة لتضخيم العائدات على الاستثمارات. في حين أن الرافعة المالية يمكن أن تزيد من احتمالية تحقيق المكاسب، إلا أنها تزيد أيضا من احتمالية الخسارة. يفرض المنطق المالي على الأفراد أن يقيموا بعناية مخاطر وفوائد الرافعة المالية قبل دمجها في استراتيجياتهم الاستثمارية.

ويؤكد المنطق المالي أيضا على أهمية البقاء على اطلاع ومعرفة بالأسواق والمنتجات المالية. ومن خلال مواكبة الاتجاهات والتطورات الحالية في الصناعة المالية، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة بشأن استثماراتهم والتخطيط المالي. يشير المنطق المالي إلى أنه يجب على الأفراد البحث باستمرار عن فرص لتوسيع معارفهم ومهاراتهم في مجال التمويل.

المنطق المالي عنصر حاسم في تحقيق النجاح المالي. ومن خلال دمج مبادئ مثل المخاطر والعائد، والتنويع، وتحديد الأهداف، ووضع الميزانية، والادخار، والقيمة الزمنية للنقود، والرافعة المالية، والتعليم في عمليات صنع القرار، يمكن للأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة حول كيفية إدارة أموالهم واستثماراتهم. ومن خلال تنمية النهج العقلاني والتحليلي في التعامل مع المسائل المالية، يستطيع الأفراد بناء أساس متين للأمن المالي والازدهار على المدى الطويل.

المنطق الوطني:

المنطق الوطني مفهوم مهم يشير إلى طرق التفكير والاستدلال الفريدة التي تتميز بها دولة أو ثقافة معينة. وهو يشمل المعتقدات والقيم والافتراضات التي تشكل عمليات صنع القرار للأفراد داخل الأمة. يمكن للمنطق الوطني أن يشكل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم من حولهم ويفسرونه، فضلا عن التأثير على الطريقة التي يتعاملون بها مع حل المشكلات واتخاذ القرار.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الوطني هو المعايير والقيم الثقافية السائدة داخل المجتمع. يمكن لهذه المعايير والقيم أن تملي كيفية إعطاء الأفراد الأولوية لجوانب مختلفة من الحياة، مثل الأسرة والعمل والمجتمع. على سبيل المثال، في بعض البلدان، تعتبر الأسرة الجانب الأكثر أهمية في الحياة، بينما في بلدان أخرى، تكون الأولوية للنجاح الوظيفي. يمكن لهذه المعايير الثقافية أن تؤثر على طريقة اتخاذ الأشخاص للقرارات وتفاعلهم مع الآخرين.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الوطني هو السياق التاريخي للبلد. يمكن للأحداث والتجارب التي شكلت تاريخ الأمة أن يكون لها تأثير كبير على طريقة تفكير الناس وتصرفاتهم. على سبيل المثال، قد يكون لدى البلدان التي شهدت حروبا أو اضطرابات سياسية نهجا أكثر تشككا أو حذرا في عملية صنع القرار، في حين أن البلدان التي شهدت ازدهارا اقتصاديا قد يكون لديها نظرة أكثر تفاؤلا.

يمكن أن يتأثر المنطق الوطني أيضًا بالعوامل السياسية والاقتصادية. يمكن للنظام السياسي لبلد ما، وكذلك سياساته الاقتصادية، تشكيل الطريقة التي يفكر بها الناس في السلطة والسلطة والثروة. في البلدان الاستبدادية، على سبيل المثال، قد يكون الأفراد أكثر عرضة للامتثال للقواعد واللوائح التي تفرضها الحكومة، بينما في البلدان الديمقراطية، قد يكون الناس أكثر عرضة لتقدير الحريات والحقوق الفردية.

بالإضافة إلى العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية، يمكن أن يتأثر المنطق الوطني أيضًا بالأعراف والمؤسسات الاجتماعية. يمكن للنظام التعليمي، ووسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً في تشكيل الطريقة التي يفكر بها الناس ويفكرون بها. على سبيل المثال، في بعض البلدان، قد تؤثر المعتقدات الدينية بقوة على الطريقة التي يتخذ بها الناس قراراتهم بشأن الأخلاق والأخلاق، بينما في بلدان أخرى، قد يكون لوسائل الإعلام تأثير قوي على الرأي العام والتصورات.

أحد التحديات الرئيسية للمنطق الوطني هو الميل إلى تعميم أو تنميط مجموعات سكانية بأكملها على أساس خصائصها الثقافية أو الوطنية. من المهم أن ندرك أن الأفراد داخل المجتمع قد يكون لديهم معتقدات وقيم وخبرات متنوعة لا تتوافق دائما مع الصورة النمطية الوطنية. ومن خلال فهم تعقيدات المنطق الوطني والاعتراف بالتنوع داخل المجتمع، يمكننا تجنب وضع افتراضات حول الناس على أساس جنسيتهم.

على الرغم من تحديات التعميم، لا يزال بإمكان المنطق الوطني تقديم رؤى قيمة حول الطرق التي يفكر بها الناس ويفكرون بها داخل ثقافة أو مجتمع معين. ومن خلال دراسة المعايير الثقافية، والسياقات التاريخية، والعوامل السياسية والاقتصادية التي تشكل المنطق الوطني، يمكننا اكتساب فهم أفضل للقيم والمعتقدات التي توجه عمليات صنع القرار في مختلف البلدان.

المنطق الوطني هو مفهوم معقد ومتعدد الأوجه يشمل العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية التي تشكل الطرق التي يفكر بها الأفراد داخل المجتمع ويفكرون بها. ومن خلال الاعتراف بالتنوع داخل المجتمع وتجنب التعميمات، يمكننا اكتساب فهم أعمق للطرق الفريدة التي تتعامل بها البلدان المختلفة مع حل المشكلات واتخاذ القرار. ومن خلال دراسة المنطق الوطني، يمكننا تعزيز قدر أكبر من التفاهم والتعاون بين الثقافات، والمساهمة في نهاية المطاف في مجتمع عالمي أكثر سلاما وتناغما.

المنطق الشمولي:

يشير المنطق الشمولي إلى أنماط التفكير المشوهة والمبررات التي تكمن وراء الأنظمة الاستبدادية. يتميز هذا النوع من التفكير بتجاهل للحقيقة، والتلاعب بالمعلومات، والاعتماد على الخوف والترهيب للحفاظ على السيطرة. يتم استخدام المنطق الشمولي من قبل الديكتاتوريين والحكومات القمعية لتبرير أفعالهم، وقمع المعارضة، والاستحواذ على السلطة.

واحدة من السمات الرئيسية للمنطق الشمولي هو رفضها للحقيقة الموضوعية. في نظام شمولي، يملي الحزب الحاكم ما هو صحيح وما هو خاطئ، بغض النظر عن الأدلة أو الحقائق. يتيح ذلك للحكومة لتشكيل الواقع لتناسب جدول أعمالها، وخلق نسخة مشوهة من العالم تخدم مصالحها.

يعتمد المنطق الشمولي أيضًا اعتمادًا كبيرًا على التلاعب والدعاية للسيطرة على السكان. من خلال الرقابة، والتضليل، وقمع الأصوات المعارضة، فإن الأنظمة الاستبدادية قادرة على تشكيل الرأي العام والحفاظ على قبضتها على السلطة. من خلال التحكم في تدفق المعلومات، يمكنهم التأكد من أن روايتهم هي الوحيدة التي يتم سماعها.

جانب آخر من المنطق الشمولي هو اعتمادها على الخوف والتخويف للحفاظ على السيطرة. تستخدم الأنظمة الاستبدادية تكتيكات مثل المراقبة والاعتقالات التعسفية والتعذيب والعنف لغرس الخوف في السكان وتبشير المعارضة. هذا المناخ من الخوف يجعل من الصعب على الناس التحدث ضد الحكومة، مما يؤدي إلى ثقافة الصمت والامتثال.

يؤدي المنطق الشمولي أيضًا إلى تخفيض قيمة الحقوق والحريات الفردية لصالح الصالح الجماعي. في النظام الشمولي، يتم إعطاء الأولوية لاحتياجات الدولة على حقوق الفرد، مما يؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق وعدم المساءلة عن السلطة. يُنظر إلى المعارضة على أنها تهديد لاستقرار النظام ويقابل عقوبة قاسية.

علاوة على ذلك، يتميز المنطق الشمولي بإحساس بالتفوق الأخلاقي والإيمان في معصومي الحزب الحاكم. يرى القادة الاستبداديون أنفسهم هم الوحيدون القادرون على توجيه البلاد إلى العظمة، ويُنظر إلى أي معارضة لحكمهم على أنهم خيانة للأمة. يتيح لهم هذا اليقين الأخلاقي تبرير أفعالهم، بغض النظر عن مدى وحشية أو غير عادل.

يؤدي المنطق الشمولي أيضا إلى ثقافة التآمر والجنون العظمة، حيث يُنظر إلى المعارضة على أنها تهديد للنظام ويقابل الشك والمراقبة. يرى القادة الاستبداديون أن الأعداء يتربصون في كل زاوية، ويستخدمون هذا التصور لتبرير أفعالهم القمعية والحفاظ على السيطرة على السكان.

بالإضافة إلى ذلك، يعتمد المنطق الشمولي غالبا على كبش فداء وإنشاء أعداء خارجيين لتعبئة الدعم للنظام. من خلال شيطنة بعض المجموعات أو الأفراد، يستطيع القادة الاستبداديون حشد السكان وراءهم وتحويل الانتباه بعيدا عن إخفاقاتهم. يتم استخدام هذا التكتيك لتبرير الانتهاكات القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك صرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية التي تواجه البلاد.

يعد المنطق الشمولي شكلا خطيرا من التفكير الذي يهدد حقوق وحريات الأفراد ويقوض مبادئ الديمقراطية والعدالة. من خلال رفض الحقيقة الموضوعية، والتلاعب بالمعلومات، والاعتماد على الخوف والتخويف، فإن الأنظمة الاستبدادية قادرة على الحفاظ على قبضتها على السلطة وقمع المعارضة. من الضروري أن نبقى متيقظين ونتحدث ضد أنماط التفكير المدمرة هذه، من أجل حماية حرياتنا وضمان مجتمع أكثر عدلا وعادلا للجميع.

المنطق الأيديولوجي:

المنطق الأيديولوجي هو مصطلح يشير إلى نظام من المعتقدات أو الأفكار التي تشكل أساس أيديولوجية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية معينة. إنه المنطق الأساسي أو الأساس المنطقي وراء المبادئ والقيم التي توجه تصرفات وقرارات الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات. يشكل المنطق الأيديولوجي فهمنا للعالم ويؤثر على وجهات نظرنا حول القضايا المختلفة، بدءًا من الحكم والعدالة إلى الحقوق والحريات.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الأيديولوجي هو قدرته على توفير إطار لتفسير وفهم تعقيدات العالم. من خلال تنظيم معتقداتنا وقيمنا في أيديولوجية متماسكة، يمكننا التنقل في الطبيعة المربكة والمتناقضة في كثير من الأحيان. يساعدنا المنطق الأيديولوجي على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما هو مهم وما هو تافهة، وما هو صحيح وما هو الخطأ.

علاوة على ذلك، فإن المنطق الأيديولوجي بمثابة دليل للعمل واتخاذ القرارات. من المحتمل أن يستخدم الأفراد الذين يلتزمون بإيديولوجية معينة مبادئهم وقيمها كأساس لخياراتهم وسلوكياتهم. على سبيل المثال، قد يعطي شخص يشترك في أيديولوجية اشتراكية الأولوية للرفاهية الجماعية والعدالة الاجتماعية في عملية صنع القرار، في حين أن شخصًا يتبع أيديولوجية رأسمالية قد يعطي أولوية للحقوق الفردية والأسواق الحرة.

يلعب المنطق الأيديولوجي أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب السياسي والنقاش. غالبًا ما تدعم الأيديولوجيات السياسية المواقف والحجج التي وضعتها الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح والأفراد. على سبيل المثال، قد تؤكد الأيديولوجية المحافظة على أهمية التقاليد والنظام والاستقرار، في حين أن الإيديولوجية الليبرالية قد تعطي الأولوية للمساواة والتنوع والتقدم. يمكن أن تؤدي هذه الاختلافات الأيديولوجية إلى مناقشات وخلافات ساخنة، لكنها أيضا بمثابة وسيلة لاستكشاف ومناقشة وجهات نظر مختلفة حول القضايا المهمة.

يساعد المنطق الأيديولوجي على وضع قيم وأهداف مشتركة داخل مجتمع أو مجموعة. من خلال توفير إطار مشترك للمعتقدات والمبادئ، يمكن للأيديولوجيات أن تعزز الشعور بالوحدة والتضامن بين الأفراد الذين يتعاطفون معهم. يمكن أن يخلق هذا الشعور بالغرض المشترك شعورا بالانتماء والتماسك، وتعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز التعاون والتعاون.

ومع ذلك، يمكن أن يكون المنطق الأيديولوجي مصدرا للانقسام والصراع. غالبا ما تصطدم الأيديولوجيات المختلفة بالتفسيرات المتنافسة للواقع والقيم والأولويات المتضاربة. في الحالات القصوى، يمكن أن تؤدي الاختلافات الأيديولوجية إلى الاستقطاب والتطرف وحتى العنف. من الضروري للأفراد والمجتمعات أن يدرسوا بشكل نقدي معتقداتهم الإيديولوجية والتفكير فيها والانخراط في حوار بناء مع أولئك الذين يحملون وجهات نظر مختلفة.

جانب آخر مهم من المنطق الأيديولوجي هو دوره في تشكيل المؤسسات والهياكل داخل المجتمع. غالبا ما يتم تصميم النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنظيمها وفقا لقيم ومبادئ الإيديولوجيات المهيمنة. على سبيل المثال، قد تعطي الديمقراطية الليبرالية أولوية للحقوق والحريات الفردية في هياكل الحكم، في حين أن المجتمع الاشتراكي قد يؤكد على المساواة والرفاهية الاجتماعية في سياساتها الاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤثر المنطق الأيديولوجي على الطريقة التي يفسر بها الأفراد ويستجيبون للأحداث والتطورات في العالم. يمكن أن تشكل معتقداتنا الأيديولوجية تصوراتنا للواقع والتأثير على كيفية تحليل وتفسير المعلومات. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحيز التأكيد، حيث يبحث الأفراد وتفسير المعلومات بطريقة تعزز معتقداتهم الموجودة مسبقا.

يعد المنطق الأيديولوجي قوة تشكل فهمنا للعالم، وتوجه أفعالنا وقراراتنا، ويؤثر على علاقاتنا مع الآخرين. إنه يوفر إطارًا لفهم تعقيدات الواقع والتنقل في التحديات والفرص التي نواجهها في حياتنا. من خلال فحص معتقداتنا الإيديولوجية والتفكير فيها بشكل نقدي، يمكننا أن نكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا والآخرين، وتعزيز الحوار البناء والتعاون، والعمل على إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة.

المنطق الرأسمالي:

المنطق الرأسمالي هو مجموعة من المبادئ والمعتقدات التي تدعم النظام الاقتصادي الرأسمالي. يعتمد ذلك على فكرة أن الأفراد والشركات يجب أن يكونوا أحرارًا في المنافسة في السوق، ومتابعة الأرباح والنمو الاقتصادي. لقد شكل هذا المنطق الاقتصاد العالمي وكان قوة دافعة وراء صعود الرأسمالية باعتبارها النظام الاقتصادي المهيمن في العالم اليوم.

أحد المبدأ الرئيسي للمنطق الرأسمالي هو الإيمان بقوة السوق لتخصيص الموارد بكفاءة. وفقًا للأيديولوجية الرأسمالية، ستقود اليد الخفية للسوق الأفراد والشركات لاتخاذ قرارات عقلانية تفيد المجتمع ككل. هذا الاعتقاد في قدرة السوق على التنظيم الذاتي والتصحيح الذاتي أمر أساسي للمنطق الرأسمالي.

جانب آخر مهم من المنطق الرأسمالي هو التركيز على المنافسة. تعتمد الاقتصادات الرأسمالية على فكرة أن المنافسة بين الشركات تؤدي إلى أفضل منتجات وخفض الأسعار والابتكار. المنطق هنا هو أن المنافسة تثير الشركات لتحسين ظروف السوق المتغيرة والتكيف بها باستمرار، ودفع النمو الاقتصادي والتقدم.

يضع المنطق الرأسمالي أيضًا قيمة عالية على الحريات الفردية وحقوق الملكية. في النظام الرأسمالي، يكون الأفراد أحرارا في امتلاك الممتلكات والسيطرة عليها، واتخاذ القرارات حول كيفية استخدام مواردهم، والمشاركة في النشاط الاقتصادي دون تدخل حكومي لا مبرر له. يعتبر هذا التركيز على الحكم الذاتي الفردي ضروريًا لتعزيز النمو الاقتصادي والازدهار.

أحد المبادئ الرئيسية للمنطق الرأسمالي هو الاعتقاد بأهمية الربح كحافز أساسي للنشاط الاقتصادي. في النظام الرأسمالي، يُنظر إلى السعي وراء الربح على أنه جزء طبيعي وضروري من الأعمال التجارية، ودفع الأفراد والشركات إلى العمل الجاد، والمخاطر، والابتكار من أجل النجاح في السوق.

يجادل منتقدو المنطق الرأسمالي بأن التركيز على الربح قبل كل شيء آخر يمكن أن يؤدي إلى عواقب سلبية، مثل عدم المساواة في الدخل، واستغلال العمال، والتدهور البيئي. يجادلون بأن السعي وراء الربح يمكن أن يأتي في بعض الأحيان على حساب المخاوف الاجتماعية والبيئية، وأن منطق الرأسمالية يمكن أن يؤدي إلى التركيز الضيق على مكاسب قصيرة الأجل على حساب الاستدامة طويلة الأجل.

من ناحية أخرى، يجادل مؤيدو المنطق الرأسمالي بأن تركيز النظام على الربح هو ما يدفع النمو الاقتصادي والابتكار، مما يؤدي إلى ارتفاع معايير المعيشة للمجتمع ككل. وهم يعتقدون أن السعي لتحقيق الربح يحفز الأفراد والشركات على خلق قيمة، والاستثمار في التقنيات الجديدة، وخلق فرص عمل، مما يؤدي إلى فوائد مجتمعية شاملة.

يؤكد المنطق الرأسمالي أيضًا على أهمية المخاطر وريادة الأعمال. في النظام الرأسمالي، يتم تشجيع الأفراد على المخاطرة وبدء الشركات في السعي لتحقيق الربح. المنطق هنا هو أن ريادة الأعمال تؤدي إلى الابتكار وخلق فرص العمل والنمو الاقتصادي، ودفع التقدم والازدهار.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الرأسمالي هو الإيمان بقوة الأسواق لتخصيص الموارد بكفاءة. في النظام الرأسمالي، تعمل الأسعار والمنافسة كإشارات توجه الأفراد والشركات لاتخاذ قرارات عقلانية حول كيفية تخصيص الموارد، مثل العمالة ورأس المال والسلع. تعتبر هذه الكفاءة في تخصيص الموارد قوة رئيسية للرأسمالية، مما يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية والنمو الاقتصادي.

المنطق الرأسمالي هو مجموعة من المبادئ والمعتقدات التي تدعم النظام الاقتصادي الرأسمالي. يعتمد ذلك على فكرة أن الأفراد والشركات يجب أن يكونوا أحرارًا في المنافسة في السوق، ومتابعة الأرباح، وتخصيص الموارد بكفاءة. بينما يجادل النقاد بأن المنطق الرأسمالي يمكن أن يؤدي إلى عواقب سلبية مثل عدم المساواة في الدخل والتدهور البيئي، يعتقد المؤيدون أن تركيز النظام على الربح والمنافسة والحريات الفردية وريادة الأعمال يدفع النمو الاقتصادي ويؤدي إلى فوائد مجتمعية شاملة. في النهاية، يستمر النقاش حول المنطق الرأسمالي، مع استمرار المؤيدين والنقاد في وزن تكاليف وفوائد النظام الرأسمالي.

