قضايا

(مقالات حول مفاهيم) الوجود القرآني

لم يكن دافع هذه المقالات وجودها في شهر رمضان الكريم فحسب. بل هي تمتد الى سنوات عديدة مضت كتبت خلالها. مجموعة افكار منها (الاحاسيس في القران الكريم. المستقبل في القران. هوامش السرد الفكري في القران. بين منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر. المنهج في القران. مفهوم الشيء في القران. الحداثة القرانية المطلقة. الحضارة الشيطانية. الموجات الحضارية السالبة. وافكار اخرى اعتز بها.
وعند الحديث عن الذاكرة والشيطان فلانهما مفهومان قرآنيان ارتبطا بالفكر والمعرفة والنفس والاجتماع والميتافيزيقا على حد سواء.
وما من شك ان النسيان وهو الالية التي تنزلق من نافذة غرفة الذاكرة. يمثل احد اهم اعداء التوحيد. والذي يمكن اعتباره (التوحيد) نوع من انواع المعرفة لانه يرتبط بالاستدلال والتعقل. لاكتشاف وجود اخر. تذكره النصوص الدينية.
ولو استعنا باراء فلاسفة الاسلام. سوف نرى بان الفارابي يستعرض عملية المعرفة من خلال الحواس ظاهرة وهي الخمسة ثم الحواس الباطنة وتتألف الحواس الباطنة من الحس المشترك والخيال أو المخيلة والذاكرة والوهم. وهي قوة عديدة تكون في النفس.
‏و تساعدنا الذاكرة باستدعاء الصور او المواقف التي يجمعها الإنسان من الطبيعة للاستفادة منها.
‏وما حدث من خلال تاريخ البشرية نفهم بأن النسيان وهو عطب يصيب الذاكرة، لعدد من الاسباب منها الداخلي والخارجي. فالخارجي هو عملية تغيير الوقائع من خلال البث او الالهاء. او مشاكل اقتصادية. واجتماعية او عمال الوسوسة الشيطانية وهي ترتبط بالوجود الانساني اما العامل الداخلي. فلربما ارتبط بالضعف العقلي او ضعف البدن. او المشاكل النفسية او ضغط العمل او الوراثة والنسيان هو الصورة المقلقة الاشد ضررا للإنسان وتاريخ الإنسانية.
ان منهجية الشيطان هو ان يُنسي الإنسان العديد من التفاصيل المهمة او الاستراتجية في حياته. فالشيطان يسعى إلى جعل الإنسان ينسى ذكر الله والتزام أوامره. وهذا ما يرد في النص القراني (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (سورة المجادلة: 19). حتى ان اول لحظات شروع البشرية وآلامها. ارتبط بالنسيان (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سورة طه: 115). هنا يُشير القرآن إلى أن آدم عليه السلام نسي العهد بسبب وسوسة الشيطان. وفي نص قراني اخر (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الأنعام: 68). او قوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ (سورة المجادلة: 19) وفي سورة يوسف قال تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (سورة يوسف).
ولا ريب ان مرجعية هذا النسيان تكمن في جانب اداري في وجود الانسان فهو يبتعد عن تفاصيل الله ومنهجه. ليعمل (اداريا) بمنهجية اخرى للسهولة او للمنافع العاجلة او للراحة النفسية او للذة وقد وصف القران الكريم. كل تلك العملية بقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (سورة الزخرف: 36)، وهذه مسالة اشبه بالادارية. فترك الخروج الى الشمس والانكماش بغرفة معتمة سيقود كل الانسجة والاعضاء الى التعود على الظلام. والادمان عليه.
ولا يمكن الاستهانة بالقدرة الكبيرة للشيطان على انتاج الشذوذ مع ان كيده يوصف بالضعف. فهو يدير العوالم المتعددة. ولسنوات عديدة. ويعتمد الية اشبه بالتنويم المغناطيسي بمعادلة (قادت الى تبني الغضب او تقديم الالهاء او الشهوة او الرغبة والذي ينسجم مع رغبة الاخر بشكل كبير. والى قراءة لقوة ومقياس وحجم الرفض لدى الاخرين. وفهم التحدي والاستجابة. ولذلك فقد نجح باغواء العديد من الناس وفق ضعف الذاكرة. لكنه فشل مع الانبياء سيما ابراهيم واسماعيل ومريم وايوب وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه.
ان الآيات القرآنية توضح أن الشيطان يعمل على إغواء الإنسان من خلال الوسوسة واستغلال أفكاره وذكرياته. الذاكرة هنا ليست مذكورة بشكل صريح، لكنها تظهر ضمن السياقات التي تتحدث عن الوسوسة، والتوبة، والشهوات، والغفلة. يمكن تفسير هذه الآيات على أنها تحذر من كيفية استغلال الشيطان للذاكرة الإنسانية لإبعاد الإنسان عن طريق الحق. ان الآيات التي تشير إلى علاقة الذاكرة بالشيطان تشمل آيات الوسوسة (سورة الناس، سورة طه)، التوبة (سورة آل عمران)، الغفلة (سورة الأعراف)، واستغلال الشهوات (سورة يوسف).
ومن دون شك فان الشيطان يستغل غفلة الإنسان وضعف ذاكرته الروحية كما تصورها سورة الأعراف (7: 201) بقوله تعالى (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"
ومن اجمل المكاشفات هي تلك الحوارية التي تكشفها سورة إبراهيم (14: 22). بتنصل الشيطان من التزاماته. فالشيطان يذكر الناس بما فعلوه بناءً على وسوسته، مما يعكس فكرة أنه كان يستغل ذكرياتهم وأفكارهم لإغوائهم.
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
‏ولان القرآن هو المادة المقررة او المنهج الذي رسم للمسلمين. سيكون من الطبيعي أن يسلط الشيطان أدوات على تبديد أو حرف ذلك المنهج كما فعل في الكتب السابقة. الا إن ذلك الكتاب الحيوي و الجوهري في تاريخ الإنسانية موسوم بالحفظ كما في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9).
واظن بأن من أهم جوانب الوعي. واتضاح الذاكرة. هو تلك الصورة المحزنة والمخيفة. وذلك الكشف الذي سيكون عند نهاية البشرية والرحيل إلى العالم الآخر. والقيام بعرض الذاكرة المخفية لافعال الإنسان ووصف مشاهد التذكر في الآخرة، ويعبر القران عن ذلك المشهد بقوله تعالى (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين، هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون” (الصافات: 20-21).
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

المعطيات الحضارية السريعة والمتجددة تشكل تحديا كونها تجري داخل حركة زمانية ومكانية وتحاول بناء لغة جديدة ترتكز على العلم واشكاليات المعرفة، اذ ليس هناك أكثر اغراء من حضارة تتمأسس علميا وتقترب من الواقع الإنساني بخطاب عقلي بعيدا عن الأوهام المريحة، المجاهرة بالغباء" عبارة تشير الى إظهار الشخص أو المجموعة لجهلهم أو عدم القدرة على فهم الأمور بطريقة صحيحة، تُستخدم هذه العبارة في سياقات مختلفة، سواء في النقاشات العامة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، لتعبر عن استنكار أو نقد للأفكار أو الآراء التي تبدو غير منطقية أو غير مدروسة، إبداء آراء مبنية على معلومات مضللة، و تقديم أدلة غير تجريبية من وحي الخيال البدائي ، واستخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر أو فيسبوك او التكتوك، لنشر تعليقات أو مقاطع فيديو تظهر قلة الفهم لموضوعات عميقة و معقدة، مثل الاقتصاد أو الطب والدين والتحدث في مواضيع خارج مجال الخبرة الشخصية، مثل إبداء الرأي في قضايا طبية بدون خلفية علمية، التفاخر بعدم الحاجة للتعليم أو المعرفة، والاعتقاد أن الخبرة الحياتية وحدها كافية لفهم جميع الأمور، هنا يجب التمييز بين الجهل البسيط والمجاهرة بالغباء، هذا يتطلب فهمًا دقيقًا لكل منهما من ناحية معرفية، الشخص الجاهل قد يكون مهتمًا بالتعلم أو البحث عن المعرفة، يمكن أن يظهر الشخص الجاهل تواضعًا في اعترافه بعدم معرفته، وقد يسعى لتصحيح جهله، الغباء هو إظهار الجهل بطريقة متعمدة أو من دون إدراك للجهل، وغالبًا ما يرتبط بالثقة المفرطة بالنفس، الشخص الذي يجاهر بالغباء لا يكون مهتمًا بالتعلم أو يرفض قبول الحقائق ، يمكن أن يظهر الشخص المجاهر بالغباء عدم احترام للمعرفة أو الخبرة، وقد يتحدث بثقة عن مواضيع لا يمتلك أي معرفة بها، يدلي برأي حول موضوع علمي معقد دون معرفة، يظهر ثقة مفرطة في رأيه بالتالي يمكن القول إن الجهل البسيط يُعتبر حالة طبيعية يمكن تجاوزها بالتعلم، بينما المجاهرة بالغباء تعكس سلوكًا غير واعٍ أو متمرد على المعرفة، مما يؤدي إلى نشر معلومات خاطئة والتي تعتبر ادعاءات دون براهين.
التحيزات الشخصية والمجاهرة بالغباء
التحيزات الشخصية وتحديدها يتطلب ممارسة الوعي الذاتي والتفكير النقدي، قد تساعد هذه العملية على تجنب تأثيرها، كوننا ننظر فقط إلى المعلومات التي تؤكد اعتقادنا، ولا نأخذ في الاعتبار وجهات نظر أخرى. ان استخدم أساليب التفكير النقدي عند تقييم الآراء يجب ان يبنى على أسئلة ذاتية، مثلا ما الأدلة التي تدعم هذا الراي او ذاك الراي؟ وهل هناك وجهات نظر أخرى يجب أن ننظر إليها؟ يتطلب هذا وقتًا وجهدًا لكن من خلاله، يمكننا تعزيز الوعي الذاتي وتطوير القدرة على التفكير النقدي بشكل أفضل. نتيجة التحيزات الشخصية يمكن ان نواجه مشكلة أخرى وهي الدفاعية، يشكل التغلب على الدفاعية عند مواجهة آراء مختلفة وعيًا وجهدًا أيضا، يجب ان نكون واعيًن لمشاعرنا وأفكارنا عندما نتعرض لآراء مختلفة. ان الاستماع بغضب وعدم محاولة فهم وجهة النظر الأخرى بالكامل، لا يعزز من الدفاع عن الرأي ويطرح أسئلة حول سوء الفهم وقد يغير وجهة نظر الآخر، ويمكن أن يظهر عدم الاهتمام والاستعداد للنقاش، يجب أن نعترف ان الاختلاف في الآراء امر طبيعي. والنظر الى النقاش كفرصة للتعلم بدلاً من معركة علينا الفوز بها، وذلك باستخدام كلمات تعبر عن الانفتاح واثارة اهتمام الاخر. يساعد هذا في تقليل التوتر خصوصا عندما نشعر بأننا قد نكون على خطأ، يجب ان نكون مستعدًين للاعتراف بذلك. من المهم أن نكون منفتحًين على التعلم من الآخرين والتركيز على الأفكار وليس الأشخاص. واعتبار الاخذ بالآراء المختلفة كإهانة شخصية، والنقد فرصة للانتقام. يؤدي الغباء والجهل إلى عدم استخدام التفكير النقدي، حيث يعاني الأفراد من عدم القدرة على تحليل المعلومات بشكل فعال، التفكير النقدي يتطلب وعيًا ومعرفة، مما يمكّن الأفراد من تقييم الأفكار والآراء بدقة، عدم الادراك لمفاهيم معينة أو الافتقار إلى المعرفة الأساسية، يصعب من اتخاذ قرارات مستنيرة أو توجيه انتقادات بناءة ، لذا من المهم تعزيز التعليم وتطوير مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد، مما يساعد على فهم العالم بشكل أفضل والتفاعل مع المعلومات بطرق أكثر واقعية .السؤال التالي يشكل أهمية محورية وهو حول الاصرار على معلومات مؤسطرة وتطبيقها على حقائق علمية موثقة تجريبيا ، هل هو غباء ام جهل بسيط..؟ الإصرار على معلومات مؤسطرة وتطبيقها على حقائق علمية موثقة تجريبياً يمكن أن يعكس مزيجاً من الجهل البسيط والغباء، قد يعني أن الشخص يفتقر إلى المعرفة أو المعلومات الصحيحة حول موضوع معين، في هذه الحالة، يكون الشخص غير مدرك لمصداقية الحقائق العلمية أو غير متمكن من فهمها، وقد تشير إلى الافتقار إلى القدرة على التفكير النقدي أو الفهم العميقن إذا كان الشخص يتجاهل الأدلة العلمية الواضحة ويصر على معلومات غير صحيحة رغم وجود تناقض واضح، يُعتبر ذلك مجاهرة بالغباءً في نهاية المطاف، من المهم معالجة هذه القضايا من خلال التعليم والتوعية، مما يساعد الأفراد على فهم الحقائق العلمية بشكل أفضل وتقييم المعلومات بدقة.
الأسطرة الثقافية
بعض المعلومات المؤسطرة ثقافيا تكون متجذرة في التقاليد، مما يجعل من الصعب تغيير المفاهيم المترسخة حتى في وجه الأدلة العلمية، من الأسباب المهمة التي تؤدي الى ذلك تراجع الثقة في المؤسسات العلمية أو الطبية، يمكن أن يؤدي إلى الشك في المعلومات العلمية، مما يدفع الناس للاعتماد على مصادر غير موثوقة، المعلومات المؤسطرة غالباً ما تكون بسيطة وسهلة الفهم، مما يجعلها أكثر جذبًا مقارنة بالمفاهيم العلمية المعقدة ، كل هذه العوامل تساهم في استمرار وانتشار المعلومات المؤسطرة، مما يستدعي جهودًا أكبر في التعليم والتوعية.
دور الانحيازيات الايديولوجية
تلعب الانحيازيات الأيديولوجية دورًا كبيرًا في انتشار الغباء والجهل البسيط، يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم الأيديولوجية، ويتجاهلون الأدلة التي تتعارض معها، هذا الانحياز يؤكد الجهل ويعزز الأفكار الخاطئة، الأشخاص الذين يتمسكون بأيديولوجيات معينة قد يرفضون المعلومات الجديدة أو الأدلة العلمية التي تتعارض مع تلك المعتقدات، مما يمنعهم من التعلم والتطور، الانحيازيات الأيديولوجية قد تؤثر على كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات، مما يؤدي إلى اختيارات غير مدروسة بناءً على قناعات غير مبنية على حقائق، المجتمعات التي تتبنى أيديولوجيات معينة قد تكون متجانسة في أفكارها، مما يعزز من الانحياز الجماعي ويجعل من الصعب على الأفراد التفكير بشكل مستقل أو قبول وجهات نظر مختلفة، بعض الأيديولوجيات ترتبط بقيم ثقافية معينة، مما يجعل من الصعب على الأفراد التفكير بشكل نقدي حول تلك القيم أو مراجعتها، مما يؤدي إلى استمرار الجهل، وسائل الإعلام قد تعزز الأيديولوجيات من خلال تقديم معلومات منحازة أو مضللة، مما يؤثر على الرأي العام ويزيد من انتشار الأفكار غير الصحيحة، الأفراد قد يرتبطون بأيديولوجيات معينة كجزء من هويتهم، مما يجعلهم أكثر مقاومة لتغيير وجهات نظرهم حتى في وجه الأدلة القوية بشكل عام، تؤدي الانحيازيات الأيديولوجية إلى تعزيز الجهل البسيط والغباء عن طريق منع الحوار المفتوح والتفكير النقدي، مما يتطلب جهودًا لزيادة الوعي وتطوير مهارات التفكير النقدي.
العولمة وانتشار نظام التفاهة
العولمة تُسهم في انتشار المعلومات السطحية والغير دقيقة، إذ يتم تفضيل المحتوى السريع والاختزالي على حساب المعلومات المعمقة، مما يقلل من فرصة التعلم وسائل الإعلام الاجتماعية تروج لمحتوى ترفيهي وتافه، مما يؤدي إلى إلهاء الأفراد عن الموضوعات الجادة والعلمية، ويزيد من الجهل حول القضايا المهمة مع زيادة الاعتماد على مصادر المعلومات السريعة، وتراجع التفكير النقدي، الأفراد يصبحون أقل قدرة على تقييم المعلومات بشكل موضوعي، مما يُعزز الجهل بشكل عام، يسهم نظام التفاهة العالمي في تعزيز الجهل والغباء من خلال تقليل جودة المعلومات المتاحة، وزيادة التشتت الفكري، وتقليل القدرة على التفكير النقدي. هذه تظهر كيف يمكن للعولمة أن تساهم في تسطيح المعرفة، مما ينتج عنه فهم سطحي للعالم وقضاياه المعقدة وتجذر المجاهرة بالغباء وانتشار الجهل.
***
غالب المسعودي

يبقى تمثيل وقائع مِن التَّاريخ، ذات الشّجار الدِّينيّ والمذَّهبيّ، خطراً ليس في الحُسبان، فالمتلقي يتعامل مع المَشاهد واقعاً مجسداً أمامه فيلماً، يُطبع في ذهنه أنَّ المعروض ليس تاريخاً ممثلاً، ولى ومضى، إنَّما حاضرٌ حيَّ يعيشه بكلِّ جوارحه، يترصد عدوه مجسداً في الفيلم.
يجري التّراشق بتفاسير وتآويل للمعروض، فالمُشاهدُ لا يتعامل مع الشَّخصيات بفائدة التَّاريخ، إنما بعين ما رسمتها مخيلته، ملائكيَّة أو شيطنة، فلكلٍّ تدويناته وتهويلاته، مدحاً وقدحاً. كيف يُرجى مِن مؤلف السيناريو الحياد والموضوعيَّة، والتَّاريخ الذي غرف منه معلوماته متعدد الرّوايات، وكاتب النّص والمخرج ضالتهما الإثارة، لا يهمهما ما تسفر عنه، سلباً أم إيجاباً؟
فالكاتب لا يملك ثبت أمثال محمد بن جرير الطّبري (ت: 310هج)، الذي لم يتعبه تقصي الواقعة مِن مختلف الموارد، ولا يهمه ما عرف بـ «الجرح والتَّعديل». مع علمنا، أنَّ ما نقرؤه في كُتب الملل والنّحل، وفي حِقب مِن التّاريخ العام، ليس المعلومة التي يُطمأن إليها، فكلّ مؤرخٍ جعل شخوص فرقته ملائكةً وأعلى، بينما جعل الآخرين شياطين وأدنى، ومَن حاول الحياد جُلد بسِياط التَّسقيط، مِن قِبل الطَّرفين.
كيف يكون الأَمر، والدّراما الدّينية أو التّاريخيَّة، شأنها شأن غيرها، تقدم محلاةً محشاةً بزيادات ونواقص للإثارة والترويج، فأصحابها لا يكترثون بنتائج التَّأثير كفائدة اجتماعيَّة، لأنَّ النّجاح عندهم يحدده عدد المتفرجين، وأيّ عمل يثير الجمهور، وإنْ كان برنامج «زعيق»، يُعد ناجحاً بحصاد ملايين المشاهدات، بينما برامج ثقافيّة جادة، لها جمهورها الهادئ، عُطلت لأنْها لا تُنافس في أجواء الجهل.
أما عن كتابة الرّواية نصاً أدبيَّاً، فيغلب على الظَّن أن الذي أدخلها جرجي زيدان (ت: 1914) مِن كُتاب الغرب، وزيدان طبيب، ودارس للعلوم الطَّبيعية، ليته ترك التّاريخ واعتنى بطبه، لأنَّ ما صنفه تحت عنوان «روايات تاريخ الإسلام»، نشد فيه التَّشويق لقراءة كتبه، وليس صحيحاً قصد تشجع قراءة التّاريخ، فقد أدخل الخيال على الرّوايات، وفتح الباب أمَّام آخرين، دربوا على دربه وأسلوبه، وعاشوا على جهود المؤرخين، الأوائل والمعاصرين، فمن أجل الإثارة والتّشويق هُتكت شخصيات، ورفعت أُخرى، وأخذت هذه الكتب تُمثل دراما وكوميديات.
ذكر لي أحدهم منبهراً بما قرأه في نص أدبيّ تاريخيّ، أنَّ صفاً دراسيّاً جمع بين ثلاثة كبار صاروا، واتفقوا على التعاضد في المستقبل: الوزير نظام المُلك (اغتيل: 485 هج)، وقائد الحركة النّزاريّة حسن الصَّباح (ت: 519ه)، والشَّاعر عُمر الخيَّام (ت: 515 هج)، وشاع ذلك على أنّها حقيقة، وجد من نقل ذلك إثارة فجعلها في روايته، وهي كذْبة سبق أنْ كشفها طه أحمد شرف، في «دولة النّزاريَّة أجداد أغاخان» (القاهرة 1950)، وهذا مجرد مثال. إذا دخلت أكاذيب في تدوين التَّاريخ، لأسبابٍ وأغراضٍ شتى، فكُتاب السِّيناريوهات للدراما التَّاريخية، وكُتاب قصص التاريخ بأسلوب الرّوايات الأدبيَّة، زادوا في المشهد، ودورهم هنا ليس قصد التَّنابز المذهبيّ أو الدّينيّ، إنما طلب الإثارة والتّشويق، بقصد جذب المشاهدين والقراء، لهذا لا تجد مؤرخاً، يحترم عِلمه، يقرأ هذه القصص، ويشاهد تلك الأعمال، ويتخذها في مصادره، حتَّى مِن باب نقضها.
لا يجوز معاملة تدوين التّاريخ بالتمثيل وكتابة الأدب، فهو بشرقنا غير مأمون النَّتائج، لا تظنونه نزهة مشوقة لقراءة التّاريخ، فالعِلة بالملقن والمتلقي، أعمال تخوض في مواقف ومعارك، مَن يعتبرها نصراً لا ظُلم فيه، ولا تستطيع الدّراما أو الأدب تقديمها بأقل مِن هذا، بينما الذي وقع عليه النَّصر يراه قهراً، وهذه حقيقة المعارك كافة، فيها المنتصر والمهزوم. أقول: لا يُحجب التّاريخ في الدّراما أو الأدب، إلا ما يصعب على العوام تحمله مهما جُمل، وإلا هناك أضابير مِن الوقائع، التي يجتمع عليها النّاس، مِن الآداب والعلوم والفلسفات، تمثيل الوقائع الحياديَّة لا الملتهبة، حرصاً على الإثارة النَّافعة.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

عاش الغرب والعالم على مدى يقارب الثلاثة قرون، افتاحية انتقالية آليه انهت العصر الطويل من الانتاجية اليدوية ومترتباتها، ومايتناسب مع طبيعتها على المستويات كافة، وفي مقدمها المجتمعية، ومع الانقلابيه الشامله الالية والممتدة على مستوى المعمورة، لم يحظ الانقلاب المشار اليه بالتقييم اللازم المطابق كحدث مفصلي وانقلابي شامل ونوعي، في حين اضطلع الغرب نفسه بحكم انبجاس الالة بين تضاعيفه بالمهمه المنوه عنها، معتبرا نفسه جديرا بالتوفر على الاسباب التقييميه الضرورية للحظة، بينما كانت الظروف وقتها بصالح ميله الانفرادي وتميزه، مادام العالم ببقية مواضعه الاخرى مايزال خارج مفعول الانقلابة الحاصلة، تلك التي وضعت الغرب بما تسببت فيه من تسريع غير عادي للاليات المجتمعية والعقلية منها، بموقع الغلبة نموذجا وطريقة ادراك.
واليوم اذا ماجرى النظر الى الافتتاحية الانقلابية الالية، فان مايلفت النظر في اشتراطات والسياقات التي ادت اليها ورافقتها حتى الان، تظل تؤشر الى مجموعة عوامل كان من طبيعتها كما وجدت، ان تضع الانقلاب المستجد في حال من القصور وجوانب النقص التوهمي، من اهمها الجانب الموضوعي الذي يحصر التحقق الالي ضمن موضع بعينه من الكرة الارضية دون غيرها، مولدا حالا من اللاتساوي، وحيازة الغلبة القاهرة من قبل موقع دون سواه، مع توفر اسباب الامتداد والهيمنه التغلبية، استنادا لما قد صار متوفرا له من قدرات وامكانات غير عادية.
هذا في الوقت الذي لم يطرا على البال، ولا كان واردا التساؤل حول الغرب وهل هو مؤهل وقادر على التفاعل الضروري مع الحدث الحاصل بين تضاعيفة، وهل اذا تسنى له ان يكون الاول في مجال التعرف على الاله، فانه لابد ان يكون وبالحتم، كفوءا بما يتعلق بالتعرف الضروري على بعد الحدث الحاصل ومنطوياته الكونية الفعليه، ام ان هذا الطور من التاريخ البشري المجتمعي محكوم بان يمر بفترة افتتاح وطور ابتدائي اولي ومتدن على مستوى الادراكية الضرورية واللازمه، وان مايمكن توقعه من الحقبة مدار البحث، هو مجرد عتبه ذاهبه بالانقلابية المستجده الى الاكتمال اللاحق، بعد ان يكون مرورها قد وفر الاسباب والمعطيات اللازمة، وما هو ضروري من الشروط لبلوغ المسار الانتقالي كماهو مهيأ لكي يبلغه؟
هنالابد من اخذ المشروع الغربي المعاصر الموكول الى الانقلابيه الاليه بنظر الاعتبار، باعتباره هو الاخر محطة ابتداء، ليس من شانها، ولاهي منطوية حتما على مايدل على التحولية الحاصلة بكمال عناصرها، ومع النمطية المجتمعية الغربية الارضوية وازدواجها الطبقي كينونة، يكون من الاقرب للمنطق ان ياتي ماقد انتجته اللحظة مدار البحث ـ وهو مايبقى ساريا الى اليوم ـ من قبيل التوهمية والنظر الاني الموكول لنوع مجتمعي غير متناسب مع، ولايتطابق فعالية مع نوع وطبيعه الحدث الانقلابي الحاصل ونوعه وادواته، وبالدرجة الاولى افاق انقلابيته التاريخيه المجتمعية، ونوعها، خارج التعديل والتحسين، او الثورة الانتقالية داخل النوع المجتمعي ذاته، بامل الذهاب الى الحقيقة المتعدية للمجتمعية القائمه، فالاله لها نمط ونوع مجتمعيتها، مثلما كان لليدوية الانتاجية صنف مجتمعيتها الغالبة، وهذا من حيث الجوهر ماهو واقع اليوم.
ومع المخالفة غير المالوفة والخطرة لما معدود بمثابة ثابته نهائية غير خاضعه للمراجعه ولا النقاش، فان اللزوم يقتضي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية من زاوية اذا ماكانت معطى ابديا ثابتا، ام انها مثلها مثل كل ماموجود في الكون والطبيعية، ظاهرة يسري عليها قانون الوجود والفناء، او التحول، الامر المنطقي مع مايفترض من ترسيم تصيري لهذا العالم الوجودي الحي، بدءا من تشكله الاول وسيرورته التفاعلية الصائرة نموا الى الاعلى تقدما واكتمالا، وصولا الى ماينبغي افتراض يلوغه عند نقطة بعينها من المسار المذكور خارج الاعتقادية البديهوية الاعتيادية التي لاترى للمسار المجتمعي ومعه البشري مادته، اي احتمالية غير المعاشه، بلا نهاية، فالتشكلية والانطلاق الاول البدئي، ليس له في الذهن البشري احتمالية تحللية لاحقة، هي لحظة انقضاء الصلاحية، مع افتراض احتمالية التبادلية والتعاقب بافتراض افراز الظاهرة الراهنه مايعقبها من شكل مجتمعية ونوع حيوي اخر.
ومن اهم مايطالعنا لهذه الجهه موضوع الوسيلة المتداخلة مع نوع الوجود المجتمعي عندما تحل اليدوية وسيلة للانتاج، في صيغة مجتمعية هي بالاحرى وتلخيصا (التجمع + انتاج الغذاء) بعد وعلى انقاض طور (الصيد واللقاط)، ومن الواضح مدى الصله بين الحاجة الجسدية الاساس التي تتشكل المجتمعية الاولى في غمرتها وتلبية لها، مع القدر غير العادي من التماثل بيئيا ويدويا، وهما العنصران الرئيسان الطبيعيان، اللذان منهما ومن تفاعليتهما يتولد المبتنى المجتمعي، النوع والنمطية، حيث الغلبة الجسدية ومحركاتها الحاجاتية على العقل لدرجه اخضاعه لمقتضياتها، وهو ما يظل مستمرا مادامت الفعالية اليدوية مستمرة.
فاذا انتقلت المجتمعات الى العنصر الثالث الالة، واقحم على البنية الثنائية ( بيئة + كائن بشري) والتي هي العامل الحاسم التكويني البنيوي المجتمعي على مدى الطور الاول اليدوي، فان المجتمعية تكون وقتها قد بدات الانتقال الى طور مجتمعي اخر عناصره الاساس( بيئة + كائن بشري + آله)، وليس الى حالة "تقدم" ضمن المجتمعية الاولى كما قد كرس الغرب الاعتقاد بخصوص الانقلابيه الالية، مستغلا صيغتها الاولى الافتتاحية "المصنعية" ومعتبرا اياها الصيغة الاخيرة والانتهاء، مدللا بالمناسبة على قصورية ادراكية جوهر للحدث الانقلابي المستجد وحقيقته النوعية، بفعل العجز عن تبين، ناهيك عن ادراك تحوليته وعدم نهائيته النوعية، مع شكله المصنعي الاول.
فالالة ليست المصنع او قوة البخار، او حتى الكهرباء، ولا الدفقة الاولى من الانقلاب المترافق مع بدء الاصطراعية المتاتية عن اقتحام عنصر من صنف وطبيعة اخرى للعملية التفاعلية المجتمعية الاولى ومتبقياتها، من خارجها مختلف عنها نوعا وطبيعة، الامر الذي يلقي باثره على الظاهرة المجتمعية الموروثة كما هي بنيويا من جهه، وعلى الاله العنصر الاصطراعي التفاعلي نفسها، مامن شانه احداث عملية جديدة من التشكل، تترافق مع حالة موازية من التحلل المطرد، تظل تصيب المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، فاذا بالاله تتحول بالاصطراع، الى التكنولوجيا الانتاجية الحالية، ثم التكنولوجيا العليا المنتظره والموشكه على الانبجاس من هنا فصاعدا، مهيئة الاسباب لتشكل المجتمعية الاخرى، العقلية مافوق الارضية الجسدية، تلك التي كانت ممكنه ومتلائمه مع الطور اليدوي.
عجز الغرب الحديث عن ان يدرك الطبيعة التحولية المجتمعية الالية، والتي تنتهي معها المجتمعية الاولى، فتبدا بالتحلل لصالح المجتمعية العقلية، وهو قد عجز بالذات امام طبيعة الالة ونوع مفعولها، فاعتبره من قبيل لحظة التقدم المجتمعي من اليدوي الى الالي، في حين ان الاله هي وسيله واداة تحول وانقلاب نوعي مجتمعي، يتولد عنه ماقد تولد من انتقال من (الصيد واللقاط) الى (التجمع + انتاج الغذاء) اي ان الاله هي موشر نهاية المجتمعية الراهنه، لاماقد رافقها من توهمات.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

إن المعاهد البحثية ومراكز الدراسات، قبل أن تكون انتاجاً ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز.. إذ إن المعاهد البحثية هي المرآة التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف آفاق المستقبل وفق المنظور العلمي والمعرفي.. كما تعكس توجه الأمم والشعوب في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية.. لأن حفظ المنجز الفكري والسياسي والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما، هو ممارسة واعية بالتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع.. وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية.. فالمعاهد البحثية، هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني، في أبعاده المختلفة، وعلى حسب اهتمام واختصاص مراكز البحث والدراسة..
والمراكز البحثية كحدث او منجز حضاري، هي وليد الواقع النهضوي، الذي يعيشه مجتمع ما.. إذ يسعى كل مجتمع في مسيرته النهضوية الى تأسيس الأطر والأوعية المنسجمة وظروفه التاريخية، التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام..
وفي هذا القرن من الزمان، الذي شهد تطوراً هائلاً في مختلف الميادين والحقول، انبثقت عمليات الاهتمام المعرفي، وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية، ضمن إطار مؤسسي دائم، هو ما نطلق عليه اليوم "مراكز البحوث والدراسات".. فغدت الشعوب والأمم والحضارات، تتبادل معارفها، وتحافظ على مميزاتها وخصائصها، انطلاقاً من ورش العمل البحثية المنتشرة في أرجاء المجتمعات المتحضرة.. كما أصبحت مراكز البحث وسيلة فضلى، لعرض المنجز الفكري والعلمي والحضاري لأية أمة من الأمم.. ولكن أخطر ظاهرة تواجه العمل المؤسسي البحثي والدراساتي، هي نزعة الهيمنة المعرفية، التي تحول أنشطة المعهد البحثية الى أداة هدامة للمعارف الأخرى.. ففي الكثير من الأحيان، نجد أن معاهد الدراسة تسعى نحو توظيف تراث أمة أو فكرها لخط أيدلوجي وسياسي معين.. فيتم اخضاع المعرفة والمعلومة بشكل متعسف لذلك الخط الأيدلوجي أو التوجه السياسي.. وكمثال على ذلك يتحدث الدكتور محمد عبدالهادي، وهو صاحب مشروع (أمهات المسائل) في الفكر الاسلامي، معرباً عن دوافع اهتمامه بهذا المشروع قائلاً: "لقد كان الباعث لنا على التفكير في هذا المشروع أننا اطلعنا على نشرة المؤلفات الكبرى في العالم الغربي
The great books of the western world
التي أصدرتها دائرة المعارف البريطانية، وهي تشتمل على أهم كتب العلم والفلسفة والدين والأدب وجملة الثقافة الانسانية " 443 مصنفاً في 51مجلداً" لقد طرح مشروع الأفكار الكبرى من وجهة نظر الفكر الغربي وتطوره، ومن النادر جداً أن تجد اشارة عارضة الى الاسلام أو مفكريه. رغم أن الفكر الاسلامي كان قد دخل في تاريخ الفكر الغربي وأثر فيه، بعد أن كان قد احتل مكاناً كبيراً بين الفكر اليوناني والفكر القديم بوجه عام.
وفي إطار العالم الثالث ودائرته العربية والاسلامية، نجد هذه المسألة أيضاً بشكل واضح وجلي.. إذ إن الكثير من مراكز البحوث والدراسات ما هي إلا امتداد أيدلوجي وسياسي، لنظام سياسي معين، يسعى نحو توسيع رقعته الجماهيرية، أو استيعاب النخبة الثقافية والفكرية في إطار هذا المركز أو المعهد البحثي. وهنا يصبح المركز البحثي جزءاً من الترسانة الفكرية والأيدلوجية الذي يسعى من خلال نشاطه وأعماله البحثية والأكاديمية، الى توظيفها بما ينسجم ونزعة الهيمنة ومنطق المركزية الثقافية.. ولا نجازف إذا ما اعتبرنا عدم التجرد في شكل من الأشكال، هو احدى المشاكل الأساسية التي تعاني منها مراكز الأبحاث والدراسات.
ومن هنا نتبع أهمية الموضوعية، والاهتمام العلمي والبحثي والأكاديمي الجاد والهادف الى الوصول الى الحقائق دون توظيفها الأيدلوجي أو السياسي. ومن الضروري القول أيضاً، إن الدفاع عن الجدارة الذاتية على المستوى المعرفي والعلمي، لا يستلزم اقصاء الجدارة عن الآخرين.. كما أن انصاف الآخرين لا يعني تعطيل مسيرة الجدارة الذاتية.. فالثغرة المنهجية القائمة في الكثير من النماذج والتجارب البحثية والدراساتية، هي ثغرة التحيز واللاموضوعية، مما يفقد العمل البحثي بعده الحضاري وقيمته التربوية والتعليمية، التي تتجلى في اعطاء الرؤية وبيان الحقائق المتحررة من العناصر الدوغمائية والنظرة الواحدية. وعلى هذا نقول إن معاهد البحوث والدراسات، من الأنماط الحضارية المتقدمة في الاهتمام بالحقل المعرفي والعلمي وتهدف وتنشد الأمور التالية:
- تركيز وتكثيف الجهود البحثية والفكرية، حيث إن مراكز البحث ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، تقوم بتكثيف الجهود المبذولة في هذا السبيل، مما يرجع على المتابع، وذوي الاهتمام الفكري والبحثي بالفائدة العميمة..
- دعم صناع القرار: دائماً رجل الادارة والتنفيذ بحاجة الى الجهود البحثية المركزة، التي تبلور له الخيارات وتوضح له السياسات، وتفصل له القضايا بشكل علمي ودقيق.. ولذلك نجد أن الكثير من الحكومات والاجهزة التنفيذية في المؤسسات العامة المحلية والاقليمية والدولية، تعمد على دراسات وأبحاث وخبرات مراكز البحوث والدراسات، واعتبارها هيئة استشارية لتلك الجهة أو ذلك الجهاز التنفيذي الحكومي أو الأهلي..
وكمثال على ذلك، نجد أن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع بروز ظاهرة الصحوة الاسلامية في العالم العربي والاسلامي بدأت مراكز البحوث والدراسات بالاهتمام بهذا الحقل، جمع الكفاءات والقدرات الفكرية والسياسية للاستفادة منهم في هذا المجال، للوصول الى تصور واضح واستراتيجي عن هذه الظاهرة.. ودائماً نجد أن مع نمو أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، ينبري أهل الخبرة والاختصاص في الإطار المؤسسي الذي يجمعهم لدراسة تلك الظاهرة، وتقديم نتائج أبحاثهم وخلاصة آرائهم الى الحكومة أو الأجهزة التنفيذية في الولايات المتحدة الأمريكية..
- تطوير الحياة المعرفية في الوسط العام: بما أن مراكز الأبحاث والدراسات عادة ما تستقطب أصحاب الاهتمام والخبرة، لذلك فإن لمؤسسات البحث الدور الأساسي في تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعلمية في الوسط العام. عن طريق أنشطتها الثقافية والعلمية ومنابرها الإعلامية المختلفة.. ولذلك نجد في الكثير من الدول والبلدان، أن وراء تقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية، مؤسسات ومعاهد ومراكز للبحوث والدراسات ف مختلف الحقول والاختصاصات.. حيث تقوم هذه المراكز برفد الساحة بالمعلومة الجديدة الموثوقة، والتحليل العلمي الرصين، وتبلور آفاق المستقبل. وتوضح المدلهمات من القضايا والأمور..
لذلك كله: تبقى مراكز الأبحاث ضرورة حضارية ونمطاً متقدماً مع العلم والمعرفة..
وعلى ضوء ذلك، نشعر بأهمية العمل على تأسيس مراكز أبحاث ودراسات وطنية، تأخذ على عاتقها تنفيذ المهام الوطنية الموكولة لها، وتطوير مستوى البحث العلمي في مجتمعنا. وفي هذا الإطار نود التأكيد على المقترحات التالية:
- تحظى المؤسسات الإعلامية في وطننا العزيز بإمكانات مادية وبشرية متميزة إلا أن هذه المنابر تفتقد الى مراكز للدراسات والابحاث. لذلك فإننا نشعر بأهمية أن تنطلق مؤسساتنا ومنابرنا الإعلامية، في تأسيس مراكز للدراسات والابحاث، وتضيف الى نجاحاتها نجاحاً جديداً من خلال تطوير العمل العلمي والثقافي والبحثي من خلال هذه المراكز والمؤسسات البحثية. ونهيب بجريدة الرياض الغراء، التي هي السباقة والمبادرة في تأسيس الانشطة والمؤسسات الثقافية والإعلامية، أن تبادر الى تأسيس مركز للأبحاث والدراسات، يكون جزءاً من منظومتها الإعلامية والثقافية، ويتكامل مع كل أنشطتها ومبادراتها في هذا الصدد.
ولعلنا لا نبالغ حي القول ان كبريات الصحف في العالم، تحتضن مؤسسات بحثية جادة، تأخذ على عاتقها تطوير مستوى البحث في أوطانها، ورفد النشاط الإعلامي والصحافي بالمزيد من المعلومات والأفكار والاستراتيجيات.
يحتضن وطننا (8) جامعات عريقة، استطاعت أن تخرج خلال هذه السنين عشرات الآلاف من الكفاءات والقدرات والكوادر الوطنية، إلا أن مراكز الأبحاث والدراسات في هذه المؤسسات العلمية العريقة ليس بمستوى الطموح. ونشعر بأهمية بلورة خطة وطنية جديدة، تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحقل البحثي الهام.
تشجيع القطاع الخاص على تأسيس مراكز للأبحاث والدراسات، تأخذ على عاتقها تطوير المستوى المعرف للحقل والمجال الذي يتحرك فيه القطاع الخاص.
وجماع القول: ان مراكز الابحاث والدراسات، من القضايا الوطنية الهامة والحيوية، والتي تتطلب من الجميع القيام بجهد نوعي، في سبيل تأسيس بنية تحتية وطنية لهذه المراكز والمعاهد البحثية.
***
محمد محفوظ – باحث سعودي

 

في عالم يسوده هاجس التميز والمقارنة، تبرز التصنيفات الجامعية العالمية كبوصلة توجه الطلاب وأولياء الأمور في رحلة البحث عن أفضل مؤسسة تعليمية، وتساهم في تحديد السياسات التعليمية لبعض الدول، كما استخدمت نتائجها دول للتباهي بجودة جامعاتها.
هذه التصنيفات، التي تتصدر عناوين الأخبار وتثير نقاشات واسعة، تعد بمثابة دليل شامل لجودة التعليم العالي. لكن، هل حقًا تقدم هذه التصنيفات صورة دقيقة وواقعية عن جودة التعليم؟ هل تعكس حقًا التفوق الأكاديمي والبحثي، أم أنها مجرد مسرحية وهمية بمعايير مضللة وتقييمات مغلوطة؟ هل يمكن الاعتماد عليها كمرجع نهائي في اختيار الجامعة المناسبة، أم أنها مجرد أداة تسويقية تروّج لبعض المؤسسات على حساب أخرى؟
دعونا نسلط الضوء على بعض أوجه الخلل وعدم كفاءة وعقلانية هذه التصنيفات:
- معايير مضللة:
تعتمد التصنيفات بشكل كبير على مؤشرات محدودة، لا تعكس بالضرورة جودة التعليم بشكل شامل. على سبيل المثال، تركز على عدد الأبحاث المنشورة في المجلات عالية التأثير، ومنها البحوث المسروقة، دون الأخذ بعين الاعتبار جودة التدريس وفعالية التعلم ورضا الطلاب. هذا التركيز المفرط على الأبحاث يخلق حلقة مفرغة، حيث تسعى الجامعات إلى زيادة عدد المنشورات على حساب الجودة. يجب أن تتضمن المعايير مؤشرات أكثر شمولًا مثل الكفاءة الأكاديمية، وشمولية المناهج وتميزها، وتنوع أساليب التدريس، ومعايير القبول، ومعدلات التخرج، ونسبة توظيف الخريجين، وتقييمات الطلاب لجودة التدريس.
- تلاعب بالمعلومات:
لا توفر كثير من الجامعات معلومات صحيحة، ويتم فيها إضافة أو حذف على حسب «مهارة» الجامعة في تضليل المعلومات. وقد ظهر في مرات عديدة، وبصورة جلية تجريف للمعلومات مما اضطر مؤسسات التصنيف إلى تغيير ترتيب الجامعة. ومع أنه، بالإضافة إلى البيانات المقدَّمة من الجامعات، تعتمد مؤسسات التصنيف أيضًا على مصادر خارجية، مثل قواعد البيانات العلمية (مثل Scopus وWeb of Science) واستطلاعات الرأي بين الأكاديميين، وأصحاب العمل، والتي تساعد في التحقق من صحة البيانات المقدمة من الجامعات، وتوفير رؤية أكثر شمولًا لأدائها، إلا أنه يجب أن تكون هناك آليات أكثر صرامة، للتحقق من صحة البيانات المقدَّمة من الجامعات. ويجب على مؤسسات التصنيف أن تتعاون مع جهات خارجية مستقلة للتدقيق في هذه البيانات.
- محدودية عدد الجامعات المشاركة:
مؤسسات التصنيفات لا تصنِّف إلا الجامعات المشاركة، لذا فإنها لا تضم في تصنيفاتها إلا عددًا محدودًا من الجامعات، والتي لا تمثل أكثر من 5% من مجموع الجامعات العالمية، فهناك العديد من الجامعات في العالم التي لا تشارك في هذه التصنيفات، إما لأنها لا ترغب في ذلك، أو لأنها لا تستطيع توفير البيانات المطلوبة، أو لأنها لا تستوفي معايير التصنيف.
وهذا يعني أن التصنيفات العالمية لا تعكس بالضرورة مستوى الجامعة العالمي، أو جودة الجامعة في العالم، بل فقط بين الجامعات التي اختارت المشاركة. وتُظهر هذه النسبة المنخفضة نقص الاهتمام العالمي بالتصنيفات. ويعكس عدد الجامعات المشاركة من أية دولة اهتمام تلك الدولة وجامعاتها بالمشاركة. على سبيل المثال تضم إحدى التصنيفات 46 جامعة فقط من أصل 3982 جامعة أمريكية (بنسبة 1.2%) وهذا يثير تساؤلات حول مدى تمثيل هذه التصنيفات للواقع الفعلي للتعليم العالي في العالم.
- تقييمات مغلوطة:
تغفل التصنيفات دور العوامل الخارجية، مثل حجم الجامعة، وثرائها المادي في التاثير على نتائجها، مما يضفي مظهرًا زائفًا على تميز بعض الجامعات على حساب أخرى. ويبدو أن الجامعات ذات الموارد الأكبر لديها ميزة واضحة في إجراء الأبحاث، وجذب عناصر أفضل من أعضاء هيئة التدريس. من دون أن تأخذ التصنيفات في الاعتبار هذه العوامل الخارجية عند تقييم الجامعات فإنها تبقى متحيزة.
- مسرحية وهمية:
تصبح الجامعات منساقة وراء لعبة التصنيفات، مركزة جهودها على تحسين مؤشراتها المصطنعة بدلًا من التركيز على جوهر العملية التعليمية، وتطوير تجربة الطلاب. وهذا يحرف الهدف الحقيقي للتعليم العالي، وهو توفير تعليم جيد للطلاب، وإجراء أبحاث تخدم المجتمع. يجب أن تركز الجامعات على تحسين جودة التعليم بدلًا من السعي وراء الترتيب.
- تأثير سلبي:
تساهم التصنيفات في خلق بيئة تنافسية غير صحية بين الجامعات، لا تتعلق أبدًا بجودة التعليم والبحث والابتكار وخدمة المجتمع، مما يعوق التعاون، وتبادل المعرفة، ويحوّل التركيز من الارتقاء بالتعليم، بشكل عام، إلى السعي وراء الرتب المصطنعة، خاصة عندما يعتمد التصنيف على سياسة «ادفع أكثر تحوز مرتبة أفضل». التعاون وتبادل المعرفة هما اساس التقدم في التعليم العالي لذا يجب ان تشجع التصنيفات على التعاون بدلا من التنافس.
- إغفال التنوع:
تهمل التصنيفات احتياجات وتطلعات الطلاب الفردية، مقدمة صورة نمطية عن «أفضل» الجامعات دون مراعاة التنوع في مجالات التخصص، وأساليب التعلم وثقافات الطلاب. بينما يجب أن يختار الطلاب الجامعات التي تناسب احتياجاتهم وأهدافهم الفردية، وليس فقط الجامعات التي تحتل مرتبة عالية في التصنيفات.
- التحيز الثقافي والجغرافي:
يشارك في التصنيفات عدد محدود من الجامعات، وكل من يشارك يجد موقعًا فيها، إلا أن المواقع المتقدمة محجوزة لجامعات الدول الغربية، وبعض جامعات العالم النامي التي تدفع بعضها أموالًا طائلة، وتبقى المراتب المتأخرة متوفرة لجامعات الدول الفقيرة. وبما أن التصنيفات تركز على تمثيل الجامعات الناطقة بالإنجليزية، خصوصًا الأمريكية والبريطانية، فإن ذلك يؤثر سلبًا على تصنيف الجامعات في الدول النامية، والجامعات الناطقة بلغات أخرى، ما يعني أنه لا يوجد تمثيل عادل للجامعات من مختلف المناطق والثقافات.
الخلاصة:
تبرز التصنيفات الجامعية العالمية كمرجع للقيادات التعليمية وللطلاب وأولياء الأمور، لكنها تعاني من عيوب جوهرية؛ فهي تعتمد على معايير مضللة كالتركيز على الأبحاث المنشورة دون جودتها، وتتلاعب الجامعات بالمعلومات المقدمة. كما أن هذه التصنيفات تقتصر على عدد محدود من الجامعات المشاركة، مما يقلل من تمثيلها للواقع. وتغفل هذه التصنيفات العوامل الخارجية المؤثرة، وتخلق تنافسًا غير صحي بين الجامعات. وبالإضافة إلى ذلك، تهمل التصنيفات احتياجات الطلاب الفردية، وتُظهِر تحيّزًا ثقافيًا وجغرافيًا واضحًا.
***
ا. د. محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن.