المنطق الاشتراكي:

المنطق الاشتراكي هو مصطلح يستخدم لوصف التفكير والمبادئ الكامنة وراء الإيديولوجيات والمعتقدات الاشتراكية. في جوهرها، فإن المنطق الاشتراكي متجذر في فكرة الملكية الجماعية والسيطرة على الموارد، وضمان المساواة والعدالة الاجتماعية لجميع أفراد المجتمع. يعتمد منطق الاشتراكية على الاعتقاد بأن وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل يجب أن تكون مملوكة وتنظيم من قبل الدولة أو من قبل تعاونيات العمال، وليس من قبل الأفراد أو الشركات العادية.

أحد المبادئ الرئيسية للمنطق الاشتراكي هو الإيمان بإعادة توزيع الثروة والموارد من أجل توفير الاحتياجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع. ويشمل ذلك الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والإسكان وغيرها من الضروريات، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي. المنطق وراء هذا المبدأ هو أنه من خلال ضمان مستوى معيشة أساسي لجميع أفراد المجتمع، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر إنصافا وعادلة.

جانب آخر من المنطق الاشتراكي هو التركيز على اتخاذ القرارات الجماعية والديمقراطية. يعتقد الاشتراكيون أن القرارات المتعلقة بكيفية تخصيص الموارد وكيفية تنظيم المجتمع يجب اتخاذها جماعيًا، من خلال العمليات الديمقراطية التي تضمن سماع أصوات جميع أفراد المجتمع. هذا على عكس الأنظمة الرأسمالية، حيث يتم اتخاذ القرارات غالبًا من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد أو الشركات الأثرياء.

يؤكد المنطق الاشتراكي أيضا على أهمية التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع. يعتقد الاشتراكيون أنه من خلال العمل معًا وتجميع مواردنا، يمكننا تحقيق المزيد من المساواة الاجتماعية والاقتصادية أكثر من الاعتماد فقط على الجهود الفردية. ينعكس هذا المبدأ في فكرة تعاونيات العمال، حيث يمتلك الموظفون ويديرون مكان عملهم بشكل مشترك، والمشاركة في الأرباح وعمليات صنع القرار.

هناك جانب رئيسي آخر للمنطق الاشتراكي وهو الإيمان بقيمة العمل وأهمية الأجور العادلة وظروف العمل لجميع العمال. يجادل الاشتراكيون بأن النظام الرأسمالي الحالي يستغل العمال من خلال دفع أجور منخفضة لهم، وحرمانهم من الفوائد والأمن الوظيفي، وتعريضهم لظروف عمل غير آمنة. المنطق وراء هذه الحجة هو أنه من خلال تقييم واحترام عمل جميع العمال، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة للجميع.

يؤكد منطق الاشتراكية أيضا على أهمية برامج الرعاية الاجتماعية وشبكات السلامة لضمان حصول جميع أفراد المجتمع على الخدمات والدعم الأساسيين. يعتقد الاشتراكيون أنه من خلال الاستثمار في الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم والمساعدة الاجتماعية، يمكننا خلق مجتمع أكثر مساواة وعاطفة يهتم بأعلى أعضائه الضعيفة.

يسلط المنطق الاشتراكي أيضًا الضوء على الترابط بين جميع أفراد المجتمع والحاجة إلى السياسات والبرامج التي تعالج عدم المساواة والظلم النظامي. ويشمل ذلك معالجة قضايا مثل العنصرية والتمييز الجنسي ورهاب المثلية وغيرها من أشكال التمييز التي تديم عدم المساواة الاجتماعية وتعيق التقدم الاجتماعي. المنطق وراء هذا المبدأ هو أنه من خلال معالجة هذه الأسباب الجذرية لعدم المساواة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر شمولا وعادلة للجميع.

أحد الانتقادات التي غالبا ما تكون موجهة ضد المنطق الاشتراكي هي أنها تشجع على السيطرة الحكومية والتدخل في الاقتصاد، مما يؤدي إلى عدم الكفاءة والخنق الحرية الفردية. يجادل النقاد بأن النظم الاشتراكية يمكن أن تحد من الابتكار وريادة الأعمال، ويمكن أن تؤدي إلى نقص وعدم الكفاءة في تخصيص الموارد. ردا على ذلك، يجادل الاشتراكيون بأن اتخاذ القرارات والمساءلة الديمقراطية يمكن أن تساعد في تخفيف هذه المخاوف، مما يضمن تخصيص الموارد بطريقة عادلة وفعالة.

يؤكد المنطق الاشتراكي أيضا على أهمية الاستدامة البيئية ومعالجة الآثار البيئية للتنمية الاقتصادية. يجادل الاشتراكيون أن الأنظمة الرأسمالية تعطي الأولوية للربح على رفاهية الكوكب والأجيال القادمة، مما يؤدي إلى التحلل البيئي وتغير المناخ. المنطق وراء هذه الحجة هو أنه من خلال إعطاء الأولوية للاستدامة والاستثمار في جهود الطاقة المتجددة ومحافظة عليها، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة وعادلا للجميع.

إن المنطق الاشتراكي متجذر في الاعتقاد في العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية والتضامن. يجادل الاشتراكيون أنه من خلال امتلاك وتنظيم الموارد بشكل جماعي، وإعطاء الأولوية لرفاهية جميع أفراد المجتمع، ومعالجة عدم المساواة والظلم النظامي، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة للجميع. في حين أن هناك انتقادات للمنطق الاشتراكي، يجادل المؤيدون بأنه من خلال إعطاء الأولوية لاحتياجات الكثيرين على أرباح القلة، يمكننا إنشاء عالم أكثر تعاطفًا ومستدامة للجميع.

المنطق الشيوعي:

الشيوعية أيديولوجية سياسية تدعو إلى مجتمع يمتلك فيه العمال وسائل الإنتاج مجتمعة. يتأرجح المنطق وراء الشيوعية في الاعتقاد بأن الرأسمالية تديم عدم المساواة والاستغلال، وأن النظام الاشتراكي ضروري لضمان المساواة والعدالة لجميع أفراد المجتمع. تهدف الشيوعية إلى إنشاء مجتمع يتمتع فيه كل شخص بالوصول إلى الموارد وحيث يتم توزيع الثروة وفقًا للحاجة، بدلا من الربح.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الشيوعي هو فكرة أن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تؤدي إلى استغلال الطبقة العاملة من قبل الطبقة الرأسمالية. في نظام رأسمالي، يصبح الأثرياء أكثر ثراء بينما يصبح الفقراء أكثر فقرا، مما يؤدي إلى اتساع فجوة الثروة وعدم المساواة الاجتماعية. تسعى الشيوعية إلى القضاء على هذا التباين من خلال إلغاء الممتلكات الخاصة وإعادة توزيع الثروة بطريقة أكثر إنصافًا.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الشيوعي هو الاعتقاد بأن الصراع الطبقي متأصل في المجتمعات الرأسمالية. يجادل الشيوعيون بأن مصالح الطبقة العاملة تتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة الرأسمالية، وأن هذا الصراع سيؤدي حتما إلى الثورة. من خلال السيطرة على وسائل الإنتاج وإنشاء دكتاتورية للبروليتاريا، يعتقد الشيوعيون أنه يمكنهم الإطاحة بالنظام الرأسمالي وخلق مجتمع أكثر عدلا.

يؤكد المنطق الشيوعي أيضا على أهمية الملكية الجماعية وصنع القرار. بدلا من أن تحكمها مجموعة صغيرة من النخب الأثرياء، يدعو الشيوعية عن نظام يكون فيه الناس رأيا في كيفية تخصيص الموارد وكيفية تنظيم المجتمع. يُنظر إلى هذا النهج التشاركي للحكم على أنه وسيلة لضمان إعطاء الأولوية لتلبية احتياجات الأغلبية ورغباتها على مصالح قلة متميزة.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد المنطق الشيوعي على أهمية التضامن والتعاون الدوليين. يعتقد الشيوعيون أن الكفاح من أجل الاشتراكية هو عالمي، وأن العمال في جميع البلدان يجب أن يتحدوا للإطاحة بالرأسمالية وإقامة نظام اشتراكي جديد. من خلال العمل معا، يجادل الشيوعيون، يمكن للناس التغلب على الانقسامات التي أنشأتها الرأسمالية وبناء عالم أكثر عدلا وعادلة للجميع.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الشيوعي هو الإيمان بحتمية الاشتراكية. يجادل الشيوعيون بأن الرأسمالية هي نظام في الأزمة، وأن تناقضاتها وظلمها ستؤدي في النهاية إلى سقوطها. من خلال تنظيم وتعبئة الطبقة العاملة، يعتقد الشيوعيون أنهم يستطيعون تسريع هذه العملية والدخول في عصر جديد من الاشتراكية.

يؤكد المنطق الشيوعي أيضا على أهمية التعليم وتربية الوعي. يعتقد الشيوعيون أن الناس يجب أن يتعلموا حول أوجه عدم المساواة والظلم في الرأسمالية من أجل فهم الحاجة إلى الاشتراكية. من خلال زيادة الوعي والوعي بين الطبقة العاملة، يأمل الشيوعيين في بناء حركة جماهيرية قادرة على تحدي النظام الرأسمالي وإحداث تغيير اجتماعي.

علاوة على ذلك، يرفض المنطق الشيوعي فكرة أن الطبيعة البشرية تنافسية وأنانية بطبيعتها. يجادل الشيوعيون بأن المجتمع الرأسمالي يشجع الجشع والفردية، لكن الناس قادرون على العمل معًا من أجل الصالح العام. من خلال خلق مجتمع يعتمد على التعاون والتضامن، تسعى الشيوعية إلى إطلاق العنان لإمكانية الإنسانية الكاملة وخلق عالم أكثر تكافلا وعدلا.

المنطق الشيوعي متجذر في الاعتقاد بأن الرأسمالية هي نظام غير عادل وغير مستدام. يجادل الشيوعيون بأن الاشتراكية تقدم بديلا أكثر إنسانية وإنسانية، يعطي الأولوية لاحتياجات الكثيرين على أرباح القلة. من خلال تنظيم وتعبئة الطبقة العاملة، يعتقد الشيوعيون أنه يمكنهم إحداث عالم خالٍ من الاستغلال وعدم المساواة، حيث تتم مشاركة الموارد وفقا للحاجة وحيث يمكن لجميع الناس العيش في كرامة وحرية.

المنطق النيولبرالي:

المنطق الليبرالي الجديد هو أيديولوجية سياسية واقتصادية اكتسبت شعبية في أواخر القرن العشرين، وخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. يتميز بالإيمان برأسمالية السوق الحرة، والتدخل الحكومي المحدود، والمسؤولية الفردية. يجادل مؤيدو المنطق الليبرالي الجديد بأن التنظيم الحكومي يخنق النمو الاقتصادي وأن الأفراد يجب أن يكونوا أحرارا في متابعة مصالحهم الاقتصادية دون تدخل.

واحدة من المبادئ الرئيسية للمنطق الليبرالي الجديد هي فكرة أن السوق الحرة هي الطريقة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد. وفقا لهذه الأيديولوجية، ينبغي تحديد الأسعار والأجور من خلال العرض والطلب، بدلاً من التدخل الحكومي. أدى هذا الاعتقاد في كفاءة السوق الحرة إلى تحرير العديد من الصناعات، مثل التمويل والاتصالات السلكية واللاسلكية، من أجل تعزيز المنافسة والابتكار.

هناك فكرة مركزية أخرى عن المنطق الليبرالي الجديد وهي أهمية المسؤولية الفردية. يجادل المؤيدون بأن الأفراد يجب أن يكونوا أحرارا في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية وتحمل عواقب تلك القرارات. أدى هذا الاعتقاد بالمسؤولية الفردية إلى دفع سياسات تحد من برامج الرعاية الحكومية وتعزيز المسؤولية الشخصية عن رفاهية الفرد الاقتصادية.

يؤكد المنطق الليبرالي الجديد أيضًا على أهمية الخصخصة والتجارة الحرة. يجادل المؤيدون بأن المؤسسات التي تديرها الحكومة عادة ما تكون أقل كفاءة وأقل ابتكارا من الشركات التي تديرها القطاع الخاص. لذلك، فإنهم يدافعون عن خصخصة الصناعات التي تديرها الحكومة من أجل تعزيز المنافسة وتحسين الكفاءة. بالإضافة إلى ذلك، يدعو المنطق الليبرالي الجديد إلى إزالة الحواجز التجارية من أجل تعزيز النمو الاقتصادي العالمي وزيادة المنافسة.

يجادل منتقدو المنطق الليبرالي الجديد بأنه يؤدي إلى زيادة عدم المساواة وعدم الاستقرار الاجتماعي. إنهم يشيرون إلى فجوة الثروة المتزايدة بين النخبة الأثرياء والطبقة العاملة كدليل على العواقب السلبية للسياسات الليبرالية الجديدة. يجادل النقاد أيضًا بأن المنطق الليبرالي الجديد يعطي الأولوية للأرباح الفردية على رفاهية المجتمع ككل، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية اقتصادية وسياسية مهيمنة في أجزاء كثيرة من العالم. يجادل مؤيدوها بأن السوق الحرة هو الطريقة الأكثر فعالية لتخصيص الموارد وتعزيز النمو الاقتصادي. يشيرون إلى نجاح بلدان مثل الولايات المتحدة وسنغافورة كدليل على فوائد السياسات الليبرالية الجديدة.

المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية سياسية واقتصادية تؤكد على أهمية الأسواق الحرة، والتدخل الحكومي المحدود، والمسؤولية الفردية. يجادل المؤيدون بأن هذه المبادئ تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي والكفاءة. ومع ذلك، يجادل النقاد بأن السياسات الليبرالية الجديدة تؤدي إلى زيادة عدم المساواة وعدم الاستقرار الاجتماعي. على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية مهيمنة في أجزاء كثيرة من العالم.

منطق الفساد:

يشير منطق الفساد إلى المنطق الملتوي والمشوه الذي يستخدمه الأفراد لتبرير الانخراط في الممارسات الفاسدة. إنها عقلية خطيرة تتيح للأفراد الاعتقاد بأن الغش والكذب والتلاعب بوسائل مقبولة لتحقيق أهدافهم.

في الصميم يفتقر منطق الفساد إلى المبادئ والأخلاق الأخلاقية. والأفراد الذين ينخرطون في ممارسات فاسدة في كثير من الأحيان يعطون الأولوية للربح الشخصي على الصدق والنزاهة. وهم يعتقدون أن النهايات تبرر الوسيلة، بغض النظر عن الضرر الذي قد يسببه للآخرين أو المجتمع ككل. يتيح لهم هذا التفكير المشوه ترشيد أفعالهم ورفض أي مشاعر بالذنب أو الندم.

غالبا ما يتم تغذية منطق الفساد بالجشع والرغبة في السلطة. من المرجح أن يشارك الأفراد الذين يقودون بهذه الدوافع في ممارسات فاسدة، لأنهم لا يرون أي مشكلة في استغلال الآخرين لمصلحتهم الخاصة. قد يستخدمون الخداع أو الرشوة أو الإكراه لتحقيق أهدافهم، معتقدين أن المكافآت تفوق المخاطر.

إن منطق الفساد يغذيه الشعور بالاستحقاق. قد يعتقد الأفراد الذين يشغلون مناصب سلطة أو نفوذ أنهم فوق القانون ويمكنهم التصرف دون عقاب. قد يستخدمون قوتهم للتلاعب بالأنظمة والمؤسسات لتحقيق مكاسب شخصية، دون النظر في عواقب الآخرين.

يزدهر منطق الفساد أيضا في البيئات التي يكون فيها نقص المساءلة والشفافية. عندما يكون هناك القليل من الرقابة أو العواقب على السلوك الفاسد، فمن المرجح أن يشارك الأفراد في ممارسات غير أخلاقية. هذا يخلق ثقافة الفساد التي يصعب تغييرها وتآكل الثقة في المؤسسات.

يمكن أن يكون لمنطق الفساد آثار سلبية واسعة النطاق على المجتمع. عندما يشارك الأفراد في ممارسات فاسدة، فإنه يقوض سيادة القانون ويؤدي إلى ثقة الجمهور في الحكومة والمؤسسات. يمكن أن يؤدي أيضا إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، حيث يتم تسوية الموارد وفرص النمو.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يديم منطق الفساد عدم المساواة والظلم. أولئك الذين ينخرطون في ممارسات فاسدة غالبا ما يستغلون السكان الضعفاء ويوسعون الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية ويقوض نسيج المجتمع.

لمكافحة منطق الفساد، هناك حاجة إلى نهج متعدد الأوجه. ويشمل ذلك تعزيز الأخلاق القوية والمساءلة في كل من القطاعين العام والخاص، وتعزيز ثقافة الشفافية والنزاهة، ومحاسبة الأفراد عن أفعالهم. كما يتطلب تثقيف الأفراد حول الآثار الضارة للفساد وتمكينهم من التحدث ضد الممارسات غير الأخلاقية.

يعد منطق الفساد عقلية خطيرة تسمح للأفراد بتبرير الانخراط في سلوك غير أخلاقي. يتم تغذيته بالجشع والاستحقاق ونقص المساءلة. لمكافحة منطق الفساد، يجب على المجتمع العمل من أجل تعزيز الشفافية والمساءلة والسلوك الأخلاقي. عندها فقط يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلاً للجميع.

منطق الفساد المسلح:

يشير منطق الفساد المسلح إلى استخدام التكتيكات والاستراتيجيات الفاسدة لتحقيق الأهداف السياسية أو الشخصية. غالبا ما يتم استخدام هذا النوع من الفساد من قبل أولئك في مناصب السلطة الذين يسعون إلى الحفاظ على أو زيادة سيطرتهم على نظام أو مجتمع. يمكن استخدام منطق الفساد المسلح لمعالجة الأشخاص والمؤسسات لتحقيق مكاسب شخصية.

أحد الجوانب الرئيسية لمنطق الفساد المسلح هو معالجة المعلومات. من خلال التحكم في تدفق المعلومات، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة تشكيل الإدراك العام  والتحكم في السرد الروائي المحيط بأفعالهم. يمكن أن يتضمن ذلك نشر معلومات خاطئة، أو قمع الأصوات المعارضة، أو استخدام الدعاية للتأثير على الرأي العام.

هناك طريقة أخرى يمكن من خلالها استخدام منطق الفساد المسلح من خلال معالجة القواعد واللوائح. من خلال استغلال الثغرات في النظام أو ثني القواعد لصالحها، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة التأكد من أنها قادرة على الحفاظ على قوتها وتأثيرها. هذا يمكن أن ينطوي على الرشوة أو الإكراه أو أشكال أخرى من السلوك غير الأخلاقي.

يمكن أيضا استخدام منطق الفساد الأسلحة لاستغلال نقاط الضعف في النظام. يمكن أن يتضمن ذلك تسلل المؤسسات الرئيسية، أو معالجة الانتخابات، أو الانخراط في أشكال أخرى من التخريب لتقويض سلامة النظام. من خلال استغلال نقاط الضعف هذه، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة تعزيز مصالحها الخاصة وتأمين قبضتهم على السلطة.

أحد مخاطر منطق الفساد المسلح هو أنه يمكن أن يقوض شرعية المؤسسات وتآكل ثقة الجمهور في النظام. عندما تكون الجهات الفاعلة الفاسدة قادرة على معالجة القواعد والتحكم في تدفق المعلومات، يمكن أن تخلق شعورا بالظلم وحرمانه بين الجمهور. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي وانهيار المعايير الديمقراطية.

يمكن أن يكون لمنطق الفساد المسلح تأثير في تآكل على النسيج الأخلاقي للمجتمع. عندما لا يتم التسامح مع السلوك الفاسد فحسب، بل يتم تشجيعه بنشاط، فإنه يمكن أن يسبب تآكل المعايير الأخلاقية ويطبع السلوك غير الأخلاقي. هذا يمكن أن يخلق ثقافة الفساد التي يعتبر فيها خيانة الأمانة والاستغلال وسيلة مقبولة لتحقيق أهداف الفرد.

من أجل مكافحة منطق الفساد المسلح، من الضروري أن تتحمل الجهات الفاعلة الفاسدة المسؤولية عن أفعالهم. يمكن أن يتضمن ذلك تعزيز قوانين مكافحة الفساد، وزيادة الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية، وتمكين المجتمع المدني من الاحتفاظ بسلطة الاعتبار. من المهم أيضًا تعزيز السلوك الأخلاقي والنزاهة في جميع جوانب المجتمع، من أجل خلق ثقافة ترفض الفساد ويدعم حكم القانون.

يعد منطق الفساد المسلح شكلا خطيرا وذئبيا من الفساد يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على المجتمع. من خلال فهم كيفية استخدام الجهات الفاعلة الفاسدة للتلاعب والاستغلال والتخريب لتحقيق أهدافهم، يمكننا تجهيز أنفسنا بشكل أفضل لتحديد هذه الممارسات الضارة ومكافحتها. فقط من خلال الوقوف ضد الفساد ومساءلة السلطة، يمكننا ضمان مجتمع عادل وعادل للجميع.

المنطق الكوني:

المنطق الكوني هو مفهوم يشمل فكرة أن المنطق والتفكير عالميان ويتجاوزان الحدود الثقافية والجغرافية. وهو الاعتقاد بأن هناك مبادئ أساسية للاستدلال قابلة للتطبيق في جميع السياقات والمواقف، بغض النظر عن الموقع أو الخلفية. يتجذر هذا المفهوم في فكرة أن هناك مبادئ منطقية متأصلة في الإدراك البشري ولا تقتصر على ثقافة أو مجتمع معين.

يؤكد المنطق الكوني في جوهره على أهمية التفكير النقدي والعقلانية في اتخاذ القرار وحل المشكلات. ويشجع الأفراد على الاعتماد على المنطق والعقل بدلا من العاطفة أو الحدس عند اتخاذ القرارات، والنظر في جميع وجهات النظر والأدلة قبل التوصل إلى نتيجة. يعد هذا النهج ضروريًا في عالم اليوم المترابط والمعقد، حيث غالبًا ما يكون للقرارات عواقب بعيدة المدى تؤثر على الأفراد والمجتمعات على نطاق عالمي.

يؤكد المنطق الكوني أيضا على أهمية الانفتاح والمرونة في التفكير. إنه يشجع الأفراد على النظر في وجهات نظر متنوعة وأن يكونوا على استعداد لتحدي معتقداتهم وافتراضاتهم. ومن خلال تبني عقلية المنطق الكوني، يمكن للأفراد توسيع منظورهم واكتساب فهم أعمق للقضايا المعقدة، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أكثر استنارة وفعالية.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الكوني هو تأكيده على الترابط بين العالم. وهو يدرك أنه في عالم اليوم المعولم، يمكن أن يكون للقرارات المتخذة في جزء واحد من العالم آثار مضاعفة تؤثر على الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. لذلك، من الضروري للأفراد أن يفكروا عالميا وأن يأخذوا في الاعتبار الآثار الأوسع لتصرفاتهم وقراراتهم.

يؤكد المنطق الكوني أيضا على أهمية التعاون والتعاون في حل التحديات العالمية المعقدة. ومن خلال تبني عقلية المنطق العالمي، من المرجح أن يعمل الأفراد معا لتحقيق أهداف مشتركة وإيجاد حلول مفيدة للطرفين للمشاكل المعقدة. ويعد هذا النهج ضروريا في معالجة قضايا مثل تغير المناخ، والفقر، والصراعات، والتي تتطلب جهودا منسقة على نطاق عالمي.

بالإضافة إلى تطبيقه في صنع القرار وحل المشكلات، يلعب المنطق العالمي أيضا دورًا حاسمًا في تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين الأفراد من خلفيات متنوعة. ومن خلال الاعتراف بعالمية المنطق والتفكير، يصبح الأفراد أكثر قدرة على التواصل والتواصل مع الآخرين، وسد الحواجز الثقافية واللغوية لبناء الثقة والتعاون.

ويكتسب المنطق العالمي أهمية خاصة في مجال العلاقات الدولية، حيث يكون للقرارات المتخذة على المستوى العالمي آثار عميقة على السلام والأمن. ومن خلال تطبيق مبادئ المنطق والعقل على المفاوضات الدبلوماسية وحل النزاعات، يستطيع صناع السياسات العمل على إيجاد حلول سلمية ومستدامة للتحديات العالمية.

علاوة على ذلك، فإن المنطق الكوني له آثار على مجال التعليم، حيث يمكن أن يساعد الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي والقدرات التحليلية. من خلال تعليم الطلاب كيفية التفكير عالميا والنظر في وجهات نظر متنوعة، يمكن للمعلمين إعدادهم للتنقل في عالم متزايد التعقيد والترابط.

المنطق الكوني هو مفهوم قيم يعزز التفكير النقدي والتعاون والتفاهم في عالم معولم. ومن خلال الاعتراف بعالمية المنطق والتفكير، يصبح بوسع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة، والتعاون بشكل أكثر فعالية، وبناء الجسور عبر الانقسامات الثقافية والإيديولوجية. في عصر يتسم بالترابط والتعقيد المتزايدين، يقدم المنطق العالمي إطارًا للتعامل مع التحديات العالمية بوضوح وبصيرة وتعاطف.

منطق العولمة:

لقد أصبحت العولمة قوة مهيمنة في العالم اليوم، حيث تشكل الاقتصادات والثقافات والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. والعولمة في جوهرها هي العملية التي يتم من خلالها ربط السلع والخدمات والأفكار والأشخاص على نطاق عالمي. وهذا الترابط مدفوع بمنطق يؤكد على الترابط والاعتماد المتبادل والتكامل عبر الحدود الوطنية.

أحد الجوانب الرئيسية لمنطق العولمة هو فكرة الترابط. وفي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، أصبحت البلدان أكثر اعتمادا على بعضها البعض في التجارة والاستثمار والموارد. وقد أدى هذا الترابط إلى تشكيل سلاسل التوريد العالمية، حيث يمكن إنتاج السلع وتوزيعها عبر بلدان متعددة. وقد أدى ذلك إلى زيادة الكفاءة والتخصص في الإنتاج، مما أدى إلى انخفاض التكاليف وزيادة فرص حصول المستهلكين على السلع والخدمات.

هناك جانب آخر مهم من منطق العولمة وهو الاعتماد المتبادل. ومع زيادة ترابط البلدان، تصبح اقتصاداتها أكثر اعتمادا على بعضها البعض لتحقيق النمو والاستقرار. ويمكن رؤية هذا الاعتماد المتبادل في الطريقة التي يمكن بها للصدمات الاقتصادية في بلد ما أن تنتشر بسرعة إلى بلدان أخرى من خلال الأسواق المالية والتجارة. وقد أدى ذلك إلى دعوات لمزيد من التعاون والتنسيق بين الدول لمواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والإرهاب وعدم المساواة الاقتصادية.

ويشكل التكامل أيضا عنصرا أساسيا في منطق العولمة. ومع زيادة ترابط البلدان واعتمادها على بعضها البعض، فإنها تضطر إلى دمج سياساتها وأنظمتها ومؤسساتها لتسهيل التجارة والاستثمار والهجرة. وقد أدى هذا التكامل إلى تشكيل منظمات فوق وطنية مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية، والأمم المتحدة، والتي تهدف إلى تعزيز التعاون والتآزر بين البلدان.

أحد المحركات الرئيسية لمنطق العولمة هو التقدم التكنولوجي. لقد أدى ظهور الإنترنت والاتصالات المتنقلة وتقنيات النقل إلى تسهيل انتقال الأشخاص والسلع والمعلومات عبر الحدود. وقد أدى ذلك إلى ظهور الاقتصاد الرقمي، حيث يمكن للشركات العمل على مستوى العالم والوصول إلى العملاء في مختلف البلدان بسهولة.

لقد لعب تحرير سياسات التجارة والاستثمار دورا حاسما في تعزيز العولمة. فقد فتحت البلدان أسواقها على نحو متزايد أمام المنافسة والاستثمارات الأجنبية، مما أدى إلى زيادة تدفقات السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود. وقد أدى ذلك إلى نمو اقتصادي أكبر، وخلق فرص العمل، والرخاء في العديد من البلدان.

لكن منطق العولمة لا يخلو من التحديات والانتقادات. ويرى النقاد أن العولمة أدت إلى تركيز الثروة والسلطة في أيدي عدد قليل من الشركات المتعددة الجنسيات والأفراد الأثرياء، مما أدى إلى زيادة عدم المساواة والاضطرابات الاجتماعية. ويشيرون أيضا إلى أن العولمة ساهمت في تآكل الثقافات والتقاليد المحلية، حيث أصبحت القيم والأعراف الغربية أكثر هيمنة في السوق العالمية.

تم إلقاء اللوم على العولمة في الاستعانة بمصادر خارجية لوظائف العمل وتراجع الصناعات التقليدية في العديد من البلدان المتقدمة، مما أدى إلى صعوبات اقتصادية واضطرابات اجتماعية للعديد من العمال. وردا على هذه الانتقادات، كانت هناك دعوات لمزيد من التنظيم والرقابة على الأسواق العالمية لضمان تقاسم فوائد العولمة على نحو أكثر إنصافا.

وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن منطق العولمة يظل قويا، مع استمرار البلدان في تبني الترابط والاعتماد المتبادل والتكامل كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي والإبداع والازدهار. وفي حين قد تكون هناك انتكاسات وعقبات على طول الطريق، فمن غير المرجح أن تنعكس القوى الدافعة للعولمة في أي وقت قريب. والأمر متروك لصناع السياسات والشركات والمجتمع المدني للعمل معا لمعالجة التأثيرات السلبية للعولمة وضمان تقاسم فوائدها بشكل أكثر إنصافا بين المجتمعات. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا خلق عالم أكثر شمولا واستدامة وازدهارا للجميع.

منطق الاستدامة:

أصبح مفهوم الاستدامة ذا أهمية متزايدة في عالم اليوم مع استمرار نمو سكان العالم وتزايد ندرة الموارد. غالبًا ما يتم تعريف الاستدامة على أنها تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة. ومن أجل تحقيق الاستدامة، من الضروري النظر في المنطق الكامن وراء القرارات التي نتخذها والإجراءات التي نتخذها.

واحدة من المبادئ الأساسية للاستدامة هي فكرة الترابط. كل شيء في العالم مرتبط بطريقة ما، والإجراءات التي نتخذها يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى. ومن خلال الاعتراف بهذه الروابط وفهمها، يمكننا اتخاذ قرارات أكثر استنارة تأخذ في الاعتبار التأثير الأوسع على البيئة والمجتمع.

جانب آخر مهم من الاستدامة هو فكرة التوازن. ومن الضروري إيجاد توازن بين تلبية احتياجاتنا الحالية والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة. وهذا يتطلب تخطيطا دقيقا ودراسة التأثيرات طويلة المدى لأعمالنا. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستدامة، يمكننا ضمان استخدام الموارد بكفاءة ومسؤولية، وتقليل النفايات والتدهور البيئي.

أحد الأسباب الرئيسية وراء أهمية الاستدامة هو الطبيعة المحدودة للعديد من الموارد التي نعتمد عليها. فالوقود الأحفوري، على سبيل المثال، غير متجدد وسوف ينفد في النهاية إذا واصلنا استخدامه بالمعدل الحالي. ومن خلال التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة واعتماد ممارسات أكثر استدامة، يمكننا ضمان أن هذه الموارد متاحة للأجيال القادمة.

بالإضافة إلى الاهتمامات البيئية، تشمل الاستدامة أيضًا العوامل الاجتماعية والاقتصادية. تهدف التنمية المستدامة إلى خلق توازن بين حماية البيئة والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي. ومن خلال النظر في كل هذه العوامل معا، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر مرونة وشمولا يستفيد منه الجميع.

وينطوي منطق الاستدامة أيضا على التفكير على المدى الطويل بدلا من التركيز فقط على المكاسب القصيرة الأجل. في حين أنه قد يكون من المغري إعطاء الأولوية للأرباح أو الفوائد المباشرة، فمن المهم النظر في الصورة الأكبر والعواقب المحتملة لأفعالنا. ومن خلال اتباع نهج أكثر شمولية، يمكننا إيجاد حلول دائمة تعود بالنفع على الأجيال الحالية والمستقبلية.

أحد التحديات الرئيسية للاستدامة هو الحاجة إلى العمل الجماعي. يتطلب تحقيق الاستدامة التعاون والتآزر بين مختلف القطاعات وأصحاب المصلحة. ومن خلال العمل معًا لتحقيق أهداف مشتركة، يمكننا الاستفادة من مواردنا وخبراتنا الجماعية لإحداث تغيير إيجابي على نطاق أوسع.

يلعب التعليم والتوعية دورا حاسما في تعزيز الاستدامة. ومن خلال رفع مستوى الوعي حول أهمية الاستدامة وتزويد الناس بالمعرفة والأدوات اللازمة لاتخاذ قرارات مستنيرة، يمكننا تمكين الأفراد والمجتمعات من اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق مستقبل أكثر استدامة. يعد التعليم عنصرًا أساسيًا في تغيير العقليات والسلوكيات نحو ممارسات أكثر استدامة.

تلعب التكنولوجيا أيضا دورا مهمًا في تعزيز الاستدامة. يمكن أن يساعدنا الابتكار والتطورات الجديدة في مجال التكنولوجيا على إيجاد حلول أكثر كفاءة وصديقة للبيئة للتحديات الحالية. ومن خلال الاستثمار في التقنيات والبنية التحتية المستدامة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة ومرونة للأجيال القادمة.

إن منطق الاستدامة يدور حول اتخاذ قرارات مستنيرة تأخذ في الاعتبار الترابط بين عالمنا، والتوازن بين تلبية الاحتياجات الحالية والحفاظ على الموارد للمستقبل، والعواقب طويلة المدى لأعمالنا. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستدامة والعمل معًا لتحقيق الأهداف المشتركة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة وشمولا يستفيد منه الجميع. ومن الضروري أن نستمر في تعزيز الاستدامة من خلال التعليم والتكنولوجيا والعمل الجماعي من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع.

المنطق المستقبلي:

المستقبلية هي نظرية وممارسة ظهرت في أوائل القرن العشرين، وروجت لفكرة التقدم والسرعة والتكنولوجيا والديناميكية. يمكن فهم منطق المستقبل من خلال عدة مبادئ أساسية تشكل رؤيته للمستقبل.

أولا وقبل كل شيء، تضرب جذور المستقبل في الإيمان بالتقدم والتطور المستمر للمجتمع والتكنولوجيا. ويؤكد هذا المنطق أن التغيير أمر لا مفر منه وينبغي احتضانه بدلا من مقاومته. يعتقد المستقبليون أن المستقبل يحمل إمكانيات لا حصر لها للابتكار والتحسين، ويدافعون عن دفع حدود ما هو ممكن من أجل خلق عالم أفضل.

ثانيا، تقدر المستقبلية السرعة والكفاءة كعنصرين أساسيين للتقدم. يفرض منطق المستقبل أنه من أجل مواكبة العالم سريع التغير، يجب على الأفراد والمجتمعات أن يكونوا مرنين وقادرين على التكيف، وأن يبحثوا باستمرار عن طرق لتحسين العمليات وتبسيط العمليات. وينعكس هذا التركيز على السرعة في افتتان الحركة المستقبلية بالتكنولوجيا وقدرتها على إحداث ثورة في كل جانب من جوانب الحياة البشرية.

جانب رئيسي آخر لمنطق المستقبل هو تركيزه على الإبداع والأصالة. يعتقد المستقبليون أن الابتكار ضروري للتقدم، ويشجعون التفكير خارج الصندوق وتحدي الحكمة التقليدية. ويشجع هذا المنطق على التجريب والمجازفة كأدوات لقيادة التغيير وإيجاد حلول جديدة للمشاكل المعقدة.

تؤكد المستقبلية على أهمية احتضان عدم اليقين والفوضى كفرص للنمو والتنمية. ويعترف منطق المستقبل بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به ومليء بالعوامل المجهولة، لكنه يرى في ذلك فرصة للتحرر من قيود الماضي واستكشاف إمكانيات جديدة. تشجع هذه العقلية الأفراد على أن يكونوا منفتحين ومرنين، وعلى استعداد للتكيف مع الظروف المتغيرة واغتنام الفرص عند ظهورها.

تدعو المستقبلية إلى رفض التقاليد والانفصال عن الماضي من أجل المضي قدمًا وإنشاء مجتمع أكثر تقدمية. إن منطق المستقبل يتحدى الأعراف والقيم الراسخة، ويدعو إلى إعادة تصور جذري للوضع الراهن من أجل تمهيد الطريق لمستقبل أكثر إشراقا. ويعتبر هذا الرفض للتقاليد خطوة ضرورية نحو تعزيز الإبداع والابتكار، مما يسمح بظهور أفكار ووجهات نظر جديدة.

يرتكز منطق المستقبل على إيمان قوي بقدرة التكنولوجيا على تشكيل المستقبل ودفع عجلة التقدم. يرى المستقبليون أن التكنولوجيا أداة قوية للتحول، قادرة على إحداث ثورة في كل جانب من جوانب الحياة البشرية من الاتصالات إلى النقل إلى الرعاية الصحية. وهذا الإيمان بقدرة التكنولوجيا على تحسين المجتمع يغذي افتتان الحركة المستقبلية بالابتكار وسعيها الدؤوب لتحقيق اختراقات جديدة.

جانب آخر مهم من منطق المستقبل هو تأكيده على الفاعلية الفردية والتمكين. يعتقد المستقبليون أن الأفراد لديهم القدرة على تشكيل مصائرهم والتأثير على مسار التاريخ من خلال أفعالهم وقراراتهم. هذا الإيمان بقدرة الفرد على إحداث التغيير هو القوة الدافعة وراء دعوة الحركة المستقبلية للتعبير عن الذات والإبداع والابتكار.

المستقبلية بطبيعتها متفائلة بشأن المستقبل وإمكانية التقدم والتحسين. إن منطق المستقبل يشجع الأفراد على التطلع إلى الأمام بأمل وحماس، معتقدين أن الأفضل لم يأت بعد. ويغذي هذا التفاؤل دافع الحركة المستقبلية لتجاوز الحدود، وتحدي الوضع الراهن، وخلق عالم أفضل للأجيال القادمة.

يرتكز منطق المستقبل على الإيمان بالتقدم والسرعة والتكنولوجيا والإبداع والتفاؤل. ويشجع الأفراد على تبني التغيير والتفكير بشكل مبتكر وتحدي المعايير التقليدية من أجل خلق مستقبل أفضل. ومن خلال تقدير السرعة والكفاءة والأصالة، تسعى المستقبلية إلى تسخير قوة التكنولوجيا لدفع التقدم والتحول. ومن خلال تعزيزها للقدرة الفردية والتمكين، تلهم المستقبلية الأفراد للسيطرة على مصائرهم وتشكيل مستقبل أكثر إشراقًا للجميع.

المنطق الأوراسي:

مفهوم الأوراسية هو أيديولوجية سياسية تدعو إلى وحدة وتعاون البلدان في كل من أوروبا وآسيا. وهو يقوم على الاعتقاد بأن هاتين المنطقتين تشتركان في روابط ثقافية وتاريخية مشتركة ينبغي الاستفادة منها لتعزيز السلام والاستقرار في عالم سريع التغير. إن منطق الأوراسيا متجذر في فكرة أنه من خلال سد الفجوة بين الشرق والغرب، يمكن لدول المنطقة إنشاء كتلة اقتصادية وسياسية قوية يمكنها منافسة هيمنة القوى الغربية.

أحد المبادئ الأساسية للأوراسية هو رفض القيم الليبرالية الغربية وتعزيز نهج أكثر تقليدية ومحافظة في الحكم. يزعم أنصار الأوراسية أن النموذج الغربي للديمقراطية والرأسمالية فشل في تحقيق الرخاء والاستقرار في العديد من البلدان، وأن الأمر يتطلب نهجا جديدا في التصدي لتحديات العالم الحديث. وهم يعتقدون أنه من خلال تبني القيم والمؤسسات التقليدية، يمكن لدول أوراسيا بناء مجتمع أكثر مرونة واستدامة.

جانب آخر مهم من منطق الأوراسية هو التركيز على التعددية القطبية وتوازن القوى. يزعم الأوراسيون أن العالم يخضع حاليا لسيطرة نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تركيز القوة على نحو يضر بالاستقرار العالمي. ومن خلال تعزيز التعاون بين دول أوراسيا، فإنهم يعتقدون أنه من الممكن تحقيق توزيع أكثر توازناً للسلطة، مما يؤدي إلى نظام دولي أكثر استقرارا وسلاما.