 

التماسيح إذا جاعت تصبح مجنونة وان شبعت تنصرف الى النوم غير مكترثة، في بعض الحضارات القديمة عبدت اتقاء شرها لتصبح معتقدا يمارسه الانسان وهو في وضعية العجز المكرس يستمد طقوسه من إخفاقات الازمة، كذلك يُنظر إلى الصعاليك على أنهم متمردون أو خارجون عن القانون لكنهم مهذبون. اعتُبروا منبوذين تقليديا، حيث كانوا يتحدون الأعراف الاجتماعية، وأحيانا كان يُنظر إليهم بإعجاب بسبب شجاعتهم وكرمهم. شعراؤهم كان لهم تأثير قوي، وأعمالهم الأدبية تُعتبر جزءًا من التراث الثقافي العربي. تناول المؤرخون العرب الصعاليك بشكل متنوع، بعضهم رأى فيهم رموزًا للحرية والاستقلال، بينما اعتبرهم آخرون مثالاً على الخروج عن التقاليد تحولت قصص الصعاليك إلى أساطير شعبية، حيث أُبرزت شجاعتهم ومواقفهم النبيلة، مما ساهم في تشكيل صورة إيجابية عنهم في الثقافة العربية، بالمجمل، كانت نظرة المجتمع للصعاليك معقدة، تجمع بين الرفض والاحترام، مما يعكس التوتر بين القيم التقليدية والحرية الفردية، تغيرت النظرة إلى الصعاليك عبر العصور، سواء في سياق تاريخي أو اجتماعي.
صعاليك اليوم
بينما كان تمرد صعاليك الأمس مرتبطًا بالسياق القبلي والمجتمعي، فإن تمرد صعاليك اليوم يتسم بتعقيد أكبر، حيث يتناول قضايا معاصرة ويستخدم وسائل حديثة للتعبير عن الرأي وهي تمثل صعاليك معاصرين من خلفيات ثقافية متنوعة، حيث يستخدمون فنونهم ووسائل التعبير المختلفة للتحدي والتمرد على القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يعكس تغيرًا في مفهوم التمرد عبر العصور، تتراوح استراتيجيات التعبير عن الآراء بين استخدام التكنولوجيا، الفنون، والنشاط المباشر. يتيح هذا التنوع للصعاليك المعاصرين الوصول إلى جماهير مختلفة وزيادة تأثيرهم على القضايا التي يهتمون بها بشكل عام، بينما اعتمد صعاليك الماضي على وسائل تقليدية للتعبير عن آرائهم، يستخدم صعاليك اليوم استراتيجيات متنوعة وعالمية، مما يمنحهم أدوات ووسائل أكثر تأثيرًا للتعبير عن قضاياهم والتواصل مع جمهورهم، سلوكيات الصعاليك يمكن أن تُفهم على أنها نتيجة تفاعلية بين العوامل الثقافية والاجتماعية. في كثير من الحالات، يكون البؤس والفقر عوامل رئيسية تدفع الأفراد إلى التمرد. الأوضاع الاقتصادية السيئة، التمييز، والظلم الاجتماعي يمكن أن تثير مشاعر الغضب والرغبة في التغيير، يمكن أن تؤثر التجارب المشتركة للمجتمعات، مثل الحروب أو الاستبداد، على سلوك الأفراد وتوجهاتهم، مما يؤدي إلى نشوء ثقافة من المقاومة والتمرد وقد تكون ثقافة التمرد جزءًا من الهوية المجتمعية، حيث ينشأ الأفراد في بيئات تشجع على مقاومة الظلم وتقدير قيم الحرية والعدالة ،الأدب والفن يمكن أن يلعبا دورًا في تشكيل سلوكيات الصعاليك من خلال تقديم نماذج من التمرد والاحتجاج ،بينما لا يوجد دليل قاطع على أن التمرد هو سلوك "مرسوم جينيًا"، يمكن أن تلعب العوامل الجينية دورًا مهما في تشكيل شخصيات الأفراد، مثل الميل إلى الجرأة أو الاستقلالية ،يمكن أن تنتقل قيم التمرد من جيل إلى جيل، مما يجعلها جزءًا من التراث الثقافي للمجموعات البشرية. الأفراد الذين نشأوا في بيئات تعاني من القمع قد يميلون أكثر إلى التمرد، سلوكيات الصعاليك غالبًا ما تكون نتيجة تفاعل معقد بين الظروف الاجتماعية والثقافية والعوامل الوراثية. الأفراد قد يتأثرون بعوامل متعددة، مما يجعل سلوكهم متنوعًا وغير قابل للتنبؤ، يمكن القول إن سلوكيات الصعاليك ليست نتيجة ثقافية بحتة لحالة البؤس، ولا هي مجرد تمرد موروث جينيًا. بل هي نتيجة تفاعل معقد بين العوامل الثقافية، الاجتماعية الاقتصادية، والوراثية. كل من هذه العوامل تساهم في تشكيل سلوكيات الأفراد، مما يؤدي إلى تنوع في طرق التعبير عن التمرد والاحتجاج.
تأثير الدين في تشكيل سلوكية الصعاليك
يمكن القول إن الدين له تأثير مزدوج في تشكيل سلوكيات الصعاليك، يمكن أن يكون مصدر إلهام للتغيير والتمرد ضد الظلم، وفي الوقت نفسه يمكن أن يُستخدم لتبرير القمع. يعتمد دور الدين على السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الأفراد، الأديان المختلفة تحمل قيمًا ومبادئ متباينة. في الثقافات التي تهيمن عليها الأديان التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، قد يتم الاستناد إلى نصوص دينية معينة لتعزيز قيم العدالة والمقاومة، في الثقافات التي تعتمد على الأديان التقليدية أو الروحانية، يمكن أن تكون هناك طرق مختلفة للتعبير عن التمرد، مثل استخدام الطقوس أو الرموز الروحية، تأثير الدين يمكن ان يلاحظ من خلال التالي:
فهم النصوص الدينية
التفسير والتأويل:
كيفية تفسير النصوص الدينية يمكن أن تختلف بشكل كبير. في بعض الثقافات، قد يتم تفسير النصوص بطرق تدعو إلى السلم والتسامح، بينما في ثقافات أخرى قد تُستخدم لتبرير العنف أو التمرد. السياقات التاريخية تلعب دورًا في تفسير النصوص. في بيئات شهدت ظلمًا تاريخيًا، قد يُستخدم الدين كأداة للتمرد.
التقاليد والعادات:
التقاليد الثقافية المحيطة بالدين يمكن أن تؤثر على كيفية استجابة الأفراد للظلم. المجتمعات التي تركز على الجماعة قد تتضامن أكثر في مواجهة القمع، الأساطير المحلية وقصص الأبطال يمكن أن تعزز من روح المقاومة وتلهم الأفراد للتمرد في الثقافات التي تعاني من قمع سياسي، قد يُستخدم الدين كوسيلة لإلهام الثورات أو الحركات الاجتماعية.
الاختلافات بين الثقافات
تختلف الثقافات بناءً على مجموعة من العوامل، بما في ذلك التنوع الديني، فهم النصوص، التراث الثقافي، الهيكل الاجتماعي، الظروف السياسية، والتأثيرات الدولية. كل ثقافة تقدم سياقًا فريدًا يؤثر على كيفية استخدام الدين كأداة للتمرد أو المقاومة تبرير ممارسات الصعاليك مثل السطو والسرقة دينيًا يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك السياق الاجتماعي والسياسي، والفهم الديني للنصوص. في بعض الأديان، يمكن أن يُفسر بعض النصوص بشكل يبرر مقاومة الظلم، حتى وإن كان ذلك يتضمن أفعالًا مثل السرقة. على سبيل المثال، قد يُشار إلى قصص أنبياء أو شخصيات تاريخية واجهوا الظلم بطرق غير تقليدية، بعض الصعاليك يمكن أن يستندوا إلى نصوص دينية تدعو إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين، معتبرين أن أفعالهم هي جزء من هذا الالتزام ويمكن أن يُنظر إلى السطو أو السرقة كوسيلة لمقاومة الأنظمة الظالمة أو الظلم الاجتماعي، حيث يعتبر الصعاليك أنهم يحاربون من أجل العدالة، يُعتبر السطو على الممتلكات التي يُعتقد أنها مسروقة أو مكتسبة بطرق غير شرعية كنوع من أنواع المقاومة في بعض الثقافات، وتكون هناك أساطير أو قصص تاريخية تروى عن الصعاليك، تُظهرهم كأبطال يقاومون الظلم، مما يعزز من تبرير سلوكياتهم. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى الصعاليك باحترام كأشخاص يقاومون الظلم، مما يمنحهم نوعًا من الدعم الاجتماعي أو الديني لتبرير أفعالهم، تبرير ممارسات الصعاليك مثل السطو والسرقة دينيًا يعتمد على السياق الاجتماعي، والتفسير المرن للنصوص الدينية، والاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية. يمكن أن يكون لهذا التبرير جذور عميقة في الثقافة والتقاليد، مما يعزز موقف الصعاليك في سياقات معينة ،منها التبني الانتقائي للقيم، أحيانا يتبنى بعض الصعاليك قيم السلطة الجديدة، لكنهم يفعلون ذلك بشكل انتقائي، حيث يحتفظون ببعض القيم الأصلية ويتبنون أخرى تتماشى مع متطلبات السلطة، يمكن أن يتعاونوا مع الأنظمة الجديدة من أجل تحقيق أهداف معينة، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض مبادئهم والانغماس في الفساد، في بعض الحالات، قد يتحول الصعاليك إلى أدوات للسلطة، ويبدؤون في تبني القيم السلبية التي تمردوا عليها، مما يؤدي إلى خيانة مبادئهم السابقة والتأقلم مع الانتهاكات، قد يصبحون جزءًا من النظام الجديد، مما يؤدي إلى تبرير الانتهاكات التي كانوا يعارضونها سابقًا باستمرار المقاومة، هنا يظهر صعاليك آخرون كناقدين للنظام الجديد، حتى لو كانوا في مواقع السلطة، مما يعكس عدم رضاهم عن تغيرات الوضع ويمكن أن يتحول بعضهم إلى قادة للحركات المعارضة مرة أخرى إذا اكتشفوا أن السلطة الجديدة لم تحقق المكسب الأساسي للتغيير وهو الاستيلاء الكلي على الموارد نتيجة التغيير.
***
غالب المسعودي

 

‏اتصور بان اضافة مفهوم الرقمي او الرقمية الى القران الكريم، ليس اقحاما او الحاقا بمفهوم الرقمية التكنولوجية التي نعرفها اليوم، لان الواقع يشير الى تناول القران الكريم للفكر الرقمي بابهى صورة، وقد غاب عنا فهم تلك العلاقات او الرموز القرانية، لضعف المعرفة او عدم التخصص.
وتعد الجملة الرقمية في القرآن الجزء المهم من الإعجاز العلمي والفكري للقرآن، فهي موجودة في البناء الهندسي للقران وفي منظومة تراكيبه المشفرة وفي التاويل، وفي الجمل الكلية العامة مثل السنن او الاخبار عن مسائل مستقبلية، وهي تشير إلى تنوعات علمية ورياضية يقوم ببناء نظام دقيق جدا للكلمات والحروف وخرائط لمنظومة الآيات والسور في القرآن، ولعله المفهوم يقترب من منظومة الذكاء الصناعي اليوم. وكنت قد تناولت بمقال سابق العلاقة بين التشفير والقران، وتناولت ما تشابه واتحد او تقارب بينهما.
‏ونعلم انه يتكون القرآن الكريم من 114 سورة. وعدد آياته القرآن الكريم هو 6236 آية. وعدد الحروف في القرآن يبلغ حوالي 323,671 حرفًا اما الحروف المقطعة في بداية بعض السور (مثل "الم"، "حم") لها تكرارات معينة تظهر فيها نسب رياضية دقيقة. بينما يبرز التكرار الرقمي للكلمات بتكرار كلمات معينة في القرآن بعدد محدد ومتناظر. على سبيل المثال:
* كلمة "الدنيا" تتكرر 115 مرة، وكلمة "الآخرة" تتكرر أيضًا 115 مرة.
* كلمة "الملائكة" تتكرر 88 مرة، وكلمة "الشياطين" تتكرر أيضًا 88 مرة.
* كلمة "الحياة" تتكرر 145 مرة، وكلمة "الموت" تتكرر أيضًا 145 مرة. وفي نحو اخر نجد بان الكلمات المتوازنة تتقابل بشكل
* كلمة "الإنسان" تتكرر 65 مرة، وكلمة "النبي" تتكرر أيضًا 65 مرة.
* كلمة "الإيمان" تتكرر 24 مرة، وكلمة "الكفر" تتكرر أيضًا 24 مرة.
* ذكر الرقم 7 في قوله تعالى: "وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا" (النبأ: 12)، وهو عدد السماوات.
* ذكر الرقم 19 في قوله تعالى: "لديها تسعة عشر"
* الرقم 19 له أهمية خاصة في الإعجاز الرقمي للقرآن، وقد اكتشف العالم الإسلامي رشاد خليفة أن الرقم 19 هو أساس لنظام رقمي معقد في القرآن.
ويلاحظ ان العدد الخاص بالسجدات يشير الى اعجاز علمي ايضا. ومن بين الفهم الرقمي في القران هو التكرار الرقمي للأسماء الإلهية، سيما الاسماء الحسنى و المذكورة في القرآن بتكرار محدد. على سبيل المثال:
* كلمة "الرحمن" تتكرر 57 مرة.
* كلمة "الرحيم" تتكرر 114 مرة.
* كلمة "الله" تتكرر 2699 مرة. ومازلنا نبحث عن دلالات هذه الارقام.
وتبرز رقمية السرد القرآني والذي يبنى على دقة عالية، فمثلا
* قصة النبي موسى عليه السلام ذُكرت في القرآن 136 مرة.
* قصة النبي عيسى عليه السلام ذُكرت في القرآن 25 مرة.
* قصة النبي إبراهيم عليه السلام ذُكرت في القرآن 69 مرة.
فيما يبرز عدد السور ذات الآيات الزوجية هو 57 سورة. وعدد السور ذات الآيات الفردية هو 57 سورة أيضًا.
خذ مثلا كلمة "ماء" في القرآن في حساب الجُمَّل، قيمتها هي:
- م = 40
- ا = 1
- ء = 1
- المجموع = 40 + 1 + 1 = 42
ويربط الباحثون هذا الرقم بوجود الماء كعنصر أساسي للحياة. اما كلمة "نور" في القرآن
فقيمتها في حساب الجُمَّل هي
- ن = 50
- و = 6
- ر = 200
- المجموع = 50 + 6 + 200 = **25 و يُقال إن لهذا الرقم قد يكون له دلالات رمزية،
‏وعند تتبع عدد كلمات اليوم في القرآن، أجد أن ذلك يتطابق مع عدد ذكر الأيام في القرآن والذي بلغ 365 مرة وهو عدد أيام السنة الشمسية، أيضا وردت كلمة الشهر 12 مرة في القرآن.
وفي القرآن الكريم، حاول بعض الباحثين والمفسرين تطبيق هذا النظام للعثور على إشارات أو معاني مضمرة في نصوص القرآن وبعضهم حاول ربط قيم الجمل الرقمية بمواضيع معينة أو أحداث تاريخية أو حتى تنبؤات. وهي محاولات مستمرة، ومازال المختصون يبحثون عن قيم العلاقة المفقودة في الجانب الرقمي القراني، واظن بانه سيكون للذكاء الاصطناعي (وهو قفزة علمية مهمة) الدور المهم في كشف اسرار تلك العلاقات المهمة والتي ستكشف لنا عن قيم معرفية وميتافيزيقية مفقودة، تعمل على حلحلة الاسرار التي غابت عنا.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

في عالم تُمارَس فيه الهيمنة ليس فقط عبر العنف المباشر، بل من خلال تشكيل الوعي ذاته، يصبح السؤال الأساسي: كيف تُنتج الأنظمة القمعية الطاعة، ليس فقط كحالة مفروضة بالقوة، بل كشيء يُستبطن في النفوس؟
إن الطاغية لا يُولد، بل يُصنع، كما أن الجماهير لا تُقمع، بل تُروّض. في فضاء الهيمنة، لا تُفرض السيطرة بالحديد والنار فحسب، بل عبر منظومة سرديات تتسلل إلى الوعي، تعيد تشكيل الإدراك، وتحكم تصور الذات في علاقتها بالسلطة. ليست المسألة، إذن، مجرد قمع مباشر، بل هندسة للخضوع، حيث لا يكتفي النظام بفرض الطاعة، بل يعمل على جعلها جزءًا من بنية التفكير، بحيث يبدو التمرد عبثًا، والخضوع ضرورة.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي لا يحتاج إلى سياط الجلاد كي يركع، بل يركع طوعًا، ويدافع عن قيوده باعتبارها أمانًا، ويرى في الطغيان قدرًا لا مفر منه.
هذه الصناعة لا تتم من فراغ، بل عبر منظومة متكاملة من الأدوات التي تعمل على قولبة الإنسان منذ طفولته. ومن بين هذه الأدوات يأتي الدين، حين يتحول من تجربة روحية إلى أداة ضبط تُعيد إنتاج الطاعة، وتقدمها كفضيلة مطلقة.
فالمواطن المُطيع ليس مجرد شخص يخضع لسلطة الأمر الواقع، بل هو كائن تم تشكيله بحيث لا يرى في نفسه سوى انعكاس لما يُملى عليه، عاجز عن التخيّل خارج حدود السرديات المفروضة عليه.
وليست هذه الحالة طبيعية، بل يتم إنتاجها عبر خطاب ديني يُقدّم الطاعة كمبدأ مطلق، حيث يُعاد تفسير النصوص الدينية لتُنتج إنسانًا خاضعًا، يرى في أي محاولة للخروج عن النظام القائم تمردًا على “الإرادة الإلهية”.
وهكذا، لا يعود الدين وسيلة للتحرر الروحي، بل يتحول إلى قيد يُكبّل الفرد، حيث يتم غرس فكرة أن “كل سلطة هي من عند الله”، وأن مواجهة الظلم قد تعني الوقوع في الفتنة، وكأن العبودية أكثر أمانًا من الحرية!
وليس هذا بالأمر الجديد؛ فقد دعمت الكنيسة الكاثوليكية طغيان الملوك بوصفهم “ظل الله على الأرض”، كما استُخدمت فتاوى الطاعة في بعض البلدان الإسلامية لترسيخ مقولة أن الحاكم لا يُسأل عما يفعل، مما جعل التمرد يبدو كفرًا، والخضوع ضربًا من التقوى.
وهكذا، يصبح الظلم مشيئة إلهية، ويُعاد تأويل الاستبداد كاختبار للصبر، لا كحالة يجب تفكيكها. وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في الطغيان مشيئة إلهية، وفي الفقر امتحانًا، وفي الجوع نعمة، وفي الحرية خطرًا على الاستقرار!
لكن الأمر لا يتوقف عند التوظيف الديني فقط، بل يمتد ليشمل بُعدًا نفسيًا أكثر تعقيدًا، حيث يصبح الطغيان ذاته مصدرًا للراحة.
يذكر إريك فروم، في كتابه الخوف من الحرية، أن كثيرين يهربون من الحرية، لا لأنهم يحبون الطغيان، بل لأن الحرية نفسها مخيفة؛ إنها مسؤولية، عبء ثقيل يتطلب قدرة على اتخاذ القرار ومواجهة العواقب.
وهكذا، يُصبح الفرد الذي يخضع باسم الدين ليس مجرد ضحية، بل شريكًا في استدامة النظام الذي يقهره. حينها، لا يحتاج النظام القمعي إلى استخدام العنف المفرط، فالجمهور نفسه يصبح حارسًا للقمع، يراقب نفسه بنفسه، ويفرض على الآخرين ذات القيود التي كُبّل بها.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من سجّانه!
وبينما تعمل الأنظمة القمعية على تكييف الدين ليناسب أهدافها، فإن الرأسمالية تُكمل هذا الدور من زاوية أخرى، حيث لا تُشكّل فقط نظامًا اقتصاديًا، بل تتحول إلى ماكينة ضخمة لإنتاج الوعي المشوّه، وخلق إنسان يرى نفسه في حدود ما يستهلكه.
مارك فيشر، في كتابه الواقعية الرأسمالية، يشير إلى أن أحد أخطر أشكال الهيمنة هو جعل أي بديل غير قابل للتخيّل؛ حيث يُقدَّم النظام القائم وكأنه “الطبيعة الثانية”، وكأن أي محاولة للخروج منه ليست فقط مستحيلة، بل غير منطقية.
في هذه الحالة، يتحول الإنسان إلى مستهلك سلبي، لا يرى في نفسه سوى رقم في معادلة العرض والطلب، فاقدًا للقدرة على التفكير في ذاته كفاعل سياسي، وكشخص يمكن أن يُعيد تشكيل الواقع.
يُختزل وجوده إلى كونه ترسًا في ماكينة الإنتاج والاستهلاك، يقيس نجاحه بعدد الأشياء التي يمتلكها، لا بقدرته على التأثير في مجتمعه. وهكذا، يصبح التسوق شكلًا من أشكال الحرية الزائفة، ويتحول الدين إلى سلعة، والهوية إلى ماركة، والفكر إلى إعلان تجاري.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في التسوق حرية، وفي تراكم الديون طموحًا، وفي نجاحه الفردي تعويضًا عن فشل مجتمعه بأكمله!
ولأن هذه السيطرة لا يمكن أن تُترك للصدفة، فإن النظام يحتاج إلى آليات مؤسسية لترسيخها، وأبرزها التعليم والإعلام.
فمنذ الطفولة، يُقال للطفل: “الكبير لا يُناقش”، وحين يكبر، يتعلم أن “الحاكم لا يُسأل عما يفعل”. وهكذا، يتحول الخضوع إلى قيمة متوارثة، يُنقل من جيل إلى جيل، حتى يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي نفسه.
أما الإعلام، فإنه لا يُعنى بإيصال الحقيقة، بل بإنتاج الحقيقة، أو بالأحرى، إنتاج نسخة واحدة منها، نسخة تخدم القائمين على السلطة.
يصبح الإعلام سلاحًا، لا لقمع المعارضين فحسب، بل لمنع إمكانية تخيّل عالم مختلف. يتحول إلى آلة دعائية تعمل على تطبيع الظلم، وإعادة إنتاجه في صورة قدر لا يُرد، أو “واقع لا يمكن تغييره”.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يستهلك الأخبار كما يستهلك البضائع، يصدق كل ما يُقال له، ويردد الخطاب الرسمي وكأنه وحي!
إن إدراك العطب هو الخطوة الأولى في مقاومته، إذ أن النظام لا يسقط عندما يشتد قمعه، بل عندما يُسائل الناس شرعيته.
وكما قال فرانز فانون: “كل جيل يجب أن يكتشف مهمته، إما أن ينجزها أو يخونها”.
غير أن المقاومة لا تبدأ فقط من التمرد المسلح أو المواجهة المباشرة، بل من تفكيك منظومة الهيمنة في الفكر والسلوك، من مساءلة الخطابات التي تجعل الطاعة تبدو طبيعية، من إعادة تعريف الممكن، من فهم أن ما يبدو ثابتًا ليس إلا توافقًا مؤقتًا بين القوة والخضوع.
إن أخطر ما في الهيمنة ليس فقط أنها تقمع، بل أنها تجعلنا نحب قيودنا، نخاف من فقدانها، نرى في الطاعة خلاصًا من قلق الحرية.
لكن “الماعز الأليف” ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يمكن كسره، شرط أن نجرؤ على إعادة اختراع ذواتنا من جديد!
***
إبراهيم برسي

 

السيطرة على الأفكار من الانفراد بخلخلة العقول إلى غسيل الأدمغة

علاقة المخدرات بالمشاكل النفسية والفكرية
إنّ المُعاناة النفسية لدى الشباب الذين يتعاطون المخدرات تُترجم بشكلٍ جليّ من خلالِ عدمِ الارتياح، وعدم الاستقرار من الناحيةِ النفسية، وخاصّة في سنّ المُراهقة، ويتوضّح ذلك من الصمت الذي يسلكه المراهق، وحالة الإنطواء التي يمرّ بها، وعدمِ أخذ الإعتبار لذاتهِ، إضافةً إلى اضطراب المزاج وخلل في تأنيب الضمير.
وقد تأخذ هذه المعاناة شكلاً آخراً مثل بداية الإنحراف، ومن ثُمّ يبدأ التطرف والعنف والعدوانية، وتتّضح اضطرابات المزاج وتقلباته أكثر.
وبهذه الحالة يصبحُ الشاب أو أي إنسانٍ آخر، مُعتمداً على هذه المواد نفسياً وجسدياً، وأحياناً يضطّر لزيادة الجرعة، كي يحصل على نتائج أكثر تأثيراً على ذاته، " إنّه الإدمان "، وهذا ممّا يجعل الضرر أشدّ تأثيراً في الجسم وبالعقل، وبهذه الحال يفقد الإنسان قدرته على ممارسة أعماله أو واجباته، في حال غياب هذه المواد المُخدّرة، لأنّه أصبح أسيرها، وإذا تخلّى عنها أو مُنعت عنه قد تظهر عليه حالات أو أعراض نفسية وجسدية خطيرة قد تُؤدي إلى الموت.
لذلك نقول أن مشكلة المخدرات كفيلةٌ بتدمير أي مجتمعٍ إذا انتشرت و هددت البنية البشرية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية، وتُعدّ من أخطر المشاكل التي تُهدد الحالتين النفسية والاجتماعية، وهي سبب رئيس للإحباط والاكتئاب والقلق واليأس والأرق.
العبث بالعقول، وعلاقة الاكتئاب بالمشاكل النفسية وشخصية الإنسان
إنّ الاكتئاب بشكلٍ عام هو ليس فقط إحباطٌ وعزلة، بل يلعب دوراً مؤثّراً أخطر من ذلك و خاصّة على الدماغ وعلى مقدرة الإنسان في الإدراك والتصرف، لذلك إن الأشخاص المُصابون بالإكتئاب لديهم صعوبة في إنجاز المهام التي تتطلّب قدراتٍ عالية من الإدر اك والتفكير، حيث أن الإكتئاب يلعب دوراً واضحاً لدى الشخص المُصاب، حيثُ يُعاني من مشاكل قد تكون بسيطة مثل التنزّه أو التحدّث مع أبناء الحي، أو إتخاذ قرارات بسيطة، وعدم قدرته على معالجة الأمور بشكلٍ طبيعي، إضافةً إلى شعوره بصعوبة الإستيعاب أو التعلّم أو الإستماع، إضافةً إلى معاناته في قصور القدرات العقلية.
كما يُعاني المُصاب بالاكتئاب من صعوبة تذكّر الأمور التي حدثت، وإذا حاول الثذكّر يشعر بالتوتر وتحصل عنده حالة الإنكماش الذهني وسوء النمو.
كلّ هذه الأمور فيما إذا استمرت واستفحلت قد تُؤثّر على الدماغ بشكلٍ مباشر ويحصل تلف في بعض خلايا الدماغ، وهذا يُسبب إيقاف نمو بعض الخلايا، وبالتالي يهرم الدماغ ويشيخ.
غسيل الأدمغة ومراحلها
ما شاهدناه ونشاهده من التعذيب، والتلاعب بالأعصاب، والتحوّل الديني، والجنسي، كلّ هذه الأمور وسواها إنما تتجسّد لتاريخ غسل الأدمغة الطاغي والمُروّع، الذي حقّق اختراقاتٍ جسيمة في مجالِ السيطرة الاجتماعية والدينية والسياسيّة.
وليس سراً أن نسرد أنّ هناك أدوية خاصّة بالأعصاب، أُستخدمت ولا تزال في مجال الاستجواب في أقبية المخابرات.
وهذه الأدوية أو العقاقير يتم تحديثها وتطويرها على الدوام.
ولعل الجميع يتذكّر "مشروع مانهاتن" الضخم والخاص بالعقل، بهدف محو الذاكرة، والتلقين الاوتوماتيكي حتّى في حالات النوم، اضافة إلى مُسببات الهلوسة، المتطرفون و المتشددون استخدموا هذه التقنيات، ورجال الأمن والاستخبارات والمجرمين والارهابيون يحتلّون دوراً مهماً في هذا المجال المخيف، من أجل تغيير قناعات الأفراد ومحو ذاكرتهم.
ولعل الاتحاد السوفياتي والصين أول من قام بهذه الممارسات التي ترتبط بشكلٍ مباشر بغسيل الأدمغة. ومن ثُمّ قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية "بمشروع مانهاتن للعقل" المهتم في غسيل الأدمغة والتحوّل الأيديولوجي، وكان بمثابة الرد على الصين والاتحاد السوفياتي. ومن ثّمّ أصبحت دول كثيرة تعتمد هذا الأسلوب، حيث اعتمدت أجهزة المخابرات في جلسات التحقيق على الإيحاء، وتعريض الآخرين للجهد الجسدي وقلة النوم. وبمساعدة العقاقير وأثناء نوم الذي يتم التحقيق معه، يقوم بالتحدث أثناء نومه بحقائق تستفيد منها أجهزة المخابرات، كي يتلاعبوا بأفكارهم، ومن ثُمّ الإدلاء باعترافاتٍ لا أساس لها من الصحة، وبذلك يكونوا ضحايا لجلسات محاكمة صورية .
إنّ غسيل الأدمغة وسيلة من وسائل السيطرة على البشر وعلى العقول، وهو يُمثّل تهديداً مباشراً ودائماً على الإنسانية وتقييدها.
وحينما يفهم الإنسان هذه اللعبة القذرة يُصبحُ بإمكانه أن يستعيد السيطرة على نفسه وعلى عقله وحماية حريته.
سيكولوجية الذات البشرية، القصور الوجداني والنزعوي
يجب على الإنسان أن يبحث عن كيفية تقييم وإدراك ذاته من خلال التفكير السليم، كي يكتشف ذاته ويكون واعياً كينونته بشكلٍ جيد.
غظنّ مفهوم الذات يتضمن معتقدات أي إنسان حول صفاته أو نفسيته، ووعيه حول صفاته وشخصيته، وهي جزء مهم من بحوث علم النفس الإنساني والاجتماعي والتطوري، حيث أنّه يُمثّلُ البناء الأمثل، أو المرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته عندما يكون بمفرده، أو عندما يكون متفاعلاً مع الآخرين.
وبهذه الحال يُدرك الفرد نفسه، ويدرك احساسه الوجودي وبتميّزه أنه كائن مستقل ومنفصل ومتميّز عن الآخرين، من خلال سماته وخصائصه الشخصية المتكوّنة مع مرور الأيام ومنذ طفولته، حيث أن الطفل يصبح واعياً لذاته مع مرور الزمن، ويُدرك بأنه جزء من المجتمع والعالم.
ومن هذا الزمن يتضح مفهوم الذات ويصبح الفرد محط تقدير وجهة نظره حول ذاته، والقيمة التي يضعها لنفسه، وماذا يتمنى أن يكون كنظرةٍ ساميةٍ مثالية.
أحياناً كثيرة لا يحدث تطابق واقع الفرد وبين رؤيته لنفسه، أو ما يودّ أن يكون، فإن هذا الشرخ أو التفاوت الملموس يؤثّر على تقييم الذات.
لذا نرى أن هناك علاقة وثيقة بين حقيقة الذات، وتقدير الذات أو الأنا المنشودة، لذلك قد يحصل وبناءً على النسبية سلباً أو إيجاباً في التطابق، صفات معينة مثل: ذكي - كسول - متفائل - قوي - سعيد - ضعيف - مكتئب - ذكي.
ولكي ننجح في نمو التطابق النفسي للفرد علينا أن نجد الطرق التي يستجيب من خلالها الآخرون إلينا، أو نحونا، وعلينا أن نفكر جيداً حينما نقارن أنفسنا بالآخرين، وأن نؤكّد على دورنا الاجتماعي، وعلى المنظور الذي من خلاله نعرف كينونة أنفسنا مع الآخر.
ولا بُدّ من الثقة والاستقلالية والمحبة بعيداً عن أي قيود أو إملاءات.
يجب أن يتحلّى الفرد بالجرأة بهدف استخدام عقله بعيداً عن أي وصايةٍ أو قيد.
لذلك عندما نتحدث و نستخدم كلمو "القصور"، فهذا يعني أن إنسان ما لا يستخدم عقله، أو لا يجرؤ على استخدامه، ولا يستطيع أن يتحكّم بتفكيره الخاص، أي هناك عجز ما، عجز في استخدام العقل، هناك من يصفه بالاستبداد كأساسٍ للوصاية التي تُهمين على المرء وفي كلّ المجالات، بما فيها الفكرية.
وخروج هذا المرء من هذه الحالة هي مهمته نفسه، ومسؤوليته، السبب لا يكمن في عدمِ القدرة على الفهم، ولكن قولاً واحداً في الحاجةِ إلى الشجاعة لاستخدام عقله بعيداً عن تشجيع من الآخرين.
وكما قال "كانط" "تجرأ على التفكير، امتلك الشجاعة لاستخدام حسّك الخاص".
وهذا يعني أن الانسان مسؤول عن عجزه وقصوره، وهو يتحمّل المسؤولية لعدم بلوغه النضوج في السن القانونية، وهي السن التي يكون فيها الإنسان قادراً على التفكير بحرية دون أي وصايةٍ أو إملاء أو إشارات وإرشاد من الغير.
إن التمرد والخروج من القصور يحتاج إلى جهدٍ ومشوار معقّد، وعملية شائكة، تجتمع فيها الثقافة وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس ونظريات المعرفة والتاريخ إضافة إلى الأديان.
حيث أن الإنسان بشكلٍ عام هو مقيد بمشاعره واستجاباته ومواقفه التي ترسم له ومنذ طفولته في المنزل، في الشارع، وفي المدرسة، والمعلمين والمناهج ورفاق دربه، فالإنسان يصبح أسير هذه البرمجه، ولا يستطيع البسطاء وهم الأغلبية من الخروج من هذا التجذّر الذي يرسم ردود أفعاله ومشاعره ومواقفه بدون تفكير أو ردة فعل، هنا تماماً نحن نكون أمام قصورٍ ذاتي فكري ومعرفي ونفسي.
وجديراً بالذكر أن الشكل السلطوي الذي يحدد ممارسات السلطة السياسية والقضائية والدينية، يحدّ من تفكير المرء، ومن إبداعه الفكري، ولكن وبكلِ تأكيد حينما لم تعد هناك سلطة قمعية ولم تعد هناك طاعةٌ عمياء، ستتمكّن الإنسانية من نضجها الفكري.
ولم يتحرر الفكر، ومستحيل أن يُبدع المفكر إلاّ من خلالِ الحرية التي تبيح استعمال العقل وفي كلّ المجالات، وتوسيع المعارف، وتقدم الإنسانية نحو السمو والتألق.
سيكولوجية التفكير والوظائف السلوكية
سيكولوجية التفكير تعتبر من العمليات العقلية الأساسية، وبنفس الوقت هي تشغل الحيّز الرئيس من مجمل حيثيات القدرات.
حيث بإمكاننا السيطرة على معظم المشكلات التي نقع في مطباتها من خلال التفكير، وكل شخصٍ عليه أن يُفكّر، الموظف يُفكر، المعلم يفكر ويطلب من تلامذته التفكير، والوالد يطلب من أبنائه التفكير، فمن خلال التفكير نرتقي سلوكاً، وبمستوى سلوكنا وأدائنا العقلي في مختلف مجالات الحياة.
التفكير هو عملية معرفية، كما هو خاصيّة راقية، حيث أن الإنسان وحده الذي يتميّز بها من بين المخلوقات الأخرى.
التفكير هو عملية إدراك داخل عقل الإنسان، ويعتمد على استخدام المعرفة المختزنة في الجسم الإدراكي لدى كل إنسان، وهو عمل ذو هدف، يبدأ بعقدةٍ ويتوصّل في النهاية لحلّها.
ديكارت قال: "أنا أفكّر إذن أنا موجود".
فكان التفكير من وجهة نظره دليل على وجود الإنسان.
السيطرة على مواقف اتخاذ القرار بعد تفكيك عناصره وتحليلها
اتخاذ القرار يحتاج إلى معلوماتٍ وبيانات، وبنفس الوقت تقييم البدائل بهدف الوصول إلى الأفضل قدر الإمكان، كما تربطه عدة معايير للوصول إلى البديل الأفضل.
للوصول إلى قراراتٍ رشيدةٍ وفاعلة، لا بُدّ من البداية تحديد المشكلة، وجمع المعلومات والبيانات الملائمة المتوفرة، وتحديد ما هو متوفّر من بدائل متاحة، وعند اختيار البديل الأفضل تنتهي عملية إتخاذ القرار المناسب.
ولكن قد تواجه عملية اتخاذ القرار عدة مشاكل، أو ما يُعيق اتخاذ القرار، مثل: الامكانيات المادية، الطاقة البشرية، والأمور التقنية، هذا فيما يختص بالنواحي الداخلية، ولكن قد تواجه متخذ القرار عوائق خارجية أيضاً مثل: هل يُؤثّر القرار على سياسة الدولة؟، أو على الرأي العام، أو على المنافسين، وكذلك المستهلكين، والنقطة الأخيرة الموزعين.
فعند اتخاذ أي قرار علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن القرار المُتخذ يُحقق الهدف المرسوم، وليس بالضرورة أن يؤدّي القرار إلى إرضاء كل الأطراف أو الجميع، وعلى الدوام هناك بدائل لاختيار الأفضل، وفي الختام أن عملية اتخاذ القرار هي عملية ذهنية وفكرية بحته، ولكن في النهاية تتحوّل إلى عملٍ مادي ملموس وهادف.
ولا بُدّ إلاّ أن ننوّه بأن مرحلة اتخاذ القرار تمر باستشارات ومشاركة الآخرين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن يكون مركز اتخاذ القرار محصور في يدِ شخصٍ واحد وغالباً هو المدير المسؤول.
تحويل العقل البشري إلى استجابات أوتوماتيكية
من المفروض أو بالمنطق أن العقل البشري لا يمكنه أن يتحوّل إلى مجرد مركز التقاط اشاراتٍ بهدفِ الاستجابة لها.
نعم حقّق الباحثون اكتشافات عديدة بهدف تحويل العقل البشري إلى آلةٍ أوتوماتيكية، والأصح أن نقول نعم، العقل البشري بإمكانه أن يكون متفاعلاً بينه وبين التقنيات، لأن العقل البشري في المقام الأول، وفوق مختلف أشكال الآلات، يكفي أن المشاعر والأحاسيس التي يملكها لا تملكها الآلات المُصنّعة.
كلنا نسمع أن الذكاء الاصطناعي سيحلّ محل البشر، وهذه العملية ما هي سوى روبوتات يُسيّرها العالم بتحكّم، وهدفها السيطرة على العقل البشري، الإنسان.
ولكن كل هذه الكلمات أو النظريات هي ضرب من الوهم والخيال، الذي من الصعوبة بمكان تنفيذه.
يكفي سبباً واحداً أن المنطق خارج نطاق هذه اللعبة، والمنطق شئنا أم أبينا تخضع له كل الدساتير والقوانين، والسلوك هو الذي يجب أن يسود في أي بحثٍ أو مشروع.
نعم بالإمكان اختراع روبوتات تتلقى الأوامر وتنفّذها، وبإمكانها خدمة الإنسان والمجتمع، من خلال تجهيزها لخدمة كبار السن مثلاً، أو تأمين نظام المرور بالشوارع، أو لخدمةِ الأطفال ومراقبتهم، حتّى في مجال ترتيب المستودعات في الشركات والمصانع، وسواها، وأي خطأ يقوم به الذكاء الاصطناعي يؤكّد الحاجة إلى التدخل البشري والمراجعة البشرية.
بالأساس الذكاء الاصطناعي هو من صنع البشر، وبالتالي فإنه يُجهز لخدمة الإنسان، والبشر هم وحدهم الذين يُزوّدون الروبوت بالمعلومات ليقوم بعد ذلك بتنفيذها.
ولكن أيّاً كانت الأمور فإنّ الذكاء الاصطناعي قد يُؤمّن فرصاً مثل كفاءة متطورة، لكنه بنفس الوقت هو روبوت وفي المقام الأول يُعاني من فقدان اللمسة الإنسانية والمنطق الإنساني والمشاعر الإنسانية.
***
د. أنور ساطع أصفري

في المساق الماضي حدَّثَنا (ذو القُروح) عن كتاب عنوانه «نَهْج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقة». أشار إلى أنَّه دراسةٌ أصلها أطروحة دكتوراه. وأنَّ المؤلِّف (صبري إبراهيم السيد) قد ذكرَ أنه توصَّل، في نتائجه لتمحيص ما يمكن أن تَثبت صحَّته للإمام (عَليٍّ)، إلى أنَّ النصوص التي اتَّفق جُلُّ علماء المسلمين، سُنةً وشيعةً، على صِحَّة نسبتها إليه من الخُطَب هي أقل من النِّصف، ولا تعدو: 44.5%، ومن الرسائل: 65.8%، ومن الحِكم: 26.9%، ومن الغريب: 44.4%. على أنَّ ثمَّة نصوصًا منسوبة إليه لم يَرْوِها أحد، ولم تَرِد في أيِّ كتاب. ثمَّ ذكرَ المؤلِّف النصوص المشكوك في صِحَّة نِسبتها، والنصوص التي ثبتت نِسبتها لآخَرين. ويَخلُص من ذلك إلى القول: «إنَّ نِسبة تدخُّل أقلام أخرى في النصوص الواردة بالكِتاب تعلو في الحِكَم، ويليها الغريب من الكلام، ثم الخُطَب، وتأتي الرسائل في نهاية الخطِّ البياني.» وحين سألتُه عن رأيه في الكِتاب، قال:
ـ مهما يكن رأيي في الكِتاب، فكُلٌّ يُؤخَذ من كلامه ويُرَد. وممَّا يُلحَظ على هذا العمل أنه كثيرًا ما يعتمد على تقميش المقولات من هنا وهناك، بلا تمحيص، أو تأصيل. ومن عاقبة هذا أن تجده، مثلًا، ينسب كلام الأوَّل السابق إلى المتأخِّر اللَّاحق، بل التَّابع المردِّد.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل كلام (الذَّهبي، ـ748هـ) في «ميزان الاعتدال»، على المباينة بين نَفَس كاتب «النَّهْج» ونَفَس (عَليٍّ) والجيل الذي جايله في صدر الإسلام، فقد نسبَه المؤلِّف إلى (ابن حجر العسقلاني، ـ852هـ)، في «لسان الميزان».(1) والحقيقة أن ابن حجر إنَّما نقلَ هذا نقلًا عن الذَّهبي؛ فالذَّهبي هو صاحب هذه اللفتة اللِّسانية البارعة، وهو أحقُّ بالتوثيق عنه. وقد سبق توقُّفنا عند هذا القول الذَّهبي للذَّهبي.
ـ وماذا أيضًا؟
ـ من هناته كذلك عدم التدقيق في ما يورد من معلومات. مثال ذلك أنَّه ذكرَ، في مسردٍ بأسماء الجامعين الأقدمين لخُطَب الإمام: (الجاحظ، ـ255هـ)، في ما سمَّاه كتابًا بعنوان «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب». والحقُّ أنَّ هذا ليس بكتاب، كما نفهم من هذا المصطلح، بل لا يعدو في مخطوطه سبع صحائف، إذا استظهرنا غاية الاستظهار! ثمَّ إنه ليس في الخُطَب، بل في العبارات الحِكْميَّة، وقد تقدَّم الكلام عليه. وإنْ كان قد يُعتذر عن تلك العيوب بما يلزم منه الاعتذار، على حدِّ قول (أبي الطَّيِّب):
وأَعْلَـمُ أَنِّـي إِذا مـا اعْتَـذَرْتُ:::إِلَيْـكَ أَرادَ اعْـتِـذارِي اعْتِذَارَا
وذلك أنَّ المؤلَّف قد سردَ في تمهيده كلَّ ما أثير حول «النَّهْج» من الشُّبهات، وما قيل في الرَّدِّ عليها، دون تمحيص، أو نقد، أو مناقشة، فاحتملَ عُهدة أغلاطها. إذ كان ينقل المعلومات على عواهنها خبط عشواء، وهذا مزلقٌ منهاجيٌّ أكبر ممَّا يظهر في التفصيلات من مزالق جزئيَّة. هذا إلى اضطرابات صياغيَّة، وأخطاء لُغويَّة، وإملائيَّة، مستغرَبة من مِثله.
ـ لكنَّ المهمَّ أنَّ تلك الدراسة قد كشفت كثيرًا مما ظلَّ يسعى بعض المتعصِّبين إلى تبرئة مؤلِّف «النَّهْج» منه.
ـ نعم. إلى درجة أنها كشفت أنَّ نصوصًا من أحاديث الرسول الكريم، وأقوال السيِّد المسيح، قد نُسِبت اعتباطًا إلى (عَليٍّ) في «نَهْج البلاغة». كما أنَّ مأثورات من أقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- ومن هذا أقوال لـ(عُمَر بن الخطاب)، و(عبد الله بن مسعود)، و(حُذيفة بن اليمان)- قد أضيفت بلا تحرُّج إلى أقوال الإمام. بل أضيف إليه ما ثبتَ بالبحث أنَّه لمتأخِّرين عنه، كبعض أقوال ابنه (الحَسَن بن عَلي)، والأئمة (الرِّضا)، و(الباقر)، و(الصَّادق)، و(عَليِّ بن الحُسين بن عَلي)، و(زَين العابدين بن عَليِّ بن الحُسين)، وغيرهم وغيرهم. كلُّ ذلك جمعه (الشَّريف الرَّضِي) وعزاه إلى (عَليِّ بن أبي طالب)، ولا عزاء لغيره! بل تجاوز ذلك إلى عَزْو بعض كلامٍ للخليفة العبَّاسي (المأمون) إلى ابن أبي طالب!
ـ أَبَتِ الدَّراهمُ إلَّا أن تُخرِج أعناقها؟
ـ أَبَت! حتى إنَّ المدافعين عن (الرَّضِي)، الذاهبين إلى محاولة إثبات مصادره، كانوا في الوقت نفسه لا يملكون إنكار أنَّ بعض ما ورد في «نَهْج البلاغة» كان يُنسَب إلى غير (عَليٍّ) قبل تأليف «النَّهْج»، ثمَّ إذا به قد صار، بقُدرة شريف، منسوبًا في «النَّهْج» إلى (عَليٍّ).(2)
ـ مثال ذلك؟
ـ على سبيل المثال، ما وردَ بشأن الخطبة الثامنة عشرة، «في ذَمِّ اختلاف العلماء في الفُتيا»- بما يَتبدَّى فيها من سفسطةٍ كلاميَّةٍ مدرسيَّة، يَبعُد عقلًا أن تكون من كلام (عَليٍّ)- ومنها هذا النص:
«تَرِد على أحدهم القضيَّة في حُكم من الأحكام، فيحكُم فيها برأيه، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعينها على غيره، فيحكُم فيها بخلاف قوله، ثمَّ يجتمع القُضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوِّب آراءهم جميعًا، وإلاههم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد! أ فأمرَهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعَصَوه؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا ناقصًا، فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا تامًّا، فقصَّر الرسول عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ»، وفيه (تِبْيان كُلِّ شيء)...».
ليظهر أن هذا النَّص من كلام (ابن أُذَينة العَبْدي البَصْري، توفي بعد169هـ)، وهو من رواة (جعفر الصَّادق، ـ148هـ)، له كتاب في «الفرائض».
ـ كيف عرفتَ ذلك؟
ـ وردَ في كتاب «دعائم الإسلام»، للفقيه الإسماعيلي القاضي (النعمان المغربي المِصْري، ـ363هـ)(3) قوله: «ورُوِّينا عن عَمْرو بن أُذَيْنَة، وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمَّد، (ص)، أنَّه قال: دخلتُ يومًا على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة، وهو قاضٍ، فقلتُ: أردتُ، أصلحك الله، أن أسألك عن مسائل. وكنتُ حديث السِّن. فقال: سَلْ، يا ابن أخي، عمَّا شِئت! قلتُ: أخبِرْني عنكم، معاشرَ القضاة، تَرِدُ عليكم القضيَّة في المال والفَرْج والدَّم، فتقضي أنت فيها برأيك، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعَينها على قاضي مَكَّة، فيقضي فيها بخلاف قَضِيَّتك، ثمَّ تَرِد على قاضي البَصْرة، وقاضي اليَمَن، وقاضي المدينة، فيقضون فيها بخلاف ذلك، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم فتُخبرونه باختلاف قضاياكم، فيصوِّب رَأْيَ كلِّ واحدٍ منكم، وإلاهكم واحدٌ ونبيُّكم واحدٌ ودِينكم واحدٌ! أ فأمرَكم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟! أم نهاكم عنه فعصيتموه؟! أم كنتم شركاء الله في حُكمه؛ فلكم أن تقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله دِينًا ناقصًا؛ فاستعان بكم في إتمامه؟! أم أنزل الله تامًّا؛ فقصَّر رسول الله، (ص)، عن أدائه؟! أم ماذا تقولون؟ فقال: من أين أنت يا فَتَى؟ قلتُ: من أهل البَصْرة. قال: من أيِّها؟ قلتُ: من عبد القَيس. قال: من أيِّهم؟ قلتُ: من بني أُذَيْنَة. قال: ما قرابتك من عبد الرحمن بن أُذَيْنَة؟ قلتُ: هو جَدِّي. فرحَّب بي وقرَّبني...».
وهكذا صاغ (الشَّريف الرَّضِي) هذه الحكاية- التي دار حِوارها بين (ابن أبي أُذَيْنة) و(عبدالرحمن بن أبي ليلى)- ليشكِّل منها خُطبةً، أو كلامًا، ينسبه إلى (عليٍّ) في «نَهْج البلاغة»!
ـ عجيب ما أسمع! وهذا، إذن، ما كان يدفع دائمًا كلَّ ناقدٍ للتُّراث العَرَبي النثري إلى الشكِّ والارتياب في ذلك الخليط الذي قمَّشه (الرَّضِيُّ) ونسبَه، بقضِّه وقضيضه، إلى (أبي الحَسَن، رضي الله عنه).
ـ نعم. لقد كان يفعل ذلك تكثُّرًا ومفاخرةً، إمَّا عن لَبسٍ أو تلبيس. لكنَّ هذا لم يَبْدُ كافيًا عند بعض لاحقيه، من المتحمِّسين أكثر منه، فنهضوا إلى الاستدراك عليه؛ إذ لم يشف غليلهم حجم كتاب «النَّهْج». وقد بلغ المستدرِكون خمسة، لعلَّ آخِرهم (محمَّد باقر المحمودي)، الذي ألَّف كتابًا سمَّاه «نَهْج السعادة في مستدرك نَهْج البلاغة»، وهو موسوعةٌ ضخمة، تقع في مجلَّداتٍ ثمانية!(4)
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر: السيد، صبري إبراهيم، (1986)، نَهج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقةٌ تحوي ما ثبتت نسبته للإمام عَليٍّ (رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه) من خُطَب ورسائل وحِكَم، (الدوحة: دار الثقافة)، 24.
(2) يُنظَر: الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 363- 366.
(3) (1963)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، (القاهرة: دار المعارف)، 92- 93.
(4) يُنظَر: الخطيب، 1: 267- 271.

 

لا شك في أن الاستياء هو المزاج السائد في عصرنا. يشعر الأفراد بإحساس من العداء تجاه الآخرين وتجاه العالم بشكل عام – حقد، كراهية، عداء، بغض، عداوة، حسد، خبث، مرارة، سوء نية، ضغينة، وانتقام – كرد فعل على إهانات أو إساءات أو إحباطات يعتقدون أنهم تعرضوا لها.
يعتقدون ذلك، لكنه ليس بالضرورة صحيحًا، أو ربما لم يحدث بالطريقة التي يتصورونها ويعرضونها على الآخرين. غالبًا ما يحدث أن يحمل الناس في داخلهم نفورًا مكتومًا. إنه شعور يتم تغذيته لفترة طويلة، ثم ينفجر فجأة، بشكل غير متوقع حتى لأصحابه أنفسهم.
في كثير من الحالات، ينشأ الحقد من الشعور بالخجل. فالحقد والخجل مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ومع مرور الوقت، وفقًا لما يقوله علماء النفس، فإن استبطان شعور الخجل، وما ينتج عنه من نظرة انتقاص للذات وتمزق نرجسي، قد يؤدي إلى تطوير أشكال خفية من الكراهية تجاه أولئك الذين يُعتبرون – سواء كان ذلك بحق أو بغير حق، لا يهم – مسؤولين عن الإحباط أو الإهانة التي تعرض لها الفرد.
الاستياء والحقد مترادفان. كلمة "حقد" تأتي من اللاتينية rancor وتعني: "تذمر، رغبة، مطالبة"، كما يذكر المحلل النفسي الأرجنتيني لويس كانسيبر، الذي تناول هذا الموضوع من منظور سريري وثقافي. للحقد نفس جذر كلمة rancidus، التي تعني "حقود"، وأيضًا "فاسد" و"متعفن".
عند التعرض لظلم، يكون أول ما نشعر به هو الألم والمعاناة التي تنجم عنه. الاستجابة الفورية غالبًا ما تكون الخوف، مصحوبًا بالقلق، وأحيانًا بحالة اكتئابية، وإذا كان الظلم يمس الجانب الأخلاقي وينطوي على إهانة أو وقاحة، تظهر مشاعر الغضب أو السخط. هاتان العاطفتان، من خلال عملية عقلية لاحقة – هي الاجترار الذهني المستمر – تتحولان إلى حقد واستياء.
الاجترار، أو التفكير المتكرر، هو نشاط ذهني قهري ومتكرر يغذي به الأفراد أحقادهم. أصل الكلمة يعود إلى اللاتينية muginari، كما يذكرنا علماء النفس، وتعني التأرجح أو التمايل، وهو حركة ذهنية مستمرة تتمثل في التفكير وإعادة التفكير في نفس الحدث.
أما الاستياء، الذي يعني حرفيًا "الشعور مجددًا"، فهو العودة المستمرة إلى الحالة العاطفية ذاتها، مع العجز عن التخلص من الإهانة أو الظلم بشكل نهائي. يرى المحللون النفسيون أن الجذر العميق للاستياء يكمن، قبل كل شيء، في الحسد.
"لماذا هو نعم، وأنا لا؟" هذا هو السؤال الرئيسي، وربما الوحيد، الذي يطرحه الحاسدون على أنفسهم. يرى الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك أن الحسد ليس مجرد رغبة في امتلاك ما لدى الآخر—ثروة، حب، سلطة—بل هو شعور سلبي بامتياز يتمثل بالرغبة في منع الآخر من التمتع بما يمتلك.
يستشهد جيجيك بقصة رمزية في العديد من كتبه: تقول ساحرة لفلاح: "سأحقق لك ما تتمنى، لكن اعلم أني سأحقق لجارك ضعف ما أمنحه لك." فيبتسم الفلاح بمكر ويقول: "اسلبي مني عينًا واحدة!"
استنادًا إلى نظرية المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، يؤكد جيجيك أن نقيض حب الذات الأناني ليس الإيثار أو الاهتمام بالصالح العام، بل الحسد أو الاستياء، وهما شعوران توأمان يدفعان الشخص إلى العمل ضد مصلحته.
يذكر القديس أوغسطينوس في اعترافاته الشهيرة مشهدًا عن طفل يحسد أخاه الرضيع الذي يرضع من ثدي أمه: "لم يكن الطفل يتحدث بعد، لكنه كان ينظر إلى شقيقه بعينين غاضبتين، مليئتين بالكراهية."
وفقًا للاكان، لا يحسد الطفل أخاه لأنه يمتلك الثدي، بل لأنه يستمتع به. الحسد هنا ليس رغبة في امتلاك الشيء، بل رغبة في حرمان الآخر من لذته. إن مجرد الحصول على الثدي لا يكفي؛ يجب تدمير قدرة الآخر على الاستمتاع به.
يضع جيجيك الحسد ضمن ثلاثية مشاعر مدمرة: الحسد، البخل، والكآبة. جميعها تتمحور حول العجز عن الاستمتاع بما يملكه الفرد، مع شعور غريب باللذة من هذه المعاناة الذاتية.
يُعد الحسد اليوم "خطيئة اجتماعية" أشد من الغيرة، والتي تُعتبر خطيئة طفيفة مصاحبة أحيانًا للحالة العاطفية. يميز المحلل النفسي ليزلي فابر بين الشعورين:
- الحسد شعور ثنائي: بين "أنا" و"أنت".
- الغيرة شعور ثلاثي: بين "أنا"، و"هو"، و"هي".
يرى فابر أن الغيرة أكثر تدميرًا للعلاقات الشخصية لأنها تستدعي بشكل مهووس عناصر جديدة إلى المشهد، مما يقود إلى انهيار حتمي، كما تصوّر العديد من الروايات والأفلام.
ومع ذلك، يظل الحسد، الذي يولد الاستياء، أكثر خطورة من الغيرة؛ لأنه شعور متجذر في الرغبة السلبية، ليس فقط امتلاك ما لدى الآخر، بل تدمير متعته تمامًا.
وتتناول حنة أرندت في مقطع من كتابها "بعض مسائل الفلسفة الأخلاقية" الذي كتبته في الستينيات، موضوع الشر البشري، مشيرةً إلى الكتّاب الذين قدّموا لنا صورًا للأشرار العظام. ترى أرندت أن عظماء الأدب، مثل شكسبير وملفيل، لا يخبروننا بالكثير عن طبيعة الشر، ولكنهم يجعلوننا نفهم شيئًا جوهريًا، ففي أعماق أكثر شخصياتهم شرًا—"كياجو في عطيل وكلاغارت في بيلي باد—نجد دائمًا اليأس مرتبطًا بصاحبته التي لا تنفصل عنه: الحسد".
تشير الفيلسوفة الألمانية إلى أن سورين كيركيغارد سبق أن قال إن الشر الجذري ينبع من اليأس، لكن الحسد هو ما يستحق التأمل، فالأشرار الكبار غالبًا ما تحيط بهم هالة من النبل الزائف، ومع ذلك، فإن ياجو وكلاغارت يرتكبان الشر بدافع الحسد تجاه من هم أفضل منهم، وهنا يتبدد ذلك النبل المزعوم.
يرى آباء الكنيسة أن الحسد مرتبط بالافتراء والجشع، وينحدر من الغرور، الذي يُعد أول الخطايا السبع المميتة. أصل الكلمة اللاتينية للحسد in-videre يعني "النظر بسوء"، أي النظرة الحاسدة أو "العين الشريرة". فالحاسد هو من لا يرى جيدًا، لأن رؤيته مشوهة بالكراهية.
يروي أحد علماء النفس حادثة من برنامج إذاعي، حيث وصف مستمع معنى الحقد والضغينة قائلًا:
"إنه مثل أن تتجرع السم وتنتظر أن يموت الآخر."
تعريف بليغ ومؤثر يصوّر بوضوح كيف يحوّل الحسد والحقد الألم إلى نار تحرق صاحبها قبل غيره.
منذ زمن بعيد، وقبل أن يتحدث جاك لاكان عن الحسد، أدرك آباء الكنيسة أن الحسد يقلب المعايير، حيث يصبح الخير الذي يتمتع به الآخر مصدرًا للألم للحاسد. كتب القديس توما الأكويني أن الحاسد يرى في خير الآخرين شرًا لنفسه، وقبل اللاهوتيين المسيحيين، أشار أرسطو إلى أن الحسد لا يُثار تجاه البعيدين، بل تجاه القريبين، فهو شعور يتفشى بين أفراد الأسرة، وبين الأصدقاء، وفي المجتمعات الصغيرة.
يرى المحللون النفسيون من المدرسة الفرويدية، بمن فيهم فرويد الذي جسّد الحسد من خلال شخصية أوديب وتحدث عن "حسد المتعة" لدى النساء، أن الحسد لا ينشأ من خيرٍ مطلق يمتلكه الآخر، بل من ذلك الخير الذي يظن الحاسد أنه ينتقص من تميزه أو يهدد تفوقه الشخصي.
تكتب حنة أرندت عن اليأس، فتقول إن الشعور بالضياع يدفع إلى الشر، ويصبح الحسد مخرجًا يوهم صاحبه بإعادة ترميم "الأنا" المجروحة من خلال العدوانية تجاه الآخر. ترى أرندت أن الشر ينمو في بيئة من التفاهة، مما يدحض التصور الكلاسيكي الذي ربط الشر بالعظمة الشيطانية، وتستدل على ذلك بشخصية أدولف أيخمان، الذي وصفته بـ"عبقرية الشر التافهة"، مؤكدة أن الشر لا يحتاج إلى شخصية استثنائية أو ملامح شيطانية، بل يمكن أن ينبع من أفعال بسيطة ولكنها مدمرة.
تنسجم فكرة أرندت عن "تفاهة الشر" مع مفهوم "المنطقة الرمادية" الذي طرحه بريمو ليفي، حيث يصبح الشر نتيجة للأفعال الصغيرة التي تبدو تافهة لكنها تحمل عواقب وخيمة. إن الشر، في جوهره، ليس عظمةً مدمرةً بقدر ما هو نتاج تراكم التفاصيل اليومية الصغيرة التي تتحول إلى كارثة كبرى.
وحلّل العلماء النفسيون الذين تناولوا مشاعر مثل الحقد، والحسد، والخزي – ومن بينهم ميلاني كلاين، مؤلفة كتاب الحسد والامتنان – هذه الانفعالات السلبية خلال القرن الماضي، ورسموا صورة أشد قتامة مما وصفه آباء الكنيسة. تربط كلاين شعور الحسد بدافع الموت، تلك القوة التدميرية الفطرية، وترى أن الحسد ينشأ في العلاقة الأولى بين الرضيع وأمه، حيث يختبر الطفل شعورًا مزدوجًا من الإشباع والحسد عند اتصاله بثدي الأم، مصدر الغذاء والمتعة.
يشير بعض المحللين النفسيين من المدرسة الفرويدية إلى أن الحاسد يعجز عن الرؤية، مما يفقده القدرة على الحب، تمامًا كما يحدث للخاطئين في جحيم دانتي، الذين خُيطت جفونهم بأسلاك حديدية. أما الكاتب الإنجليزي جون بيرجر، فيرى أن قوة الإعلان التجاري، المحرك الأساسي للاستهلاك والقوة الاقتصادية الطاغية في العالم الحديث، تكمن في إثارة شعور الحسد، أي الرغبة في أن يحسدنا الآخرون. بل أكثر من ذلك، يصبح الناس أنفسهم حسودين تجاه ذواتهم، تجاه ما يمكن أن يصبحوا عليه إذا امتلكوا منتجًا معينًا، في عملية تشييء للذات، فالإعلانات لا تتحدث عن الأشياء، بل عن العلاقات الاجتماعية؛ لا تعرض المتعة، بل تقدم السعادة مقاسة بمعايير الآخرين: "السعادة المتمثلة في أن تكون موضع حسد، هي جوهر البريق".
يرى علماء الاجتماع أن السباق الاستهلاكي، والتباهي بالثروة، والسعي لزيادة القدرة الشرائية – في زمن السلع و"الفرط السلعيّة " (Hypercommodities) – يقود إلى حالة من عدم الرضا، وإلى أشكال قهرية من الانغلاق على الذات، تنتج عنها أمراض اجتماعية مثل الضغينة والحقد. حتى الشعور بالخزي بسبب عدم تحقيق النجاح أو عدم نيل الشهرة التي يروّج لها "مجتمع الاستعراض" – ما أسماه آندي وارهول بـ"خمسة عشر دقيقة من الشهرة" – يولّد موجات من الحقد تتفشى في النسيج الاجتماعي.
غالبًا ما يجد هذا الحقد الاجتماعي متنفسًا في البحث عن أكباش فداء، حيث تُصب مشاعر الغضب والمرارة على الفئات المهمشة، وهكذا تنبعث غرائز بدائية حاولت الحضارة طويلاً كبحها وتوجيهها عبر أدواتها الاجتماعية، لكنها تعود إلى الواجهة مدفوعة بآلة الاستهلاك والاستعراض.
كما يبدو أن الضغينة هي ثمرة المنافسة المستمرة لإثبات الذات، والتي تُعد واحدة من أبرز سمات المجتمع المعاصر. مقارنةً بالماضي، يظهر الأفراد اليوم عجزًا متزايدًا عن تحمّل الجرعات العالية من الإحباط اللازمة لاستمرار النظام الاجتماعي. يرى فريدريك نيتشه، في كتابه أصل الأخلاق، أن الضغينة هي داء المشاعر في المجتمعات الحديثة، وخصوصًا في الديمقراطيات، التي قلبت مفاهيم الأخلاق الأرستقراطية النخبوية لعصر ما قبل المسيحية.
فالديمقراطية والاشتراكية، وهما أبناء شرعيون للمسيحية، يغذيان الضغينة ويجعلان الحقد محركًا أساسيًا للحداثة.
وربما ليس من قبيل المصادفة أن كلمة "risentimento" (الضغينة) دخلت المفردات الحديثة عبر كتيب صدر عام 1593 بعنوان حوار بين الفرنسي والساڤوي (Dialogue du Français et du Savoysien)، حيث يصف المؤلف استياء الأرستقراطية من صعود البرجوازيين – الأثرياء الجدد – إلى مصاف النبلاء، كما أوضح الباحث ستيفانو توميلييري. في النهاية، يرى توميلييري أن الضغينة هي الحالة الشعورية لمن قضى عمره يتوق إلى شيء لم يتحقق أبدًا، حتى بات يشعر أن ما كان يأمله لن يتحقق مطلقًا، ولهذا السبب، تصبح الضغينة سمًا يسري في روح العصر الحديث.
كما يتجلى الحقد في صورة "شيطان أسير "بداخلنا، لا يتوقف عن العمل، يجترّ مشاعرنا المسمومة دون انقطاع، ويتغذى على رغباتنا المكبوتة. هذا الشيطان يواصل مضغ الألم وإعادة تكراره بلا نهاية، وكأن زمن الهضم النهائي للألم لن يأتي أبدًا.
يرى المحلل النفسي كانسيبر، الذي أجرى دراسة معمقة عن الضغينة، أن هذه العاطفة مرتبطة بالبُعد الزمني، إذ يميز بين نوعين من الذاكرة:
- ذاكرة الألم : التي تمتد عبر زمن الاستسلام والقبول بالأمر الواقع.
- ذاكرة الضغينة والحقد: التي تختبئ وتتغذى على أمل الانتقام في المستقبل.
لهذا السبب، يربط المحلل النفسي الضغينة بدوافع الموت، واصفًا إياها بأنها "هوس انتقامي متكرر لا يشبع". إنها ترتكز على مبدأ "العذاب المستمر"، حيث يتحول الغضب إلى المهرب الوحيد من الألم الداخلي.
في كتابه الهدنة، يوضح الكاتب بريمو ليفي كيف يمكن أن تتحول مشاعر الخزي إلى أداة مدمرة في كل من "ذاكرة الألم" و"ذاكرة الضغينة". حيث تتحول الإهانة – سواء كانت واقعية أم متصورة – إلى مصدر دائم للألم: "إنها تحطم الجسد والروح، وتطفئ الحياة في الغرقى وتجعلهم بائسين؛ ترتد كعار على الظالمين؛ وتبقى في الناجين ككراهية مستمرة، تتجلى في ألف صورة: عطش للانتقام، انهيار أخلاقي، إنكار، إنهاك، واستسلام."
يتساءل ليفي: أليس هذا بالضبط ما يحدث في العديد من النزاعات حول العالم، بين الشعوب وبين الأديان المختلفة؟ لا أحد في مأمن من لعنة الضغينة. يحذّرنا ليفي من أن الضغينة والحقد لا ينبعان دائمًا من أسباب واهية أو غير مبررة. لكن حتى عندما يكون هناك سبب وجيه، تبقى النتيجة واحدة: انهيار أخلاقي، سعي للانتقام، إرهاق نفسي، واستسلام للحزن.
يرى ليفي، أن الضغينة تذكّرنا بحقيقة مؤلمة: "لا توجد عدالة بشرية قادرة على محو الإهانة."
إنها شهادة تنذرنا بأن الضغينة ليست مجرد شعور عابر، بل هي داء يعصف بالروح ويعيد إنتاج الألم في دورات لا تنتهي.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بقلم: جوادالوبي نيتل
ترجمة من الإسبانية: روزاليند هارفي
ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم1155 guadalupenetel
في محاضرة "أدب الخيال الدولي" لهذا العام من مهرجان لانكاستر الأدبي في "عطلة نهاية الأسبوع الخريفية"، تناقش الكاتبة الحائزة على جوائز جوادالوبي نيتل كيفية تحويل الكتاب ألم التجربة الإنسانية - سواء كان جسديًا، عاطفيًا أم نفسيًا - إلى لحظات من الإبداع الأدبي.
كم هي جميلة وغامضة صورة الكيميائيين الذين صورتهما مارجريت يورسينار وأومبرتو إيكو كأفراد مكرسين لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. تحويل ما هو قبيح وثقيل، بل وحتى سام، يستخدم لصنع البنادق والأغلال، إلى المعدن الذي يقدره البشر أكثر من غيره، الأكثر إشراقًا، الذي يمثل بأفضل صورة تألق الشمس. بالنظر إلى كل شيء، لم يكن هذا المشروع بعيدًا عن الخيال. هناك العديد من الأمثلة في الطبيعة على التحولات مثل تلك التي سعى إليها الكيميائيون. الفطر، على سبيل المثال، يحول المواد المتعفنة إلى غذاء ويطهر سمية الأرض؛ الأشجار - والنباتات عمومًا - تحول ثاني أكسيد الكربون الناتج عن السيارات إلى أكسجين؛ والمحار ينقي المياه من الشوائب، وهذه بعض الأمثلة فقط. الأدب، وأود أن أقول، الفن عمومًا، يحول الآلام التي لا حصر لها التي تنطوي عليها التجربة البشرية إلى جمال: الجمال الذي يوجد في تمثال لورنزو بارتوليني "الذي لا يُعزى"، في نشيد الأنشاد، في "دون كيشوت" لثربانتس، في أبيات "موسم في الجحيم". لكن ما هي بالضبط هذه المادة التي نحاول تحويلها؟ ما هو هذا الشيء الذي نشير إليه بكلمة "الألم"، رغم أنه يأخذ أشكالًا عديدة؟ لماذا يستحق التفكير فيه؟
لنبدأ بالألم الجسدي. من الصعب جدًا تمثيل هذا. عمومًا، نفتقر إلى الكلمات للتحدث عن هذه التجربة: نميل إلى التحدث عن ألم بسيط أو حاد، ألم مكتوم، ألم ينبض أو يصرخ، ألم يعطل أو يترقب. نتحدث عن وخزة، عن احتراق، عن تهيج في الجلد. بالكاد نعرف كيف نحدد المكان الذي يبدأ منه: الذراع، الرأس، البطن؟ الحقيقة هي أن الكتاب يفتقرون إلى المفردات، كما يفتقر المرضى حين يحاولون شرح شعورهم لطبيبهم، لذا في الشعر كما في الروايات، هناك قلة من الأوصاف المفصلة لهذه الظاهرة. جوان ديديون، التي كانت تعاني من الصداع النصفي منذ طفولتها، تسجل الأعراض المرئية وغير المرئية لعذابها في مقال قوي بعنوان "في السرير". تقول: "الصداع الفعلي، عندما يأتي، يجلب معه القشعريرة، والتعرق، والغثيان، والإعياء الذي يبدو أنه يطيل حدود التحمل". الكاتبة المكسيكية ماريا لويزا بوجا، أيضًا، في "يوميات الألم"، تبذل جهدًا غير شائع للتعبير عن الالتهاب المستمر في مفاصلها بسبب التهاب المفاصل الروماتويدي. بالنسبة لبوجا، يعتبر ألمها رفيقًا له شخصية محددة وظهور خاص: "إنه دهني، نحيف، مظلم، ودائمًا في حالة تأهب." تكتب الكاتبة الإسبانية مارتا سانز في روايتها الذاتية "ترقوة": "أصف للطبيب العاشر المكان الدقيق حيث يوجد ألمي. مساحة لا تفسير لها بين عظم صدري وبلعومي. يقول الطبيب: 'هذا مستحيل.' بإصرار، أشير إلى تجويف صغير. أرسم دوائر حوله بإصبعي. إنها مساحة فارغة في الأشياء، المنطقة الوحيدة في الكتلة الجسدية التي لا يوجد فيها شيء على الإطلاق. يعبر الطبيب الخط: 'إذا كنت سأغرز إبرة في هذا المكان بالضبط، فسيخرج منها نظيفة من الجهة الأخرى.'" هناك العديد من الآلام التي تعاني منها سانز: الصحة العامة ومشكلاتها، الرأسمالية، تجاهل الأطباء، العمل، الشعور بالذنب، الخوف من الشيخوخة والعجز؛ والكتابة، التي في بعض الأحيان توفر الرفقة وفي أحيان أخرى ترفض ذلك. كل هذه الأمور تتركز في نقطة غير دقيقة على ترقوتها النحيلة.
إن ديديون، وبوجا، وسانز يوضحن شيئًا واحدًا: هناك قلة من التجارب المعزولة مثل الألم، لأنه بغض النظر عن الجهد الذي نبذله، من المستحيل عمليًا على مخاطبنا أن يفهم أو يتخيل ما نمر به. والأكثر من ذلك، من الصعب أن نجد شخصًا، سواء كان قارئًا أو قريبًا أو صديقًا، لديه الاستعداد لتخيل أحاسيسنا. يتطلب الأمر انفتاحًا كبيرًا وتعاطفًا عميقًا لكي يقبل الآخر ألمنا عن طيب خاطر. لدينا بالفعل ما يكفينا من ألمنا الخاص. لهذا السبب، في معظم الأحيان، لا نكلف أنفسنا عناء تخيله—آليات دفاعنا النفسية تمنعنا من القيام بذلك.
وعلى النقيض من ذلك، هناك نوع آخر من المعاناة أقل صعوبة في التعامل معه: ذلك النوع الذي نميل إلى تسميته بالألم العاطفي، أو الألم الأخلاقي، أو الألم النفسي. ولم يتناول هذا النوع من المعاناة عدداً لا يحصى من المرات من قِبَل أولئك الذين يكرسون أنفسهم للأدب فحسب، بل إنه أيضاً أحد القوى الدافعة العظيمة للفن، وأحد مكوناته الأساسية أو المواد الخام التي يتألف منها.
منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما كنت في بداية مسيرتي الكتابية ولم يكن لدي فكرة واضحة عن موضوعاتي، قرأت، بناءً على توصية من صديق، القبر المضطرب لسيريل كونولي. هناك صادفت اقتباسًا باللغة البالية، يترجمه المؤلف على النحو التالي: "الحزن في كل مكان / في الإنسان لا كائن دائم / في الأشياء لا حقيقة دائمة". ينسب كونولي العبارة إلى بوذا ويضيف: "ترنيمة لا تزال تتردد بحزن في عشرة آلاف دير." لقد أثارني الاقتباس لدرجة أنني قررت أن أبحث في هذه الفلسفة بشكل أعمق، ومن هنا اكتشفت أنها تركز على لا شيء أقل من القضاء على المعاناة. عندما وصل بوذا إلى مرحلة التنوير وقرر تعليم الآخرين كيف يحققون ذلك، جمع مجموعة من الناس في مدينة سارناث. هناك وضع أسس تعاليمه، التي تُعرف بالحقائق النبيلة الأربع.
إن أول هذه الأنواع من المعاناة هو أن "المعاناة موجودة وتنتشر في كل مكان". إن المعاناة أو الألم الذي تتحدث عنه البوذية (الكلمة في اللغة السنسكريتية هي "دوخا") مقسم إلى فئات مختلفة. الفئة الأولى تتوافق مع الألم الجسدي والوجودي المتأصل في الحالة البشرية ـ الألم الذي لا يمكن نقله تقريباً والذي ذكرته في البداية. أما الفئة الثانية فتتوافق مع ردود أفعالنا تجاه التغيير أو الخسارة، سواء كانت خسارة للأشياء أو المواقف أو الأشخاص أو القدرات أو الإمكانيات التي نرتبط بها. أي المعاناة الناجمة عن الطبيعة العابرة للأشياء أو الروابط أو الخبرات. إنها الألم الذي عاشه المراهقان روميو وجولييت، وهي الحنين الذي شعر به أوديسيوس عندما تذكر إيثاكا، ولكنها أيضًا موضوع نجده في روايات حديثة مثل "جاتسبي العظيم" للكاتب إف. سكوت فيتزجيرالد أو "معارك في الصحراء"، الرواية الأكثر شهرة للكاتب المكسيكي خوسيه إميليو باتشيكو، حيث أحصى بدقة جميع الشوارع ودور السينما والسيارات والإعلانات والبرامج الإذاعية التي سكنت طفولته في مدينة مكسيكو سيتي خلال الخمسينيات. وبعد تذكر كل هذا، وخاصة بعد تذكر الحب الأول للراوي، أنهى باتشيكو هذه الرواية القصيرة المؤثرة بهذه الكلمات:
لقد كانت قصة قديمة جدا، بعيدة جدا، مستحيلة. ولكن ماريانا كانت موجودة، وجيم كان موجودا، وكل شيء كنت أكرره لنفسي بعد كل هذا الوقت من رفضي مواجهته كان موجودا. لن أعرف أبدا ما إذا كان الانتحار حقيقيا. لم أر روزاليس أو أي شخص آخر من تلك الحقبة مرة أخرى. لقد هدموا المدرسة، وهدموا مبنى ماريانا، وهدموا منزلي، وهدموا كولونيا روما. لقد انتهت تلك المدينة. وانتهى ذلك البلد. لم يعد هناك أي ذكرى للمكسيك في تلك السنوات. ولا أحد يهتم: من الذي قد يشعر بالحنين إلى ذلك الرعب؟
يشعر المرء، في التعليق الساخر الذي ينهي به الكتاب، بتلك المشاعر من الوحدة والعزلة التي تجتاح كبار السن عندما يسترجعون شبابهم، وهي مشاعر تناولها باشيكو أيضًا في عدة من قصائده. قلة من الكتاب الناطقين بالإسبانية وصفوا كما فعل هو الوعي بما يسميه البوذيون "عدم الدوام"، وهو ليس سوى "الزمن يهرب"، أي طبيعة الحياة العابرة والألم الناتج عن عدم القدرة على التكيف مع سرعتها.
النوع الثالث من "الدُهخا" الذي تشير إليه البوذية يصف نوعًا دقيقًا وعميقًا من المعاناة، وهو عدم الرضا الذي يأتي مع الوجود نفسه، والذي يمكن لمسه في الأسئلة المستمرة للبشر حول معنى الحياة، أو سؤال "أن نكون أو لا نكون" لهاملت، أو الحكم التي يجمعها إميل سيوران تحت العنوان المثير للاهتمام "مشكلة الولادة".
إحدى مقدمات البوذية الأخرى هي أنه، باستثناء الألم الجسدي، فإن جميع المعاناة تنشأ في العقل بسبب التعلق، والكره، والأفكار الخاطئة التي لدينا عن هويتنا. إن محاولة رفض المعاناة أو تجاهلها لا يؤدي إلا إلى جعلها أكثر قوة، ولكن الأمر نفسه ينطبق على عادة الإعجاب بها.
على الرغم من أن عمل الكاتب يستلهم إلى حد كبير من التجارب والملاحظة الدقيقة للعالم والبشر من حولنا، فإنه يستلهم أيضًا من الكتب التي كتبها الآخرون. هناك العديد من الكتاب الذين ساعدوني على مواجهة الألم مباشرة، وسيستغرق الأمر وقتًا طويلاً للغاية لذكرهم جميعًا هنا. أندريا باجاني هو واحد منهم. كتابه Se consideri le colpe (إذا كنت تحتفظ بسجل للذنوب) يروي الحزن العميق والوحدة التي يشعر بها طفل صغير تخلت عنه أمه، بينما يتحدث كتابه Mi riconosci (هل تعرفني؟) عن وفاة أفضل صديق له ومرشده، الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي. إحدى روايات باجاني الأخرى، التي كتبت على شكل حكاية وعنوانها Un bene al mondo (خير في هذا العالم)، تبدأ هكذا:
كان هناك ذات مرة صبي صغير كان لديه ألم لا يفارقه أبدًا. كان يحمله معه في كل مكان. كان يعبر الحقول في الصباحات ليذهب إلى المدرسة. وعندما كان في الفصل، كان الألم يلتف عند قدميه ولخمسة ساعات ظل هناك، عيناه مغمضتين، لا يتنفس. وعند فترة الاستراحة، كان يخرج مع الصبي وزملائه إلى ساحة اللعب، وعندما ينتهي يوم المدرسة، كان الصبي يعبر الحقل في طريق العودة إلى المنزل، والألم بجانبه. لم يكن يحتاج إلى رباط لأنه لم يكن ليهرب أبدًا، ولم يكن يحتاج إلى كمامة لأنه لم يكن ليؤذي أحدًا.
هناك كتّاب نقرأهم لأنهم يبدون محبوبين، وفكاهيين، ومثيرين للاهتمام، وهناك كتّاب نقرأهم كما لو أننا نتحدث مع ذلك الجزء الحكيم في أنفسنا الذي نادراً ما نلتقي به. في هذه الفئة الثانية أضع، على سبيل المثال، الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير. بدأت بقراءة كتابه حيوات أخرى غير حياتي دون أن أعرف ما هو موضوعه. كان والدي قد تم تشخيصه مؤخرًا بسرطان المثانة المتقدم، وكان القراءة إحدى الطرق التي ألهتني عن الحزن التنبؤي، الذي كان مؤلمًا تقريبًا وأشد إيلامًا من الحزن الحقيقي. بدا أن القصة واضحة: كان كارير في سريلانكا في وقت حدوث التسونامي، وهي الصور التي لا تُنسى والتي رأيناها جميعًا على التلفاز. لم يكن يتطلب الأمر الكثير من الجهد للانغماس في الحبكة. ومع ذلك، عاد بعد فترة قصيرة إلى فرنسا وتغيرت القصة تمامًا. لم يعد الموضوع هو التسونامي، بل عذاب أولئك الذين يقضون حياتهم برفقة شخص عزيز مصاب بالسرطان. أي أن الكتاب تحدث عن ما كنت أعيشه تمامًا، عن الشيء الذي كنت أحاول الهروب منه.
وعلى الرغم من ما قد يظنه البعض، فإن الانغماس في قصة صداقة جوليت و إتيان (المبنية على تجربة المرض، والمعاناة الجسدية، والموت الوشيك) لم يعمق حزني؛ بل ساعدني على فهم ما كان يحدث لي. وخصوصًا، ساعدني على تحويل تركيزي من معاناتي إلى معاناة والدي، وعلى ما يشعر به، وعلى قلقه، وعلى غضبه، وعلى القصة التي أدت به إلى هذه النقطة. في كتاب كارير، تم ذكر عدة كتّاب، واثنان منهم رسخا في ذهني: الكاتب السويسري فريتز زورن، الذي يتناول في كتابه الوحيد المريخ موضوع السرطان، وهو سرطان الكاتب نفسه، كذروة لتاريخ عائلي وشخصي، لكنه يراه أيضًا نتيجة لعدم القدرة على التعبير عن الغضب. والآخر هو المحلل النفسي بيير كازناف، الذي كانت مقالاته عن المرض كوسيلة للمعرفة الذاتية بمثابة النور الذي هديت به في محاولاتي لفهم ما كان يمر به والدي. يقتبس إيمانويل كارير مقطعًا من كتاب رحلة إلى نهاية الليل للكاتب لويس-فيرديناند سيلين في حيوات أخرى غير حياتي يلخص أطروحة روايته بشكل بليغ. المقطع هو: "ربما هذا هو ما نبحث عنه طوال حياتنا، لا شيء أكثر، أعظم حزن ممكن، لكي نصبح أنفسنا قبل أن نموت."
علمتني وفاة والدي، وفقدان أحبائي الآخرين الذين كنت قريبًا منهم، أنه في لحظات الألم الأكبر لدينا، يختفي الدرع العصبي الذي نميل إلى التحصن وراءه، أو على الأقل تتطور فيه شقوق، وهذا يعطينا الفرصة لإقامة اتصال حميم مع الآخرين، اتصال استثنائي. هذه الاكتشافات كانت سببًا في كتابة روايتي بعد الشتاء، التي يمر فيها أربعة شخصيات بلحظات من الفقد المدمر وفي نفس الوقت يكتشفون إمكانية اللقاء مع الآخر.
إذا كان المعلمون في البوذية يعلمون من خلال طريقة وجودهم في العالم (يتعلم المرء من مشاهدتهم، من خلال التواجد في صحبتهم)، فإن انتقال هذه المعرفة لدى الكتاب يتم عبر كتبهم. الشيء الذي ينقلونه هو إدراكهم الخاص للعالم. ماذا علمني كارير لرؤيته؟ الآخرين، أولاً وقبل كل شيء. أن أنظر إليهم كما يصفهم في كتبه: بتعاطف، وفضول، ورغبة في فهم حتى أكثر البشر اضطرابًا و قسوة.
أنا أتفق مع آموس عوز عندما يقول في المرأة في النافذة "أن تقرأ رواية يشبه أن تُدعى إلى غرف المعيشة الخاصة بالآخرين، إلى حضاناتهم، إلى مكاتبهم، وحتى إلى غرف نومهم. تُدعى إلى أحزانهم السرية، إلى أفراحهم العائلية، إلى أحلامهم." على الرغم من أننا قد ننتمي إلى ثقافات مختلفة أو لحظات زمنية مختلفة، إلا أن البشر ليسوا مختلفين إلى هذه الدرجة عن بعضهم البعض. الأدب هو رمز دقيق للغاية ينجح في فتح، ولو لوهلة، القلوب والعقول الأكثر انغلاقًا. لديه القدرة على ربطنا عبر الأيديولوجيات، من خلال مشاعرنا الأساسية مثل الخوف، والإهانة، والحنان، والمعاناة، والرحمة التي قد تنشأ منها. لديه القدرة على دفعنا إلى المجال الحميم للآخرين والمجتمعات الأخرى، حتى المجتمعات العدوة، كما يقترح عوز، ليجعلنا نشارك في قصتهم، وحياتهم اليومية، ومخاوفهم، ورغباتهم، ووجهات نظرهم، وتجاربهم، وخاصةً آلامهم.
يبدو لي أن إحدى الصفات الأكثر تميزًا في الرواية هي أنها تسمح لنا بالوصول إلى الذاتية كما لا يسمح أي فن آخر. لدى البشر علاقة حميمة جدًا مع الكلمات. نفكر بالكلمات، ونحلم بالكلمات. الكلمات، عندما يتم اختيارها بشكل جيد، يمكن أن تسمح لنا ببناء الصور، بالتعبير عن المشاعر، بتسمية الأشياء، ووصف تلك الأشياء التي لا يمكن تسميتها.
هناك أوقات لا تكون فيها الكتب مجرد نافذة كما قال عوز، بل هي بوابة حقيقية أو آلة زمن تنقلنا إلى عوالم أخرى، تأخذنا ليس فقط إلى المنازل بل إلى أجساد وعقول أشخاص آخرين، سواء كانوا حقيقيين أم خياليين؛ باختصار، تتيح لنا أن نعيش حياة الآخرين. على سبيل المثال، كنتُ جريجور سامسا؛ كنتُ برناردا ألبا الصارمة، وكنتُ واحدة من بناتها. كنتُ ابن بيدرو بارامو، كنتُ آني إرنوا، وشعرتُ بالخجل الذي شعرت به كفتاة قروية في عالم الجامعة الطبقي، شعرتُ برغبة هامبرت هامبرت في فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، شعرتُ برغبة كارمن ماريا ماتشادو في خريج هارفارد سيئ السلوك. كنتُ جان-كلود رومان، وعرفتُ أنه لم يكن لدي خيار سوى قتل عائلتي بأكملها قبل أن يكتشفوا سلوكي المشين. بفضل جايل في، شعرتُ بمعاناة الهوتو في اضطهاد التوتسي خلال الإبادة الجماعية في رواندا وبوروندي. إن الكتب تمنحنا فرصة العيش مرة أخرى، لأن ليس إعادة الحياة إلا العيش في جسد آخر، وفي ظروف ووقت آخر؟ في الكتب، تُسجل ذاكرة البشرية. مثل الشخصيات في رواية "نصيبنا من الليل" لماريانا إنريكيز، لا يزال البشر يحلمون بتجاوز الموت، ويحاولون البقاء في هذا العالم الزائل، ويطمحون إلى نقل وعيهم—وهو أحد أهداف الكيميائيين. ننسى أنه عندما تم اختراع الكتابة، اكتشفنا سر الخلود. هكذا ننقل وعينا إلى أجساد أخرى، وأيضًا هذه هي الطريقة الأكثر شيوعًا وبساطة للتواصل مع الموتى، وهي لا تتطلب منا أي تضحية. يكفي أن نخصص بضع ساعات من وقتنا واهتمامنا لهم، لنتلقى منهم التجربة والحكمة والنصيحة ممن عاشوا قبلنا. لا يهم إن كانوا قد عاشوا في القرن الماضي، أو في عصر النهضة، أو في مصر القديمة. الكتب تحفظ تاريخنا، وحكمتنا، وتعويذاتنا، وسحر أسلافنا. أليس هذا إنجازًا سحريًا أعظم وأكثر تأكيدًا من السحر الذي سعى إليه الكيميائيون؟
***
............................
1. جوان ديديون، "في السرير" في الألبوم الأبيض. مقالات (نيويورك، فارار، ستراوس وجيرو، 1979).
2. مارثا سانز، كلافيكولا ( برشلونة، إيديتيور أناغراما، 2017). ↩
3. سيريل كونولي، القبر المتمرد (لندن، فاينينغ برس، سلسلة كومباس بوكز، 1957، ص. 21).
4. خوسيه إميليو باتشيكو، معارك في الصحراء، مترجم من الإسبانية بواسطة كاتي سيلفر (نيويورك، نيو دايركشنز، 2021).
5. كارل يونج، علم النفس والكيمياء (الطبعة الثانية، لندن، روتليدج، 1980، ص. 99).
https://wordswithoutborders.org/read/article/2025-01/the-alchemy-of-literature-a-lecture-on-pain-nettel-harvey/

لمناسبة يوم المعلم

كان الزمن الذهبي للمعلم هو النظام الملكي.. ففيه كان يلقب بـ(الأفندي) لأنه ارتدى الزي الاوربي ولوضعه الاقتصادي المعتبر. والأهم.. لأنه كان يحظى بالاحترام والاعتبار الاجتماعي.. ويعدّ القدوة في الثقافة والاخلاق والسلوك.. وكان في ذاك الزمان ينظر اليه كما لو كان (رسولا) المقترن بتكريمه من قبل النبي محمد الذي قال (انما بعثت معلما).
عن ذلك الزمن اذكر لكم حادثة واقعية تعكس كيف كانت للمعلم هيبة واحترام في خمسينيات القرن الماضي. كنت تعلمت التدخين بعمر(12)سنة.. لأنني كنت ابن ديوان، وكان الجالسون كثيرا ما يكلفونني باشعال سجائرهم (عمو قاسم.. ورّث هاي الجكارة من الموكد.. موقد القهوة يقصدون). وفي احد الايام كنت واضعا السجارة بفمي وامشي متبخترا في احد شوارع قريتي (آلبوهلاله).. وهب.. واذا انا ومعلمي وجها بوجه. لم ارمها.. بل ضغطها براحة يدي واطبقت كفي على جمرتها.
هكذا كنا نحن تلاميذ ذاك الجيل وما قبلنا.. نحترم المعلم ونهابه ونخافه ايضا.. وبقي يحظى بالاعتبار الاجتماعي والكفاية الأقتصادي في زمن الجمهورية الأولى. وكان في سبعينيات القرن الماضي يعيش وضعا اقتصاديا جيدا ايضا. اذ كنّا يومها نجوب بلدان اوربا الشرقية في العطلة الصيفية بألف دولار ونعود محملين بالهدايا.. الى الثمانينات التي شكلت بداية تدهور مكانة المعلم.. وتحديدا.. يوم أجبر على الالتحاق بالجيش الشعبي، ثم تلته الضربة الأوجع في زمن الحصار (1991-2003).. ففيه كان راتب المعلمة لا يساوي ثمن حذاء لها.. وساء الحال الذي اضطر كثيرون الى فتح (بسطيات) في الشوارع، ووصل الأمر الى ان بعض الناس كانوا ينظرون للمعلم بعين العطف والشفقة.. والتصدّق عليه (خطية.. معلم!). وانمحت هيبة المعلم.. واضطر هو الى ان يهدر بقيتها بقبوله هدايا (رشاوى) من الطلبة.
في اواسط التسعينيات.. اجريت دراسة ميدانية عن التخلخل في المكانات الاجتماعية والاقتصادية تبين منها ان الأستاذ الجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في قمة هرم المكانة الاقتصادية في المجتمع، تراجع في زمن الحصار الى المرتبة الرابعة والعشرين، وتراجعت مكانة المعلم الى المرتبة ما قبل الأخيرة بنقطتين!. وحدث في التسعينيات ايضا ان اضطر الأستاذ الجامعي الى ان يعمل سائق اجرة بسيارته الخاصة، واضطر آخرون ان يبيعوا أعز ما يملكون.. مكتباتهم.
وتعد السلطة او الطبقة السياسة الحاكمة هي التي لها الدور الأكبر في الأساءة الى المعلم.. بدأها النظام الدكتاتوري في ثمانينات القرن الماضي بزج الأستاذ الجامعي في الجيش الشعبي.. وتبعه (النظام الديمقراطي) بالتمييز الطائفي لدرجة ان الحال وصل باحد الطلبة في كلية آداب بغداد وبالقسم الذي كنت أدّرس فيه، ان دخل القاعة الدراسية وسحب الأستاذ من سترته واخرجه.. واهانه امام طلبته. ومثل هذا.. وأشنع.. حدث كثيرا لمجرد ان الطالب يتمتع بسلطة الحزب الفلاني. ومع اننا في اكثر من مؤتمر طالبنا ان تكون المؤسسات التربوية بعيدة عن السياسة.. واتخذت فعلا بعض الاجراءات الا ان تأثير الأحزاب، الاسلامية بخاصة، ما زال موجودا، وما تزال الطائفية فاعلة على صعيد وزارة التعليم العالي تحديدا... فحين يتولى الوزارة (سنّي) تكون في حال وحين يكون الوزير (شيعيا) تكون في حال آخر..
وللتاريخ.. في نيسان 2012 وبدعوة من مكتبه، جرى لقاء شخصي مع وزير التعليم العالي السيد علي الأديب وعرض عليّ العودة الى بغداد مع تلميح نقله لي ملحق ثقافي كان حاضرا اللقاء بأسناد موقع اكاديمي كبير لي.. فشكرته واعتذرت. وفي نهاية اللقاء اسديت له نصيحة قلتها له بالنص: ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه.. واخشى أن يكون المحيطون بك من هذا النوع سيما وأن بينهم من هو حديث الخبرة (بينهم طلبتي!).. وعليه اقترح على جنابك تشكيل هيئة مستشارين بدرجة بروفيسور من الاختصاصات العلمية والانسانية على ان يكونوا مستقلين سياسيا. (موثق في كتابنا.. كتابات ساخرة ص 17).. ولم يأخذ بها.. وتردى حال التعليم الجامعي في زمنه وزمن من بعده بعد ان كان يتصدره على مستوى العالم العربي.
ثمة من لا يدرك ان دور المعلم يتعدى نشاطه في المدرسة، فبين المعلمين من هم مفكرون وأدباء بارزون وفنانون مبدعون، بل ان الكثير من القادة السياسيين الوطنيين كانوا في الأصل معلمين!.. وكان المعلمون يشكلّون النسبة الأكبر من السجناء السياسيين!.. ما يعني انهم بناة مجتمع.. وتلك حقيقة ادركها هتلر الذي استثنى المعلمين من زجهم في الحرب، ولما سئل لماذا؟ اجاب.. انهم هم الذين سيعيدون بناء المانيا بعد الحرب. وقبله كان الحكيم كونفوشيوس قد قسّم المجتمع الى ثلاث طبقات: الحكّام، الشعب، المعلمون.. واوصى بالعناية بالطبقة الثالثة لانه بصلاحها يصلح المجتمع.
ما المطلوب لأعادة دور المعلم وتفعيل رسالته في توعية المجتمع وبناء الوطن؟
الأول:ان تبتعد السياسة عن المؤسسات التربوية؟
الثاني: ان يتولى مسؤولية وزارتي التربية والتعليم العالي تربويون واكاديمييون اصحاب اختصاص.. وليت يتولى التعليم العالمي اكاديمي بروفيسور.. مسيحي!
الثالث: ان يصادق البرلمان على قانون يحمي المعلم ويرعاه.
الرابع: ان يعمل المعلم ذاته على اعادة الاعتبار لنفسه وان يكون بمستوى (كاد المعلم ان يكون رسولا).
هل ترتقي السياسة ويرتقي المعلم نفسه الى ادراك ان معظم التحولات الايجابية وقادة التغيير في العالم كانوا معلمين.. وان نعمل جميعا على تفعيل دور المعلم العراقي.. الذي يحتاجه الآن في زمن المحنة؟
في اليابان تقليد لطيف: في كل مناسبة تخرّج يجلس المعلمون ويضعون ارجلهم في طشوت ويقوم الطلبة بغسل اقدام معلميهم.
هل يعملها طالبنا؟. مستحيل!.. بس عالأقل من يشوف المعلم.. خل يخفي الجكاره!
***
ا. د. قاسم حسين صالح