علاوة على ذلك، تؤكد الأوراسية على أهمية الهوية الثقافية والحضارية. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن البلدان في أوراسيا لديها تاريخ وتراث مشترك ينبغي الحفاظ عليه والاحتفال به. ومن خلال تعزيز الشعور بالهوية المشتركة بين دول المنطقة، يعتقد الأوراسيون أن الصراعات والانقسامات يمكن التغلب عليها، مما يؤدي إلى قدر أكبر من التعاون والتكامل.

تدعو الأوراسية أيضا إلى تطوير كتلة اقتصادية أوراسية يمكنها منافسة قوة ونفوذ المؤسسات الغربية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أنه من خلال تجميع الموارد وتنسيق السياسات الاقتصادية، يمكن لدول المنطقة أن تخلق اقتصادًا أكثر مرونة واكتفاءً ذاتيًا وأقل عرضة للصدمات والضغوط الخارجية.

علاوة على ذلك، فإن منطق الأوراسية يقوم على فكرة الاستقلال والاستقلال الاستراتيجي. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن البلدان في أوراسيا لا ينبغي لها أن تكون مدينة بالفضل للقوى الغربية أو تعتمد على مساعداتها. ومن خلال تعزيز الاعتماد على الذات والاستقلال، فإنهم يعتقدون أن دول المنطقة قادرة على تأكيد مصالحها الخاصة ومتابعة أجنداتها الخاصة دون تدخل من القوى الخارجية.

بالإضافة إلى ذلك، تدعو الأوراسية إلى نظام عالمي أكثر تعدد الأقطاب ولامركزية. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن النظام الدولي الحالي يخضع لهيمنة القوى الغربية، التي استخدمت نفوذها للحفاظ على هيمنتها وقمع مصالح الدول الأخرى. ومن خلال الترويج لنظام أكثر لامركزية ومتعدد الأقطاب، يعتقد الأوراسيون أنه من الممكن تحقيق نظام دولي أكثر مساواة وعدالة.

علاوة على ذلك، تؤكد الأوراسية على أهمية تعزيز الحوار الثقافي والفكري بين دول المنطقة. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أنه من خلال تعزيز قدر أكبر من التفاهم والتعاون بين الثقافات والحضارات المختلفة، يمكن للبلدان في أوراسيا بناء مجتمع أكثر انسجاما وسلاما. ومن خلال تعزيز التسامح والاحترام المتبادل، يعتقد الأوراسيون أن الصراعات والانقسامات يمكن التغلب عليها، مما يؤدي إلى قدر أكبر من التعاون والتكامل.

في الختام، يرتكز منطق الأوراسية على الاعتقاد بأن الدول في أوروبا وآسيا تشترك في روابط ثقافية وتاريخية مشتركة ينبغي الاستفادة منها لتعزيز السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة. من خلال الترويج لنهج أكثر تقليدية ومحافظة في الحكم، والتأكيد على التعددية القطبية وتوازن القوى، والتركيز على الهوية الثقافية والحضارية، تدعو الأوراسية إلى رؤية جديدة للعلاقات الدولية تتحدى هيمنة القوى الغربية وتعزز عالم أكثر مساواة وعدالة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

...................

المراجع:

- Copi, Irving M., Carl Cohen, and Kenneth McMahon. Introduction to Logic. Routledge, 2019.

- Sainsbury, R. M. Logical Forms: An Introduction to Philosophical Logic. Oxford University Press, 2001.

- Priest, Graham, and Marko Malink. “Intuitionistic Logic.” Stanford Encyclopedia of Philosophy, Stanford University, 2018.

- van Benthem, Johan. "Modal Logic: A Semantic Perspective." Stanford Encyclopedia of Philosophy. https://plato.stanford.edu/entries/logic-modern/.

- Suppes, Patrick. "Introduction to Logic." Dover Publications, 1999.

- Barwise, Jon, and John Etchemendy. "Language, Proof, and Logic." Center for the Study of Language and Information, 2012.

-Copi, Irving M., and Cohen, Carl. Introduction to Logic. Pearson, 2013.

- Aristotle. Prior Analytics. Oxford University Press, 2009.

- Hurley, Patrick J. A Concise Introduction to Logic. Cengage Learning, 2014.

- Aristotle, "Prior Analytics"

- Smith, Robin. (2003). "Aristotle's Logic." Stanford Encyclopedia of Philosophy. - Ackrill, John. (1963). "Aristotle's Categories and De Interpretatione" Oxford University Press.

-Copi, Irving M., and Carl Cohen. Introduction to Logic. Pearson, 2016.

- Sainsbury, R. M. Paradoxes. Cambridge University Press, 2009.

- Priest, Graham. An Introduction to Non-Classical Logic. Cambridge University Press, 2008.

- Quine, Willard Van Orman. Methods of Logic. Harvard University Press, 1982.

الزميل الدكتور طه جزاع.. مثالا

نشر الأخ الدكتور طه جزاع في جريدة الصباح (23 /5/2024) موضوعا عن الدكتور علي الوردي استهله بقوله (في حديث عابر مع زميل جامعي سألني حول مكانة علي الوردي في علم الاجتماع وأهميته في الأوساط العلميَّة... وآرائه الاجتماعية المعروفة، وبالأخص ما يتعلق منها بسمات الشخصية العراقية..) واستشهد بمن كتب عن الوردي، دون ان يذكر ما كتبناه نحن عنه.

 يعلم الدكتور طه، او افترض ذلك، أنني اقرب الأكاديميين الى الوردي، وانني كنت على فراش موته، ولا انسى عبارتين قالهما لي لحظتها: الأولى، بعد ان صار على يقين انه في ساعاته الأخيرة، قال: (تدري قاسم هسه شيعوزني.. ايمان العجائز).. والثانية.. مد يده لي وقال: تدري أنا ما احب الماركسيين.. بس الك.. احبك، تعال انطيني بوسه).. وكانت قبلة الوداع واكثر من دمعه.

 ويعلم الأخ طه انني اجريت مع الوردي حوارا لجريدة الجامعة زمن وزير التعليم العالي الراحل الكبير منذر الشاوي، ولم ينشر كله، وحين عتب عليّ الوردي اجبته: اذا نشر كاملا.. نكون انا وانت في سجن ابو غريب.. وعلق مازحا: والله يا محلاها اذا نكون سوا بزنانة وحده!.. وانني احتفظت بها 34 سنة واهديت الاتحاد العام للأدباء والكتاب ومكتبة الدكتور مهند مصطفى جمال الدين اوراقا منها (صارت صفراء) مكتوبة بخط يده، تم تزجيجها ومعلقة في بنايتي الاتحاد والمكتبة.

ويعلم، او افترض، انني كنت اختلف مع الوردي، في حياته، بخصوص تحليلاته للشخصية العراقية، (ولي ثلاثة كتب في الشخصية العراقية بينها كتاب منهجي مقر من وزارة التعليم العالي)، وكتبت مقالا بعنوان: نظرية علي الوردي لم تعد صالحة.. ومع ذلك فأنني خصصت 16 صفحة في كتابنا الشخصية العراقية في نصف قرن.. تعطيه حقه دعونا فيها الى ان تقيم له مدينته الكاظمية تمثالا يوضع بداية جسر الائمة ويده مفتوحة وممدودة باتجاه الاعظمية وختمناها بعبارة: (ان استذكار علي الوردي ينبهنا الى حقيقة ازلية هي ان الطغاة زائلون والعلماء خالدون).

 ما كتبته.. ليس من باب العتب على الأخ الدكتور طه جزاع، بل من اجل احياء واشاعة تقليد.. ان يكون الكاتب الاكاديمي موضوعيا حين يكتب، وان ينصف حق من يكتب عنه وحق من يستحقون حتى لو كان يختلف معهم شخصيا او فكريا.

***

د. قاسم حسين صالح

 

بقلم: سيمران أجاروال

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أشجار التمني والمجوهرات والزهور التي لا تذبل: ما هو المكان الذي تحتله هذه الملذات الحسية في حياة الرهبان البوذيين؟

إن كلمات مثل "الأروقة" أو "الأديرة" - التي تستحضر صورًا للمساحات العفيفة والمتقشفة والمنعزلة - التي نستخدمها عادةً للإشارة إلى المؤسسات البوذية تختلف تمامًا عن المفردات التي استخدمها الزاهدون البوذيون، في أوائل الهند التاريخية (حوالي 500 ق.م. - 300 م)، وتستخدم لمثل هذه الأماكن في النصوص والنقوش. لقد أطلقوا عليها اسم viharas أو aramas بدلاً من ذلك، وهي مصطلحات سنسكريتية تعني "مكان للاستجمام، أو أرض المتعة" أو "مكان المتعة، أو الحديقة". بالنسبة لسكان المناطق الحضرية المعاصرين، كانت مثل هذه المصطلحات تثير رؤى حدائق مليئة بتغريدات العصافير، وتعج بأصوات النحل وتكثر فيها الزهور وأشجار الفاكهة - وهي الأماكن التي تتكرر باستمرار في القصائد والمسرحيات السنسكريتية باعتبارها امتيازًا ماديًا وأخلاقيًا للنخبة. الذين دخلوا فيها للاستمتاع بمجموعة واسعة من الملذات، وخاصة العلاقات الغرامية والرومانسية. فلماذا يستخدم الراهب البوذي - المشهور بجهاده النسكي - مثل هذه المفردات لوصف منزله، مكان سكناه، بمجرد عودته إلى المدينة لتجنيد مرشحين رهبانيين جدد ونشر تعاليم بوذا؟

تمثل الحديقة البوذية في الهند التاريخية  فكرتين متعارضتين: الانغماس في الملذات الدنيوية (المرتبطة بالحديقة) والتخلي عنها (المرتبطة بالزاهد). تكمن متانة الحديقة في قدرتها على بناء التناقضات دون انهيارها. إن مناقشتها تعني الانجرار إلى مجموعة معانيها، التي تدمج الحديقة الدنيوية وارتباطاتها بالملذات الحسية والجسدية بينما تربطها بعالم أخلاقي أعلى، عالم لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تجاوز العالم الاجتماعي والمثقف.

لكي نفهم مسكن الناسك، علينا أن نبدأ بشخصية الساكن. مشتق من جذر الزهد اليوناني، مصطلح "الزاهد" ينقل افتراض حياة الكفاح أو العمل كما يدل على ذلك نظيره السنسكريتي ساراما، الذي يميز مهنة الناسك. يجلب هذا الكفاح أو العمل معه التخلي عن الروابط الاجتماعية والعائلية ليصبح "ناسكًا" (من اليونانية، ويعني "العيش في الصحراء") أو فانابراسثي (باللغة السنسكريتية التي تعني "ساكن الغابة")، مما يجعل التخلي أمرًا ضروريًا. وشرطا للنسك. إن الرغبة في التحول الذاتي توحد هذه الممارسات، والتي يتم التوصل إليها من خلال ممارسات نفسية فيزيولوجية صارمة من السعي الزاهد. ولهذا السبب تؤرخ التقاليد البوذية وغيرها من التقاليد الأدبية الهندية الناسك المكتمل باعتباره ماهابوروسا، وهو شخص كائن عظيم، يتجاوز الحالة الإنسانية، وربما يكون إنسانًا خارقًا.

ألقى بوذا خطبته الأولى في حديقة الغزلان بالقرب من كاسي، وباعتباره زاهدًا، فقد عاش في الحدائق والبساتين.

إن إقامة الناسك تعني أكثر من مجرد مأوى، فهي تتضمن هدف الرهبنة ومبدأها: كيف يمكن للناسك الرهباني أن يستمر في الحصول على منزل؟ على سبيل المثال، العيش تحت شجرة كان مسموحًا به من خلال أشكال مختلفة من الزهد، لكنه أصبح أكثر معيارية في ممارسات الزهد في البوذية المبكرة. ومع وصول بوذا (حوالي القرن الخامس قبل الميلاد)، وتعزيز فكرة كونه زاهدًا للغاية، أصبحت فكرة الكائن العظيم الذي يعيش في البرية أو أطراف المستوطنات البشرية تشكل قوة وروحانية تشبه الإله. الزاهد المتنازل، بطريقة ما، اكتسب جاذبيته من شخصيته غير العادية،أو بالأحرى الوجود الاستثنائي في فضاء مضاد للمجتمع؛ ولكن، بمجرد ترسيخه، حملت طبيعته المتجولة هذا الارتباط أينما سافر.3991 فيديكا

جزء من فيديكا (جدار منخفض) من أعمال التنقيب بهارهوت ستوبا في ماديا براديش. تصوير جوزيف ديفيد بيجلار، ١٨٧٤. بإذن من جامعة ليدن

إذًا ما الذي حدث عندما عاد الزاهد البوذي إلى الفضاء الاجتماعي للمدينة، حيث شجع الجو المتنامي للتمدن على السعي وراء الثروة (آرثا) والمتعة (كاما) إلى جانب الوفاء بالواجب الاجتماعي (دارما) - الممارسات الدنيوية باعتبارها نبذًا. لتحقيق التحرر (موكسا)، هل كانت الفكرة الأساسية للبوذية؟

وفقًا للمؤرخة روميلا ثابار، ظهرت أيديولوجيات التراجع إلى الطبيعة في البداية في المجتمع الزراعي الرعوي المتمثل في مجموعة النصوص الفيدية (مجموعة من النصوص المقدسة المؤلفة بين القرنين الخامس عشر والخامس قبل الميلاد). ومع ذلك، فقد أصبحت شائعة فقط من خلال الخطاب الذي حدث فيKutūhalaśālās/ كوتوهالشالاس-  الأماكن التي تثير الفضول -  نتيجة للتغيرات الاجتماعية التي رافقت التحضر في أوائل الهند. تقع هذه (الأماكن التى تثير الفضول ) على مشارف المدينة - في الحدائق والغابات والمتنزهات - حيث تجمع الناس للاستماع إلى خطب بوذا وغيره من المفكرين غير الأرثوذكس الذين زرعوا بذور مختلف الأيديولوجيات الجديدة من خلال التخلي عن النظام الاجتماعي المستقر.

عندما عاد أناثابينيديكا، وهو مصرفي ثري ومن أوائل أتباع بوذا، إلى مسقط رأسه سرافاستي (في ولاية أوتار براديش الحالية، الهند)، لم يدخلها، بل بحث بدلاً من ذلك وسط حدائق المدينة وبساتينها وحدائقها عن مكان لإقامة دير. ألقى بوذا خطبته الأولى في حديقة الغزلان بالقرب من Kāśī، وباعتباره زاهدًا، كان يقيم في الحدائق والبساتين. كان للحدائق في أوائل الهند أيضًا أدوار فريدة وأساسية في المجتمعات الحضرية والبلاط كمساحات خاصة وحميمة ومتعددة الاستخدامات - وهي امتدادات معمارية مشتركة لأسر النخبة، حيث تم تعليق العادات والأخلاق الاجتماعية اليومية، تمامًا مثل الغابة. أقيمت هناك أنشطة بلاط مختلفة مثل الاحتفال بالمهرجانات، وتمثيل الدراما الرومانسية، وممارسة الألعاب الترفيهية، والنزهات مع الرفاق، والاجتماعات السرية مع المحظيات والعشاق. وهكذا، على الرغم من أن أغراض الدير البوذي وحديقة المتعة كانت مختلفة تمامًا، إلا أنهما ما زالا يشكلان مؤسسات ذات صلة من حيث قربهما الجغرافي من المدينة وبعدهما الاجتماعي عن نمط حياة صاحب المنزل. وكانت هذه العلاقة حميمة جدًا لدرجة أنه تمت الإشارة إلى القوى العاملة في كلا المكانين بنفس المصطلح - أراميكاس. لذلك، يمكن بسهولة تحويل الحدائق إلى أديرة، لتكون بمثابة مساحة حدية بين الاهتمامات الفلسفية المتنوعة المرتبطة بتزايد التحضر وخلوات الغابات التي يحتفل بها في الأدب الأرثوذكسي.

من خلال التلاعب الرائع بالألفاظ، تحتوي مسرحية شودراكا القديمة باللغة السنسكريتية "بادمابرابهريتاكا" في الواقع على مثال لمعنيين - رهباني وشهواني - يعملان معًا. هنا تم القبض على راهب بوذي وهو يهرب من بيت للدعارة. عند سؤاله، أجاب بالادعاء أنه كان ببساطة قادمًا من "الرياضيات" (فيهار)، وهو صحيح من الناحية الفنية، لأنه كان قادمًا من "مكان المتعة" (فيهار). عند سماع ذلك، أجاب مساعده: "في الواقع، أنا أعرف المعنى الحقيقي لفيهارا الخاص بك"، مما جعل التلميح واضحًا.

هناك أيضًا حلقة في بودهاشاريتا، وهي قصيدة ملحمية كتبها أشفاغوشا (القرنين الأول والثاني الميلادي) يُصوَّر فيها بوديساتفا (شخص في طريقه ليصبح بوذا) وهو يمشي في حديقة ترفيهية بصحبة البغايا اللاتي يحاولن إغوائه. ويتطور المشهد على النحو التالي:

ثم تجول الأمير محاطًا بالنساء في الحديقة مع قطيع من الإناث مثل فيل في غابة الهيمالايا. في تلك الحديقة الجميلة كان يتألق مع النساء الحاضرات من حوله، كما لو كان محاطًا بالحوريات من أجل متعة فيفاسفات فيدراجا. ثم قامت بعض الفتيات الحاضرات هناك، متظاهرات بأنهن تحت تأثير المخدرات، بلمسه بأثدائهن الصلبة والمستديرة والجذابة تقريبًا. تعثرت إحداهن كاذبة وأمسكته بقوة بذراعيها الناعمتين... والأخرى،التي كانت شفتها  السفلي ذات اللون النحاسي تفوح منها رائحة النبيذ المسكر، وهمست في أذنه: "استمع إلى سر".

وقد وضع الرهبان البوذيون الذين جمعوا هذه الأعمال هذه المعاني في طبقات، وقدموا الحديقة باعتبارها أكوانًا متعددة - مصدرًا لتفسيرات متعددة.

لقد صورت الحدائق على أنها مساكن مثالية للكائنات النبيلة في الأدب الهندي الملكي والديني المبكر. تكشف مصادر مثل كاما سوترا أن حديقة المتعة الملكية - باعتبارها أعجوبة نباتية وقصرًا يتمتع بمتعة كبيرة - كانت بمثابة ملحق مهم لأسرة الملك الكبيرة. لقدرته على تجاوز توقعات الحياة اليومية جعلته كالسماء، علامة على المكانة العظيمة لبيت الملك، مكان رائع مثل بيت الله. يُعتقد أيضًا أن الكائنات القوية الأخرى، مثل الناغا (آلهة نصف بشرية ونصف كوبرا في العالم السفلي) تقيم في الحدائق الإلهية.

كانت حديقة الجنة البوذية، على النقيض من نظيرتها في البلاط الملكي، مكانًا حسيًا للغاية ولكنه خالٍ من الجنس.

بالنسبة للبوذية، ساعدت هذه الصورة الأوسع للحديقة في تصور مكان التنوير كحديقة خارقة ومزخرفة للغاية. وفي نصوص الماهايانا المبكرة، تطورت هذه الفكرة إلى مفهوم "الجنة"، حيث يعظ بوذا ويعيش إلى الأبد. جنة بوذا أميتابها (سوخافاتي أو "أرض النعيم النقية")، على سبيل المثال، بها سبعة صفوف من أشجار التالا، وشبكات ذات أجراس، وأشجار الأحجار الكريمة، وبرك اللوتس المصنوعة من الأحجار الكريمة، وأمطار من زهور الماندارافا العطرة التي تتحرك مع الريح، وكل منها مليء بالأحجار الكريمة. غطت الزهور الأرض مثل السجادة، لكنها اختفت بأعجوبة قبل أن تجف مباشرة، وعادت للظهور على الأشجار. ولا توجد زهور ذابلة في أرض النعيم النقية.