في زاويةٍ خافتةِ الضوء من متحف الدنمارك الوطني، تقبع بدلةٌ تبدو للوهلة الأولى كقطعةٍ من أسطورةٍ منسية. جلدها المُحاك بعناية، وثقبها المركزي الغريب، وتفاصيلها التي تختزل حكاية إنسانٍ واجهَ البرد القارس والمحيطات المتجمدة قبل قرون. هذه ليست مجرد بدلة صيد، بل هي شاهدٌ صامتٌ على حوارٍ قديم بين البشرية والطبيعة، حوارٍ لم يتوقف رغم تغير الزمن، رغم تحول التحديات والأدوات. فالقدرة على التكيف، تلك المَلَكة التي نحسبها أحياناً اختراعاً حديثاً، هي في الحقيقة جذورٌ ضاربةٌ في أعماق تاريخنا.
حين كان الجليد يكتب حكايات البقاء
تصور نفسك لحظةً في جرينلاند قبل مئتي عام. رياحٌ تزمجر كالوحوش، مياهٌ تلامس حافة التجمد، وصيادون يزحفون عبر ثقبٍ ضيق في بدلةٍ جلدية لمواجهة الحيتان العملاقة. لم تكن تلك البدلة مجرد غطاءٍ للجسد، بل كانت حافظةً للحياة. كل غرزةٍ فيها كانت حكمةً متراكمة، وكل انحناءةٍ في تصميمها إجابةً على سؤالٍ وجودي: كيف نعيش هنا؟ لقد حوّل الإنسان جلود الفقمة إلى درعٍ ذكي، يحاكي طبيعة الجسد ويحاصر البرد بذكاء، وكأنه يقول للطبيعة: "سأجد طريقةً لأرقص مع قسوتك، لا ضدها".
التكيف.. لغةٌ لا تشيخ
اليوم، وقد صار الحديث عن التغير المناخي يملأ الصحف والشاشات، قد ننسى أن البشر لم ينتظروا عصرَ الأقمار الصناعية ليبدعوا حلولاً. الفلاحون في صحاري أفريقيا الذين صمموا أنظمةً لالتقاط الندى، سكان جبال الأنديز الذين بنوا "تراسات" تتناغم مع منحدرات الجبال، وصيادو جرينلاند ببدلاتهم الجلدية.. كلهم شاركوا في نفس السردية: التكيف ليس ترفاً، بل هو فن البقاء. الفرق اليوم أن التحديات امتدت، وصارت الأدوات أكثر تعقيداً، لكن الجوهر لم يتغير. الألواح الشمسية التي تلتهم أشعةَ الحر، المباني العائمة التي تتحدى ارتفاع منسوب البحار، حتى الزراعة العمودية في قلب المدن.. كلها استمرارٌ لذلك الحوار القديم بين الإنسان وبيئته.
البدلة الجلدية في عصر الذكاء الاصطناعي
قد يبدو من السخرية أن نقارن بين بدلةٍ جلديةٍ بسيطة وبين تقنياتٍ حديثةٍ تكافح الاحتباس الحراري، لكن كليهما ينتميان إلى روحٍ واحدة: روح من يرفض الاستسلام. هناك، في الماضي، كان الإبداع يُستخرج من مواردَ محدودة، ومن مراقبة دقيقةٍ لطبائع الحيوان والمناخ. هنا، في الحاضر، صار الإبداع يُستخرج من البيانات والخوارزميات. لكن في كلا الحالين، يبقى السؤال الأصلي هو ذاته: كيف ننسج من مواردنا، مهما قلّت، حياةً قادرةً على الاستمرار؟.
ما تخبرنا به تلك البدلة الآن
ليست البدلة المعروضة خلف زجاج المتحف مجرد ذكرى من زمن غابر، بل هي مرآةٌ نرى فيها أنفسنا. لو نظر إليها مهندسو اليوم بعينٍ متأملة، لوجدوا فيها درساً عن "البساطة الذكية". فالتكيف مع المناخ لا يعني بالضرورة تقنياتٍ فائقة التعقيد، بل يعني الاستماع إلى الأرض، وفهمَ لغتها الخفية. قد نصنع في المستقبل بدلاتٍ فضائية لمجابهة الحرائق أو الأعاصير، لكنها لن تختلف جوهرياً عن بدلة جرينلاند: ستكون غلافاً يحمينا، ووعوداً بأن البشرية، رغم كل أخطائها، ما زالت تملك ذلك السحر الخفي: القدرة على إعادة اختراع حياتها، غرزةً تلو الغرزة.
في قلبِ كلِّ قطعةٍ تراثيةٍ تُخبئُها المتاحف، ثمةَ حكايةٌ عن إصرارٍ بشريٍّ يرفضُ الاندثار. تلك البدلةُ الجلديةُ التي صمدتْ قروناً لتهمسَ لزائري المتحف اليوم، ليست مجردَ شاهدٍ على ماضٍ انقضى، بل هي جسرٌ خفيٌّ يربطُ بين عبقرية الأجدادِ وتحديات الأحفاد. فالتكيّفُ مع المناخ، قديماً وحديثاً، ليس مسألةَ أدواتٍ فحسب، بل هو رقصةٌ معقدةٌ بين الحاجةِ إلى البقاءِ والرغبةِ في الازدهار.
حين تُصبحُ الثقافةُ رداءً للبقاء
لم تكن بدلةُ صيدِ الحيتانِ اختراعاً منعزلاً، بل كانت جزءاً من نسيجٍ ثقافيٍّ كاملٍ. لغةُ الملابسِ، طقوسُ الصيدِ، حكاياتُ المغامرةِ التي تُروى حول النار.. كلُّ تفصيلٍ كان يُغذي روحَ الجماعةِ ويُذكّيها بالتضامن. فالبردُ القارسُ لم يكن عدوّاً فرديّاً، بل عدواً جماعيّاً، والتكيّفُ معه لم يكن عملاً تقنياً بحتاً، بل كان عملاً اجتماعياً. هذه الروحُ الجماعيةُ هي ما نفتقده أحياناً في عصرنا، حيث تُحاصرنا الحلولُ الفرديةُ، وتنحسرُ فكرةُ أن النجاةَ من الكوارثِ المناخيةِ تحتاجُ إلى ذاكرةٍ جماعيةٍ تحملُ حكمةَ "نحن" قبلَ "أنا".
التكيّفُ: بين الحكمةِ القديمةِ وعبقريةِ الهامش
في قرى غابات الأمازون المطيرة، تبنى المنازلُ على أعمدةٍ عاليةٍ لتفادي فيضانات الأنهار، وفي صحراء الربع الخالي، تُحفر القنواتُ تحت الرمالِ لالتقاطِ شذراتِ الماء. هذه الحلولُ لم تولدْ من مختبراتٍ علميةٍ، بل من حوارٍ يوميٍّ مع الأرض. إنها "علومٌ هامشيةٌ" قد لا تجدُ طريقها إلى الكتب الأكاديمية، لكنها علومٌ تدركُ أن التكيّفَ الحقيقيَّ يبدأ بفهمِ الإيقاعِ الخفيِّ للطبيعة: متى تهاجرُ الطيور؟ كيف تتشكلُ السحبُ فوق الجبل؟ ما هي النبتةُ التي تنجو من الجفاف؟ اليوم، بينما نحاولُ تبريدَ الكوكبِ بتقنياتٍ عملاقةٍ، قد نحتاجُ إلى تعلُّمِ التواضع: فـ "المعرفةُ المحليةُ" التي راكمها الإنسانُ في ظلِّ محدوديةِ الموارد، قد تكونُ مفتاحاً لاستدامةٍ أكثرَ عمقاً من كلِّ الأرقامِ والإحصائيات.
المناخُ يتغيرُ.. فماذا عن أحلامنا؟
في الماضي، كان التحديُ منحوتاً بوضوح: صائدُ الحيتانِ يُريدُ العودةَ إلى أسرتهِ حياً. أما اليوم، فأخطارُ التغيرِ المناخيِّ تبدو مُبهَمةً، كوحشٍ لا يُرى يزحفُ من وراء الأفق. هذا الغموضُ يُنتجُ شيئاً أكثرَ خطورةً من ذوبان الجليد: إنه يذيبُ الإحساسَ بالهدف. كيف نحاربُ عدواً لا نراه؟ كيف نُقنعُ جيلاً نشأَ في المدنِ الخرسانيةِ أن إنقاذَ غابةٍ بعيدةٍ هو جزءٌ من إنقاذِ ذاته؟ ربما هنا تكمنُ أهميةُ قصصٍ مثل بدلةِ جرينلاند؛ فهي تذكّرنا أن التكيّفَ ليس عملاً تقنياً جافاً، بل هو فعلٌ روحيٌّ يُعيدُ تشكيلَ علاقتنا بالعالم. فذلك الصيادُ الذي كان يزحفُ إلى قلبِ المحيطِ المتجمد، لم يكنْ يبحثُ عن الطعامِ فقط، بل كان يبحثُ عن معنى لوجوده في عالمٍ قاسٍ.
مستقبلُ التكيّف: هل ننجو أم نُبدع؟
الأرضُ التي نعيشُ عليها اليوم تشبهُ مركباً خشبياً وسطَ عاصفةٍ، والفرقُ بين الماضي والحاضرِ أن السفينةَ لم تعدْ ملكاً لطاقمٍ واحدٍ. التكيّفُ الحديثُ يحتاجُ إلى لغةٍ عالميةٍ تترجمُ حكمةَ البدويِّ في الصحراءِ إلى سياساتٍ لمدنٍ تغرقُ، وتُحوِّلُ تصميمَ البدلةِ الجلديةِ إلى إلهامٍ لمهندسي ناطحاتِ السحابِ المقاومةِ للأعاصير. لكن هل يكفي أن نبدعَ الحلولَ دون أن نبدعَ طريقةً جديدةً للتعايش؟ قد تكونُ الإجابةُ في أن التكيّفَ الأعمقَ يبدأ حين نتوقفُ عن النظرِ إلى الطبيعةِ كعدوٍّ أو كموردٍ، ونبدأ برؤيتها كشريكٍ في رحلةِ البقاء. فذاك الصيادُ القديمُ لم ينتصرْ على البحرِ، بل تعلمَ كيف يسبحُ مع تياراته، وكأنه يقولُ لنا من وراء القرون: "انتبهوا، فالفنُّ الحقيقيُّ ليس في الهروبِ من العاصفةِ، بل في بناءِ مراكبَ تستطيعُ الرقصِ مع أمواجِها".
***
د. عبد السلام فاروق

في الغرب التقيت بأستاذة جامعية متعلمة بشكل جيد وكانت ملحدة تعتقد انه لا حياة بعد الموت والتقيت ايضا برجل عجوز متوسط التعليم غير مهتم بالقراءة كان يعمل (چايچي - بائع شاي) في بغداد قبل ان يهاجر لاورپا وهو الاخر كان يعتقد ان الانسان آله تتوقف عن العمل بمجرد الموت. وبيني وبين نفسي لم اتوقف عن التسائل (اذا كانت الاستاذة تستمد نظريتها من الكتب وادمان النظرية التجريبية فمن اين يستمد (الچايچي) نظريته وما هو مصدر اعتقاده ويقينه؟
يسأل المذيع العالم البايولوجي الشهير واستاذ جامعة اوكسفود هل هناك حياة بعد الموت؟ ويجيب الاستاذ بيقين مطلق لايشوبه اي تردد بانه لا يوجد اي حياة بعد الموت ! بل ويستهجن المذيع قائلا كيف تصدق ان الدماغ البشري الذي سوف يتآكل ويتعفن وتنتهي وظائفه البايولوجية ممكن ان يعود للحياة مرة اخرى؟
خزعل الماجدي عالم بتاريخ الاديان والاثار وهو يعتقد ويصدق فقط بالحكايات التي تترك اثارا. بمعنى انه لولا الاعلام فان هتلر مجرد اسطورة لا وجود لها طالما انه لم يترك اثارا.
المثير في الموضوع ان هذا السؤال قد طرح قبل الف واربعمائة سنة وحتى قبل ذلك. اي ان مئات السنين وحقبة طويلة من عصر التنوير والفلسفة وثورة صناعية وثورة رقمية وثورة ذكاء صناعي والى الآن ومازال الانسان يطرح نفس السؤال. (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي انشأها اول مرة- يس) والسؤال الذي يطرح علامات استفهام كثيرة لماذا لا يستطيع العقل البشري استيعاب وجود حياة بعد الموت لكنه يستوعب ظهور الحياة فجأة على الكوكب؟
وربما ان مثالا بسيطا يمكن ان يوضح هذه الجدلية. لو قدر لنا ان نتكلم مع جنين في بطن امه والجنين انسان ولديه حياة خاصه به ومفردات حياته لا تختلف في أساسياتها كثيرا فهو يحصل على الطعام ايضا ويتحرك ايضا لكنه يعيش وسط ظلام قد تعود عليه. ولو قدر لنا ان نحكي له عن حياة اخرى بعد خروجه من الرحم فيها ما لذ وطاب من شراب مختلف الوانه ونساء بأشكال متنوعه ولحوم مشوية وغير مشوية ولبن اربيل وكباب عراقي وسمك مسكوف وآلات تطير بنا من مكان لآخر ومكائن اخرى تنتقل بنا بسرعه هائلة بمجرد الضغط على دواسة هل ياترى سوف يصدق بما نقول؟ هل سوف يتيقن ويؤمن وهو الذي لايعرف من مفردات حياته غير الظلام والتحرك البسيط والحصول على طعام من لون واحد؟
الفيلسوف ديكارت آمن بوجود خالق وحاول اثباته والفيلسوف پاسكال قال ان فرص وجود حياة بعد الموت تتفوق على فرص عدم وجودها والفيلسوف كانت قال ان العقل المحض والاستدلال المنطقي وحده غير كافي لإثبات وجود الله واضاف عناصر اخرى مثل الشعور والحدس والاخلاق انا الفيلسوف سورين كيركاگارت فقال ان الاعتقاد بالله (قفزة ايمانية) وفعل من افعال الثقة وولع يفوق الدليل العقلاني وخصص الكثير من كتاباته لاهميه الشعور الداخلي للفرد في الارتباط بالله اما سقراط الملقب ابو المنطق فقد كان مبتسما وهو يشرب السم بعد حكمه بالاعدام لان تلاميذه كما يقول يتصورون انه حياته ستنتهي بالموت وهو كان متيقنا بوجود حياة اخرى لدرجة انه لم يكن يبالي بالموت
الحقيقة ان الادمان على القوانين الطبيعية من حولنا يحول بيننا وبين القدرة على تصور وجود حياة اخرى غير ما تعودنا عليه لان الحياة الاخرى تخضع لقوانين تحتاج لدراسة خواصها من جديد (يوم تبدل الارض غير الارض والسموات -ابراهيم) فهل من المنطقي ان نطبق قوانين ومنطق هذا الكون على كون اخر تختلف فيه الخصائص جذريا؟.
لذلك سيقى التخبط لا نهايه له ولا فرق في ذلك بين بائع الشاي وبين استاذ الجامعة فالايمان بالله ليس مجرد استدلالات منطقية بل ان هناك بعدا اخر ولهذا فان اية (الذين يؤمنون بالغيب - البقرة) ستبقى مصداقا لما ذكر اعلاه ودليلا يريد فيه الله فيه ان يساوي بين من سنحت له الفرصة ليتعلم جيدا ويصبح فيلسوفا وبين الانسان البسيط وسيبقى ذلك قائما حتى نهاية الزمان.
***
د. علي حافظ حميش - جامعة واسط

 

قراءة نقدية في تداعي المقدس تحت وطأة السوق

في عصرٍ باتت فيه كل الأشكال الرمزية والثقافية خاضعة لمنطق السوق، لم يَعُد الدين بمنأى عن عمليات التسليع وإعادة الإنتاج الرأسمالي. فالمقدّس، الذي لطالما كان مجالًا يُعرّف نفسه بوصفه خارج الزمن والاقتصاد، وجد نفسه تدريجيًا ضمن آليات العولمة النيوليبرالية، حيث لم يَعُد التدين تجربة ذاتية أو بحثًا عن المعنى، بل صار شكلاً من أشكال الاستهلاك المُكيَّف وفقًا لقواعد السوق.
لم يكن هذا التحوّل مجرد نتيجة عرضية لتوسع الرأسمالية، بل هو جزء من عملية أوسع لتفكيك المقدس وإعادة تشكيله بما يخدم الأيديولوجيا الاقتصادية المسيطرة.
في هذا السياق، لم يَعُد التساؤل حول علاقة الدين بالسوق مجرد طرح أكاديمي، بل أصبح ضرورة ملحّة لفهم كيف تغيّرت أنماط التدين في العقود الأخيرة.
هل نحن أمام حالة “هشاشة” روحية جعلت الدين أكثر قابلية للتسليع، أم أننا أمام عملية متعمدة لإعادة هندسة المقدّس ضمن منطق السوق؟
كيف تحولت النخب الدينية إلى لاعبين اقتصاديين فاعلين، يشاركون في إعادة تشكيل الدين نفسه بوصفه منتجًا ثقافيًا خاضعًا لآليات التسويق؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى الأسس الفكرية التي تناولت العلاقة بين الدين والاقتصاد.
نجد أن ماركس، حين وصف الدين بأنه “أفيون الشعوب”، كان يُشير إلى دوره في تهدئة الجماهير وترسيخ الواقع الطبقي، لكنه لم يكن يتخيّل أن الدين قد يتحوّل يومًا إلى مشروع اقتصادي قائم بذاته، حيث لم يَعُد مجرد أداة هيمنة، بل أصبح جزءًا من بنية الإنتاج الرأسمالي ذاته.
في المقابل، يذهب جان بودريار إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن الرأسمالية لا تكتفي بإنتاج السلع، بل تعيد إنتاج الرموز والمعاني، بحيث يصبح الاستهلاك فعلًا أيديولوجيًا بامتياز.
وفقًا لهذا المنظور، فإن الدين في السياق الحديث لم يَعُد أداة قمعية فقط، بل صار منتجًا خاضعًا لإعادة التشكيل المستمر، حيث يتم تسويقه واستهلاكه تمامًا مثل أي سلعة أخرى.
هذا التحول في مفهوم الدين لم يَبْقَ مجرد فكرة فلسفية، بل انعكس بشكل واضح على بنية المؤسسات الدينية نفسها. فمن الكنائس الضخمة في الولايات المتحدة إلى المنظمات الإسلامية العابرة للحدود، ومن المؤسسات البوذية العالمية إلى الأشكال الجديدة من الروحانيات البديلة، باتت النخب الدينية جزءًا من شبكة اقتصادية معقدة.
لم يَعُد رجل الدين مجرد واعظ أو مفسر للنصوص المقدسة، بل تحوّل إلى فاعل اقتصادي، يستثمر في الدين تمامًا كما يستثمر رجل الأعمال في السوق.
ولم يَعُد الهدف من الخطاب الديني نشر التعاليم الروحية، بل استقطاب المزيد من “الزبائن”، حيث يتم تقييم النجاح وفقًا لحجم التبرعات وعدد المتابعين، لا وفقًا للأثر الروحي أو الأخلاقي.
الدين كاقتصاد
هذه الدينامية الاقتصادية للدين يمكن رؤيتها بوضوح في نماذج التمويل الإسلامي. فلم يكن الانتشار الكبير للبنوك الإسلامية مجرد استجابة لحاجة المسلمين إلى نظام مصرفي “أخلاقي”، بل هو جزء من عملية دمج تدريجي للنظام الاقتصادي الإسلامي في المنظومة المالية العالمية.
هذه المؤسسات، التي كانت تُسوّق نفسها في البداية كبديل عن البنوك التقليدية، سرعان ما تبنّت أساليب المنافسة نفسها، لتصبح جزءًا من النظام المالي الرأسمالي، حيث يتم تصميم المنتجات المالية الإسلامية وفقًا لآليات المضاربة والربح، وليس وفقًا لمبادئ اقتصادية بديلة.
لكن إذا كان الدين قد خضع لمنطق السوق، فإن السياحة الدينية تمثل أحد أبرز تجليات هذا التداخل بين المقدس والرأسمالي.
فالحج، الذي كان يُفترض أن يكون تجربة زهدية، أصبح جزءًا من سوق تجاري ضخم، حيث يتم بيع “باقات الحج” بأسعار متفاوتة، وفقًا لجودة الخدمات ومستوى القرب من الأماكن المقدسة.
لم يَعُد الحاج مجرد زائر للأماكن المقدسة، بل أصبح مستهلكًا في سوق منظم، تُدار فيه الطقوس بروح تجارية، حيث تُسعّر الخدمات وفقًا للطلب، ويُحدَّد مستوى “التجربة الروحية” وفقًا للقدرة الشرائية للحاج.
تصدير الروحانيات كسلعة
لكن الأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لم تقتصر على السياحة الدينية التقليدية، بل امتدت إلى الروحانيات البديلة، حيث أصبحت اليوغا، والتأمل، والتصوف، جزءًا من سوق عالمي مخصص للنخب الثرية.
وهنا نجد أن عملية التسليع لا تقتصر فقط على الدين التقليدي، بل تمتد إلى أشكال أخرى من الروحانيات، التي يتم إعادة إنتاجها بما يتناسب مع حاجات السوق.
إدوارد سعيد، في كتابه “الاستشراق”، أشار إلى كيف يتم تفكيك الثقافات غير الغربية وإعادة تصديرها بما يتناسب مع حاجات المستهلك الغربي.
هذا ما حدث مع التصوف الإسلامي، الذي كان في الأصل تيارًا نقديًا يحتج على السلطة والمال، لكنه أُعيد إنتاجه كمنتج سياحي فاخر، يُسوَّق كوسيلة للراحة النفسية، بعيدًا عن أبعاده الاجتماعية والسياسية.
هل يمكن مقاومة هذا التوجه؟
كل هذه التحولات تثير سؤالًا جوهريًا:
إذا كان الدين قد تحول إلى منتج استهلاكي، فهل هذا يعني أنه فقد تمامًا قدرته على المقاومة؟
هذا السؤال يظل معلقًا، لكنه يفرض علينا البحث في البدائل الممكنة، خصوصًا في ظل استمرار محاولات إعادة توظيف الدين كأداة للمقاومة ضد الرأسمالية.
في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، ظهرت حركة “لاهوت التحرير”، التي استخدمت الدين كأداة لمقاومة الاستغلال الرأسمالي، حيث تم توظيف النصوص الدينية للدعوة إلى العدالة الاجتماعية، بدلًا من استخدامها لتبرير الوضع القائم.
وفي العالم الإسلامي، ظهرت محاولات لإيجاد أنماط اقتصادية بديلة، مثل نماذج الاقتصاد الإسلامي غير الرأسمالي، لكن هذه المشاريع غالبًا ما انتهت إلى إعادة إنتاج الأنظمة المالية نفسها التي كانت تسعى إلى تجاوزها.
لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الدين لا يزال يمتلك القدرة على إنتاج مقاومات داخلية، رغم هيمنة الرأسمالية على فضاءاته الرمزية والمادية.
خاتمة
في ظل هذا التحليل، يصبح واضحًا أن العلاقة بين الدين والرأسمالية لم تَعُد علاقة خارجية، بل تحوّلت إلى علاقة عضوية، حيث لم يَعُد الدين فقط وسيلة للهيمنة، بل أصبح أيضًا أداة اقتصادية بحد ذاته.
لم يَعُد السؤال هو: هل سيبتلع السوق الدين؟
بل أصبح السؤال الأعمق هو: كيف يمكن للدين أن يعيد تعريف نفسه في ظل هذه الهيمنة الرأسمالية؟
التحدي اليوم لا يكمن فقط في مقاومة تسليع المقدس، بل في التفكير في كيفية إعادة إنتاج الروحانيات في سياقات لا تخضع بالضرورة لمنطق السوق.
إن فهم هذه الإشكالية يتطلب منا تجاوز النقد السطحي للاستهلاك الديني، والبحث في الأشكال الجديدة للتدين التي يمكن أن تتجاوز منطق الربح والخسارة، وتعيد للروحانيات مكانتها الأصلية، كمساحة للبحث عن المعنى، لا كسلعة تُباع في سوق الأديان العالمي.
***
إبراهيم برسي

تجربة الخروج من الجسد او ما تسمى بالاسقاط النجمي يشعر المرء عادة اثناء هذه التجربة ان وعيه قد غادر جسده وبامكانه النظر الى جسده من فوق وان روحه قد انفصلت عن جسده بصورة موقتة تحدث هذه الحالات عند الانتقال بين الحالات المختلفة من الوعي تحدث تجارب الخروج من الجسد عن طريق تحفيز مناطق معينة من الدماغ مثل المنطقة الامامية من الدماغ وفي دراسة حديثة اراد الباحث وعالم الاعصاب جوزيف سافيري من جامعة ستارتفورد من معرفة مناطق الدماغ والتي تشترك في اثارة تجارب الخروج من الجسد على امل ان توفر رؤى جديدة في البناء المعقد لحواسنا الذاتية عمل سافيري وفريقه مع تسعة مرضى مصابين بالصرع وتم ادخال اقطاب كهربائية في ادمغتهم كجزء من علاجهم من النوبات الشديدة وبموافقتهم قام الباحثون بتحفيز مناطق معينة من ادمغة المرضى بنبضات كهربائية فسالوا عما اذا كان هؤلاء المرضى قد تعرضوا لاي شكل من اشكال الانفصال الذاتي او من تجارب الخروج من الجسد قال سافيري بمجرد اكتشافنا للمنطقة المحددة من الدماغ والتي تسبب الانفصال. الذاتي قمنا بعد ذلك بالتحقيق من المناطق الاخرى في الدماغ والشبكات المرتبطة بهذه المناطق هذا من الناحية البيولوجية لهذه التجارب.
2-
اما من وجهة النظر الروحية لهذه التجارب غالبا ما تحمل تجارب الخروج من الجسد رسائل روحية عميقة شعورك بان روحك خرجت من جسدك فتشير هذه التجارب الى الحاجة للتحول الشخصي لاكتشاف الذات ويعتقد ان هذه التجارب تساعد المرء الى الاتصال بعوالم الوجود الاعلى ويمكن ان تعلمنا هذه التجارب كيفية تخلصنا من الخوف واندماجنا بطاقة الحب الطاقة الشافية للعقل للروح وللجسد ويرى البعض ان هذه التجارب دليل واضح على ان الوعي لا يقتصر على الجزء المادي من الدماغ والمرشدون الروحانيون يقولون ان هذه التجارب اثبات لا شك فيه بوحدة الوجود وغالبا ما يبلغ اللذين مارسوا هذه التجارب لاكتسابهم رؤى ونضوج واضح في تجاربهم الحياتي ويرى البعض ايضا ان هذه التجارب تشبه تجارب الاقتراب من الموت ولكن باختلاف تفاصيلها من فرد الى اخر.
***
سالم الياس مدالو

في كلِّ مرةٍ تُقام فيها المحافل الفلسفية، بأشكالها المختلفة، يتمُّ فيها إعلان موت الفلسفة؛ وكما أعلن نيتشة عن موت الإله بفعل الإله ذاته(لقد مات الإله وما أماته غير رحمته)، فإن شعار موت الفلسفة لم يحمله الأعداء أو الخصوم، بل الفلاسفة ذاتهم أو المتفلسفين أو طلاب الفلسفة وأساتيذها...
ففي ذات مرة، صعد أحد أبرز الفلاسفة في الفكر العراقي منبر الفلسفة، وهو بصدد تحليل واقع الفلسفة في العراق، فأعلن فاجعة معرفية مفادها (أن نستبدل الفيلسوف بالبطل، شأناً لتغيير واقعنا المعاصر)، وهذه وإن كانت تنمُّ عن رؤية واقعية نعيش تحت نيرها، إلا أنها من الأخطاء الشائعة، فالبطل من دون فلسفة جبروت هائل وإرهابي مُدمّر، مع إن الفلسفة من دون بطل، وفي كثيرٍ من الأحيان، مجرد رؤى في زاويةٍ مجهولة... الأمر الذي يتطلب درجة التكامل والتظافر وتشجيع روح التفلسف لصناعة البطل.
ومما ينبغي أن نشير له، أن السمةُ الغالبة في عقد الورش والندوات الفلسفية تكون من أجل الترقيات العلمية ونشاط الأقسام، لذلك كثيراً ما نسمع من مقرر الجلسة أو رئيسها، إزاء تقديمه للباحث الذي يروم الحديث بورقته الفلسفية (أتمنى أن لا تتجاوز الخمس دقائق من الوقت)، ولا أدري ما الذي سيقوله ذلك الألمعي في هذه الدقائق الخمس. إضافةً إلى ذلك فأن أوراق البحث التي تُقدم في هذه المحافل الفلسفية، لا تمتُّ والفلسفة بصلة إطلاقاً، وإن حاول البعض أن يبوبها في مباحث الفلسفة، لأن مباحث الفلسفة التقليدية (الوجود، المعرفة، القيم) لم تعد مباحثاً للفلسفة أصلاً، ومن أمثال تلك الموضوعات (الحزن، الموسيقى كرة القدم...)، وأنا هنا لست بصدد الإتيان بمجموعة من الأمثلة الرمزية، بل هذه الموضوعات حقيقية وقد قُدّمت في إحدى ندوات الفلسفة وبحضور العميد وجمعٍ غفير من الأساتذة وطلاب البحث الفلسفي.
ولنا أن نسلط الضوء على رحلة الفلسفة من التربية إلى التعليم، ونبدأ بما طرحه الدكتور(علي عبود المحمداوي) حول إشكالية التطرف في الدرس الفلسفي/التربوي، وهو في ذلك قد أحسن التعقيب، حيث يرى أن الدرس الفلسفي في المدارس الثانوية، الصف الخامس الأدبي تحديداً، قد أساء للفلسفة كثيراً، خصوصاً في طبيعة التعاطي والتفاعل مع الطلاب، فدائماً ما يتصور الطالب بأنها تساوي الإلحاد، لذلك نجد أغلب طلاب الفلسفة معبئّين ورافضين لفكرة التفلسف، حتى وإن شاءت الأقدار أن يدرسوا في أقسام الفلسفة، وقد لا يعود السبب في ذلك إلى الطالب بشكل مطلق، فهي مقسمة ما بين الطالب والاستاذ والمنهج، فالأخير فقير معرفياً، والاستاذ غير مختص في أغلب الأحيان، والطالب مصنوع ومدجن من بيئته الرافضة للتفكير النقدي.
وهذا يسحبنا إلى ضرورة النظر في التوزيع العشوائي الذي يُمارس على الطلبة وهم في طور الخروج من الدراسات الثانوية والولوج إلى الحياة الجامعية، فأقسام الفلسفة في هذه الحالة تقبل أقل المعدلات، لذلك نجد تيه الطالب في أروقة الفلسفة، مع أن الفلسفة يجب أن تقبل أعلى المعدلات وأنشط الطلاب، أو على أقلِّ تقدير، يجب أن تُستبعد من مارثون الانسيابية العشوائية، لتكون مجالاً حراً ترحب بمن أراد أن يُرحب بها فحسب، وأن لا تكون (علوة) تُباع فيها السلع من بعض البقالين الذين لا يحترمون الدرس الفلسفي في كثيرٍ من صوره.
وإذا ما فشل بعض البقالين في تسويق بضاعة الفلسفة بشكلٍ جيد، فإننا اليوم نُراهن على المتبضعين الجدد، ولكن كيف لهم الإبداع وهم تحت وطأة الألوان المعتقة، وأنا أتحدث عن اللجان العلمية داخل أقسام الفلسفة وعملية تصديق عناوين البحوث للدراسات الأولية والعليا... يتحقق الابداع بضرورة تجديد الدرس الفلسفي، وفكِّ الارتباط بمجموعة كبيرة من الموضوعات الفلسفية وتسريحها إلى التقاعد، والعمل على استقدام مجموعة أخرى ناشئة وفتية، بشرط أن لا تنفكُّ عن الواقع ومعاناته، فالفلسفة وقبل كل شيء(طريقة للتفكير في الواقع، تعمل على أشكلة حقول المشكلات الواقعية، بغية نقدها وتقويمها) أو ما أُحبذه من تعريفات الفلسفة ما قاله فوكو (نشاط تشخيصي، ومدار فعل التشخيص هو الواقع)، ولتحقيق ذلك الابداع المنشود، ينبغي الأخذ ببعض الاعتبارات، منها:
- الخروج من متاهات التفكير المجرد الذي أكل الدهر عليه وشرب، والانفتاح على جديد العلوم، السيسيولوجيا والانثروبولوجيا والسيكولوجيا وغيرها، فالفلسفة أولى بالبحث في إشكالاتها من غيرها.
- الفكر العربي منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا، يجب أن يتحول إلى الفلسفة العربية المعاصرة، وأن يُعاد تحقيب تاريخه إلى حديث (عصر النهضة)، المعاصر (أتاتورك وسقوط الدولة العثمانية)، فلسفة الحداثة (منذ هزيمة حزيران عام 1967)، وقد نمر بالمرحلة الراهنة (ما بعد داعش)... وأن يكون مادة أساسية في جميع المراحل، وأن تتشكل داخله المباحث الفلسفية المختلفة (الفلسفة السياسة، علم الاجتماع الديني، نقد الفكر الديني، حوار الأديان، صراع الحضارات، العلمانية والتراث وغيرها الكثير). ويجب الإقرار بأن الجابري وأركون والعروي وأبو زيد فلاسفة، ويجب أن نقرأ الوردي ومدني صالح والآلوسي والتكريتي والأعسم ومحسن عبد الحميد باعتبار ما كتبوه ونشروه يمثل المدرسة العراقية في الفلسفة، ويجب أن تُكتب عنهم الرسائل والاطاريح، فهم قاماتنا المعرفية التي ننتمي لها، لانتمائهم إلى واقعنا المشترك.
وقد يعترض الكثير على هذه الموضوعات وخروجها عن الفلسفة، وهؤلاء المعترضين يشهدون حقاً بأن الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) من أعظم الفلاسفة المعاصرين، ولا أدري لما ننعته بالفيلسوف وأغلب ما اشتغل عليه يتمثل في تحليله لظاهرة الجنون والجنسانية والخطاب والسلطة والمراقبة والمعاقبة، فأين ما سبق من الفلسفة؟ وبالتالي يجب الإقرار بأنه فيلسوف لكونه قد اشتغل على موضوعات حيوية وواقعية داخل الافق النظري للابستيم المعرفي. وهذا ما يجب أن يتنبه له المعترضون، إن الفلسفة لا تقنن في أبواب، ففي أبوابها آلاف الأبواب التي تُفتح بأثر الزمان والمكان، وتلك الأبواب المرصعة بذهب أفلاطون وفضة أرسطو يجب أن نغادرها، لأنها وإن كانت ذهبية، إلا أنها دُفِنت مع مومياء اسطورة الكهف.
- السرد التاريخي في الدرس الفلسفي، فلو نظرنا في المنهج الذي يعكف طالب الدراسات العليا (ماجستير-دكتوراه) سنجد أن هناك ما تُعرف بـ(فلسفة القيم)، وهي مادة تسلط الضوء الفلسفات القيمية من حمورابي إلى توفيق الطويل، أو فلسفة التاريخ التي تبدأ من حضارات وادي الرافدين والنيل إلى الحواليات الفرنسية وما بعدها، أو الكندي ورسائله الفلسفية، والغزالي الذي حرّم الفلسفة وكفّر المشتغلين بها، وابن رشد ومناوشاته مع الأخير... من خلال ما تقدم، نفهم المساحة التي يقدمها استاذ الفلسفة لطالب الفلسفة في اختيار موضوعته الفلسفية، فلا خيارات أمامه إلا للرجوع إلى مثل ما ذُكر لكي يتخلص من ضغط الدراسات ويُسرع في احتساب شهادته في وظيفته، والمضحك المُبكي، أن ينتهي به المطاف (صدفةً) في زاوية من زوايا الجامعات العراقية الشهيرة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

ما الذي يضفي على التعايش البشري عمقا وجوديا يتجاوز تقاسم الزمان والمكان؟ وكيف يتحول الالتزام الأخلاقي إلى تعبير عن حريةٍ تتخطى حدود الذات.
إن فهم التضامن كجوهرٍ إنساني (وليس مجرد فعل عابر) يتطلب استيعاب تناقضات الذات وهي تنفتح على الآخر دون تفريط في هويتها. التضامن ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل ضرورة أنطولوجية تُجيب عن سؤال الوجود ذاته. ولتأسيس شرعية العيش المشترك دون إلغاء الفرد، ينبغي نقل التضامن من هيئة الصَنِيع إلى حوارٍ بين إرادات حرة، تلتقي من اجل اعتراف متبادل، ليدرك الفرد أن امتداده الوجودي يتجاوز جسده إلى آلام البشر جميعًا.
لكن ألا يُهدد شبح الأيديولوجيا نقاء التضامن حين يحوِّله إلى أداة هيمنة؟ الجواب ـ في تقديري- يكمن في جعل التضامن ممارسةً نقديةً تفكك هياكل السلطة الخفية، وتتجنب الوقوع في فخ التمركز حول الذات (فردية كانت أم جماعية)، كي لا تتحول إلى سيمولاكر (صورة زائفة) للاستبداد. فالتضامن الحقيقي تمردٌ على كل محاولة لتجريد الإنسان من إنسانيته، وتحويل حياته إلى سلعةٍ أو رقمٍ بارد.
هكذا يصبح التضامن فناً وجودياً يدمج الجمال بالأخلاق، ويحوّل الدفاع عن الإنسان إلى فعلٍ إبداعي يُعيد تشكيل العالم بوصفه فضاء الإرادات الحرة. التضامن معركة لا تتوقف في مواجهة العدمية، وذودٌ عن قدسية الحوار الإنساني، حيث تُولد إمكانية ‘أنسنة العالم’ من جديد، ليكون لقاءً دائما.
***
د. عبد السلام دخان

لم يعد الزمن الذي نعيشه محايدًا، بل هو مرحلة أُعيد تشكيلها بعناية، وفق منطق الهيمنة الثقافية والاستهلاكية. تحوّلت المعرفة من أداة للتحرر والوعي إلى منتج استهلاكي سريع الزوال، تُصاغ سردياته وفق متطلبات السوق، لا وفق أسس التفكير النقدي العميق.
لم يعد السؤال الوجودي للمثقف: “ماذا نقرأ؟” بل تحوّل إلى: “كيف نقرأ وسط هذا الركام الهش من النصوص المختزلة؟”. إنها مرحلة تاريخية انتصر فيها السطح على العمق، والاختزال على التحليل، والسرعة على التأمل.
ما نشهده اليوم ليس مجرد انحدار في جودة المنتج المعرفي، بل هو إعادة تشكيل متعمّدة للعقل الجمعي، بحيث يصبح عاجزًا عن التفكير خارج قوالب جاهزة، أُنتجت في معامل السلطة الرأسمالية.
هذه السلطة تدرك أن أسهل طريقة لإخضاع الشعوب ليست بالقمع المباشر، بل بإغراقها في سرديات تافهة، وسياقات باردة، وحقائق ملفّقة تعيد إنتاج ذاتها بلا مقاومة.
وبينما يتفاقم هذا الانحدار، يجد المثقف نفسه كائنًا زائدًا عن الحاجة، في عصرٍ لم تعد العزلة فيه خيارًا فلسفيًا يمارسه المفكرون لبلورة رؤاهم، كما كان الحال مع هايدغر أو سارتر، بل صارت حكمًا قسريًا يُفرض على كل من يرفض الانسياق في جوقة التفاهة.
المثقف اليوم ليس فقط كائنًا منبوذًا، بل هو فائض عن الحاجة في منظومة لم تعد تتّسع إلا للأفكار السريعة، والتصريحات الجوفاء، والمقالات المعقّمة من أي أثر فكري حقيقي.
ولكن، وسط هذا الواقع المتأزم، لا بد من التساؤل: من الذي جعل المعرفة هشّة؟
لا شك أن الرأسمالية المتأخرة أدركت أن المعرفة ليست فقط أداة تحرر، بل يمكن أن تكون أداة تحييد وإعادة إنتاج للامتثال. في عالمٍ أصبحت فيه “التفاهة شرط البقاء”، كما يقول ألان دونو، صار على الكاتب الجاد إما أن يتبنّى لغة السوق، أو أن يُدفن في أرشيف النسيان.
غير أن هذه الصورة ليست مغلقة بالكامل. صحيح أن الرأسمالية الثقافية قد فرضت منطقها بقوة، لكن المقاومة لا تزال ممكنة. فحتى في ظل الهيمنة الشاملة، تبرز دوائر صغيرة ترفض الانسياق، سواء عبر المشاريع الثقافية المستقلة، أو عبر وسائل رقمية بديلة لم تخضع بالكامل لمنطق السوق.
السؤال ليس فقط عن كيف نرصد هذا التدهور، بل كيف يمكن خلق فضاءات جديدة قادرة على كسر احتكار المعنى؟
إن هشاشة المعرفة ليست مجرد حالة عابرة أو نتيجة عرضية لزمن السرعة، بل هي جزء من مشروع متكامل. هشاشة النصوص، هشاشة النقاشات، هشاشة المقولات التي تتكرّر دون أي قدرة على إحداث قطيعة معرفية مع النظام القائم.
والنتيجة؟ ثقافة سائلة، كما وصفها زيجمونت باومان، حيث لا شيء يستقر، ولا شيء يمتلك وزنًا، لأن كل شيء محكوم عليه بأن يكون سريع الاستهلاك وسريع الاضمحلال.
لكن، إذا كان المثقف والقارئ معًا هما الضحيتين الواضحتين، فمن هو الجاني الحقيقي؟
التفاهة ليست ظاهرة طبيعية، بل مشروع سياسي واقتصادي له رُعاته ومهندسوه. الرأسمالية النيوليبرالية أدركت أن إنتاج النخب الفكرية الحقيقية يشكّل تهديدًا لها، فكان الحل هو إعادة هندسة المجال الثقافي برمّته.
لم تعد هناك حاجة إلى مفكرين جادّين، بل يكفي بضعة مؤثّرين يتحدثون عن الفلسفة كأنها لعبة مسلية، ويختزلون التاريخ في دقائق معدودة، ويحوّلون أعقد القضايا إلى أسئلة ترفيهية بلا سياقات.
لقد صارت المعرفة تُنتج داخل مختبرات الشركات التقنية الكبرى، حيث يتم تصميم “المحتوى الثقافي” وفق مقاييس السوق.
الأخبار تُختصر في تغريدة، الفلسفة تُختزل في فيديو من خمس دقائق، الكتب تتحوّل إلى ملخصات ممضوغة بلا نكهة.
بهذا الشكل، يُعاد تشكيل الذائقة الفكرية، بحيث يصبح أي شيء يتجاوز 280 حرفًا عملًا شاقًا لا يستحق القراءة.
هذه ليست مجرد هيمنة اقتصادية، بل هيمنة إبستمولوجية، حيث لا يُسمح للأفكار العميقة بأن تنمو خارج الحقول المسيّجة للمنظومة القائمة.
لكن، هل الجمهور ضحية فقط؟ أم أن هناك مسؤولية تقع على عاتقه أيضًا؟
وهنا، لا بد من الاعتراف بأن الجمهور لم يعد مجرد مستقبل سلبي لهذا الواقع، بل أصبح جزءًا منه. فالرغبة في استهلاك المحتوى السريع، والميل إلى ما هو مختزل ومباشر، يعززان هذه الهيمنة.
لذا، فإن السؤال لا يجب أن يكون فقط: “كيف تفرض الرأسمالية الثقافية منطقها؟” بل: “لماذا يتقبل الجمهور ذلك؟ وهل يمكن تغيير ذائقته الفكرية؟”
إن الإجابة على هذه الأسئلة تبدأ بالمقاومة، التي لا تعني فقط الرفض، بل إعادة تعريف العلاقة بالزمن وبالمعرفة ذاتها.
لا بد من رفض منطق السوق الثقافي، وعدم الاستسلام لهذا الإيقاع المجنون، الذي يحاول أن يجعل من الثقافة مجرد سلعة سريعة الاستهلاك.
على القارئ المثقف أن يعيد تشكيل علاقته مع القراءة، بحيث لا تكون مجرد بحث عن الجديد، بل عن الضروري والقيّم.
كذلك، يجب أن يعي الكاتب الجاد أن العزلة ليست قدرًا محتومًا، بل يمكن أن تكون موقفًا ثوريًا ضد سرديات الهشاشة.
لا جدوى من مسايرة التفاهة، ولا من محاولة إثبات الذات في فضاء باتت قوانينه تخدم الرداءة. بل إن الرهان الحقيقي هو خلق فضاءات بديلة، حيث يمكن للأفكار العميقة أن تتنفس بعيدًا عن ضجيج السوق.
ولكن، كيف يمكن تحقيق ذلك في عالم مصمم لمنع أي تغيير حقيقي؟
لقد قال ماركس ذات مرة: “الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، لكن الأهم هو تغييره.”
ولكن، كيف يمكننا تغيير عالمٍ باتت أدواته مصممة لمنع أي تغيير حقيقي؟
هل من الممكن إعادة ترميم العقل الجمعي في عصر التفكيك المستمر؟
هل يمكن للمعرفة أن تستعيد وزنها في عالم لم يعد يقيس الأشياء إلا بمدى قدرتها على الترويج الذاتي؟
الإجابة تبدأ بإعادة إحياء السؤال الفلسفي، في زمن يحاول دفن الأسئلة العميقة تحت أنقاض المحتوى السريع.
في زمن يتهافت فيه الجميع على التصفيق، فإن الصمت قد يكون أكثر ضجيجًا، والكتابة الجادّة أكثر فعلًا من ألف ضوضاء زائفة.
ليست المشكلة في اختفاء الفكر العميق، بل في أن الجميع يحتفي بالسطحية وكأنها قدر محتوم، بينما تستمر الآلة الثقافية في إعادة تدوير التفاهة بوجوه جديدة، تحت إيقاع منصات مصممة لجعل الثقافة مجرّد وهم عابر.
وفي هذا المسرح، يكون المثقف آخر الواقفين على الخشبة، يتأمل الخراب، متسائلًا:
“هل يمكن للمعرفة أن تستعيد هيبتها؟ أم أننا أمام عصر جديد من الفراغ الفكري المقنّع بمظاهر الحداثة؟”.
***
إبراهيم برسي

سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نشاهد تلك الدعوات المحمومة إلى تبني اقتصاد السوق الليبرالي، كما هو الحال في سورية الثورة اليوم بعد سقوط نظام الأسد. وبغض النظر عن طبيعة النظام السابق الاقتصاديّة التي ادعت الاشتراكيّة، في الوقت الذي تحول فيه الاقتصاد في سوريّة إلى اقتصاد عصابات مافيويّة تقوده قوى من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة من آل الأسد ومن يعمل لمصلحتهم. يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو: هل اقتصاد السوق الليبرالي هو الهدف المنشود في هذه السوق بعيدا عن القيم الليبراليّة الأخرى التي أسس لها فلاسفة عصر التنوير.؟.
كثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة، وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطيّة الثوريّة) في دول العالم الثالث المتبنية لمشروع الاشتراكيّة العلميّة في محاربة الفكر الليبرالي وبكل من مفرداته الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والفلسفيّة، في الوقت الذي نرى فيه قوى الإسلام السياسي تتبنى قيم (اقتصاد السوق الحر) إلى حد ما، انطلاقاً من أن الإسلام في جوهره مع الاقتصاد الحر، ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَة الشتاءِ والصَّيْف ) وحديث الرسول: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). (صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب). ولكنهم في المقابل حاربوا بقية القيم الليبراليّة، على اعتبارها نتاج دار كفر، كالديمقراطيّة والعلمانيّة ومفهوم الدولة المدنيّة والمواطنة، وبالتالي الحد بالضرورة من قيم العدالة والمساواة بين مكونات المجتمع، أي هم حاربوا القيم الليبراليّة في صيغتها التقدميّة التي تبنتها الطبقة البرجوازيّة في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة، وكانت الثورة الفرنسيّة 1789، الممثل الحقيقي لهذه القيم. ولا بد لنا أن نشير هنا بأنه مع استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة، وانغماسها في شهوتها وغنائمها، قامت هذه الطبقة بإفراغ القيم الليبراليّة التي طالبت بها قبل وصولها إلى السلطة من مضامينها الإنسانيّة، وهنا بدأت مسألة الصراع الطبقي تظهر وبحدة بين المالك والمنتج، فجاءت أفكار ماركس فيما بعد الناقدة للطبقة البرجوازيّة (المالك) التي قادت الثورة الفرنسيّة، وراحت بعد استلامها السلطة تستغل الدولة وسلطتها وتشوه القيم الليبراليّة التي نادى بها فلاسفة عصر التنوير، وتخليها عن كل قيمها ومبادئها الإنسانيّة التي شجعت على قيامها في بداية انطلاقتها، وهي القيم المشبعة كما أشرنا أعلاه بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة والتعدديّة والتشاركيّة في قيادة الدولة والمجتمع. وأخذت تتحول إلى طبقة مستغلة لشعوبها ومستعمرة لشعوب دول العالم الثالث، وهذا ما جعل ماركس يقول مقولته المشهورة عن البرلمانات الأوربيّة وهي: ( إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسماليّة تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات).
وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازيّة وقيمها، حوربت أيضاً القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكيّة أو الاشتراكية العلميّة والقوميّة في دول العالم الثالث كما بينا في موقع سابق، طارحة البديل عن هذه القيم الليبراليّة، قيم الديمقراطيّة الشعبيّة، التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطيّة)، أي مزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانيّة تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكيّة القائم على فكرة (الديمقراطيّة الشعبيّة) ممثلة في المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها، راحت هذه القيم الايجابيّة لمفهوم الديمقراطيّة الشعبيّة بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، وتحكم قادتها بها، وفرض سياسة الحزب الواحد، أو الحزب القائد، كصيغةً أساسيّةً في قيادة الدولة والمجتمع معاً، هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسماليّة الدولة في صيغتها الاحتكاريّة كأنموذج اقتصادي، أخذ مع مرور الأيام يُشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازيّة الطفيليّة اغتنت على حساب أموال الدولة، الأمر الذي حول المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنية بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة، تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعليّة إلى مكوناتها التنظيميّة وبالتالي إلى الشعب، دون أن يكون لها – أي المنظمات والنقابات - ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطيّة الشعبيّة وآليّة عملها.
وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبيّة التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب، تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه إلى أحزاب شموليّة تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً، وعلى الشعوب التي تحكم باسمها ثانياً، خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على الدولة، وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعلياً من أجل خدمة مصالحه.
والمحزن أيضاً أن هذه القيم النبيلة إن كانت للاشتراكيّة أو الليبراليّة التقدميّة، أو القوى الاسلاميّة التي وصلت إلى السلطة، إن كان في مصر او تونس أو ليبيا أو العراق أو حتى سوريا اليوم التي راحت تبشر بالليبراليّة، ولكن في جانبها الاقتصادي فقط ولس الاجتماعي والسياسي والثقافي، فكان اقتصاد سوق السيارات الفارهة يسود في بنية الدولة والمجتمع مع بداية استلام رجال الثورة السلطة قبل تأمين لقمة العيش للمواطن.
إذاً وعلى هذا المعطيات لم يؤخذ بالمبادئ الأساسيّة للقيم الإنسانيّة من التهميش والاقصاء لا عند مؤسسيها من الطبقة البرجوازية في أوربا أولاً، ولا عند حملة المشروع الاشتراكي ثانياً، ولا عند حملة المشروع السياسي الإسلامي ثالثاً.
أمام هذه المعطيات يحق لنا أن نتساءل هنا ماهي القيم الليبراليّة في صيغتها الايجابيّة ؟، وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث المتخلف.؟.
القيم الليبرالية وتجلياتها:
الليبراليّة منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخيّاً حصيلة تطور طويل، تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المستغِلة والمستغَلة، وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجاريّة والصناعيّة وحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة في أوربا، ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعيّة المضطهدة تاريخيّاً، مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير وما مثله هذا العصر من قيم إنسانيّة تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع كالملك والنبالة والكنيسة، مثلما هي ضد كل من يقف ضد العقل ودوره التاريخي في بناء الحضارة الإنسانيّة.
لا شك أن منظومة القيم الليبراليّة، أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة، قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربيّة من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر، الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي(السكولائي - المدرسي) والسياسي القائم على التراتبيّة الاجتماعيّة، ومن خلال نقدها أيضاً لتك السلوكيات الاستبداديّة التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانيّة النبيلة التي تدل على إنسانيّة الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعيّة والقانونيّة المشروعة.
لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازيّة ووصول حواملها الاجتماعية إلى السلطة، قيم الليبراليّة في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي، وعلى أساسها نُظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسية ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان كرامته وإنسانيته (الفرد والمجتمع). أي بتعبير آخر لقد أصبحت الليبرالية في صيغتها التقدمية التي يشر بها فلاسفة عصر التنوير، نموذج حياة للفرد والمجتمع الأوربي، وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.
إن الليبراليّة في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه، ضد الفكر الاستبدادي واللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الذاتي أو الموضوعي الساعي دوما لعزل الفكر عن الواقع، والرافض لتطور الحياة، وفي مقدمة هذا التطور، تطور العلوم الطبيعيّة التي حطمت أسس المعارف الدينيّة الأسطوريّة في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات، وموقع الأرض من الشمس، وطبيعة دوران الأرض، والرافض أيضاً لوجود قوانين موضوعيّة مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، وأخيراً وليس آخراً، رفض إمكانية امتلاك الإنسان القدرة على تسخير عقله وإرادته في اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع وتسخيرها لمصلحته.
حقيقة لقد حاربت القيم الليبراليّة التي حملتها الطبقة البرجوازيّة الوليدة، الاستبداد وقواه الماديّة والمعنويّة، واعتبرت الديمقراطيّة والعلمانيّة وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنيّة، والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.
نعم.. إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ، لم تكن يوماً ذات نظرة أحاديّة، كأن تُختزل في الاقتصاد فقط، بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى، عبرت عن قيم تقدميّة مشبعة بالروح الإنسانيّة المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.
إن مشكلة القيم الليبراليّة تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرّة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح باسم الحريّة. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرّة اللامشروطة واللامسؤولة عن مصالح الإنسان المنتج، ساهم بالضرورة في انتشار نمط المجتمع الاستهلاكي، وساهم في نمو العلاقات غير العقلانيّة بين المالك والمنتج، وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع لقوى اجتماعيّة واسعة من أبناء المجتمع، حيث راحت هذه القيم الإنسانيّة التي بشرت بها الطبقة الرأسماليّة وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليديّة السلبيّة، تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابيّة لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسماليّة في صيغتها الاحتكاريّة المشبعة بالأنانيّة القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار، والتركيز على الحريّة الفردية، ونشر قيم ما بعد الحداثة المشبعة بالنهايات وموت أوتفسخ كل القيم النبيلة الممثلة لتلاحم الأسرة والمجتمع ومسؤولية الحرية الفردية تجاه الذات والآخر.
إذاً إن قيم الليبراليّة المشبعة بالقيم الايجابيّة في مراحلها الأولى ممثلة بالحرية والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيرية في السلطة وغير ذلك من قيم، هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمّة في أي مرحلة تاريخيّة تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن أمتنا العربيّة تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبويّة، فقيم الليبراليّة في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدميّة في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا، وهي التي تشكل الرافعة الحقيقيّة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه، بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها، أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مسارته.
نعم... لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا، لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشموليّة واستبدادها، وما فرضته الحكومات المستبدّة على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالحها بعد أن اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق هذه المصالح الأنانيّة التي هيمنت عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.
نقول في هذا السياق: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخيّاً من دمار للدولة والمجتمع في بداية قيامها، بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات، ومن إقصاء سياسي واقتصادي، إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخيّاً، قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشموليّة، وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبراليّة أو الديمقراطية الشعبيّة أو حتى الإسلام العقلاني الذي يقبل الآخر لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها، والوصول إلى تحقيق طموحاتها. فهذه هي مسيرة الشعوب الحرة.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية

ذكرت في المقال السابق أن «الدين المدني» يستهدف وفقاً لشروحات جان جاك روسو، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض الزملاء قائلين: إذا كان هذا هو المقصود حقاً، فإنه متوفر في كل الأديان. فلماذا نبتدع ديناً آخر؟
هذا النوع من النقاشات ينتهي عادة إلى حالة فوضوية. ففيها يختلط التدليل العلمي بالدفاع العاطفي، وتختلط المخاوف بالتوقعات والرغبات. ولهذا السبب؛ على الأرجح، لا يشهد المجتمع العربي مناقشات معمقة ومستمرة، حول العلاقة المناسبة بين الدين والسياسة، مع أنه أكثر مجتمعات العالم ابتلاءً بالنتائج المريرة لذلك الخلط. إن الجدل في المسألة متواصل بشكل يومي. لكنه ليس نقاشاً من أجل العلم ولا يلتزم بمعايير العلم؛ ولذا لا يعين على تفكيك العقد التي تملأ هذا الموضوع. بل لا أغامر لو قلت إن ما يحدث هو العكس تماماً. فالجدالات الكثيرة بين الداعين إلى انخراط الدين في الحياة السياسية، وبين معارضي هذا الاتجاه، تحولت نزاعاً سياسياً - اجتماعياً فيه القليل جداً من العلم، والكثير جداً من العداوة والانفعال.
كان روسو يطالع مشهداً شبيهاً بهذا في أوروبا الغربية، منتصف القرن الثامن عشر. ولهذا اقترح فكرة «الدين المدني» الذي يمكنه أن يلعب دوراً مماثلاً لأي دين آخر في إطار الممارسة السياسية، من دون أن ينخرط في جدل العلاقة بين الدين والسياسة، على نحو ما شهدت أوروبا يومذاك، وما نراه في العالم العربي اليوم.
- ما الذي أثار القلق عند روسو؟
كان روسو مقتنعاً بأن القانون بطبعه، قيد على الحريات الفردية. مجرد إلزام الناس بفعل أشياء والامتناع عن أشياء أخرى، هو – في الجوهر – تقييد لحرياتهم. وهذا يثير أسئلة متضاربة، مثل: هل يمكن أن نعيش حياة اجتماعية طيبة، من دون قانون ينظم العلاقة بيننا؟ لكن – من ناحية أخرى – هل يصح أن نضحي بحريتنا الخاصة، في سبيل العيش الجمعي؟ وإذا فرضنا أن القانون ضروري للحياة الطيبة، فما هو الأساس الذي يستند إليه القانون كي يلتزم الناس به، هل هو مجرد التهديد بالعقاب من جانب الدولة. وإذا كان التزام الناس بالقانون نوعاً من القسر، فما هو المبرر الذي يسمح لرجال الدولة بوضع تلك الإلزامات، وتهديد المواطنين بالعقاب إن لم يطيعوا.
هذه الأسئلة كانت تدور بقوة، في المحيط الاجتماعي الذي شهد كتابات روسو الأولى. وبعضها ما زال محوراً لنقاشات الفلسفة السياسية حتى اليوم.
قرر روسو أن القانون ملزم؛ لأنه مستند إلى الإرادة العامة، أي إرادة مجموع المواطنين في العيش المشترك وتنظيم علاقتهم الداخلية في قانون مكتوب. القانون أشبه بخطاب من كل فرد لكل فرد آخر، يؤكد التزامه باحترام حقوقه، باعتبارهما عضوين في مجتمع واحد. وبالتالي، فالقانون إعلان التزام من جانب مجموع المواطنين، لكل واحد منهم، بأن حقوقه مصونة ومضمونة، وأن من يخرقها فهو مذنب أمامهم جميعاً. إذن فالإرادة العامة، وما يقوم عليها او يتفرع منها، أشبه بالجدار الذي يستند إليه القانون.
هذا التوضيح الذكي، لم يمنع أحدهم من التساؤل: لكن ما الذي يضمن أن تبقى الإرادة العامة موحدة، كي تواصل إسنادها للقانون، أي كي يبقى المجتمع موحداً في التزاماته؟
وفقاً لروسو، فإن إرادة كل فرد للعيش المشترك الآمن، ومن ثم، قبولهم بالقانون الذي ينظم علاقتهم ببعضهم بعضاً، يمثل بذاته تمظهراً لجوهر الإنسان، بصفته كائناً خيَّراً وعقلانياً، إنها تعبير عن طبيعته التي أفاضها الله عليه حين خلقه. ومن هنا، فهي تعبير عن روح الله وإرادته التي نفخها في هذا المخلوق. ولهذا؛ عدّها متعالية، فلا تحتاج إلى تدليل أو إسناد.
هل هذا يكفي للقبول بفكرة «الدين المدني»؟ أظن تحليله صحيحاً، لكن لا أرى استنتاجه ضرورياً. ولعل في وسعنا التدليل عليه بطريقة أيسر.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

هي حقا متاهة ان يكون هناك جسرا بين العقلانية واللا عقلانية والمتاهة هي الأرض التي يتوه فيها السالك ولا يكاد ان يعرف طريقا، ابتداء من مبنى التيه الذي بناه (ديدالوس) الى متاهة التماسيح تحت الماء، اللعب مع (التابو) سخافة وشجاعة، عقلانية ولا عقلانية لكن كثيرون يخونهم الذكاء، لابد من وجود جسر. الحدس يمكن أن يعمل كجسر بين العقلانية (التحليل المنطقي) واللاعقلانية (العواطف). في بعض الأحيان، قد يكون الحدس مدفوعًا بالعواطف، مما يجعله جزءًا من اللاعقلانية ،يمكن أن يساعد الحدس الأنسان في اتخاذ قرارات سريعة عندما تكون المعلومات غير متاحة أو عندما يكون الوقت ضيقًا ،في هذه الحالات قد يُعتبر الحدس أكثر فعالية من التفكير العقلاني ،أحيانا يُعتبر الحدس جزءًا من التفكير العقلاني، ويستند إلى تجارب سابقة ومعرفة ضمنية، يمكن أن يُظهر الحدس قدرة العقل على معالجة المعلومات بسرعة وكفاءة ويستخدم الحدس كدليل للبحث عن معلومات إضافية أو تحليل منطقي إذا كان الحدس يشير إلى شيء ما، قد يسعى الفرد إلى التحقق منه بشكل عقلاني رغم ان الاعتماد على الحدس قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية نتيجة للتحيزات أو الأفكار المسبقة في بعض الحالات، قد يكون الحدس مضللاً، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير موثوقة. تختلف الثقافات في مدى اعتبار الحدس كقيمة، في بعض الثقافات، يُعتبر الحدس أداة مهمة في اتخاذ القرارات، بينما في ثقافات أخرى، يُفضل التفكير المنطقي والعقلاني، يلعب الحدس دورًا مزدوجًا في العلاقة بين العقلانية واللاعقلانية، حيث يمكن أن يكون أداة فعالة في اتخاذ القرارات، لكنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى نتائج غير موثوقة، توازن استخدام الحدس مع التفكير العقلاني يمكن أن يُعزز من فعالية اتخاذ القرار، مما يسهم في فهم أعمق للتجربة الإنسانية.
الحدس صنو العقلانية ام اللاعقلانية
يمكن اعتبار الحدس صنوًا لكل من العقلانية واللاعقلانية، وذلك وفقًا للسياق الذي يُستخدم فيه. ان توضيح هذه العلاقة من خلال اعتبار الحدس نوعًا من المعرفة الفطرية التي تستند إلى تجارب سابقة ومعلومات غير واعية ثبتت لا اراديا في لا وعي المجموعة. في هذه الحالة، هل يمكن ان يُستخدم الحدس كأداة عقلانية لتوجيه القرارات...؟ في المواقف التي تتطلب اتخاذ قرارات سريعة، يمكن أن يكون الحدس أكثر فعالية من التفكير المنطقي، حيث يسمح للأفراد بالتصرف بناءً على تجاربهم السابقة. لكن عندما يُستخدم الحدس بدون أي تفكير منطقي أو تحليل، يمكن أن يؤدي إلى قرارات غير عقلانية. في هذه الحالة، يعتمد الأنسان على شعوره الداخلي بدلاً من الأدلة. يمكن أن يكون الحدس مشوبًا بالتحيزات والأفكار المسبقة، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير موثوقة. بالرغم من ذلك يمكن أن يتواجد الحدس في نقطة التقاء بين العقلانية واللاعقلانية(جسر)، حيث يُعتبر أداة مفيدة إذا تم استخدامها بشكل متوازن مع التفكير العقلاني. يعتمد دور الحدس على السياق والظروف المحيطة به، مما يجعله أداة متعددة الأبعاد. الحدس يمكن أن يكون صنوًا لكل من العقلانية واللاعقلانية، وذلك بناءً على كيفية استخدامه والسياق الذي يُطبق فيه. يمكن أن يكون أداة فعالة في اتخاذ القرارات عندما يُستخدم جنبًا إلى جنب مع التفكير النقدي.
التمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني
التمييز الذاتي بين الحدس العقلاني واللاعقلاني يتطلب التفكير في عدة عوامل ومؤشرات، بعض النقاط التي يمكن أن تساعد في هذا التمييز والتي تستند إلى تجارب سابقة هي المعرفة الضمنية، وهي معلومات مكتسبة غير واعية، غالبًا ما تكون مدعومًة بتجارب واقعية. لكن قد تكون مبنيًة على عواطف، تحيزات، أو أفكار مسبقة دون توفر اسناد كافي. الحدس يعتمد في كثير من الأحيان على شعور داخلي غير مبرر، لا يمكن التحقق منه أو دعمه بالأدلة حيث يكون الشخص غير مستعدً لاستكشاف المعلومات أو تحليل الموقف بشكل أعمق ويميل إلى الرفض أو عدم الرغبة في التحقق من الأدلة والبراهين، هنا يكون متمسكًا برأيه دون النظر إلى الأدلة المتاحة هذا يؤدي عادةً إلى نتائج غير إيجابية أو مدروسة، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءً على فقدان التحليل المنطقي ويؤدي إلى نتائج غير موثوقة أو مضللة، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءً على مشاعر أو انطباعات غير دقيقة. الحدس يجب ان يكون مرنًا وقابلًا للتكيف مع المعلومات والمستجدات. الشخص الذي يستخدم الحدس العقلاني يكون أكثر انفتاحًا على تغيير رأيه عند ظهور أدلة جديدة غالبًا ما يكون قابلا للتكيف. الشخص الذي يرفض تغيير رأيه حتى في وجود أدلة مضادة يظهر غالبًا في سياقات تتطلب التفكير النقدي والتحليل الدقيق، مثل اتخاذ قرارات في مجالات علمية أو مهنية كما لم يظهر في سياقات عاطفية أو اجتماعية، حيث تؤثر الضغوط الاجتماعية أو العواطف على اتخاذ القرارات، تمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني يتطلب التفكير النقدي والتحليل العميق للمواقف، من خلال النظر في الأساس المعرفي، مستوى التحقق، النتائج المحتملة، القدرة على التكيف، والسياق، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر وعيًا وفاعلية.
دور الخبرة في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني
الخبرة تلعب دورًا حاسمًا في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني، الخبرة تساهم في بناء المعرفة والفهم العميق للمواضيع المختلفة. كلما زادت خبرة الشخص في مجال معين، زادت قدرته على استخدام الحدس العقلاني المستند إلى معلومات موثوقة. الخبرات العملية تساهم في تطوير حدس عقلاني قوي، حيث يمكن للفرد التعرف على الأنماط والعلاقات التي قد لا تكون واضحة للآخرين. الخبرة تساعد الأفراد على تقييم المواقف بشكل أفضل، مما يمكنهم من تحديد ما إذا كانت مشاعرهم أو انطباعاتهم تستند إلى المعرفة الفعلية. الأفراد ذوو الخبرة يمكنهم تقدير المخاطر بشكل أفضل، ما يعزز من القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية بناءً على حدسهم. الخبرة تساعد في التعرف على الأنماط السلوكية أو النتائج المتكررة. هذا يمكن أن يُعزز الحدس العقلاني، حيث يصبح الفرد قادرًا على الاستنتاج بناءً على تجاربه السابقة. مع الخبرة، يصبح الأفراد أكثر وعيًا لكيفية تأثير العواطف على أفكارهم، مما يساعدهم في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني. الخبرة تعزز من الفطنة، وهي القدرة على فهم الأمور بسرعة. الأفراد ذوو الخبرة في مجال معين يمكن أن يكون لديهم حدس عقلاني قوي يتجاوز التفكير النقدي التقليدي. الحدس الفطري الناتج عن الخبرة يمكن أن يوجه الأفراد نحو خيارات أكثر ذكاءً، حيث يعتمدون على فهم عميق للموقف. الخبرة في سياقات معينة تعني أن الفرد سيكون أكثر دراية بالعوامل التي قد تؤثر على اتخاذ القرارات، مما يساعد في تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني. من خلال التعلم المستمر والتكيف مع الظروف المتغيرة، يمكن أن تتحسن قدرة الفرد على التمييز بين الحدس العقلاني واللاعقلاني بمرور الوقت. الخبرة تعزز من قدرة الأفراد على تمييز الحدس العقلاني عن اللاعقلاني من خلال توفير قاعدة معرفية قوية، تحسين القدرة على التقييم، التعرف على الأنماط، وتطوير الفطنة. كلما زادت خبرة الفرد في مجاله، زادت قدرته على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا ودقة. الحدس يلعب دورًا محوريًا في العلاقة بين العقلانية واللاعقلانية، هو إدراك سريع أو شعور داخلي لا يستند بشكل مباشر إلى التفكير المنطقي أو الأدلة. يُعتبر نوعًا من "المعرفة الفطرية" التي يمكن أن تكون نتيجة لتجارب سابقة أو معرفية غير واعية. بالتالي ان أردنا ان نطور نمطا معرفيا يتميز بالخصوبة والفعالية علينا ان نمتحن التجارب حدسيا وعلى منصة الواقع متجاوزين إخفاقات الماضي التي أدت الى انحسار سلطة الثقافة لصالح ثقافة السلطة.
***
غالب المسعودي

 

" قد أنظر من عين الإبرة ولو ضيقا، علني أفهم حقيقة صورة العالم وخلفياتها وإن بشكل حذر وبطيء، لكنني أتردد في خرق قانون الرؤية، عندما أتهجر مفازات لا متقاربة، ومفجوعة بالزيف والجفاء"
كثيرا ما تتعالق أسئلة الراهن الفكري بمنظورات الرائين في أعمق سرديات القرن العشرين، ممن استشكلوا استلهامات الطفرة البشرية وتحولاتها في بنية الفلسفة الوجودية المتقابلة. وأبرز الأسئلة الحاضرة نوعيا واستشرافيا، زمنية العزلة في حولية غابرييل غارسيا ماركيز، والتي تستقصي بالحس الروائي الصاقع والدربة الواعية بتعرقات العالم وانقياداته، تلاوين السرعة وانكشافها المستديم في أتون ضجيج العالم وحتمياته.
كما لو أن البطل الإشكالي الآن، يلثغ بنفس عميق، آثار الحوافر في رمال الدهر، يقايض بها انزياحات الأفق المعتم، وتآويله المبطنة. نفسه التعالق الذي يقطع الشك باليقين، يكبح النور عن الاستمساك بالأضواء الخفيتة العامية.
إنه بطل غارسيا، الذي يصفه ب"متحف النسيان"، مقتعدا "أثر السيرورة في الأيام التي تطوى بسرعة، تنزلق من بين الأصابع كالرمل.. وأن اللحظات التي ظنها أبدية كانت في الواقع مجرد ومضات، تتلاشى قبل أن يدرك قيمتها".
العالم الآن، وفق هذه الدفقة الأنيقة، يكتشف متأخرا، أنه يستعير وجوده الكوني، من قيمة لا تغسل مدارات الماضي، بما يكفي لاستيقاظ الحواس الخلفية البديلة عن العدم، فينزوي إلى ترميم فرص المادة المبتورة عن خلفياتها المجذوبة المجردة من فكرة القيم والعيش المشترك ومبدأ التسامح وسمو الإنسية.
وعلى حين غرة، يصير عالم التشييء والتصنع وتشويه الحقائق وتزوير الإرادات، وتغييب العقل، جزءا صميما في لبوسات هذه الشيوية المستبلدة، متحررة من كل ما يمت بصلة للإعلام ورسالته النبيلة، ومتحدرة بفعل القهر والبلادة، إلى أرذل الأخلاق وأغباها.
ولن يجد المفكر في التدليل بالعشرات من أنماط التقاليد الدخيلة على مجتمع الطفرة ذاك، حيث ترى بالعين المجردة، وبعشرات النماذج المنتشرة على طول وعرض مواقع التواصل الاجتماعي، كيف تكون الطوارئ المنذورة للتشويه الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والانحطاط القيمي، كابحة لأبسط العقود الثقافية والتربوية في زحمة تواري القياسات القدوية والاستشعارية، ومفاوزها المستجيبة لروح الضمير وتوابث المجتمع.
وفي غمرة هذا التلخبط والفوضى المضطربة، تتلقف ماكينات التشييء والوطء الصدامي القميء، عشرات الرسائل والصور والعلامات، تحركها أيادي قذرة، لا تنفك تدعو إلى الانحراف والسقوط والتلون الشيطاني، غير عابئة بقيم الإنسانية والدين والأخلاق العامة. والناظر لتلكم الرسائل والصور والعلامات، سيصاب برهق نفسي وروحي قاس، يسحبه إلى محاولة استقصاء الموصوفات والعوادم بما يكلف نظام عالم "الكذب" خطيئات الجهل وطغيان المادة وانحراف الأخلاق وضعة المروءة.
ومع الزمن، وتحت إيقاع استمرار كل هذه الكارثيات، على اختلاف صورها وتداعياتها في الوجدان اليومي للحاضنات الإلكترونية السريعة، يصير النظر إليها كما لو أنها جزء من واقع لا يشكل صاديا ولا هالكا محتوما، فيكون العيش معها وبنكهاتها المعروضة، نبتا مفروضا في منشأ التمدد والارتفاع، فتصير بعد ذلك وضعا واقعيا ومستنيبا في سير الحياة وتعاودها وارتدادها وترددها.
وإذا انشغلنا بتراكم هذه الزوايا، في سوسيولوجيا الإعلام والتربية، من موقع كون السوسيولوجيا تفضح دائما خلفيات الانخداع الذي يتم تسويقه وتشجيع أدواته، كما التربية تعيد مسلكية الوظيفة المجتمعية إلى أخلاقياتها الثاوية، فإن "المجتمع (بأغلبه) يخدع نفسه على الدوام" بحسب قول مارسيل موس، يكشف أيضا عن مثالب الهيمنة المقنعة، فإن تكريس الأنماط الجديدة للسلوكيات المهيمنة في وسائل الإعلام الجديدة، هو إقبار مستبطن للتاريخ والثقافة واللغة كفضاءات (سلط رمزية)، مرتبطة بمحيطاتها الخارجية، التي تمدها بأنفاس الفعالية والأجرأة القيمية، وقوة الاستمرار والصمود التلقائي.
فما الذي تريده الأنساق الإعلامية الناشئة اليوم، في ظل اشتداد توحش "الرأسمال" الإقطاعي، وتخلف مسلمات الخطاب التربوي الإعلامي، وبروز معاول أيديولوجية مجردة من إرث ثقافي وظيفي وإنتاجي متجادل؟.
وكيف نفكك تلكم البراديجمات المحكومة بنزاعات فردانية ذات توجهات نرجسية مفضوحة، تناكف مناخات الاندماج والتعدد والاختلاف في مجتمع منقسم بطيء الفهم وقابل للانفجار في أية لحظة، ومحتكر في فضاءاته واختياراته وتشاركاته...؟
وهل تنحدر أبنية الرساميل الاجتماعية والثقافية إلى حضيض الإسفاف والركون إلى التفاهة والابتدال، ما يجعلها محكومة بالتفكك والانهيار؟، إذ إن ما أصبحت تلقنه وسائل الإعلام الجديدة، من معارف ومهارات سلوكية ولغوية وتجارية، تشكل منفذ خطر محدق بالأفراد والجماعات، يستعصي معها العودة إلى "المنبع" الذي اشترط بيير بورديو أن يتكيف مع ما يسميه ب"سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض"، وإلا وقعنا في المحظور، وأصبح من الصعب الحديث عن إصلاح قابل للتحقق.
***
د. مصطفى غَلمــــان

في عصرٍ تتسارع فيه الوقائع لتتحول إلى تغريدات، وتُختزل المعاني في شعارات، يُصبح المثقف عالقًا بين ماضٍ يقدّس العمق، وحاضرٍ يستعجل السطحية. فكيف يمكن له أن يمارس دوره وسط سطوة الاختزال؟ وكيف يتعامل مع الطغيان الرمزي للسرديات المُهيمِنة، التي تسعى إلى ضبط الوعي الجماعي وفق أنساق محددة سلفًا؟
كل عصرٍ تحكمه سردياته الكبرى، وهي ليست مجرد “قصص تُروى”، بل أنساق معرفية تُكرَّس عبر المؤسسات الناعمة، من الإعلام إلى التعليم، بل وحتى في أنماط الحياة الاستهلاكية، حيث يتم تشكيل وعي زائف—كما وصفه هربرت ماركوزه - يجعل الأفراد يتماهَون مع واقع مفروض دون وعي نقدي.
هذه الهيمنة لا تعني فقط فرض تصوّر معين عن الواقع، بل إنتاج واقع لا يرى ذاته إلا من خلال عدسة السردية المُهيمِنة.
وبذلك، تصبح الحقيقة نفسها مسألة نسبية، ليس لأنها معقدة أو متعددة الجوانب، بل لأن هشاشة الخطاب النقدي أمام المد الإعلامي تجعل من الصعب مساءلة هذا الواقع أو تجاوز حدوده الرمزية.
فالطاغية، سواء كان سلطة سياسية قمعية أو نظامًا رأسماليًا شاملًا، لا يحتاج إلى القمع المباشر دائمًا.
هناك أدوات أكثر فاعلية، مثل “التنسيم الإعلامي” - أي تفريغ الوعي من مضامينه النقدية عبر إغراقه بالتوافه، وإعادة إنتاج الواقع بطريقة تجعل القمع يبدو غير مرئي.
وكما قال بيير بورديو:
“السيطرة الأكثر فعالية هي تلك التي لا تُرى، لأنها تجعل المهيمن عليه متواطئًا مع هيمنته دون وعي منه.”
وبذلك، يصبح الانخراط في هذا الواقع أشبه بالدخول في دائرة مفرغة، حيث يتكرر إنتاج السرديات نفسها دون مقاومة تُذكر، وكأن المجتمع يُعاد تشكيله وفق رؤية تضمن استدامة هشاشته الفكرية.
لكن مواجهة هذه السرديات لا تتم فقط بتفكيكها، بل بإنتاج سرديات بديلة.
فالنقد وحده، دون تقديم نموذج مضاد، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر الاعتراف الضمني بقوتها.
لذا، على المثقف ألا يكتفي بالكشف عن التلاعب الرمزي، بل أن يعمل على إنتاج وعي نقدي قادر على تجاوز منطق “رد الفعل” نحو بناء خطاب جديد منافس.
يجب ألا يكون هذا الخطاب مجرد صدى للواقع السائد، بل قوة فاعلة تستطيع كسر هشاشة البنية الفكرية المفروضة على الجماهير.
المعضلة الكبرى التي يواجهها المثقف اليوم ليست فقط في هشاشة المساحة المتاحة له داخل المشهد الثقافي، بل في الإقصاء الناعم الذي يتعرض له. لم يعد هناك مجالٌ للأفكار العميقة في فضاءاتٍ تلهث خلف كل ما هو لحظي وسطحي!
وكما لاحظ أنطونيو غرامشي، فإن الصراع الفكري هو في جوهره “صراع على الهيمنة الثقافية”، حيث تُسلب الجماهير أدوات الوعي عبر ترويضها داخل أنظمة خطابية لا تتيح سوى “خيارات مزيفة”.
وبين هذا وذاك، يجد المثقف نفسه أمام سؤال حرج: هل عليه أن يتكيف مع هذا الواقع، ويعيد صياغة خطابه وفق متطلبات الزمن الرقمي؟ أم يتمسك بعمقه ولو كان الثمن هو العزلة؟
لكن القول بأن المثقف أمام خيارين فقط - إما الاندماج التام في السوشال ميديا، أو العزلة - هو في ذاته شكلٌ من أشكال الاختزال الذي يجب تفكيكه.
بل هناك خيار ثالث: إعادة ابتكار الخطاب النقدي بطرق جديدة تتناسب مع طبيعة العصر، دون أن تفقد جوهرها. فالمثقف الذي يرفض الانخراط في المنظومة الرقمية يفقد القدرة على التأثير، بينما المثقف الذي ينغمس فيها بلا وعي يتحول إلى جزء من آلة الهيمنة، حيث تُفرغ حتى الخطابات الراديكالية من مضمونها، وتُعاد تعبئتها كمنتج استهلاكي (Commodified Thought).
وهنا تكمن الإشكالية!
فبين تفكيك السلطة والخضوع لمنطقها، تنشأ حالة من التردد تفضي إلى هشاشة الدور الثقافي ذاته.
لذا، فإن التحدي الحقيقي ليس رفض أدوات العصر، بل إعادة توظيفها لصالح مشروع ثقافي مقاوم، قادر على اختراق الحواجز الرمزية التي تفرضها المنظومة السائدة.
لا ينبغي للمثقف أن يكون مجرد “ناقد للنظام السائد”، بل يجب أن يكون “صانعًا لخطاب بديل”.
ولتحقيق ذلك، لا بد من البحث عن استراتيجيات جديدة تضمن بقاء الخطاب النقدي مؤثرًا دون أن يفقد قوته، مثل:
- إعادة ابتكار الخطاب بطريقة تواكب التحولات الثقافية، مثل المقالات الموجزة المدعومة بالتحليل العميق، أو الوثائقيات القصيرة التي تحمل مضامين نقدية قوية.
- توسيع الفضاء الثقافي عبر منصات مستقلة (Independent Platforms)، مما يتيح هامشًا أوسع للحركة، بعيدًا عن الرقابة الرمزية التي تفرضها المنصات السائدة.
- استخدام وسائل التواصل بذكاء، بحيث يتم إعادة توجيه الخوارزميات لخدمة الفكر النقدي (Algorithmic Resistance)، لا العكس!
- بناء مجتمعات فكرية موازية، بعيدًا عن المؤسسات التقليدية، من خلال إنشاء فضاءات نقدية مستقلة، مثل المجلات الإلكترونية، والمنتديات الثقافية، والتجمعات الفكرية المستقلة.
- تحويل الفكر إلى مشروع عملي، بحيث لا يبقى المثقف مجرد “محاضر أكاديمي”، بل يصبح فاعلًا في مجتمعه من خلال مشاريع ثقافية أو حملات توعوية، تساهم في تغيير أنماط التفكير بدلًا من الاكتفاء بالتنظير.
السرديات المهيمنة ليست قدرًا مقدورًا، بل هي نتيجة صراع دائم على الوعي!
المثقف ليس متفرجًا في هذا الصراع، بل هو أحد لاعبيه الأساسيين. وما دام قادرًا على زعزعة هذه السرديات، ولو بخلق نافذة صغيرة للفكر النقدي، فإنه يظل فاعلًا!
إذن، فالسؤال ليس كيف ينجو المثقف في عصر الاختزال؟ بل: كيف يعيد تعريف دوره في هذا العصر، لا كضحية له، بل كمنتج جديد للوعي؟
فالهشاشة لا تأتي من غياب الفكر، بل من غياب القدرة على تحويل الفكر إلى قوة تغيير حقيقية!
هل يستطيع المثقف اليوم تجاوز هذه الهشاشة، ليصبح قوة فاعلة، لا مجرد شاهد على التحولات؟
***
إبراهيم برسي

 

عندما كان جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، حذّر من ان خصومه السياسين يشكلون تهديدا للديمقراطية ذاتها. نفس الاتهامات وُجهت ضد الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو. في الحقيقة، العديد من الصحفيين والنقاد يدّعون ان التهديد للديمقراطية هو ظاهرة عالمية. المحافظون لطالما انتقدوا خصومهم لكونهم متساهلين حول الجريمة، اما الليبراليون فقد انتقدوا خصومهم لعدم اهتمامهم بالفقراء، لكن اتهام المعارضة بكونها "تهديد للديمقراطية" يبدو اكثر إحباطا، فهل هذه الاتهامات صحيحة؟ ان تحذيرات مثل "الديمقراطية ستصل الى نهايتها عندما انت لا تستمع لي" هي قديمة قدم فكرة ان الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرا.
منذ نشوء الجمهورية الديمقراطية القديمة في اثينا، كان النقاد يحذرون المواطنين من زوال الديمقراطية الحتمي. فمثلا، في الجزء الثامن من كتاب الجمهورية لإفلاطون (380ق.م)، حذر سقراط من تساهل الديمقراطية في الميول نحو الجريمة، والإفراط في المساواة: "ألم تلاحظوا كيف ان العديد من الاشخاص في الديمقراطية، رغم معاقبتهم بالنفي، يبقون حيثما هم ويتنقلون حول العالم؟.. الرجال الكبار في السن يعطفون على الشباب.. ولايجب ان انسى المساواة بين الجنسين.. الافراط في الحرية يتسع ليتحول الى إفراط في العبودية.. وهكذا يبرز الاستبداد من الديمقراطية". وفي روما ،بعد انتخاب ماركوس ليفيوس دروسوس مدافعا عن الشعب عام 121 ب.م، صرخ اصدقاء خصمه كايوس جراكوس في الشكوى من عدم العدالة، وهو ما جعل زوال الديمقراطية يبدو حتميا. هم اتهموا دروسوس في التلاعب بأصوات الناخبين. وكرد فعل، طارد مساعدو دروسوس كايوس وقتلوه. الديمقراطية لازالت تعمل في اليونان وروما بعد قرون، والتنبؤ بموت الديمقراطية ذاتها لم يتحقق ابدا. لكن الديموقراطيات تولد وتموت. كيف نستطيع معرفة ان كانت الديمقراطية الحالية مهددة؟
ظهور الديمقراطية
قبل معرفة ان كان هناك تهديد للديمقراطية، نحتاج لفهم كيف جاءت الديمقراطية في المقام الاول. في (حياة اليونان،1939)، يقدم لنا المؤرخ وول دورانت Will Durant فكرة : "في عام 459 ق.م، كان بريكلس متحمسا للسيطرة على قمح المصريين، فأرسل اسطولا كبيرا لطرد الفرس من مصر. الحملة فشلت، وبعد ذلك تبنّى بريكليس سياسة كسب العالم عبر السيطرة على التجارة بدلا من الحرب".
ليس صدفة ان جميع الديمقراطيات القديمة برزت في مراكز الانتاج اوعند مفترق الطرق التجارية. التجارة أجبرت التجار كمتعصبين وكارهين للاجانب للمقايضة مدنيا مع متعاملين من أماكن اخرى. اذا كان المطلب الاول للتاجر هو القدرة على اكتشاف الصفقات الكبيرة، فان المطلب الثاني يجب ان يكون التسامح مع الملابس الغريبة وعادات المستهلكين. نجاح التاجر يعتمد على معاملة كل شخص بنفس الشيء سواء كان يحبه ام لا. لذا فان التجارة تحوّل اللاتسامح الى تسامح. وبعد قرون، صعدت روما كما اليونان من قبل فهيمنت على التجارة. بالنهاية، قادت حروب روما الدائمة الى تركيز نسبة كبيرة من الثروة والسلطة لدى الدولة. الحروب خنقت التجارة في كلا الامبراطوريتين وادت الى انحطاطهما.
وبعد سقوط روما في القرن الخامس الميلادي، خيّم تقريبا الف سنة من ظلام الامية على اوربا. بعد ذلك، بزغ شعاع ضوء في الافق. في القرن العاشر، منحت التجارة مولدا للديمقراطية عندما قادت النشاطات التجارية الواسعة الى تكوين جمهوريات ايطاليا البحرية في البندقية وجنوة وبيزا. مرة اخرى، القتال المستمر جعل حياة تلك الجمهوريات قصيرة. التجارب الحالية تعلّمنا نفس الدرس: الديموقراطيات تنشأ كتعبير سياسي للمجتمعات التجارية.
التسامح والمساواة كمحصلة للانتاج والتجارة
لنستطلع قليلا كيف تقود الفعالية التجارية الى ظهور المساواة الديمقراطية والحكم الذاتي والحرية. ان توسّع التجارة يغير العلاقات بين المواطنين ويصوغها لتتماشى مع نفسية صاحب المتجر. معظم علاقاتنا هي سطحية، نجاحها او فشلها يتم قياسه بمعطيات مادية. التاجر لا يهتم بالضرورة بلون جلدك، وانما في النقود التي لديك. لا يهم كثيرا بالنسبة له ما اذا كنت زائرا اجنبيا او جار له في الشارع. هو ينظر الى ربحه. لذا فان التجارية الديمقراطية بالنهاية تعزز تسامحا سياسيا واجتماعيا واسعين. لكن صاحب المتجر ليس فقط عليه ان يبدو مرحبا بالناس، هو ايضا عليه ان يملأ رفوف متجره بأشياء يرغبها الناس. لذا فان البائع ،اكثر من أي شخص آخر، مسؤول عن تعريف بقية الناس على عادات واذواق الناس الاخرين.
التغيرات تحدث في مجتمع حين تبدأ فيه طبقة التجار باكتساب سلطة اكبر، وهنا يدخل الحراك الاجتماعي حيز التنفيذ: "في الديمقراطية، عندما يذهب النجار للمطعم لشراء طعام، يكون النادل هو خادمه المؤقت. في اليوم التالي، عندما يذهب نفس النجار الى بلد النادل لنصب خزائن، يصبح النادل سيدا ورب عمل.. في هذه الطريقة، هم يعتبرون بعضهما البعض كمتساوين اجتماعيا" (قطيعنا الانساني، ستيفن مارتن فرتز،2020).
التاريخ كمحصلة للانتاج والتجارة
تخلق التجارية أكثر من مجرد ثروة وديمقراطية: انها تصنع تاريخا. في الامم القليلة الانتاج والتجارة، لاشيء يتغير تقريبا. بدون تجارة وفيرة، ليس امام الفقير الاّ القليل من الفرص، والحراك الاجتماعي ليس له وجود. عندما يضمن الابن مستقبله كفلاح مثل ابيه، وبنته تتأكد من مستقبلها كربة بيت او راهبة مثل النساء الاخريات، فلن يحدث أي شيء جديد. التاريخ ذاته يبدو كأنه ثابتا. في ظل هذه الظروف الساكنة، اصبحت العلاقات الطويلة الامد راسخة الجذور. عندما يحتال فرد على آخر بالنقود، فان عائلة ذلك الفرد سيتم تذكّرها لعدة اجيال كغير جديرة بالثقة. في مثل هذه الظروف، يصبح لتاريخ العائلة أهمية كبيرة. عندما يتم اختيار شخص ما كمسؤول محلي حكومي، هو يحاول المناورة مع أقاربه على مواقع وظيفية مشابهه، فتبرز الهرمية وتبقى بلا تغيير لسنوات. وهكذا عندما تصبح الامم الفقيرة هرمية، وتكتسب فيها بعض العوائل قيمة أكثر من الاخرين سيبرز نظام طبقي، يقوده الملوك او الملكات. افكار مثل "شرف" و "سمعة" تعني كل شيء، وربما الى درجة تستبدل النقود لتصبح كعملة للمجتمعات الفقيرة. كل هذا انقلب رأسا على عقب في ديمقراطية متغيرة سياسيا، وتجارة واسعة تضمن زيادة كبيرة في الاختراعات الجديدة وتغيرات في اسلوب الحياة ايضا. الاشياء تتطور بسرعة والناس يتحركون وراء النقود. لذا فان الثقافة الديمقراطية هي حضارة تتقدم بسرعة مع الكثير من التغيير يحدث في وقت قصير نسبيا. خلال أجيال قليلة، اصبح من الصعب التعرف على الجيران. الرجل الذي يقف خلفك في المحل ربما فقير او حاكم اقليم، انت لا تعرف ذلك ولا تهتم به. الشرف والسمعة تعني القليل عندما لا احد يعرف ماضينا، وحتى القليل ربما يعرفون اسمنا.
الحكومة الذاتية والحرية
ما يعطي المجتمعات فرصة التحول من شكل للحكومة الى شكل آخر هو اختفاء القبضة الحديدة لقوة الملكيات والدكتاتوريات. عندما يكون هناك القليل من الموارد تُفرض عليها الضرائب والقليل من الفعاليات تُراقب وتُنظم، فان عدد المشرفين الحكوميين يتضائل وينكمش تأثير البيروقراطيين على المزارعين المحليين والحرفيين. هذا يخلق فرصا لرواد الاعمال. التاجر المغامر الذي يفتح محلا لبيع سلع مستوردة جديدة ربما تزداد ثروته ببطء. الحكومات المهتمة بمزيد من الثروة عادة تعطي للمشاريع الجديدة الكثير من الحرية للتوسع. عندما تتوسع الشركة بسرعة اكبر من امكانية الحكومة للسيطرة او فرض الضرائب عليها، فان التحول الى الديمقراطية قد لا يكون بعيدا. عادة، الاوتوقراطيات لاتعرف بسهولة كيف تحكم الشركات الجديدة. هي عادة تُجبر على توظيف أعضاء من شركات الجالية لإقتراح التعليمات. لذلك، يتم تعين المنتجين لحكم أنفسهم. في ظل هذه الظروف من "الحكم الذاتي"، يزدهر الانتاج والتجارة. لكن بينما من السهل رؤية كيف ان التسامح والحكم الذاتي يترافقان مع تبنّي رؤية اصحاب المتاجر، يبقى الربط بين التجارة والحرية ليس واضحا.
"الحرية" مفردة ذُكرت كثيرا اثناء الفترات الديمقراطية، لكنها نادرا ما جرى تبنّيها في الاوقات الارستقراطية. لماذا؟ لأن الحرية لا معنى لها عندما لا تتوفر خيارات. عندما يقوم الفلاح والفلاحة كل يوم بنفس الاشياء التي قاما بها يوم أمس، وعندما يعملان نفس الاشياء التي يقوم بها جيرانهما، وعندما تتطلب الظروف الاقتصادية انهما يستمران بعمل هذه الاشياء، ماذا تعني "الحرية"؟ لكي تكون حرا ذلك يتطلب فرصا لعمل خيارات اخرى، وعمل شيء مختلف. اساسا، كلما كانت الخيارات لدينا كثيرة، كلما كنا أكثر حرية. الانتاج المادي يخلق خيارات للملايين من الناس.
الجغرافية والناس الذين هم على جانب واحد من الحدود بين الولايات المتحدة وكندا لا يختلفان كثيرا عن الجغرافية والناس في الجانب الآخر. مع ذلك، هناك اختلافات. الناس في الولايات المتحدة هم اكثر غنى بنسبة 10%، بما يجعلهم اكثر حرية في اتخاذ القرارات حول اشياء لأنفسهم. باختصار، الامريكيون يتمتعون بالكثير من الخيارات قياسا بالكنديين. نفس الشيء يصح بشأن المزيد من الاختلافات بين الولايات المتحدة ومكسيكو. لكن الاختلافات في السياسة هي في الحقيقة اكثر وضوحا عندما تنظر للاختلافات بين كوريا الشمالية والجنوبية. اللغة والمناخ هو ذاته. ما يتغير في الدولتين هو حجم الانتاج والتجارة، ما مقدار السهولة التي يتم بها وما حجم الاتساع الذي يحدث فيهما. جنوب كوريا اكثر حرية ماديا وسياسيا مقارنة بنظيرتها الشمالية.
الوقت الشاق للديمقراطية
عندما جرى تطبيق التقدم الذي صنعته الثورة العلمية على المكائن، وُلدت الثورة الصناعية، والانفجار الناجم في الثروة ادى الى عصر ديمقراطي عالمي جديد من الحرية والمساواة.
مالكو المصانع وأصحاب مشاريع النسيج في بريطانيا كانوا اول من طبق العلم في التكنلوجيا على نطاق واسع في اواسط القرن الثامن عشر. كان هذا في الاساس مرحب به من جانب الحكومة التي معظمها من الارستقراط الذين كانوا متلهفين لفرض ضرائب على الثروة المتصاعدة الجديدة. والعديد من الديموقراطيات الكبيرة اليوم هي من تجار المستعمرات البريطانية السابقة التي وضع فيها التاجر حقه في الممارسة الريادية فوق العادات المحلية. القيود الثقافية عليها ان تتساهل مع حاجات مالك المصنع والصيادين التجاريين، واصحاب المتاجر. وفي عام 1840، لاحظ الكس دي توكفيل في كتابه (الديمقراطية في امريكا) ان احدى الطرق التي اختلفت بها الديمقراطيات عن الارستقراطيات في اوربا هي ان "في الديمقراطيات كل شخص يعمل".
مع ذلك، كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية دمويا. انه اخذ من البريطانيين قرنين من الزمن للحفاظ على سيادتهم واطلاق العنان لصناعاتهم، حيث بدءاً من عام 1649 جرى إعدام تشارلس الاول واستمرت تلك الاضطرابات حتى القرن التاسع عشر تحت حكم الملكة فكتوريا. في فرنسا كان التحول مضطربا وطويلا. انه بدأ بتوسيع التجارة. صعود الجاكوبيين الباحثين عن المساواة، و اعدام لويس السادس عشر في عام 1793، دفع البلاد للتراجع الى الوراء مع دكاتورية نابليون ثم اضطربت الاوضاع مرة اخرى مع الجمهورية الثالثة، حتى الوصول اخيرا الى ديمقراطية مستقرة في بداية القرن العشرين.
المحللون السياسيون الحديثون هم دائما محبطون من المسيرة البطيئة التي اتخذتها روسيا والصين لعمل التحول. لكن اذا كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية، يتطلب قرنين من الزمن في بريطانيا وفرنسا لماذا يجب على روسيا والصين ان تكون قادرة على فعل هذا بوقت أسرع؟
في كل ديمقراطية وليدة، تبرز نماذج شائعة. اول الناس في شراء مصنع او تبنّي ثقافة المتجر يمكن ان يصبح ثريا. اذا كان التجار يكسبون سلطة اجتماعية كبيرة قبل استكمال التحول الى الديمقراطية، فان الاوتوقراطيين الموجودين عادة يجدون اسبابا لسجنهم او قتلهم لمصادرة ثروتهم. نفس الحالة برزت في امريكا عندما كان الصناعيون الرواد مثل كارنجي و فورد عرضة للسخرية في الصحف حيث جرى وصفهم كـ "بارونات اللصوص". ولكن لحسن الحظ، تشكلت الديمقراطية سلفا في امريكا، واولئك الصناعيون الكبار تُركوا دون مساس ليخلقوا المزيد من الثروة.
القادة السياسيون الذين لا يفهمون محرك الانتاج والتجارة اللذان يقودان العقلية الديمقراطية يتصورون ان الديمقراطية يمكن فرضها على الناس. التفكير يقوم على انه اذا كانت الامم الفقيرة يمكن جعلها تفهم فقط منافع الديمقراطية، فهم سيطالبون بها لانفسهم. الافتراض هو انه، عبر غزو بلد ووضع مواطنيه في صفوف منتظمة للتصويت ، فان الديمقراطية ستُخلق بشكل رائع. لكن من الخطأ الاعتقاد ان الناس يمكن تعليمهم او تحويلهم الى الديمقراطية مالم تستطع القوة الغازية بناء اساس واسع للانتاج والتجارة في الارض المستعمرة – كما حصل في اليابان وجنوب كوريا بعد الحرب العالمية الثانية – جهود الناس نحو الديمقراطية محكوم عليها بالفشل، طالما ان الحرية السياسية مشتقة من الانتاج الحر.
هل يمكن للامة ان تكون ذكية وشعبها غبي؟
الكتاب السياسيون ينتابهم القلق حول بقاء الديمقراطية. ألا يكون وضع العملية السياسية بايدي العامة امرا كارثيا مالم يتم تعليمهم الى مستوى يمكّنهم من تقدير حريتهم؟ في (اعتبارات حول الحكومة التمثيلية،1861)،اقترح جون ستيوارت مل بانه في الديمقراطية كل بالغ يستحق صوت، ربما الألمع والاكثر انجازا يجب اعطاؤه صوتين او ثلاثة.
لذا، لماذا لم تسقط الديمقراطية في امريكا عندما وُضعت عملية اختيار القادة بيد اناس قليلي التدريب وأرتال من المصوتين الاكثر جهلا؟ كعينة عن مستوى تعليم الجماهير، وفي مقابلة في الشارع كشفت ان الامريكيين غير قادرين على تحديد قارة آسيا على الخارطة، ولم يعرفوا بالضبط أية لغة يتحدث بها الناس في باريس. السبب في بقاء الديمقراطية هو واضح. ما يهم في الديمقراطية ليس مستوى التعليم لدى كل فرد، ما يهم هو مدى سهولة ان يتخصص الافراد ويتاجروا مع بعضهم البعض. السياسة لا تهم كثيرا في حياة الناس، الذي يهم هو الانتاج والتجارة. الرئيس لا يوفر الحاجات للناس، بينما محلات السوبرماركت والمتاجر توفر ذلك. لذا، فان المواطن العادي ربما يُسمح له اختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة لكن لا احد عاقل سيثق بذلك المواطن العادي في اختيار المدير المحلي لمحلات كوستكو.
الديمقراطية تنشأ من تطبيق نظرية ديفد ريغاردو "المزايا النسبية" في كتابه (حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب،1817): نحن لسنا حكماء، نحن متخصصون. التخصص يسمح لنا لإنتاج الكثير بينما نعرف القليل، لأن تركيزنا هو ضيق. فرديا، كل واحد منا يعرف القليل جدا، لكن من خلال الانتاج والتجارة مع الاخرين، نحن نستطيع امتلاك الكثير. كل ما نحتاج معرفته هو موجود في مكان ما في رؤوس جيراننا، او رؤوس جيرانهم... رجل النهضة الحديث، الذي يعرف الموسيقى الكلاسيكية والحديثة، يقرأ روايات اجنبية بلغتها الأصلية، ويستطيع التحدث حول العلوم والسياسة والفلسفة والثيولوجي، لديه القليل للحديث عنه. القليل من الناس الذين يقابلهم ربما يستطيعون فهم ما يتحدث عنه حول اي موضوع وربما ليس لديهم الرغبة في ذلك. لكن مجتمع المتخصصين المنتجين لا يحتاج لمثل هذا الشخص الواسع التعليم. (مذكرات رجل لا ضرورة له ،1943).
الديمقراطية والهندسة الاجتماعية
التجارة تعيد تشكيل أفكار الناس حول الهدف من الحكومة. في الأزمان المبكرة، تصوّر الفلاسفة السياسيون ان الهدف من الحكومة هو تحسين الناس أخلاقيا: المفكرون الاوائل مثل ارسطو وتوما الاكويني اعتبروا ان وجود الحكومة هو لجعل كل واحد من الناس أحسن حالا – ان لا يكذب كثيرا، يكون أقل تبجحا، (وبالنسبة للاكويني) ان يحب الله كثيرا. عبر جعل الناس أفضل، سنخلق امة أفضل.
في الديمقراطية الحديثة، لايزال الجدل الاخلاقي مستمراً، حول اشياء مثل زواج المثليين، مشكلة المخدرات، تغير المناخ وقضايا الاجهاض. كمخلوقات اجتماعية، الناس لازالوا متلهفين لإقناع الآخرين حول رؤاهم عن الصحيح والخطأ. لكن خلافا لما في الاوتوقراطية - حيث الرجل في القمة يضع البرامج الاخلاقية لكل الناس الاخرين – في الديمقراطية، تستلزم مثل هذه القرارات من جميع السكان البالغين الدخول في خلافات لا متناهية. لكن هذا ليس ضعفا في الديمقراطية، بل قوة. خلافا لما نسمع من النقاد، لا تشير النقاشات اللامتناهية الى ان الديمقراطية في خطر، انها تشير الى ان الديمقراطية مزدهرة. الديمقراطية تعني عدم الاتفاق. لكن اذا كان هناك فقط "طريقة صحيحة" واضحة واحدة، فاننا سنحتاج فقط الى قائد واحد متنور. كذلك، اسلوب الحياة العابر للعديد من الناس في هذه الايام يجعل من الصعب ان نعرف ما اذا كان جيراننا مثليين او ان كانوا يدخنون الماريجونا، ام انهم يؤيدون تقلبات المناخ، او ان كانوا أجروا عملية اجهاض.
آخر كلام في الديمقراطية وربما الأقل اهمية، يأتي من صناديق الاقتراع. في السوق السياسي، الناس يشترون القادة مثلما يشترون الصابون – لكنهم يستخدمون الاصوات بدلا من النقود. ولا يهم اي سياسي سيختارون، الاشياء ستكون ذاتها بعد دورة الانتخابات كما في سابقتها. لكن في النهاية، ما يهم معظم الناس هو ليس التشريعات وانما ما يحدث في السوق. الامتيازات تأتي دائما بعد ان يتمكن المرء من القدرة على الانتاج والتجارة. تاريخيا، كان التصويت دائما مقتصرا على مالكي الملكية من الرجال، ولم يتمدد لكل الرجال الاّ لاحقا. وعندما أخذت المرأة مكانها الى جانب الرجل في خطوط التجميع، فهي بالنهاية نالت مكانها الى جانب الرجل في صناديق الاقتراع ايضا. ومع اتساع الثروة، يتحدث البعض حاليا عن إعطاء صوت للاطفال – ولما لا؟ طالما تستمر المصانع والمتاجر في العمل بحرية، فسوف لا يهم ذلك كثيرا.
بالنهاية، الديمقراطيات هي بالأساس حياة تجارية، انتاجية، ومادية، وهيمنة ثقافة الديمقراطية في قبول الناس لطريقة عيش وسلوك الآخرين. الحكومة، في ممارساتها اليومية تصبح مؤسسة هدفها الرئيسي ليس جعل الناس جيدين وانما لجعلهم مزدهرين. لذا، بينما تهيمن شعارات الليبراليين او المحافظين على الحملات السياسية، لكن التشريعات "لتحسين حياة الناس" في الحقيقة تركز على دعم الشركات والضرائب وإعادة توزيع الثروة.
كيف تموت الديمقراطية؟
في العودة مرة اخرى للتاريخ، نكتشف ان الديمقراطية لن تموت، بل هي تُقتل. انها تُخنق عندما يغير المجتمع تركيزه من الانتاج والتجارة في ظل سلام وازدهار الى حروب لا متناهية وإعادة توجيه الصناعة لغايات مدمرة اجتماعيا – غايات تعرقل الانتاج المتغير وتترك أقل الخيارات المتاحة للمواطنين. مجهزو النقود هم عصب الحرب. في معظم التاريخ، هُددت الديمقراطية بإعادة توجيه الثروة لتلبية الاهداف العسكرية (رغم ان امريكا أثبتت ان أغنى ديمقراطيات العالم قادرة على تمويل حروب لا متناهية بينما سكانها في نفس الوقت يزدادون بدانة ويعيشون أطول عمرا مما في السابق).
النزعات القومية والمشاعر المضادة للأجانب يمكنها ايضا ان تخنق الحاجة للمهاجرين مما يخلق نقصا في العمالة الامر الذي يؤدي الى رفع كلفة الصناعة. واذا اصبح المحتجون في الشوارع والذي هو امر عادي وطبيعي في المجتمعات الحرة اكثر عنفا، فان المواطن القلق عادة يستجيب بمنح الحكومة سلطة بوليسية مفرطة قد تتوسع بالنهاية الى قبضة قوية في السيطرة على الاقتصاد. تاريخيا، رغم ان الناس يتنازلون عن الحرية مقابل الأمان، كما شهدنا مؤخرا، في إغلاق كل الاقتصاديات لأعمالها استجابة لإنفجار الوباء، كي يظهر القادة كمنقذين لناخبي الغد. حاليا، يرتبط السياسيون الاشتراكيون الميالون لليسار بالقوميين الميالين لليمين، وان شركات الأعمال تواجه ضغطا لتغيير تركيزها من الانتاج الفعال الى الاهتمامات الاجتماعية التي ترضي غايات ليبرالية. في امريكا، يُتوقع ان تفضل اسواق السندات الشركات التي تمتثل لمعايير "متنوعة". هيئات ادارة الشركات الكبرى تواجه ضغطا لتوسيع متطلبات التوظيف لتلبية رغبات تتعدى المنافسة الريادية، وانما لتنظر في عوامل مثل جنس او عرق العاملين. شركات الأعمال برزت من عدة ديمقراطيات مختلفة، جاعلة الملايين أغنى وأكثر حرية عبر تجاوز الأصفاد التي وُضعت عليهم من جانب سلطاتهم السياسية والدينية والثقافية.
***
حاتم حميد محسن

 

تشكل الثقافة المحلية هوية المجتمعات والأماكن، وتتكون من مجموعة من القيم والمعتقدات والتقاليد التي تمتد عبر الأجيال. تعكس الثقافة المحلية تاريخًا طويلًا للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شكّلت المجتمع. قد تشمل الثقافة المحلية الأعراف السلوكية واللباس التقليدي والممارسات الدينية والعادات الغذائية والتقاليد الاجتماعية الفريدة باختلاف البلدان والمجتمعات، عادة ينشأ الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية نتيجة توتر القيم بينهما. تعبّر الثقافة المحلية عن تمسك المجتمعات بالقيم التقليدية والقوانين المجتمعية والدين والعادات المترسخة. ومن جهة أخرى، تعبّر الثقافة الافتراضية عن القيم العالمية المنتشرة وتسعى إلى تحقيق التواصل والتفاعل العابر للحدود
إن الاحتفاظ بالتراث المحلي والتقاليد يساهم في إثراء المشهد العالمي وتعزيز التعايش والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة. وبفضل التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال، أصبح التفاعل الثقافي بين الثقافات المحلية والعالمية أكثر سهولة ووصولًا. وفي المقابل فإن الاندماج المفرط للثقافة العالمية قد يؤدي إلى فقدان الهوية المحلية وتشويه التراث الثقافي،، دون شك فإن التوجس قائم عند المهتمين بالثقافات المحلية على مستوى العالم ومدى تأثرها من الثقافة الافتراضية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل للثقافة الافتراضية بعض مظاهر التأثير الإيجابي على الثقافة المحلية؟
يعيش العالم اليوم في عصر العولمة والتكنولوجيا الرقمية، حيث يتم تقريب المسافات وتواصل الثقافات المختلفة بسهولة من خلال وسائل الاتصال الحديثة. ينشأ في هذا السياق صراعات وتوترات بين الثقافة المحلية، التي تعكس الهوية والقيم التقليدية للأماكن والمجتمعات، وبين الثقافة الافتراضية، التي تتأثر بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة وتعبّر عن القيم العالمية المنتشرة في الفضاء السيبراني. يُعد صراع القيم بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية موضوعًا مهمًا ومثيرًا للجدل في عصرنا الحالي، أحد التوترات الرئيسة بين الثقافة المحلية والثقافة الافتراضية يتمثل في التأثير على الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات مما يجعل بعض الأفراد يشعرون بتشويش هويتهم الثقافية بسبب تأثير الثقافة الافتراضية، حيث يتعرضون لقيم ومعتقدات مختلفة تتعارض مع تلك التي نشأوا في ظلها
يمكن أن يكون للثقافة الافتراضية تأثيرات إيجابية من خلال توسيع آفاق المجتمعات وتعزيز التفاهم العابر للثقافات وتمكين الأفراد من المشاركة في المجتمعات الافتراضية والمنتديات الثقافية الفضائية للتعرف على ثقافات أخرى وتبادل الأفكار والتجارب عبر منصات التواصل الرقمية. هذا التفاعل يمكن أن يساهم في غرس التفاهم والتسامح بين الثقافات المختلفة. كذلك فإن الفضاء الافتراضي يوفّر للأشخاص البحث عن تاريخ وتراث ثقافات مختلفة، واستكشاف الآداب والفنون التقليدية مما يعزز التعلم والتحسين الشخصي، ويعطي الفرصة للأفراد لتطوير فهم أعمق للثقافات الأخرى، وهي تكون فرصة مواتية للفنانين والمبدعين المشاركة في المنصات الرقمية لعرض أعمالهم والتواصل مع جمهور عالمي لتحفيز تجاربهم الجديدة وتبادل الأفكار والتقنيات، مما يعزز الإبداع والتنوع في الثقافات المحلية، وتحافظ على التراث واللغة من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة لرقمنة الموارد والمعلومات الثقافية وتوثيق اللغات لتفادي احتمالية انقراض بعض مفرداتها عبر الزمن مما يساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية والتراث العريق للمجتمعات المحلي
صراع القيم بين الثقافات عملية معقدة تتطلب التوازن والحوار بين الثقافات المختلفة، على أن يتم التركيز على تعزيز التراث المحلي والقيم التقليدية، يجب أن يكون هناك توازن بين الثقافة المحلية والعالمية، وضمان أن الثقافة المحلية لا تتأثر سلبًا بالثقافة الافتراضية، بل يتم تعزيزها وتثمينها والاستفادة من الثقافات المتنوعة لبناء عالم يتسم بالتعايش السلمي والتقدم المشترك، ومع ظهور التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، أصبحت الثقافة جزءًا أساسيًا من حياة الناس. تتيح هذه الوسائل للأفراد التواصل والتفاعل مع ثقافات مختلفة والوصول إلى معلومات ومحتوى غير محدود الأمر الذي يجعل الثقافة الافتراضية عاملاً مؤثراً في القيم والمعتقدات والسلوكيات بحسب الشعوب المستقبلة وقوة ثقافتها ووعيها، . يجب أن يكون هناك توازن بين الثقافة المحلية والعالمية، وضمان أن الثقافة المحلية لا تتأثر سلبًا بالثقافة الافتراضية، بل يتم تعزيزها وتثمينها والاستفادة من الثقافات المتنوعة لبناء عالم يتسم بالتعايش السلمي والتقدم المشترك
***
نهاد الحديثي

 

تعدد معاني مفهوم "الثقافة"

قيل أن علم الأنثروبولوجيا كان منظماً حول مفهوم الثقافة، ولا يزال هذا المفهوم يشكل مفهوماً أساسياً لهذا التخصص، كمرجع عالمي لـ"مجموع أسلوب حياة شعب ما"، له ارتباط عميق وحميم مع جوهر تجربة العمل الميداني لعلماء الأنثروبولوجيا: اكتشاف الارتباط الوثيق بين السلوكيات اليومية والمعتقدات والأنشطة الإنتاجية وما إلى ذلك، لمجتمع أو جماعة معينة، مبنية حول أنظمة الرموز. كما وفر مفهوم الثقافة، الذي طوره علم الأنثروبولوجيا الناشئ، وسيلة مهمة لتحقيق هذه الغاية المتمثلة في اكتشاف النظام في التنوع، وقد جمع هذا المفهوم بين ثلاثة جوانب جعلت منه مفهوما قيما:
أولا: العالمية: لدى جميع البشر ثقافات تساهم في تحديد شخصيتهم الإنسانية المشًتركة.
ثانيا ً، التركيز على التنظيم: إن كل الثقافات متماسكة ومترابطة، بدءا من الأنماط العالمية المشتركة بين كل أساليب الحياة (على سبيل المثال، الأعراف المتعلقة بالزواج، والتي تسود في كل ثقافة) إلى الأنماط الخاصة بوقت أو مكان محدد.
ثالثا، الاعتراف بالثقافة كثقافة، وهو أمر ضروري. حيث كل ثقافة هيً نتاج جماعي للجهد والمشاعر والفكر الإنساني...
وكان هناك جانب مركزي آخر لهذا المفهوم للثقافة الذي طورته الأنثروبولوجيا وهو إنكار الأساس البيولوجي لهذه السلوكيات البشرية، أي التعارض بين الطبيعة والثقافة.
بناء "مفهوم الثقافة"
لم يتم ابتكار مفهوم "الثقافة" بشكل عفوي، ولم يظهر بين عشية وضحاها، إنما المصطلح المستعمل للإشارة إلى معناها الأنثروبولوجي لم يكن محايدا، بل هو محملّ بالتاريخ، والذي سنشير إليه بإيجاز، وهذا يعني أن المعاني المختلفة المرتبطة بمفهوم "الثقافة" تتعايش حاليا في الاستخدام الاجتماعي والعلمي.
ففي الإطار الذي يوفره نشر فكر التنوير، وفي السياق الاقتصادي السياسي الذي اتسم بصعود البرجوازية، تم تطوير سلسلة من المفاهيم المترابطة: المجتمع والحضارة والاقتصاد والسياسة، وثقافة، هو المفهوم الذي يهمنا بشكل رئيسي في هذه المقالة.
دون أن ننسى المخاوف بشأن عملية تشكيل المفاهيم، والتي ليست مجرد رغبة في صنع التاريخ، كما يعبر رايموند ويليامز (Raymond Williams (1921-1988)):
"عندما تتوقف المفاهيم الأساسية ـ المفاهيم التي ننطلق منها كما يقولون ـ فجأة عن كونها مفاهيم وتتحول إلى مشاكل؛ ليست مشاكل تحليلية، بل حركات تاريخية لم تحل بعد فلا جدوى من الاستماع إلى دعواتها الرنانة أو دويها المدوي، وإذا كان بوسعنا أن نفعل ذلك، فلابد أن نقتصر على استعادة الجوهر الذي نشأت منه أشكالها" (ريمون ويليامز، الثقافة في الماركسية والأدب، ص21 ط.1980).
وبطبيعة الحال، فإن هذه المفاهيم ذات أهمية حاسمة، وكما يشير ويليامز، فإن أشكالها الحالية هي في الواقع صدى لسلسلة من المشاكل التي لم يتم حلها بالكامل منذ صياغتها الأولية، وبقدر ما يشكل كل منها محاولة للتعامل مع تعقيد العالم الاجتماعي من زوايا مختلفة ولكنها متكاملة، فإن نطاق أهمية كل منها يشمل الزوايا الأخرى أو يؤثر عليها. دعونا نلاحظ ما عبر عنه ويليامز:
كان "المجتمع" عبارة عن "فعل مشترك"، قبل أن يصبح وصفاً لنظام أو أمر عام، كما كان "الاقتصاد" هو إدارة وسيطرة منزل الأسرة، ثم إدارة منزل آخر. ثم إدارة المجتمع، قبل أن يصبح وصفاً لنظام ملموس للإنتاج والتوزيع والتبادل. "كانت الثقافة، قبل هذه التحولات، تمثل نمو وتقدم المحاصيل والحيوانات، وبالتالي نمو وتقدم القدرات الحديثة"، وعليه الافتقار إلى وحدة مفهوم الثقافة، بقدر ما يبدو كأداة استدلالية أو طريقة لرؤية الحقائق الاجتماعية. يرتبط محتواه بمواقف نظرية أكثر عمومية، والتي بدورها يجب وضعها في سياق الظروف النظرية والاقتصادية والسياسية الخاصة التي تتطور فيها. وبالتالي يكون مفهوم الثقافة هو مفهوم "مبُنىَ"،
واللحظة التاريخية التي تتوافق معها هذه التطورات وضعها ويليامز في القرنين السادس عشر والسابع عشر (المقابلة لصياغة مفاهيم المجتمع والاقتصاد)، في حين أن مفهوم الاقتصاد كان لا يزال موجوداً في القرن الثامن عشر. كثقافة ظهرت متماثلة مع عمليات الإنتاج والتوزيع ويذكر في الاقتباس: نمو النبات والحيوان، وتطور العقل وإثرائه. بينما في القرن الثامن عشر، أصبحت ثقافة-المفهوم الذي احتوى على فكرة التحسين، وكان له مصطلح آخر قريب، ومختلف في نفس الوقت، لم نشير إليه حتى الآن: الحضارة.
"مفهوم الحضارة" إنه يشير إلى حقائق متنوعة للغاية: سواء الدرجة التي وصلت إليها التكنولوجيا، أو نوع العادات السائدة، أو تطور المعرفة العلمية، أو الأفكار الدينية والعادات ...
وإذا حاولنا التحقق من الوظيفة العامة التي يؤديها مفهوم "الحضارة" في الواقع، فإننا نصل إلى استنتاج بسيط للغاية"... إن المفهوم يلخص كل ما يعتقد المجتمع الغربي في القرنين أو الثلاثة قرون الماضية، أنه يتمتع بميزة على المجتمعات السابقة أو على المجتمعات المعاصرة "الأكثر بدائية.
لكن الحضارة لم يكن لها نفس المعنى بالضبط في إنجلترا كما هو الحال في ألمانيا (الدول الرئيسية، لاحقاً، لتطوير المفهوم الذي يهمنا هنا)، بينما الحضارة يلخص الفخر الذي يأتي من أهمية أمة المرء في التقدم الشامل للغرب..
في ألمانيا، دلالة الحضارة كانت أقرب إلى الخارج والمنفعة، هناك الكلمة التي تعبر عن الفخر بمساهمتك الشخصية ...هي ثقافة... وفي الوقت نفسه، فإن المفهوم الفرنسي لـلحضارة انعكس على "المصير الاجتماعي المحدد للبرجوازية الفرنسية بنفس القدر الذي يعكس به مفهوم "الثقافة" مصير البرجوازية الألمانية .كما يعكس مفهوم "الثقافة" مصير البرجوازية الألمانية الحضارة، إن الحضارة، مثلها كمثل "الثقافة"، تشكل في الأساس أداة في يد دوائر المعارضة في الطبقة المتوسطة وخاصة في المواجهة الاجتماعية الداخلية (مع صعود البرجوازية، حيث يشير هذا المصطلح إلى العمليات الوطنية الفرنسية آنذاك) وهكذا، طوال القرن الثامن عشر، ظل هذين المفهومين الثقافة والحضارة غامضين للغاية . ولكن هذه هي لحظة تكوين جذور الاستخدامين لمفهوم الثقافة اللذين سيظلان ساريين حتى اليوم: وهو ما يشير إليه ويليامز عندما يسلط الضوء على أن المفاهيم الحالية لا تزال تتضمن مشاكل لم يتم حلها بعد لهذه المفاهيم.
من ناحية أخرى، هناك مفهوم مرتبط بشكل واضح بفكر التنوير، والذي يسميه مؤرخ الفكر الأنثروبولوجي جورج ستوكينج (George W. Stocking Jr. -1928/2013) بديل إنساني لمفهوم الثقافة: بمعنى فكرة ثقافة باعتبارها قابلة للتحسين، نظرا لًافتراض إمكانية التحسين التدريجي (1982.Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie: كتاب).
وفي الوقت نفسه، ظهرت نسخة أولية من المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة. كما يشير مؤرخ آخر للأنثروبولوجيا، مارفن هاريس (Marvin Harris (1927-2001)، كتاب نشوء الثقافات)، فإن الأمر المهم ليس العثور على "التعريف الأول" للثقافة، بل العثور على إصدارات ناشئة، حتى ولو كانت المصطلحات المستخدمة مختلفة. كما يجد هاريس هذه الصياغات السابقة في فكر جون لوك (1632-1704)، الذي زعم في "مقال حول الفهم البشري" أن الأفكار التي يسكنها العقل آنذاك يتم اكتسابها خلال عملية نسميها الآن التثاقف الداخلي كانت الفكرة المركزية هي أنه على الرغم من وجود قدرات بشرية مميزة، تتعارض بالتالي مع قدرات الحيوانات، إلا أنه لا توجد أفكار فطرية .لقد كان أي تلميح للنسبية مفقوداً بالفعل، هنا سيكون هذا هو الأساس الذي ينطلق منه البديل الأنثروبولوجي لمفهوم الثقافة: أي الإرتكاز على فكرة النسبية التي تؤكد على المساواة في صحة عادات وقيم الشعوب الأخرى؛ الاهتمام بالظروف التي تضمن صيانة النظام؛ الفكرة هي أننا نتحدث عن تعدد الثقافات المنظمة بشكل متساو للاستجابة لكافة متطلبات الحياة البشرية.
"على النقيض من الثقافة الإنسانية التي كانت مطلقة وعرفت الكمال، كانت الثقافة الأنثروبولوجيا نسبية؛ فبدلا من البدء بتسلسل هرمي موروث من القيم، افترضت أن كل مجتمع، من خلال ثقافته، يسعى إلى القيم ويجدها بطريقة ما؛ والثقافة الإنسانية تقدمية، والثقافة الأنثروبولوجيا متوازنة؛ والثقافة الإنسانية مفردة، والثقافة الأنثرولوجيا جمعية، والثقافة الإنسانية تميز بين درجات الثقافة؛ وبالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا، فإن جميع البشر متساوون في الثقافة" (ستوكينج، المصدر السابق: Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie ).
أصبح مفهوم الثقافة راسخاً في اللغة الألمانية يخبرنا ألتان (ألتانCarlo Tullio Altan 1916-2005، دليل الأنثروبولوجيا الثقافية: التاريخ والطريقة (1979)(، أن أول من استخدم المصطلح "ثقافة" بالمعنى الحديث كان (S. Pufendorf )1632-1694 ) ) وفي وقت لاحق، سوف يميز صورة (درجة الاستعداد الفردي (ثقافة) التي تدل على تراث المعرفة الجمعية والمجموعية). لكن لا يتم التمييز بشكل جيد بين هذا المعنى الثاني ومصطلح آخر استخدم في فكر التنوير (على سبيل المثال عند جان جاك روسو)، كان هناك تناقض: تم استدعاء الشعب في الخطب ضد الطغيان، وفي الوقت نفسه تم التشهير به، ولكن "بإسم العقل" (مارتن باربيرو، ج كتاب "من وسائل الإعلام" (1987).
في هذه الحركة، يتم تقسيم فئات "المثقف" و"الشعبي" (مثل غير المثقف). وسوف يكون ذلك في وقت لاحق، عندما يفترض الرومانسيون أنهم أيضاً ثقافة منتجات الحياة القروية: "... تبني الرومانسية خيالا جديداً يكتسب فيه ما يأتي من الناس لأول مرة مكانة الثقافة.
ولكن هذا بدوره لم يكن ممكناً إلا إلى الحد الذي تغير فيه معنى مفهوم الثقافة ذاته. ومن الأمثلة الجيدة على العلاقة بين التغيير في فكرة الثقافة ووصول العامة إلى الفضاء الذي يغطيه المفهوم الجديد، في حقيقة الأمر كتاب هيردر (Johann Gottfried (von) Herder 1744-1803)، الذي نشر في عام 1778 كتاب "الأشعار الشعبية: الحداثة والتطور"، حيث قدم الشعر الأصيل الذي يخرج من الناس...وبعد سنوات قليلة فقط، في عام 1784، كتب أفكار لفلسفة التاريخ البشري، الذي أثار الحاجة إلى قبول وجود تعدد الثقافات، أي الطرق المختلفة لتكوين الحياة الاجتماعية".(مارتن باربيرو، ج كتاب "من وسائل الإعلام" (1987) ) وإذا تتبعنا إذن التغيرات التي طرأت على فكرة الثقافة في ظل الرومانسية، فسوف نرى أنها تبتعد عن فكرة الحضارة، وفي الوقت نفسه، ومن خلال إثارة الطبيعة التعددية للثقافات، فإنها تعمل على تطوير "الطلب على طريقة جديدة للمعرفة: وهي منهج المقارنة" (مارتن باربيرو، المرجع السابق).
كما تظهر هذه الفكرة التعددية لمفهوم الثقافة في أعمال ألكسندر فون هومبولت (Alexander von Humboldt 1769-1859)، رحالة ألماني سافر بشكل خاص عبر أمريكا الجنوبية، ووصف ورسم المناظر الطبيعية ورسم المدن والشخصيات المميزة لكل منطقة. وهناك ظهرت تجربة تنوع الثقافات بشكل واضح في كتاباته لمفهوم ثقافة، يتم استخدامه في صيغة الجمع.
وهكذا، تمكن غوستاف كليم (Gustav Klemm) في عام 1843 في كتابه "التاريخ الثقافي العام للإنسانية"، من توضيح أن الثقافة هي "العادات، والمعلومات، والتقنيات، والحياة المنزلية والعامة، في السلم أو الحرب، والدين، والعلم والفن".
ولكن لا ينبغي لنا أن نفسر هذا المفهوم لـ "الثقافة" في ألمانيا في القرن التاسع عشر في ضوء ما يعنيه هذا المفهوم اليوم، فألمانيا، التي لم تكن قد ترسخت بعد كأمة موحدة، والتي تم دمجها في وقت متأخر من عملية التصنيع الأوروبية، كانت تفتخر بمصطلحات شوفينية بأنها "عرقية"، أي مجتمع ثقافي وليس سياسياً، وهو الموقف الذي رافق استخدام مفهوم الثقافة في هذا المجال حتى أيام هتلر: "إن الثقافة، التي ينُُظر إليها على أنها مجموعة غير قابلة للتكرار من الصفات والأنماط والإنجازات، المحلية في الأصل والمعنى، نشأت من هذا السياق." (BECKER, H. "Anthropology and sociology ).
رغم كل هذه الخلفية، فإن علم الأنثروبولوجيا كان له مع ذلك "قصته الأسطورية" الرسمية، والتي بموجبها كان هذا المفهوم - في استخدامه الأنثروبولوجي - من نتاج الإنجليزي إي .بي .تايلور، الذي بينما كان يعرفِّ "الثقافة" وضع برنامج إنشاء تخصص علمي ينبغي أن يعترف به باعتباره بطله المؤسس: وفقا لتايلور، "الثقافة أو الحضارة، بالمعنى الاثنوجرافي الواسع، هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وأي عادات وقدرات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع" (تايلور، Edward Burnett Tylor 1832-1917، علم الثقافة 1871).
وسوف يتولى المؤرخ جورج ستوكينج، الذي ذكرناه آنفاً، مهمة كشف غموض هذه القصة تماماً. ولتحقيق هذه الغاية، يسلط الضوء أولا عًلى ضرورة إعادة فكر تايلور إلى سياق عصره، وهو ما سيقودنا إلى إدراك أن فكرته عن الثقافة كانت "ربما أقرب إلى الصياغة الإنسانية منها إلى المعنى الأنثروبولوجي". لاحظ أن تايلور يستخدم كمرادفات ثقافة أيضاً الحضارة: دعونا نتذكر أنه في ذلك الوقت، الحضارة لقد كانت أعلى مرحلة في سلسلة تمت صياغتها صراحة (من بين أمور أخرى بواسطة لويس هنري مورجانLewis Henry Morgan 1818-1881 ) والتي بدأت بـ "الوحشية"، ومررت بـ "الهمجية" وانتهت على وجه التحديد في "الحضارة".
لذلك، على الرغم من أن مفهوم الثقافة هذا يتضمن فكرة تعدد من أشكال الحياة (أو تسميتها بالحضارات أو الثقافات)، فمن الواضح أن تايلور كان يفكر في درجات الثقافة من حيث أنها شاركت في مقياس التقييم والتطور في لحظتها التاريخية. وهذا ما قاله تايلور في الفقرة الافتتاحية لكتابه: "...يجب أن يعُُزى التوحيد الذي يميز الحضارة إلى حد كبير، إلى الفعل الموحد للأسباب الموحدة، بينما من ناحية أخرى، ويجب اعتبار درجاتها المختلفة مراحل من التطور أو التنمية، كل منهما نتيجة للتاريخ السابق ... تهدف هذه المجلدات إلى التحقيق في هذين المبدأين العظيمين في أقسام مختلفة من الأثنوجرافيا، مع الاهتمام بشكل خاص بـحضارة القبائل الدنيا في علاقتها بالأمم المتفوقة..."(تايلور، المصدر السابق). وبحسب التحليل المفصل الذي أجراه ج .ستوكينج، لم يكن هناك احتقار صريح لما هو أدنى عند تايلور، ولكنه لم يتردد في اعتبار الحضارة الأوروبية هي الشيء الأكثر كمالا الذي حققه الإنسان على أي حال، "كان بإمكاني تعريف الثقافة بشكل أفضل على أنها "تقدم" ذلك الكل المعقد"". (ستوكينج، Race, culture et évolution : essais sur l'histoire de l'anthropologie المصدر السابق).
في فجر القرن العشرين، في زمن التوسع الرأسمالي الأعظم قبل الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، عاد مفهوم الثقافة إلى الظهور، وهو في هذه المرحلة ارتبط بشكل وثيق بالتجربة الناشئة لعلماء الأنثروبولوجيا، في مجتمعات صغيرة ومعزولة، حيث كانت العلاقة "مجتمع واحد - ثقافة واحدة"، في ذلك الوقت، بدأ فرانز بواس (Franz Boas 1858-1942)، وهو عالم ألماني متخصص في العلوم الطبيعية، نشاطه وطور كامل عمله كباحث ميداني. وباعتباره معلماً في الولايات المتحدة الأمريكية . يشير ستوكينج (ستوكينج، ب 1968) إلى أن تعليمه الألماني تضمن معرفة مفهوم "الثقافة"، الذي استخدمه في أعماله المبكرة في نسخته الإنسانية، مع التركيز على مشاكل التطور: كظاهرة مفردة موجودة بدرجة أكبر أو أقل في شعوب مختلفة .
ابتداء مًن عام 1910، تعامل هو وطلابه مع مفهوم الأنثروبولوجيا التعددية. فكان واحدا من أبرز منتقدي نظرية التطور. حيث العديد من أفكار بواس، التي علمها لطلابه، تعتبر سمة مميزة لعلم الأنثروبولوجيا الأمريكي المبكر.
وتضمن انتقاده للتطور أيضاً اقتراحاً منهجياً: للتخلص من الدراسات المقارنة، التي ميزت عمل علماء الأنثروبولوجيا التطورية، واستبدالها بدراسات مفصلة، والتي تم تضمينها في دراسات مخصصة لقبائل معينة. وحينها فقط، وباستخدام مفاهيم مثل "مجالات الثقافة"، سيكون من الممكن الانتقال إلى المقارنة والتعميم في نهاية المطاف.
ومن بين المطالب المنهجية الأخرى التي طرحها بواس، دراسة الثقافات المتنوعة "من الداخل" وليس من وجهة نظر الباحث. كما أصر على ضرورة مراجعة التكييف الثقافي الخاص بنا، مشيرا ًإلى أنه ليس من الصعب أبدا التخلي عن المنظور الثقافي الخاص بنا (تحدث بواس عن "Kulturbrille" - شيء مثل النظارات الثقافية) كما هو الحال عندما نلاحظ مجتمعنا الخاص ( Carlo Tullio Altan، دليل الأنثروبولوجيا الثقافية .1979).
(يتبع..)
***
أ. مراد غريبي

ترجمة: د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

" لن ينتهي مارتن هيدجر أبدًا من الكتابة عن فريدريك نيتشه. بعد عمله الذي لا يُنسى بعنوان نيتشه، إليكم طبعة جديدة حول السؤال الإشكالي للغاية المتمثل في الميتافيزيقا في عمل مؤلف هكذا تحدث زرادشت. هذا عمل آسر تمامًا يجمع بين نص عن إكمال الميتافيزيقا التي قام به نيتشه وفقًا لهيدجر ونص متقاطع بين مفكر وشاعر: نيتشه وهولدرلين. ولذلك يجمع هذا العمل بين دورتين دراسيتين أراد هيدجر نشرهما معًا.
الأول: أن «ميتافيزيقا نيتشه» لا تقدم نفسها كعرض للمذهب، بل تقودنا إلى فهم كيف أن فكر نيتشه تحركه الميتافيزيقا بالكامل، إلى درجة أنها تعطيه وجهه النهائي وصورته المكتملة. في الواقع، بينما يدعي نيتشه أنه البادئ لبداية جديدة حقًا في الفلسفة، فإن هيدجر يرى فيه، على العكس من ذلك، الإنجاز المهيب والمثير للقلق للميتافيزيقا الغربية. من خلال الأولوية التي يفترضها مفهوم القيمة هنا، من خلال المحو الكامل لفكرة الوجود، من خلال مفهوم إرادة الاقتدار حيث يبلغ ذروته ادعاء الذات بـ "إيواء" الكائن وفقًا للمعايير المخططة للوجود. مع التكنولوجيا، واعتذار الإنسان الأعلى (الذي يؤكد الطموحات الفانية للذات)، وأخيرًا جميع الأحكام المسبقة التي يتم من خلالها نقل اللافكر في التقليد الميتافيزيقي، فإن فلسفة نيتشه، وفقًا لهيدجر، ستنتمي إلى تاريخ " "نسيان الوجود" الذي يحدد في نظره ماهية هذه الميتافيزيقا. إن فاحص كتابات نيتشه يجد صعوبة في دعم مثل هذه القراءة، التي يمكن الإعجاب بنطاقها وغناها وثرائها.
أما النص الثاني، الذي يحمل عنوان "مدخل إلى الفلسفة والتفكير والشعر" فيهدف إلى تعميق ما سبق أن رأيناه في "ميتافيزيقا نيتشه": إن اكتمال الميتافيزيقا يشير إلى ضرورة العلاقة بين الفكر والشعر. يمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن تعليق يركز على موضوع التأويل والحقيقة، والذي من شأنه أن يثبت قدرته على حماية الديناميكية البناءة للفكر النيتشوي، وخاصة ضد المحاولات المتكررة لضم نيتشه إلى الشكليات الدوغمائية التي قدم حولها هو نفسه، تحسبا لذلك، دحضا بارعا. لقد "تشكل هذا الفكر من خلال "البناء". إنه يبني شيئاً بحيث لا يقف بعد على الإطلاق ــ وربما لن يضطر أبداً إلى الوقوف مثل ما هو أمامه. الباني هو البناء." نيتشه، الذي شرع لأول مرة في إظهار أن التأويل الميتافيزيقي يشكل تزييفًا متعمدًا، وينتقد الميتافيزيقي لأنه أعطى قراءة معيبة لنص الطبيعة. انه "مهلوس من العالم الآخر"، لا يفك الميتافيزيقي الظواهر كما هي، بل يخفيها تحت إسقاطات خيالية. إنه يصوغ مفهوم "الوجود" من كراهية الصيرورة والحياة. ولكن بما أن هذا الواقع هو الوحيد الموجود الذي نصر على تفنيده باتهامه بمجرد المظهر، فيجب أن نستنتج أن الميتافيزيقا ليست سوى تلفيق حول العالم. المثل الأعلى هو العدم المبني في صنم. لأن «الإنسان، بحسب نيتشه، يبحث عن مبدأ يستطيع باسمه أن يحتقر الإنسان؛ يخترع عالمًا آخر ليتمكن من تشويه هذا العالم وتلطيخه؛ في الواقع، هو فقط يدرك العدم ويجعل من هذا العدم "إلهًا"، "حقيقة"، مدعوًا للحكم على هذا الوجود وإدانته. لذا، باعتباره مفكرًا في هذا الزمن من اكتمال الميتافيزيقا، أصبح نيتشه شاعرًا. شاعر هذا الزمن، مثل هولدرلين الذي أصبح مفكراً لمعاصريه. من هذا القرب المذهل بين الفكر والشعر، يقدم هيدجر تأملًا يأخذ مصدره في التاريخ، لأن نيتشه وهولدرلين مفكران وشاعرين بمجرد أن يتعين عليهما مواجهة ما هو "الشرق" في عصرنا. في الواقع، في هذا الجدل الفكري الذي يتساءل عن العلاقة بين الفكر والشعر، يتم دفعنا بمهارة إلى التفكير فيما يعنينا جميعًا بشكل أساسي.
***
......................
المصدر
استكمال الميتافيزيقا والشعر: ميتافيزيقا نيتشه – مدخل إلى الفلسفة. التفكير والشاعرية، ترجمة. من الألمانية بقلم أديلين فرويدكور، 208 صفحة، مجموعة مكتبة الفلسفة، أعمال سلسلة مارتن هيدجر، غاليمار، مارس 2005
Achèvement de la métaphysique et de la poésie : La Métaphysique de Nietzsche - Introduction à la philosophie. Penser et poétiser, trad. de l'allemand par Adeline Froidecourt, 208 pages, Collection Bibliothèque de Philosophie, série Œuvres de Martin Heidegger, Gallimard, Mars 2005

لمَن لم يسمع بإخوان الصَّفا وخلان الوفا، فإنّهم جماعة شغفتهم الفلسفة، ظهروا في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، بالبصرة وبغداد، كتبوا إحدى وخمسين رسالة في مختلف العلوم، عُرفت بـ«رسائل إخوان الصّفا»، حوت مختلف العلوم، ومنها الطّب. يعود الفضل لأبي حيان التّوحيديّ (ت: 414 هـ) في التعريف بهم، وذكرهم في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، أّما علاء الدّين عليّ بن الحزم الشَّهير بابن النّفيس (ت: 687 هـ)، فطبيب شاميّ، له مؤلفات جليلة في الطّب، اشتهر باكتشافه للدورة الدَّموية الصّغرى، بعده بقرون اشتهر الطَّبيب الإنجليزي وليام هارفي (ت: 1657) باكتشاف الدَّورة الدَّمويّة الكبرى، والصُّغرى ضمنها.
لا أفترض أنَّ إخوان الصّفا هم الأوائل، لا بد أنهم أخذوا أوليات ممِن سبقهم، فالجزم بالأوائل إشكالية كبرى، يصعب أخذها باليقين، فليس مِن العِلم الاِعتداد بمصنّف أبي هلال العسكريّ (ت: 395 ه) «الأوائل» كمصدر موثوق. لذا، أخذت ما تقدم به إخوان الصّفا، في شأن الدّورة الدّموية الصُّغرى، وما يخص تصفية الدم، وعمل الكُلى، والكبد، وغيرها مِن مقالاتهم الطّبيّة، أنَّهم سبقوا ابن النَّفيس بثلاثة قرون، وهارفي بسبعةٍ، لكنني لا أجزم بأنَّ ابن النَّفيس اطلع على ما صنفه إخوان الصّفا، ولا هارفي اطلع على مؤلفات ابن النفيس، فالطب علم لا تخلو اكتشافاته أو اختراعاته مما يُعرف بـ«توارد الخَواطر»، ولو أن ما ورد ليست خواطر، إنَّما حقائق علميّة. نقرأ عند إخوان الصَّفا عن عمل الرِّئة وتدفق الدَّم إليها، بما نعتبره تصوراً علميّاً، حُقق طبيَّاً، في ما بعد، على يد ابن النَّفيس وهارفي، عبر التشريح.
طرح إخوان الصَّفا تصوراتهم في رسالتهم الخاصة بتكوين أجسام الحيوانات، وسموا الرّئة «بيت الرّيح» (الرسائل، الثامنة من الجسميات الطبيعيات). وعن طبيعة علاقة «بيت الرّيح» بالقلب، وتجهيز الجسم الحي بالهواء، جاء في الجهاز التنفسي: «يخدمها ويعيّنها (الرِّئة) في أفعالها أربعة أعضاء أخرى، وهي: الصّدر والحِجاب، والحلقوم والمنخران، وذلك أنَّه مِن المنخرين يدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه.. ويصل إلى الرّئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب، ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ مِن القلب إلى العروق الضّوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذّي يسمى النّبض، ويخرج من القلب إلى الرّئة الهواء المحترق (ثاني أوكسيد الكربون من دون أن يسموه)، ومن الرّئة إلى الحلقوم إلى المنخرين أو الفم، والصّدر يخدم الرّئة من الآفات العارضة لها، عند الصّدمات والدّفعات، واضطراب أحوال البدن» (المصدر نفسه).
أورد ابن النفيس في «شرح القانون لابن سينا»: «أما حاجة الرِّئة إلى الوريد الشِّرياني، فلأنه ينقل إليها الدَّم الذي قد لطف وسخن في القلب، ليختلط ما يترشح من ذلك الدَّم من مسام فروع هذا العرق، في خلل الرَّئة بالهواء، الذي في خللها ويمتزج به من الجملة ما يصلح لأن يكون روحاً إذا حصل ذلك المجموع في التَّجويف الأيسر من القلب، وذلك باتصال الشّريان الوريدي لذلك المجموع إلى هذا التَّجويف». تبدو الإيماءة واضحة، في النّص المذكور إلى الدّورة الدّموية الصّغرى، عندما يتحدث إخوان الصفا عن حركة الهواء بين الرئة والقلب وبالعكس، وما تقدم به ابن النّفيس بعد ثلاثة قرون. وأنَّ معاصراً لصاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ابن أبي أصيبعة (ت: 668 هــ)، وكلاهما طبيبان، شاميان مِن دَمشق، لكنَّ ابن أصيبعة لم يذكر ابن النفيس في معجمه، لربما بحكم التجافي بين أقران المهنة أو لسبب آخر.
لقد تحمل إخوان الصفا أذىً كثيراً، في عصرهم وما بعده، وحارت المذاهب في نسبهم إليها، وهم ليسوا على مذهب، ويخطأ مَن اعتبرهم إسماعيليين أو غير ذلك، إنما كانوا نخبة مِن المفكرين الأحرار، والقول لهم: «رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلّها» (الرِّسائل، الرَّابعة من العلوم الناموسية).
***
رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل صحيح أن حرق كتب ابن رشد كان بداية لسقوط حضارة الاندلس؟ هي مقولة ذُكرت تعقيباً على حادثة حرق كتب ابن رشد من قبل الحاكم يوسف ابن ابي يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور، امير دولة الموحدين التي حكمت بلاد المغرب والاندلس (1121م – 1269م). والهدف من هذه المقولة هو إضفاء حالة الجهل والتخلف على الحضارة الإسلامية كونها لا تُقّدر العلم ولا العلماء. قرأها المثقفون وكتبها المؤلفون وصدقها الناس، وأصبحت مقولة صحيحة ومقبولة في الثقافة والعقول العربية. وقد أصبحت من الامثال التي يَحتذي بها كل من يحاول أن يثبت فشل او انحطاط الثقافة الإسلامية. إن هذه المقولة هي محضّ كذب وافتراء، قالها ويقولها الكارهون للحضارة الإسلامية وصدقها الذين يجهلون تاريخ الحضارة الإسلامية واحداثه عن غير قصد.
أحاول، في هذا المقال، أن اسرد الحقائق التاريخية حول تلك الحادثة وما جانبها من ملابسات غيّرت مفهوم هذا الحدث من واقعة عادية معروفة، إلى واقعة مأساوية دمرت حضارة مُشرقة، عالية المقام بين حضارات التاريخ، على الرغم من أنّ هناك الكثير من الأحداث المشابهة لها في التاريخ العام للبشرية لم تفسّر بنفس الأسلوب والمعنى.
تعتبر ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة في التاريخ. وليس غريباً أو مأساوياً أن تحرق كتب تحتوي على أفكارا لامعة ومهمة للبشرية. التاريخ مليء بمثل هذه الحوادث. معظم حوادث حرق الكتب يفعلها اشخاص معروفون، ولهم سلطة سياسية كالحكام مثلاً، أو مثقفين معروفين ومشهورين. وتحرق الكتب بسبب محاربة الأفكار المكتوبة فيها، مثل الأفكار الدينية أو الفلسفية أو الثقافية، وغير ذلك مما لا ينسجم مع أفكار أو سياسات الشخص الذي يحرق الكتب. وقد يعتبرها البعض معارضة للتعليمات الدينية أو الأخلاقية، فيأمر بحرقها.
يخبرنا التاريخ أن ثورات حدثت في المجتمعات البشرية أو تداول سلطات، تلتها عمليات حرق الكتب أو حرق المكتبات كوسيلة تطهير ثقافي للتخلص من أفكار او أيديولوجيات معينة كانت منشرة ومؤثرة في المجتمع قبل قيام ثورة ما أو أي حادث مشابه، مما أوجب التخلص من الكتب لإحلال مبادئ الثورة الجديدة. وقد تٌمارس السلطة الجديدة ثقافة الإلغاء الفكري لكل منهج أو فكر يخالف أو يعارض مبادئ السلطة الحاكمة. يخبرنا التاريخ أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210و 1215وأعيد تدريسها في عام 1231ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة وذلك بقرار من البابا. ويخبرنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد "البابا باولو الرابع" عن "قائمة الكتب الممنوعة" سنة 1559 لأنها "هرطقة" ضد الإيمان والأخلاق… ومن بينها كتاب الأمير لميكيافيلي. وقد وضع دانتي في كتابه المشهور "الكوميديا الإلهية"، ابن رشد في الجحيم بسبب كفره واعتزاله، وذَمَّته أيضاً وبشدة الكنيسة الكاثوليكية.
وكذلك احرق النازيون في عام 1933 أكثر من 25 ألف كتاب لا يتماشى مع الفكر الألماني النازي. وقديماً، قام اليونانيون بحرق الكتب، فقد ذُكر أن جالينوس (لقّب بابي الطب) قام بحرق كتب الفلاسفة الأطباء التي تعارض آرائه واعتبرها غير صحيحة، واتٌهم الاسكندر الكبير بحرق كتب الديانة المجوسية بعد أن قضى على مملكة فارس، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة. هذه الأمثلة وغيرها توضّح لنا أن ظاهرة حرق الكتب شائعة في التاريخ، ومع ذلك لم نسمع عن حادثة مشابه لحرق كتب ابن رشد أصبحت مأساوية ومدمرة للحضارة كما يصوره البعض ممن يتقولون به.
لم يكن ابن رشد العالم الوحيد في الحضارة الإسلامية الذي أحرقت كتبه، فقد أحرقت كتب الغزالي في قرطبة، وابن حزم الاندلسي وابن طفيل، ولم تهوَّل هذه الاحداث مثلما حدث لمحنة ابن رشد. وهناك الكثير من احداث حرق الكتب وتدمير المكتبات في التاريخ العام ابتداءً من أقدم حقب التاريخ وحتى التاريخ الحديث والمعاصر، ولا يسع المجال لذكرها جميعاً، لكن الأمثلة تشير إلى أن ظاهرة حرق الكتب ظاهرة عامة وشائعة ولا تعكس محاربة الحضارات أو الشعوب للعلم والعلماء، بل أفعال شخصية يقوم بها افراد متسلطون.
ولنطّلع على قصة حرق كتب ابن رشد كما ذكرت في كتب التاريخ، وليس كما شُوّهت القصة في المصادر الإعلامية. وأشير إلى كتاب "المثقفون في الحضارة العربية" للدكتور محمد عابد الجابري الذي أجرى بحثاً مستفيضاً ومفصّلاً عمّا اسماه (نكبة ابن رشد) لما فيه من معلومات وتحليلات مهمة ومفصّلة.
كان لابن رشد منزلية عالية في الحضارة الإسلامية عامة وفي المجتمع الاندلسي بصورة خاصة. فهو من عائلة معروفة بالعلم والورع والتقوى، تَقلّد مناصب رفيعة سياسية وقضائية. كان عالما وفيلسوفاً مقرباً ومقّدراً من قبل الحكًام والامراء، شغل منصب القضاء في اشبيلية عام 1169م، ثم في قرطبة عام 1171م، واشتهر ذكره الطيب بالأخلاق والعلم والتقوى. ومازالت ولحد الآن، منزلته رفيعة ومحترمة في المجتمع العربي والعالمي وليس في ذلك أي شك. في عام 1164م، طلبه الأمير ابي يعقوب يوسف، ثاني خلفاء دولة الموحدين في المغرب للعمل في دولته، وقرّبه إليه، وأجزل له المناصب والعطايا والاحترام لمكانته العلمية. بعد وفاة الأمير ابي يعقوب يوسف استلم الحكم ابنه الأمير يوسف ابن ابي يعقوب المنصور، وسار مسيرة ابيه في اعلاء مكانة ابن رشد العلمية والاجتماعية. لكن الوشاة الحاقدون على ابن رشد والغيورون منه، والمتشددين في الدين الذين يعتبرون الفلسفة زندقة، وشوا عند الأمير يوسف واستطاعوا إقناعه بأن ابن رشد فيلسوف زنديق، فصدقهم الأمير وامر بحرق كتبه ونفيه الى أليسانا، قرية قرب قرطبة، عام 1194م، علماً إن الأمير المنصور أمر بحرق كتب ابن رشد الفلسفية فقط ولا يشمل الامر الكتب العلمية مثل كتب الطب والرياضيات والفلك. وبعد سنتين من إصدار الأمر الأميري (بدأت الازمة عام 593 وانتهت عام 595 هجري) عَرِف الأمير يوسف حقيقة الدسيسة التي أعدت بحق ابن رشد فندم وألغى امره الذي أصدره بحق ابن رشد، فأعاد له منزلته ومكانته التي كان يتمتع بها قبل الوشاية، إلاّ أن وقع المحنة كان كبيراً على ابن رشد فاعتزل الناس، ثم توفي بالمغرب عام 1198م عن عمر يناهز 73 سنة.
يمكننا أن نستنتج مما تقدم، أن حرق كتب ابن رشد لم يتم بسبب كره الجمهور للعلم أو للعلماء، ولا بسبب انحطاط الثقافة والفكر للمجتمع، كما يراد أن يروّج لها، بل إنه كان بسبب عوامل شخصية وفردية من بعض الناس الحسّاد والحاقدين معززة بقرار جاحد وساذج من حاكم الدولة. وهذا ما حدث ويحدث كثيراً في مثل هذه الحالات.
ويمكننا أن نستنتج أيضاً، أن القول " بأن حرق كتب ابن رشد كان بداية انحطاط وسقوط حضارة الاندلس" هو قول خاطئ وغير صحيح. ذلك أن حضارة الاندلس لم تبدأ بالانحدار أو السقوط بعد هذا التاريخ أو بعد هذه الحادثة. إن سقوط الحضارة الإسلامية (سواء الاندلسية أو العباسية) يسير بنهجين مختلفين:
النهج الأول هو الانحطاط السياسي، وهو الذي يبدأ اولاً في انهيار الحضارات ولا يكون مصحوباً بالضرورة بانحطاط ثقافي.
والنهج الثاني هو الانحطاط الثقافي، الذي يحدث في الغالب كنتيجة للانحطاط السياسي.
الدولة العباسية، على سبيل المثال، وصلت حضارتها إلى القمة في سلّم الحضارة والتمدن، وكانت بغداد من أحسن وأرقى المدن في تاريخ الحضارات وأجملها. وحسب سُنّة التاريخ انحطت الدولة العباسية، وكان الانحطاط اولاً سياسياً (وليس ثقافياً). بدأ انحطاط الدولة العباسية في زمن الخليفة المتوكل على الله، عاشر الخلفاء العباسيين، حكم عام 847م – 864م. بعد أن استفحل المماليك الاتراك بالسلطة، الذين كانوا يمثلون جيش الدولة العباسية، لم يتمكن الخليفة المتوكل من السيطرة عليهم، لأنهم أخذوا يعثون فساداً، فقاموا بقتل الخليفة المتوكل والتخلص منه لأنه أراد التخلص منهم، ونصّبوا ابنه المعتصم الذي كان على خلاف دائم مع والده المتوكل. تعتبر هذه الفترة من تاريخ الدولة العباسية بداية انهيارها السياسي وليس الثقافي، ذلك لأن الناس في ذلك الزمان لم يهتموا بالسياسة ولا بالحكم أو الحكام، وإنما كان اهتمامهم ينصب على حياتهم الاجتماعية والدينية والثقافية. ثم حكم البويهيون الدولة العباسية منذ عام 934م وسيطروا سيطرة تامة على الحكم فيها وانتشر فيها الظلم والرشوة والفساد. في عام 1037م دخلت الدولة العباسية في حكم السلاجقة، ولم يكونوا هؤلاء أفضل من سابقيهم بل استمر ضعف الخلفاء العباسيين وانتشار الظلم والمفاسد، وكانت أوضاع الدولة العباسية في تهور وانحطاط مستمر إلى أن احتلها المغول في عام 1258م، فدمروا المكتبات واحرقوا الكتب وقضوا على الدولة العباسية قضاءً تاماً، فحصل الانهيار الثقافي، حيث ترك العلماء بغداد هربا من وحشية المغول وخوفاً منهم، وهاجروا إلى الشام ومصر وغيرها من الدول الإسلامية، فانتهت العلوم والثقافة في بغداد بسقوط بغداد. ومن المعروف ان الحضارة الإسلامية العباسية وصلت ذروتها خلال القرون الثالث والرابع والخامس الهجري، والتي تقابل قرون الانحطاط السياسي (وليس الثقافي). ومن المعلوم أيضاً أن سقوط الدولة العباسية على يد المغول أذَنَ بانتهاء حضارتها.
وأما ما حصل للدولة الاندلسية من انهيار سياسي، فإنه لم يكن مصحوباً بانهيار ثقافي كما يعتقد البعض، وهو مشابه لقصة الدولة العباسية. بعد احتلال الاندلس في عام 711م بدأت معالم الحضارة تبرز فيها، وأخذت تتعالى بمرور الزمن حتى أصبحت منافسة للدولة العباسية ثقافياً وحضارياً، وكانت منارة للعلم والتحضّر عند الأوروبيين. بدأ الانهيار السياسي لدولة الاندلس في عام 1030م عندما سقطت الدولة الاموية في الاندلس وتقسمت الدولة إلى دويلات صغيرة متعددة. استقلت كل من هذه الدويلات وحَكَمها حاكم من أبنائها. سميّت هذه الحقبة الزمنية بملوك الطوائف. وكانت هذه دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة، تعادي وتحارب بعضها البعض، وبذلك ضعفت الدولة الاندلسية وتمكن الاسبان من استرداد المناطق التي كانت تحت حكم المسلمين، واحدة تلو الأخرى. ولم تكن فترة ملوك الطوائف، مصحوبة بانهيار ثقافي أو حضاري، بل استمر التقدم والتطور الحضاري فيها. فالفترة التي عاش فيها ابن رشد هي فترة ملوك الطوائف في الاندلس ودولة الموحدين في المغرب. وعاصره فيها الكثير من العلماء المشهورين كابن طفيل وابن عربي وابن باجة وغيرهم. وعندما سقطت غرناطة بيد الاسبان، الجهلة والمتعصبين دينيا، في نهاية القرن الخامس عشر (القرن التاسع الهجري) انتهت حضارة الاندلس.
وكذلك أؤكد، أن الحضارة الإسلامية لم تنهار بعد حرق كتب ابن رشد ولا بعد وفاته، إذ ظهر الكثير من علماء الاندلس بعد وفاة ابن رشد. نذكر على سبيل المثال، ابن عربي وابن سبعين وابن البيطار وابن النفيس وشمس الدين الذهبي وابن كثير وابن الاثير وابن الشاطر وابن تيمية والامام القرطبي والسيوطي، وآخرون كثيرون لا يتسع المجال لذكرهم، ولم يكن ابن خلدون آخر العلماء المسلمين (توفي عام 1406) بل ظهر بعده أيضاً علماء مسلمين مشهورين ومعروفين. لذلك فإن القول "أن حرق كتب ابن رشد يمثل انهيار حضارة الاندلس" لا أساس له من الصحة، بل فيه تجني على الحضارة الإسلامية، ويمكن اعتباره محاولة للانتقاص والتقليل من قيمة واهمية الحضارة الإسلامية في تاريخ البشرية.
والخلاصة: إن حرق كتب ابن رشد لم يكن بسبب كره المسلمين للعلم والعلماء كما يدعي المغرضون، بل انه تمّ بأمر من حاكم البلاد الذي أخطأ بتصديقه كلام الواشين وأصدر الأمر بمعاقبة ابن رشد. وبعد عامين فقط علم الحاكم حقيقة الوشاية وألغى أمره بحق ابن رشد وأعاد له كل ما يستحق من امتيازات واحترام وحقوق، وانتهت المحنة، ولم تنهار الحضارة الاندلسية، بعدها بل استمرت الاندلس كمنارة للعلم في تلك الحقبة لما يزيد عن قرنين من الزمان بعد حادثة حرق الكتب. فلماذا يُصر الكتّاب والمثقفين على تصوير الحادثة كأنها مأساة فريدة في التاريخ، وعلى أن حضارة الاندلس انهارت بسبب هذه الحادثة، علماً أنّ في تاريخ البشرية حوادث كثيرة مشابه لهذا الحدث إن لم تكن أكبر منها أثراً، ولم نسمع أحداً ينسب لها آثارا مدمرة على تراثهم كما هو الحال عندنا.
فلنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ونكشف عن الدسيسة والجهل في احداث التاريخ. الجميع يعلم أن المصادر التاريخية الشرقية والغربية تتفق على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة متميزة في تاريخ البشرية ولولاها لما حصلت النهضة في أوروبا.
***
د. صائب المختار

 

في هذا الكون اللامتناهي تعد التجربة الإنسانية للحياة اشكال وجودي ملغز، في كل الاحوال ستكون الإجابة فردية على سؤال كبير ومصيري ان تمكنا من الإجابة بشكل افتراضي، كما لم يجد الانسان البدائي تفسيرا لوضعه في مواجهة الطبيعة وتخندق الوعي في مرحلة تطوره الأولى داخل نسق ميثولوجي وأصبح واقعا لازماني غير مفارق انساقه الأولى زمانيا ومكانيا نطرح هذه الإشكالية عندما نستمع الى خطاب موجه بسذاجة ممنهجة وكان المتلقي كائن(براميسيوم) ظنا منه ان الطرح عميق ويثير الكثير من التأمل. هنا يمكننا النظر إلى الأمر من زاوية اخرى ،اعني انه يريدنا ان نعيش حياة بلا عقل، ننغمس في الملذات و العيش في حالة من اللامبالاة نعيش لحظات ممتعة رغم اننا فقدنا القدرة على التفكير وفهم الحياة، انه يدرك ان التفكير الزائد أو التحليلات العميقة تؤدي إلى الشعور بالقلق والاكتئاب ويعرف أن العقل يثقل كاهلنا، يعرف انه جنبنا الاستمتاع باللحظة ، لذا اصر أن لا نستخدم العقل لفهم الحياة والتخطيط لها، بينما سمح للعواطف أن تأخذنا في تجارب ممتعة وملهمة لأننا سنكتشف في النهاية ان الحياة ليست عقل، هناك أمثلة تشير إلى كيف يمكن أن يعيش الإنسان حياة بلا عقل أو تفكير عميق بينما يعاني الآخرون من مشاق التفكير والعقل، بعض الأشخاص يعيشون في مجتمعات بدائية في مجاهيل منعزلة في غياهب الغابات والمحيطات، حيث تتركز حياتهم حول الأنشطة اليومية البسيطة قد يجدون السعادة في الزراعة أو الحرف اليدوية او صيد الحيوانات دون التفكير في تعقيدات الحياة الحديثة، الأطفال يعيشون لحظات من البراءة والفرح دون التفكير في المشاكل أو التحديات ويتمتعون بحياة خالية من الهموم رغم أنهم لا يمتلكون الحكمة والعقلانية. في بعض روايات الخيال والفانتازيا، نجد شخصيات تعيش في عالم سريالي دون التزام بتفكير منطقي، مما يجعلهم بعيدين عن التعقيدات التي يعاني منها الآخرون، بينما يعاني آخرون من عبء التفكير الزائد.
إمكانية وصول الإنسان لهذه المرحلة
من الممكن أن يسعى الإنسان إلى تبني نمط حياة بسيط، مثل التخلي عن التعقيدات الاجتماعية والمادية، والتركيز على الأمور الأساسية مثل الغذاء والمأوى، يمكن للإنسان أن يتجه نحو العزلة أو التأمل، مما يساعد في الابتعاد عن الضغوط المتعلقة بالعلاقات أو المسؤوليات بعض الفلاسفة والروحانيين يسعون لتحقيق حالة من التنور الداخلي والسكينة من خلال العزلة والابتعاد، حيث يتم تجاوز الرغبات والمشاعر المعقدة.
التحديات
الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، ولديه احتياجات عقلية وعاطفية معقدة، مما يجعل الوصول إلى حياة خالية من العقل أو الجنس تحديًا كبيرًا. المجتمعات الحديثة تعزز من قيمة العقلانية والنجاح، مما يجعل من الصعب التخلي عن هذه القيم بينما يمكن للإنسان أن يسعى نحو حياة أبسط وأقل تعقيدا، لكن الانسان له حاجات مطبوعة غريزيا فهو يسعى الى البقاء والخلود، وإن أراد الحياة البسيطة بلا هدف عليه تحقيق حالة مشابهة لحياة (الهايدرا) وهي حيوانات خالدة لا تتطلب عقل وهذا يحتاج تغييرات جذرية في طريقة العيش والبنية وازاحة العقل جانبا والذي سعت الاساطير الى تحقيقه من خلال رمي المصير في ساحة التجريد.
التغلب على الصراع الداخلي
التغلب على الصراع الداخلي عند تبني نمط حياة بسيط يتطلب بعض الاستراتيجيات والتقنيات منها معرفة القيم الأساسية التي تساعد على اتخاذ قرارات تتماشى مع أسلوب الحياة، الوعي الذاتي يمكن أن يساعد في فهم المشاعر والأفكار بشكل أفضل، من المهم التعرف على المشاعر المتناقضة التي قد تواجهنا، تقبل هذه المشاعر كجزء من العملية دون الحكم عليها يساعدك في التعامل معها بشكل أفضل.
مقارنة فلسفية بين العقل واللا عقل
يمثل العقل القدرة على التفكير، التحليل، والتفكير النقدي. يرتبط بالعقلانية، المنطق، والوعي الذاتي. يمكن أن يُفهم على أنه حالة من الانفصال عن التفكير المنطقي، أو الاستسلام للعواطف والحدس. قد يرتبط بالبراءة، البساطة، أو الحياة الغريزية يمكن للعقل أن يساعد في تحليل المشكلات المعقدة وإيجاد حلول فعالة يتيح للأفراد وضع خطط طويلة الأمد وتحقيق الأهداف، يمنح القدرة على فهم العالم من حولنا بشكل أعمق قد يؤدي إلى شعور أكبر بالحرية والانطلاق بعيدًا عن قيود التفكير ويمكن أن يفتح باب الإبداع والتفكير غير التقليدي، حيث يُسمح للأفكار بالتدفق دون قيود ويعزز من التواصل مع المشاعر والأحاسيس، مما يمكن أن يعزز العلاقات الإنسانية ،قد يؤدي التفكير الزائد إلى القلق والتوتر، مما يمنع اتخاذ القرارات ويصبح الأفراد متصلبين في آرائهم، مما يمنعهم من قبول أفكار جديدة ،ويمكن أن يؤدي إلى فقدان الهدف والاتجاه في الحياة قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية بناءً على المشاعر اللحظية، تعتبر الفلسفات المختلفة، مثل البوذية، أن التوازن بين العقل واللا عقل هو المفتاح لتحقيق السعادة. العقل يساعد في فهم العالم، بينما يسمح اللا عقل بتجربة الحياة بشكل كامل العقل واللاعقل يمثلان جانبين مختلفين من الوجود البشري. التوازن بينهما يمكن أن يؤدي إلى حياة مليئة بالمعنى، حيث يتم استخدام العقل للإرشاد واللاعقل للاستمتاع باللحظة.
دور الثقافة في تشكيل علاقة الإنسان بالعقل واللاعقل
تلعب الثقافة دورًا حيويًا في تشكيل علاقة الإنسان بالعقل واللاعقل بعدة طرق ،تحدد الثقافة ما يُعتبر عقلانيًا أو غير عقلاني، مما يؤثر على كيفية تقييم الأفراد لأفكارهم ومشاعرهم بعض الثقافات تعزز التفكير النقدي والتحليل، بينما تفضل أخرى الاعتماد على الحدس والعواطف ،تختلف أساليب التعليم عبر الثقافات مما يؤثر على كيفية تطوير العقلانية، بعض الثقافات تركز على التفكير النقدي، بينما تفضل أخرى التعلم من التجارب العملية بالعقل واللاعقل، حيث يمكن التشجيع على التفكير المنطقي أو التعبير عن المشاعر، تعزز الثقافة الفنون والإبداع، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بطرق غير عقلانية ،تلعب القصص والأساطير دورًا في نقل الأفكار والقيم الثقافية، وغالبًا ما تتضمن جوانب من اللاعقل تعزز بعض الثقافات الطقوس التي تشجع على الانفصال عن العقلانية، مثل التأمل أو الاحتفالات الدينية، مما يساعد الأفراد على الاتصال بجوانبهم العاطفية والروحية تحدد التقاليد كيف يجب أن يتفاعل الأفراد مع مشاعرهم وعقولهم، مما يؤثر على قراراتهم وسلوكياتهم، أدت العولمة إلى تبادل الثقافات، مما أثر على كيفية فهم الأفراد لعلاقتهم بالعقل واللاعقل قد يتبنى البعض أفكارًا عقلانية جديدة بينما يظل آخرون متمسكين بتقاليدهم ،التغيرات في القيم الاجتماعية، مثل الحركة نحو الفردانية، قد تؤثر على كيفية تقييم الأفراد للعقلانية والعاطفية. تشكّل الثقافة الإطار الذي من خلاله يتفاعل الأفراد مع العقل واللاعقل، مما يعكس كيف يمكن أن تتباين هذه العلاقات عبر المجتمعات المختلفة، إن فهم هذا الدور يساعد في تعزيز الوعي الذاتي والتوازن بين الجوانب العقلانية والعاطفية في الحياة.
تعريف العقل واللاعقل عبر الزمن
يمكن للثقافة أن تُغيّر تعريف العقل واللاعقل عبر الزمن، وذلك من خلال عدة عوامل مع ظهور أفكار فلسفية جديدة، قد تتغير تعريفات العقل واللاعقل على سبيل المثال، يمكن لفلسفات مثل الوجودية أو البوذية أن تُعيد تشكيل كيفية فهم العقلانية والعواطف. تطور علم النفس وفهم العقل البشري يمكن أن يؤثر على كيفية تعريف العقل، حيث تبرز أهمية العواطف والحدس في اتخاذ القرارات الحركات الاجتماعية مثل النسوية أو حركات حقوق الإنسان قد تعيد تعريف ما يُعتبر عقلانيًا أو غير عقلاني، من خلال تسليط الضوء على تجارب جديدة. تبادل الثقافات عبر العولمة يمكن أن يؤدي إلى تداخل الأفكار، مما يغير النظرة التقليدية للعقل واللاعقل ،قد تتبنى ثقافات جديدة طرق تفكير مختلفة تؤثر على تعريفاتها، تأثير التكنولوجيا على الحياة اليومية يمكن أن يُعيد تشكيل فهمنا للعقل، حيث تُصبح القدرة على معالجة المعلومات والبيانات جزءًا من تعريف العقلانية في أوقات الأزمات، قد تتحول المجتمعات نحو الروحانية والعواطف، مما قد يؤدي إلى إعادة تقييم ما يُعتبر عقلانيًا، مثل التركيز على الرفاهية النفسية والتواصل العاطفي تنعكس على تعريفات العقل واللاعقل ،كذلك الديناميات الثقافية والاجتماعية، تظل قابلة للتغيير مع مرور الزمن هذه التحولات تعكس التفاعل المستمر بين الفكر، الثقافة والعقل والسياقات الاجتماعية.
***
غالب المسعودي

الإيجابيات والسلبيات

المقدمة: الصراع بين المثاليات والممارسة
تُعَدُّ حقوق الإنسان إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية الحديثة، حيث تجسدت في مواثيق دولية مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948) و"العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" (1966). لكن الفجوة بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي تظل واسعة، مما يدفعنا إلى تسليط الضوء على الثنائية الجدلية بين المعايير الإنسانية المثالية والأساليب التوظيفية التي تعكس الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي المعقد. هذا المقال يستكشف هذه الثنائية عبر تحليل معمق للجذور التاريخية، والآليات التنفيذية، والإشكاليات الناجمة عن التوظيف الانتقائي لحقوق الإنسان.
الفصل الأول: تطور المعايير الإنسانية وتجذُّرها الفلسفي
1 - الجذور التاريخية والفكرية:
نشأت فكرة حقوق الإنسان من تراكم فلسفي وديني وقانوني عبر الحضارات، بدءًا من "قوانين حمورابي" و"العهد الميسوبوتامي"، مرورًا بالديانات السماوية التي أكدت على كرامة الإنسان، ووصولًا إلى عصر التنوير الأوروبي الذي صاغ مفاهيم "الحقوق الطبيعية" (جون لوك، روسو). ومع ذلك، فإن الصيغة العالمية المعاصرة لهذه الحقوق تشكلت كرد فعل على فظائع الحرب العالمية الثانية، حيث سعت الأمم المتحدة إلى تجسيد مبادئ المساواة والحرية في إطار قانوني ملزم أخلاقيًا، وإن لم يكن دائمًا فعّالًا.
2 - الإطار القانوني الدولي:
تشكل المنظومة الدولية لحقوق الإنسان من مجموعة معاهدات تتراوح بين الإلزام القانوني (مثل اتفاقيات جنيف) والإلزام الأخلاقي (مثل الإعلانات غير الملزمة). وتُقسَم الحقوق إلى ثلاثة أجيال:
الجيل الأول: الحقوق المدنية والسياسية (الحق في الحياة، المحاكمة العادلة).
الجيل الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الحق في التعليم، الصحة).
الجيل الثالث: الحقوق الجماعية (حق تقرير المصير، البيئة الصحية).
الفصل الثاني: الآليات التوظيفية بين الإرادة السياسية والمصالح
1 - آليات التنفيذ الرسمية:
تعتمد الدول والمنظمات الدولية على آليات متعددة لترجمة المعايير إلى واقع، منها:
اللجان الأممية: مثل لجنة حقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان، التي ترصد الانتهاكات عبر تقارير "الاستعراض الدوري الشامل".
المحاكم الدولية: مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي تحاكم مجرمي الحرب، لكنها تواجه انتقادات لتركيزها على دول أفريقيا.
الضغط الدبلوماسي: كالعقوبات الاقتصادية أو الحظر الجوي، كما في حالة جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.
2 - دور المنظمات غير الحكومية (NGOs):
تلعب منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" دورًا محوريًا في فضح الانتهاكات عبر تقارير موثقة، لكنها تُتهم أحيانًا بالانحياز الأيديولوجي أو تبني أجندات غربية.
الفصل الثالث: الإيجابيات: إنجازات لا يمكن إنكارها
1 - انتصارات تاريخية:
إسقاط الأنظمة العنصرية: نجاح الضغط الدولي في إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
حماية الفئات الضعيفة: اتفاقيات منع الاتجار بالبشر وحماية اللاجئين (اتفاقية 1951).
تمكين المرأة: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو 1979).
3 - تعزيز الوعي العالمي:
أصبحت حقوق الإنسان لغة مشتركة تعبر عن ضمير عالمي، مما ساهم في:
خلق حركات اجتماعية عابرة للحدود (مثل حركة #BlackLivesMatter).
دمج الحقوق في السياسات التنموية (أهداف التنمية المستدامة 2030).
الفصل الرابع: السلبيات: الفجوة بين الخطاب والممارسة
1 - الانتقائية والازدواجية:
توظيف الحقوق كأداة سياسية: كاستخدام الولايات المتحدة لخطاب حقوق الإنسان لتبرير غزو العراق (2003)، بينما تتغاضى عن انتهاكات حلفائها ، خاصة إسرائيل التي تتنصل وتتجاوز كل هذه القرارات وتواصل انتهاكها احقزق الشعب الفلسطيني ، والحرب الاخيرة على غزة اكبر دلبلا على ذلك مع التجرأ على احتلال دول معترف بها دوليا كسوربا ولبنان.
التجاهل المنظم للحقوق الاقتصادية: ففي حين تُدان انتهاكات الحريات السياسية في فنزويلا، تُهمش معاناة الشعوب من الفقر المدقع بسبب سياسات صندوق النقد الدولي.
2 - التحديات البنيوية:
سيادة الدولة vs. العالمية: تتعارض مبدأ سيادة الدولة مع تدخل المجتمع الدولي، كما في حالة الصين والأويغور.
التبعية المالية: تعتمد العديد من المنظمات الحقوقية على تمويل غربي، مما يحد من مصداقيتها في الجنوب العالمي.
3 - الإشكالية الثقافية:
يثير النموذج الغربي لحقوق الإنسان إشكالات في مجتمعات تُقدِّم القيم الجماعية على الفردية، كما في النقاش حول عقوبة الإعدام في الدول الإسلامية أو حقوق المثليين في أفريقيا.
الفصل الخامس: نحو نموذج أكثر شمولية: اقتراحات للتطوير
1 - إصلاح البنية الدولية:
دمقرطة صنع القرار: تقليص هيمنة الدول الكبرى في مجلس الأمن.
تعزيز المحاسبة: توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل جرائم الشركات متعددة الجنسيات.
2 - تعزيز الحوار الثقافي:
الاعتراف بالتعددية الثقافية دون التخلي عن الحد الأدنى من الحقوق غير القابلة للتصرف، عبر آليات مثل "مبدأ التدخل الإنساني المُتدرج".
3 - تمكين الجهات المحلية:
دعم منظمات المجتمع المدني في الجنوب العالمي لقيادة الحملات الحقوقية بدلًا من الاستعاضة عنها بمنظمات غربية.
الخاتمة: حقوق الإنسان كمسيرة متواصلة
ليست حقوق الإنسان نصوصًا جامدة، بل هي مشروع ديناميكي يتطلب مراجعة مستمرة لمواءمته مع تعقيدات الواقع. فبينما تظل المعايير الإنسانية ضرورية كبوصلة أخلاقية، فإن التوظيف الفعّال لها يحتاج إلى إرادة سياسية شجاعة، وإلى وعي جماعي يُقدِّم العدالة على المصالح الضيقة. في هذا السياق، قد يكون من المفيد استعادة مقولة الفيلسوف "إيمانويل كانت": "عامِل الإنسان دائمًا كغاية، وليس كمجرد وسيلة"، وهي القاعدة التي إن التزم بها العالم، ستذوب الفجوة بين الخطاب والممارسة.
***
مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية
........................
المصادر:
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
- العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)
- قوانين حمورابي
- أفكار التنوير لجون لوك وجان جاك روسو
- اتفاقيات جنيف
- اتفاقية 1951 لحماية اللاجئين
- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)
- تقارير من منظمات حقوق الإنسان (منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش)
- المحكمة الجنائية الدولية (ICC)
- مقولات وإرث إيمانويل كانت

حين أستدعيَ سقراط للمثول أمام المحكمة، جلس قبالته أربعون شخصاً لمقاضاته، وهم يُعَدّون من كبار وخيرة قضاة اليونان في عهده. تبادلوا الأدوار ووزعوا التهم فيما بينهم بغية إرباكه والتي ستصب جميعها بالنتيجة بما يفيد بقيامه في التحريض ضد الدولة وسلامة أمنها. وبعد التداول الشكلي وجودة الأداء المسرحي للقضية وعلى ما أزعم، فقد قضت المحكمة حينها بإصدار أقصى درجات العقوبة بحقّهِ والتي تمثَّلَت بقرار الإعدام. اللافت للنظر فإنَّ (المدان) وإذا ما إستخدمنا هذه المفردة إفتراضاَ فلم تهتز فرائصه ولم تجده مبالياً.
وللحقيقة التأريخة، فإنَّ سقراط (المتهم) والذي كان يُعّدٌ في حينها عن حقٍّ وجدارة بشيخ الفلاسفة اليونانيين في جمهورية أفلاطون، وعلى أرضٍ سيسجل لها التأريخ قصب السبق في هذا المجال مقارنة بسائر الدول والحضارات التي كانت سائدة آنذاك، لم يكتب حرفاً واحداً، لكنه في ذات الوقت كان متبعا أسلوبا آخر ولعلَّهُ كان ومن حيث التأثير أكثر وقعاً وليتفرَّدَ به عن سواه، حيث تمثَّلَ بالترويج لأفكاره من خلال الحلقات الدراسية والحوارات واللقاءات التي كان يجريها مع مختلف الفئات وخاصة المهتمة منها بالشأن الثقافي بشكل عام والفلسفي بوجه خاص، حيث كان ومن خلال تلك المحاضرات وما يعطيه من دروس، يبين أخطاء ونقاط ضعف مجايليه وزملاءه وعُلل ذلك العالم الذي إستهواه وشغله والمسمى بالفلسفة ، حتى بلغ به الأمر أن راح يُدحض بعضا من أبرز آراءهم، وصولا الى إهتزاز قناعات مَنْ كان يسير على خطاهم وليعيدهم الى صواب الوجهة.
وللأسباب الفائتة أصبح وبما لا يدع مجالاً للشك، وبحسب أولي الأمر وأصحاب السلطة وسدنتها، يُشكل خطرا كبيراً وماحقاً على الدولة ورموزها وقادتها، خاصة وأن نتائج توجهاته، قد بدأت تُثمرُ وتظهر للعيان وبشكل جلي، بعد أن أخذ يجتذب الى جانب طروحاته أعداداً كبيرة ومهمة من الشباب، كذلك لسخريته من تلك (العقائد) والمسلمات وذلك الجمود وبلغة يمكن وصفها وبحسب مفاهيم العصر الحديث بالخشبية. ومما زاد في قلق أصحاب السلطة والقرار، هو إصرار الرجل (سقراط) على المضي فيما إختاره من رؤى وتصورات وبقناعات راسخة، حيث راح مضاعفا من جهده وتحيده، (ممتشقا) أفكاره، مروجا لها هنا وهناك ومن دون حساب. متبعا في ذلك نهجا يمكن وصفه بالتمسك والإنحياز التام والثابت للحقيقة وبكل ما تحمله من دلالات ومعانٍ.
وإرتباطاً بأصل الفكرة وما ينبغي الإشارة اليه بل والتوقف عندها، هو أنَّ عزوفه عن الكتابة، لم يشكل نقطة ضعف أو يمكن عدّه مثلبة، قد يروق للبعض أن يسجّلها ويحسبها ضدّه خلال سيرورة حياته الفلسفية، فالرجل لا تنقصه الحنكة والحجة لدعم أفكاره، وليس هناك من عوائق فنية تمنعه عن الكتابة على ما قد يذهب اليه البعض ويظنه، فآثاره وآرائه ظلَّت راسخة ثابتة، تتحرك على وفق حسابات ومقتضيات، إستدعتها الضرورة وما كان يمليه الواقع والأولويات آنذاك. ولأنه كان على صواب ورجاحة عقل حتى لحظتذاك فستدين له الأجيال التي تعاقبت من بعده ومنذ مئات السنين وحتى عصرنا الحالي، على الرغم من تقادم الكثير من الفلاسفة والنظريات التي حملتها معها، والتي لا تقل شأنا وقيمة عما جاء به صاحب السيرة والمقام.
وفي نهج الرجل هذا وميله الى عدم تدوين آراءه الفلسفية التي يدين في الولاء لها ويحسبها رسالة لابد من التبشير بها والترويج لها بغية نشرها على نطاق واسع وإشاعتها وعلى أوسع نطاق، ربما يكون سقراط في ذلك المنحى وفياً وحريصاً ومنطلقاً كذلك من فكرة ومقولة، طالما آمن بها وعمل بموجبها وعلى أساسها، مفادها بأنَّ (الكتابة تُعَدٌ من أسوأ وسائل التعبير بالنسبة للمثقف). عن هذا وتعليقا على ما آمن به، فللرجل ما يقول ولنا ما نقول وقد نختلف فيما بيننا على ذلك غير إنّأ سنمضي سوية فله ما له وعليه ما عليه. ثم راح مفسرا ميله هذا ومبرره بالقول وبما يفيد وعلى النحو التالي: لِما تنطوي عليه الكتابة من تفسيرات عديدة، يأتي في مقدمتها الإبتعاد عن الدلالات والغايات التي يعنيها الكاتب. وبذا سيكون سقراط قد أعلن وبصوت مسموع عن مدى حرصه وإنسجامه مع أفكاره التي دعا لها وآمن بها.
وعود على بدأ وإنطلاقا من ذات القناعة التي كان سقراط قد تعاطى معها، والمتمثلة في كيفية إيصال أفكاره وقناعاته، وبالإرتباط مع ما نراه في هذه الأيام من إستسهال من قبل البعض في شروعهم وتوجههم نحو الكتابة والنشر، دون الإلتفات الى قدراتهم الحقيقية والتي يقتضيها النص وشروطه. فعن ذلك كله فسيبرز السؤال هنا مرة أخرى: هل ضاقت بسقراط وإنحسرت فعلاً وسائل التعبير المقروءة، أم تمَّ منعه من الكتابة وبالتالي ستجده مضطراً الى إيصال ما يجول بخاطره والبوح به من خلال (الحلقات الدراسية) التي كان يعقدها بين فترة وأخرى، وبشكل خاص فيما يتصل منها بالجانب الفلسفي، الذي بات وبما لا يدع مجالاً للشك بأنه أحد رموزه الكبار ومعلميه، والذي لا زال البعض يدين لأفكاره ولطروحاته!!! وردا على ذلك فأنا أنفي ذلك جملة وتفصيلا.
وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وأعدنا صياغة السؤال وعلى نحو آخر، والذي نعدَّه على درجة كبيرة من الأهمية، فسيتمحور ويأتي على النحو التالي: هل كان الرجل حقاً يخشى (التورط) من دخول عالم النشر بإعتباره أحد وسائل التعبير الشائعة والمنتشرة آنذاك والتي لا زال معمول بها ومعتمدة حتى يومنا هذا؟ أنا أشكٌ في ذلك بل أكاد أنفي وبثقة عالية، إذ كان الرجل بإمكانه لو أراد صياغة ما يبغي الوصول اليه وبلغة شديدة الأناقة والجمال، سيراعي فيها حتماً وبكل تأكيد طبيعة الأجواء والظروف السائدة وموازين القوى، واضعاً نصب عينيه وفي حساباته القدرة على النفاذ والإلتفاف على عيون الرقيب وأجهزته، منطلقا من فكرة مفادها: أن الكاتب الحر وصاحب الرأي، لقادر على تحمل المسؤولية ومهما ترتب عليها من تبعات ونتائج. وهو أيضاً (أي الكاتب) وفي ضوء ما فات ذكره، فإنَّ مهمته الأساسية وما سيقع على عاتقه، سيتمثل في الحرص على نشره لأفكاره وإشاعة ما يراه مناسباً وصحيحاً وفي مواقيت محسوبة وبدقة، هذا إذا ما كان حقاً على قدر ما من تحمل المسؤولية .
وبالترابط مع ما يجري على ساحتنا العربية، فالملاحظ (وهنا لا نقصد التعميم) في السنوات الأخيرة، قيام بعض الصحف وحتى دور النشر وإن على نطاق محدود، بنشر مواد صحفية ما أنزل الله بها من سلطان، حيث تجدها متجاهلة عن قصد أو دونه، جوانب وشروط أساسية لابد من توافرها وترافقها مع كل مادة صحفية أو أي نصٍّ سيجد طريقه للنشر، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو أو أو....ألخ، كوضوح الفكرة وجمال اللغة وإشتراطاتها، مرورا بإشباع المادة بكل شروطها أو على الأقل تجتاز عتبة الرضا وأيضاً تلاقي الإستحسان والتجاوب من قبل المتلقي.
فما يلاحظ وللأسف وعلى بعض (الكتاب) إنْ لاق بهم الوصف وتطابق، أصبح يُصدر أحكامه وفي مختلف المجالات، دون أن يراعي شروط الكتابة ولا الأمانة الصحفية، بحيث بات يصدر أحكامه ويغوص فيما لا قدرة له عليه، وصولاً الى محاولة الإلتفاف على عقل القارئ، وكأن الأخير لا ذاكرة له ولا رصيد معرفي. والأنكى من ذلك وفي كتابات بعضهم، تشعر بأن أكثر من يدٍ وعقل ولغة قد شاركت في كتابة نصّه المزعوم، عدا عن عدم إشارة هذا البعض الى مصادر كتابته عند إقتضاء الحال، وهذا ينطبق على المواد التي تستدعي التضمين والتي تُلزمُ ناقل النص الى الإشارة للمصدر الذي إستقى الكاتب منها معلوماته، حفاظاً على أمانة النشر والعمل بِقيمهِ المتعارف عليها والمعمول بها.
***
حاتم جعفر
مالمو ـــ السويد

في يوم 21 فبراير 2025 على الساعة الثامنة ليلا، تتبعت عن بعد ندوة هامة بمحاورها ومضمونها من تنظيم "المبادرة الوطن أولا ودائما" تحت عنوان "الجامعة والمجتمع". تتبعتها بتركيز واهتمام تامين نظرا لأهمية الموضوع وراهنيته. فالجامعة هي العقل الأكثر نضجا بالنسبة للأمة الواحدة لإنتاج المعارف وكشف الحقائق الجديدة في كل مجالات الحياة. فكلما ارتقى الوعي والإيمان بالمستقبل باستحضار التزايد الديمغرافي العالمي وتفاقم حاجيات الشعوب اليومية، تتحول الجامعة ومراكز أبحاثها بمختلف مجالاتها المتنوعة إلى ذاك العقل المتنور المؤهل لكشف الحقائق المطلقة التي يختزنها الكون، والتي لم تحقق منها البشرية إلى يومنا هذا سوى مقدار نقطة في بحر. وبذلك يبقى تعميم فحوى واستعمالات المعارف والكشوفات الجامعية في المجتمع ذا أولوية قصوى بالنسبة للدولة بمؤسساتها والمجتمع بمنظماته الرسمية وغير الرسمية. الحاجة إلى الرفع من الكشوفات العلمية وتحويلها إلى منافع يومية للأفراد والجماعات تزداد حدة مع مرور الزمن. لقد تحولت البنية الزمنية في التعاطي مع المعرفة والبحث العلمي في الألفية الثالثة إلى إشكالية فائقة التعقيد لكون قيمة الوقت فاقت كل القيم بما في ذلك قيمة الذهب. الإلحاح يشتد اليوم على واجهتين: واجهة الاستجابة لضغط الحاجيات المجتمعية المتفاقمة بسرعة كبيرة، وواجهة عقلنة استغلال الإمكانيات الطبيعية والحفاظ على شروط العيش الصحي أرضا، وبالتالي العمل على استغلال الطبيعة بالمنطق الذي يستحضر سلامة عيش الأجيال المستقبلية.
والحالة هاته، تحول اليوم انشغال رفع التعاون إلى أعلى المستويات الممكنة بين الجامعة والمجتمع إلى مطلب إنساني عالمي مشروط بتحقيق التنمية المستدامة وبناء المجتمعات على أساس المعارف الفعالة والناجعة. لقد تجاوزت الجامعة وضعية أن تبقى مجرد مؤسسة تعليمية تهدف إلى تخريج الكفاءات الأكاديمية فحسب لتغذية المؤسسات العامة والخاصة بالموارد البشرية الكفأة والمتخصصة، بل فرضت ضغوطات سرعة التطورات في كل مجالات الحياة تحويل المؤسسات الجامعية إلى مراكز للبحث العلمي والابتكار الدائم، والتي يجب أن تنشغل ليل نهار بإيجاد الحلول النافعة لمشكلات المجتمع وتعزيز رفاهيته. فأمام سرعة المتغيرات، ارتقت مكانة الجامعات على مستوى الدولة الواحدة، ولم يعد هناك من منفذ لحل المشاكل المتفاقمة سياسيا وثقافيا واقتصاديا إلا توفير الشروط والظروف الملائمة لجعل الجامعات فضاء دائما لإجراء البحوث التطبيقية المستهدفة للقضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والتقنية، إلى جانب انشغالها المؤرق بقضايا البيئة، والطاقة، والصحة العامة.
لم يعد مجديا أن تبق الجامعات تلعب أدوارها التقليدية منعزلة عن المجتمع. روح الأمة الواحدة لن يستوي بدون تدخل الجامعات بالقوة والفاعلية المطلوبتين داخل المجتمعات ببرامجها التطوعية وأوراش عملها التوعوية ومحاضراتها المفتوحة مع الحرص التام على تشجيع نشر المعرفة وتعزيز الوعي في قضايا مثل حقوق الإنسان، والصحة النفسية، والبيئة. بهذا المنظور الجديد، أصبح العمل الجامعي مضطرا لتجاوز أسوار مؤسساته ليمتد داخل نبضات الفئات المجتمعية. الجامعات مطالبة اليوم بتوفير برامج تدريبية ودورات مهنية لأفراد المجتمع، خاصة في المجالات الواعدة التي تغزو الوجود اليومي للإنسان، وعلى رأسها المهارات الرقمية، وريادة الأعمال، واللغات، ... كما تبقى المراهنة على النجاح في تأهيل الأفراد لسوق العمل من أعقد الرهانات المتزامنة مع الانبهار الذي أحدثه تطور الذكاء الاصطناعي. إنها الثورة العالمية المحاربة للهدر الزمني الذي ميز البحث العلمي الأكاديمي والتدبير الإداري في القطاعين العام والخاص لعقود مضت. لقد تحول الذكاء الاصطناعي إلى منصات لتوفير مضمون تاريخ الأفكار والمعارف بتقديم أشكال نموذجية جذابة، بارزا أهمية التركيز على المستقبل بإبداع المعارف وكشف الحقائق النسبية الجديدة.
إن النجاح في رفع تحديات العصر لا يمكن أن يتحقق بدون استثمار الجامعات بالقوة اللازمة في استقطاب الفعاليات الثقافية المجتمعية، وتنظيم المعارض والندوات مستهدفة تعزيز الحوار الثقافي والاجتماعي بين فئات المجتمع المختلفة، وبالتالي تيسير اندماجها في روح العصر بتأهيلها في مجال تطوير مشاريع تنموية وبحثية تخدم الذات والجماعة وتوفر فرص عمل قارة للشباب. الجامعة مطالبة اليوم بتكثيف التعاون مع المجتمع من أجل ضمان ديمومة تطوير المهارات العملية للطلاب من خلال الانخراط في مشاريع حقيقية، وتنمية كفاءة الجماهير للمساهمة في حل المشكلات اليومية باستخدام أساليب علمية مبتكرة، وبالتالي تعزيز المسؤولية الاجتماعية لدى الأفراد والمؤسسات بالرفع الدائم من مستوى الوعي الثقافي والعلمي في الروح الجماعية.
وعليه، إن رهان تحقيق التنمية المستدامة بالمغرب في سياق عالم شديد التطورات العلمية والتكنولوجية والتقلبات السياسية لا يقتصر فقط على حماية البيئة، بل يشمل أيضًا تحسين جودة الحياة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إن الوقت لا يرحم. التعليم والتوعية هو المنفذ الوحيد لتدارك الخصاص المهول الذي يميز ارتباط التنمية بالرأسمال البشري. على الجامعة أن تتشبث بأدوارها الحضارية. عليها أن تلعب دور الزعامة لتعميم مبادئ التنمية المستدامة في المناهج الدراسية لتوعية التلاميذ والطلبة في مختلف الأسلاك التعليمية بقضايا البيئة، والاقتصاد الأخضر، والتكنولوجيات الحديثة. على الحكومات المغربية أن توفر الوسائل لتمكينها من تنظيم أوراش عمل ومحاضرات دائمة حول التغير المناخي، واستهلاك الموارد، ومعالجة وتطهير المياه وإعادة تدوير النفايات، وتطبيق ممارسات صديقة للبيئة داخل المؤسسات التعليمية والأحياء السكنية على غرار استخدام الطاقة الشمسية، وترشيد استهلاك المياه والكهرباء، والتشجيع على استخدام وسائل النقل المستدامة مثل الدراجات الهوائية والمواصلات العامة بين الطلاب والموظفين، وإنجاز مشاريع المساحات الخضراء ولو اقتصر الأمر بزرع شجرة أو نبتة واحدة أمام كل بناية سكنية والعناية بها، وإعطاء الأولوية لتشجيع الشراكات مع المجتمع المدني لترسيخ المسؤولية الاجتماعية والبيئية،.... إلخ.
لقد أصبح من واجب الجامعة المغربية اليوم، بنسائها ورجالها، النضال من أجل أن ترتقي بأدوارها التاريخية لتصبح المسؤولة الأولى تجاه المجتمع والبيئة. إنها على مستوى الأمم المتقدمة المنصة الخبيرة في تحقيق التغيير الإيجابي وبناء مستقبل أكثر استدامة. على الدولة ألا تدخر جهدا من أجل تجاوز خلل امتداد المعرفة والابتكار ما بين الجامعة بمراكز بحوثها والمجتمع. عليها كذلك أن تضعف بآليات قانونية وتدبيرية شفافة وواضحة التنافر بين الجامعات والإدارة العمومية بمستوياتها الترابية، والوحدات الإنتاجية للسلع والخدمات. الأمة المغربية في حاجة ملحة إلى مجتمع يتجاوز افتقاره لثقافة القراءة والكتابة والإبداع والابتكار. الجامعة لا يمكن أن تستمر في أدوارها التقليدية التي انحصرت لعقود في إنتاج الأطر الإدارية والتقنية لفائدة القطاعين العام والخاص التي لا يستخدم في مجال وظائفها إلا نسب ضعيفة من معارفها المتراكمة. عليها أن تستعجل بلورة الخطط الدامغة لكيلا تتجول إلى هيكل منبوذ لإنتاج العطالة. في نفس الآن على الدولة أن تعي الحاجة الملحة لتجاوز منطق ممارسة السلطة التقليدي لدواليبها. التطور الذي أحدثه التعليم الجامعي الخاص في تواصله وامتداداته إلى القطاع الخاص المنتج يمكن أن يتحول إلى تجربة نافعة تمتد بآليات ناجعة إلى التعليم الجامعي العمومي، وبالتالي تحويل التعليم العالي في مجمله إلى فضاء وطني لإنتاج التميز. البلاد تحتاج لربح الوقت في مجال ترسيخ المقاربة التشاركية تحت إشراف الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة في بلورة وتنفيذ المشاريع التنموية.
***
الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز

الحصاد (قصة توضيحية)

ودعته زوجته الجميلة عند باب منزله الخشبي الصغير بأطراف الريف وكان يعتمر(يشماغ) يلفه حول رقبته الكالحة من شدة الشمس وسلمته (صرة) من القماش وهي بقايا فستان قديم وضعت فيه (طماطه وخيار وبصل وقطعة من الجبن مع رغيف من خبز التنور)، غدائه اليومي وهو خال من اللحم الذي لم يتذوقه منذ اسابيع.

توجه صوب مزرعة الإقطاعي الواسعة ليحصد له ما تبقى في الجهة اليسرى من الحقل لكي ينال حصته القليلة من الحنطة تكفيه لاقل من اسبوع والباقي ملك لصاحب الارض، شريطة ان يحمل المحصول الى المخزن اولاً ويعود ليستكمل باقي الحصاد في الجهة الأخرى من الحقل. حمل خمسة اكداس من الحنطة الى المخزن ولم يتبق له سوى نصف كيس.. وكان هذا هو الاتفاق.

وحين عاد الى الحقل منهكاً، افترش الأرض فشعر بالنعاس ووضع (صرة) الغداء إلى جانبه، وحاول أن ينام على العشب رغم نعيق الغربان التي تحيطه اسرابا تحوم وتتحسس مكان الحبوب وهو (يكشها) كلما اقتربت منه بطريقة لا فائدة من طردها لأنها ستعاود الرجوع وهي مصرة على اخذ حصتها من غدائه، وخاصة قطعة الجبنة.

فتح عينيه بعد قيلولة خاطفة، وجد نفسه محاطاً بالغربان، إلا انه لم يجد في (صرة) غدائه سوى البصل وقطعة صغيرة جداً من الخبز أما كيس الحنطة فلم يتبقى من نصفه سوى بضع حبات متناثرة حوله، التهمته الطيور والعصافير الجائعة.

تمتم مع نفسه:

يا لهذا الحظ العاثر لا طعام لي ولا لعائلتي.. يقولون إنها (القسمة)، فهل هذا هو السبب الحقيقي؟ ولكن، أين هي الحقيقة؟  وتساؤله لم يكن سهلا، رغم ان السؤال ينطوي على شيء من السذاجة، ومع ذلك قرر ان يخوض اسباب اتهام نفسه بان حظه عاثر وهو في غاية الياس والعصبية، إنها (قسمته)!!.

لماذا يلوم نفسه وهو يعرف ان للنوم (سلطان) كما يقال، لا يستطيع التحكم بإرادته، ولكن كان بإمكانه أن يشغل نفسه ليمنعها من النوم  ليتناول غدائه، ومع ذلك فقد فضل النوم وخسر ما لديه وعرض نفسه لخطر الإفتراس وهو نائم في العراء.. أين هي حقيقة (قسمته)؟ هل هي في الخارج أم مع ذاته؟

الغربان التي تحوم فوق رأسه حقيقة مادية ماثله.. والعصافير والطيور التي أكلت زاده حقيقة مادية أيضاً.. والعشب الذي نام عليه في الحقل كذلك.. ولكن كيف يثبت هذه الماديات التي عاشها او شاهدها او تحسسها وحفظها في ملف ذاكرته؟ وكيف سيتصورها ليخرجها ويعرضها على زوجته بعد رجوعه الى منزله الريفي عند الغروب؟

ملف الذاكرة يضم صور الغربان والطيور والعصافير والعشب والطعام، هي حقائق مادية التقطها العقل، فهي ليست أفكار وتخيلات وحوارات ذاتية وتداخلات فكرية ومنهجية تقوم على التحليل والاستنتاج؟ الصور المادية الواقعية هي ليست أفكار ذاتية مجردة إنما صوراً واقعية اقتنصها العقل وجمعها في ملفه.. ومن هنا يمكن التفريق بين الفكر والمادة، فالفكر ليس مادياً، إلا أن الواقع الذي تكرست فيه الصور الواقعية هي في حقيقتها مادية نقلها العقل المجرد.

إشكالية الوجود والعدم..

ولما كان الأنسان واقعاً مادياً في كليته، فهل أن الفكر الأنساني ماديا هو الآخر بحكمً ان (الفكر إنعكاس للواقع المادي)؟ 

يقول رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي في مبدأ الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وهذه المقولة الفلسفية تشير إلى الآتي - لولا تفكيري بوجودي لما كنت موجوداً - وبالتالي يخلص الى نتيجة (أن الفكر يسبق الوجود).. ولكن ديكارت ذاته موجودا حتى لو لم يفكر.. بمعنى، هو موجود قبل أن يفكر بأنه موجود !!

والذي يقصده ديكارت في تلك الأزمنة المتشابكة المرتبكة هو مجابهة ميتافيزيقية فكر الكنيسة وإحتكارها بالغيبيات دويلات المدن الأوربية، أي ان الفكر يسبق غيبيات الإيمان الديني وبالتالي العمل على فصل الدين عن الدولة.

يقول الكاتب اليساري الوجودي الفرنسي جون بول سارتر في كتابه (الوجود والعدم) ان العدم ينبثق من صميم الوعي الانساني بالوجود ذاته، لأن الوعي يفجر الطاقات، وبهذا يسطو سارتر على مضمون ما قاله استاذه الفيلسوف الالماني مارتن هيدجر في كتابه (العدم والزمان)..  والمعنى في الكوجيتو هو أن الفكر يسبق الوجود، والإشكالية هنا أنت موجود حتى لو لم تفكر، فأيهما أسبق إذن الفكر أم الوجود؟ طبعاً أنت موجود أولاً ثم تفكر ثانياً.. فمن الصعب أن تلغي وجودك عندما لا فكر.. إن وجودك وجوداً مادياً قبل أن تفكر.. والإشكالية هذه، التي ربما تتفرع إلى مقاربات وجودية، هي أن وجود الإنسان وجوداً مادياً في كينونته، وتفكير الأنسان هو إنعكاس لهذا الوجود وهو جزء منه.. فهل الفكر هو وجود مادي ايضاً لكينونة الأنسان ما دام يعتبر إنعكاساً متلازما لوجوده؟

ديكارت يرجح الفكر على الوجود لأسباب تتعلق بإحتكاكات مع الكنيسة لها طابع ديني ميتافيزيقي ولغايات فصل الدين وغيبياته المطلقة عن الوجود المادي لدويلات المدن الإيطالية، أي فصل الدين عن الدولة المدنية، كما أسلفنا.. ولكن متلازمة الفكر لا تنفصل عن الوجود المادي للإنسان.. كيف يمكن أن نتصور إنسان لا يفكر؟ وكيف يمكن أن نتصور إنسان يفكر ولا وجود له ؟

إذن، إن أسبقية الفكر على الوجود المادي - كما تشير إليه مقولة ديكارت - تعد فلسفة إيهامية محضه، لأن متلازمة الفكر ليست لها أسبقية ولا أولوية لكون الوجود المادي قائم في كينونتة المطلقة.

نظرية جون بول سارتر..

(الوجود والعدم)، دعونا نفكر في هذه النظرية أيهما الأولي الوجود أم العدم؟ مَنْ يسبق مَنْ؟ يقول البعض أن العدم يلازم الوجود الأنساني الى العدم، بمعنى (عدم، وجود، عدم) أي أن الوجود بدايته العدم وينتهي إلى العدم.. وبما أن وجود العدم حتمية في ذاته، فإن الوجود متلازم بحتمية العدم.

فإذا وضعنا الوجود بين عدمين فإن الوجود في ذاته يصبح حقيقة (مؤقتة) كوجود الأنسان المادي فيما يصبح العدم حقيقة (دائمة).. ومن ذلك يكتسب العدم حتمية لها بعد الديمومة، فيما يكتسب وجود الإنسان ذاته حتمية مؤقتة.

ولكن الإشكالية في هذا الفرز الفلسفي، كيف يمكن أن يُخلقَ الوجود من العدم؟ فإذا كان الشيء عدماً، فكيف يخلق وجوداً مادياً في كينونة وجودية من العدم؟ ثم، من أين يبدأ العدم؟ وإلى أين ينتهي؟ يتحدث هيدجر الفيلسوف الالماني عن متلازمة الفناء للوجود وإن هذه المتلازمة مترافقة مع الخلق (خلق، فناء، خلق، فناء) حيث تصبح هذه المتلازمة حتمية، ولما كان الفناء يلازم الخلق من بدايته حتى نهايته، فهو حتمية مطلقة ونسبية في آن. أما العدم فهو حالة مطلقة لا نسبية تلازمه.

ويكرس هيدجر معنى ان تكون انسانا إذ تقوم فلسفته على ثلاثة اسس هي القلق الوجودي والاغتراب والموت، وان معطيات القلق تنبع من حتمية الموت.. فالقلق الوجودي الذي يسيطر على الكائن البشري هو الذي يكشف عن معنى العدم، وسبب القلق هو الخوف على الوجود من العدم حيث ينشأ من ذلك اللامعنى من الحياة ولكن الانسان حقيقة هو الذي يعطي معنى للحياة ويصنع عالمه ومن الصعب الوصول الى هذه الغائية الا اذا كان الانسان حرا حيث اثبات الذات الوجودية يمنح الحرية. فيما تعد ثلاثية الفيلسوف باروخ سبينوزا ممثلة (بالله والعقل والفكر) حيث يعتقد ان الله عقل لانهائي موجود في كل شيء، الكون والطبيعة والفكر وان المنطق العقلي يوصل الى معرفة الله.. فهو في هذا المنحى ليس ملحداً.

وحينما لا يكون الانسان ذاته، يهرب من القلق الوجودي عن طريق السقوط في بحر الاشياء الصغيرة، التي تستعبده وتبعده عن إثبات ذاته.. ويمثل بحر الأشياء الصغيرة (الثرثرة اللامعنى لها - الفضول الهروب من الذات - الالتباس الوصول الى مرحلة الابتذال).

فالخوف يختلف عن القلق.. لأن الخوف من شيء قد يكون حيوانا مفترسا او أفعى سامة.. ولكن القلق ناجم عن العدم والعدم هو الموت والموت حتمية وجودية تعكس قلقاً وجودياً والقلق الوجودي يكشف عن الفناء.. والمحصلة ان الانسان امام معضلة العدم وإشكالية اللآجدوى من الحياة كما يراها سارتر.. ومن هنا يتجلى إلحاد الفيلسوف الفرنسي ونكرانه الله خالق الكون والمتحكم في توازناته الكونية وخالق البشر على عكس مارتن هيدجر الذي يؤمن بوجود الخالق سبحانه وتعالى.. ويتضح من ذلك، ان البعض من الفلاسفة ينتهون بالايمان بالله وبوحدانيته والبعض الآخر ينكرون وجوده معاذ الله ويظلون يطوفون في ظلال مبين،

***

د. جودت صالح

22/ شباط 2025

 

 

يتساءل عالم النفس والناقد الاجتماعي النيوزيلندي "جون شوماكر" John Schumaker الذي أمضى ربع قرن يعيش ويعمل في بلدان مختلفة، مثل زامبيا، وجنوب إفريقيا، وتايلاند، وبريطانيا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، عما إذا كان مجتمع المستهلك سطحياً للغاية بحيث لا يستطيع التعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تواجه كوكب الأرض.

يبدو أنه لم تظهر نتائج التلقين الثقافي بعد في هذه المرحلة، ولكن هناك اتجاه واضح ــ التفاهة تتقدم، تليها عن كثب السطحية والتشتت الذهني. يبدو الغرور رائعاً في حين يأتي العمق في المؤخرة. والضآلة تتقدم بقوة، جنباً إلى جنب مع السلبية واللامبالاة. فقد الفضول الاهتمام، وتعرضت الحكمة للخدش، وكان لابد من وضع الفكر النقدي جانباً. والأنا تنطلق في جنون. وتستمر فترة الانتباه في التقلص، ولا أحد يراهن على البقاء.

لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو. فقبل نصف قرن من الزمان، كان المفكرون الإنسانيون يبشرون بصحوة عظيمة من شأنها أن تبشر بعصر ذهبي من الحياة المستنيرة. كان أشخاص مثل عالم النفس والفيلسوف الألماني "إريك فروم" Erich Fromm ، وعلماء النفس الأمريكيين "كارل روجرز"  Carl Rogers، و"أبراهام ماسلو" Abraham Maslow ، و"رولو ماي"  Rollo May، والعالم النمساوي "فيكتور فرانكل" Viktor Frankl يضعون الأساس لنظام اجتماعي جديد يتميز بوعي متزايد، وعمق الغرض، والصقل الأخلاقي. كانت هذه الرؤية المغرية نقيضاً لمجتمعنا من النرجسيين الضيقي الأفق والماديين المنوِّمين. لم يكن الغباء قدرنا. لم يكن الفناء الكوكبي هو الخطة. بحلول القرن الحادي والعشرين، كان من المفترض أن نكون "شعب الغد" النادر، الذي يسكن عالماً حكيماً وصحياً.

اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى من أي وقت مضى ولم يكن تسامحنا مع الجدية أقل من أي وقت مضى.

مفهوم روجرز للتوافق

أشار كتاب العالم الألماني "إريك فروم" الضخم عام 1955 بعنوان "المجتمع العاقل" The Sane Society إلى ظهور "شخصية التسويق" أحادية البعد - مخلوق آلي، مستهلك، "جيد التغذية، ومسلي جيداً. سلبي، وغير حي ويفتقر إلى الشعور". ولكن فروم كان واثقاً أيضاً من أننا سوف نتجنب المزيد من الانحدار إلى السخافة. وتنبأ بمجتمع طوباوي يقوم على "المجتمعية الإنسانية" التي من شأنها أن تغذي "احتياجاتنا الوجودية" العليا.

في كتابه الصادر عام 1961 بعنوان "كيف تصبح شخصاً"، كتب "كارل روجرز": "عندما أنظر إلى العالم أشعر بالتشاؤم، ولكن عندما أنظر إلى الناس أشعر بالتفاؤل". ورغم اعترافه بأرض الأحلام المغرية التي تكتنف ثقافة الاستهلاك، فقد كان يعتقد أننا ــ "أهل الغد" ــ سوف نخدم مجتمعاً موجهاً نحو النمو، حيث يُعرَّف "النمو" بأنه الكشف الكامل والإيجابي عن الإمكانات البشرية.

سوف نتحرك نحو الأصالة والمساواة الاجتماعية ورفاهية الأجيال القادمة. وسوف نحترم الطبيعة، وندرك عدم أهمية الأشياء المادية، وسوف نتمسك بشكوك صحية بشأن التكنولوجيا والعلم. إن الرؤية المناهضة للمؤسسات من شأنها أن تمكننا من صد السلطة البيروقراطية التي تجردنا من إنسانيتنا بينما نتحد لتلبية "احتياجاتنا العليا".

إن أحد أكثر المفاهيم شهرة في تاريخ علم النفس هو "هرم ماسلو للاحتياجات"، والذي غالباً ما يتم توضيحه من خلال هرم. وبمجرد قبوله على نطاق واسع، كان مستوحى أيضاً من الإيمان بالإمكانات البشرية الإيجابية الفطرية. فقد زعم ماسلو أن البشر يحولون انتباههم بشكل طبيعي إلى الاحتياجات ذات المستوى الأعلى (الفكرية والروحية والاجتماعية والوجودية) بمجرد تلبية الاحتياجات المادية ذات المستوى الأدنى. وفي الصعود على الهرم و"النمو"، فإننا نوجه أنفسنا نحو الحكمة والجمال والحقيقة والحب والامتنان واحترام الحياة. وبدلاً من المجتمع الذي يلبي ويحافظ على القاسم المشترك الأدنى، تخيل ماسلو مجتمعاً يزدهر في سياق تعزيز الأفراد الناضجين "المحققين لذواتهم".

وكان ماسلو يتبنى نهجاً إنسانياً في علم النفس، وكان عمله يركز على الشخص ككل بدلاً من الأعراض النفسية الفردية. يصف التسلسل الهرمي للاحتياجات الذي وضعه عدة مستويات من التجربة الإنسانية، مع أمثلة لكيفية تلبية كل حاجة. وتفترض النظرية المقابلة أن كل مستوى يجب أن يتم تلبيته بشكل كافٍ قبل أن يكون الشخص مستعدًا للتعامل مع المستوى التالي.

كتب ماسلو في ورقة بعنوان "نظرية الاحتياجات البشرية"، والتي وصفت النموذج لأول مرة: "تتدرج الاحتياجات البشرية في تسلسل هرمي قبل القدرة". "بمعنى أن ظهور حاجة ما يعتمد عادةً على الإشباع المسبق لحاجة أخرى أكثر قوة. الإنسان حيوان يريد باستمرار. كما لا يمكن التعامل مع أي حاجة أو دافع كما لو كان معزولاً أو منفصلاً؛ كل دافع مرتبط بحالة الرضا أو عدم الرضا عن الدوافع الأخرى".

وفقًا لماسلو، فإن الاحتياجات الإنسانية الأكثر أهمية هي تلك التي تبقينا على قيد الحياة، مثل الطعام، والماء، والمأوى، والهواء. وبدون هذا المستوى الأساسي من البقاء، لا يمكن توقع أن يقوم الشخص بالكثير في طريق التفكير أو الإنجاز الأعلى.

أوضح ماسلو في بحثه: "إن الشخص الذي يفتقر إلى الطعام والأمان والحب والتقدير من المرجح أن يتوق إلى الطعام أكثر من أي شيء آخر". وافترض أن كل شيء آخر يجب أن يأتي بعد ذلك.

ولكن حدث شيء ما على طول الطريق. فقد انهار الهرم. وتراجعت الإمكانات البشرية إلى المقعد الخلفي للإمكانات الاقتصادية في حين أفسح تحقيق الذات المجال للانغماس في الذات على نطاق مذهل. لقد ازدهرت ثقافة اللب عندما تم خداع الجماهير بنجاح في بناء منزل وسط مجموعة متنوعة متغيرة باستمرار من الاحتياجات المادية الزائفة.

القصور الذاتي

إن القصور الذاتي، والثنائية، والخطية، والاختزالية هي عادات راسخة في التفكير، وخصائص داخلية للعقل تم اختيارها وراثيًا وفوق الجيني، والتي أعاقت العلم منذ نشأته. وقد أدت هذه الطغيان على الطبيعة البشرية إلى نجاح حتمي على ما يبدو للتزايد التدريجي على الثورة، والتسلسل الهرمي على المصفوفة، والتسلسلية على التوازي والتكامل.

إن الراحة النفسية التي تستمدها هذه الانتصارات من القيود لا تعفي العلماء من المهمة المركزية المتمثلة في تحرير تفكيرهم، وبالتالي تحرير العلم من القيود الضيقة التي نسجتها هذه السلاسل الأربع الضخمة، والتي تتآمر يومياً لتأليه التافه وإضفاء الشيطانية على الجديد. إن العقيدة المتحيزة التي يتبناها العلم المؤسس تعكس بأمانة هذه الفرسان الأربعة للقيود البشرية المروعة.

القصور الذاتي: إن الالتزام الأساسي الذي يلتزم به العالم هو التغيير، ولكن إحدى السمات الأساسية لطبيعة الواقع المادي والحيوي هي المقاومة العميقة للتغيير، والمقاومة مع كل ذرة، ومسار عصبي ميسر. إن المفهوم الغامض للقصور الذاتي، وهو خاصية أساسية للوجود، يصفه كثيرون ولا يفهمه أحد بشكل كامل، يضع العالم في معضلة شرسة. إن المفهوم المادي يثبت أن هناك حاجة إلى قدر هائل من الطاقة لتغيير حالة الحركة.

إن القصور الذاتي التناظري للفكرة مسؤول عن انتصار التافه بقدر أي سمة بشرية أخرى. إن أغلب أعضاء المجتمع العلمي وكل أفراد الجمهور تقريباً لا يدركون أن هذا الجمود يشكل تهديداً حقيقياً. فنحن نتصور أنفسنا مرنين ومتقبلين لأساليب التفكير الجديدة. ولا يمكن أن نتصور هذا الوهم إلا لأن الجمود قوي إلى الحد الذي يجعله يقمع كل الأفكار الجديدة الحقيقية باستثناء عدد قليل جداً منها في كل قرن، ويخفي الاختلافات التافهة حول الموضوعات الراسخة تحت "ملابس الإمبراطور الجديدة" التي تبدو جديدة.

لقد سمحت الفترة الممتدة بين الطبيب الإغريقي "جالينوس" والطبيب الإنجليزي "ويليان هارفي" والتي بلغت 1300 عام بظهور واستمرار أي فكرة جديدة. لقد جلب له الوصف الدقيق الذي قدمه هارفي للدورة الدموية، والذي قوض ودحض في نهاية المطاف مجمل عقيدة جالينوس، المعاناة والنبذ وفقدان عيادته الخاصة والموت في فقر مدقع. لم يكن هناك سوى ثلاث أفكار جديدة خلال القرن ونصف القرن الماضيين لتكون بمثابة الأساس للطب الحيوي الحديث. هذه الأفكار الثلاث، التي نجت بطريقة ما من القوة الساحقة للقصور الذاتي، هي، وفقًا لترتيب رجل واحد من حيث قوتها وجمالها العام: الانتقاء الطبيعي، والوراثة، ونظرية الجراثيم المسببة للأمراض.

إن الانتقاء الطبيعي يوضح لنا كيف تتفاعل العمليات والعمليات الفرعية: وكيف تؤدي العلاقات التفاعلية بين هذه العمليات المكونة إلى مجموعة غنية من الحلول القوية للظروف المتغيرة باستمرار ودورياً وبشكل متقطع. كما يساعد الانتقاء الطبيعي في تفسير تطور القدرات العصبية للإدراك والتذكر والاستدلال. وهو يسلط الضوء على كيفية تفاعل الشبكات المناعية مع البيئة ومع بعضها البعض لحمايتنا من بحر افتراضي من الغزوات الميكروبية القاتلة المحتملة. والانتقاء الطبيعي هو الفكرة الأساسية وراء التطور والكيمياء التوليفية. وفي هذا الصدد، فإن الانتقاء الطبيعي له نفس الأهمية لفهم مقاومة الأدوية والتغلب عليها كما هو الحال في تقدير التنوع البيولوجي. وهو ذو أهمية متساوية عبر الأبعاد البيئية من دون الذرية إلى العالمية.

إن جوهر علم الوراثة - وجود خطط فيزيائية مفصلة وقابلة للتوريث داخل كل كائن حي مسؤولة عن العديد من خصائصه، إن لم يكن معظمها - هو حجر الزاوية الثاني. إن صياغة مندل الرسمية وتدوين الملاحظات القديمة حول تربية النباتات وتربية الحيوانات والثقافة القبلية والمحرمات تقودنا في خط متواصل عبر هالدين وماكهنتوك، وجاكوب ومونود، وواتسون وكريك، إلى مشروع الجينوم البشري اليوم والاختبارات الجينية والعلاج الجيني الجسدي في المستقبل ـ وإلى التلاعبات الحتمية بالخط الجرثومي التي سوف تلي ذلك. ولقد تم الترويج بلا نهاية للاختلافات التقنية الطفيفة وغير الطفيفة حول موضوع البازلاء الناعمة والمجعدة إلى الحد الأقصى.

ثقافة اللب

تعمل ثقافة المستهلك على مبدأ مفاده أن التفاهات أكثر ربحية من الجوهر وتكرس نفسها للإفراط المادي المتواصل، وأصبحت أداة دقيقة لإبقاء الناس غير كاملين وسطحيين وغير بشريين.

 تستمر المادية في اكتساب الأرض، حتى في مواجهة نهاية العالم البيئية الوشيكة.

إن ثقافة اللب هي وليمة من الزينة. المواطن المثالي هو مساحة فارغة يمكن للأدوات أن تمر عبرها بسرعة، غير مهضومة إلى حد كبير، لذلك هناك دائماً مساحة للمزيد. الواقع يتسابق كضباب من الخيارات الاستهلاكية التي لا تبدو حقيقية تماماً. نحن نعرفها باعتبارها المسار السريع ونحاول جاهدين مواكبة ذلك.

لقد وصف "رولو ماي" هذه الظاهرة بدقة في كتابه بعنوان "بحث الإنسان عن نفسه" Man's Search for Himself "إنها عادة ساخرة لدى البشر أن يركضوا بسرعة أكبر عندما يضلوا طريقهم". لذا فإن الأمر يسير كالمعتاد حتى مع سقوط السماء.

"إن العثور على مركز القوة داخل أنفسنا هو في نهاية المطاف أفضل مساهمة يمكننا تقديمها لإخواننا من البشر. إن الشخص الذي يتمتع بقوة داخلية أصيلة يمارس تأثيراً مهدئاً عظيماً على الذعر بين الناس من حوله. وهذا ما يحتاج إليه مجتمعنا ـ ليس الأفكار والاختراعات الجديدة؛ مهما كانت أهميتها، وليس العباقرة والرجال الخارقين، بل الأشخاص القادرون على "أن يكونوا"، أي الأشخاص الذين يتمتعون بمركز قوة داخل أنفسهم".

لقد تنبأ بعض النقاد بانتصار التافهين. ففي مقاله بعنوان "نظرية الثقافة الجماهيرية"، تنبأ "دوايت ماكدونالد" بـ "ثقافتنا التافهة المنحطة التي تفرغ الحقائق العميقة وكذلك الملذات العفوية البسيطة"، مضيفًا أن "الجماهير، التي فسدت بسبب أجيال عديدة من هذا النوع من الأشياء، تأتي بدورها إلى "إننا نطالب بمنتجات ثقافية تافهة". اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى مما هو عليه الآن، ولم يكن تسامحنا مع الجدية أدنى مما هو عليه الآن.

في هذا الضباب الكثيف، يمكن بسهولة أن ينقلب المعنى والعبث. ويبدو الخاسرون في هيئة فائزين، ويختلط الأمر على الساذجين والمضحكين. تقول العبارة الموجودة تحت إعلان حديث عن الملابس الداخلية للرجال: "لدي شيء مفيد لجسدك وعقلك وروحك". أصبحت تصريحات الموضة شكلاً من أشكال محو الأمية؛ وأصبحت الأسماء التجارية تغرس الكبرياء، وأصبحت تفاهات المشاهير مقنعة.

عصر التفاهة

لقد ترك عصر التفاهة بصماته على الزواج والأسرة والحب. في استطلاع حديث أجرته شركة إيه سي نيلسن، عندما طُلب من الأطفال الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و6 سنوات الاختيار بين قضاء الوقت مع آبائهم ومشاهدة التلفزيون، اختار 54% منهم التلفزيون. وذكرت الدراسة نفسها أن الآباء الأميركيين يقضون في المتوسط 3.5 دقيقة أسبوعيا في "محادثة هادفة" مع أطفالهم، في حين يشاهد الأطفال أنفسهم 28 ساعة من التلفزيون أسبوعيا. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك الهواتف المحمولة وألعاب الكمبيوتر وغيرها من الألعاب التقنية التي تسبب حالة من التوحد الرقمي لدى الشباب.

من هذا الخطأ الفادح يأتي السؤال الأكثر إلحاحاً في عصرنا. هل تستطيع ثقافة تافهة للغاية، عالقة بين الحقيقة والخيال، وتشعر بالدوار بسبب التشتيت والإنكار، أن ترتقي بقيمها وأولوياتها للاستجابة بفعالية لحالات الطوارئ الكوكبية المتعددة التي تلوح في الأفق؟ بصرف النظر عن الحديث الفارغ والإيماءات الرمزية، لا يبدو أن هذا يحدث.

لقد شعر بعض كبار علماء الإنسانية بأن هناك حدوداً لقدرة أي ثقافة على قمع احتياجاتنا العليا. لقد افترضوا أننا مخلوقات أخلاقية بطبيعتنا وأننا سنفعل الشيء الصحيح عندما يكون ذلك ضرورياً ـ وسوف نتجاوز المادية إذا أتيحت لنا الحرية في القيام بذلك. ويبدو هذا بعيد المنال في ظل الغيبوبة الأخلاقية التي نجد أنفسنا فيها الآن. ولكن الاختبار النهائي يتلخص فيما إذا كنا قادرين على فعل الشيء الصحيح لصالح الكوكب والأجيال القادمة أم لا.

إن الأخلاق والسياسة لم يجتمعا معاً قط. فعندما تحول "المواطنون" إلى "مستهلكين"، تحولت الحياة السياسية إلى تمرين في الحفاظ على رضا العملاء. ولم يتم اختبار الديمقراطيات غير الكاملة التي نعيشها اليوم قط في مواجهة قضايا كوكبية مثل الانحباس الحراري العالمي وتغير المناخ، والتي تتطلب حلولاً جذرية ومزعجة. وفي السباق ضد الزمن، يبدو الساسة مضحكين تقريباً وهم يحاولون عدم إزعاج المساعي التافهة التي تدعم نظامنا الاجتماعي الاقتصادي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير.

تغيير الثقافة

إن الكارثة العالمية تدفعنا إلى عصر ما بعد السياسة حيث يتسابق الأفراد والجماعات ذات التوجهات الأخلاقية إلى الأمام على حساب الطبقة السياسية. وسرعان ما سيحتل مركز الصدارة استراتيجيو تغيير الثقافة القادرون على إلهام قفزات الوعي بشكل مستقل عن سياسات اتباع الزعيم التعيسة. ومن بين هؤلاء الأشخاص "جان لوندبرج"  John Lundberg الناشط البيئي والصوت العريق في الدعوة إلى تغيير الثقافة بشكل استباقي. وهو يدرك أن الاستهلاك المفرط يقلل من قيمة الواقع ويخدر الناس، حتى في مواجهة احتمالات تدمير أنفسهم. في مقاله "الترابط بين كل شيء في الكون"، كتب: "ما لم نوسع ونعمق إدراكنا للكون وأعضاء مجتمعنا، فقد نهلك جميعًا في الإصرار على التلاعب ببعضنا البعض ونظامنا البيئي بالمادية والاستغلال".

يتفق جميع خبراء استراتيجيات تغيير الثقافة على الحاجة الملحة إلى تعزيز "الوعي العالمي" أو "الوعي الكوني" - وهي نظرة عالمية واسعة النطاق مع وعي عالٍ بالترابط والقداسة بين جميع الكائنات الحية. ويعتقد أن مثل هذه العالمية للعقل لا تؤدي إلى التنوير الفكري فحسب، بل وإلى زيادة الحساسيات الأخلاقية والرحمة ومسؤولية المجتمع الأكبر أيضاً.

تعمل خلف الكواليس بعض المنظمات الجديرة بالملاحظة نحو هدف الوعي العالمي، بما في ذلك اللجنة العالمية للوعي العالمي والروحانية التي تضم في عضويتها حائزين على جائزة نوبل، ومنظرين ثقافيين، ومستقبليين، وزعماء روحيين مثل الدالاي لاما. وتشير المجموعة إلى الكم الهائل من الإمكانات البشرية الإيجابية المتراكمة والتي أصبحت جاهزة لإطلاق العنان لنفسها بمجرد أن نتولى السيطرة وننحت مسارات ثقافية أكثر صحة لطاقات الناس. ووفقاً لبيان مهمتهم، فإن مصير البشرية والنظام البيئي يكمن في قدرتنا على مدى العقدين المقبلين على مراجعة مخططاتنا الثقافية بنشاط من أجل تعزيز الوعي العالمي وخلق نماذج سياسية واقتصادية جديدة أكثر "وعيًا".

إن الكارثة العالمية تجبرنا على الدخول في عصر ما بعد السياسة حيث يتسابق الأفراد والجماعات المدفوعة بالأخلاقيات ما قبل الطبقة السياسية. حتى في نظام التعليم الرسمي، لا يزال الناس في حاجة إلى المزيد من التعليم، ولكن في كثير من الأحيان، لا يزالون يكافحون من أجل إيجاد طرق جديدة لتنمية قدراتهم.

في السنوات الأخيرة، بدأ عدد صغير، ولكن متزايد من المعلمين في دمج منظور "الوعي العالمي" في المناهج الدراسية، بهدف إذابة الحواجز الثقافية وبناء شعور بالمجتمع العالمي. حتى أن البعض يشجعون "قواعد عالمية" تربط الطلاب بالبشر الآخرين وبالكوكب بأكمله.

شعب المستقبل

نحن شعب الغد، ولدينا من الأشياء أكثر مما كان لدى أي شخص من قبل، ونحن أغبياء للغاية ومهووسون بأنفسنا لدرجة أننا لا نستطيع حتى أن نجبر أنفسنا على الاهتمام بتدميرنا الوشيك للكوكب. نحن تافهون. نحن حمقى. نحن جهلاء عن عمد. نحن ضائعون.

"لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو".

لم يكن الأمر كذلك حقًا. كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ ينص هرم ماسلو الشهير للاحتياجات على أنه عندما يتم إشباع الاحتياجات الأساسية، يمكن للناس الانتقال إلى تلبية احتياجاتهم الأعلى مستوى – الفكرية، والروحية، والاجتماعية، والوجودية. يقتبس شوماكر من مثقفي الخمسينيات المفعمين بالأمل حول "شعب الغد" ومدى حكمتهم ورضاهم الآن بعد أن تم الاهتمام باحتياجاتهم الإنسانية الأساسية خاصة في الغرب.

لكن نظرية ماسلو انهارت. نحن شعب الغد، لدينا أشياء أكثر مما كان لدى أي شخص من قبل، ونحن أغبياء للغاية ومهووسون بأنفسنا لدرجة أننا لا نستطيع حتى أن نجبر أنفسنا على الاهتمام بتدميرنا الوشيك للكوكب. نحن تافهون. نحن حمقى. نحن جهلاء عن عمد. لدينا مدى انتباه طفل مفرط النشاط متحمس للشوكولاتة. نحن ضائعون.

إن شوماكر دقيق للغاية في وصفه للمشكلة (الغرق في سطحيتنا الذاتية، وتراجع الإمكانات البشرية إلى مرتبة أدنى من الإمكانات الاقتصادية، و"الانغماس في الذات على نطاق مذهل")، ولا يتردد في تسمية "نظامنا الاجتماعي الاقتصادي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير" باعتباره السبب الرئيسي. وهو لا يقدم حلولاً كافية، باستثناء الحديث المبهم عن "الوعي العالمي".

الحرب على التفاهة

في الحرب ضد التفاهة، تتحدث بعض المجموعات عن "الكوكب" - وهي نظرة عالمية توسعية يمكن أن تبطئ مسيرة موتنا الثقافي. كان الفيلسوف الفرنسي وعالم الحفريات والقس والفيلسوف الفرنسي "بيير تيلار دي شاردان" Pierre Teilhard de Chardan هو من صاغ هذا المصطلح في الدعوة إلى عقل عالمي يدمج طاقاتنا البيئية والروحية والسياسية، وبالتالي مهد الطريق لحياة متناغمة وسلام دائم. إن منظمة "صعود الكوكب" Planetization Rising  ترى أن هذه المرحلة التالية هي الوسيلة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الارتقاء إلى مستوى أعلى من المعرفة وبالتالي إيجاد مسار مستدام للحياة لأنفسنا وللأرض: "إنها نقطة التحول التالية في رحلتنا التطورية التي يمكنها وحدها أن تزودنا بالتمكين والبصيرة اللازمتين للتغلب على القوى المتجمعة للتدمير البيئي والجشع والحرب التي تهدد بقاءنا الآن".

إن سباق التلقين الثقافي لم ينته بعد. وما زال الخاسرون يفوزون، ولا تزال احتمالات ثورة الوعي متساوية. ولكن هل هناك بديل غير الغرق في سطحيتنا؟

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

 

ظلت مقولة الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي، من أهم المقولات التي يتحرك في فضائها عمل الكثير من دعاة الإصلاح والنهضة، من علماء ومفكرين ومثقفين على مدى العقود المنصرمة.

ويعد الاجتهاد من الأساليب والأدوات التي هي في أمس الحاجة إلى التجديد وبعث الحيوية والنشاط فيه، بوصفه محرك الفكر الإسلامي على مختلف مجالات الحياة. حيث إن عماد المجتهد في اجتهاده، إنما هو فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي يبثها الشارع في مختلف أحكامه ويبنى عليها تشريعه.

ويعرف الأصوليون الاجتهاد بأنه: بذل الفقيه غاية جهده لتحصيل حكم شرعي ظني، بحيث يشعر مع نفسه انه عاجز عن المزيد من ذلك. في حين يُعرّف في الأوساط الأخرى على أنه الوسيلة المجدية التي يمكن من خلالها إيجاد حلول معينة لمشكلات معينة، تطرحها المتغيرات المتلاحقة التي تفرض على الأفراد والجماعات ضغوطاً تملي ضرورة البحث عن الخروج بفتح السبل أمام العقل للوصول إلى مناطق آمنة. وان مقولة الاجتهاد والتجديد ترتبط ارتباطا عضوياً مع الزمن، وبفكرة احتواء المعرفة البشرية واستيعابها، والارتفاع إلى مستوى لغة الخطاب المعاصر وإستفهاماته. لذلك فإن لكل زمان اجتهاداته، على أساس إن اختلاف طبيعة البيئة واحتياجاتها قد تتغير من حالٍ إلى حال، فيجب مراعاة الزمن في التعامل مع هذه الإشكاليات، على أساس إن الخطاب الديني يأتي كرسالة على نحو ما يستجيب لحاجة تجاوز الباطل المعين الذي يقابلها، فالخطاب الديني-بحسب حسن الترابي- قد يتنوع في مداه وصوره حسب حاجة كل رسالة مهما كان مغزاها. وهو نقطة الانطلاق لتقديم حلول للواقع على ضوء معطيات الدين ضمن الدائرة الدينية. فالاجتهاد ذو علاقة وطيدة بالواقع، فهو لا يتعامل مع إشكاليات الحاضر باجتهادات السابق، بل يحاول أن يصيغ اجتهادات تتوافق مع متطلبات العصر والحاضر.

ويؤكد الغرباوي على أن الاجتهاد قد عبّر عن أعمق أنموذج لتجديد فهم الدين، ورفده بطاقة مستمرة لمواكبة الحياة وتحولاتها المتنوعة، وكانت أفدح خسارة مُنيَّ بها العقل الإسلامي هي القرار المتعسف بإقفال باب الاجتهاد. فبإقفاله توقفت عجلة التقدم والتطور، فبدلاً من أن يسير الفكر نحو الأمام أخذ يتقهقر إلى الخلف ليكرس الجمود والتقليد. وكما يقول مالك بن نبي: ...هكذا يتجمد الفكر ويتحجر في عالم لم يعد يفكر في شيء... إن التقليد الخلفي يقتضي التخلي عن الجهد الفكري حتماً، أي عن الاجتهاد الذي كان الوجهة الأساسية للفكر الإسلامي في عصره الذهبي. فالاجتهاد ضرورة من ضرورات الحياة، فلا تستقيم حياة مجتمع بالميل إلى الجمود، فلا يتطور إلا من خلال الاجتهاد. وقد أخذت الرؤية التجديدية أولى صورها ودعواتها الواضحة عندما فُتح باب الاجتهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين فيما عُرف بـ"عصر النهضة"، حين دعا محمد عبده بوضوح إلى فتح باب الاجتهاد. ومع أن الاجتهاد يختلف عن التجديد، على أساس أن الأول ينحصر في التجربة التاريخية الإسلامية في الجانب الفقهي، في حين أن التجديد يفتح معنى الاجتهاد على مختلف العلوم الإسلامية والمجالات المجتمعية المرتبطة بها، بما يعني أن التجديد أوسع من الاجتهاد. إلا أنه يبقى تعبير عن منزع تجديدي في الاتجاه الذي يخدم الإنسان ويصنع الحضارة. أي إنه باختلافه عن التجديد، يبقى بمثابة الخطوة الأولى لتثبيت مشروعية التجديد، إذ إنَّ كليهما يتحرك باتجاه هدف واحد، والمتمثل بالتحصين وبيان المفاهيم والأحكام والمقولات والتصورات الإسلامية بلغة العصر. فالاجتهاد إذن، مسألة حيوية وحياتية بالنسبة للفكر الإسلامي، فلو لحق ضرر بهذا الفكر أو أن التعاليم الإسلامية تعجز عن الإجابة عن الحاجات الدينية البشرية، فلا بد من إعادة النظر في الاجتهاد بوصفه محرك الإسلام والتعاليم الإسلامية.

وبذلك فهو ليس حكراً على الفقهاء والأصوليين، كما يزعم البعض، فإن حصر الاجتهاد والتجديد في المجال الفقهي وحده، والنظر إليه بوصفه تلك الممارسة المقيدة بقواعد ومقدمات وآليات استخراج الأحكام الشرعية، تسبب في ولادة أزمة عميقة عطلت نمو الفكر الإسلامي على نحو عام، وتسببت في ثبات وجمود المفاهيم والتصورات ووسائل النظر وبقائها على لغتها القديمة وإشكالاتها السابقة. لذلك يقول (الشاطبي): لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع لا تختص بزمانٍ دون زمان. ولأن الأحكام لا بد وأن تظل خاضعة لعملية أنتاج دائمة متجددة، وذلك بقصد مسايرة الزمان والتغير في الأحوال، ووضع مصالح الناس واختلافهم بالحسبان، وهذا ما يؤكده مسكويه في قوله: إن بعض الأحكام تتغير حسب الزمان وحسب العادة، وعلى قدر مصالح الناس... فربما كانت المصلحة اليوم في شيء، وغداً في شيء آخر.

وبالتالي فلا سبيل إلى التجديد من دون الاجتهاد، حيث إن هذا الأخير-أيّ الاجتهاد- يمثل السمة الأولى والمحددة لعملية التجديد، فلا يمكن للتجديد أن يستمر من دون تفعيل عملية الاجتهاد، على أساس إن للاجتهاد والتجديد فاعلية ضرورية، وممارسة حيوية لتفسير الظواهر والمفاهيم الدينية، وتفعيل حركة التشريع والتنظيم بهدف توفر الحصانة العقائدية والفكرية والتشريعية للفرد والمجتمع. وهما في علاقة مترابطة، إذا كان يراد بالتجديد هو التطوير، فالاجتهاد هو الانتقال من طور إلى آخر يحقق فيه الإنسان آماله وأشواقه إلى حياة أكثر رقياً وازدهاراً.

إذن، فإن لمقولة الاجتهاد أهمية بالغة في تطوير المشاريع التجديدية، ولكن، يجب الحذر من استنساخ الاجتهادات السابقة، وتطبيقها بمضامينها التي درجت عليه، بل يجب أن تكون هنالك اجتهادات جديدة همها الوحيد تخليص الأنا العربية من أسوار التبعية الغربية، وتخريجها أيضاً من بوتقة الماضي المتمثل بالتراث؛ لأن  الاجتهاد لم يولد إلا على أساس قراءة النص الإسلامي ضمن حركته في الواقع المعاش، قراءة واعية لثوابت النص وحدود الفهم المتغير لأهدافه ومقاصده، بهدف الاستجابة لإشكاليات الواقع وتكييف متغيراته واحتوائها في الفضاء المعرفي الإسلامي، فيجب على الاجتهاد أن يستوعب متغيرات الحياة، ويواكب تطوراتها ويلاحق الزمن المتجدد وما يفرزه من قضايا ومشكلات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وغيرها... ويمكن معالجتها من خلال حركة الاجتهاد الذي يزودها بما تحتاجه في التفاعل مع صيرورة الحياة.  لذلك جاء التركيز على أهمية الاجتهاد في بلوغ إمكانية التجديد، كون أن الاجتهاد في عصرنا الحالي لا يمثل حاجة عرضية، أو يكون جائزاً فحسب، بل هو اليوم فرض وضرورة ملحة، من اجل إمكانية استعمال الفهم الخاص بعيداً عن الآراء والاجتهادات السابقة. ويمكن من خلال الاجتهاد أن نخرج من حالة القصور المفروضة علينا نتيجة الإيمان بضرورة العكوف على اجتهادات موروثنا، في حين يقتضي التجديد استعمال الفهم الخاص بمعزل عن اجتهادات الآخرين.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

روى لنا في كتابه سني الملوك (المؤرخ أبو عبد الله حمزة الاصفهاني-893-970م) ان الغساسنة حكموا ستمئة سنة بدات مع جفنة بن عمرو مزيقياء الى جبلة بن الايهم، اعتمادا على نولدكة (كتاب دراسات في تاريخ العرب القديم-ملوك الغساسنة) وجدت ان حكمهم لا يتجاوز قرنا من الزمان اخرهم جبلة بن الايهم، الذين قبله كلهم عرجان لان أسماءهم تبدا بالاعرج لا اعلم هل هي صفة تشوه بالتناقل، ام هو فخ السرديات او عدم دقة الاستعراض من قبل المؤرخ، كذلك هي الاستعراضية في الثقافة العربية المعاصرة تشير إلى ظاهرة تبرز فيها الفردية والاهتمام بالمظاهر بشكل متزايد، تعكس تحولاً في القيم الاجتماعية والثقافية و التركيز على الذات في التعبير عن الهوية الشخصية. الاهتمام والنجاح الاجتماعي للمثقف (التكتوكي) لها دورها في نشر ثقافة الاستعراض. تأثير الثقافات المختلفة على المجتمعات العربية زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، أدت الى تسريع الوصول إلى المعلومات كما ان تغيير طرق التواصل اسهمت أيضا في تشكيل الثقافة العربية المعاصرة، رغم ان عرض قراءات المثقفين لفلاسفة ومفكرين آخرين له فوائد متعددة، منها يساعد على توضيح الأفكار والمفاهيم المعقدة من خلال سياقات مختلفة ويتيح للقارئ التعرف على آراء متنوعة، مما يعزز من قاعدة المعرفة ويفتح المجال للنقاشات الفكرية حول موضوعات معينة، ويعزز من التفكير النقدي لكن الأهم من ذلك هو ان يوضح كيف أثرت أفكار مفكرين آخرين في الكاتب، وان يبرز الروابط الفكرية ويساعد في توسيع آفاق القارئ من خلال التعرف على وجهات نظر جديدة ومختلفة، لكي يعيد القارئ النظر في الأفكار القديمة ويكون رؤى جديدة، ويساهم في تطوير الفكر الثقافي ،إن عرض قراءات الآخرين ليس مجرد استعراض، بل هو وسيلة فعالة لتعميق الفهم وتعزيز النقاشات الفكرية.

 الكاتب وفخ السرديات

تحليل وتقديم وجهة نظر خاصة لشرح لماذا تعتبر بعض القراءات مهمة في السياق الثقافي أو الاجتماعي الحالي، وكيف ترتبط بالأحداث أو القضايا المعاصرة...؟ محاولة الربط بين الأفكار المختلفة التي قرأها الكاتب وكيف تتكامل أو تتعارض مع بعضها البعض...؟ استخدم أمثلة حقيقية أو تجارب شخصية لدعم وجهة النظر وشرح الأفكار بشكل واضح، طرح أسئلة مفتوحة تحفز التفكير والنقاش، يمكن أن يساعد في تحويل السرد إلى حوار فكري عميق، تجنب السرد السطحي الذي لا يقدم تحليلاً أو تفسيرًا، الحرص على تحقيق توازن بين عرض الأفكار والآراء الشخصية، عدم جعل السرد هو المحور الرئيسي، بذلك يمكن للمثقف أن يقدم محتوى غنيًا ومؤثرًا يتجاوز مجرد سرد القراءات والاستعراض الكتابي. فخ السرديات يمثل تحديًا كبيرًا في الكتابة الأكاديمية والأدبية و يشير إلى عرض الأفكار والمفاهيم من كتب ومؤلفات متعددة بأسلوب غير منظم لايهدف إلى توضيح موضوع معين وتقديم معلومات جديدة، أو إثراء النقاش لذا يمكن أن ينزلق الكاتب في سردٍ سطحي، حيث يتم تقديم المعلومات دون عمق أو تحليل ،التركيز على السرد قد يؤدي إلى فقدان التحليل النقدي للأفكار، مما يجعل النص أقل قيمة، ويؤدي الاعتماد المفرط على الاقتباسات إلى تشتيت الانتباه عن الرؤية الشخصية للكاتب، على الكاتب  أن يتجاوز مجرد السرد إلى تحليل الأفكار وتقديم رؤى جديدة للحفاظ على التوازن بين عرض الأفكار الخاصة والرؤية الشخصية، تقديم السياق اللازم لفهم الأفكار بشكل أفضل، يساعد القارئ على رؤية الروابط بين المفكرين. الاستعراض الكتابي يمكن أن يكون أداة قوية إذا تم استخدامه بشكل فعّال، من المهم تجنب فخ السرديات من خلال التركيز على التحليل النقدي وتقديم رؤى جديدة. الراي الثقافي له مخرجات فكرية وتطبيقية، ماهي اهمية الاستعراض إذا كان لا يفضي الى مخرجات قكرية...؟ إذا كان الاستعراض الثقافي لا يفضي إلى مخرجات فكرية، فإن أهميته تتضاءل، لكن يبقى له بعض الفوائد، وهي يساهم في الإشارة المعرفية حول موضوعات معينة، مما يساعد القارئ في محولته التعرف على مختلف الأفكار، يمكن أن يفتح المجال لنقاشات جديدة، لتحقيق الفائدة القصوى لهذا ينبغي أن يكون الاستعراض مصحوبًا بتحليل نقدي ورؤية جديدة تسهم في تطوير الفكر.

معايير الاستعراض الجيد

لضمان أن يكون الاستعراض جيدًا ويُفضي إلى مخرجات فكرية، يجب أن يتجاوز الاستعراض مجرد تلخيص الأفكار إلى تحليلها وفهمها بشكل معمق والربط بين الأفكار المختلفة، مما يساعد على إبراز العلاقات والتعارضات وتقديم أسئلة مفتوحة أو نقاط للنقاش تشجع على التفكير النقدي وتبادل الآراء ووضع الأفكار في سياقها التاريخي والثقافي لفهم التأثيرات والخلفيات والاعتماد على مصادر موثوقة وتقديم المعلومات بشكل موضوعي دون تحيز. ان دمج الرؤية الشخصية للكاتب مع الأفكار المستعرضة، يسهم في تقديم وجهة نظر جديدة وتنظيم الاستعراض بشكل منطقي وواضح، يسهل هذا للقارئ متابعة الأفكار ،تقديم استنتاجات واضحة وتوصيات بناءً على التحليل، يساهم في توجيه الفكر نحو مخرجات جديدة. الالتزام بهذه المعايير، يمكن الاستعراض أن يصبح أداة فعالة تُفضي إلى مخرجات فكرية غنية ومؤثرة.

التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية

 تحقيق التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية في الاستعراض يتطلب اتباع بعض الاستراتيجيات الفعالة. تحديد الهدف من الاستعراض بوضوح، تقديم المعلومات والحقائق بشكل موضوعي، أضافة آلاراء الشخصية بعد ذلك، يساعد هذاعلى توضيح الفروق بين الحقائق والآراء عند تقديم الرؤية الشخصية، استخدم التحليل النقدي لدعم آلراي، تقديم الحجج والأدلة، الاعتراف بأن هناك وجهات نظر متعددة حول الموضوع، يمكنك عرض اراء مختلفة ومن ثم توضيح وجهة النظر الخاصة، الموضوعية مهمة عند مناقشة الأفكار المختلفة، وتجنب استخدام لغة منحازة.

اللغة المحايدة عند عرض الآراء المختلفة واستخدم التجارب الشخصية أو الأمثلة لتوضيح وجهة النظر، يجعل الرؤية الشخصية أكثر ارتباطًا بالموضوع، كلما كانت المصادر أكثر تنوعًا، كان من الأسهل تحقيق التوازن بين الموضوعية والرؤية الشخصية من خلال اتباع هذه الاستراتيجيات، يمكن تحقيق توازن فعّال بين الموضوعية والرؤية الشخصية، ويسهم في تقديم استعراض شامل وموضوعي.

 تحديد مستوى الموضوعية

الاستعراض يعتمد على عدة عوامل رئيسية، منها الاعتماد على مصادر موثوقة ومتنوعة يمكن أن يعزز الموضوعية. يجب أن تكون المصادر أكاديمية وموضوعية، وتجنب المصادر ذات التحيز الواضح. القدرة على تحليل المعلومات بشكل نقدي بدلاً من قبولها كما هي. يتطلب ذلك النظر في الحجج من زوايا مختلفة أهمها التمييز بين المعلومات الموضوعية والآراء الشخصية. يجب أن تُعرض الحقائق أولاً، ومن ثم يمكن تقديم الرؤية الشخصية، يجب تجنب استخدام لغة عاطفية. اللغة المحايدة تعزز الموضوعية وتجعل الاستعراض أكثر مصداقية فهم السياق الذي تم فيه تطوير الأفكار يعزز الموضوعية. يساعد ذلك في تجنب التحليل السطحي أو الخاطئ. هذا يساعد في تقديم صورة شاملة في مراجعة الاستعراض من قبل الآخرين أو استخدام أدوات تقييم ذاتية يمكن أن يكشف عن أي تحيزات أو نقاط ضعف في الموضوعية، يجب التحلي بالشفافًية بشأن المنهجية المستخدمة في جمع المعلومات والتحليل. مما يعزز من مصداقية الاستعراض، تجمع هذه العوامل لتشكيل مستوى الموضوعية في الاستعراض. من خلال التركيز على هذه العناصر، يمكن تقديم استعراض أكثر موضوعية وموثوقية.

دور السياق التاريخي في الاستعراض الثقافي

يساعد السياق التاريخي في توضيح الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي أثرت على ظهور الأفكار والنصوص، مما يسهم في فهمها بشكل أعمق، يتيح السياق التاريخي دراسة كيف أثرت الأحداث التاريخية على تكوين الثقافة والأفكار، وكيف تفاعلت هذه الأفكار مع الظروف الزمنية، يساعد في تفسير التحولات الفكرية والأدبية التي حدثت عبر الزمن، مما يبرز كيفية تتطور الأفكار ونتكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، يوفر السياق التاريخي معلومات حول الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى ظهور نصوص معينة، مما يعزز من فهم القضايا المعقدة.

النصوص التاريخية الموازية

النصوص التاريخية الموازية تقدم وجهات نظر مختلفة حول نفس الفترات أو الأحداث، مما يساعد على تكوين صورة شاملة يمكن استخدامها لمقارنة السياقات المختلفة، مما يعزز من الفهم النقدي ويكشف عن التشابهات والاختلافات بين الثقافات. النصوص التاريخية يمكن أن تدعم الحجج المقدمة في الاستعراض، مما يعزز من مصداقية التحليلات والأفكار وتسهم في توسيع الفهم للموضوع من خلال توفير معلومات إضافية وتحليلات مختلفة، مما يساعد القارئ على رؤية الصورة الكاملة، يساهم السياق التاريخي والنصوص التاريخية الموازية بشكل كبير في تعزيز أهمية الاستعراض الثقافي، حيث يوفران الأدوات اللازمة لفهم الأفكار بشكل شامل وعميق. يساعد ذلك في بناء استعراضات أكثر ثراءً وموضوعية، مما يثري النقاشات الفكرية.

التحديات في استخدام السياق التاريخي

استخدام السياق التاريخي في التحليل الثقافي يحمل العديد من التحديات، يكون من الصعب تفسير السياق التاريخي بشكل دقيق، حيث يمكن أن تؤثر وجهات نظر الباحثين وتحيزاتهم على فهم الأحداث في سياقات تاريخية معينة و يمكن أن تُفسر بطرق متعددة، مما يؤدي إلى تباين في الآراء حول المعاني والدلالات، قد يعقد التحليل وقد يُنظر إلى الأحداث التاريخية من منظور زمني معاصر، الذي يؤدي إلى تحريف الفهم الحقيقي للسياقات الثقافية في تلك الفترات، قد يكون هناك نقص في الوثائق التاريخية أو عدم توافرها، مما يجعل من الصعب بناء تحليل دقيق وشامل، الثقافات غالبًا ما تكون معقدة ومتعددة الطبقات، مما يجعل من الصعب تحديد تأثير السياقات التاريخية على الأفكار بشكل واضح في المجتمعات المتنوعة، يمكن ان تتداخل السياقات التاريخية المختلفة، مما يعقد التحليل الثقافي ويجعل من الصعب تحديد تأثيرات معينة على الفهم الدقيق للنصوص التاريخية. اللغة، والترجمة غير الدقيقة قد تؤدي إلى سوء فهم المعاني والسياقات، يميل بعض الباحثين إلى انتقاء المعلومات التي تدعم وجهات نظرهم، مما يعيق الموضوعية ويقلل من قيمة التحليل، تتطلب معالجة هذه التحديات منهجية دقيقة وحساسية ثقافية، بالإضافة إلى انفتاح على وجهات نظر متعددة. من خلال التعامل مع هذه التحديات بوعي، يمكن تعزيز جودة التحليل الثقافي وفهم السياقات التاريخية بشكل أفضل.

***

غالب المسعودي

في المثقف اليوم