على عكس حدائق الملوك والثعابين، فإن حديقة جنة بوذا، كما هو موصوف في الأعمال الكلاسيكية، لا تتضمن أي وصف لجمال ونعيم الأبساراس (الأرواح الأنثوية). وفقًا للشيخ سوخافاتيفيوهاسوترا، فإن النذر الذي قطعه الراهب دارماكارا يعني أنه لا يمكن لأي امرأة أن تعيش في جنة بوذا أميتابها. وعلى الرغم من ذكر الحوريات في العمل، إلا أنه لا يوجد مدح لجمالهن. وفقًا لعمل المؤرخ أكيرا شيمادا، فإن هذا الحد الأدنى من الانغماس في الشخصيات النسائية وجمالها الحسي في الأوصاف النصية يعكس قدرة البوديساتفات وبوذا على التغلب على جاذبية الشهوة. علاوة على ذلك، في جنة أميتابها، لم يولد البوديساتفا من الرحم، ولكن بأعجوبة في حبة لوتس. وهكذا، فإن حديقة الجنة البوذية، على النقيض من نظيرتها البلاطية، كانت مكانًا حسيًا للغاية ولكنه خال من الجنس، حيث تم استبدال الملذات المثيرة بأشكال راقية من النعيم السامي والروحي (غير الدنيوي).

بقطع النظر عن استخدام صور الحدائق في الأدب البوذي، يمكننا أيضًا تتبع وجودها في البرامج النحتية للأبراج البوذية، المسكن الأبدي لبوذا في هذا العالم. بين عامي 200 قبل الميلاد و300 بعد الميلاد، شهد وسط الهند ومنطقة ديكان انتشار الأبراج البوذية والأديرة في المراكز التجارية وعلى طول طرق التجارة الرئيسية. بالإضافة إلى القصص من حياة بوذا، تصور بوابات وسور هذه الأبراج المبكرة مجموعة متنوعة من النباتات بالإضافة إلى الزخارف التصويرية الرائعة التي تتضمن النباتات.

في بهاروت ستوبا في وسط الهند، يصور السور لفائف الكرمة الملتوية التي تنتج أوراقًا وأزهارًا وفواكه وحتى جواهر، كما لو كانت كالبافاركس أو كالبالاتاس (أشجار التمني أو الكروم المتمنية) - نباتات أنتجت ثروة رائعة وكانت عناصر مألوفة في كل من التمثيلات البلاطية والبوذية. تتميز المواجهة أيضًا بشريط ضيق يمثل الشبكة ذات الأجراس التي واجهناها في جنة أميتابها (سوخافاتي)، في سوخافاتيفيوهاسوترا (الشكل 1). علاوة على ذلك، يشير الانتظام الشديد لهذه الكروم والعناصر الزخرفية إلى أنها لا تمثل نباتات "حقيقية"، ولكنها بالأحرى استحضار للحدائق المعجزة الموصوفة في كتب ماهانيانا المقدسة.

الشكل 1: قسم من السكة الحديدية، حوالي 150 قبل الميلاد، بهاروت. بإذن من متحف كليفلاند للفنون. ولكن، على النقيض من الدور المحدود للغاية للشخصيات الأنثوية المثيرة في حدائق هذه النصوص، فإن الأبراج البوذية المبكرة غنية بالصور المثيرة لنساء مغريات؛ وفي حدائقهن، يستمتع الأزواج العاشقون، تحت ظلال الأزهار، بمختلف المتع غير المشروعة وشبه غير المشروعة (الشكلان 2 و3). إلى جانب هذه الصور، لدينا Ṛṣyaśṛṅga - المولود بدون رغبة ويرمز إلى قوة الزهد - والذي يذكرنا بمقاومة البوديساتفا للعاهرات المغريات في حديقة المتعة في بوذا شاريتا (الشكل 4).

الشكل 2: عمود حديدي زاوية مع الشرب والرقص والموسيقى، من ماثورا، فترة كواسنة، القرن الثاني الميلادي. بإذن من متحف كليفلاند للفنون

الشكل 3: تم العثور على درابزين ستوبا في تل بهوتسار، فترة كوانا، المتحف الهندي، كولكاتا.

الشكل 4: صرِشْرِنغا، فترة كواهن، القرن الثاني الميلادي، متحف ماثورا.

مع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو الموقع المعماري لهذه الصور المثيرة، والتي تقتصر على الوجوه الخارجية ومحيط الأبراج البوذية (الشكل 3)؛ وبالتالي، يتم استبعادها مكانيًا من المساحات الداخلية الأكثر أهمية أمام بوذا، والتي تصور الأساطير المقدسة مثل قصص حياة بوذا. كما أرى، فإن مثل هذا التمييز الدقيق والتسلسل الهرمي بين الحسي والمقدس في البرنامج النحتي للأبراج البوذية قد زود ستوبا بوظيفة الدخول في انتقال رمزي من العالم الخارجي الدنيوي إلى عالم الزهد الداخلي الظاهري. ومن خلال القيام بذلك، فإنه، مثل النصوص المقدسة، تخيل أن حدائق بوذا الجنة هي خارج نطاق الملذات الدنيوية.

لكن، كيف يمكن للمرء أن يفسر ظهور النباتات الممنوحة للثروة، والمحققة للرغبات، والتي تثير أوصافها بوضوح خيالات البذخ، في الحدائق السماوية للأدب البوذي؟

جادل المؤرخ داود علي بأن مثل هذه الأوصاف والتمثيلات تلخص جماليات الوفرة، التي "تنظر إلى الزهور والمجوهرات والحلي باعتبارها إكسسوارات أساسية وميمونة وجميلة لعالم مقبول أخلاقياً".حثت التعاليم البوذية أصحاب المنازل على "زرع" أعمالهم في "مجالات الاستحقاق" وتنمية الفضائل التي من شأنها أن "تؤتي ثمارها"؛ ووفقًا للنص البالي/ Pali (فيمانافاتثو )، فإن مثل هذه الأفعال قدمت بالفعل مكافآت مثل شجرة التمنيات، أو كالبافريكشا*. إن البناء البوذي للجنة - حيث يجني الناس العاديون (كثيرون منهم من البيئة الحضرية والبلاطية) مكافأة مزاياهم الأرضية - دمج قيم المجتمع المعاصر ليس أمرًا مفاجئًا نظرًا لأن الأدب البوذي اعتمد أيضًا على روايات ممارسات البلاط المعاصرة لإعادة البناء. الكثير من حياة بوذا المبكرة كأمير. والأمر المهم هنا هو كيف أعاد هذا التوحيد صياغة صور البذخ البلاطي ووسعها إلى استعارة من الوفرة الفاضلة، والتي اكتسبها المرء من خلال الوصول إلى حافة الحضارة ــ من خلال جهد الزهد والتضحية،ــ والتحول إلى كائن عظيم.

(تمت)

*** 

..................................

المؤلفة: سيمران أجاروال / Simran Agarwal  باحثة مشاركة في أكاديمية MAP. حصلت مؤخرًا على درجة الماجستير في الفنون وعلم الجمال من جامعة جواهر لال نهرو في دلهي. تم نشر كتاباتها في مجلة جارلاند وScroll.in،

* كالبافريكشا هي شجرة إلهية تحقق الرغبات في الديانات مثل الهندوسية والجاينية والبوذية.

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

كثيرًا ما نتَّهم المستشرقين بالطعن في «القرآن الكريم». غير أنَّ من الإنصاف الاعتراف بأن بعض كتب التراث ربما طرحت في صحفها الذرائع تلو الذرائع للطاعنين في الخِطاب القرآني.  هكذا زعم مولانا (ذو القُروح)، والعُهدة عليه.  فسألته:

- كيف؟

- لقد ابتكروا لنا قِسمة المَكِّي والمَدَني، مثلًا، مع أنه لم يَسمع بها أهل الصدر الأوَّل من المسلمين.  ومعلوم أنَّ المستشرقين في العصر الحديث قد جَهِدوا من أجل تحويل «القرآن» إلى كتاب تاريخ؛ فسعوا إلى إعادة ترتيبه، حسب بعض المعلومات عن سياقات النزول، ففشلوا.  وظلَّ «القرآن» كتابًا ذا نَصٍّ كُلِّي الدِّلالة، لا كتاب مناسبات، ولا سِجِلَّ تواريخ، أو من قبيل السِّيَر الذاتيَّة.  وهو لو كان كذلك أصلًا، لما كان كتاب دِين، بل كتاب دُنيا.  ولئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا، فكيف بالنصِّ القرآنيِّ على وجه الخصوص؟! من حيث إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائيٍّ. ثمَّ لقد أردف أولئك قِسمةَ «القرآن» إلى مَكِّي ومَدَني بحكايةٍ أخرى، هي حكاية الناسخ والمنسوخ، التي استُغِلَّت أيضًا أسوأ استغلال من قِبل المسلمين وغير المسلمين؛ فأبطلوا حُكم بعض الآيات بحُجَّة المَكِّية والمَدَنية تارةً، وبحُجَّة الناسخ والمنسوخ تارةً أخرى. ومن هذا ما قالوه حول ما قبل الأمر بقتال المشركين وما بعد الأمر بالقتال. وبذا بات الإسلام إسلامَين، إسلامًا مَكِيًّا وآخَر مَدَنيًّا، وإسلامًا سِلميًّا وآخَر حَربيًّا، وإسلامًا ناسِخًا وآخَر منسوخًا! وما هو، في حقيقة الأمر، إلَّا خِطابٌ واحد، ولو كره الكارهون.

- أتراهم لا يفقهون ما فقهتم، يا ذا القُروح؟!

- أجل، يمكن أن تقول هذا! لولا تقديس ما وجدنا عليه آباءنا. وهذه دِيانة (قُريش)، لا دين (محمَّد بن عبدالله). أو قُل: هم لا يستطيعون أن يفقهوا الظروف السياسيَّة أو التاريخيَّة أو المعرفيَّة، وأنَّ لكلِّ سياقٍ خِطابًا، ولكلِّ ظرفٍ ما يناسبه، وتلك سُنَّةٌ في كلِّ تشريعٍ أو نظام أو قانون.

- أراك تناقِض نفسك!  ألم تَقُل قبل قليل: إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرِب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العَينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائي.

- لا تناقض، يا ابن الذين! فقد قلتُ: لئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا. ففرقٌ بين الاستئناس بسياق النصِّ وتقييده به.  من حيث إنَّه لا يصحُّ بحالٍ أن تُدار الأمور على نحوٍ واحدٍ في كُلِّ الأحوال والملابسات، وإلَّا كانت تلك سياسة تحكُّميَّة غبيَّة، فاشلة في التعامل مع الأحداث والمستجدَّات.

- على أقل من رِسلك! بالمثال نفهم المقال.

- من شواهد ذلك الخَطَلِ العجيبِ في التفسير أن تجد موقفهم حيال (الآيتين 14- 15) الواردتين في (سُورة الجاثية)- وهم يصنِّفون السُّورة على أنها «مَكِّيَّة»، ولهذا التصنيف ما له، ووراءه لديهم ما وراءه، سواء لدَى المفسِّرين منهم والطاعنين-: «قُل لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.  مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»

- وأيُّ خِطابٍ أكثر حضاريَّة، وإنسانيَّة، وتسامحًا من هذا؟!

- نعم، ولكن هيهات، لا تفرح!  ستجدهم يهبُّون للاستدراك على كلام الله، مسجِّلين في كتبهم- كما في «تفسير الجلالَين»، للسيوطي والمحلِّي، مثلًا- أنَّ حُكم الآية الأُولى إنَّما كان قبل الأمر بالجهاد! أي أنهم يقولون: إنَّه لم يَعُد للَّذين آمنوا من مجالٍ لأن يغفروا لغير المؤمنين، بل أن يقاتلوهم، هكذا، حتى يؤمنوا، أو يَفنى أحد الفريقين، أو كلاهما!

- ومن ثَمَّ أنَّ الآية لم يَعُد لها معنى أصلًا!

- فلِمَ تبقَى، إذن؟  أرأيتم كيف يفعل هؤلاء؟!  إنَّ بعضهم- والحالة هذه- يقدِّمون مائدة من التناقضات والبلاهات لكُلِّ من هَبَّ ودَبَّ من الطاعنين.

- ألا ترى أنَّه يُضاف إلى مبتكرات العصور المتأخِّرة- من قبيل ما ذكرتم من المَكِّي والمَدَني، والناسخ والمنسوخ، ومن ثَمَّ جَعْل «القرآن» عِضِيْن- إشكالٌ آخَر يتعلَّق باللُّغة العَرَبيَّة؟

- بلى. على أنَّ اغتراب اللُّغة العَرَبيَّة- أمس واليوم- كارثة قائمة بذاتها، وهو صورةٌ عن اغتراب العَرَب والمسلمين، وتخلُّفهم الفكري والحضاري، واستلابهم لغيرهم.  أمَّا إضعاف اللُّغة عمدًا، والاستهانة بها، والاستبدال بها غيرها، فمشروع معاصر، يسعى إلى إضعاف العَرَب، فكرًا، وحضارة، وهويَّة.  على الرغم من أنَّه من المعروف والمشهود أنَّ من أضعف الإيمان في الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة لدَى الأُمم الحيَّة فرض اللُّغة القوميَّة على الوافد، مثلًا، فضلًا عن المواطن.  فهل رأيتم الإنجليز أو الفرنسيِّين يكسِّرون لغتهم من أجل الوافدين؟  أم سمعتم الأمريكان يفعلون ذلك مع الوافد إلى (الولايات المتحدة الأميركيَّة)؟  أو رأيتم أنهم يُلغون لغتهم هم ويتحدَّثون بلُغة الوافد؟

- كلَّا! بل هم يُلزِمون الوافد بتعلُّم لُغتهم، لكي يحيا بينهم بصورة مريحة، وإلَّا فليذهب إلى حيث ألقت.

- وعليه، لكي ينجو من أُمِّ قَشْعَم- أن يحضِّر نفسه؛ بأخذ دورات لُغويَّة مكثَّفة، أو بأيِّ تدابير أخرى ليستطيع التفاهم مع أهل البلد المضيف. أمَّا العَرَب، ولعُقَد نقصٍ حضاريَّةٍ مزمنة، ولأمراض ثقافيَّة بنيويَّة، لدَى المؤسَّسات الحكوميَّة قبل الشُّعوب، فإنَّ الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة الاتباعيَّة تتمثَّل في رفض اللُّغة القوميَّة وتحطيمها ليفهم الوافد. هذا إذا كان شرقيًّا.

- إمَّا إذا كان غربيًّا، فالواجب ترك العَرَبيَّة أصلًا، والرطانة بلسان الغَرَبي، إكرامًا لزرقة عينيه!

- حتى إنك لتلحظ أن العَرَبيَّ بات يخجل من استعمال لُغته، كيلا يُنظر إليه على أنه جاهل أو متخلِّف، أو، لا قدَّر الله، إرهابي، آبق من ربقة سيِّده الأبيض!  فتراه يُناضل ما استطاع لإثبات ولائه، لاويًا لسانه بلُغة سيِّده، مهما تمخَّض عن رطانةٍ بليدةٍ سمجة؛ فالمهم من كلِّ شيءٍ أن يحظى بشهادة الانسلاخ، واعتناق لسان الآخَر، وما يتبع هذا من انسلاخات شتَّى!

- بالأمس القريب كان الناس يتندَّرون على من يستعمل كلمة «أوكي»، بدل «طيِّب»، وإنْ كان قد يستعملهما معًا: «طيِّب.. أوكي»، أمَّا اليوم فقد اتسع الخرق على الراقع، وما زال في اتساع، وأمسى الجميع- حتى العامِّي الأُمِّي، الذي لا يقرأ ولا يكتب بالعَرَبيَّة- يستعملون عشرات الكلمات غير العربيَّة.

- والطامَّة الكُبرى أنَّ المؤسَّسات المسؤولة- أو هكذا يُفترَض- تعليمًا وإعلامًا، والمُوْكَل إليها تسمية المرافق والمحالِّ التجاريَّة، قد شَرَّعت ذلك وأجازته، وكأنه لا يعني شيئًا.

- لأنَّ تلك الجهات نفسها، وببساطة، لم تعد تعي ما هي؟ وأين هي؟

- أنت ترى- على سبيل المثال الشَّعبي- كلمة «كافيه» تتبختر في الشوارع العَرَبيَّة العامَّة والخاصَّة، بعرض الوطن العَرَبي وطوله، وتندلق على كل لسان.  والطريف أن تسمع العُربان وتقرأهم يجمعون هذه الكلمة جمع مؤنَّث سالم: «كافيهات»!  والأطرف أنَّ الكلمة- لفظًا ومعنى- عَرَبيَّة أصلًا، استعجمتْ ثمَّ استُوردت!  فما كان ليحلو في أذن العَرَبيِّ المستلَب، ولا ليروق له أن يستبدل بـ«كافيه» كلمة «مقهى»، وبـ«كافيهات» كلمة «مقاهي»!  هو يشعر بأن الكلمة العَرَبيَّة سُوقيَّة مبتذلة! ولقد كانت بعض المقاهي العَرَبيَّة قبل سنين منتديات أدبيَّة راقية، يرتادها كبار الأدباء وعِلية المفكرين، في (القاهرة) مثلًا، أمثال (نجيب محفوظ) و(توفيق الحكيم)، وأضرابهما.  ذلك قبل عهد «الكافيهات». وهذا الاغتراب اللُّغوي ما هو إلَّا مرآة مقعَّرة تصوِّر منحدرنا الثقافي العام الجارف، الذي يتعمَّق بنا عامًا إثر عام. وهي حالة مَرَضيَّة لا تنحصر عقابيلها في وضع كلمةٍ مكان كلمة، ولا في البُعد الاغترابي اللُّغوي فقط.

- سامحك الله، خرجت بنا عن الموضوع!  وتلك قضيَّة أخرى.  فلنبق في الأولى!

- لم أخرج، بل دخلت.  لأننا سنجد أنفسنا مضطرِّين لطرح السؤال الآتي: ما مدى عِلم بعض سلفنا الصالح باللُّغة العَرَبيَّة؟  وسنناقش الإجابة في المساق المقبل.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

عصر التقنية المتطورة، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت. وبما يوفره من حرية وسهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، والمواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية.

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري والثقافي للنخب الثقافية، وربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه. وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد.

التثقيف الافتراضي

كما أتاح العالم الافتراضي إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضية ومراكز أبحاث وكليات ومعاهد للدراسة عن بعد، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي والمعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّر في حركة الكتاب الورقي فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة  بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي.

انشطة ثقافية الكترونية

التغطية المستمرة والبث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة  حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعي وغرف الدردشة والملتقيات والصالونات والمجموعات الثقافية والإخبارية والتجارية. ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة، والمسجلة تارة أخرى، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر ويرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة، تعقبها مداخلات واسئلة. تمخض عن هذا الدور، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم.

عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم " شهادة مشاركة " باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية. فضلاً عن " شهادة شكر "  و" درع الإبداع والتميز ".

بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك  بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا.

الثقافة المحلية وعصر التقنية

يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، من خلال محركات البحث الالكتروني. لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع.

لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً.

الفردية الثقافية

اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي. ومنهم من يراها تعزز مركزية الذات، وتزيد في حرية التعبير، وحرية الإبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيد بالمصادر والآراء القديمة والموروث الثقافي عموماً.

لا يرى بعض المثقفين، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها. بينما يعتقد المثقف المحافظ ان الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال. فصار الحديث عن الغزو الثقافي، وعن إحتلال العقول، والهيمنة الرقمية العالمية، والتغريب الثقافي وأمركة العالم وثقافة القطب الواحد.

المثقف والتطور

لا تزال لكلمة “ تطور “ جاذبيتها الشديدة التي تشد اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل.

بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم. وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة. وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية.

يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية. لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة، وفي الوقت نفسه، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية. فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي.

الثقافة والتزييف العميق

هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحرية والأخلاق والثقافة في عصر التقنية. تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية، أو شخصية مؤثرة، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة والمؤدلجة.، من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات ويشغلون اوقات البث، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصادي. وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنساني أخلاقي إيجابي، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة.

أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية. كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم ومعارفهم وثقافاتهم، ستأخذ مخططات ومشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه. أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة والأمانة العلمية وبقوة الشخصية وسلامتها. أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة  من أحداث التاريخ. بحيث تقدم هذه الأعمال والأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية. فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم  ثقافاتهم الجديدة.

غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحية الثقافة الإستهلاكية، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة، ولن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ.

بين الإغتراب والتغريب

برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس. إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء. بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك - كما يتوهم بعضهم - على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب.

في كتابه “ قضايا الفكر “ المطبوع سنة 1959م يقول: وديع فلسطين” في صفحة 128 (وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد. ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهوان التفكير

وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال: ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب.. مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر في عقول الشباب ونفوسهم تأثيراً ضاراً سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي، وتؤدي الى انحطاط مستوى الروح الادبي والعلمي في اوساطنا المثقفة..)

على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة، لا يكاد يفهم منها شيئاً. الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “، “ شكراً لحرفك الجميل “، “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان.

تقارير ثقافية

حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة.

وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً

وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي.

وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان.

قد تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب.

الكتاب والتسويق

تواجهنا في الحديث عن الدور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه (قضايا في الفكر). تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات. لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط.

كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية. ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه.

لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه، إلا من أوتي حظاً منهم،  لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة. لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له  قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة. وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية.

وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه بسبب رؤيته المحدودة، أو بسبب ضعف همته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف اجواءه. فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم، فهم مهنيون، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا انفسهم  , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر، وكنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه ابنه أو ابنته، وان حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض. وبهذا الصدد يتوجب عليّ ومن باب العرفان بالجميل أن أذكر ان والدي الأديب الناقد والشاعر عدنان عبد النبي البلداوي كان يدعوني وأنا في مرحلة المتوسطة الى الإستماع الى مقالة له قبل أن يبعث بها الى النشر، ليس لمجرد الإستماع بل كان يغريني وانا في ذلك العمر برغبته الصادقة في معرفة رأيي فيما كتب وان كانت لي ملاحظات على مقالته، وكان يأخذ برأيي، ليس لكفاءتي طبعاً ولكن لبراعته. كانت تلك طريقة عبقرية، اعترف بها اليوم وانا أتجاوز الخمسين عاماً من عمري وقد تحولت الى عاشق للكتاب. لقد أعدني بهذه الطريقة النفسية البديعة وشدني الى مكتبته التي احتفظ بها اليوم وقد نمت وكبرت معي، وصارت جزءاً مني. ليس هذا وحسب بل انه شجعني على أن أدرس تخصصاً استطيع به تكوين نفسي مادياً وان لا أفارق الكتاب، وفعلاً تخرجت في كلية الهندسة وانا أهوى الكتاب والكتابة، وكان يقرأ كتاباتي الطفولية قراءة نقدية لم يشعرني أبداً انه كان يداعبني أو (ياخذني على كد عقلي) كما نقول في العراق. كان صادقاً معي في كل ملاحظة وتصويب، وفوق كل هذا شجعني على نشر تلك الخواطر والكتابات فكانت أولى خطوات النشر لي في جريدة العراق وجريدة الراصد وانا في المرحلة الإعدادية.

الثقافة والتقنية الصناعية

كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب، فصار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الألكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب.

يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب، فهناك ملايين المواطنين في عالمنا العربي الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر. وصل عددهم الى عشرة ملايين شخص في العراق وحده، يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها. هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف. ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو، بلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حد كتابة الكلمات بالكيفية التي تنطق بها، فجاءت (لاكن) لتدل على (لكن) و(لكي) لتعني (لك) و (شكرن) بدلا عن (شكرا) و (بارك الله فيكي) بدلاً عن (بارك الله فيكِ)، وهكذا..

الثقافة المرحلية

هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح، و ثقافة الصورة على ثقافة النص، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات (متألق، نص رائع، يا لجمال حرفك، انت قامة ادبية، دام ابداعك،...) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبية على جميع تفاصيل الواقع المأزوم والمثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين ان يضمن حديثه (تم بموافقة الأدمن..) يريد بذلك المدير. ويبدأ أحدهم منشوره قائلاً: الأخوة في الكروب) يريد بها المجموعة او التجمع.

الكتاب الورقي وتقنية الطباعة

بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة، وحركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى. وجد بعض الكتاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات. بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي والإقتصادي والأمني في العالم العربي، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي. فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب. يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة ويتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب وفقراته وقصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب. بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً وبين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية ممولة.

هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً.

في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون، وسيقل الثوّار والمبدعون. وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي.

المضامين الثقافية

اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك،  بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع. الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية.

يبدو إن بعض المثقفين، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة. ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الثقافي الذي هم عليه، كما ان هناك سبباً آخر وهو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى.

في نقد ثقافة الدولة

الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع، ذلك لقدرتها على حفظ القيم والمثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع. فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على اعطاء معنى لكل شيء، وهو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على ان يعطي فهماً لذلك المعنى. من هنا جاء حرص كثير من الحكام على مر التاريخ على إبقاء الجهل والفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم . عندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته .

فقد إستبدل الفقر والجهل، بالإستهلاك والثقافة المعلبة، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور. إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية وزيادة مرتبات الموظفين.  الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي. هو وان كان كذلك، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي وخدمة المجتمع لأهداف انسانية، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك، يقضي كل وقته في العمل والتسوق، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره.

إننا نعيش عصر أمركة العالم، وهو عصر لا يشغل السلطة فيه امر أكثر من جمع الاموال، لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس، ولا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين، فكثر الحديث عن الرشوة والفساد المالي والتزوير والإبتزاز واغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة، وكثر الحديث عن المعاناة والامراض النفسية والملل وضنك العيش في أوساط المجتمع.

لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات، ومساحة التواصل والإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هي ثقافة المرحلة الجديدة، وهناك مشروع ثقافة عالمية ينتجها النظام العالمي بالقوى الكبرى المتنفذة فيه، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم. فكلما وفرت الحكومة خدمة اتصالات متميزة، كلما ضمنت مساحات اكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة. فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت كالنشاط الفكري مثلاً، ولعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط بدون ذلك الإتصال، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام اتصاله بالشبكة .

ينتهي الإنسان ويضيع الدين وتنهار الأخلاق في كل مجتمع فيه مسؤول فاشل ومواطن غافل.

الثقافة الرسمية

في مؤسسات الدولة الثقافية لا يبدو العقل الثقافي الرسمي متفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسمية فيما يخص جوهر الثقافة ومشروع تمكين المجتمع ثقافياً. إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان على النمط التقليدي الروتيني المتعلق بقص الأشرطة والحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنية ومعرض الكتاب و.. و..

كثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة وإتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى. ان الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين اتحاد الأدباء كدائرة حكومية رسمية وبين أي دائرة خدمية أخرى هو ان الموظف في إتحاد الأدباء يستقبلك بعبارة “ تفضل أستاذ “ بينما يستقبلك الموظف في دائرة حكومية أخرى بعبارة “ تفضل أخي “ ويخضع المثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري، ومما يوسف له أن تصاب ثقافة الدولة الرسمية بهذا الوباء ويصبح المثقف الحكومي ناقلاً لهذا الفيروس.

ترقين قيد مثقف

في بداية هذا العام 2024م قصد مبنى إتحاد الأدباء والكتاب في بغداد أحد اساتذتنا من الأدباء والنقاد الذين مضى على إنتمائهم الى الاتحاد ما لا يقل عن ثلاثين عاماً. شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحية وتقدمه بالعمر، أن تحول دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته، ولما تهيأ له الوقت والظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد وهو يخبره ان إدارة الإتحاد قد رقنت قيده، ولكي يعيد انتسابه عليه ان يتقدم بطلب جديد.

اندهشت كثيراً وتألمت وهو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد وسألته هل قدمت طلباً جديداً ؟ قال: لشدة امتعاضي من سوء التصرف وسماجته، اعتذرت عن كتابة الطلب كوني لا اتمكن من الكتابة وطلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني، ثم غادرت المبنى.

تحت عنوان “ ترقين قيد مثقف “ نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً: هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة ؟. تعليق قال صاحبه: بل قل هل في هذا الإجراء شيء من الأدب.

لا بد لي من الإشارة الى الحس الثقافي الإنساني الذي ابداه عدد من المثقفين ممن قراوا المنشور إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصياً لتسوية المسألة وطلبوا مني اسم ورقم هاتف الاستاذ المرقن قيده للتواصل معه من أجل إنصافه. مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية. كان موقف الموظف المثقف الرسمي الملوث بروتين الدولة الإداري، فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد متسائلاً عن هذا التصرف أجابه برسالة صوتية، بعث لي الأديب المتفضل نسخة منها قال فيها انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً، وهو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو. ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء على وفق السياق الروتيني.

في حادثة أخرى، قصد أحد الكتاب  والمؤلفين مبنى الإتحاد لطلب الإنتساب، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي. أخبره الكاتب ان لديه مؤلفات  في الفكر الإسلامي تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. رد عليه الموظف: لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي. اليس لديك رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب. قال له الكاتب: اليس هذا اتحاد الأدباء والكتاب ! قال له الموظف: نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبية والفنية. حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م.

وفي لقاء مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب سنة 2021م، أجرته احدى القنوات الفضائية سئل عن الإنجازات التي قدمها الإتحاد في عهده، فكان من بين ما أجاب أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد.

يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى الإتحاد، فقال له سنة 1976م. نظر اليه الموظف وقال له مبتسماً: (انت واوي عتيك استاذ).

لا حياة بدون ثقافة

ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة ومن اتحاد الأدباء والكتاب ؟

ماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف ؟

هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات والمواقع الإجتماعية والقيادية والمهن العليا أم هي ثقافة المجتمع ؟

هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الموبايل والحواسيب والإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافي ؟

لا يرى كثير من المثقفين، معنى للحياة في أي مجتمع من دون ثقافة. فهي تمثل عندهم جوهر الحياة. عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية. يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة، ويرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين. نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات والصناعة، ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا.

الثقافة مفهوم أوسع مدى من إنتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة. فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس وإنتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم ومدياتها. ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم. من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونية أو عولمة الثقافة، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية ودمجها في ثقافة عالمية وهو ما قد يهدد الروح الإجتماعية التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها.

الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع

في كتابهما “ الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الامريكي الفريد كروبر Alfired Louis Krober  (1876 - 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn   (1905 - 1960). قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة. يرى “ كروبر” ان اول ظهور لكملة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م .

يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس “ ان الثقافة: “ كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية”.

أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة انها (جملة اكتساب التقاليد الثقافية، كما انها العملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات).

في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي. لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة. وما إذا كان اللون التقليدي للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي العقل والنفس والقلب معاً.

إننا بحاجة الى دور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان (الانثروبولوجيا). دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة، عالية الدقة، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية وإرتفاع معدلات الطلاق والإنتحار والإدمان والأمراض النفسية والعنف الأسري وجرائم القتل وحالات الغش والتزوير والإبتزاز والتسقيط الإعلامي والتشهير. ان من بين أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممن يعيشون فقر التعليم وفقر المعيشة وفقر الرفاهية والجهل والمرض. لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضر بسلامة وجودهم. أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم وحرية وجودهم وبناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي.

لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن المجتمع، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما، وسواء أكان المجتمع هو الأساس أم الثقافة هي الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء، فإننا نعتقد ان المجتمع هو الأساس وان الثقافة ضرورة حتمية لهذا الأساس لكي يستمر. ذهب مايكل كارذرس في كتابه (لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس وليست الثقافة.

يرى “ هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد.

إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم  حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف والتحوير حين دخلت الأخلاق ودخل الفكر سوق العرض والطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل، ولحنت ألسنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية. ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة ونسب التصحر والجفاف وإزدياد أعداد الفقراء حول العالم، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي.  يقول الأمريكي كارلتون كون carlton coon  وهو أحد علماء الإنسان (فموضوع دراسة الثقافة هام وهو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب، او الأعمال المصرفية العالية. إن في دراسة الثقافة مفتاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة..)

يقول إليوت (اول ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين: طريقة حياة شعب معين، يعيش معاً في مكان واحد وهذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم وفي دينهم).

في كتابه (الثقافة البدائية) الصادر سنة 1871م يقول إدوارد تايلور (الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع).

واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية واذا ما اخذنا بأن الموضعية هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمر به وتدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة وطريقة حياتهم، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها  ؟.

قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية.

يقول سلامة موسى في كتابه “ مقالات ممنوعة “ ص17 (الواقعية هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية. ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من أهواء وأغراض وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن.).

تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي وللأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع.

فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلمية والتطور الكبير في مجال الصناعة والتقنية الرقمية ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت. ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدعوات والصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف والعواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات. مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية. ثم محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم. أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها

وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً، فهو معني بالواقع من جانبين. كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه وكمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافية أن يجد مخرجاً لهذا الضيق.

لا يمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات والكتب التي تتناول الواقع وتبحث في سبل معالجة أزماته، كما لا يمكننا أن نتجاوز ازمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم وإلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم والمتلقي والمواطن بداً من مجاراتها، خصوصاً وان التوجه العالمي الجديد في ظل التطور العلمي ومشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادىء، هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية.

تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدين عن الدولة كحل من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي من أزماته وتحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها. وبغض النظر عن دوافع تلك الدعوات وأهدافها، فإن طبيعة المجتمع العربي طبيعة لا يغادرها الدين، وأي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية، ولعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدين كان من أهم أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع.  يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً. بهده الدعوة يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بعداً رسالياً وهماً إنسانياً لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية، وبهذا الخروج سنصل بالمثقف الى الناس في البيوت والأماكن العامة.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع، سيتمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية، قدّمت أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة، اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية، ولطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم. كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة وسمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب وتطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة. كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافية الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم إثني عشر عاماً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة. كم من أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية. وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل. وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها. ومن المؤسف ان وظف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له.

تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين ومثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة، ولكي لا تتساوى “ الكرعة وام شعر” كما يقول المثل العراقي فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عشرين عاماً من بداية القرن الحالي.

يقول عبد الإله بلقزيز ان (الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين. لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه).

الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الإجتماعي. هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا، ومسرح وبيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث وفبركة التفاصيل. زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق وأخطر تصل خطورته حد التضحية  بالنفس في سبيل إعادة يقظة وهي الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي وأغرتهم الوان الشاشات. تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل من اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة بأورام خطيرة تكبر كلما مر عليها الزمن.

***

د. عدي عدنان البلداوي

في عالم يتسارع فيه السباق نحو التميز الأكاديمي والمهني، يعد الاعتراف بالشهادات المزورة ضربة قاصمة للنظام التعليمي وهيبة الدولة. ان الشهادة الجامعية ليست مجرد وثيقة تعلق على الجدران، بل هي اعتراف بالجدارة العلمية والمهنية لحاملها، وعندما تمنح هذه الشهادة دون استحقاق، فإنها تفقد قيمتها ومصداقيتها تماما، وتساهم في تفشي ثقافة الغش والخداع في المجتمع ويصبح من السهل التلاعب بالنظام التعليمي، وبالتالي الى تدهور جودة التعليم ومستوى التحصيل العلمي. وهذا ما يحصل بالفعل في العراق فقد اصبحت الشهادات المزورة بمثابة افة خبيثة تنخر في جسد المجتمع الاكاديمي وقيادات الدولة، وتهدد مستقبل الأجيال القادمة.

بالرغم من ان تزوير الشهادات والوثائق التعليمية تعود الى نشأة التعليم في العراق الا انها برزت بشكل مكثف وواضح بعد 2003. ومن الأمور المثيرة للدهشة أن البرلمان العراقي سعى إلى إخفاء هذا الواقع، محاولا إدراج الأشخاص الذين قاموا بتزوير شهاداتهم الجامعية ضمن قانون العفو العام. وفي خطوة اذهلت الانظار واثارت الاستياء، أقر البرلمان في عام 2020 قانونا يخص معادلة الشهادات، مما يسمح بتمرير عمليات التزوير هذه دون عقاب. وفي الآونة الأخيرة، تم الكشف عن حصول مسؤولين وسياسيين على شهادات مزورة من بين 27 ألف شهادة عليا مزورة (ماجستير ودكتوراه) حصل عليها طلاب عراقيون من ثلاث جامعات لبنانية. وقد أثارت هذه الفضيحة استياءً واسعا في الشارعين العراقي واللبناني، وادت إلى تعليق دراسة الطلبة العراقيين في هذه الجامعات.

تأثير الشهادات المزورة على هيبة الدولة

تمثل الشهادات المزورة ظاهرة خطيرة تهدد هيبة الدولة وتقوض ثقة المواطنين بمؤسساتها. فعندما تغض الدولة الطرف عن هذه الممارسات، تظهر ضعفا فاضحا في نظامها القانوني والتعليمي وفسادا واسعا في جهازها الاداري، مما يشكل خطرا على استقرارها وأمنها على المدى الطويل. ويفقد الدولة شرعيتها ويضعف قدرتها على تطبيق القانون فيصبح الفساد والرشوة سائدين، وتنتشر ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما يؤثر سلبا على التماسك الاجتماعي ويعيق تحقيق التنمية. ويشكل ذلك عبئا كبيرا على سمعة الدولة على الصعيد الدولي،  ويصبح التعاون العلمي والتبادل المعرفي مهددين، مما يزيد من خطر الانغلاق الذاتي وانعزال الجامعات والاكاديمين عن العالم. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة قنبلة موقوتة تهدد استقرار الدولة وتعيق مسيرة تقدمها. من هنا تأتي ضرورة التصدي لهذه الظاهرة بكل حزم، من خلال تشديد العقوبات على مزوري الشهادات، وتعزيز سيادة القانون، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية في نشر ثقافة النزاهة والأمانة.

تأثير الشهادات المزورة على التعليم العالي

يمثل التعليم العالي ركيزة أساسية للتقدم والابتكار في أي مجتمع، فمن خلاله تبنى الكفاءات وتصقل المهارات، مما يساهم في ازدهار الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. الا أن الاعتراف بالشهادات المزورة يشكل خرقا فادحا لهذه القاعدة، ويشجع الفساد ويعيق مسيرة التقدم بشكل مباشر.

ويؤدي الاعتراف بشرعية هذه الشهادات إلى تقويض جودة التعليم العالي بشكل مقلق. فبدلا من أن تصبح المؤسسات التعليمية بمثابة منارات للعلم والمعرفة، تصبح بيئة خصبة للغش والخداع ومأوى للفاشلين والفاسدين. ويصبح الطلبة الذين بذلوا الجهد والمثابرة لتحقيق تفوقهم الأكاديمي ضحايا لهذه الظاهرة، حيث يشعرون بالإحباط وفقدان الثقة بالنظام التعليمي عندما يرون أن الغش يكافأ، بينما لا يحظى العمل الجاد بالتقدير الذي يستحقه. تخلق هذه البيئة السامة مناخا سلبيا يثبط الحافز للتعلم والابتكار. فبدلا من أن يركز الطلبة على اكتساب المعرفة وتطوير مهاراتهم، يصبح همهم الأساسي هو البحث عن طرق للالتفاف على القوانين والحصول على شهادات  مزيفة دون اي جهد يذكر. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة سم قاتل يهدد مستقبل التعليم العالي ويعيق تقدمه.

الشهادات المزورة تزيد من التخلف والفساد

تشكل الشهادات المزورة آفةً خبيثة تلتهم ثقة المجتمع وتعيق تقدمه. فعندما تصبح هذه الشهادات بمثابة جواز مرور للنجاح، تصبح القيم الأخلاقية والنزاهة عرضة للانهيار. ينعكس ذلك على مختلف جوانب الحياة، بدءا من المجال الأكاديمي حيث تفقد المؤسسات التعليمية مصداقيتها، مرورا بالسوق المهني الذي يصبح  مشوشا ومزيفا، وصولا الى النسيج الاجتماعي الذي يصبح متخلخلًا بفعل انتشار ثقافة الغش والخداع.

تشجع الشهادات المزورة على السلوكيات غير الأخلاقية، فتصبح السرقة والاحتيال أسلوبا للحصول على المناصب والوظائف. كما تضعف هذه الشهادات النزاهة الأكاديمية والمهنية، فتصبح المعايير العلمية  مزيفة،  وهو ما يؤدي بالتأكيد الى تدهور جودة التعليم.

اخيرا، للحفاظ على هيبة الدولة وضمان مستقبل يبشر بالخير للتعليم العالي، يجب على الحكومة ووزارات التربية والتعليم العالي والجامعات والمؤسسات التعليمية اتخاذ موقف صارم ضد الشهادات المزورة. يجب تعزيز الرقابة والعقوبات لردع هذه الممارسات وحماية قيمة الشهادات الحقيقية. يجب أن نرسل رسالة قوية مفادها أن تزوير الشهادات امر غير مقبول ولن يتم التغاضي عنه. وعلى الحكومة طرد كل من يثبت تزييفه لشهادته من منصبه وتقديمه للمحاكمة بتهمة التزوير وخداع المجتمع، وذلك لضمان نزاهة المناصب القيادية وحماية المجتمع من الخداع.

فقط من خلال الحفاظ على النزاهة والجودة في التعليم يمكن للأمم أن تزدهر وتتقدم نحو مستقبل أفضل.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

أبدأ مقالتي باسمه تعالى وبقوله: (والله لا يستحيي من الحق). وبقوله: (فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر). وقوله أيضًا: (إنّ الله لغنيٌ عن العالمين) صدق الله العلي العظيم ومن هذا المنطلق أكتب مقالتي طارحًا رأيي الذي لا يتفق معي عليه كثيرون كما أتوقع لأن موضوعي يتعلق بمَنْ استنسخ القرآن المجيد وبالمنقول عن حفظته.

وعدم الاتفاق هذا ناتج عن تفسير جُلُّ المفسرين الى الآية الكريمة التي يقول فيها ربُّ العالمين: (إنّا نحن أنزلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون). صدق الله العلي العظيم وعلى هذا بنى المفسرون رأيهم على أن القران المجيد محفوظ من الباري عزّ وجلّ فلا يحصل السهو أو الغلط عند كتابته من الكُتاب أثناء نقله ولا يحصل السهو والنسيان عند الرواة فهو محفوظً من يوم نزوله على نبينا المصطفى عليه واله اتمّ الصلاة.

وأفضل التسليم الى قيام الساعة وهذا هو الالتباس وما زال عليه المفسرون من خلال تفسيرهم الى الآية الكريمة السابقة وقد سار على هذا الرأي الى يومنا عامة الناس.

نعم وبيقينٍ قاطعٍ أقول: أن القران المجيد نزل على الرسول محمد صلوات الله عليه وعلى آله عن طريق الوحي مرتّبًا بآياته وسوره وقد بلّغه الرسول كما جاء به الوحي من الباري عز وجل بلّغه بأمانة الى كافة المؤمنين وهذا ما لا يختلف عليه اثنان وكان منهم الحافظون له عن ظهر قلبٍ كاملًا، وبعد انتقال الرسول الاكرم عليه وعلى اله صلوات الله تعالى الى الرفيق الأعلى ظهرت اقوالٌ منها تقول انه كان مجموعًا في زمن الرسول على شكل صُحف ومنها تقول انه كان مجموعًا في كتابٍ واحدٍ، ولكن الطرفين مُجْمِعان على أنّه تمّ حرق كل ما موجود من مصاحف عدا ما كتبه الخليفة الثالث عثمان بن عفان الى الامصار وأتوقف عن الخوض في هذا الموضوع عن تلك المرحلة لأن موضوعي ينحصر في ما وصل الينا وما هو بين أيدينا ألان من كلام الله سبحانه وتعالى والذي مَـرَّ بمراحل كثيرة ابتـداءً من تدوينه في العهد الاموي زَمَنْ عبد الملك بن مروان ومرورًا بالعهد العباسي وأخيرًا العهد العثماني حتى وصلنا بالصورة المشكولة بالحركات والنقاط ومجزّء الى ثلاثين جزءً.

وحسب ما مذكور في الويكيبيديا هو أن المرحلة الأولى لتدوينه كانت في زمن الخليفة الأول أبي بكر خشيةً من ضياعه لاستشهادِ الكثير من حفظته بعد حروب الرِدّة وكان بنسخة واحدةٍ ثم جاءت المرحلة الثانية من كتابته في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان حيث استنسخ على أقوال تقول أنّها أربعةً حتّى يصل القول أنّها ثمانية نسخ وذلك لتوسع الامصار واختلاف القراءات واللهجات فدُوِّنت تلك النُسخ درءً للفتنة وقد تحددت فيها القراءة بلهجة قريش وهو ما كان يقرأ بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهي ما تسمّى بالقراءات السبع.

وجاء فيها أيضًا أن الخط العثماني كان فيه رأيان هل هو توقيفي أم هو اجتهادي اصطلاحي فتم الاتفاق من العلماء في ذلك الوقت على أنه توقيفي أي أن الرسول عليه واله صلوات الله وسلامه أوصى باتباعه كونه من الوحي وهو المتوافق مع الاحرف السبعة وبعضهم يقول انها عشرة والمقصود بها هي اللهجات العربية التي كانت في الجزيرة العربية وقد احتوت اللهجة القريشية كلّ هذه الحروف.

وعثر الباحثون على نسخة من صفحتين في جامعة برمنغها البريطانية يعود تأريخها الى القرن السابع وهو الأقرب لزمن الرسول الاكرم كانتا مخطوطتين بالخط الحجازي.

وجاء في الويكيبيديا ان تنقيط حروف القران كان في عهد الامام علي كرّم الله وجهه وبتوجيه منه تولى تنقيط حروفه أبو الأسود الدؤلي فكان الحرف المنقوط يُسَمّى بالمُعجم والحرف غير المنقوط يُسمّى بالمهمل.

كما ان في زمن عبد الملك ابن مروان طلب من واليه الحجاج الثقفي تشكيل حروف القران فكلّف الحجاج بذلك الامام حسن البصري ويحيى بن يعمر العدواني فتم تشكيله ثم قام الخليل بن أحمد الفراهيدي في العهد العباسي بإضافات وتعديلات على تشكيلاته وكذلك في زمن الدولة العثمانية حيث قاموا بتدوينه وكانت الحروف التركية التي كان رسمها رسم الحرف العربي قبل تبديلها باللاتينية في زمن أتاتورك وبقي الخط التركي العثماني بالرسم العربي العثماني بقي الى يومنا هذا وهو ما درج عليه الناس وفي العهد التركي تدرّجت الإضافات بوضع أرقامٍ لرؤوس الآيات وعلامات الوقف وغير ذلك من التحسينات.

وقد كانت الكتابة للمصحف الشريف في زمن الصحابة بالخط الحجازي المشتق من الابجدية الحميرية وحرفها المسند وكذلك كان الخط الكوفي موجودًا الا انه لا يًستعمل في الجزيرة العربية وعُثِرَ على مخطوطات قديمة يُقدر عمرها بأكثر من أربعة آلاف سنة موجودة في اليمن مخطوطة بالخط الكوفي الا أن الخط الحجازي كان هو السائد في الجزيرة العربية.

وفي مصحف عثمان الذي بين أيدينا توجد ثلاثة حروف زائدة تكتب ولا تلفظ وهي الالف والياء والواو والذي يُريدُ معرفتها يُمكنه الرجوع الى الويكيبيديا وأنقل للقارئ جوابًا لأحد علماء دار الإفتاء عن هذا الموضوع.

الأصل في كتابة القرآن الكريم

الأصل أنَّ القرآن الكريم يكتب بالحروف العربية برسمها العثماني، وهو خط مخصوص بالقرآن الكريم موافق للرسم الإملائي في معظمه، وقد خالفه في أشياء معروفة في علم رسم القرآن؛ ككتابة الصلاة "الصلوة"، والسماوات "السموت"، وغير ذلك؛ قال أبو البقاء العكبري في كتاب "اللباب في علل البناء والإعراب" (2/ 481، ط. دار الفكر): [ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتاب الكلمة على لفظها إلا في خط المصحف؛ فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام والعمل على الأول] اهـ.

وعليه فالخطوط ثلاثة؛ خط المصحف، والخط الإملائي، وخط العروض، ومبناه على كتابة كل ما ينطق به.

وخط المصحف لم يُبتَكر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كتب به في حياته الشريفة، لكن المكتوب لم يكن مجموعًا في مصحف، وكان يكتب على الجلود والأكتاف -التي هي العظام المنبسطة كاللوح- وسعف النخل، ونحوها؛ لأنَّ الورق لم يكن حينئذٍ، فالشأن فيه انبناؤه على التوقيف.

وقد روى البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 95] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ادْعُوا فُلاَنًا»، فجاءه ومعه الدواة واللوح، أو الكتف.. الحديث.

إثبات أن كتابة المصحف بالرسم العثماني توقيفية

قد أخبر سبحانه وتعالى بأنه قد تكفل بحفظ كتابه؛ فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقد تواترت قراءة: ﴿رَحْمَتَ﴾، و﴿نِعْمَتَ﴾، و﴿سُنَّتُ﴾، وأخواتها المشهورة بالتاء عند الوقف، وقراءة ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ﴾ في سورة النساء بكسر التاء وحذف الياء لغير الجازم كذلك، وقراءة ﴿يَدْعُ﴾ في سورة الإسراء و﴿يَمْحُ﴾ في سورة الشورى و﴿سَنَدْعُ﴾ في سورة العلق بحذف الواو في الأفعال الثلاثة لغير الجازم كذلك أيضًا؛ خلافًا للقياس العربي المشهور في ذلك كله، فلو لم يكن الرسم العثماني توقيفًا عَلَّمه جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكان خبره تعالى كاذبًا، وهو محال؛ أي: لو كان الرسم العثماني غير توقيفي؛ بأن كتبه الصحابة على ما تيسر لهم كما زعمه البعض، لزم أن يكون سبحانه وتعالى أنزل هذه الكلمات: ﴿رَحْمَتَ﴾ وأخواتها بالهاء، و﴿سَوْفَ يُؤْتِ﴾ بالياء، و﴿يَدْعُ﴾ وأختيها بالواو، ثم كتبها الصحابة لجهلهم بالخط يومئذ بالتاء وبحذف الياء والواو، ثم تبعتهم الأمة خطأ أربعة عشر قرنًا من الزمان، فتكون الأمة من عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم مجمعة على إبدال حروف بأخرى في كلامه ليست منزلة من عنده، وعلى حذف حروف عديدة منه، وإذا كان ذلك كذلك كان خبره تعالى كاذبًا، وكَذِبُ خبرِه تعالى باطل، فبطل ما أدّى إليه، وهو كون رسم هذه الكلمات ونظائرها بلا توقيف نبوي، إذا بطل هذا ثبت نقيضه، وهو كون الرسم العثماني توقيفًا، وهو المطلوب. انظر: "سمير الطالبين" للشيخ الضباع (ص: 24-25، ط. عبد الحميد حنفي بمصر).

ما تقدم من قول هو ان رسم حروف القران المجيد توقيفي والحجة مبنية على ان الرسول علية واله أفضل الصلاة والسلام قد أقرّه وعليهم التمسك به.

وتماشيًا مع هذا القول أقولُ متسائلًا هل كان كتبة الوحي يكتبون بغير الخط الحجازي المعروف عندهم بحيث حصل التفاضل بين خطين تم عرضهما على الرسول عليه واله الصلاة والسلام وعلى ذلك أقرّ الكتابة بالخط الحجازي؟

وأتساءل أيضًا لو كان قد عُرض القران المجيد مُدوّنًا من قِبَلِ كتبة الوحي بالحرف والاملاء العربي هل كان سيرفض التدوين به رسول الله عليه واله صلوات الله وسلامه؟

وإذا كان الخط توقيفيًّا مبنيًّا على أساس توصية الرسول عليه واله الصلاة والسلام فلماذا تم احراقها وشمل الاحراق حتى القران الخاص به والذي كان في بيته بأمرٍ من الخليفة الثالث وهو الأقرب للرسول بالمصاهرة والصُحبة ومثل هذا التصرف سيصبح مخالفة كبيرة من الخليفة ولا أتوقع منه هذا؟

ولا أدري كيف يكون الحرف توقيفيًّا وتُقبل الزيادات في نسخ القران المجيد بالإملاء العثماني ويبقى هو المتداول بيننا الى اليوم؟

إنّ مفهوم الرضى والقبول جاء من الرسول عليه واله الصلاة والسلام جاء لعدم وجود مَنْ يُدَوّن القران المجيد بغير الخط الحجازي المتعارف عليه في الجزيرة ولأجل هذا حصلت التوصية بكتابته بذلك الرسم.

كما أن تفسير الآية المباركة // إنّا نحن أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون // لا تعني أن الله سبحانه وتعالى سيحفظه اثناء كتابته من قبل ناسٍ غير معصومين ولو كانت الكتابة بخط الرسول الكريم لكان لزامًا على كُتّاب الكتاب وأعني القران المجيد الالتزام بها.

والذي يتبين لي من هذه الآية ان الله جل وعلى قال: وإنّا له لحافظون هو التنبيه والتحذير من التلاعب والتغيير وقد سبق ذلك تحريف التوراة والانجيل ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى // وانّه في أم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم // وقوله تعالى // بل هو قرانٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظ // صدق الله العلي العظيم.

وما وقفتُ عليه في قراءتي للقران المجيد سأتطرق الى ذكره ان شاء الله ولا اتوقع أنى الأول في اكتشاف ما سأذكره، ولكني الأول في طرحه على منصّات التواصل وهي الاتي:

1 / وردت كلمة / تتلوا القران المجيد / بإضافة ألف الى الواو لأن الخطاط عثماني فظنها واو جماعة في حين كتب / جاءو / بدون ألف الجماعة وهذا لم يكن في زمن الخلفاء الراشدين ولا العهد الاموي ولا في العهد العباسي.

2 / وردت التاء في / رحمة ونعمة / مرةً بالتاء الطويلة ومرةً بالتاء المربوطة ودليل هذا على ان الذي كتب القران المجيد يكتب بالطريقتين ولا يُميز بين التاء التركية والتاء العربية.

3 / ورد في سورة الحجر عدم رد إبراهيم عليه السلام على الملائكة المكرمين في حين ورد السلام في سورتيّ هود والذاريات والحجة أن الجواب قد حصل وهذا تخمين لا يتناسب مع قوله تعالى / وإذا حُييتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّواها / صدق الله العلي العظيم ويؤكد هذا المضمون ما جاء في سورتي هود والذاريات وقد بنى المفسرون هذا التأويل الذي جاء هو استنادًا لتفسير الآية الكريمة / إنّا أنزلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون / صدق الله العلي العظيم وقد بينتُ أنّ الشطر الثاني هو للتنبيه والتحذير من التلاعب بالقران كما حصل في التوراة والانجيل.

4 / وردت في سورة الماعون / ويلٌ للمصلين الذين هم عن صَلاتهم ساهون / بفتح الصاد والذي يقرأ السورة المباركة يجد أن واقع السورة وأجواءها هو الحثّ على العطاء وفعل عمل الخير والصحيح هو بكسر الصاد فتصبح / صِلاتهم / ومفردها صِلة أي الاحسان الى الاخرين وفي هذا يتناسب المطلوب من المصُلّين وتلك هي الغاية للباري عزّوجلّ في السورة.

5 / ورد في سورة الشمس ترتيب الآية في غير مكانه فالآية الكريمة تقول // والشمسِ وضحاها والقمرِ إذا تلاها والنهار اذا جلّاها والّيل إذا يغشاها الى آخر السورة المباركة وواقع الحال وهو ما نراه يوميًا أن بعد الضحى يأتي النهار وبعد النهار يأتي الليل وبعد ذلك يأتي القمرُ فيكون الحال متطابقًا بين كلام الله عزّ وجلّ وبين الطبيعة الكونية التي خلقها.

6 / دخول آيات كجمل اعتراضية خارج سياق الآية ومنها على سبيل الشاهد في سورة البقرة دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في الآية الكريمة (284) ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ (285) لايُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ (286)

والجملة الاعتراضية هي الاية // لا يُكلف الله نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت // وفي حالة رفعها عن موقعها في الدعاء يأتي الدعاء متسلسلًا لا تقاطع فيه وهناك في سورة البقرة وفي سور أخريات ورود آيات في غير موقعها ويبقى الحل والعقد بيد منظمة الدول الإسلامية لتقرر تدوين القران المجيد بالحرف والاملاء العربي ولا خوف في ذلك على الإسلام والله ولي المؤمنين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمدٍ وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الخميس في 23 مارس 2024

 

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التى تطيّب الخبز هى القراءة الدائمة، هى الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل، أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيتٌ آلة تعمل بغير ملل كما الفرن، قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدي قبل ظهور الصناعات الحديثة، لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار. كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، وَمَضَتْ الأفكار فى رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

أمّا القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوفٌ عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار هو أعلى المراحل فى العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من الفرن بعد استوائه. هو الكتابة الإبداعية المتفرّدة بعد القراءة التى كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذى يأتي كمرحلة ثانية؛ فالذى يُشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفي الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس فى الفرن دقيق معجون ليصير خبراً شهيّاً.

إلى هنا؛ ولم نصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه. العجيب فى الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها فى ذاتها مُفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكلٌ نهائي تجسّده الكتابة الإبداعيّة فى مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسّد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة (هى الدقيق المعجون)، رغيف الخبز هذا الذى بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التى تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي؛ فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تألف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير فى الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة.

والاستبصار فى الكتابة هو الذى يقوم مقام الصناعة فى الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعيّة، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أمّا عن كنه الاستبصار؛ فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذى يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدّد الصور المعرفيّة والمرائي الوجودية عليه. لذلك؛ كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هى استبصار يجنّد ذائقة البصيرة، ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهى تشمل الوعى العالى بما يتكاتف فيه العقل مع الروح، فلا العقل وحده يكفي، ولا الحس وحده يكفي ما لم يكن الإدراك الأعلى، وهو إدراك البصيرة الذواقة، أسمى فى تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة.

العارفون بالله يقولون : من ذاق عرف. وليس من ذوق خارج نطاق التجربة. والتجربة فى هذه الحالة هى التى تقودك؛ ولست أنت القائد ولن تكون، التجربة هى التى تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون، هنا يكون التخلي عجباً من أعاجيب القدرة : أعنى التخلي عن وهم تمثل فى الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بدايةً حين تتحلى بمجموعة «قيم علوية» تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلي طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلي عنه بحال.

بقاءك مرهون بعقيدتك فى هذه الحالة ما فى ذلك شك، وَتَقَدُّمُكَ مَوْقُوفٌ على الولاء كل الولاء لما تدين ممَّا عساك تحلَّيت به فى السابق وتزكيت.

لأبى العباس المرسي -  طيّب الله ثراه - إشارة يقول فيها : «إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وَحَمَّلَهُمْ من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه»، ولماذا؟ لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق فى كل قول ذى صدق، مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تَذَوّق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي ابراهيم

 

تعد القوة الناعمة والبناء الفكري للإنسان أدوات حيوية في مواجهة التحديات الراهنةوالتطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، فضلاً عن التأثير النفسي الذي يمكن أن يكون له أثراًعلى الفرد في عصر الاتصالات ومنصات التواصل الاجتماعي، وفي هذا الصدد، نلقي الضوء على أهمية هذه القوة والبناء الفكري ودورهما في تحسين جودة الحياة والتأثير الإيجابي على المجتمعات ومدى أهمية تفاعلهما في شخصية الفرد.

فعلى صعيد التأثير الثقافي والسياسي، تعتمد الدول والمؤسسات في العصر الحديث على القوة الناعمة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية وغيرها من الاهداف، حيث تشمل هذه القوة؛ الثقافة، والتعليم، والفن، والأدب، واللغة، والقيم، فهي تساعد في تعزيز فهم الثقافات المختلفة وتعزيز الحوار بين الشعوب وتقليل التوترات الدولية، كما لها من أبعاد في النجاح الشخصي والمهني، أو مفتاحًا لنجاح الشخصية والمهنية، فمهارات الاتصال الفعّال، والقيادة، والتعامل مع الضغوط، وحل المشكلات، تساعد الأفراد على تحقيق أهدافهم بكفاءة أكبر وتعزز من ثقتهم بأنفسهم. كذلك التغيير الاجتماعي والتنمية، إذ تلعب دورًا حيويًا في تحقيق التغيير الاجتماعي والتنمية، من خلال تعزيز الوعي وتعليم الناس حول قضايا مثل حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والمساواة، إذ يمكن أن تسهم القوة الناعمة في بناء مجتمعات أكثر تفتحًا وتطورًا.

إن تنمية القدرات العقلية تحتل موقعا بارزاً مع القوة الناعمة، حيث يعمل البناء الفكري على تنمية القدرات العقلية للفرد، مما يسهم في تحسين مهاراته في التحليل والتفكير النقدي، وبالتالي يمكنه التعامل مع التحديات الراهنة بكفاءة أكبر، فضلاً على إن يساعد البناء الفكري في تعزيز الإبداع والابتكار، إذ يمكن للأفراد الذين يمتلكون ثقافة فكرية واسعة توليد حلول جديدة للمشاكل وتطوير مجتمعاتهم بطرق مبتكرة.

 لقد ساهم البناء الفكري في تعزيز الثقافة الحوارية والتفاهم المتبادل بين الأفراد، مما أوجد في خلق بيئة من التسامح والتعايش السلمي، إذ شكلا البناء الفكري واكتساب القوة الناعمة، في تعزيز الثقة بالنفس للأفرد، مما يجعله أكثر قدرة على التعامل مع التحديات وتحقيق النجاح في حياته، إذ يمكن للفرد الذي يمتلك القوة الناعمة من الاساليب المرنة في بناء علاقات اجتماعية صحية ومتينة، من خلال كونه يتمتع بقدرة أكبر على فهم مشاعر الآخرين والتعامل معهم بفعالية، أضافة لذلك، يمكن للفرد الذي يمتلك هذه القوى وأدواتها بوعي عالي، التأقلم بشكل أفضل مع التحولات في الحياة، مما يساعده على التغلب على الصعاب والتحدي، وخلق حالة ذاتية في التفكير الشخصي على إيجاد الحلول باقصر الوقت وفي أحلك الظروف للخروج منها، فالمهارات الاتصالية الفردية أو الجمعية، والقيادة المحكمة، والتعامل مع الضغوط، وحل المشكلات، تساعد الأفراد على تحقيق الهدف المنشود والمخطط له.

لقد لعبت القوة الناعمة دوراً حيوياً في تحقيق التغيير الاجتماعي والتنمية، من خلال تعزيز الوعي وتعليم الناس حول قضايا مثل حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والمساواة، فهي تمتلك من الامكانيات والمقومات ما يجعلها أكثر بناءاً للمجتمع وبنفس الوقت أكثر انصهاراً فيه، وفي أقصى درجات التعامل المجتمعي الحرج الأقليمي والدولي. أضافة لمساهمته في تعزيز الثقافة الحوارية والتفاهم المتبادل بين الأفراد، مما يسهم في خلق بيئة من التسامح والتعايش السلمي.

ويستطيع الفرد الذي يتمكن من أدواته في القوة الناعمة والبناء الفكري بناء علاقات اجتماعية صحية ومتينة، فهو يتمتع بقدرة أكبر من غيره على فهم مشاعر الآخرين وكيفية التعامل معهم بفعالية متقنة دون الدخول في توترات لا نهاية لها. كما يمكنه التأقلم بشكل أفضل مع التحولات والمتغيرات التي تحيط من حوله، مما يساعده على التغلب على الصعاب والتحديات بسلاسة.

باختصار، يظهر أن القوة الناعمة والبناء الفكري يلعبان دوراً حيوياً في تمكين الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات الراهنة ولها الانعكاس والتأثير الإيجابي على العالم بأسره.  لذا فأن تعزيز هذه القوى والمهارات تشكل استثماراً مهماً في بناء مستقبل أكثر استدامة وتقدماً، كما يمكن القول إنها تعد أداة فعّالة في مواجهة التحديات الفكرية التي تعصف بعالمنا اليوم، وتساهم في بناء عالم أكثر تفاهماً وسلاماً وهدوء.

واشارة الى كل ما تقدم، يجب أن ندرك أن القوة الناعمة والبناء الفكري للإنسان هما عنصران أساسيان في وعي المرحلة والتطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال تعزيز هذه الجوانب وتطويرها، يمكن للفرد أن يحقق التوازن والنجاح في حياته الشخصية والمهنية وأن يساهم بفاعلية في بناء مجتمعات تهدف للسلام والابتعاد عن كل ما يسعى الى إيقاد فتيل الحروب والتناحر والصراعات، أو الشعور بالدونية مقابل الآخر.

اهمية القوة الناعمة في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة والراهنة.

تشكل القوة الناعمة قوة سياسية وغير سياسية في آن واحد، إن كان ذلك في ظروف الحرب أو السلم، من خلال مواجهة التحديات المعاصرة والراهنة، حيث تشير هذه القوة إلى القدرة على التأثير والتغيير باستخدام الجاذبية والإقناع بدلاً من القوة العسكرية أو الاقتصادية، إذ تتمثل أهميتها وابعادها في مجموعة من الجوانب؛ منها الأفلام والمسلسلات والموسيقى والأدب التي تؤثر على وجدان الناس وتغيير وجهات نظرهم، حيث تلعب دوراً كبيراً في نقل القيم والثقافة والفكر من مجتمع إلى آخر، كما يمكن استخدام الثقافة بأنواعها والتبادل الثقافي كوسيلة لمد وبناء الجسور بين الشعوب، من أجل تعزيز التفاهم المتبادل وتقارب الأفكار، بعقد المؤتمرات الثقافية والمهرجانات الفنية، وزرع روح المحبة ونبذ العنف بكل اشكاله، وخلق أجيال واعية تفهم وتعي دورها داخل المجتمع والدولة.

كما شكلت الدبلوماسية والتعاون الدولي كأحدى أوجه القوة الناعمة وادواتها في تعزيز العلاقات الدولية وتحقيق السلام، من خلال مكافحة التطرف بكل أشكاله وخاصة التطرف الفكري، وذلك  من خلال تقديم رؤى بديلة ومثيرة للاهتمام للإيمان بها، وتعزيز الحوار البناء بين ثقافات المختلفة لدول العالم وشعوبها واحترام قيمها، فضلاً عن دورها الذي يساعد في بناء الهوية الوطنية وتعزيز التميز الثقافي، وهذا ما يعزز بدوره الإنتماء الوطني والولاء للمجتمعات، ويساهم في تعزيز الاستقلال الثقافي والفكري للأمة.

لقد لعبت القوة الناعمة دوراً في تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق نشر الوعي بأهميتها وتعزيز المبادئ الأساسية للحرية والعدالة والمساواة، وأسست العديد من الدول في العالم مؤسسات تبحث وتقدم دروس وبحوث شتى في مجال القوة الناعمة وأدواتها والآليات المتبعة واهميتها لدى المجتمعات في تحقيق أهدافها بالطرق التي تبعدها عن النزاعات والصراعات الدولية والاقليمية والعنصرية والاثنية والعشائرية، بل السعي الى زرع روح التسامح والتقارب واحترام الرأي والرأي الآخر.

***

د. عصام البرام - القاهرة

يستعير الفرنسي لوك فيري في كتابه "تعلم الحياة" فكرة أرسطو من أن هدف الفلسفة هو البحث عن الحياة الجديدة التي ينبغي أن يعيشها الإنسان، كان أرسطو يؤمن أن الحياة الحقّة تكمن في تحقيق الانسجام مع العالم الذي يشترط أرسطو أن يكون منسجماً أيضاً. هذا العالم المنسجم والعادل والجميل هو الذي شكل في نظر أرسطو ومن قبله أستاذه أفلاطون، النموذج الحقيقي لنشر المدنية. ورغم أن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون، غير أن أفكارهما كانت مختلفة عن بعضها البعض، فلم يكونا يردّدان نفس العبارات. كانت لكل واحد منهما فلسفته الخاصة، كان أفلاطون مهتماً بالتفكير الفلسفي المجرد، وكان أرسطو مهتماً بكل شيء حوله.

يخبرنا لوك فيري أن أرسطو ومن قبله أفلاطون وسقراط وأبيقور وقائمة كبيرة من الفلاسفة الإغريق سعوا إلى التبشير بعقيدة جديدة للحكمة، ومفهوم آخر للحياة، يكتب فيري: "أن نحيا جيداً ونُضفي معنى على وجودنا ونحدد قيماً تتمثل طيبة بالنسبة إلينا نحن البشر".

 يعترف أرسطو بأنّه تلميذ منشق لأستاذه أفلاطون، ويخبرنا: "أحب أفلاطون، ولكنني أفضّل الحقيقة أكثر"، كان أفلاطون سيكون راضياً لو أنّه تفلسف انطلاقاً من جلوسه في الأكاديمية وتأمله العالم المحيط له. وفي الوقت الذي أراد فيه أرسطو استكشاف الواقع الذي يعيشه من خلال التجربة، فقد رفض نظرية معلمه المثالية، معتقداً عوض ذلك أن الطريقة لفهم أية مقولة عامة هي فحص أمثلة معينة لها. "إذا أردت أن تفهم ما تعنيه قطّة، فيجب أن ترى قططاً حقيقية، وليس التفكير بطريقة مجرّدة في شكل القطة". ويرى أرسطو أنّه يجب أن تكون للإنسان مواهب، وعليه أن ينمّيها على أحسن وجه. يكتب لوك فيري أن مهمة الفلسفة هي "السخط الأخلاقي" الذي يسمح للإنسان أن يتدخل في شؤون العالم من أجل "سحق ما هو دنيء". يجب على الفيلسوف أن لا يخضع لغيره، هكذا يحدد أرسطو مهمة الفلسفة باعتبارها "العلم الحر، الذي لا يوجد إلّا من أجل ذاته".

من بين الأسئلة التي فكر فيها الفلاسفة وبشكل دائم هي: "كيف يجب أن نعيش؟". طرح سقراط وأفلاطون وارسطو ومن بعدهم معظم الفلاسفة ر هذا السؤال، وكانت الحاجة للإجابة عن هذا السؤال هي جزء مما يدفع الناس إلى الفلسفة. كان لأرسطو جوابه الخاص: "ابحث عن السعادة". وهذه السعادة خصّص لها لوك فيري كتاباً بعنوان "مفارقات السعادة "، أكد من خلاله أن بلوغ السعادة يعتمد فقط على اجتهادنا الذاتيّ وعلى حالة العالم من حولنا، ومصير الأشخاص الذين نحبهم. يصرّ أرسطو على أن الإنسان فنان نفسه، يبقى خالقاً لمشروعه، ويتقدم لأنّه يتغير ويتطور، فهو في تقدم مستمر على ذاته. فالفرد الذي يضع ذكاءه في خدمة أفعاله، يُسهم في العمل الكوني. يبحث الإنسان في الفلسفة عن تنمية قدراته بالتجربة والمعرفة. يكتب برغسون: "تُبرز البهجة أن الحياة كانت ناجحة، وأنها انتشرت وانتصرت؛ كل بهجة لها نبرة انتصارية، في كل لحظة تكون فيها البهجة، يكون فيها الخلق. كلّما كان الخلق غنياً تكون البهجة عميقة"().

يكشف لنا لوك فيري أن والده كان أول من أرشده إلى أرسطو. يتذكر أنّه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره ظل يعاني من مزاج سيّئ أدّى به إلى الاكتئاب، أرشده والده إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي هذه المرحلة، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة لأفلاطون وأرسطو وسبينوزا وديكارت. قرأ عند أرسطو أن الحياة التي تتفادى مواجهة الذات والتفتيش داخلها لا تستحق أن تعاش، واكتشف من خلال والده مصمم وصانع السيارات الرياضية أن عليه أن يفكر بالعيش لا بالموت، وكانت هذه أولى الأسئلة الوجودية التي يوجهها لوك فيري في حياته: ما معنى الحياة؟ كيف نعيش حياتنا المحددة بعدد من السنوات بطريقة مرضية، وما هي هذه الطريقة، وكيف نجدها؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه منافسه للأديان في هذا المجال، لأنها تدعونا إلى أن نجد بأنفسنا الإجابة على أسئلة الوجود الإنساني، فليست الفلسفة مجرد خطاب ملغز، بل هي بحث عن الحكمة.

ولد لوك مارك فيري في الثالث من يناير - كانون الثاني عام 1951 في ضاحية شمال باريس لأب من مصممي السيارات الرياضية، يعشق قراءة الكتب، ويتذكر الصبي لوك أن الكتب كانت ترافق أباه حتى في مكان عمله، أما الأم فقد ارتضت بأن تكون ربة منزل مسؤولة عن ثلاثة أبناء، سيصبح اثنان منهم فلاسفة واحد منهما جان مارك فيري الذي يكبر لوك فيري بخمس سنوات، كانت الأم تؤمن بأن أبناءها سيصبحون يوماً ما في مراكز متميزة، يتذكر لوك فيري أن مارسيل بروست كتب في إحدى رسائله: "لطالما وافقت ماما أنني لا أوافق إلّا أمراً واحداً في الحياة، ولكنه أمر كان كل منا يقدّره بشدة"، بحيث كان يذكر كثيراً: بروفيسور ممتاز عانى في مراهقته من الخجل وكان منطوياً لا يحب رفقة زملائه الطلبة، تسحره شخصية الروائي مارسيل بروست الذي كان يمضي كل وقته في القراءة والكتابة، كما أعجبه غرور صاحب البحث عن الزمن المفقود واعتزازه بنفسه، وبسبب عزلته يقرر والده أن يكلف عدداً من الأساتذة لتدريس ابنه في المنزل، يدرس الفلسفة وعلم الاجتماع في السوربون، يتخرج من الجامعة بشهادة فلسفية وبنظرة مغايرة للحياة، يبدأ حياته العلمية مدرساً لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية، العام 1980 يحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، ويتم تعينه في معهد الدراسات السياسية في ليون، بعدها ينتقل للعمل أستاذاً للفلسفة، ينشر أول كتبه بعنوان "الفلسفة السياسية" عام 1984، والذي لم يُثر الاهتمام، واعتبره البعض مجرد كتاب مدرسي، لكنه سيكتسب شهرة عام 1985 بعد صدور كتابه "فكر 68" الذي وجّه من خلاله نقداً إلى الفلاسفة الفرنسيين الذين وصفهم بأنهم يحملون أفكارا معادية لـ "الإنسانوية"، حيث تناول بالنقد كتابات ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، ثم توالت إصداراته التي لفتت إليه الانتباه وجعلت منه فيلسوفاً تطارده وسائل الاعلام وتخصّص له الفضائيات برامج يعطي من خلالها دروساً مبسطة عن الفلسفة، مثلما كان الفلاسفة الاغريق ينشرون الفلسفة في الأسواق.

 يري لوك فيري أن أرسطو لم يكن فيلسوفاً تأمّلياً، وإنما كان يرى العالم بعين الفلسفة، ويدرّبنا على أن نتفق على ثوابت الحياة كجماعة إنسانية، وأن نعي الوجود جيداً، يكتب أرسطو: "يجب أن نختبر ما قُلناه سابقاً ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتّفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفرّ من التسليم بأنّه محض حديث نظري". ونجد فيري يضع مقارنات في "تعلم الحياة" بين الدين والفلسفة، فالأديان تعِد الإنسان بإمكانية الوصول إلى الخلاص عن طريق الإيمان، بينما الفلسفة تعِد الإنسان بأنّه سيتمكن من إنقاذ نفسه بنفسه طريق العقل.

ويثير فيري ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية عندما يؤكد أن فولتير وروسو وديدرو لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق، وأن فكرة التنوير لم تأخذ طابعها الفلسفي إلّا على يد الفلسفة الالمانية، وخصوصاً عند إيمانويل كانط. بل ويذهب أبعد من ذلك عندما لا يعتبر ديكارت فيلسوفاً جيّداً. وهو يرى أن الفلسفة الفرنسية حاولت إلغاء الدين من المعادلة التنويرية، عكس فلسفة كانط التي عملت على "علمنة الدين". ويجد فيري أن الفلسفة في فرنسا حاولت أن تجرد الإنسان من مركزيتّه في الكون: "في تاريخ الفلسفة كان تاريخاً للعباقرة منهم، أما من اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو، أو من الألمان مثل كانط، والجيل من بعده: ياسبرز، هوسرل، وهابرماس"().

يسعى لوك فيري من خلال مؤلفاته التي قاربت الخمسين كتاباً إلى تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص، وقد قدّم في هذا المجال عدداً من الكتب أبرزها "الفلسفة كما شرحتُها لابنتي"، وكتابه الشهير "تعلم الحياة" وكتاب ممتع بعنوان "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، والذي يستعرض فيه قصة الفلسفة عبر العصور مؤكدا أن: "الفلسفة ليست فن الأسئلة كما يُشاع، وإنّما هي في الأساس فن الأجوبة". فبرأيه، أن إنسان هذا العصر، في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، والتقلّبات السياسية والاقتصادية المتتابعة، يصبح عرضة للشكوك والظنون، فيقع تحت تهديد مخاوف كثيرة، نفسية واجتماعية، تقلقه وتفسد عليه حياته واطمئنانه. ولذلك، يذكّرنا فيري بما انتهى إليه الفلاسفة اليونانيون منذ القدم، وهو أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة سعيدة إذا كان الخوف يسكنه، لأنّه في تلك الحالة سيكون أسير الحنين والتمني، أي أنّه يقع أسير حبّ الماضي وحبّ المستقبل، وسيتعذر عليه عندئذ التمعن في الحاضر جيداً.

في عام 1994 يتم اختياره رئيسا للمجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم، وبعدها بأعوام يتولى وزارة التربية، وهو لا يُخفي اعتزازه بهذه المناصب، إذ قال في تصريح صحفي: "لا أشعر بالخجل وأنا أمارس السلطة، فأنا أتعلم هنا أكثر مما أتعلمه طيلة عشر سنوات من تدريس فلسفة القانون".

كل هذه التحولات يمكن أن تكون مصدرًا للفرص، ولكنها أيضًا مصدر للقلق وتثير مسألة السعادة. ما الذي يجب أن نفكر به في كل هذه الكتب المتعلقة بأساليب البحث عن السعادة والتي تزدهر اليوم؟ هل لديها أي فائدة أو فعالية؟ .يسخر فيري من الكتب التي يعتقد اصحابها انها تحقق السعادة للناس من  خلال عشرة أو خمسة عشر درسًا  قائل :" يضحكني بصراحة. يؤكدون لنا أن السعادة في متناول اليد لأنها تعتمد علينا فقط، وليس على الآخرين، بشرط أن نكون قادرين على أن نجعل أنفسنا جديرين بها من خلال بعض تمارين الحكمة التي لديهم سرها. ومع ذلك، فإن هذه الفرضية خاطئة، خاطئة للغاية، لسبب واضح: هناك عدم تناسق هائل بين الخير والشر، بحيث لا يمكن تعريف السعادة أبدًا في حين أن التعاسة لا لبس فيها. الشر، أتعرف عليه على الفور: إنه المرض، والمعاناة، والحداد على شخص عزيز، وفقدان الوظيفة، والفقر… ولكن، من ناحية الخير، يجب أن نرى أن كل ما يجعلنا سعداء في هذه اللحظة ، الحب، الثروة، السمعة  وأي شيء آخر تريده يمكن أن يجعلنا تعساء للغاية يومًا أو آخر. نحن نعرف فقط لحظات الفرح في الحياة، ولا نعرف أبدًا السعادة الدائمة والذاتية التي تأتي من خلال تمارين الحكمة. وهذا هراء وكذب. بمجرد أن نحب شخصًا ما، بمجرد أن ننجب طفلًا، نعلم أن سعادته تعتمد عليه قبل كل شيء، لذا فهي بالضرورة هشة و مؤقتة " .

 إن الفلسفة كما يرى فيري  هي سفر متأن  من الحكمة القديمة إلى التفكيكية المعاصرة مرورا بميلاد  النزعة الإنسية. في خضم هذا التطور يتحقق دور الفلسفة  الذي  هو  كما يقول لوك فيري :"  تعلم للحياة أو لنقل فنا للعيش! " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم