قضايا

إن مشروع النهضة الذي مرت به أوربا، كان مشروعا بنيويّاً شاملاً متكاملاً إلى حد كبير في بنائه، من الناحية السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وعندما نقول سياسيّاً، فهذا يعني القضاء على السلطات الاستبداديّة الممثلة بسلطة الاقطاع والملك والكنيسة آنذاك، وتثبيت دعائم نظام الليبراليّة بمفهومها التقدمي، كما طُرحت عند فلاسفة عصر التنوير الممثاين فكرياً لطموحات الطبقة الرأسماليّة الوليدة آنذاك. وعندما نقول اقتصاديّاً: يعني تحقيق تجاوز للعلاقات الانتاجيّة الاقطاعيّة وخلق علاقات النظام الرأسمالي واقتصاد سوقه. وعندما نقول الاجتماعيّة: فهو تجاوز للعلاقات الاجتماعيّة التقليديّة وتسسييد علاقات اجتماعيّة تتوافق وطبيعة العلاقات الانتاجيّة الجديدة، وهي العلاقات الرأسماليّة القائمة على اقتصاد السوق، وعلى مفاهيم الحريّة الفرديّة والعدالة والمساوة. واعتبار العقل هو المرجع الأساس في تقويم الواقع بكل مستوياته. أما من الناحية الثقافيّة أو الفكريّة: فهو تجاوز للعديد من مضامين المدارس والنظريات الفلسفيّة والفكريّة السابقة على المستوى الأدبي والفني والفكري عموماً القائمة على الفهم اللاهوتي أو الميتافيزيقي، وخلق مدارس جديدة تتناسب مع روح العصر الجديد، القائمة على التجربة والملاحظة والمحاكمات العقليّة.

أمام هذه التحولات البنيويّة التي حققها عصر النهضة في أوربا ممثلاً بحوامله السياسيّة والفكريّة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة، وحتى الدينيّة ممثلة "بكالفن، ومارتن لوثر" في إصلاحهما الديني، يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا حتى اليوم وهو: أين نحن من مشروعنا النهضوي؟.

لقد عوّلت الشعوب العربيّة بعد التحرر من الاستعمار منذ منتصف القرن العشرين على القوى السياسيّة التي قاد معظمها حركة التحرر العربيّة ممثلة في أحزابها ومشاريعها الوطنيّة والقوميّة، بيد أن هذه القوى ظل معظمها مرتبطاً بهذا الاستعمار بشكل أو بآخر، فإذا كان التحرر السياسي قد تحقق في خروج المستعمر من الباب، فإن الاستعمار الاقتصادي والثقافي ظل قائماً ويمارس نشاطه بحيويّة فاعلة في محيط الدولة والمجتمع، وهذا ما ساهم في فشل هذه القوى التحرريّة في تحقيق مهام النهضة التي عوّل عليهم قيامها. الأمر الذي أدى إلى ظهور قوى اجتماعيّة جديدة من داخل صفوف الشعب نعتت نفسها بالتقدميّة، وطرحت على نفسها وعلى شعوبها ضرورة تصفية بقايا الاستعمار ومن يتعاون معه من القوى السياسيّة التقليديّة، ووضعت في أجنداتها إقامة مشروع الدولة الأمّة، والدولة المدنيّة التي تهدف إلى إقامة المواطنة والتعدديّة السياسيّة ودولة المؤسسات وغير ذلك من مفردات الدولة المدنيّة، أي دولة الحريّة والعدالة والمساوة والتشاركيّة والمواطنة، المتوجة بالديمقراطيّة والعلمانيّة. غير أن شهوة السلطة التي تحكمت بهذه القيادات المبتسرة في ذهنيتها عقديّاً ومبدئيّاً (شبه التقدميّة) وأحزابها (شبه الثوريّة) أيضاً، تحولت إلى قوى معاديّة للأهداف التي طرحتها قبل استلامها السلطة، حيث تحولت إلى قوى برجوازيّة طفيليّة بيروقراطيّة جعلت من مراكز تواجدها في السلطة مصدر ثروة غير مشروعة، كما أخذت تمارس نشاطات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحتى اجتماعيّة بعيدة كل البعد عن المفاهيم النظريّة التقدميّة التي طرحتها في مشاريعها النظريّة والدستوريّة، بل أستطيع القول إنها قضت على البذور الليبراليّة التي راحت تنتشي مع القوى الحاكمة التي تولت السلطة في هذه الدول بعد خلاصها من الاستعمار السياسي، التي نعتتها هذه القوى شبه التقدميّة بالقوى الرجعيّة.

إن من يتابع سياسات هذه القوى في الدول التي حكمتها هذه القوى المتاجرة بالتقدمية وحريّة الإنسان وتقدمه وتنميته، يجدها قد مارست تكريس الجهل السياسي والفكري العقلاني النقدي لدى جماهيرها، وذلك بغية إبعاد هذه الجماهير عن معرفة الأسباب الحقيقيّة التي تمارس ضدها من غبن وقهر باسم شعارات براقة تحت مسميات الوطن والأمّة، ومن ثم إبعادها عن مشاركتها في قيادة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى بسبب هذه السياسة الاقصائيّة التجهيليّة،إلى عرقلة تكوين فكر نهضوي وممارسة نهضويّة يساعدان على تجاوز الواقع المتخلف، أو المخلف قسراً من قبل قادة هذه الأنظمة وأحزابها شبه الثوريّة . بل رحنا نلمس الكثير من أبناء هذه الجماهير يندفع إلى الفكر الظلامي والسلفي التكفيري السياسي الجهادي منه، أو الصوفي، الذي اعتقد أنه سيجد فيه خلاصه من الفقر والجوع وتحقيق العدالة والمساواة. وفي مثل هذا التوجه السلطوي الاستبدادي كانت المشكلة الأكثر تعقيداً، وهي إبعاد الجماهير عن ما تمارسه القوى الحاكمة من قهر وظلم لها بالقوة، ثم العمل المبطن من قبل هذا القوى الاجتماعيّة المضطهدة ذاتها في السر والعلن بإعلان الولاء لهذه الحكومات من جهة، ثم العمل في السر ضدّ أنظمتها الحاكمة من جهة ثانيّة، وهذا ما لمسناه في ما سمي بثورات الربيع العربي.

نقول: مع سياسة تغيب الفن والأدب والمسرح والثقافة التنويريّة العقلانيّة، راح يسود الفكر الظلامي المشبع بالجبر وتغيب العقل والتمسك بكل ما يمت بصلة للدين بصيغته المشوهة المشبعة بالجبر والاستسلام والامتثال والتواكل واعتبار الدعاء لله وسيلة لتحقيق الأماني والنجاة من المخاطر. وعلى هذه التوجه الامتثالي الاستسلامي الغيبي، أصبح الدين صلاة وصوماً ورموزاً وكرنفالات وبناء جوامع ومساجد، ودعوات للتمسك بقيم وأخلاق أهلنا من السلف الصالح من جهة، في الوقت الذي تحول من جهة أخرى إلى عقيدة وشريعة تكفيريّة وجهاديّة ضد المختلف. نعم... لقد أصبح الدين (ثقافةً) عملت هذه الأنظمة التي تدعي العلمانيّة والديمقراطيّة على موضعتها وتجذيرها في عقول ونفوس وعواطف ومشاعر وذاكرة ولغة وتطلعات شعوبها. وعلى أساس هذا التوجه كانت داعش والنصرة، وكل القوى السياسيّة الجهاديّة التكفيريّة التي ثارت اليوم ضد هذه الأنظمة تحت ما سمي بالصحوة الإسلاميّة.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سورية

 

في حديث عابر مع زميل جامعي سألني حول مكانة علي الوردي في علم الاجتماع وأهميته في الأوساط العلميَّة، بعد قراءته لكتابات متفرقة تشكك في قيمة بعض استنتاجاته وآرائه الاجتماعية المعروفة، وبالأخص ما يتعلق منها بسمات الشخصية العراقية، وتدعو إلى رفض المصطلحات الوردية في هذا الشأن لأسباب علميَّة ومنهجيّة وموضوعيّة، وهو نقاش يدور عادة في أروقة الجامعات وبين عدد من المهتمين بعلم الاجتماع، الذين يحاولون الخروج من عباءة الوردي وسلطته الأبوية، وتقديم آراء جديدة حول المجتمع العراقي، تؤكد أو تنفي أو تصحح النظريات الوردية - إن صحت التسمية -. وكان رأيي بأن أثر الوردي على علم الاجتماع سيبقى طويلاً من دون منافس، وأن الذي فعله يشبه ما فعله سقراط بإنزاله الفلسفة من السماء إلى الأرض. وقد أنزل الوردي النظريات الاجتماعية من برجها العاجي الأكاديمي، مثلما درسها في جامعة تكساس، وجعلها تمشي مع الناس في شوارع بغداد وأزقتها ومقاهيها ومنتدياتها ومجالسها الثقافية، وهذا عمل جبار لا يقدر عليه إلا من امتلك الجرأة والحماسة والمعرفة وسعة الاطلاع وروح السخرية، والأهم من ذلك كله الأسلوب الواضح الذي ينتزع الجفاف من العبارات والمصطلحات العلمية، ويجعلها لينة سهلة يتقبلها رجل الشارع مثلما يتقبلها العالِم.

كان الوردي يكرر القول بأن أفكاره المطروحة في هذا الكتاب أو ذاك ليست مقدسة، فربما غير وبدل بعضها وأعتذر عن بعضها الآخر، وفي ذلك رد احترازي مبكر يُحسب له على كل رأي مخالف قد يظهر مستقبلاً تجاه أي من آرائه وقناعاته واستنتاجاته، ومنها ما يخص أحكامه التي قد تبدو قاطعة تجاه الشخصية العراقية. ولم يكن يخطر في باله أن أفكاره وكتبه سينظر إليها بعض المحبين والقراء المتطرفين بعد سنوات على أنها أفكار لا يأتيها الباطل من خلفها أو بين يديها. ولو كان الوردي حياً لما تردد لحظة في " إدخالهم التاريخ " على طريقته الخاصة حالهم حال السياسيين والأثرياء والأدعياء. لكن ما حكاية " دخول التاريخ " هذه ؟ . في كتابه " مئة عام مع الوردي " يذكر محمد الخاقاني بأن الوردي يقصد بإدخال الشخص إلى التاريخ إضافة اسمه إلى سجل مذكراته التي اسماها "سينما بغداد"، وبأنه سيقول رأيه الصريح بهذا الشخص ويفضحه علمياً واجتماعياَ وربما سياسياً، وبذلك سيدخل الشخص المعني إلى التاريخ من أوسع أبوابه في سينما الوردي!. ومن حسن حظ الذين " أدخلهم الوردي التاريخ " من باب سخريته، بأن تلك المذكرات قد اختفت بعد وفاته ولم يظهر لها أثر.

قبل الإطاحة بالنظام الملكي في العراق العام 1958 بأقل من شهر، كتب في خاتمة كتابه " اسطورة الأدب الرفيع " الصادر في حزيران من ذلك العام: " لن يسكت عنهم الشعب حتى يراهم ممرغين في التراب". وقد عاتبه بعد ذلك احد أركان النظام الملكي على هذه الجملة المؤلمة، فقال له الوردي " بعد ما رأيناه من الأنظمة الجمهورية التي جاءت بعدكم، أثبتم إنكم أفضل منهم بكثير، حيث لم يستدع شخص طلب من الشعب أن يمرغكم في التراب إلى مباني مديرية الأمن العامة، في حين من جاؤوا بعدكم كانوا يحاسبون الناس على أنفاسهم ". وقد ندم الوردي على خاتمة كتابه هذه، مثلما تحدث بذلك إلى الخاقاني.

في ندم الوردي، وسخريته اللاذعة، وتأكيده على أن أفكاره قابلة للتغيير والتبديل، وأنه مستعد للاعتذار عن بعضها، ما يجعله من الشخصيات العلمية الفريدة المتواضعة، خفيفة الظل والروح والدرس الأكاديمي.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

يذكر مالك بن نبي في حوار أجري معه نشرته مجلة الشباب المصرية سنة 1971م، بقوله (إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة.. فالمشكل الرئيسي بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة. هذه القضية باختصار هي التي وجهت لها كل مجهوداتي منذ ثلاثين سنة). هذا الإفصاح يعكس مركزية الشاغل الحضاري في تفكير مالك بن نبي لأكثر من ربع قرن، ولا ريب أن أغلب المهتمين بفكر بن نبي وجدوا أنفسهم أمام صدمة ثقافية جديدة، على سبيل المثال لا الحصر الدكتور المصري سليمان الخطيب الذي اختار ابن نبي موضوعا لرسالته في الدكتوراة ناقشها في القاهرة سنة 1988م، ونشرها سنة 1993م، حملت عنوان: (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي.. دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر)، وفي مقدمة دواعي اختيار هذا الموضوع ذكر الخطيب قائلا: (إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل تجاه فكر مالك بن نبي ونشره في ربوع العالم الإسلامي… وأن النخبة المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلا القليل من فكر مالك وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية)[1]. هذه جزئية تاريخية عما أشرنا إليه في الحلقة الأولى، كما يعبر الدكتور اللبناني وجيه كوثراني في مقالة نشرها سنة 1990م بعنوان: (لماذا العودة إلى مالك بن نبي؟ الذاكرة والنسيان والتواصل في المشروع العربي الإسلامي)، رأى فيها أن (مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافة الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، فبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي. وأن مالك بن نبي لم يُقرأ جيدا وبموضوعية لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة)[2]. لذلك مالك بن نبي الشخص المثقف عانى من العلمانيين والإسلاميين على حد سواء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وإلى يومنا هذا، وصدق الدكتور كوثراني بقوله أن فكر بن نبي لم يقرأ جيدا، فلا يمكن أن يحسب فكره أو يتبنى من أي اتجاه لأنه كان شديد الولع بالتميز والتحرر والفعالية والدقة والعمل والحركة..

هناك ثلاثية فكرية لمالك بن نبي ذات خصوصية بالغة في الطرح والتحليل والتطلع، وهي (مشكلة الثقافة) و(شروط النهضة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) لما تمثله من السمات المميزة لهذا الفكر النهضوي العربي والإسلامي، لذلك نجد مالك بن نبي يعتبر الثقافة هي " ذلك النسيج الكلي لتوجهات المجتمع من عادات وتقاليد وقيم وأفكار،فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة"[3]، وهي المسؤولة عن تكوين الفرد الذي ينتمي إلى مجتمع ما، لا يمكن بطبيعة الحال أن تنتج ثقافة من العدم، ولا يمكن أيضاﹰ أن يفلت فرد من أفراد المجتمع من سيطرة الثقافة وقيودها الاجتماعية التي ترجع إلى أصولها التاريخية، فهي المعيار الذي تقيّم من خلاله المجتمعات، ويستلهم من خلالها دور ووظيفة كل فرد في المجتمع.

ومن هذا المنطلق، استلزم الأمر  توجيه تلك الثقافة وفقاﹰ لخصوصية كل مجتمع، ومالك بن نبي يعني بفكرة التوجيه تجنب الإسراف في الجهد والوقت[4] وذلك  عبر تحريك بوصلة التاريخ بإتجاه الهدف المتمثل في البناء الحضاري، لكن قبل التوسع أكثر في مسألتي الثقافة والحضارة لدى مالك بن نبي، ضروري جدا تسليط الضوء على موضوع أساسي يتمثل في عالم الأفكار عند مالك بن نبي والذي من خلاله سيسهل علينا الاقتراب من عناصر الثقافة والحضارة وحيثياتها في فكر مالك بن نبي..

الأفكار عند مالك بن نبي:

لقد تناول مالك بن نبي مسألة الأفكار في العديد من مؤلفاته إن لم يكن كلها، لكن هناك مؤلفات اتسمت باستكشاف عالم الأفكار في مشروع مالك بن نبي وهي على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مشكلة الثقافة، وكمنويلث إسلامي،  في مهب المعركة..

وينطلق مالك بن نبي في مقاربة الأفكار على ضوء الأدب العربي بقصة حي بن يقظان من خلال تحديد معالمها وأبعادها بقوله عن قصة: أخذت مغامراتها اتجاها مخالفا فهي لم تبدأ من الواقع إلا بعد  أن نفقت الغزالة التي تبنت الطفل المنعزل كأم ترعاه: " فكان يرتاد المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. ومازال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها.]...]  فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بها بشيء منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعة" لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئاً فشيئاً (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيرا (فكرة خالق). إن الزمن يجري هنا في مراحل من ذلك الصعود بالفكر إلى لحظة شبيهة بلحظة (زرادشت) عند نيتشه حينما نزل من جبله حاملاً رسالته. فحي بن يقظان سيذهب مع رفيق دربه (آسال)، حاملا إلى مواطني ورعايا الحكيم (سلمان) ثمرة تفكيره..[5]

ليعرب مالك بن نبي بالقول: إن العالم هنا، عالم تتركز فيه الأشياء حول الفكرة، فحي بن يقظان لا يتغلب على كآبة الشعور بالوحدة بصناعة طاولة[6]، بل ببناء الأفكار واكتشافها. إنه عالم لا يتحدد فيه الزمن لصالح شيء ما.[7]

لينتهي لاحقا إلى أن الفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم. وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل حتماً إلى المادية في شكليها: الشكل البرجوازي للمجتمع الاستهلاكي والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي، وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله كما هو شأنه اليوم فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف، والمبهم، والغامض، وعدم الدقة، والتقليد الأعمى، والافتتان بأشياء الغرب.[8]

لقد قدم مالك بن نبي ثلاثة عوالم هي عالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأشخاص. وعالم الأفكار عنده هو الأساس ويشكل مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما، ويدخل في هذا العالم أيضا كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس، يعني عالم الأفكار مرتبط بالمجردات من الأفكار والقيم التي لا تتأثر بالأشياء والأشخاص بقدر ما تؤثر فيهم، وهذا هو العالم الذي ينبغي على الإنسان أن يدخله فيرفع من مستواه الحضاري والإنساني[9].

كما يعتبر بن نبي عالم الأفكار أساس أيديولوجي ينتجه أفراد المجتمع في عملية البناء الثقافي والحضاري، اْي أن عالم الأفكار هو رأسمال المفاهيمي للمجتمع. وعالم الأفكار عند مالك بن نبي دعامة أساسية يساهم في بناء وإعادة بناء المجتمع، فلا تتوقف القضية عند إنتاج أفكار بل يجب أن نوجهها طبقا لمهمتها الإجتماعية المحددة التي نريد تحقيقها[10]، وهنا يطالعنا موقفان متعارضان في الظاهر ولكنهما مع ذلك نتيجة لوجهة النظر الإجتماعية، حيث في البلاد العربية غالبا ما نصادف هذين الموقفين متجسدين في نموذجين مختلفين:

النموذج الأولى: هناك من يدعي أداء العمل السياسي مثلا دون أن يرجع في عمله إلى قاعدة أو فكرة معينة كاْن يكون النشاط فعالا وفاعله أعمى وهذا الفاعل غالبا ما يكون سليم القصد وحينئذ لا يفسر موقفه إلا بجهله في المشكلات الإنسانية. في حين أنه قد يحدث أن يعتلي المسرح مقاول ماهر في الدجل السياسي، يكتشف طيبة البسطاء وسرعة إنقيادهم، فهو يريد أن يحتفظ بهذا المنجم الثمين بأي ثمن، بينما يعلم اْنه لن يحتفظ به إلا بنشر الظلام، وطبيعي أن يفقد النشاط فعاليته إذا ما اْدار ظهره عمدا للمقاييس والقواعد اْي إذا ما اْدار ظهره للأفكار[11].

النموذج الثاني: هناك صورة أخرى تمثل نموذجا آخر من انعدام الفاعلية فهي بصفة عامة رجل مخلص وهبته الطبيعة فكرا خصيبا لكن لديه ذوق خالطه التلف العقلي فهو لا يتخيل الفكرة من والى تنسج عليه الظروف بل لنشاط الإجتماعي بل هي لديه لون من الترف يخلق المسرة وغرام بالأفكار أشبه بالغرام بجمع تحف ثمينة يقول بن نبي: (وإنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها، قلت اْنه ليس مصنعا تتحول فيه الأفكار إلى أشياء بل هو مخزن تتكدس فيه الأْفكار بعضها فوق بعض)[12] .

تصنيف الأفكار عند مالك بن نبي:

يروي لنا مالك بن نبي أنه: (قد سنحت لي الفرصة لأقوم بتجربة مع فريق من العمال الجزائريين الأميين حين اضطلعت مهمة تعليمهم القراءة والكتابة بفرنسا سنة1938م، وكلما تقدمت التجربة شيئا فشيئا التي تابعتها مدة تسعة أشهر، كنت أرى وجوه تلاميذي تتغير كانت الوجوه ذات وميض وحشي وقد تاْنسنت تدريجيا وقد اختفى بريقها الحيواني ليحل محلها شيئا ما ينم عن فكرة داخلية، من جهة أخرى فالشفاه أطبقت أو ازداد تقاربها والرأس الذي تلقى فكرة قد شغل عضلات الصدغ التي تعمل كنابض يشد نحو الفك الأعلى والفك الأسفل الذي يغلق الفم، حين إذ تتغير ملامح الوجه بطريقة ظاهرة يمكن على ما اْعتقد قياسها بالنسبة لمن يهتمون بالعلاقات الجسدية والنفسية، وبالإمكان أن نتوصل إلى الملاحظة نفسها بمقارنة مباشرة بين ملامح اْخوين يختلف المستوى المعرفي لديهم)[13]. كما يرجع  بن نبي  تخلف المجتمع الإسلامي  إلى الاهتمام المفرط بمشكلة الاستعمار والغفلة عن مشكلة القابلية للإستعمار وهذه الفكرة القاعدية لصياغة نظرته حول عالم الأفكار كلها..

1.الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة:

لقد اشتغل مالك بن نبي بكل جد واجتهاد وعمق في كشف ملابسات مشكلة التخلف والفساد الذي أصاب المسلمين في أخلاقهم، مرجعا ذلك هو ابتعاد المسلم عن أفكاره وعقائده، فمالك بن نبي يرى أن عالم الأفكار أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع لآخر ببعض النغمات الأساسية وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلمها الأساسي، معبرا بالقول: "المثير للدهشة أن الموسيقى الهندوسية لا تشبه أي موسيقى أخرى وقد أحببتها دائما دون أن أدري لماذا. كل ما أعرفه هو أنها تخاطب أرواحنا بطريقة مختلفة، لأنها طبعت في ذاتية الهند بطريقة مختلفة وإن أسطوانة كل مجتمع تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر وتتناغم الأجيال والأشخاص مع سلمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة)[14]. أي أن عالم الأفكار على حد تعبيره، أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضا توافقاتها الخاصة لدى الأجيال والأفراد وهي الأفكار الموضوعة.[15]

2. الأفكار الميتة والأفكار المميتة:

لقد انتبه مالك بن نبي إلى ما لم ينتبه له غيره، حيث عند استماعه لأحد خريجي جامعة الزيتونة وهو ينتقد قصيدة للشاعر اْحمد شوقي مدح فيها باريس، لأنه في هذه القصيدة  مجد الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية فأفسدت هذه القصيدة حسب رأي الزيتوني نسبة كبيرة من النخبة المسلمة، فيقول خريج جامعة الزيتونة:(ماهو خطاْ شوقي الكبير في نظر المستعمر والقابل للإستعمار الرفيع؟ (خطأهْ كما يقول هذا الخريج هو تمجيده الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية التي ربطت 90 بالمائة من النخبة المسلمة بإدراك أو بغير إدراك منهم في خدمة الاستعمار، وأن خطر هذا التأكيد يبرز في أن المظاهر تؤيده وما يهمنا من ذلك كله الواقع المرضي الذي يكمن وراء هذا التأكيد وتلك المظاهر إنها الأفكار الميتة وهي الأفكار التي بها خذلت الأصول، وهي الأفكار التي انحرفت عن مثلها العليا ولذا ليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية والتي نتجت عن إرثنا الإجتماعي [16] .

رأى مالك بن نبي أن هذا الرأي في أحمد شوقي لم يكن رأياً شخصياً ولكنه رأي ترعرع  في عالم ثقافي استحكمت في داخله الأفكار المنسلخة عن جذورها، وهي ما أطلق عليها مالك بن نبي الأفكار الميتة مع أخرى استوردت بصورة سيئة من الخارج من عالم ثقافي آخر تركت جذورها فيه، فأضحت بذلك مميتة وقاتلة وهذا ما أسماه بن نبي بالأفكار المميتة التي دخلت على العالم الإسلامي وأضرت به..

الأفكار الميتة هي تلك الأفكار التي فقدت الحياة وقد ورثها العالم الإسلامي منذ فترة عصر الانحطاط اْي عصر إنسان ما بعد الموحدين، وتشكل الجانب السلبي في نهضته وهي اْخطر من الأفكار القاتلة (المميتة) . حيث يشرح لنا مالك بن نبي  عبر مثال حي  ظاهرة الأفكار الميتة في المجتمعات الإسلامية،  فالحاج الذي ينزل بميناء جدة يُسَّر حينما يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد الأبواب مكتوب عليه: هيئة الأمر بالمعروف، ثم عندما يتقدم خطوة بالبلد، يبدأ في اكتشاف حقيقة يبدو إزائها الإعلان مجرد سخرية: إنه فكرة ميتة. لكن الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى[17].

ويرى مالك بن نبي أن الأفكار الميتة التي ورثها العالم الإسلامي من عصر ما بعد الموحدين هي الأخطر وإن هذه الأفكار التي لازالت - بإعتبارها أصبحت ميتة – تكوّن الجانب السلبي في نهضتنا، بعدما كانت تكوّن الجانب الإيجابي (القتال) في عهد التقهقر والأفول الذي مر على الحضارة الإسلامية، هذه الأفكار إذن كانت قاتلة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة، غير أنها بكل تأكيد لم تولد بباريس أو لندن بل ولدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة... لم تنشأ في مدرجات أوكسفورد والسوربون..و لكنها نشأت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي وفي ظل صوامعه [18].

ولقد هيمنت الأفكار الميتة على المجتمع الإسلامي وقد ترتب عنها إنفصال بين الإنسان المسلم وأفكاره المطبوعة لذلك فهو اليوم يدفع ثمن انفصاله عن نماذجه الأساسية.

هذه حقيقة في منتهى الوضوح، إن كل مجتمع صنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الإجتماعي (أفكاراً ميتة) تمثل خطرا أشد عليه من خطر (الأفكار القاتلة)، إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته، وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون ما لم نجر عليها عملية تصفية، تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه. ويجب أن نطبق تفكير باستور في المجال البيداغوجي والتربوي،  وذلك كي ندرك الجانب المرضي في مشكلة الثقافة عندنا. وهذه الأخيرة يدل عليها مالك بن نبي بالصورة التي أعطاها الكاشاني عن الجانب  المرضي في المجال السياسي، إذ تمثلت فيه الجرثومية الداخلية أو(الفكرة الميتة) التي خدعت وخدرت قوى الدفاع الذاتي في ضمير الشعب الإيراني -ويرى بن نبي- اْنه من الجدير بالملاحظة أن دكتور مصدق لم يسقط تحت ضربات الاستعمار- المتمثل في أكبر شركة بترول في العالم- ولكنه خر تحت ضربات القابلية للإستعمار الناطقة بإسم الله والوطن [19].

أما الأفكار القاتلة فهي أفكار فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي.

ويوضح مالك بن نبي أنه "ما إن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة في العالم الإسلامي حتى نصطدم بالأفكار المميتة وهي الأفكار المستعارة من الغرب وهي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي ووفدت إلى عالمنا الإسلامي ، وأحيانا يجسد الأشخاص أنفسهم ظاهرتي هذه المشكلة فالفيروس الوراثي فيهم يمتص الميكروب الخارجي الوافد إليه اْي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي" [20].

و هنا يشير الدكتور الجزائري محمد شوقي الزين[21] في كتابه المهم (الثقاف في الأزمنة العجاف) إلى مسألة جدا مهمة بقوله: لا يجوز أن نتساءل لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟ بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى:  لماذا تمتص طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية  هذه العناصر القاتلة؟ فالأفكار الميتة هي المعوق والأفكار القاتلة هي العائق والأفكار الميتة تخص القابلية للاستعمار والأفكار القاتلة تخص الاستعمار.

يبقى حسب  نظرة مالك بن نبي الفكرة الصادقة ليست دائما فعالة والفكرة الفعالة ليست دائما صادقة، فتظهر الفكرة في العالم فتكون صحيحة أو خاطئة فإذا كانت صحيحة تظل محتفظة بصحتها إلى آخر الزمان إلا أنها برغم ذلك قد تفقد فعاليتها خلال حياتها المديدة[22] ...   (يتبع)

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

...............................

[1] الميلاد زكي، مقال مالك بن نبي والطور النقدي، المجلة العربية العدد  532

[2] ن.م

[3]  كتاب شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين،،2013، دار الوعي،الجزائر صفحة 89

[4]  ن.م ص 84

[5]  بن نبي، 2002، كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة د. بسام بركة ود. أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق صفحة 21-22

[6]  في المقابل المثال الأول عالج روبنسون بروزو وحدته بملء يومه بصناعة طاولة

[7] ن.م الصفحة 22

[8]  ن. م الصفحة 24

[9] ن.م الصفحة 16.

[10] فكرة كومنولث إسلامي، ترجمة  الطيب شريف، ط3،دار الفكر للطباعة والنشر،دمشق،2000، الصفحة 53

[11]م مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شهين، ط5، دار الفكر للطباعة والنشر، دمشق،2000،ص 67

[12] مشكلة الثقافة، ص 68

[13]م. س، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 59

[14]Malek bennabi: le problème des idées dans le monde musulman،page 51

[15]  مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص71.

[16]مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 147

[17]  ن. م الصفحة 75

[18] في مهب المعركة،  ص 136

[19] في مهب المعركة، ص 136

[20] مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 149

[21] ستكون لنا في الحلقات القادمة  وقفة مع نقد الدكتور الزين المهم لبعض أفكار مالك بن نبي

[22] تبسيط مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة وتلخيص عبد العظيم علي، ط1، دار الدعوة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،1997، ص 28

كنت في الرابعة عشرة من العمر حين التحقتُ بحلقة تدرّس كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد». وموضوع الكتاب واضح من عنوانه، فهو يعالج أخلاقيات التعلم والتعامل بين التلميذ وأستاذه وعلاقتهما بعامة الناس، وما يتصل بالعلم من مواضيع. وقد توقفت عن الدرس بعد أشهر، لكن رسخ في ذهني تأكيد الأستاذ الربط بين العلم وتطبيقاته في الحياة اليومية. ولطالما كرَّر عبارة «كل علم لا ينتهي بعمل فهو لغو». وأذكر أن زميلاً كتب في تحريره اليومي كلمة «فضل» بدل «لغو» ومعناها «زائد عن الحاجة» فتوقف الأستاذ عندها، وأنفق بقية وقت الدرس في تأكيد أنه لغو وليس فضلاً.

تحوَّلت هذه الفكرة في ذهني إلى مسلّمة لا تقبل الشك، إلى أن زرت عالماً حكيماً في دمشق، فوجدته منخرطاً في النقاش مع شخص آخر يثير السؤال بعد السؤال. وكلما أجابه الحكيم ردَّ عليه مشيراً إلى نقطة ضعف في جوابه. وبقيت أستمع إلى هذا الجدل نحو ساعة، حتى طلب الرجل تأجيل النقاش إلى الغد، فقلت ضاحكاً: وما الفائدة من جدل لا نتيجة وراءه؟ فالواضح أن الرجل لا يسأل كي يتعلم، بل لمجرد الجدل. فأشاح الحكيم بوجهه، وأمرني بالحضور يوم غد أيضاً. فقادني الفضول للموافقة. وخرجت وأنا أضحك في سرِّي من هذا الجدل العقيم. في المساء جلست أسترجع مجريات اليوم، فوجدتُ نفسي راغباً في استذكار تفاصيل الجدل والنقاط التي أُثيرت فيه. فقررت الذهاب مبكراً في الغد لسؤال الحكيم عن سر هذا الجدل، فأجابني بكلام فحواه أنها طريقة في العلم وليست سراً. وحين حضر الرجل، وبدأ النقاش، وجدت نفسي منخرطاً فيه، بالإصغاء حيناً وطلب التوضيح حيناً آخر. وفي نهاية اليوم، فهمت أن قناعتي بفكرة «العلم للعمل» قد حوَّلتني إلى ما يشبه جهاز التسجيل، أقرأ وأقول للناس ما قرأت، ويسألني شخص عن شيء فأجيبه بما قرأته أو سمعته من أستاذي أو ما قلته مرات كثيرة من قبل، حتى لقد شعرت أحياناً بأن الإجابة عن الأسئلة لا تحتاج إلى تفكير أصلاً، لأن كل الأسئلة معروفة وكل الأجوبة عنها جاهزة.

النقاش الذي تابعته هذا اليوم، أظهر أن الكثير من قناعاتي، بل المسلّمات الراسخة في ذهني، ضعيفة أمام النقد، وبعضها لا يقوم على برهان منطقي. لقد آمنت بها لأنني لم أعرف غيرها، ولأنني لم أواجه من يجادلها مثلما حصل اليوم.

التقيت الحكيم بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، فسألني عن تلك الجلسة فأخبرته أنها كانت حجر زاوية في رؤيتي للأشياء. ثم سألته عن السبب الذي يجعل شخصاً مثلي يحشو ذهنه بالثوابت والمسلّمات، فأجابني بأن السبب هو الافتقار إلى البرج العاجي، وذكَّرني بقصة العلاقة بين العلم والعمل التي درستها في سنين الصبا. ثم قال إن التركيز على تلك العلاقة، يؤدي إلى انفعال النفس بالعلم القليل الذي نتعلمه، فنتبناه لا بوصفه معرفة عامة، بل على أنه شيء يخصّنا، ينتمي إلينا وننتمي إليه، فندافع عنه كما ندافع عن حقوقنا الشخصية وأملاكنا الخاصة، ونتعامل معه على أنه معيار للقرب والبعد والصداقة والعداوة، بيننا وبين الآخرين.

قال لي ذلك الحكيم إن اكتساب المعرفة العالية شرطُه الفصل بين العلم والعمل، والانغماس في العلم لذاته، والتفكير المتحرر من أي قيد ديني أو آيديولوجي، شخصي أو اجتماعي أو طبقيّ أو غيره، أي أن تلتحق بجماعة «الأبراج العاجية» الذين لا يهمهم شيء سوى التوصل إلى فكرة، مفيدة أو غير مفيدة، ولا يتركون هذا حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد. هنا سوف تدرك عيوب أفكارك وتجادل قناعاتك، حتى لو لم تتخلَّ عنها. المهم أنك أمسيت عارفاً بما هو فكرة وما هو عاطفة. وذلك جوهر العلم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في كل المجتمعات التي تعيشُ وطأة الدكتاتورية ينصبُّ جهد الطاغية على خلق قطيعٍ من المؤمنين بأفكاره على سبيل القسر، فهو إيمانٌ خلق من القهر والخوف والقلق والترقب. أما في الجمهوريات التي يصنعُ فيها القطيعُ مؤمناً بقداسة الحاكم، فهذا المجتمع يتميزُ بالطاعة غير المشروطة، لأنها جاءت عن وعيٍ وإيمانٍ عميقين بهذا الكبير والمقدس. هذا النوع من القطيع من العسير أن يتغيرَ مكنون إيمانه، لأنه إيمانٌ خلقَ من جهلٍ مقدس. والمعروف حسب التاريخ الديني في كل الأديان أن رجال الدينِ على وعيٍ تامٍ بمتطلبات ترويض هذا القطيع أو ذاك. يميل المقدسُ مع ريح السائد من رغبات المجموع. فيعملُ على تدعيمِ أركان هذا المفهوم بعدد كبير من المعتقدات، من قبيل اختلاق المعجزات الوهمية، والكرامات الزائفة، وتأليف الحكايات الخارقة للعادة، حتى تمتد إلى أعمال خيرية باسم المقدس.

المعروف بل ومن لوازم أي دينٍ وطائفة، أن تكون لديه مصادر مالية بدونها لا يكتبُ النجاحُ والاستمرارُ له. تتعدد مصادرُ المال عند هذه المؤسسة المقدسة. مرة تسميها باسم النذر المقدس، ومرة باسم الزكاة، وأخرى باسم الصدقة، وأخرى باسم الخمس، والغنائم وغيرها. ولو اقتنعنا بأن الشريعة هي التي فرضت هذه الحقوق المالية، فمن ذا الذي يقنعني أن هذه الثروة توزعُ حسب قواعد الشريعة المالية؟!.

عرفنا من الروايات التي تنوء بها ثنايا الكتب التاريخية أن الخلفاء بعد النبي محمد، وخاصة أبو بكر وعمر وعلي، كانوا يقسمون كل ما يجمعونه من أموال بين أفراد المجتمع بكل شفافية ووضوح، بحيث يعرفُ كل إنسانٍ مقدار حقه وراتبه لو جاز التعبير. ورغم كل هذه الشفافية، تجدُ عدداً من الأفراد يشككون بأمر القسمة. في ذلك الزمن لم يهتم أو يفكر الحاكم ومنهم رسول الله بأمر استثمار هذه الأموال في التجارة مثلاً أو الزراعة لأن الناس كانوا فقراء، يؤمنون بالله الغني!!، وبمن يملأ أفواههم ليس إلا. أما في هذه الأيام وبالنظر إلى مقدار الأموال التي تجمع من الحقوق الشرعية بكل أصنافها، فالأمر لا يمكن أن يجري كما كان في ذلك الزمان. نعيش الآن في مجتمع رأسمالي منتج يتسابق مع عجلة التطور وحركة الأموال، واشتراكيٍّ على سبيل نجاة قد انجرف قسراً إلى الرأسمالية دون مقاومة. وحين نعود إلى المقدس، والمتولي لأمر هذه الأموال الطائلة، والتي تقدر بمليارات الدولارات، فلن نجد فرقاً بينه وبين النظام الاقتصادي العالمي، من ناحية استثمار كل هذا الكم من الأموال. ومن الجيد والمطلوب جداً أن تستثمرَ هذه الأموال في السوق المالية، تحسباً لمُجدِباتِ الزمن. لكننا حينما نتكلم عن حقوق مقدسة، تسمى حقوق الله والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل وطلاب العلم والمرضى وما إلى ذلك من المحرومين، فإن الأمر لابد أن يختلف كثيراً. الفقراء والمساكين في المجتمع والمحرومون ومن لم يجدوا وسيلة للكسب، يشكلون الكثرة الكاثرة في مجتمع المسلمين هذه الأيام وخاصة في العراق. هذه الأموال المقدسة فُرضت إليهم، ولا دخلَ لأي أحد بها إلا ما كان من أمر جمعها وتوزيعها بينهم حسب الأصول الشرعية. لكن أن يصلَ الأمرُ إلى استثمار الأموال المقدسة في مشاريع (مقدسة) تحمل (أسماءَ مقدسة)، وتبنى في (مدن مقدسة)، وتكتب على أبوابها (لافتات مقدسة)، ويُعلنُ عنها في (القنوات المقدس)، ويديرها (كادر مقدس)، ويكتبُ عنها في (الكتب المقدسة)، وينادى عليها وإليها من (أماكن مقدسة)، ويُقصُّ شريطُها المقدسُ بأيدي المقدس، وتباعُ قداستُها إلى هؤلاء الفقراء أصحاب الحق الأول والأخير فيها فهذا هو (العهرُ المقدس) أو (المكرُ المقدس) حسب رأيي (غير المقدس)!!.

 تفتتحُ مستشفى تحمل اسماً مقدساً، ومن أجل تطمين القطيع وترويضه مدة عامٍ واحد فقط تقدمُ إليه الخدمات الطبية مجاناً (على افتراض تقديمها بالفعل)، ثم تتحولُ إلى مستشفى تمتصُ ما تبقى من دماءِ هؤلاء الفقراء ، أصحاب الحق المالي المقدس، فهذا ما لا يمكن أن أنعته إلا بالمكر المقدس!! وإلا لمَ لا تستمرُّ بالمجان؟

وليت عقيل ابن أبي طالب يعيش هذه الأيام لما حُرمَ من هذا المال الذي طلبه من أخيه الخليفة العادل، ولما احتاج إلى التذلل إلى معاوية فلدينا ألف معاوية وألف.

***

بقلم د. علي الطائي

 22-5-2024

بقلم: إلنا شوتز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

فقط لأنك تعيش في جسد، لا يعني أنك تشعر بالاتحاد معه. علم نفس التجسيد يمكن أن يساعدك على إعادة التواصل

***

تخيل أنك تنظر في مرآة غرفة تغيير الملابس في متجر لبيع الملابس، وترتدي شيئًا لا يناسبك تمامًا. أثناء قيامك بسحب الجينز، تتبادر إلى ذهنك أفكار حول الشكل الذي يجب أن يكون عليه جسمك. أو تخيل نفسك جالسًا على مكتبك لساعات طويلة. جسمك يصرخ ليتمدد ويتحرك، لكنك تقمع الانزعاج وتستمر في الضغط. في كلا السيناريوهين – والعديد من السيناريوهات الأخرى – فأنت تتحدث مع نفسك عن جسدك كما لو كان شيئًا منفصلاً عن "أنت". الكثير منا اليوم يستمر بهذه الطريقة، متجاهلاً العلاقة العميقة بين العقل والجسد.

كنت أعتقد أن لدي علاقة جيدة مع جسدي وصورة جسدي صحية إلى حد ما. إذا سألتني إذا كنت أشعر بالارتباط بجسدي، ربما كنت سأنظر إليك في حيرة بعض الشيء، وفكرت في دروس اليوغا المنتظمة التي أمارسها وفي إحساسي العام بالرفاهية، وأومأت برأسي.

تغير كل شيء عندما بدأت أعاني من آلام مزمنة تمنعني من الحركة بسهولة وحرية كما في السابق. وفجأة غمر ذهني بالأفكار حول كيفية عمل جسدي وأن يكون أفضل. وبينما كانت تجربة جسدي دائمًا في قمة تفكيري، فإن آخر شيء أردت القيام به هو أن أكون في منزلي. أدركت أن التواصل الحقيقي مع جسدي كان أكثر تعقيدًا من مجرد التعامل بلطف مع نفسي من خلال زيادة الوزن.

كنت غاضبة مما كان يفعله جسدي بي، وفي البداية ظللت أحاول دفعه لتنفيذ إرادتي، وهو ما يعني عادةً القيام بأكثر مما هو معقول. إذا كنت قد حاولت التغلب على الإرهاق أو حتى الأنفلونزا القوية، فستعرف أن أجسامنا لا تقبل أن يتم التعامل معها على أنها عناصر تستخدم لمرة واحدة.

وأخيراً عقدت اتفاقاً مع نفسي. جلست على سرير هادئ في المستشفى بعد رؤية عدد لا يحصى من الأطباء، ووضعت يدي على أطرافي المؤلمة وهمست: "حسنًا، لقد فزت". أنا على استعداد للاستماع إلى ما تحتاجه، وليس فقط ما أريد.

في علم النفس، يُطلق على هذا النوع من الخطوات نحو ربط نفسك بجسدك اسم التجسد. يتعلق الأمر بإدراك أن تجربتك العاطفية والعقلية تؤثر بعمق على جسمك والعكس صحيح. سواء كانت تجربتك مع الانفصال الجسدي مثيرة مثل تجربتي، أو أكثر دقة، فإن تعلم كيفية التعرف عليه وإعادة الاتصال به له فوائده.

كيف يحدث الانفصال

قد تبدو فكرة الانفصال عن جسدك غريبة في البداية. قد يفترض المرء أننا متصلون تلقائيًا وبشكل مستمر. وفي حين أن هذا صحيح من الناحية العملية حيث أن الدماغ يتواجد في الجسم، إلا أن العديد من السيناريوهات أو الأنماط يمكن أن تعطل الاتصال النفسي والعاطفي. الألم الذي عانيت منه هو أحد الأسباب البارزة، ولكن هناك العديد من الأسباب الأخرى، بعضها اجتماعي أو خفي.

فكر في الطرق التي يستخدمها الأطفال ويستكشفون أجسادهم. عندما يسيطر الفضول أو الرغبة في الحركة على طفل صغير، يمكنك التأكد من أنه سيتبعه عن طريق الزحف أو الإمساك أو التمدد أو الثلاثة معًا! إذا شعروا بعدم الراحة الداخلية من أي نوع، فمن المرجح أن يخبروك بذلك بصوت عالٍ جدًا. ارتباطهم بأجسادهم لا يمكن إنكاره.

الآن، قارن هذا بالطريقة التي يعيش بها الكثير من البالغين، حيث يجلسون لفترات طويلة على مكتب وكرسي عاديين، ويأكلون في أوقات محددة. إذا تحدثنا عن احتياجاتنا وتجاربنا الداخلية، فعادةً ما تكون عابرة وبطرق مقبولة اجتماعيًا فقط.

تدفعنا جوانب الحياة في المجتمع الغربي الحديث نحو الانفصال الجسدي التدريجي

كتبت المعالجة هيلاري ماكبرايد في كتابها حكمة جسدك: العثور على الشفاء والكمال والتواصل من خلال الحياة المتجسدة (2021) ما يلي:

التجسيد هو الطريقة التي أنت بها في العالم، لكن هذا التجسيد يتأثر بما سُمح لك أن تكون عليه - من خلال ما تم تثبيطه وتشجيعه - وإحساسك بالأمان والقوة في كل ذلك.

بالنسبة للكثيرين منا، كان هناك خيبة أمل أكبر من العكس. في مكان ما على طول الطريق، طُلب منا أن نجلس ونتصرف بشكل جيد، وهو ما يعني عدم الاستماع لأنفسنا حقًا.

قد يكون المصدر الآخر للتحرر من الجسد هو الروايات التي أخبرتك بها بيئتك أو مجتمعك عن جسدك. إن المجموعة الدينية التي تروج للامتناع عن ممارسة الجنس باعتبارها نقاء قد تغرس شعوراً بالانفصال عن الرغبات الجنسية. قد يبدأ المراهق الذي يتعرض وزنه للانتقاد المستمر بالعمل كما لو أن جسده كله وجوعه سلبيان وغير جديرين بالاهتمام. ربما يكون شخص ما من عرق أو مجموعة مهمشة قد تعرض للعديد من الاعتداءات الصغيرة لدرجة أنه يبدأ دون وعي في التحرك عبر العالم كما لو أن شخصيته غير صالحة ومرحب بها.

هذه الأشكال من التحرر من الجسد موجودة بشكل خاص في الثقافة الغربية الحالية، والتي تركز على دفع الجسد إلى أقصى الحدود أو استخدامه بدلاً من العمل معه. يشرح لي عالم النفس الإكلينيكي سكوت ليونز أن الفجوة الملموسة بين العقل والجسد عمرها بضعة قرون فقط وهي في الغالب منظور غربي؛ تركز العديد من التقاليد العالمية الأخرى بشكل أكبر على العلاقة بين العقل والجسم. ضع في اعتبارك كيف تنطوي الممارسات الشرقية لليوجا والتاي تشي على وعي وتقدير متأصلين للجسم. تمثل هذه التقاليد في جوهرها بالفعل ما يسميه علم النفس الحديث بالتجسيد.

في حين أن بعض جوانب الحياة في المجتمع الغربي الحديث تدفعنا نحو الانفصال الجسدي التدريجي، إلا أن الانفصال المفاجئ يمكن أن يحدث أيضًا بعد تجربة مؤلمة. قد يحاول العقل حماية نفسه من الأذى من خلال محاولة الانعزال أو الانفصال عن الجسم لأن الصدمة حدثت بطريقة أو بأخرى داخل الجسم أو حوله. يمكن أن يصبح هذا التفكك عادة أو نمط رد فعل اللاوعي.

تعطيني المعالجة النفسية الجسدية مانويلا ميشكي ريدز مثالاً للمريض الذي يميل إلى الجلوس منحنيًا أو مكورا، دائمًا مع وضع ذراعيه أو ساقيه أمامه. ربما لا تكون على علم بذلك، ولكن نظرًا لأنك تعرضت للعنف الجسدي، فإن جسدك يحاول حمايتك باستمرار. ومع ذلك، إذا طلبت من المريض تحديد ما يشعر به جسده أو يختبره، فقد يكون التفكير فيه مخيفًا وقد يزيد من إحساسه بالضعف.

لماذا من المهم معالجة كونك شبحًا يمشي؟

على الرغم من أن مشكلة الانفصال الجسدي هي مشكلة نظامية وشائعة، إلا أنها غالبًا ما تمر دون أن يلاحظها أحد أو لا تؤخذ على محمل الجد. أحد الأسباب هو أنها تميل إلى الظهور على أنها صرخة مؤسفة لطلب المساعدة بدلاً من مجموعة واضحة من "الأعراض".

في حالتي، ركزت بشدة على الألم الجسدي وأسبابه المحتملة، ولم آخذ على محمل الجد مدى تأثير موقفي تجاه جسدي على تجربتي الشاملة في هذا الوقت العصيب. كثيرًا ما شعرت بالغضب والإرهاق العاطفي، مما جعل من الصعب علي أن أتعرف عقلانيًا وعمليًا على ما أحتاجه للشفاء.

ولأنني لم أكن على اتصال بجسدي، فقد جعلتها العدو في ذهني. المشكلة الواضحة في هذا، والعديد من أشكال التحرر من الجسد، هي أننا في نهاية المطاف نفتقد الإجابة، التي تكمن حرفيًا داخل أنفسنا.

نحن بعيدون جدًا عن التواصل، لدرجة أننا لا نعرف ما هو المفقود

ويصفه ليونز بأنه شبح يمشي: "قد تكون تقود سيارتك في مكان ما وتفوتك المخرج". هذا هو السير في الحياة بدون تجسد؛ الافتقار المستمر للحميمية الحقيقية بين الآخرين وداخل نفسك، وعدم القدرة على الاستماع إلى رغباتك ودوافعك واحتياجاتك وتسجيلها. وبعبارة أخرى، نحن منفصلون للغاية لدرجة أننا لا نعرف ما هو مفقود.

عندما يتصرف الناس انطلاقًا من هذه الحالة غير المجسدة، غالبًا ما تكون التكلفة باهظة ولكنها تبدو غامضة. قد تبدو وكأنها انفجارات عاطفية تبدو غير متناسبة مع الوضع الحالي، ولكنها في الواقع تمثيل لمعتقد أو شعور مخفي منذ فترة طويلة. في حالتي، كان ذلك يعني أنني سأدفع نفسي مرارًا وتكرارًا إلى ما هو أبعد من حدود جسدي، مثل حضور الأحداث عندما كنت أشعر بألم شديد لأنني لم أرغب في مواجهة الواقع، ومسؤولية أن أكون لطيفة مع نفسي.

بعض الخطوات نحو الاتصال

بالنظر إلى الأسباب والآثار الواسعة النطاق للانفصال الجسدي، لن يكون من المفاجئ أنه لا يوجد حل واحد يناسب الجميع لتطوير إحساس أكبر بالتجسيد.

قد تبدو فكرة أن جسدك جيد، أو شريكك أو منزلك، فكرة بسيطة ووقحة، لكن فهم ذلك هو جوهر التجسيد. في كتابها Somatic Psychotherapy Toolbox (2018)، تقدم ميشكي ريدز أوراق عمل تصف ذلك بأنه "تكوين صداقات مع جسدك"، مثل لمس أجزاء من جسدك بلطف لتصبح أكثر وعيًا بها. يتضمن تمرين التحدث إلى نفسك بلطف عبارات مثل: "أرحب بك. أنا أحبك/أقبلك أيضًا. شكرًا لك." يمكن أن تكون هذه الأفكار والممارسات الإيجابية نقطة انطلاق لتعزيز الشعور الصحي بالجسد، لأنها تتعارض مع المعتقدات والعادات التي تساهم في الانفصال.

خطوة أخرى بسيطة ولكنها مهمة هي إيلاء المزيد من الاهتمام لما يحدث في جسمك. وتوصي ميشكي ريدز بأسئلة استفسارية يمكنك طرحها على نفسك أثناء جلوسك أو المشي، مثل: "ماذا أشعر؟" ما الذي أشعر به؟ ما هي تجربتي الآن؟ يجب أن تركز هذه الأسئلة على ما يشعر به جسمك وما يستشعره. لو كان بامكانها أن تحكي لك قصة، ماذا ستكون؟ قد يكون من المفيد البدء في تتبع ذلك بمرور الوقت، وطرح هذه الأسئلة على نفسك بانتظام ورؤية كيفية ظهور التغييرات.

على سبيل المثال، دعونا نتخيل شخصًا تعرض للعنف، خاصة في مرحلة الطفولة، ولديه عادة جعل جسده صغيرًا وحذرًا، مما يعكس ويعزز أن العالم ليس مكانًا آمنًا. بالنسبة لهذا الشخص، فإن استكشاف هذا الوضع والبدء في توسيعه بعناية يمكن أن يكون جزءًا من تطوير اتصال أكثر صحة بجسده.

يمكن أن تساعدك تمارين التحرير الجسدي، مثل هز جسمك، على الشعور بمزيد من التواصل

هناك خطوة أخرى يمكنك تجربتها بنفسك وهي تحريك جسمك بعناية. يمكن أن يكون المشي والرقص وممارسة الرياضة جزءًا من جعلنا أكثر وعيًا وارتباطًا بأجسامنا. يمكن أن تساعدك تمارين التحرير الجسدي، مثل هز جسمك، على الشعور بمزيد من الوعي والتواصل. هناك علاجات أكثر رسمية وشمولية حول هذا الأمر، مثل تمارين التخلص من التوتر والصدمات (TRE)، ولكن هز جسمك لمدة تتراوح بين 10 إلى 30 ثانية في الصباح والمساء يمكن أن يكون مساحة جيدًا للبدء.

غالبًا ما يحدث التحرر من الجسد بسبب مشاعر أو تجارب غير معالجة من الماضي والحاضر. إذا كان هذا ينطبق عليك، فيجب عليك التفكير في مسار العمل الذي سيساعدك على التعامل معه بشكل بناء وآمن. تقول ليونز: "عندما تقوم بمعالجة الأشياء التي لم يتم تفعيلها أو الاحتفاظ بها في جسمك، فجأة، هناك مجال لإعادة الاتصال."

على سبيل المثال، يمكنك كتابة يومياتك أثناء وبعد تجربة بعض التمارين التي ذكرتها. إن جلب الوعي بجسمك إلى أشكال أخرى من العمل الشخصي أو النفسي الذي تقوم به بالفعل يمكن أن يساعد أيضًا - سواء كان ذلك التحدث مع المعالج الخاص بك، أو الذهاب إلى فصل التمارين الرياضية أو أي شيء آخر.

إذا وجدت أن فكرة التحرر من الجسد تسبب لك صدمة أعمق أو هي شيء تريد معالجته بشكل أكثر شمولاً، فإن العمل مع معالج متخصص في هذا المجال يمكن أن يفتح مستويات رائعة من التواصل. تعد منصة التعلم الخاصة بشركة ليونز، Embody Lab، أحد الأماكن لبدء استكشاف الطرائق العلاجية.

رريمارس ميشكي ريدز طريقة هاكومي. هذا العلاج النفسي موجود منذ أكثر من 40 عامًا ويتضمن اليقظة الذهنية والتدخلات الجسدية العملية التي تركز على تحويل المعتقدات التي تنقلها التجارب التكوينية واستعادة "التجارب المفقودة" الإيجابية. إن التجربة الجسدية، التي طورها بيتر ليفين، هي طريقة مشابهة ومستخدمة على نطاق واسع تركز على معالجة وقبول وإطلاق الطريقة التي تنتقل بها الصدمة داخل جسمك.

حق أصلي، إعادة الاتصال

أفضل طريقة للتفكير في التجسيد هي عملية وممارسة في نفس الوقت. عندما تدرك لأول مرة كيف ولماذا انقطع اتصالك داخليًا، قد يبدو الأمر كاشفًا ومؤثرًا للغاية. لقد وجدت أنني أدركت فجأة دور جسدي في كل شيء. جزء كبير من هذا هو إدراك ما منعك من التواصل.

بالنسبة لي، كانت تلك اللحظة في سرير المستشفى، إلى جانب العديد من اللحظات الصغيرة الأخرى المشابهة، نقطة تحول. وكان كتاب ماكبرايد الآخر هو الذي شجعني على أن أقول بصوت عالٍ أنني هذا الجسد. بكيت عندما أدركت أنه لا بأس في البقاء على اتصال والشعور وكأنني في بيتي مع نفسي، حتى عندما دفعني الألم والضغوط الاجتماعية في الاتجاه المعاكس.

ولكن مثل العديد من لحظات "آها"، وجدت أن هذا يصبح استثمارًا أطول وأكثر هشاشة، وقد ينطبق هذا عليك أيضًا. يحذر ليونز من أن هذا ليس في الأساس تمرينًا فكريًا. وكما أنه من غير الممكن "فهم الفرح من الناحية النظرية"، فإنه يقول إن التجسيد "شيء يمكنك تجربته فقط".

في النهاية، التجسيد هو شيء تستوعبه في علاقة صحية وناضجة مع نفسك، وليس عملاً نفسيًا. تقول ديردري فاي، معالجة الصدمات ومؤلفة كتاب "أن تصبح مجسدًا بأمان" (2021)، "إنها مهمة تنموية أن أصبح شخصًا بالغًا لأدرك أنني يجب أن أعرف نفسي، وأعرف ما أحتاج إليه وأريده، حتى أتمكن من أن أكون على علاقة مع العالم."

بينما تتدرب على الشعور بمزيد من الارتباط، نأمل أن تجد سهولة طبيعية في ذلك، وطريقة جديدة للاستماع إلى تجربتك وفهمها. لا أستطيع أن أسمي نفسي متجسدة بشكل كامل، أو حتى جوهريًا، لكن القيام بهذا التحول المتعمد لإعادة الاتصال أكثر بجسدي قد غيّر حياتي. يظهر هذا بقوة في كيفية تعاملي مع نفسي عندما أشعر بالألم. أنا الآن قادرة على أن أعيش اللحظة، وأستمع إلى جسدي، وأسمح بالتجربة دون الرغبة في تغييرها على الفور. عندما أمارس هذه الطريقة في الارتباط بجسدي، يصبح من الأسهل الاستماع إلى ذاتي بالكامل في مجالات أخرى، مثل غرفة تغيير الملابس الرتيبة بمراياها.

قد يبدو ذلك بسيطًا. ولكن من الطبيعي والمجزي بشكل رائع قبول تجارب جسدك والسماح بها والتحرك ببطء نحو اتصال أقوى. يقول فاي: "أعتقد أن هذه هي طريقتنا الطبيعية". "هذا هو المكان الذي توجد فيه قلوبنا وأرواحنا، إنها عملية وربما لن تحدث أبدًا."

***

.......................

الكاتبة: إلنا شوتز /Elna Schützis  صحافية مستقلة ظهرت أعمالها في مجلة The Economist وعلى قناة BBC. تتراوح اهتماماتها بين الأعمال التجارية والعلوم والصحة، مع التركيز بشكل خاص على الصحة العقلية وحقوق الإنسان. وقد فاز عملها بعدد من الجوائز، وهي تشارك في تدريب الآخرين وتسهيل التواصل. وهي تعيش في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا.

https://psyche.co/ideas/you-are-your-body-heres-how-to-feel-more-at-home-in-it

عاشت الفلسفة ردحًا من الزمن في اغتراب ما ورائي، شغلت الإنسان عن واقعه وسنن الطبيعة، فكانت علة الوجود الأولى أخذت حيزًا كبيرًا من رؤيته وتفلسفه، ثم الإغراق في كشف صفاته وعلاقته بالمتناهي، وهل هو خارج عنه أو فيه أو هو ذات سننه ووجوده، حينها كان التفلسف في معرفة الذات والآخر والوجود ثم اللامتناهي ما يبرره، حتى جاء عصر الأنوار، فنقل الإنسان إلى البحث في الذات والطبيعة من خلال ما يصلح الإنسان في هذا الوجود، ومن خلال علوم مختلفة نشأت عنها، كالأخلاق والدولة والدستور وحقوق الإنسان والجمال والنظام وقيمه الكبرى، فلم يعد العدل مثلا في اغترابه الماورائي، بل أصبح لصيقًا بالإنسان كقيمة كبرى في علاقته مع ذاته والآخر، من الأسرة إلى نظام العمل والدولة.

ومن يحضر بعض مؤتمرات الفلسفة في عالمنا العربي يجد عناوين كبرى تلامس الواقع المعيش، وهذا شيء حسن، بيد أنه يجد العديد من ورقات المؤتمر لا تريدك أن تخرج من اغترابات اليونان أو العهد الوسيط، أو حتى اغترابات المصطلحات المعاصرة، فتعيش في اغتراب آخر يماثل الاغتراب الماورائي، وبعض الأوراق أشبه بقاموس أسماء الفلاسفة، وكأنه يستحضر أنه يحفظ عشرات الأسماء وطرقهم الفلسفية، وبعض الأوراق لا تتجاوز «تهافت الفلسفة» «وتهافت التهافت»، فأصبحت الفلسفة أقرب إلى جدليات يربط الواقع بها لا أن تربط بالواقع، ويرهن الحاضر بظرفيتها لا أن ترهن بظرفية الواقع، فهناك من يلبس لباس الفلسفة المعاصرة، لكنه لا يتجاوز اغترابات المصطلحات الفلسفية وعلماء الفلسفة والجدليات العللية البعيدة عن الواقع المعيش.

لست هنا في موقع الحجر في دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، ولكني أجد عناوين كبرى في مؤتمرات فلسفية ترتبط بواقع الإنسان المعاصر، من الذات والمجتمع وحتى العلاقات الدولية، ومن البيئة والحدود القطرية إلى الطبيعة والعالم الأوسع، لتبحث في مشكلاته، وتسعى لإحداث حلول لواقعه، في شيء من التفلسف والتعقل والبحث والنظر، لكنك لا تخرج في الجملة عن نسخ ولصق ما يقال في هذا المؤتمر، هو ذاته ما سيقال في مؤتمر آخر، من جدليات المشائين والوراقين، إلى جدليات العصر الوسيط، مع ربطها بنظريات فلسفية معاصرة، أكثر من كونها إبداعا ذاتيا، فتضعف التجربة الذاتية في محاولة علاج القضايا البشرية والطبيعية والوجودية المعاصرة، بشيء من الإبداع والتفلسف الذاتي، وليس الاغتراب في المصطلحات والرموز والعلل الفلسفية التي تجدها بسهولة في قواميس وكتب الفلسفة، خاصة عن طريق التقنيات المعاصرة.

ومثيل هذا ما تجده في بعض المؤتمرات الفقهية، فتضع عناوين معاصرة، لقضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية في واقعنا الراهن، بتعقده وفلسفاته، وبتداخل نظرياته، ولكن أوراقها أو بعضها لا تتجاوز تفكير عهد السلف بنصوصه ومروياته، وإن تجاوزت إلى عصر المقاصد بكلياته الخمس أو الست، فتكون رهين تلك اللحظات التأريخية، وتريد أن تضيق العالم الواسع وتختزله في تفكير ماضوي له ظروفه وأسبابه ومشاكله الزمكانية الخاصة به، فيرتفع الإبداع في مناقشة قضايا الواقع الراهن.

ومقصدي هذا أنني لست ضد دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، في جوها الموضوعي والتقني البحت، فهذه حالة ليست سيئة، كما أنني لست ضد دراسة المفاهيم الفقهية والأصولية والكلامية في جوها المعرفي الموضوعي والتقني الخاص بها، ولكن أن نضع عناوين معاصرة لمناقشة وتحليل مشكلات الإنسان المعاصر، بينما تجد الأوراق المطروحة لا تريد أن نتجاوز ذات الاغترابات التي جاءت الفلسفة لتفكيكها، والبحث عن الإنسان وصلاح وجوده في الحياة، وتحقيق قيمه الكبرى في الوجود، فتجعلك مثل هذه الأوراق إما نسخا ولصقا لقضايا قتلت بحثا، أو تعيش اغترابا مصطلحيا أكثر منه إبداعا فلسفيا ومعرفيا، وقد تصبح بعض الأوراق المقدمة أقرب إلى الطلاسم، هدفها إظهار العضلات، وبأنه يحفظ رموزا فلسفية ماضوية ومعاصرة، أكثر منه إبداعا ذاتيا، يظهر فيها رؤية الباحث، واستقلال تفكيره، ونتاج دراسته وتأمله، ونقد واقعه، واستلهام مستقبلة، بحيث يقدم رؤية فلسفية إصلاحية واقعية، توجد حلولا لقضايا الإنسان الكبرى، وواقعه المعيش.

نعم، قد تكون من المؤتمرات أو الملتقيات التي أعدت سلفا في مناقشة القضايا الفلسفية في جوها التأريخي والموضوعي والتقني، في أوراق علمية محكمة، شأنها كشأن المجلات المحكمة، والتي تركز على القضايا الفلسفية البحتة، فهذا شأن آخر تماما يختلف عن مقصدنا، فهو حالة صحية بذاته، لا يمكن بحال الاستغناء عنه، ولا يمكن اليوم مثلا ترك المعارف في العهد الوسيط مثلا، فنحن بحاجة إلى إعادة قراءتها من خلال الذات، أو من خلال المعارف المعاصرة، لكن أن نعيش في اغترابها، مقابل عناوين معاصرة، أو نرهن الواقع بظرفيتها، فهذا موضع الإشكال، إذا لن يختلف العقل الفلسفي هنا عن العقل الفقهي، فكلاهما عقل سلفي تقليدي، الاختلاف فقط في اللباس، فهذا يلبس لباس الفلسفة، وذاك يلبس لباس الفقه، بيد أن التفكير واحد بينهما، تفكير نتاجات القرون الأولى، ونسخ لإبداعهم في ظرفية مختلفة تماما، مع رهن الواقع المعاصر بها.

أتصور أننا بحاجة أن نخرج المؤتمرات أو الملتقيات الفلسفية أو حتى الفقهية والأصولية والكلامية، وعموم الدراسات الإنسانية، من جوها الماضوي والتكراري، إلى جو آخر من النقد والإبداع وظهور رؤية الباحث ونظريته الخاصة، خصوصا إذا كانت القضايا المراد علاجها متعلقة بالواقع المعيش، وبقضايا الإنسان الكبرى، وبرهان مستقبله في ضوء المتغيرات المعاصرة، حتى لا ندور في دائرة الاغتراب الذي جئنا لتفكيكه من حيث الابتداء.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عماني

 

كثر الحديث عن التسامح في الفلسفة والأديان وعلم النفس وعلم الأجتماع وغيرها من العلوم الأنسانية لما في التسامح من قيمة اخلاقية وسلوكية في نبذ الكراهية في داخل المجتمع الواحد بكل مكوناته وبين المجتمعات العالمية التي تتنوع في بنيتها الثقافية والفكرية والسلوكية والأخلاقية أنطلاقا من مكانة الأنسان بأعتبارها قيمة اخلاقية عليا بغض النظر عن التنوع الذي تتسم به المجتمعات الانسانية بصورة عامة وكذلك الأفراد في داخل كل مجتمع.

يشهد مجتمعنا العراقي حراكا على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية بما ينذر بتحولات في الأخلاق والسياسة والمرجعيات العقائدية وهي ناتجة بمجملها من انفتاح العراق على العالم الخارجي وعلى المجتمعات القريبة والبعيد عنا بفعل عوامل التواصل التكنومعلوماتية بما يجعل الناس تقترب من مختلف المعارف والابتعاد نسبيا عن عوامل الأيمان المتحجر وتتصارع هنا المسحتان السلبية والأيجابية في هذا الأنفتاح إلى جانب أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة منذ عقود تهدد المنظومة الفكرية والأخلاقية وتضفي على الصراع الدائر مسحة تدميرية تستهدف ألغاءالآخر وتشظيته واقصائه وتصفيته عن المشهد المجتمعي.

في خضم هذا الصراع المعقد هناك حراك ايجابي وإن كان بطيئ دون مستوى الطموح يجسده انتقال الكثير من الأفراد التي تمتلك جمهورا او مساحة من التفاعلي الأجتماعي المؤثرة، تنتقل من معسكرها الفكري التقليدي الى معسكر اليسار الأجتماعي وليست اليسار السياسي وقد اقتنعت الكثير من هذه الفئات أن الأسلام السياسي ليست هو الحل بل هو جزء من المشكلة وفي وسط هؤلاء حالات من المعممين والتي تظهر على وسائل التواصل الأجتماعي منتقده انتمائها السابق ومعلنة الخروج عن الطاعة العمياء.

هذه الأستثناءات يجب التعامل معها من قبل القاعدة المجتمعية برحابة الصدر والقبول والتسامح وليست بسلوكيات الرفض والتشكيك واستخدام ماضيهم ذريعة للهجوم عليهم واضفاء عدم الجدوى فيهم او اتهامهم بأنهم أناس متحايلين ولهم أجندة خاصة او التنمر عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي واستدراجهم لمقابلات صحفية لغرض اهانتهم وتوجيه الرأي العام سلبا نحوهم. إن من ثقافة القاعدة المجتمعية اذا أرادت  تشكيل بديل مجتمعي متقدم عليها قبول الأستثناءات وتوفير فرص الاندماج السلوكي والفكري للآخرين المغايرين فهم طاقة لا يمكن الاستهانة بها ويشكلون رافدا مهما في التنوع الفكري لليسار الأجتماعي كما أن قبولهم يشكل رافدا وسدا منيعا لعدم تقهقرهم ثانية.

أزمة التسامح في مجتمعنا هي أزمة مستعصية ولا يمكن معها بناء مجتمع متسامح بتنوعاته المعرفية والفكرية والدينية والمذهبية ويتزامن هذا مع أزمة بناء دولة المواطنة التي لا تعترف بالتنوع بكل مدياته بل تختزل الدولة والمواطن بالانتماء العرقي والمذهبي وتختزل الحق بالأنتماءات الفرعية المذهبية والعرقية والمناطقية عبر تحالفات حزبية غير نزيهة بذات الصلة، ليست هدفها خدمة المكونات بل الأفساد فيها.

أزمة التسامح هذه تطال أيضا المتحولين جنسيا' وبعيد عن بعض من سلوكياتهم المخلة والتي يفترض ان يحاسب عليها القانون في ظروف عامة قانونية وحكومية صحية وبما لا يؤثر ويسيئ إلى حريات الآخرين' فأن تلك الفئات تشكل استثناء في كل مجتمعات العالم وغالبا ما يعيش الاستثناء إلى جانب القاعدة ويعيشان حالة من الحراك الداخلي بعيدا عن السبي والقتل والتنكيل.

المتحولون جنسيا هم ليس مجتمع بحد ذاته بل هم افراد في المجتمع ويخضعون كغيرهم للمسائلة والقانون حول سلوكياتهم عندما يتم التجاوز على حرية الآخرين أسوة بغيرهم في المحيط الاجتماعي ' ولكن هشاشة الدولة واجهزتها ودخول تلك الفئات في إطار مافيات تصفية ثأرية والأستعانة بالمتحولين والبلوكرية يجعل منهم أزمة مجتمعية.

لقد تطور مفهوم التسامح عبر الحقب الزمنية المتتالية حتى اصبح يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وأن التسامح يعني قبول آراء الاخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم من أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي الذي يطمح العراقيون لبنائه. فالتسامح مع الآخر المختلف هو ليست هبة وفضل يمن به حزب سياسي او حكومة على مكون اجتماعي او على الأفراد بل هو قيمة اخلاقية واجتماعية للمجتمعات الديمقراطية او التي تريد ان تبني مجتمع ديمقراطي، وهو مؤشر لتماسك المجتمع بكل مكوناته وهو ضمانة للسلم الأهلي والامتناع عن حروب المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والفكرية والسياسية. والتسامح لا يعني ابدا التهاون مع من يهدد أمن المجتمع او الدعوة الى تعريض المصالح الوطنية للخطر او التخابر مع الأجنبي ضد سيادة الوطن أو سرقة المال العام واشاعة الفساد الأداري والمالي.

وفي الدورة الثامنة والعشرين التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس من عام 1995 حدد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو معنى التسامح في اعلان (مبادئ بشأن التسامح) حيث يرى فيه ما يلي:

1ـ إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب،

2 ـ إن التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.

3 ـ إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية (بما في ذلك التعددية الثقافية) والديمقراطية وحكم القانون. وهو ينطوي علي نبذ الدوغماتية والاستبدادية ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.

4 ـ ولا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير.

كما حدد الأعلان دور الدولة في اشاعة قيم التسامح وحماية المجتمعات من التعصب بمحتلف اشكاله ولخصها بما يلي:

1 ـ إن التسامح علي مستوي الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلي الإحباط والعدوانية والتعصب.

2 ـ وبغية إشاعة المزيد من التسامح في المجتمع، ينبغي للدول أن تصادق علي الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان، وأن تصوغ عند الضرورة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكل فئات المجتمع وأفراده.

3 ـ ومن الجوهري لتحقيق الوئام علي المستوي الدولي أن يلقي التعدد الثقافي الذي يميز الأسرة البشرية قبولا واحتراما من جانب الأفراد والجماعات والأمم. فبدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون السلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو ديمقراطية.

4 ـ وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة، واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة العنف والتمييز ضدها. وكما يؤكد الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري فإن "لجميع الأفراد والجماعات الحق في أن يكونوا مختلفين بعضهم عن بعضٍ‘‘.

بالـتأكيد ان قيم التسامح الديني والفكري والعقائدي وقبول الآخر المختلف هو ضمانة وصمام أمان لبناء المستقبل وضمانة اكيدة لترسيخ السلم المجتمعي وهو مؤشر لديمقراطية راسخة لا تتأثر بمزاج حزب سياسي او قائد ميداني يرى في الفرقة والخداع ضالته في البقاء، والتسامح مبني على قيم الحق والعدل والجمال، فلا تسامح مع مرتشي او قاتل ارهابي او متحايل على الديمقراطية او سارق للمال العام او من يصدر الفتنة الطائفية والعرقية بواجهات محتلفة، لأن جميعها شرور والتسامح مع الشر يعني اعادة انتاجه، والتسامح هنا يعني ضمانة تطبيق القانون بالتساوي على الجميع دون تميز وحسب الأفعال.

***

د.عامر صالح

الحرب، بطبيعتها، هي نشاط وحشي وعنف غالبا ما يبرز الأسوأ في الإنسانية. في أوقات الحرب، يتم دفع الناس إلى حدودهم، ويجبرون على اتخاذ قرارات صعبة، وشهود أعمال العنف التي لا توصف. يمكن لضغوط الحرب وصدمة الحرب أن تلبس حتى أقوى الأفراد، مما يؤدي إلى حل وسط قيمهم الأخلاقية باسم البقاء على قيد الحياة أو النصر. سوف يستكشف هذا المقال كيف تولد الحرب الأخلاق المنخفضة وتدهور النسيج الأخلاقي للمجتمع.

في أوقات الحرب، تصبح الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ غير واضحة حيث يتم إجبار الأفراد على الاختيار بين بقائهم الخاص والصالح الأكبر. في مثل هذه المواقف عالية الضغط، قد يلجأ الناس إلى تكتيكات غير أخلاقية من أجل الحصول على ميزة على أعدائهم. هذا يمكن أن يشمل أعمال الخداع أو الخيانة أو حتى العنف ضد المدنيين الأبرياء. إن الرغبة في الفوز بأي ثمن يمكن أن تؤدي إلى التخلي عن بوصلة الأخلاقية والانخراط في أعمال لن يفكروا فيها أبدًا في أوقات السلام.

يمكن أن يؤدي تجريد العدو خلال زمن الحرب إلى نقص التعاطف والتعاطف مع الآخرين. عندما ينظر الأفراد إلى أعداءهم على أنهم تحت الإنسان أو لا يستحقون الحقوق والكرامة الأساسية، يصبح من الأسهل تبرير أعمال العنف أو القسوة ضدهم. يمكن أن يكون لهذا التجريد آثارًا طويلة الأمد على المجتمع، لأنه يأكل القيم الأساسية للتعاطف والاحترام للآخرين.

يمكن أن تؤثر الإجهاد وصدمة الحرب على الصحة العقلية للأفراد، مما يؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية والسلوك الأخلاقي. قد يطور الجنود الذين يعانون من أهوال الحرب أعراض الصدمة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والتي يمكن أن تزعج حكمهم وتؤدي إلى سلوك مدمر. يمكن أن يؤدي التعرض المستمر للعنف والموت إلى إزالة حساسية الأفراد لمعاناة الآخرين، مما يسهل عليهم ارتكاب أعمال القسوة دون ندم.

إن ثقافة الحرب غالباً ما تمجد العنف والعدوان، وتشجيع عقلية "قد تجعل الصواب" وتبرير استخدام القوة لتحقيق أهداف الفرد. يمكن أن يؤدي هذا التطبيع للعنف إلى إزالة الحساسية لعواقب تصرفات الفرد، مما يسهل على الأفراد تبرير السلوك غير الأخلاقي باسم الوطنية أو الواجب. إن نشر الحرب كمسعى نبيل وبطولي يمكن أن يشوه تصورات الأفراد عن الصواب والخطأ، مما يؤدي إلى الانخراط في سلوك غير أخلاقي دون تردد.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تخلق ديناميات القوة في الحرب أرضا تكاثر للفساد وإساءة استخدام السلطة. في أوقات الصراع، قد يستغل الأفراد في مناصب السلطة سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية أو لتعزيز جداول أعمالهم. قد ينطوي ذلك على اختلاس الأموال، أو إساءة استخدام السجناء، أو التلاعب بالرأي العام لتحقيق مكاسب سياسية. يمكن أن يخلق الفوضى وعدم استقرار الحرب فرصا للأفراد للعمل دون عقاب، مما يؤدي إلى انهيار المعايير الأخلاقية والمساءلة.

إن الدمار العام والدمار الناجم عن الحرب يمكن أن يخلق شعورا باليأس واليأس بين السكان المدنيين، مما يؤدي إلى انهيار المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية. يمكن أن يترك فقدان المنازل وسبل عيشهم وأحبائهم الناس يشعرون بالضعف والعاجزة، مما يؤدي إلى اللجوء إلى تدابير يائسة للبقاء على قيد الحياة. قد يتضمن ذلك أعمال النهب أو العنف أو الخيانة من أجل تأمين الضروريات الأساسية مثل الطعام والمأوى. يمكن أن يؤدي انهيار النظام الاجتماعي في أوقات الحرب إلى خلق مناخ من الفوضى والانحطاط الأخلاقي، حيث يضطر الأفراد إلى إعطاء الأولوية لبقائهم على قيد الحياة قبل كل شيء.

إن الطبيعة الطويلة للحرب الحديثة يمكن أن تخلع الأفراد إلى عواقب أفعالهم، مما يؤدي إلى شعور بالتخدير الأخلاقي واللامبالاة. إن التعرض المستمر للعنف والمعاناة يمكن أن يملأ شعور الأفراد بالتعاطف والرحمة، مما يسهل عليهم أن يغضوا عن معاناة الآخرين. يمكن أن يكون لهذا الخدر الأخلاقي عواقب بعيدة المدى، لأنه يقضم القيم الأساسية للإنسانية واللياقة الضرورية لمجتمع سلمي وعادل.

تولد الحرب الأخلاق المنخفضة من خلال دفع الأفراد إلى حدودهم، وإزالة الإنسانية من العدو، مما يعزز العنف والعدوان، وتعزيز الفساد وإساءة استخدام السلطة، وخلق شعور باليأس واليأس، وتهريب الأفراد إلى عواقب أفعالهم. يمكن أن تلبس الصدمة وضغط الحرب حتى أقوى الأفراد، مما يؤدي إلى حل وسط قيمهم الأخلاقية باسم البقاء أو النصر. من الضروري للمجتمع أن يدرك الآثار المدمرة للحرب على القيم الأخلاقية والعمل على خلق ثقافة السلام والتعاطف التي تقدر حياة الإنسان قبل كل شيء من خلال التزام جماعي للتقليل من آثار الحرب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: آن ألكيما وماركو بوكس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن كشف المسارات من الأشكال المختلفة لسوء معاملة الأطفال إلى المرض العقلي يمكن أن يؤدي إلى علاجات أفضل.

يتخذ سوء معاملة الأطفال أشكالاً عديدة، ولكل منها عواقبه الخاصة. لننظر، على سبيل المثال، إلى الأم التي تترك طفلها بمفرده لعدة ساعات بشكل روتيني، مما يعرض سلامة الطفل للخطر ويثير مشاعر الهجر؛ أو أب ذو مشاعر غير مستقرة يصرخ ويسب – أو حتى يهدد ويضرب – في لحظات غير متوقعة. وماذا عن مقدم الرعاية الذي الرعاية المخصصة والسلوك المسيء؟ وفي حين أن كل حالة من هذه الحالات سوف تنطوي على آثار نفسية سلبية، فمن غير المرجح أن تكون تلك التأثيرات هي نفسها. والسؤال المهم هو كيف ستكون الاختلافات ــ وكيف نستخدم هذه المعلومات لتقديم أفضل دعم ممكن لأولئك الذين عانوا.

لدى معظم الناس فكرة تقريبية عما تعنيه إساءة معاملة الأطفال، ولكنها، كما تشير هذه السيناريوهات، تشمل شبكة معقدة من التجارب. من المحتمل أنك سمعت عن مجموعة من الفئات ذات الصلة المعروفة باسم "تجارب الطفولة السلبية" (ACEs). وتشمل هذه الاعتداءات الجسدية، والاعتداء الجنسي، والإساءة العاطفية (والتي يمكن أن تعني سلوكيات مثل النقد المستمر والتهديدات والترهيب)، والإهمال الجسدي، والإهمال العاطفي. يمكن أن تشمل التجارب السلبية الأخرى الخلل الوظيفي الأسري، والمرض العقلي في الأسرة، ومشاهدة العنف المنزلي أو أشكال أخرى من العدوان (النفسي والجنسي والمالي والعاطفي) بين الشركاء الحميمين. تُعرف إساءة معاملة الأطفال بشكل عام  على أنها أحداث حياة سلبية قبل سن 18 عامًا، وهي بمثابة مصطلح آخر لهذه التجارب المتنوعة.

لسوء المعاملة في مرحلة الطفولة ككل تأثير هائل على الصحة العقلية: تشير التقديرات إلى أن حوالي ثلث جميع الأمراض العقلية لدى البالغين ونصف جميع الأمراض العقلية في مرحلة الطفولة مرتبطة بها. لذلك، نحن وعلماء آخرون نهدف إلى تحسين فهم مشكلة الصحة العامة الحرجة هذه. ولكن لفهم تأثيرها حقًا وتحسين علاج المتضررين، نحتاج إلى حل آثار التجارب السلبية المختلفة. نقطة البداية الجيدة هي التمييز بين سوء المعاملة والإهمال. تمثل هاتان الفئتان تجارب نفسية مختلفة تمامًا للأطفال، وعلى الرغم من أن آثارها ليست مختلفة تمامًا، إلا أنها تختلف بالفعل.

تشير إساءة الاستخدام إلى أي فعل غير عرضي ينطوي على خطر كبير من الأذى الجسدي أو العاطفي. تعتبر هذه الأفعال بمثابة أحداث تهديدية للغاية وغالبًا ما تؤدي بالأطفال الذين تعرضوا للإيذاء إلى الاعتقاد بأن سلوكهم هو الذي يثير الإساءة أو يسببها. يمكن أن تقودهم هذه الفكرة إلى استيعاب اللوم والمسؤولية عن أفعال البالغين المسيئة. وقد يظنون أنهم "أطفال سيئون" وأنهم إذا تصرفوا بشكل أفضل، أو استمعوا بانتباه أكبر، أو تصرفوا بشكل مختلف، فإن الإساءة سوف تتوقف. إن تصورات الذنب هذه لها عواقب بعيدة المدى، ومن المحتمل أن تؤثر على التطور، والتعرف على المشاعر، والتكيف الاجتماعي والعاطفي،وعمل نظام الإجهاد في الجسم الذي يسمى محور الغدة النخامية وقشر الكظر (HPA). يمكن أن تسبب الاستجابة غير المنتظمة للضغط ردود فعل أكثر حدة تجاه المواقف العصيبة.

بشكل عام، لا يتم أخذ الطبيعة المحددة وتأثير تجربة الطفولة الشاذة في الاعتبار في بروتوكولات العلاج.

من ناحية أخرى، يتميز الإهمال بالفشل - سواء كان متعمدًا أو بسبب الإهمال أو العجز - في توفير الحد الأدنى الكافي من الرعاية للطفل، بما في ذلك الغذاء والملبس والمأوى والرعاية الطبية والمراقبة والاستقرار العاطفي الأبوي ،وفرص النمو.إن الافتقار إلى الرعاية الأساسية، والخبرات المحفزة (على سبيل المثال، التحفيز الفكري مثل اللعب الإبداعي والكتب المناسبة للعمر، أو الأنشطة الاجتماعية مثل مواعيد اللعب أو النزهات العائلية)، وعلى وجه الخصوص، يؤثر الافتقار إلى الارتباط العاطفي على النمو العاطفي والمعرفي للأطفال المهملين.قد يؤدي هذا إلى صعوبات في الارتباط بالآخرين، والشعور بالوحدة، والتعرض لمشاكل في العلاقات. من المهم أن نلاحظ أن إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم غالبًا ما يحدثان معًا، مما قد يؤدي إلى عواقب أكثر خطورة. إن التعرض لأنواع متعددة من سوء معاملة الأطفال يمكن أن يؤدي إلى تراكم الآثار الضارة.

على الرغم من أننا نعلم أن سوء المعاملة والإهمال يختلفان في تأثيرهما على النمو النفسي والتكيف، إلا أن القليل من الأبحاث قد قارنت بشكل منهجي كيفية ارتباط سوء المعاملة والإهمال بخطر الإصابة بأشكال معينة من الأمراض العقلية بعد الطفولة. يعد فهم ذلك أمرًا ضروريًا لتطوير التدخلات المستهدفة وأنظمة الدعم للناجين الذين يعانون من شكاوى نفسية مثل المزاج المكتئب أو سماع الأصوات. إنها خطوة حاسمة نحو توفير الموارد اللازمة لمساعدتهم على الشفاء والازدهار في مرحلة البلوغ، حيث أن الطبيعة المحددة وتأثير تجربة الطفولة الشاذة لا تؤخذ عادة في الاعتبار في بروتوكولات العلاج.

لذا، في تحقيق حديث، سعينا نحن وزملائنا إلى كشف العلاقات بين هذه الأشكال المختلفة من سوء المعاملة والأمراض العقلية، وفحص ارتباطاتها بثلاثة حالات نفسية محددة - الاضطراب الاكتئابي الشديد، والاضطراب ثنائي القطب، والفصام - وأعراض الاكتئاب. هذه الشروط. كان هدفنا هو تمييز المظاهر السريرية المتميزة المرتبطة بالظلال المختلفة لمحنة الطفولة.وللقيام بذلك، قمنا بتحليل بيانات من عدة دراسات هولندية طويلة الأمد، شملت كل منها مئات البالغين الذين يعانون من واحد من الاضطرابات النفسية الثلاثة. استخدمنا أيضًا طريقة وبائية تسمى التوزيع العشوائي المندلي، باستخدام البيانات الجينية من أشخاص في المملكة المتحدة لاستكشاف اتجاه السبب والنتيجة بين سوء معاملة الأطفال ونتائج الصحة العقلية.

لقد وجدنا أن سوء المعاملة في مرحلة الطفولة كان عامل خطر قوي للإصابة بالفصام في مرحلة البلوغ: في عينتنا، كانت احتمالات الإصابة بالفصام أعلى بنحو 3.5 مرة بين أولئك الذين عانوا من سوء المعاملة. في المقابل، أظهرت تجربة إهمال الطفولة أقوى الارتباطات مع تطور الاضطراب ثنائي القطب (كانت الاحتمالات أعلى بأكثر من 2.5 مرة بين أولئك الذين تم إهمالهم) ومع الاضطراب الاكتئابي الشديد (الاحتمالات أعلى بأكثر من مرتين). وكان التعرض المشترك لكل من سوء المعاملة والإهمال هو الأكثر ضررا: وكانت مخاطر الإصابة بالاضطراب الاكتئابي الشديد والاضطراب ثنائي القطب أكبر. أضافت التحليلات العشوائية المندلية مزيدًا من الدعم للنتائج التي توصلنا إليها حول إساءة معاملة الأطفال والفصام، مما يوفر دليلًا أوضح على أن سوء المعاملة يسبب زيادة خطر الإصابة بالفصام.

يمكن أن يتفاعل الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض العقلية مع تجارب سوء المعاملة في مرحلة الطفولة

وبالنظر إلى أبعد من ذلك، إلى مستوى الأعراض، وجدنا أيضًا أن التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة كان مرتبطًا باحتمالية الإصابة بالهلوسة والأوهام ومشاعر عدم القيمة و/أو الذنب ومحاولات الانتحار، في حين ارتبط إهمال الطفولة بالإثارة وقلة الحاجة إلى النوم (أحد أعراض الهوس في الاضطراب ثنائي القطب).وكان الجمع بين سوء المعاملة والإهمال مرتبطًا بزيادة خطر الإصابة بالعديد من الأعراض.

تثير الروابط بين هذه الأنواع من سوء المعاملة والأشكال المختلفة للأمراض العقلية أسئلة مثيرة للاهتمام حول الآليات الأساسية.لقد تم اقتراح العديد من المسارات النفسية والاجتماعية والبيولوجية بدءًا من محنة الطفولة وحتى تطور المرض العقلي في الأبحاث السابقة، وبعضها يمكن أن ينطوي على تأثيرات ذكرناها سابقًا (على سبيل المثال، التغيرات في استجابة الفرد للضغط النفسي أو الصعوبات في العلاقات) لكن حتى الآن لا توجد إجابة واحدة تنصف مدى تعقيد القضية. ويتمثل أحد أجزاء اللغز في الدليل على أن الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض العقلية من الممكن أن يتفاعل مع تجارب سوء المعاملة في مرحلة الطفولة، مما يؤثر على احتمال ظهور أعراض أو اضطرابات محددة.علاوة على ذلك، فإن العوامل البيئية مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمراض النفسية لدى الوالدين يمكن أن تؤثر بشكل أكبر على هذه العلاقات. هناك حاجة إلى النظر في التفاعل المعقد بين علم الوراثة والبيئة وسوء معاملة الأطفال في تشكيل خطر الإصابة بالأمراض العقلية.

بالعودة إلى الوراء لتقييم الآثار المترتبة على النتائج التي توصلنا إليها، يمكننا أن نبدأ في رؤية إمكانية العلاج الموجه واستراتيجيات العلاج الشخصية.إن النتيجة التي تشير إلى أن سوء المعاملة يحمل علاقة قوية بشكل خاص مع مرض انفصام الشخصية تتناسب مع التقارير السابقة عن زيادة ثلاثة أضعاف في خطر الإصابة بالذهان لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من إساءة معاملة الأطفال. يمكن أن تكون معرفة هذا الارتباط مهمة لزيادة تحسين الوقاية من سوء معاملة الأطفال وزيادة الوعي بمخاطر الصحة العقلية لدى أولئك الذين يتعرضون لها. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يثير مسألة ما إذا كانت التدخلات مثل العلاج الذي يركز على الصدمة قد يكون مفيدًا للأشخاص الذين لديهم علامات مبكرة لمرض انفصام الشخصية وتاريخ من سوء المعاملة. سيكون من المثير للاهتمام دراسة كيف يمكن أن يكون العلاج مثل إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR) - الأكثر استخدامًا لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة - بمثابة خيار علاج شخصي لتقليل العبء لدى هؤلاء الأشخاص. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن علاج الـEMDR للأشخاص الذين يعانون من الهلوسة هو علاج آمن وفعال.

وبينما نتعلم المزيد عن التأثيرات المختلفة للإساءة والإهمال، فإن الاعتبارات الجديدة تتطلب اهتمامنا، بما في ذلك كيفية فهم المسارات من الشدائد إلى النتائج النفسية بشكل أفضل وما إذا كان بإمكاننا التمييز بين الأنواع الأخرى من محنة الطفولة (مثل الصدمات العاطفية والجسدية) . ونظراً للأثر الكبير الذي يخلفه سوء معاملة الأطفال على الصحة، فإن الفهم الأفضل للآليات وتحسين العلاجات يشكلان احتياجات ملحة في المجتمعات المثقلة بشكل متزايد بالأمراض العقلية.

والآن، من الواضح أن الظلال التي تلقيها الإساءة والإهمال ليست موحدة. إنها تتخذ أشكالًا مميزة ويبدو أنها تؤثر على نتائج الصحة العقلية بطرق فريدة. إن فهمنا المتزايد لهذه التأثيرات يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين فرص حصول الأشخاص الذين يتعرضون لسوء المعاملة في وقت مبكر من حياتهم على الدعم الذي يحتاجون إليه.

***

.............................

المؤلفان:

1- آن ألكيما/ Anne Alkema: طبيبة مقيمة في الطب النفسي في المركز الطبي الجامعي في أوتريخت في هولندا، وتجمع بين تدريبها السريري ومسار الدكتوراه حول التأثيرات التشخيصية لمحنة الطفولة والارتباطات بين الجينات والبيئة.

2- ماركو بوكس / Marco Boks: استشاري الطب النفسي وأستاذ مشارك في مركز الدماغ التابع للمركز الطبي الجامعي أوتريخت في هولندا، والقائد السريري لبرنامج الإجهاد والصدمات. يتركز عمله العلمي على الآليات البيولوجية لدور صدمة الطفولة في خطر الإصابة بالاضطرابات النفسية.

فى البداية لابد أن أشير إلى قيمة "التنوع البيولوجي" وأثره الأساسى للحياة على الأرض، إذ تساهم الأنواع البرية والجينات داخلها مساهمة كبيرة في تطور الزراعة والطب والصناعة. وبالرغم من أن الإنسان استعمل أكثر من 7000 نوع من النباتات للطعام، إلا أن 20 نوعاً فقط تشكل 90 %من الغذاء المنتج في العالم، وتشكل ثلاثة أنواع فقط ـ القمح والذرة الشامية والأرز - أكثر من 50 %منه. وهناك ثلاثون نوعا من الثدييات والطيور التي استأنسها الإنسان توفر له نحو 30 %من غذائه.

ومن هذا المنطلق تأتي خطورة نبوءة اينشتاين بنهاية العالم بدأت تتحقق؛ وهي نبوءة منسوبة للعالم الفيزياء ألبرت أينشتاين وهذه النبوءة يبدو فيها شيء من الغرابة ولم يتوقعها أحد: وهي أن اختفاء النحل قد يؤدي إلى نهاية العالم.

 هذا الشيء لا يخطر على بال أحد فالمتوقع هو حدوث كوارث بيئية أو الحديث عن الحروب النووية ...التي تنهي العالم وهذا معقول،  أما الحديث عن انقراض النحل فهذا شيء غريب جدا. بالفعل بدأ يتراجع النحل في العالم بشكل كبير وخاصة في آخر 50 سنة بدأت تنقرض في أماكن مختلفة في العالم؛ فمثلا حوالي 75 % في أمريكا من النحل قد انقرض وأيضا في كندا والصين وفي استراليا واوروبا.

والسؤال هنا: لماذا النحل يتراجع بهذه النسبة المهولة؟ ولو انقرض ماذا يحدث للبشرية؟

 فالإجابة على السؤال الأول: واضح جدا لو ركزنا في أمور حياتنا التي نمر بها فمثلا نجد التغيرات المناخية قد أثرت بشكل كبير على النحل كما أثرت على كائنات أخرى. وأيضا نجد شبكات الاتصالات والهواتف المحمولية والموجات التليفزيونية والأذاعية...كل هذا قد أدى إلى إضعاف النحل. وكما أكدت التجربة التى أقيمت في معهد بافلوف في روسيا حيث وضعوا مجموعة من النحل أمام شبكات (الواي فاي) وبالفعل بعد تعرضه لهذه الموجات (الواي فاي) فقد المناعة والشهية بعد 24 ساعة. فالمناخ والاتصالات وأشياء آخرى مختلفة أدت إلى تتدهور النحل في العالم.

لكن ما علاقة إنقراض النحل بإنقراض البشرية؟ مع العلم أن معظمنا يعيشون عادى بدون عسل النحل. فالموضوع يتجاوز كثيرا من عسل النحل الموضوع يتعلق بعملية التلقيح بالنسبة للنباتات فهناك 75 % من المحاصيل في العالم يلقح بواسطة النحل. لو النحل لم يكن موجودا لم يتم تلقيح النباتات بالنسبة كبيرة جدا. وبناء عليه يترتب مجاعة عالمية وبالتالى تنتهى المحاصيل والحيوانات أيضا تنتهي. إذن خطورة انقراض النحل الأساسية في حالة اختفائه لقدر الله يؤدي إلى نهاية النباتات والحيوانات وثم الإنسان.

***

شيماء سيد علي - باحثة

 

بقلم: كريستيان جاريت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تُظهر الأبحاث حول الجانب الاجتماعي لإدارة العواطف ما يميزها وفوائدها لجميع المشاركين.

نشعر جميعًا بالعواطف، لكننا بالتأكيد لا نتعامل معها جميعًا بنفس الطريقة. بعض الناس حساسون ويعانون من صعود وهبوط متكرر. من ناحية أخرى، لدى البعض الآخر جلد سميك وحتى مزاج. في المصطلحات النفسية، هم جيدون جدًا في التنظيم العاطفي. ربما يمكنك التفكير في الأصدقاء أو أفراد العائلة أو الزملاء في حياتك الذين ينطبق عليهم هذا الوصف.

وفي الوقت نفسه، هناك جانب اجتماعي لإدارة العواطف. لدى الكثير منا أصدقاء أو أقارب قادرون على تقديم الدعم العاطفي المستمر. عندما نشعر بالإحباط أو التوتر أو الشعور بالإرهاق، فإن هؤلاء هم الأشخاص الذين يقدمون لنا كتفًا لنبكي عليه. إنهم ماهرون في مساعدتنا على استعادة رؤيتنا والعودة إلى التوازن.

هل سبق لك أن تساءلت عما إذا كانت هذه المجموعات - الأشخاص الذين يجيدون إدارة عواطفهم وأولئك الذين يجيدون دعم الآخرين - هم في الواقع نفس الأشخاص؟ يمكن أن تؤثر الإجابة على من نلجأ إليه طلبًا للمساعدة، وكيف نرى أنفسنا، وقدرتنا على أن نكون موجودين من أجل الآخرين.

"أنا متأكد من أنك إذا سألت بعض الأشخاص عن هذا ... فسيقولون: "حسنًا، بالطبع، أعرف هذا الشخص الذي هو عظيم حقًا في مساعدة الآخرين، ولكن ربما ليس جيدًا في تنظيم عواطفه الخاصة،" أو، " تقول مايا تامير، مديرة مختبر الانفعالات والتنظيم الذاتي في الجامعة العبرية في القدس: "أنا أعرف هذا الشخص الرائع في كليهما". "لكن الشيء الجميل في العلم هو أنه يساعدنا على وضع هذه البديهات جانبًا ودراسة هذه الأشياء بموضوعية قدر الإمكان."

لقد تم الاعتراف منذ فترة طويلة بأن القدرة على إدارة عواطف الفرد هي أحد أهم جوانب الشخصية. ويقال إن الأشخاص الذين لديهم مشاعر أكثر استقرارا وأكثر مرونة هم أقل عرضة للعصاب، ويميلون إلى التمتع بمجموعة كبيرة من المزايا في الحياة، بما في ذلك صحة بدنية أفضل وانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق.

المشاركون الذين كانوا أفضل في تنظيم عواطفهم لم يكونوا أفضل في مساعدة شخص آخر على إدارة مشاعرهم.

لقد درس الباحثون الاستراتيجيات المختلفة التي يستخدمها الناس لتنظيم عواطفهم، مثل الإلهاء  أو إعادة التقييم (إعادة صياغة الصعوبات في ضوء أكثر إيجابية). وقد بحثوا في الطرق التي يفكر بها الأشخاص المستقرون عاطفيًا بشكل مختلف عن الأشخاص الأكثر حساسية. على سبيل المثال، هناك أدلة على أن الأشخاص الذين يتمتعون بمهارة في تنظيم عواطفهم يجدون أنه من الأسهل تذكر المزيد من الذكريات الإيجابية.

وفي الوقت نفسه، هناك أيضًا مجال دراسة أحدث بكثير يركز على قدرة الأشخاص على المساعدة في تنظيم مشاعر الآخرين. أظهرت الأبحاث في هذا المجال أن مساعدة الآخرين في التعامل مع عواطفهم يمكن أن تجعل كلا الطرفين يشعران بالارتقاء، وأن بعض الاستراتيجيات - كما هو الحال مع التنظيم الذاتي - أكثر فعالية من غيرها. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن النهج الفعال بشكل خاص هو مساعدة شخص ما على إعادة صياغة تجربته الصعبة بشكل إيجابي - تخيل مساعدة صديق على إعادة تفسير يوم مرهق في وظيفة جديدة باعتباره تجربة تعليمية قيمة.

تشير أبحاث أخرى إلى أننا أكثر ميلاً إلى بذل الجهد لتنظيم مشاعر الأشخاص المقربين منا. لكنه يشير أيضًا إلى أننا، في تلك المواقف، لا نذهب بالضرورة إلى أبعد من ذلك للمساعدة في تهدئة الشخص، وغالبًا ما نلتزم بسلوكيات مثل مجرد الاستماع إليه وهو يصف مشاعره الصعبة. تقول كارولين ماكان، عالمة النفس في جامعة سيدني، والتي شاركت في تأليف هذا البحث: "قد تكون هذه الأنواع من الاستراتيجيات مهمة، ليس لتغيير مشاعرك، ولكن للحفاظ على الروابط الاجتماعية".

وبينما كان علماء النفس منشغلين بدراسة هذين الجانبين من تنظيم العواطف ــ البعد الفردي والبعد الاجتماعي ــ لم يكن هناك حتى وقت قريب أي دراسة حول كيفية ارتباط الجانبين ببعضهما البعض. وهذا ما ألهم تامير وطالبة الدكتوراه نوا بوكر سيجال وزملاءهما لإجراء بحث جديد قارنوا فيه قدرة الأشخاص على التنظيم العاطفي وقدرتهم على مساعدة الآخرين في التعامل مع عواطفهم.

وشملت الدراسة، التي قادها سيجال، 128 مشاركًا، حاول كل منهم تنظيم مشاعره من خلال عرض الصور المزعجة. وفي حالة أخرى، طُلب من بعض المشاركين تنظيم مشاعر الشريك أثناء عرض الصور. تقول سيجال: "كان لدينا مجموعة كاملة من الصور"، بما في ذلك الصور ذات الارتباطات السلبية، مثل الماشية في الأقفاص، وغيرها التي كانت "أكثر تصويرية، مثل الحروق والإصابات". قدمت المقارنة بين الحالات العاطفية للمشاركين قبل وبعد نظرهم إلى الصور مقياسًا لمدى نجاحهم في التحكم في عواطفهم (وعواطف شركائهم).

والمثير للدهشة أن المشاركين الذين كانوا أفضل في تنظيم عواطفهم لم يكونوا أفضل في مساعدة شخص آخر على تنظيم مشاعره. تقول تامير: "لقد وجدت الأمر مفاجئًا بناءً على تجربتي اليومية، ولكن أكثر من ذلك، استنادًا إلى الأدبيات التي تشير إلى أنه إذا كان لديك مجموعة من المهارات، فلا يهم إذا كنت تستخدم هذه المهارات لتنظيم هدف أو آخر". . "ومع ذلك، فقد تبين أنه ربما لا تكون هذه هي نفس المهارات." ربما تكون هناك حاجة إلى أنواع مختلفة من المهارات.

في بعض الأحيان نجيد حقًا عزل العالم عنا... ولكن عندما نغلق العالم علينا، فإننا نغلق أبواب الآخرين أيضًا

هذا بالضبط ما تشير إليه البيانات. من بين الأشخاص الذين تمكنوا من إدارة عواطفهم بشكل فعال أثناء الدراسة، كانت إحدى استراتيجيات تنظيم العواطف، التي قالوا إنهم ينشرونها عادةً في حياتهم، هي الإلهاء - على سبيل المثال، محاولة التفكير في شيء آخر أثناء المرور بتجربة مزعجة. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين استخدموا الإلهاء وأداروا عواطفهم بشكل فعال كانوا في الواقع أسوأ في مساعدة شخص آخر على تنظيم عواطفهم.

تقول تامير: ’’في بعض الأحيان، نجيد حقًا عزل العالم عن الآخرين. "وهذا يمكن أن يساعدنا على الشعور بالتحسن.""ولكن عندما نغلق العالم أمامنا، فإننا نغلق الباب أمام الآخرين أيضًا." وهكذا، كما تقول، فإن أشكال تنظيم العواطف مثل الإلهاء "يمكن أن تكون مفيدة لنا، ولكنها يمكن أيضًا أن تفصلنا عن الآخرين".ومن المفارقات أن يجعلنا أقل فعالية في مساعدة الآخرين على التعامل مع مشاعرهم.

الأمر نفسه ينطبق على استراتيجيات التنظيم الذاتي المتمثلة في "اختيار الموقف" (القيام بشيء لتغيير الوضع) و"القمع" (بذل جهد لعدم التعبير عن المشاعر). يميل الأشخاص الذين أفادوا باستخدام هذه الاستراتيجيات بشكل أكبر إلى إدارة مشاعرهم بشكل أفضل أثناء الدراسة، لكنهم لم يكونوا أفضل من المتوسط في تنظيم مشاعر الآخرين.

بالطبع، هذه ليست الكلمة الأخيرة حول مسألة كيفية الارتباط بين قدرات تنظيم المشاعر التي تركز على الذات وعلى الآخرين.ولعل الأهم من ذلك هو أن الدراسة شملت أشخاصًا كانوا يلتقون لأول مرة، وليس الأصدقاء أو العائلة. لدى سيغال وتامير بالفعل المزيد من الدراسات الجارية التي تشير إلى أن هذا عامل مهم.على الرغم من أن النتائج الأحدث لم يتم نشرها بعد، إلا أن تامير تقول إنها تشير إلى أنه "كلما كنت أقرب إلى شخص آخر، زادت احتمالية تنظيم نفسك والآخرين بطرق مماثلة". وتضيف: "ما نجده مع الغرباء قد يحدث". لا تصف بالضرورة ما نجده في العلاقات الوثيقة.

وفي الأبحاث المستقبلية، يريدون أيضًا قلب الأمور للتساؤل عما إذا كان بعض الأشخاص أفضل في تلقي المساعدة من الآخرين. يقول تامير: "نحن عادة نعزو النجاح إلى المنظم [العاطفي]". "لكن، كما تعلمون، ربما يكون بعض الأشخاص أكثر قدرة على الاعتماد على الآخرين... وربما يكون المتلقي أكثر تأثيرًا من المانح." نحن لا نعرف. لكن هذا شيء نبحث فيه.

هناك نهاية مشجعة لهذه القصة. بالإضافة إلى مقارنة قدرات الأشخاص الفردية والاجتماعية على تنظيم المشاعر، بحث سيجال وتامير أيضًا في العواقب النفسية لمحاولة تهدئة مشاعر شخص آخر. تنقل النتائج التي توصلوا إليها رسالة مشجعة: عندما نحاول مواساة ودعم الآخرين، يبدو أن الجميع يفوز. أشارت النتائج إلى أن محاولات المساعدة في إدارة مشاعر شخص آخر تميل إلى جعل كل من الداعم والشخص المدعوم يشعران بمزيد من الإيجابية بعد ذلك. يقول سيجال: "إن مساعدة الآخرين، حتى الغرباء، يمكن أن تساعدك حقًا على الشعور بالتحسن، أو تقليل مشاعرك السلبية في بعض الظروف". "لذلك أعتقد أن هذه نتيجة إيجابية للغاية."

ومن خلال تكرار الأبحاث السابقة حول الجانب الاجتماعي للتنظيم العاطفي، وجد الفريق أيضًا أنه عندما يحاول شخص ما مساعدة شخص آخر في مشاعره، قد يشعر كلا الشخصين بالقرب من بعضهما البعض. على وجه الخصوص، كان هذا هو الحال بالنسبة للأشخاص الذين كانوا أكثر قدرة على تنظيم مشاعر الآخرين، على الرغم من أن هذا لا علاقة له بقدرتهم على إدارة أنفسهم.

تبدو هذه النتائج مشجعة بشكل رائع لأي شخص حساس عاطفيًا ولا يشعر بأنه نموذج للمرونة. يقول تامير: "حتى لو كنت تعاني من مشاعرك الخاصة، فهذا لا يعني بالضرورة أنك لن تكون قادرًا على مساعدة الآخرين". "وإذا ساعدت الآخرين، فربما تكون هذه طريقة لتجعل نفسك تشعر بالتحسن - وتقربك من الآخرين."

***

.........................

المؤلف: كريستيان جاريت/  Christian Jarrett محرر Psyche : عالم أعصاب معرفي من خلال التدريب، وكان كريستيان هو المحرر المؤسس لمجلة أبحاث الجمعية النفسية البريطانية وصحفي حائز على جوائز في مجلة The Psychoologist. تشمل كتبه الدليل الخام لعلم النفس، وعلم النفس في 30 ثانية، والأساطير العظيمة للدماغ. أحدث أعماله هو "كن من تريد: إطلاق العنان لعلم تغيير الشخصية"، الذي نُشر في عام 2021. لن ينسى كريستيان أبدًا حمل دماغ بشري بين يديه كجزء من فصل التشريح العصبي، الكتلة الرمادية ثقيلة جدًا كما لو كانت مليئة بالذكريات والأحلام.

من الحدث التاريخي إلى الظاهرة المعاصرة

إن التعامل مع الأفكار الدينية بمنطق فهم علمي يختلف عن التعامل معها بمنطق إيماني مؤدلج، فلا يمكن التفكير والتدبر في المعرفة الدينية من دون تجريد الذهن ولو نسبيا من كل المسبقات الفكرية والعقدية وربما حتى الايمانية، التزاما بمبدأ الموضوعية، برغم أنها لم ولن تتحقق بنحو تام، لكن يأمل أهل العلم والمعرفة أن تتحقق الموضوعية ولو بنحو نسبي.

إن الاشتغال في مجال العقيدة ليس بالأمر الهين، والتفكير والنقاش في مسائل العقائد يحيل إلى مساحات خطرة بنظر كثير من الدارسين والعاملين في المعرفة الدينية.

لذا فإن الاتجاهات في الفكر الديني تتعدد وهو أمر طبيعي مع إدراك كل حيثيات التدين والاعتقاد وأزمات التفكير الديني، وما انتجه الخطاب السلفي المتشدد من معارف يثير كثير من الإسئلة، ويستدعي قراءة ومراجعة كثير من السرديات التي نتجت عن تلك الرؤى التي اختلف في منهج تفكيرها كثيرا عن مجمل البيئات المعرفية في الاطار الديني الاسلامي.

وفي هذا المقال يتم تناول التوظيف السلفي المعاصر لمشكلة الارجاء، تلك المشكلة القديمة والحديثة في الوقت نفسه، بسبب إعادة انتاجها واسقاطها على الواقع الراهن، من قبل كثير من الدارسين في مجال المعرفة الدينية.

وتمت محاولة قراءة أحد أهم الكتب التي تناولت هذه المشكلة وهو كتاب سفر بن عبد الرحمن  الحوالي (ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي) ومراجعته ومحاولة نقده وتسجيل بعض الملاحظات التي من شأنها أن تبين الفارق المنهجي بين التفكير العلمي الموضوعي، والتفكير المؤدلج الذي يتحرك في مساحات شديدة الضيق، وقد يصعب التحاور معها بسبب اختلاف منطق الفهم ومرجعيات التفكير، وفقدان حلقة المنهج العلمي البرهاني الذي يقرب وجهات النظر في الغالب ولو نسبيا.

تمثل مسائل الايمان والكفر، مساحة معقدة وحساسة لدى أغلب الاتجاهات العقدية والكلامية، ومنذ القرون الأولى للعهد الاسلامي، إذ دخل الفكر الكلامي في أنفاق ومتاهات متداخلة بسبب ما أختلف فيه من مسائل الايمان والكفر، وما يترتب على تلك المسائل من تكفير وإقصاء، جعل من الخوض في مثل تلك المسائل مدخلا لإخراج فئات ومجاميع من ملة الدين، والمشكلة أن هذا الاختلاف قد انعكس أيضا على الواقع الحديث والمعاصر، وكأن الأزمة مستمرة، والمساحات مفتوحة أمام إثارة تلك المسائل في كل زمان ومكان.

والإرجاء كمفهوم وظاهرة وحدث، كان متأثرا بمقولات الايمان والكفر من جهة، ومؤثرا فيها من جهة أخرى.

يمكن تحديد محل الاشكال في فكرة الإرجاء من خلال، ثنائية الإيمان والعمل، وعدم تمامية الإيمان من دون العمل، وعدم كفاية الانعقاد القلبي، والاذعان النفسي، ومجرد التصديق، في إسباغ صفة الإيمان على الإنسان، وهنا لنا وقفة تحليلية مع تلك المخاوف:

أولا: ما هو المراد من تقوّم الايمان بالعمل؟ وأن العمل جزء من الإيمان؟ وأن الإيمان يزيد وينقص باعتبار دخالة العمل ضمنه؟

للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من إيراد احتمالات:

إما أن يكون سبب التأكيد على دخالة العمل بالايمان هو عدم كفاية اسلام الفرد من دون عمل يكشف عن إيمانه، بمعنى أن يصبح العمل هو الطريق إلى انكشاف إيمان المؤمن، ولا يكفي منه ادعاء (القول)، بل ضرورة (العمل).

أو أن يكون العمل مكملا للإيمان، وأن الإيمان يتقوم بالعمل على مستوى الواقع العملي، الذي يستحق معه المؤمن صفة الإيمان الحقيقي ويكون مستحقا للثواب.

وهنا لابد من الالتفات إلى خطورة الموضوع، فمن آمن في قلبه وكشف عن إيمانه هذا بمجرد قول أو ما يوازيه، هل يكفي ذلك في اعتباره مسلما محقون الدم؟ حتى لو لم يعمل؟

أم أن ذلك غير كاف؟ بل يبقى كافرا مالم يبين عليه العمل؟

هذه التساؤلات لم يتم تناولها بنحو صريح في المدونات التي تناولت موضوع الارجاء، لكن الهاجس الفعلي وراء تلك الإشكالية مرتبط بمسألة الإيمان والكفر.

ثانيا: إن القول بكفاية الانعقاد القلبي في تحقق الإيمان يُفهم على نحوين:

إما أن يكون الإنسان مسلما بمجرد قناعته الداخلية، من دون الحاجة الى القول والعمل أو يكون الاكتفاء بالانعقاد القلبي على مستوى تحديد مفهوم الإيمان، إذ يتم تحديده بالتصديق والاذعان، وهما فعلان نفسيان، والعمل مفهوم مغاير للإيمان كما صرحت في ذلك نصوص القرآن الكريم في عطفها بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر من موضع، (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، (من آمن وعمل صالحا).

إذن الغاية من فصل العمل عن الإيمان متعددة، فإما أن تكون لأجل الفصل المفهومي، وهو ما لا شك فيه، أو تكون لأجل الفصل الواقعي العملي، وهو مما يسبب مشكلات عدة، أبرزها تقويض الفعل الايماني في حدود الواقع القلبي، مما يفضي الى انحسار فعل التدين بالفعل النفسي الداخلي،

إن المرتكز الذي يقوم عليه الخطاب السلفي هو ربط العمل بالايمان، وجعله مقوما لحقيقة الإيمان، ولا يكفي أن تتم صياغة مفهوم الإيمان على أنه اعتقاد في القلب كما يستفاد منه لغة واصطلاحا، بل تلزم إعادة صياغة المفهوم بالنظر إلى واقع العمل، وأثره في تمام الإيمان، ونقصانه، وإذا كان الايمان الكامل يقتضي تحقق العمل، فإن الخطاب السلفي لم يكتف بذلك، مؤكدا على أن حقيقة الايمان مركبة من القول والعملفضلا عن الاعتقاد، وأن العمل كاشف عن حصول الايمان القلبي، ومن دونه لا يكون الايمان إيمانا، ومن هنا تم نقل الارجاء من الحدث إلى الظاهرة، فالصياغات التي تصوغ مفهوم الايمان على اساس لغوي واصطلاحي بأنه انعقاد في القلب فقط تمثل حالة الإرجاء كظاهرة مستمرة، ينبغي مواجهتها في مختلف الأحوال وعلى كافة الصعد.

لذا نجده يتناول تراث السلف في قولهم الايمان قول وعمل، محاولا التأصيل والدعوة لتلك الرؤية التي أثقلت مفهوم الإيمان بالنحو الذي أدى إلى تضخم مقولة الإيمان وربطه بالعمل، وليس أي عمل، بل سعى الخطاب السلفي إلى انتقاء نمط محدد من العمل، فالعمل الذي يراه السلف هو العمل الذي يندك بحالة الدعوة والجهاد والحرص على عدم الزيغ والضلال والبراءة من الكفر بحيث أصبح التكفير جزءً من العمل ولو بنحو ضمني كما يتضح مما يدونه سفر الحوالي، من أن إرجاء الاعمال الى الآخرة كما يتضح من مفهوم الارجاء لهو منطق يغاير منطق الايمان الصحيح، لذا فهو يكرس مبدأ الحكم على عقائد الناس، بنحو ضمني، لأنه ينتقد حالة التقاعس عن ايضاح الإيمان بمعناه الملازم لضرورة العمل، فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، وهذا بدور يؤدي إلى تكفير من لا يعمل ولو بنحو غير مباشر.

مما تقدم يتضح:

- تم ترحيل مشكلة الارجاء من بعدها التاريخي إلى واقع معاصر وراهن، من خلال التركيز على مدخلية العمل في حقيقة الإيمان، من دون الاكتفاء بكونه مكملا للإيمان، مما يفتح الباب إلى سلب اعتبار الايمان من مذاهب ومجتمعات في العصر الراهن، لكونها لا تعتقد بمدخلية العمل في حقيقة الايمان.

- إن اشتراط العمل في الإيمان بعد أن جرى اعتباره مقوما لمفهوم الايمان، يؤدي بنحو ضمني إلى تكفير كل من لم يعمل، فضلا عن انتقاء الخطاب السلفي للعمل في حدود ما ينتجه المنهج السلفي (اهل السنة والجماعة) من أنساق وأحكام وضوابط للأعمال الصحيحة، تختلف كثيرا عن ما تنتجه المعارف الدينية لدى بقية المذاهب والاتجاهات الاسلامية.

- يقوم منطق الفهم على الجانب البياني فقط، ولا يناقش الفهوم الأولى، (القرون الثلاثة) بل يجعلها مرجعية معرفية توجه خطابه المعاصر، ويضيف عليها من خلال اعتماده على المرجعيات اللاحقة (ابن تيمية، ابن عبد الوهاب، المودودوي، سيد قطب..).

- إن عملية تصنيف الناس في الواقع المعاصر وفرزهم  على اساس ديني متشدد يستدعي إحياء مشكلة عقدية موغلة في القدم وإعادة انتاجها وإسقاطها على واقع راهن، لتنتج مشكلة جديدة تتمثل بتكفير أغلب المسملين.

- يعتقد السلفيون المتشددون أن منهجهم معصوم من الخطأ، وهو الحالة التي بشر بها النبي (ص) بأنها ستعود بالاسلام غريبا كما بدأ غريبا، وهو يكشف عن منطق جازم في أفكاره، يجانب المنهج العلمي، ويستعين بالمعتقد من خلال توظيف الوجدان الايماني الذي يحشد الناس على التمسك بما ينتجوه من أفكار.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

هل تعرف هذا الشعور عندما تتصفح صفحتك الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ويبدو الأمر كما لو كنت متصلاً بالجميع وبكل شيء؟ ولكن بعد ذلك، عندما تضع الهاتف جانبًا، تدرك أنك لم تتحدث حقًا مع أي شخص شخصيًا طوال اليوم؟ هذا ما أقصده بالشعور الزائف.

باعتباري متخصصة في علم الأجتماع الرقمي ومهتمة بدراسة التقاطع بين التكنولوجيا والمجتمع، فقد لاحظت التأثير العميق الذي يمكن أن يحدثه إدمان وسائل التواصل الاجتماعي على علاقاتنا الاجتماعية، وبينما توفر منصات وسائل التواصل الاجتماعي اتصالاً وفرصًا غير مسبوقة للتفاعل ، فإنها تشكل أيضًا تأثيراً كبيراً على صحة وعمق اتصالاتنا الشخصية.

إن جاذبية وسائل التواصل الاجتماعي، مع سرعة التمرير الذي لا يتطلب الظهور أحياناً يكفي أن تختبئ خلف شاشتك و المحتوى المنسق والإشباع الفوري، يمكن أن تدفع الأفراد إلى إعطاء الأولوية للتفاعلات الرقمية أو الأفتراضية  على المشاركة وجها لوجه.،لا يؤدي هذا التحول إلى تقليل جودة علاقاتنا خارج عالم الراوتر فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى تآكل قدرتنا على التعاطف  والتواصل الهادف.

علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي إدمان وسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاقم مشاعر الوحدة والعزلة والمقارنة الاجتماعية، حيث يقيس الأفراد بشكل متزايد قيمتهم الذاتية ومكانتهم الاجتماعية من خلال الإعجابات والتعليقات والمتابعين، يمكن لهذه الدورة الدائمة من سلوك البحث عن التحقق من مكانتنا أو وجودنا  أن تخلق إحساسًا زائفًا بالارتباط بينما تبعدنا عن الاتصال الإنساني الحقيقي .

ولمواجهة هذه التحديات، يجب علينا أن ندرك أن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي هو قضية مجتمعية تتطلب عملا جماعيا وتدخلات ممنهجة ، يلعب التعليم دورًا حاسمًا في رفع مستوى الوعي حول الطبيعة الإدمانية لوسائل التواصل الاجتماعي وتمكين الأفراد من تطوير عادات رقمية صحية، ومن خلال تعزيز المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي( وهذا ماأشرت له في أطروحتي للدكتوراه)، يمكننا تزويد الأفراد بالوعي اللازم للتنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مسؤول والحفاظ على التوازن بين حياتهم  عبر الإنترنت وخارجها خاصة.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع / جامعة بابل

 

 

(معًا نحو تيار نسوى شرقي إيزيس الشرق برفقة اوزوريس)

مع استيقاظي في فجر يوم جديد همست في أُذْني كلمات زوجة "سقراط" لا يوجد فائدة واراها أمامي عيني وهي مرتدية ثوبها الأسود حينما سخر منها "سقراط" أمام الملأ بمقولته القاتلة لقلبها "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا وإِن لم توفق أصبحت فيلسوفا.(1)  وأخذت التساؤلات تتطاير أيعقل من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ودعا في فلسفته إلى الإصلاح والتغيير لم يستطع إيجاد سبل للعيش بود وتفاهم مع رفقة دربه؟..... وفجأة دق جرس الباب أعلم أنها صديقتي الصدوق.

- نور الهدي: صباح الخير يا آمال جئت في الصباح الباكر لنتناول معًا وجبة الأفطار أتعلمين أنَّ الفضول سيقتلني إلى أين رحلتنا اليوم؟

- أصبحت صديقتي من عشاق السفر عبر الأزمنة فنحن اليوم في استضافة سيدة كل الأراضي، الابنة الملكية والأخت الملكية، سيدة الأرضين  جدتي الملكة "حتشبسوت". (2)

- نور الهدي: ياله من اختيار صائب ما أعرفه عن جدتي أنها امرأة ذكية فعقب وفاة تحتمس الثاني زوجها وأخيها، استغلت الفرصة وأعلنت نفسها الوصية على تحتمس الثالث وعلى ابنتها لأنهما كانا صغيرى السن وأعلنت نفسها ملكة على  مصر السفلي ومصر العليا. (3) ونظرًا لشخصيتها المميزة استطاعت تحكم مصر رغم كونها امرأة.(4)

- ما بين غمضة عين وجدنا أنفسنا بمصر القديمة–نعم كل منا يستطيع أن يطلق العنان لخياله ليتجول عبر الأزمنة ما بين الماضي والمستقبل- استقبلنا  المهندس "سنموت" في جولة بمصر القديمة مشيرًا لأهم إنجازات جدتي الملكة "حتشبسوت"

المهندس: قد تمكنت سيدة الأرضين  بالقيام بالعديد من الأعمال مثل المعبد الملكي الخاص بها في منطقة الدير البحري بالقرب من مدينة طيبة، (5) بجانب عديد من الآثار في مناطق من شبه جزيرة سيناء، ومعبد في وادي حلفا من بلاد النوبة جنوب مصر. (6)

نور الهدي: وهذا دليل على أن مصر زمن حكم جدتي "حتشبسوت" تمتعت برخاء اقتصادي والدليل على ذلك هذه الأعمال العمرانية المميزة، فقد تمكنت أن تحكم بلاد مصر السفلى والعليا وأن تحقق عديدًا من الإنجازات بسبب قوة شخصيتها الفذة في الحكم، يرجع ذلك إلى تقدير المجتمع المصري القديم واحترامه لهذه الملكة وتعاونه معها. (7)

- صدقتي "نور" فالمجتمع يلعب الدور الرئيس في مساندة المرأة في تحقيق نجاحها. ومع تبادل الحديث المشرق بين صديقتي والمهندس عن إنجازات جدتي وصلنا إلى القصر الملكي ورايتها من بعيد وهى تجلس في حديقة القصر كانت جدتي متشبة بالرجال حيث تلبس التاج المزدوج واللحية الصناعية رمز الملك (8) جالسة برفقة امرأة يبدو عليها علامات الحزن واخذ التساؤل يراودني لماذا ترتدي ملابس الرجال وتتشبه بهم. أهل ذلك يعني أن القيادة خاصة بالرجال أم أن حقيقة المجتمعات لا تتقبل بحكم تعتليه النساء دخلنا على  جلاله الملكة وسلمت علينا ونادتنا بأسمائنا أحفادي كنت في انتظاركم منذ زمن ولكن قد حان اللقاء اليوم ويبدو أنه لمصادفة تواجدكم مع والدة أفلاطون.

- الحمد لله أن وفقنا الرحمن للقاء وقلبي يقول: لا أومن بالمصادفة فكل ما يأتي في حياتنا  إنما يأتي  بترتيب إلهي ولحكمة. وياله من يوم جميل حينما نجتمع بسيدة الأرضين بوصفها رمزًا لنساء الشرق ووالدة "أفلاطون" بوصفها رمزًا لنساء الغرب في الحضارات القديمة.

- الملكة حتشبسوت: جاءت السيدة "أرستون" والدة "أفلاطون" تحكى عن مأساتها التي عاشتها عقب وفاة زوجها إلينا. قد كانت نظراتها ممزوجة بالحزن والألم واليأس.

- والدة أفلاطون: كنت أتحدث مع جلالة الملكة قبل مجيئكما عن  ما حدث معي عندما مات زوجي "أرستون" والد "أفلاطون" وقت ولادته، حيث كان من المعروف منع القانون الأثيني الاستقلال القانوني للمرأة، لذلك تم تزويجي من العم، حيث كان الزواج بين العم وابنة الأخ، وكذلك بين الأقارب من الدرجة الأولى، شائعًا ومعترفًا به في أثينا، من أجل الحفاظ على ميراث الأسرة من الغرباء. (9) إن من أشد أنواع القهر عدم المساوة في نظام الميراث الذي تمثل في حضارتنا، فالأصل في الميراث للأبناء الذكور أما البنت لا ترث إلا بموافقة الأب، فإذا لم يكن يوجد أبناء فمن حق الأب أن يورث الابنة ويقوم بتزويجها لأي شخص يشاء أو يوصي بذلك، أي يزوجها حتى بعد الوفاة، فإذا مات دون أن يترك وصية جاز للوصي أن يزوجها لمن يشاء أو يتزوجها هو نفسه. (10) وللأسف إن وضع المرأة بشكل عام سىء للغاية فهي وأبناؤها ملكُ لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكا لزوجها، إنها اُشْتُرِيت في الزواج كما كان يشترى العبد في الأسواق سواء بسواء، وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء (11)، ففي أسرتنا اليونانية، أصبحت الزوجة وأبناؤها بمنزلة العبد لرأس الأسرة وهو الرجل.(12)

- مع أن السيدة "أرستون" كانت متصنعة الفرح على وجهها لمقابلتها جلالة الملكة إلا أنني أشعر بإنطفائها ورؤية عتمة صدرها من نبرة صوتها فأسوأ ما تشعر به الأنثى أن تفقد الشعور بالأمان مع رفيق درب  يعاملها كالعبد المملوك له .

- الملكة حتشبسوت: أما نحن في حضارتنا المصرية القديمة سيدة "أرستون" توجد العديد من الطرق لحصول المرأة المصرية على الثروة. ومن أهمها الوراثة عن طريق الوالدين. فممتلكاتها الخاصة تحصل عليها أما بالشراء أو عن طريق الهدايا من الوالدين أو الزوج.... ويحق للمرأة حرية التصرف في ميراثها، وكذلك تستطيع حرمان أي من أولادها منه إن شاءت.(13) وللمرأة الاستقلال القانوني الكامل وبخاصة حق إدارة أعمالها. فمن حقها أن تتصرف بحرية واستقلال تام في الضياع والخدم والعبيد والمال والأشياء الثمينة ، وكذلك إبرام العقود بكل أنواعها، وأن تمنح العبيد حريتهم، أو حتى أن تتبنى أي شخص. (14)

نور الهدى: على حد علمي "جدتي" كانت نساء المجتمع المصري قديما تتمتع بحقوق مساوية للرجال وحاول المجتمع بجميع الطرق أن يعبر عن توقيره للنساء واحترامهم لهن, بأن جعلوا منهم آلهة السماء.(15)

- ولكن جدتي الوضع اليوم اختلف عن الماضي فللأسف على الرغم تأكيد حضارتنا القديمة والشريعة الإسلامية على توريث النساء إلا أن سنوات الاحتلال التي أصابت مجتمعاتنا سعت إلى واد النساء وإجهاض أحلامهن وسلب حقوقهن والتي بدورها أصبحت عادات وتقاليد خاطئة متوارثه عبر الأجيال: منها الحق في الميراث، فالعائلات -خاصة بصعيد مصر- تحرص على أن تتفاخر بما تملك من ممتلكات وأراضٍ، وترتب على ذلك حرمان النساء من الميراث حفاظاً على ممتلكات العائلة من أن تتشتت بتوزيعها على العائلات الغريبة  هذا بصدد قضية الميراث. إلى جانب عديد من المشكلات التي تواجه النساء في الزواج أو حق الانفصال...إلخ وكذلك عديد من المشكلات التي تواجهها في الحياة المهنية فالمعضلات في المجال الخاص والمجال العام كثيرة وتحتاج إلى لقاءات ولكن الأهم سعي المجتمع الغربي لتحسين وضع المرأة في القرن التاسع عشر بظهور الحركة النسوية التي تطالب بالاعتراف أن للمرأة حقوقًا وفُرَصًا مساوية للرجل، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية. (16) أي تعني مبدأ المساواة بين الجنسين في مختلف الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية.(17) ولكن ما يقلقني "جدتى" أنه مع تنوع مراحلها وتياراتها حاد بعض منها عن الهدف المنشود وأصبح طرحها مزيجًا ما بين الاعتدال والتطرف يقتحم مجتمعاتنا الشرقية ويؤثر على ابنائنا وأخشي عليهم من الفهم الخاطئ لكلمة النسوية الذي اكتسب دلالات سلبية بسبب تيارات الراديكالية الصاق بها بعض من الأطروحات المنافية للفطرة البشرية فنحن في حاجة إلى أهمية التواصل الحضاري مع الآخر ولكن مع الحرص على الحفاظ على البنية الثقافية والفكرية والعادات والتقاليد الاجتماعية لمجتمعاتنا الشرقية.

- الملكة حتشبسوت: ومن أجل ذلك آن الأون لإعلان مولد تيار شرقي يحمل قضايا ومشكلات المرأة العربية - تتمثل ركيزته على الدعوة إلى التكامل بين "ايزيس" و"اوزوريس" على مستوى الحياة الخاصة والحياة العامة والحرص على دعم الأسرة الشرقية بوصفها النواة الأولى في تكوين مجتمعاتنا وتقدمها. والحرص على معالجة غياب النساء واستبعادهن من السجلات التاريخية على مر العصور من خلال إبراز الدور الذي مثلته النساء في كافة  المجالات التاريخية والسياسية  والأدبية والفلسفية والعلمية وغيرها.

 وفي نهاية اللقاء بجدتي رددت لي - بنبرة مليئة بالقوة والحماسة-  يا ابنة الشرق - تذكري حتى لا تتشتتي بين مفترق الطرق عليك أن تضعي بين نصب عينيك "إيزيس" ومفتاح الحياة .

- نظرت إلىّ صديقي نظرة استفهام تريد أن تدرك كلمات جدتي  الأخيرة فقلت: لها تمهلي فنحن في بدء المسير.

معًا نحو تيار نسوى شرقي "إيزيس الشرق برفقة اوزوريس".

***

د. آمال طرزان

......................

المراجع

(1) مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

(2) مجموعة مؤلفين: حتشبسوت قادة مصر الفرعونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص2008م، ص35.

(3) شاكر محمود إسماعيل: مقالة خصوصية إمكانية المرأة في حكم الشرق الأدنى القديم الجزائر، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية ،2016، ص148.

(4) مجموعة مؤلفين: حتشبسوت قادة مصر الفرعونية، مرجع سابق، ص11.

(5) شاكر محمود إسماعيل، مرجع سابق، ص149.

(6) مرجع سابق، ص149-150.

(7) مرجع سابق، ص149-150.

(8) مرجع سابق، ص148.

(9) Debra Nails: The Life of Plato of Athens, In: "A Companion to Plato Blackwell Companions to philosophy", Ed by: Hugh H. Benson, Blackwell Publishing Ltd, USA, 2006, p.1.

(10) إمام عبدالفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أفلاطون والمرأة"، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٩٦م، ص 57.

(11)  ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة نشأة الحضارة،ج1، مج1، ط1، ترجمة زكى نجيب محمود، محى الدين صابر، دار الجبل للطبع والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص62-63.

(12)  مرجع سابق، ص71.

(13) محمد فياض: المرأة المصرية القديمة ، دار الشروق، ط1، 1995م، القاهرة، ص19-20.

(14)   مرجع سابق، ص19.

(15)   مرجع سابق،ص17.

(16) Simon Blackburn: The Oxford Dictionary of Philosophy, Oxford University Press, Oxford, 1996, p.270.

(17) N.S.Doniach: The Oxford English Arabic Dictionary of current USAGE, 1Th, Oxford University press, New York, 1972, p.433

فى وصية «ربّانىّ الأمة» لتلميذه كميل بن زياد (قتل عام ٨٣ هجرية) حكمة بالغة، نحن أحوج ما نكون إليها فى زمن القيم الساقطة، زمن فقدنا فيه حكمة العقول وحكمة القلوب، وأخذنا بالحرف والعنوان دون الجوهر واللباب حتى خرج علينا الأفاكون من كل حدب وصوب، جعلوا من نقاء القلوب مجرّد أساطير خُرافية، فكانوا أساتذة فى أسطرة المعقول واللامعقول على السواء، كما جعلوا من حكمة العقول ظواهر برانيّة لا تلبث أمام أباطيلهم أن تتهافت، فلا منطق العقل مقبول لديهم ولا حكمة القلب، ناهيك عن بصيرة الذوق أو ذوق البصيرة، جعلوا أهدافهم حفنة من الأموال يُحصّلونها ليشبعوا شهواتهم وآفاتهم ومطامحهم التى تقام، فى زعمهم، على أنقاض الدين.

ولم يكن لأوكارهم الموبؤة التى يؤسسونها حديثاً صلة مقطوعة النسب بما (تكوّن!) قديماً، ولن يقدّموا طعناً أكثر ولا أحجى ممّا قُدِّم فى السابق من ليّ الألسنة ومن طعن فى الدين.

نحن أحوج ما نكون اليوم، وكل يوم، إلى تأمل وصية الإمام لتلميذه، لتعطى صورة صادقة وافية عن حقيقة الإمام من حيث نزوعه إلى الملأ الأعلى، ولتملأ النفس جلالاً وروعة، وليكون على الحقيقة هو أول فقيه للقلوب يمثل سلامتها من الدّغل والتعطيل.

يُقال، حسبما يروى المؤرخون، إنّ علياً أخذ بيد كميل بن زياد، وأخرجه إلى ناحية القبور، وتنفس نفساً طويلاً ثم تكلم عن القلوب، فقال: «يا كميل القلوب أوعية، فخيرها أوْعاها للعلم، أحفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة :

عالمٌ ربّانى. ومتعلمٌ على سبيل النجاة. وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق». ثم يمضى الإمام فى تفضيل العلم على المال، ويخبر تلميذه أن فى قلبه علماً يخشى أن يُلقنه للناس فلا يحسنون استخدامه، غير أنه لن يعدم حجج الله فى الأرض، إذْ لم تخلو الأرض مطلقاً من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً - هكذا يقول الإمام - الأعظمون عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حججه، حتى يؤدونها إلى نظرائهم ويزرعوها فى قلوب أشباههم.

هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترَفون، وأنسوا بما استوحش عنه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها مُعلقة بالمنظر الأولى، أولئك خلفاء الله فى بلاده، ودعاته المخلصون إلى دينه، ثم يتنهد الإمام شوقاً إلى مشاهدة رؤيتهم.

حقاً .. إنّ الشبيه يدرك الشبيه كما كان يقول الفلاسفة قديماً؛ فالمُخلصون لله يدركون بعضهم بعضاً. وأصحاب المطامع والأهواء والمخازى أيضاً أشباه وأنداد يدركون أنفسهم ويعرفون أهدافهم ويجتمعون على الدَّنيّة. أولئك هم الهمج الرّعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما تقول الوصية.

هذه سنة الدنيا مذ قامت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً : نسخٌ آدميّة مأجورة مستخدَمة، تتكرر فى كل زمن وفى كل عصر، وهى لا تعرف معنى لتحرير القلب ولا لحرية العقل.

وأهل الباطل فى كل جيل أشباه وأنداد. وأهل الحق كذلك هم من يتخذون من كنز العلم والتحقيق غاية نحو وَحْدَة قصد، ولا يخشون من أجل الحق فى الله لومة لائم.

وربّانيُّ الأمة هو على التحقيق المثل الأعلى للولى العالم العامل، الجامع بين علوم العقل وعلوم التصفية، وربما وجدنا من مؤرخى التصوف (أبو نعيم صاحب حلية الأولياء) من يضع على لسان عبدالله بن مسعود حديثاً مسنداً : «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلا له ظهر وبطن، وإنّ علياً بن أبى طالب عنده علم الظاهر والباطن».

أو يذهب صاحب نهج البلاغة إلى أن علياً يعلن أنه اندمج على مكنون علم لو باح به للناس لاضطربوا اضطراب الأرشية فى الطوى البعيدة. أى أنه، عليه السلام، أنطوى على علم لم يعلمه أحد لو أظهره لاضطرب الناس مثل اضطراب الحبال فى البئر العميقة.

حقيقة، لن تضام أمة وفيها الأمثلة العليا من كبار العقول وكبار القلوب، فإذا ظهر فيها اليوم، كما ظهر فيها فى السابق، من يقدح فى ثوابتها أو يطعن فى أصولها، تحت دعاوى لقيطة، فحكمه حكم من سبقه عبر تطاول الأزمنة والدهور : فى مزبلة التاريخ.

ولن تخلو أمة التوحيد من قائم لله بحجة، كما صحّ عن الإمام.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

في جلسة حميمة جمعتنا خلال زيارتي للندن قبل سنتين أنا والصديق العزيز الشاعر عدنان الصائغ مع الدكتور الفنان علاء بشير في صالة فندق الهلتون متروبول، تحدث الفنان علاء بشير عن أشياء وقصص عديدة حول أعماله الفنية في العراق ورأيه في الفن العراقي المعاصر والقديم بشكل عام، والذي يرى فيه أن أغلب الأعمال الفنية العراقية المعاصرة تبدو خاوية، فارغة، وبلا أصول تربطها بتاريخ البلد وحضارة وادي الرافدين العريقة، كما لو كانت شجرة بلا جذور، وأن كثيرا من الفنانيين العراقيين قد سقطوا في المحذور حينما ملأوا لوحاتهم بألوان الفلكلور والطبيعة الصامتة والبورتريهات ذات الطابع التجاري، وأن أية مقارنة نجريها بين أية لوحة أو عمل فني مما أنجزه الفنانون العراقيون القدماء مثل ذلك التمثال الصغير للإلهة العراقية الشهيرة عشتار المعروض في المتحف البريطاني لكفيلة وحدها أن تظهر لنا الفرق بين ما تنطوي عليه تلك الأعمال الخالدة من إبداع وعبقرية وغنى وقوّة ودلالات لا تكاد تقع تحت حصر، وبين الغالبة العظمى من أعمال الرسم والنحت العراقي المعاصر من التي لا نكاد نعثر فيها على شيء يربطها بالواقع المعاصر، وما ينطوي عليه من انكسارات وأحداث وحروب وتحولات كبرى شهدها المجتمع العراقي الحديث.3920 ضياء خضير

وهو رأي يبدو للوهلة الأولى صادما لما هو سائد من آراء عن الفن العراقي المتميّز عربيا في كثير من إنجازاته الجادة والكثير من فنانيه الكبار من الذين تختلف أعمالهم عما أشار إليه الدكتور علاء من أعمال (فنية) فارغة في موضوعاتها وأساليب تنفيذها. وهي، في مجموعها، مختلفة بالتأكيد عن خطاب التشكيل الفني السائد في العصور التاريخية القديمة (السومرية والبابلية والآشورية) المحتشدة بالغيبيات والقوى الأسطورية غير المرئية؛ مع أن عديدا من الفنانيين العراقيين قد درسوا بعض تلك الأعمال ونفذوا أعمالهم في الرسم والنحت بوحي منها.

وقد كان ذلك التمثال - اللوح الذي أشار إليه الدكتور علاء يعكس، مثل غيره من أعمال النحت العراقي القديم، هذه المعاني والدلالات ذات القوى الماورائية المتحكمة بفكر الإنسان الرافديني القديم ورؤيته للعالم والكون من حوله، والتي تجسّد، في سطوحها وتكويناتها وما تنطوي عليه من تبسيط واختزال ورموز، موهبةً وقوة فريدتين في التمثيل والخلق اللذين يتجاوزان محدودية المكان والزمان المحليين والدلالات الطقسية والشعائرية الخاصة بزمنها القديم لتظل ملهمةً وخالدة عبر العصور.3919 ضياء خضير وعلاء بشير

لقد كان ما تحدث به الدكتور علاء بشير بتلك الطريقة الحميمة والواثقة مما تقول نوعا من التحدي الشخصي الذي صارت فيه رؤية بعض الأعمال العراقية القديمة الخالدة على مرّ العصور والتي يقبع بعضها في المتحف البريطاني القريب، فرصةً ثمينة لا تعوض بثمن ولا بدّ من القيام بها خلال زيارتي القصيرة تلك للندن، بعد أن فتح الدكتور علاء عيني على ما لم أفكّر فيه حول الموضوع بنفس الطريقة، على الرغم من زيارة سابقة قمت بها قبل أكثر من عشرين عاما لهذا المتحف. وهو ما يدفع أيضا إلى إعادة التفكير برؤية الدكتور علاء وفلسفته الفنية المختلفة، وبما تنطوي عليه من ولع بوجود الرموز والقيم الفكرية والفنية ذات الدلالات التكوينية واللونية والتخطيطية الخاصة في معظم لوحاته وأعماله النحتية، والتي تحاول أن تبرز محنة الإنسان العراقي الراهنة بالارتباط مع ذلك التاريخ الغائر في عمق تربة الحضارة العراقية القديمة بمختلف عصورها.

ولقد توثّق هذا الشعورُ في نفسي وأنا أقف في صباح اليوم التالي مذهولا أمام العشرات من الأعمال الفنية العراقية المعروضة في القاعة البابلية بالمتحف البريطاني بلندن، ومنها ذلك التمثال الذي استشهد به الدكتور علاء، والذي يظهر معي في الصورة المرفقة.3921 ضياء خضير

والتمثال الذي عثر عليه في مقبرة أور الملكية، كما يظن، ينطوي، كما هو واضح، على ما يزيد عن صورة جسد امرأة عارية لها جناحان وتقف بقدميها اللذين ينتهيان بمخالب على أسدين، وتمسك بدوائر تشير إلى رموز الحكمة الكونية ذات الطبيعة الدائرية، وقرون في الرأس ترمز إلى الأصل الإلهي لهذه المرأة العجيبة. وهو، كما يصفه الدكتور علاء "عمل اعظم من رائع، يتوحّد فيه البصر والبصيرة بشكل مذهل، وتبدو امامه معظم الاعمال الحديثة خائبة فارغة". وهناك، فضلا عن ذلك، بومتان تحيطان بالتمثال عن يمين وشمال لم نستطع أن نفسر ما يعنيه وجودهما، لا أنا ولا الدكتور علاء الذي اضطر لدى سؤالي له عن ذلك أن يتصل بالدكتور خزعل الماجدي في هولندا، الذي أوضح في ردّه أن هذا التمثال ليس لعشتار – إينانا، إلهة الحب والجمال والخصب، وإنما هو يعود لاختها الهة العالم السفلي، [وإن كتب عليه اسم عشتار]، واسمها (ارشكيكال)، هذا العالم الذي يسوده الموت والظلام، والذي دلالته البوم التي تنشط في الليل. والجناح هنا يشير إلى أنّ باستطاعتها الصعود إلى عالم الضياء. وهي تمسك بيدها العدالة والقانون وتقف على لبوتين، وليس أسدين، كما تفعل أختها عشتار. وعلى رأسها غطاء يحمل قرونا دلالة على أنها إلهة.

فهي إذًا الوجه الآخر لأختها عشتار، إلهة الحب والجمال الشهيرة.

والمهم في كلّ هذا هو ما ينطوي عليه هذا العمل الفني المثير من معان ودلالات استطاع صانعُه المثّالُ العراقي القديم أن يجسدها فيه، في حين تفتقد كثير من أعمالنا الفنية المعاصرة هذه الروحَ العظيمة التي ترتبط فيها كل حركة وكل تكوين وإشارة ولون بمعنى ودلالة ما، تومئ إليه وإليها وتجسّدهما.

وهو سؤال عن الفن العراقي القديم والمعاصر مطروح على الأصدقاء ليفكروا فيه ويشاركوا في محاولة الإجابة عنه...

***

الدكتور ضياء خضير

طاب مساؤكم عزيزاتي أعرّائي. أحيّيكم أطيب تحيّة، وأشكر لكم تفضّلكم عليّ بهذا الحضور الكريم؛ كما أشكر للجمعيّة العراقيّـــة الكنديّة في أتاوا دعوتهـــا إيّاي، لأتحـدّث إليكم في هذه الأمسية الثقافيّة عن تجربتي الشعريّة. ولاريب في أنّ الحديث عن تجربة شعريّة جاوز عمرهــا نصف قرن أو أزيد ليس بالأمر الهيّن ولا السهل؛ لكنّي سأختصر القول فيها، وأحصره في ارتبـاطي بالـواقـع، والتزامي بـحاضره، ورؤيتي في تغييره.. وأعني بالواقع البيئة العراقيّة التي ولدت فيها سنة خمسين وتسعمائــة وألف للميـــلاد، ونشأت فيها حتى أدركت معنى الحريّة، فقاومت الترهيب والترغيب السلطويين اللذين أراداني، في السبعينيّــات من القرن الماضي، على أن أشارك الشعراء العبيد في جرّ عربات االسلطة المستبدّة، فأتخلّى بشعري عن كرامتي الإنسانيّة والوطنيّة وعن قيمتي الفنيّة. وحين " بلغ السكّين العظم"، كما يقال، اضطررت الى الهجــــرة القَسريّة من وطني إلى المغرب الأقصى في سنة تسع وسبعين وتســعمائــــــة وآلف للميلاد، وزاولت التعليم هناك مدّة عشرة أعوام، ثَمّ اضطررت إلى الهجرة القسريّة ثانية حتّى استقرّ بي المقام بينكم في كندا. ومن باكورة شعري في غربتي واغترابي بعض قولي في رسالة شعريّة جوابيّة لأبي وقتذاك:

"أبَتِ الحنونْ

لا. لن أعودْ

لا. لن أعود الى القيودْ

لا. لن أعود إلى اليبابْ

وإلى السرابْ

مزّقتُ تذكرة الإيابْ

لا لن أعود لغربة تُدعَى وطنْ

ولمُخبرٍ يُدعَى صديقْ

لا لن أعود الى الكفنْ

وإلى اللحودْ

لا. لن أعودْ.

لا. لن أعودْ.

قرَّرتُ كالرّيح العتيّةِ أَن أَثورْ،

لا كالنسيمْ.

قرَّرتُ كالأشواكِ أنْ أَبقَى عنيدْ.

لا كالأزاهر في الربيعْ.

ورضيتُ أنْ أَحيا شريدْ.

مثل الصّقورْ.

لا كالدواجنِ في القَفَصْ.

لا. لن أُباعَ وأُشترَى مثل العبيدْ

لا. ألْف لا.

لا يا أَبي!

لاتخشينَّ عَلَيَّ إنْ نضبتْ من النَّقدِ الجيوبْ.

لا لن أموتْ

من فرط إملاقٍ وجوعْ

الموت في ذلّ الشعوبْ

والموت في عمق السكوتْ

لكمْ اللّجــــامْ.

وليَ الكــلامْ.

لا. لن أَعودْ. "

ولئن كان الواقــع العـراقيّ يعاني من التخلّف السـيـاسيّ والإجتـمـــاعيّ والدينيّ وحتّى الإقتصاديّ، وكنت محتجّاً على تخلّفه كلّ الإحتجــاج؛ فإنّي، على الرغم من تخلّفه واحتجاجي عليه، لم أتنكَّر له البتة، بل بقيت مرتبطاً به داخل العـراق وخارجــه، وملتزماً بالعمــل الجادّ للنهوض بـه، مهما كلّفني ذلـك العمـل من ثمن؛ لأنّي لم أرَ غير الإرتباط به والإلتزام بحاضره من سبيل لتغيير مستقبله. وقد أعلنت هذه الرؤية في شعري تصريحاً وتلميحاً.

ومما يدلّ على ارتباطي بمصير العراق قولي:

"لو أسهو يوماً عن وطني. لو أنساهْ.

آهٍ وطني آهٍ آهْ!

لم تبقَ سوى الذكرى منك، ولم تبقَ سوى الآهْ!

آهٍ وطني آهٍ آه!"

أو قولي:

"أنا ابن المجد والشهــــداء فخــرا** ببذل النفس للبيض الرقاقِ

أأغضي الطرف عن وطن تدمّى** بطعن جـاهــليّ لانشـقــاقِ"

وممّا يدلّ على التزامي بحاضره لتغييره قولي:

"تعبتُ ولـــم يتعبْ بأَعمـاقــيَ الحبُّ** وشـبـتُ ولـــمْ يَبلـــغْ صباباتيَ الشيبُ

وأَشــغلَ جنحيَّ الزمــــانُ بغربــــــةٍ** ولم يَنشـغــــلْ عمَّن أُحـبُّ ليَ القلـــبُ

لئِنْ غيَّبتْني عن بــــلادي عصابــــةٌ** ففي كلِّ ليلٍ من حضوري بهـــا شُهبُ

بـــلاديْ بها جـذريْ ومائيْ وطينتي** وضوئيْ وإنّي من قطافٍ بهــــــا اللبُّ

إنْ ابتسـمـتْ بِشــراً، فإنِّي شـفاهُهــا** وإنْ دمِعـتْ حـزنـاً، فـإنِّي لـهــــــا هدبُ

يَسيــرُ معي النَّخــلُ الجميـــلُ وظلُّـه** ويَجثو معي النَّهرانِ والطّينُ والعشبُ

وللسعفـــةِ الجــــرداءِ منِّيَ خضــرةٌ** وللطائـــرِ الظمآنِ من أَدمعيْ شـــربُ

وما كان بُعديْ بُعدَ مَن نَسيَ الهـوَى** ولكنّـــه بُعــدٌ يزيـــــدُ بــــــه القُـــربُ

فَديــتُ بنفسي بلـــــدةً لـــمْ تُعــــزَّنيْ** ولــمْ يَتّســعْ فيهــا لعاشــقِهــــا الدَّربُ

أُريـــدُ بهـــا شــربـاً وأَكوابُــهـــا دمٌ** وأَبغيْ بهـــا أَمْنـاً وأَحـلامُهـــــا رعبُ

وأَنسَى لهــا ســمّاً وإنّــيْ صريعُـــه** وأَهوَى لها وصــــلاً وما بيننــا حربُ

صُلبتُ بهــا أَلْفــاً ومــازالَ في دمي** حنيــنٌ لعينيهـــا يَطيـبُ بــــه الصَّلبُ

حبيبـــةُ قلبــي لا حبيبـــةَ بَعــدَهــــا** فِدَى حَبّةٍ من رملِها الشَّـرقُ والغـربُ"

كما أنّني أعلنت في شعري قبولي بدفع الثمن الباهظ مقابل ذلك الإرتباط وذلك الإلتزام كقولي:

"تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَــك من دمي ** ودعني أمتْ وحدي على رمح آلامي

وخلِّ عــراقَ الحـزن يَبتـلَّ رملُــــه ** وتخضرَّ باليــــوم المذهَّب أحــــلامي

أنا المغــرم الهيمــان شـعبي حبيـبتي** وأنفاســـه لحني وعينــــاه إلهـــــامي"

أو قولي لصاحبي:

"تعـالَ، إذن، نفتـحْ شـبابيـــــكَ من دمٍ ** تُنـــــوِّر بيـتــاً فيـــــه يختبئ الغـيــبُ

إذا أنا لــم أُحــرَقْ ومثليَ صــاحبــي** فمن ذا يضئ الدربَ إنْ أظلم الدربُ؟

لقــد ملّني صبــري. أُريــــدُ جنـــازةً** لحبّيَ أو شـمسـاً يُغـنّي لهــا الشعـبُ"

أو قولي:

"إنّني أخرج من غمد السكوتْ.

إنّني أحمل قدّام الغيومْ.

لافتات المطرِ،

ومرايا الشجرِ.

فاقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياحْ.

واقفاً إنّي أموتْ. "

وسأترك الحديث عن الجانب الاقتصاديّ لأهله، وأقصر حديثي على ثالوث التخلّف العراقيّ أي السياسيّ والإجتماعيّ والدينيّ الذي تتناقض صوره فيما بينها حزبيّاً وعشائريّاً وطائفيّاً إلى درجة دمويّة بحيث يخرج بها الإنســـان من صفته الحضاريـّـــة التي تميِّــزه عن وحوش الغاب إلى صفته البدائيّـة الهمجيّــة. فالحاكم السياسيّ يقتل المعارض السياسيّ باسم الخيانة الوطنّية، والرجل العشائريّ يقتل المرأة المتمرّدة على قيوده باسم الشرف والأخلاق، والمؤمن الدينيّ يقتل أخاه المؤمن الدينيّ باسم الإيمان والدفاع عن المذهب. وقد انتقدت بشعري العقـل الجمعيّ لذلك العنف السلوكيّ في الصراع الداخليّ. ومنه هذه الأبيات:

"أعقاربٌ مسمومــــةٌ أم نــاسُ ** أم إنها الآثــام والأرجـــــــاسُ؟

لم يشربوا غير الدمـاء ولـم تقـمْ** إلا على جثثٍ لهـم أعــــــراسُ

متوحّشون فلاتغرّك بـسـمـــــةٌ ** إنسيّةٌ أو يخدعنْــك لبـــــــــاسُ

سُحقاٌ لقـوم كالذئــــاب وهالـــكٌ** من ليس بينهـمُ لــه أضــــراسُ

فكأنَّ سمَّ الموت وسط كلامهـمْ ** يجري وبين حروفــه الأرماسُ

إنّي لأكفرُ بالإخوَّة زهـرهـــــــا** نابٌ يعضُّ وعرقهـا دسـّــــاسُ

ألقَى بيَ الرحمن وسط بهائــــمٍ ** جرباءَ لا طابتْ لهـا أنفـــــاسُ

وقد ابتــلاني بالمصائـــب غدوةً** وأجلُّ كـلِّ مصائبي الإحسـاسُ

عشـرون ماتمّتْ فأذبلني الأسى**زهراً، وأوشك أنْ يشيب الراسُ"

غير أنّ هذه الصور المتناقضة مع بعضها إلى حدّ سفك الدمـــاء أحياناً؛ تتّفق كلّهــــا ضدّ التفكير العلميّ والوعي الوطنيّ. ولاتتورّع، حين تعجز عن مناقشة المفكّــر التنويري أوالمناضـــل الإجتمـــاعي، من أن تتّهمه بمختلف الإتهامات الجاهزة، ومن أن تجوّعه أو تشرّده أو تقتله دون أن تبـالي بأهميّة عقله النظريّ وفعله العمليّ في تطوير البـــلاد وتقدّمهــا. ومن تلميحي إلى المعاناة العامّــة للمثقفين التنويريين في العراق قولي:

"أدري وتدرين يابغــــداد كـــــم نغــمٍ**حلوٍ تلعثـــم بين البــوم والحجـــــــرِ

أدري وتدرين كـم قيثــــــارةٍ صُلبتْ** أوتارها السُمـر في هــمٍّ وفي كــــدرِ

أدري وتدرين كم شمسٍ وكم شهبٍ** مذبوحــة الضـوء قد راحت لمنحـــدرِ

هاتي المرايــــا أَرينا كيف أوجهنــا** أضحت صحارَى دمـوعٍ ذلـّةٍ خَـورِ؟

وكيــف ألقـتْ منــاراتٌ أشـــعّتهـــا** إلى الرماد، ودبّ الصمت في الشررِ؟

خلّي الحكايــة ســــكّينــاً تَجـزّ بنــا ** وزغــردي فغـداً لابــدّ مـن مطــــرِ"

ومن تلميحي إلى معاناتي الخاصّة قولي:

"أجرمتُ من فرط إِحساسي ومن فِكَري** وغـربـتـــي بين قــــــومٍ لــيـس كالبـــشـــــــــــــرِ

وتهمتي أَنّهـــــمْ نامُــــــوا وأَقلقَهـــــمْ **ضوئي، وأَزعجهمْ من أَجلِهم سهَـــري

وتهمتي أَنَّ كلَّ الأَرضِ قـــد لبِســـتْ ** صخراً، ومازال مُخضرَّاً لهم شجـري

وتهـمـتي أَنّني أَجــريــتُ مـن قــلقـي** نهـــــراً، لأُنقذَهــمْ من قبضةِ الحجـَــرِ

وتهمتي أَنّني أَدعـــــــو الريــــاحَ إلَى** رمـادِهـم، وأَصبُّ الزيـتَ في الشَّـــرر

إِذا يقولونَ:"مجنـونٌ" فقـد صــدقــــوا** فيما يقولونَ عن رعدي وعن مطري"

وأحسب أنّ سلطة الدولة في العراق هي أوّل المسؤولين عن كلّ ذلك التخلّف المتداخـل نــسيجـــه سياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً، لأنّ زمام التشريع والتنفيذ بيدهــا. ولو كانت سلطـــةً وطنيّــــــةً حقّاً؛ لأصلحت الواقع المتخلّف، وحسّنته لإسعاد الإنســـان العراقيّ؛ لكنّها سـلطة فساد واســتبــداد. . غايتها تناقض غاية الشعب فضلاً عن انّها تابعة للأجنبيّ على الرغــم من الاستقــلال الشكليّ. وعلى الشاعر العراقيّ في مثل هذه الحال أن يختار موقفاً من موقفين. إمّا أن يكون دميـــةً بيـد الحاكم الفاسد والمستبد، ويشاركه في فساده واستبداده ضدّ شعبه وسيادة وطنه، وإمّا أن يكون إنسـاناً وطنياًّ صادقاً يقــاوم ظالــم شعبه وخائن بلاده. ولكم كنت صريحاً باختيــــار الموقــف الإنسـانيّ والوطنيّ من خلال شعري المناهض للحكّام العراقيين، كقولي:

"بيننا والقادةِ (الغُرِّ) ســيــاجُ ** لهم النفط وللشعب العجــــاجُ

كلّهــم صاروا ديوكــــاً معنـا ** ومع الديك الحقيقيّ دجـــــاجُ

نرجـسيّـــون طفيليّـــون. لــــم** ينضجوا. حُمقٌ مخانيثُ سِماجُ

ليس تعنيهـم ضحايــــا وطـنٍ** ونزيفٌ له في الكون ارتجـاجُ

همّهم أنْ يقسمـــوا الحبّ ولا** يتبقّى بيـن قلبيــن امتــــــزاجُ

وادّعوا الدين ولا دينَ لهــــم**مالهم في جوهر الدين احتيـاجُ

كلّهـــم جانٍ فإنْ غـــاب فمي** فلشعبي لم يغب فيه احتجــاجُ

وطني عرشي وفخـري أنّــه** فوق رأسي أينما سافرت تاجُ"

أو قولي:

"أصـاروا الله متجــرةً بســــوقٍ** وخيرَ الأنبيـاء ذوي ارتـــزاقِ

لقد باعـوا العــراق، وهـانَ حتّى**لأخجـلُ أنْ أقــول أنـا عــراقي

رأيـت الشـــعــب مختلفـاً ولكـنْ** على كرهٍ لهــــم هو في وفـاقِ

لصــوصٌ إنَّ أنظفـهــــــم لقـذْرٌ** وأحلاهـــــــم لمـرٌّ كـالزُعــاقِ

ستكنسهــــم يــد التاريــخ حتماً ** ولايبقَى لهم في الأرض باقي"

أو قولي في أعوان الحكّام:

"يُحاربون يزيـدَ الأمس في خُطبٍ** وإنّهـــم ليزيـد اليــــوم خــدّامُ

إنّ الشعـوب إذا أخبتْ مشاعلهــا ** قامت عليها من الأشباح حكّامُ"

ولاشكَّ في أنّ من يختارالإنسانيّة والوطنيّة صادقاً في ظلّ هذا التخلّف الشامل، سيشعر بالإغتراب بين أهله في وطنه الذي لم يعد وطناً إلا بالاسم، بل صار قبراً يضمّ مواطنيه الأحرار بين أطباقه وهم مايزالون أحياء. ومهما تكن الغربة خارج الوطن، تكن أهون من الإغتـراب داخلـه. وقـد عبّرت عن هـذا الشعـور المريــر في أغلب قصائــدي. ومن شعوري أنّي في مقبرة لا في وطن قولي:

" تبّاًّ لحاليَ نسراً ليس يُنجدُني ** جنحي علَيّ من الأشراك أكوامُ

قد صرت أبحث عن طهري بمقبرة** لكثر ماحاط بالأحياء آثـامُ"

وكقولي:

"إنّي سـأرحــل عن أرضي وجنّتهــا**كرهاً، وأَبعدُ عن نخلي وأنهـاري

قد طال صبـري خفيضاً رهن مقبـرةٍ** فما انتظاريَ نسراً بين أحجـارِ"

ومن شعوري بالإغتراب بين قومي داخل الوطن قولي:

"وليت همّي كهمّ النـاسِ مأدبةٌ** وكنـزُ مالٍ وكرسيٌ وأربــــاحُ

يذوب بينهـــمُ قلبي وقد جـلدوا** كما يذوب بعمق الليل مصباح

أكاد أبكي عليهم كلّما ضحكوا** أكاد أضحك منهم كلّما ناحـوا"

وكقولي:

"أنا الظمأ المهمـوم ألهث حامـــلاً ** على ظهريَ المسبيِّ تابوتَ أحلامي

فـلا فـرسـي يعـدو فانقــذَ رايـــتـي** ولاحربتي تُردي ولاساعـــدي رامي

وهـا أنـا يـابغـــــــداد جئتــــك ميّتاً** قفي واخلطي الحنّاء بالمدمع الهـامي

هبيـني رصيفــاً تــستـكنّ حقائـبـي** عليه فقد ماتت من السيـــر أقــــدامي

فمـا مَنحتْـني غيــر حزنٍ مدينـتي ** وغيــر انكســـاراتٍ وذلٍّ وأوهــــــامِ

أنا القمح والنخـل العـــراقيّ أنحني** جفافاً وأهوي جانب الشاطئ الطامي

أنا القريـة الخضــراء قحطٌ أذلّــني** فأطفـأتُ فانـوسي وأخفيتُ إكــرامي"

وأحسب أنّ أساس كلّ هذا الخراب الذي ذكرت، بصوره السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة في العــراق، يكمن في وضع المرأة فيه، لأهميّة دورها في العطاء الإجتماعيّ. وبدلاً من أن تحتفي السلطة الذكوريّة في العراق بهذه الإنوثة الخلاّقة المعطاء، وتساعدها علي نيل حريّتها واستقلالها؛ نراها ترهقها بقــيود العبوديـّـة والتبعيـّـة وتستهين بكرامتها وقيمتها الإجتماعيّة. ولعمري لا أكاد أرى إستهانة في الحيــاة أقسى من الإستهانة بالإمومة التي هي رمز الخصب والتجديد في المجتمع. ولقد أعظمت معنى الإمومة بشعري وأشدتُ به. ومن قولي في ذلك المعنى:

"ياعالم السحـر ياجمـــــالاً** يصيح. حُسنٌ يَشدّ حُسنا

ياأنتِ معنى الوجـود لولا **كِ لــم يكن فيـه أيّ معنى

ثوري نحطّمْ معاً قيـــوداً **غاصت عميقاً بنا وسجنا"

أو قولي في مخاطبة الأمّ:

"من نفح روحكِ هذا الطيب في طيني** كالله أنت وقــد أحسـنتِ تكويــني

سبحان نوركِ. روحي بعض خمرتــــه** وبعض أكؤســه شــكلي وتزييني

إليّ صــدركِ يـا ظـــلاً ألـــــوذ بــــــه** حبّاً ليُنسيَني حقدَ الســـكاكيــــــنِ

هيّآ لنهـــرب من سجنٍ نمــوت بـــــــه** ذلاً، ونخلص من حكم السلاطينِ"

وما إسراف أكثر الرجال بظلم نسائهم إلا دليل على عجزهم عن مواجهة سلطة الأقوى، وعلى رضوخهم لحكمه وطغيانه. ومهما يكن من شيء، فإنّ وضع المرأة في العراق وخصوصاً المسلمة هو مخالف لحقوقها المدنيّة، ومخالف لحقوقها الشرعية أيضاً.

وكيف لايخالف وضعُها حقوقها المدنيّة وقد ميّزتها االسلطة الذكوريّة عن الرجل على أساس الجنس، ولم تقرّ المساواة بينهما في الحريّة الشخصيّة الكاملة التي أصبحت تخصّه هو وحده ولاتخصّها هي؟ولكم دعوتها في شعري للثورة على ذلك التمييز لكي تتحرّر من قيود العبوديّة والتبعيّة،. وممّا يدلّ على تثويري إيّاها في هذا الميدان قولي:

"ثوري على القيدِ في اللَّيلِ.

ثوري أُقبّـلْـكِ. ثوري أُعانقْـكِ. ثوري أَرينيْ

جماحَ الخيولِ بعينيكِ. لستُ أُحبُّـك تابعةً كالكلابْ.

ولستُ أُحبُّكِ عصفورةً مُفزَعهْ

تلوذُ بريشِ انحناءْ.

أُحبُّـكِ عُريانةً في المساءْ.

تَشعِّينَ كالنَّجمةِ النائيهْ.

أَأَنتِ الإلهْ؟

يُميتُ، ويَبعثْ

سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،

سأُعلنُ:إِنَّ الإلهَ مؤنّثْ.

وإنّكِ كلِّي.

وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ

أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟

كلانا هو الله وحدَه. ما مِن إلهٍ سواهْ"

وممايدلّ على إصراري على مساواتها قولي:

"ولتكوني شريكتي** بصعودٍ إلى الذرى

أنا طيـــر ولم أزل** فيك أرجو تحرّرا"

أو قولي:

وأَحبّيـــني عميـــقـــاً إفعــلي **تجدي ردّي لفعــــلٍ أعمقا

وليَقــلْ عنـــك وعنّي جاهـــلٌ** خالفا العرفَ وساءا خُلُقا"

وكيف لايخالف وضعها حقوقها الشرعيّة أيضاً، وقد اتهمتها السلطــة الذكوريـّـة بنقصان العقل والدين خلافاً لنصوص التنزيــل والحديـث التي ساوت بينها والرجـل عقليّاً ودينيّاً؟ولكـم أكّدت بشعري آنّ المرأة ليست جسدا منفصلاً لهدف بيولوجي وحسب، وانّما هي النصف البشــــــريّ والرجل هو النصف الآخر. والنصفان يلتقيان في وحدة الإنسان العقليّة والنفسيّة والجسديّة. ولقد عبّرت عن مثل هذا المعنى بقولي:

"أخرجيــني من جنــــانٍ أغلقتْ** كوّةَ الضــوءِ على كـــلّ فطيـــنِ

وإلى صـدري هلمّي شــجـــــراً** وإلى صـدرك عصفـــوراً خذيني

خـوّفــــوك الأهـــل منّي، وأنـــا ** منك باســم الدين أهلي خوّفــوني

فتعـالي نتعــــانـــــقْ قبــــلمـــــا** يتلاشى العمر في صمت المنونِ"

وبناءً على نقصانها العقليّ والدينيّ المزعومين ركّزت السلطة الذكوريّة على حجابها الشكلىّ الذي لــيس هو من الفرائض الشرعيّة بشئ. ولم تلتفت تلك السلطة كثيراً إلى حجابها الجوهريّ الكامن في علمها وفي عملهــــا المؤكّدين في التنزيل والحديث؛ وهي تظن (أي السلطة الذكورية) أنّها بذلك الحجاب الشكليّ تحمي المرأة من السوء. وكيفما يكن الحجاب الخارجي، فإنه لايقي نفس المرأة إذا أمرت بالسوء حتّى لو كان من حديد. إنّ الذي يقيها من السوء هو وعيها وعلمها وتربيتها. وقد أشرت في أبيات لي إلى هذا التناقض بين صورة الداخل الحقيقيّة وصورة الخارج غير الحقيقيّة بإزاء نقد الشكليّة في الحجاب؛ إذ قلت:

"أريني غير همّــك بالحجــــابِ** فما أهوَى القشور بلا لبـــابِ

أتخفيــن الهــوَى عبثــاً بثــوبٍ ** وهل يُخفَى حريقٌ بالثيـــابِ؟

وتُبدين الوقــارَ بخفـض صوتٍ** وفي عينيك زلزال الشــبـابِ

أتخشيــن الحســـاب وأيَّ شيء**جنيتِ لكي تُساقي للحســـابِ؟

فـلاتثــقي بمــا قــــالــــت رواةٌ** بهم من غابـةٍ طبـع الذئـــابِ

فمـا في الحبِّ تخريــــبٌ ولكن** رأيت بحقدنا كـلّ الخـــــرابِ

فكــم من زوجــــة زُفّت بعقـدٍ ** وكان زواجها شبـه اغتصابِ

أفكّـــر ضدّ مملكـتي وعـرشي** على حكم الذكورة بانقـــلابِ"

وأخيراً إنّني أنادي بحريّة المرأة العراقيّة، لسببين. الأؤل هو أنّها هي أسـاس البناء الإجتماعيّ في العـــراق الذي لايمكن أن يكون قويّاً صحيحاً مالم تتحرّر المرأة فيه من هيمنة ثالـوث سلطات التخلّف التي ذكرتها آنفاً. والآخـر هو آنّ حريّتي الشخصيّة لا يكتمـل معناهــا من دون معنى حريّتهـا هي.. كيف يمكن لي أن أكـون حرّاً في وطني وأمّي أو أختي أو بنتي أو حبيـبتي، مثلاً، تعيـش فيــه غيـر حرّة؟. كــيف؟إنّ حريتهنّ هي جزء لايتجزّأ من حريّتي الشخصيــّـة التي هي جوهـــر حيـاتي، ومعنى وجـــودي. وما كان لكائن بشريّ أن يكون إنساناً ذا قيمة من دون حريّته وحريّة الآخرين الذي يعـيشــون معه. هذا وشكراً لكم جميعاً.

***

عبدالإله الياسريّ

.........................

* هذه محاضرة. ألقيتها مساء الأحد المصادف 12 أيّار/ماي 2024م استجابةً لدعوة الجمعيّة الكنديّة العراقيّة في مدينة أوتاوا بكندا، واحتفاءً بمهرجانها الثقافيّ. وهي على الرابط الآتي:

https://www. com/Ottawaicso/videos/1343407859866021

لعل القراء الأعزاء يلاحظون معي أن غالبية الناس يتعجلون نسبة الحوادث والأسئلة إلى تفسير وحيد، مع أننا جميعاً ندرك أن كل قضية، صغيرة أو كبيرة، نتاج لسلسلة من التحولات والعوامل. وثمة - إضافة لهذا - من يميل أيضاً إلى ربط تلك الحوادث والظواهر بعوامل خفية، لا يمكن التحقق منها ولا لمسها والتحكم فيها.

هذا ميل إنساني عام. فالبشر بطبعهم ينفرون من الغموض والنهايات المفتوحة، ويريدون تفسيراً كي يتجاوزوا الحدث وأسئلته. وتدرّس هذه الظاهرة في علم النفس تحت عنوان «الإغلاق المعرفي» Cognitive closure وهو مصطلح صاغه عالم النفس الأميركي آري كروجلانسكي، لوصف موقف الإنسان الذي يواجه سؤالاً محيراً أو ظاهرة غير مفهومة، أو حتى موقفاً غير مقبول من جانب شخص آخر، فهو يريد أن يتخلص من الحيرة بإضافة وصمة أو عنوان يفسر هذا الحدث، كي ينتهي منه.

كل الناس إذن يكرهون الغموض ويريدون تفسيراً. لكن ما يلي هذه النقطة محل اختلاف كبير بين المجتمعات. فهناك من يتخذ السؤال أو الحدث المحير نقطة انطلاق للتعرف إلى موضوعه. وهناك من يتعجل بنسبة الحدث إلى قوى غيبية أو بعيدة عن متناول الإنسان، مادياً أو معرفياً.

خذ مثلاً سلوك المجتمع الأميركي، حين فوجئ بالهجوم على نيويورك عام 2001، فقد انصرف إلى القراءة حول الإسلام وحول الإرهاب. وذكر تقرير اطلعت عليه قبل سنوات أن عدد الكتب حول الإسلام والمسلمين، التي نشرت في الولايات المتحدة، خلال السنوات الثلاث التالية لذلك الحادث قد تجاوز 600، فضلاً عن مئات المقالات العلمية حول مختلف أوجه الحدث. هذا يعني أن المجتمع الأميركي يميل بقوة لفهم المشكلات التي تواجهه، فهماً علمياً. لا أريد القول إن كل أميركي يفعل هذا، لكنني أشير إلى وصف عام مقارن.

السلوك المقابل هو إغلاق السؤال بنسبته إلى قوى بعيدة عن متناول الإنسان. خذ مثلاً النقاشات التي دارت بعد السيول الغزيرة التي شهدتها الإمارات وعمان وأفغانستان وإيران في أبريل (نيسان) الماضي. فقد قطع بعضهم بأنها نتيجة الاستمطار الصناعي، وادعى آخرون أنها عقوبة للناس على ما ارتكبوه من آثام. وعلى النقيض من هذا، اعتبرها فريق ثالث تمهيداً للوعد النبوي بتحول الجزيرة العربية إلى مروج وأنهار.

هذا النوع من التفسيرات يصدر عن قناعة مسبقة، فحواها أن كل ما جرى وسيجري له تفسير مختزن في الثقافة الموروثة. ولهذا فكل الأجوبة تأتي على النسق المعتاد، وتنتهي بإقرار أن الأشخاص الذين واجهوا الحدث، لا يحتاجون للمزيد من البحث والتفكير في ما وراء ذلك التفسير الجاهز.

أود استعارة وصف «الثقافة المتصلبة» الذي أطلقه منقذ داغر على الميل الذي شرحته آنفاً، أي الاعتقاد بأن كل الإجابات مختزنة في الثقافة السائدة، وأن ما فيها يكفي لتفسير كل جديد.

حين يتأكد هذا الاعتقاد في نفسك، فلن تفكر في احتمالات أخرى ربما تختفي وراء الحدث أو الظاهرة التي شهدتها. ومن هنا فإن هذا الشيء الغريب لن يلعب دور المحفز لعقلك كي يفكر ويتأمل ما حوله. الواقع أن هذا ما حدث تكراراً في المجتمع العربي. فحين تعرفوا إلى الراديو، قرروا فوراً أنه «صندوق فيه جني». ويوم رأوا البوصلة، قرروا أنها عمل سحري.

بعبارة أخرى فإن التعجل بنسبة الحدث الجديد إلى قوى ماورائية، بل حتى نسبته إلى المؤامرة أو ما يسمى بالدولة العميقة، تلعب كلها دور الحاجب الذي يمنع عقل الإنسان من رؤية الإمكانات البحثية، التأملية أو التجريبية، التي ينطوي عليها ذلك الحدث أو السؤال.

أريد الخروج بنتيجة محددة، هي دعوة القراء الأعزاء إلى عدم التعجل بتفسير الأشياء الجديدة أو نسبتها إلى قوى بعيدة المنال. تحملوا قليلاً ودعوها سؤالاً مفتوحاً، فقد تجدون الجواب وقد لا تجدون، لكنكم بالتأكيد ستربحون ثمرة التفكير.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(سَيَكُونُ الاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ)... كُوَامِي نُكُروما

الاستعمار من الظواهر المؤثرة في تاريخ الشعوب، ويمكن القول ان تاريخ الاستعمار يلخص بالضرورة تاريخ الإنسانية في جانبها المأساوي المؤلم والمظلم، بداية من الكولونيالية و الإمبريالية ووصولا الى الاستعمار الجديد أو ما يسمى الاستعمار المعاصر،هذا الاخير أصبح يتميز بالتخفي و بالقدرة على اعادة انتاج نفسه والتحور تماما كالفيروسات القاتلة لكن بصورة تجعله أكثر فتكا وغير قابل للملاحظة لذلك سنحاول في مقالنا هذا النبش والحفر في ظاهرة الاستعمار الجديد و هي ظاهرة مركبة ومعقدة يتقاطع فيها ما هو تاريخي مع ما هو ثقافي واجتماعي انطلاقا من تساؤلات نراها ضرورية لممارسة فعل التفكيك

فماهي الدلالات التي يحملها مفهوم الاستعمار عبر محطاته التاريخية المختلفة؟ ما هو الثابت والمتغير في هذه الظاهرة؟ وإذا كان هناك اختلاف بين الاستعمار الحديث والمعاصر كيف نفهم هذا الاختلاف وماهي ملامح ونتائج هذا التحول؟ وهل يمكن القول اننا مازلنا اليوم نعيش تحت وضع استعماري؟ ثم ماهي ألياته وكيف السبيل الى التحرر منه؟

من التصور الكلاسيكي للاستعمار إلى المفهوم المعاصر

لاشك ان الاشتغال على المفاهيم يعد بحد ذاته مشكلة ففي كل الحالات هناك دائما عوائق وعقبات  تقف في وجه تحديد مفهوم محدد ودقيق للظواهر الانسانية ليس فقط لتشابك هذه الظواهر وانما ايضا لصعوبة تحقيق الموضوعية في الطرح لاسيما ان هناك دائما أحكام عاطفية تتأرجح بين الاستهجان والاستحسان وهذا ما ينطبق على ظاهرة الاستعمار واول هذه العقبات صعوبة التعريف والتصنيف و التفسير ومن ثمة سيكون الرهان على فهم هذه الظاهرة والتنبؤ بها صعب وسنلاحظ منذ البداية ان التحديد المعجمي لا يساعدنا على فهم حقيقة هذه الظاهرة سواء في اللغة العربية او اللغات الاجنبية لأنه يحمل تناقضا وينطوي على مغالطات ولو عدنا الى ابن فارس مثلا- في معجم مقاييس اللغة- نجد ان مفهوم الاستعمار يحمل من الدلالات التي تجعله يندرج في  دائرة الافعال المستحسنة :" ..عَمَرَ الناس الأرض عِمَارةً، وهم يعمُرونها، وهي عامِرةٌ معمُورةٌ، وقولهم عامرة محمول على عمرَت الأرض، والمعمورة من عَمرت، والاسم والمصدر: العُمران، واستعمر الله الناس في الأرض ليعمروها" هذا المفهوم في ظاهر دلالاته يحول الاستعمار الى فاعلية انسانية تروم تحقيق منافع وفق غايات اخلاقية غير ان الدلالة المعجمية تتناقض مع حقيقة الاستعمار كواقعة تاريخية فالاستعمار كان يستهدف دائما- ولايزال- إحلال الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية  وإلغاء هوية الاخر واستلابه والحجر عليه واستنزافه سواء من الناحية المادية أوالمعرفية وهذا ما اشار اليه رامون غروسفوغل في حوار له متحدثا عن الاستعمار الاوربي الحديث او ما يسمى الكولونيالية قائلا:"لقد سرقوا المعارف والعلوم من باقي الشعوب ثم أعادوا تدويرها و نسبوها لأنفسهم على أساس أن العلم كان شيئا خاصا بهم و بطبيعتهم كأوربيين، مع أن أوربا و حتى القرن الخامس عشر كانت قرية مظلمة مهمّشة من قبل باقي العالم، فعلم و تطور القارة جاء بفضل حضارات أخرى، جاء من حضارة الهنود في أمريكا و من الحضارة الصينية و الاسلامية و الهندية و الافريقية، و كل هاته المناطق كانت تعرف تطورا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و علميا ضخما، فيما كانت أوربا مهمشة و فقيرة مقارنة مع الاخر"

نفس المغالطة نلمسها في المصطلح اللاتيني colonus وهذه الكلمة تعني المزارع وهنا نقع في ما نسميه منطقيا سوء الدلالة بالألفاظ على المعاني  ذلك ان الأصل في مفهوم الكولونيالية ارتبط بفعل انتقال مواطنين من دولة الأمة المحتلة إلى الأرض الواقع عليها الاحتلال، واستعمل المصطلح غالبا لوصف أماكن مثل أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا والبرازيل والجزائر، حيث انتقلت أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين، وأنشأوا مستعمرات منفصلة عن أماكن معيشة السكان الأصليين وممارسة الهيمنة العسكرية والثقافية-  والحقيقة انه عبر مراحل تاريخية مختلفة حافظ الاستعمار على نزعته التسلطية اتجاه الاخر وتجلى كنوع من الهيمنة سواء هيمنة افراد او جماعات على اقليم او سلوك اشخاص وجماعات اخرى. او تغيير وضع ثقافي بالإكراه في مجتمع ما .وهذا ما أشار اليه أيضا  -هورفاث جيه رونالد- في مقال له عن الاستعمار الجديد حيث اشار الى ان الهيمنة التي يمارسها المستعمر تمت بطريقتين :اولا بين الجماعات وثانيا داخل الجماعة ذاتها ففي بريطانيا سابقا والى الان نلاحظ هيمنة الانجليز على الويلزيين والإسكوتلنديين والايرلنديين وداخل المجتمع البريطاني نجد تراتبية من حيث السلطة والمال والمكانة وفي نظره ان العلاقة بين الْمُسْتَعْمِرُ وَالْمُسْتَعْمَرِ تأخذ ثلاثة اشكال فهي إما عــلاقة ابادة ومثال ذلك  الاحتلال الاوربي لجزر الكاريبي او ما حدث في امريكا وأستراليا او ما يحدث اليوم في غزة  وإما تداخل اجتماعي كما وقع في امريكا اللاتينية او التوازن النسبي كما حصل في مصر مثلا.

وفي كل شكل من الاشكال الثلاثة عمل الاستعمار على تغيير فلسفته ومن ثمة ادواته مرتكزا على تفوقه العسكري وقدرته على القمع وعلى تفوقه المعرفي مستفيدا من بحوث فلسفة التنوير والاستشراق من هنا اشار إدوارد سعيد الى أن الخطاب الاستشرافي ليس خطابًا علميًّا بل نتاج للقوى الإمبريالية الغربية فالاستعمار بحسب ادوارد سعيد كان بحاجة الى اقامة حاجز كبير بين الشرق الذي وصف بالتقليدي والرجعي البدائي الخال من العقل والغرب الحداثي العقلاني التنويري كي يتمكن من الهيمنة والنفوذ على البلدان التي يستعمرها.

وفي نفس السياق تحدث احمد رهدار عن الاستعمار الجديد من حيث انه نوع يكون فيه القادة من نفس البلد المستعمر حيث يلاحظ ان القادة المحليين يتمتعون بحماية خاصة واضحة ومباشرة هذه الحماية يتمتع به ايضا بعض من النخبة المثقفة حيث يعمل المستعمر على تحقيق اهدافهم في الحصول على مناصب سياسية وعزل منافسيهم مقابل الدفاع عن مصلحة المستعمر وفي مرحلة لاحقة يكون المستعمرون واتباعهم المحليين متخفيين وغير ظاهرين للعيان.

آليات الاستعمار المعاصر

قوة الاستعمار المعاصر تتجلي في تحكمه في الحقول البرمجية من خلال سلطة العلم او ما يسمى التحكم في الثقافة ومثال ذلك ISI وهو مُصطلح مُختصر لجملة ISTITUTE FOR SCIENTIFIC INFO، بمعنى (معهد المعلومات العلمية) والذي يقع مقره بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ويُعَدُّ تصنيف ISI أشهر التصنيفات للمجلات الدولية المحكمة، ووضع إطار ذلك التصنيف العالم "يوجين جارفيلد"، أحد مؤسسي المعهد في بداية ستينيات القرن الماضي. وفي فترة التسعينيات قامت مؤسسة "ثومسون رويترز" بالاستحواذ على المعهد، وأصبحت هي المتعهدة بذلك التصنيف، وفي ظل ظهور شبكة الإنترنت ظهرت مواقع متنوعة خاصة بتصنيف ISI، وتُعرف باسم INERNATIONAL SCIENTIFIC INDEXING"، وتتضمَّن قواعد بيانات ISI عددًا كبيرًا من المجلات التي تتضمَّن مادتها ملخصات بحوث وتقارير وأوراق علمية، وتُقاس قيمة هذه المجلات وفقًا لمعامل التأثير IMPPACT FACTOR.مما ادى الى ما يسمى وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرسة ISI وبالتالي تحولت الجامعات -وهذا ما نلاحظه في الجزائر مثلا- الى مراكز للفهرسة ونشر المعلومات وبدل الاهتمام بالمضمون اصبح الاهتمام بالشكل حيث افرغ البحث العلمي من محتواه القيمي وقدرته على التأثير في الواقع وقد سجل احد الباحثين ان ربط مسالة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة في ISIليس بالأمر الجيد وربما يتعارض والروح العلمية هذه الالزمات عادة ما تتخذ بناء على خلفيات سياسية حيث ان اجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو امر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس.

وهكذا الاستعمار المعاصر أصبح يمارس سلطته عبر التحكم الثقافي وهذه مسألة يجب الانتباه الى خطورتها فلا يمكن ان نتصور تاريخا حقيقيا للتحرر بلا ثقافة والشعب الذي فقد ثقافته فقد ولا شك تاريخه كما كان يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي لاسيما إذا فقدت الثقافة المبادئ التي يجب ات تقوم عليها كالمبدأ الاخلاقي الذي يحدد الدوافع والغايات والبعد الجمالي الذي يشكل الصياغة والمنطق العملي الذي يحول الفكرة الى انتاج يستفاد منه اجتماعيا والعلم الذي يزودنا بالوسائل لتحقيق هذه الغايات.

والواقع ان محاولة فرض نمط ثقافي واحد ممثلا في الثقافة الغربية قوبل بالرفض حتى داخل الجامعات الاوربية فقد عبرت منظمات طلابية في بريطانيا عن نبذها لتاريخ البلاد الاستعماري لكن الغريب في الامر ان جامعة مثل جامعة "أوكسفورد" رفضت دعوات اتحاد طلبتها بإزالة تمثال سيسيل رودس (1853-1902) من كلية أوريل، أحد أبرز الشخصيات الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا، مؤسس De Beers الشركة التي تملك أكبر مناجم الألماس، والتي كانت حتى وقت قريب مسيطرة على 90% من سوق الألماس في العالم. وبدلاً من أن يرتبط اسمه بالضحايا الذين قضوا في مناجمه أو جرائم الاستعمار، يرتبط اسمه بمنحة دراسية رفيعة تقدّمها أكسفورد التي درس فيها. وذات ملاحظة نسوقها ونحن نرى اعتصامات الطلبة في الجامعات الامريكية وبدل من معاقبة الجاني يتم توجيه اللوم الى الضحية في مفارقة حزينة.

ويمكن القول أيضا ان الاستعمار المعاصر هو بالأساس استعمار لغوي واللغة ليست مجرد رموز للاتصال والتواصل او اداة للتخاطب والتعبير عن المشاعر والافكار اللغة في جوهرها أكثر من ذلك انها تشكل روح الامة والإطار الذي تشكلت فيه ثقافتها ولذلك قيل انت تتكلم لغتي انت تنتمي الى مجموعتي واهمية اللغة تتجلى في كونها تشكل جهاز الادراك عند الفرد فهي تحدد له  زاوية النظر الى العالم الداخلي والخارجي وحياة او موت الامة متوقف على حياة او موت لغتها الام  من هنا اشتغل الاستعمار الكلاسيكي و المعاصر على هذه المسالة ووظفها لصالحه من خلال فرض لغته يقول فيليبسون صاحب كتاب الهيمنة اللغوية : “هناك نظام لاختيار اللغات في كل دولة، وليس بالضرورة أن تشمل الخيارات الإنجليزية أو أن تكون الإنجليزية الخيار الأول في كل مكان! في تنزانيا مثلا تتصدر الإنجليزية المشهد ويتلوها السواحيلية ثم عدد من اللغات المحلية، وانطلاقاً من هذا الوضع فإن عددا ًمن اللغات في نيجيريا وتنزانيا ستنقرض مع مرور الوقت، وتلك مأساة، لأن معرفة أن الثقافات مندمجة في اللغات سيعني أن عددا ًمن الثقافات ستخرج وتنتهي من التعدد الثقافي في ذلك البلد، وربما من العالم… والسبب الرئيس في هذا هو الفشل في التخطيط اللغوي خاصة على مستوى التعليم”.حيث خلص البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه “الإمبريالية اللغوية” إلى أن تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدوات لغوية. ويضيف البروفيسور البريطاني: أن الرئيس السنغافوري لي كوان يو قد ندم كثيراً على اهتمامه المبالغ بفرض الإنجليزية مقابل التقليل من شأن المحليات وأهمها اللغة الصينية ذات الثقل الكبير اقتصادياً.

وتذكر احصاءات انه بإنجلترا وبسبب السياسات الاستعمارية اللغوية ذهبت لغة الأيرلنديين والأسكتلنديين أدراج الرياح ولم يبقى منها إلا النزر اليسير (أقل من 2%) يتحدثها وأقل من ذلك من يكتب أو يقرأ بها. لقد استعادت إيرلندا استقلالها، لكنها لم تستطع استعادة لغتها!

ومن المفارقات ان الدول التي لها تاريخ استعماري تدرك خطورة الهيمنة الثقافية كفرنسا مثلا التي تعمل على فرض لغتها في العديد من المستعمرات السابقة لكن في نفس الوقت تضع القوانين التي تحمي لغتها مثل قانون رقم 94-665 في 4 أغسطس 1994 المتعلق باستخدام اللغة الفرنسية ويعرف باسم (قانون توبون (‏، نسبة إلى وزير الثقافة جاك توبون، يرتكز على ثلاثة أهداف رئيسية هي: إثراء اللغة؛ والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية ؛ والدفاع عن الفرنسية كاللغة الرسمية للجمهورية كما تهدف لضمان أسبقية استعمال المصطلحات الفرنسية التقليدية، لضمان السيادة الفرنسية في فرنسا. واستجابة لتزايد استخدام اللغة الإنجليزية في فرنسا، ولا سيما في الإعلانات التجارية، حيث يلزم قانون توبون جميع الإعلانات والملصقات الترويجية أن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية. والمجالات التي يسرى عليها الحظر هي:

- كافة الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية.

- كافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وبوجه خاص المحلات التجارية، والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون. وعقوبة المخالفة تتضمن السجن أو غرامة مالية. وقد اثار مقطع فيديو لحفيدة الرئيس الأميركي السابق  دونالد ترمب وهي تغني وتنشد باللغة الصينية ضجة كبيرة كما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية مقطعاً آخر لابنة الملياردير الأميركي جيم روجرز وهي تردد بطلاقة أغنية صينية. وكان المستثمر الأميركي قد أشار في تصريحات صحفية إلى أنه عادة ما يشدد في محاضراته على ضرورة تعليم الأطفال الصينية باعتبارها لغة القرن الجديد. وقال إن القرن التاسع عشر كان قرن بريطانيا، والقرن العشرين قرن أميركا، وتوقع أن يكون القرن الواحد والعشرين قرن الصين.

من اليات عمل الاستعمار الجديد التحكم في الخارطة السياسية لدول العالم الثالث

عموما والدول العربية على وجه الخصوص والعمل على لجم الثورات العربية التي عجزت عن تحقيق اهدافها وقد استنتج حكيم بن حمودة في مقالٍ له نُشر في شباط/فيفري 2011:" انّ اليقظة العربيّة الثانية- وكان يقصد الربيع العربي - لن تُترجم بعمليّة دمقرطة، بل بتغيير في قمم (رؤوس) الطبقة الحاكمة، وفي بعض الحالات، بتغيير الأنظمة. عمومًا، مع ذلك، هم لن يتغيّروا. المصالح الداخليّة والخارجيّة التي تحميهم قويّة جدًّا. وفق هذا التفسير، فإنّه من المرجّح أنّ قدر «الربيع العربيّ» هو أن يصبح، بسرعة، خريفً قاسيًا، دون المرور بصيف أو خريف. الإصلاحات التي ستجرى لن تكون إلّا شكليّة، سيتمّ إرساء ديموقراطيّات معادية لليبراليّة شبيهة بسابقاتها. ويرى بعض المعلّقين الأكثر تشاؤمًا، أنّها يمكن أن تكون الجديدة أسوأ ".

وجدير بالملاحظة ان الاستعمار الجديد يتغذى على  نشر نظام التفاهة وتغليب الكم على الكيف وتغييب النظرة النقدية وقد اشرنا الى ذلك في مقال سابق عن اغتيال الفلسفة والتأسيس لنظام التفاهة نضيف هنا فقط قول مالك بن نبي وهو يتحدث عن القابلية للاستعمار :" هذا الوجه المتخلف الكئيب مازال حيا ...نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن صاحب المليارات نصف المتعلم الذي انطبع في الظاهر بجميع اشكال الحياة الحديثة فاكسبه مليار ابيه وشهادة البكالوريا مظهر الانسان العصري بينما تحمل اخلاقه وميوله وافكاره صورة انسان ما بعد الموحدين" كما يمكن العودة الى احدى نصوص ابن خلدون وهو يحلل ظاهرة تقليد المغلوب للغالب في كتابه المقدمة يقول :" والسبب في ذلك ان النفس ابدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت اليه،اما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه،أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي،انما هو لكمال الغالب،فاذا غالطت واتصل لها حصل اعتقادا،فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به،وذلك هو الاقتداء.....ولذلك ترى المغلوب يتشبه ابدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه ..بل وفي سائر احواله،وانظر ذلك في الابناء مع ابائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك الا لاعتقادهم ان الكمال فيهم .وانظر الى كل قطر من الاقطار كيف يغلب عليه زي الحامية وجند السلطان في الاكثر،لانهم هم الغالبون لهم،حتى اذا كانت امة تجاور اخرى ولها الغلب عليها فيسري اليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير،كما هو في الاندلس لهذا العهد من امم السلاجقة،فانك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم واحوالهم،حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء .والامر لله.

وكتخريج عام نقول إنه في كل المحطات التاريخية اقترن مفهوم الاستعمار بالهيمنة والتعالي والسيطرة على الاخر والتعامل معه وفق ثنائية السيد والعبد وثنائية الشرق المستبد والغرب الحداثي الديمقراطي او ثنائية الجنوب المتخلف والشمال المتقدم بل ان الاستعمار الغربي لايزال يواصل حربه القذرة بأسلحة اخرى ولكنها أكثر فتكا. ويمكن القول اننا لا زلنا نعيش حالة من الاستعمار والإستدمار وانه لا سبيل للتحرر الا من خلال تحرير الانسان المستعبد ونشر قيم التسامح اتجاه الاخر والتواصل معه والاعلاء من شان التفكير النقدي والاحتكام الى منطق العقل لا العاطفة وهذه مهمة المثقف الثوري فإما فلسفة جديدة للحياة او الكارثة والاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ، اَلَّذِي يُعَانِي مِنْ سُوءِ التَّغْذِيَةِ، المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، المُغَطَّى بِالدَّمِ، اذا ما احسن اختيار الطريق الذي يسلكه هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ"

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة - الجزائر

................

هوامش

01-   كُوَامِي نُكُروما: فَيْلَسوفٌ وَرَجُلٌ سياسيٌّ وَقائِدٌ وَطَنيٌّ ثَوْريٌّ غاني 1909 – 1972

02-   رامون غروسفوغل باحث بورتوريكي متخصص في السوسيولوجيا. يشغل منصب أستاذ بجامعة بركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، مهتم بسؤال الكلونيالية والسلطة.

يعد التعليم العالي حجر الزاوية في اي مجتمع متقدم، وقياس نجاحه يشير إلى مدى تقدم هذا المجتمع وازدهاره. لكن، ما هي حقيقة التعليم العالي في جامعاتنا اليوم؟ هل هي فعلاً ورش عمل لبناء جيل المستقبل، ام انها ساحات تعج بالمشكلات والتحديات؟ هذه بعض الاراء ابداها لي شخصيا عدد من القيادات الاكاديمية والتربوية العراقية عن المشاكل والتحديات التي تواجه التعليم العالي حاليا، قمت باختصارها واعادة صياغتها، وعرضها حسب تواترها. واعتذر لوجود تكرار او تشابه بين بعض الاراء.

استهلال

أحد الأساتذة الموقّرين أجابني في بداية حديثه عن جوانب الضعف في التعليم العالي ومشاكله بقصة شبّه فيها تلك المشاكل بحكاية ذلك العراقي الذي شرب الخمر حتى الثمالة، فقرر في تلك اللحظة كتابة رسالة للرئيس يشرح فيها حالته. وعندما جلس صباحاً واستيقظ من سكره، قرأ الرسالة وانهار بالبكاء. سألوه: لماذا تبكي؟ فقال: كل هذه المشاكل عندي ولم أكن أعلم بها؟

عرض المشاكل:

1. التضخم في أعداد الطلاب:

ازدحام هائل في الجامعات، يفوق قدرتها الاستيعابية.

توسع غير مبرر في القبول بالدراسات العليا.

2. ضعف التوجه للتعليم المهني والتقني:

عزوف عن الدراسة في المعاهد التكنولوجية والتطبيقية.

تهافت على الكليات النظرية، خاصة الأهلية.

3. أوجه قصور في بحوث الدراسات العليا:

ضعف جودة البحوث، خاصة في التخصصات التطبيقية.

قلة فرص التمويل.

شبهات حول نزاهة بعض البحوث.

4. غياب التنسيق بين الجامعات واحتياجات السوق:

عدم وجود خطط لربط مخرجات التعليم العالي باحتياجات سوق العمل.

ضعف التواصل بين الجامعات والمؤسسات والشركات.

5. منح درجات الامتياز دون استحقاق:

منح درجات علمية عليا دون تقييم موضوعي.

ضغوطات على لجان المناقشة.

6. تراجع الموضوعية العلمية في المناقشات الأكاديمية:

حضور غير أكاديمي في مناقشات رسائل الدراسات العليا.

ضغوطات سياسية أو اجتماعية على لجان المناقشة.

7. ضعف انضباط أعضاء هيئة التدريس:

تأخر عن الدوام.

قلة التواصل بين أعضاء هيئة التدريس.

ضعف التزامهم بالتطوير المهني.

8. نقص التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس:

عزوف عن تطوير المهارات العلمية والتربوية.

قلة فرص التدريب والتطوير.

9. مناهج دراسية قديمة وتركيز على التلقين:

مناهج دراسية غير محدثة.

تركيز على التلقين وحفظ المعلومات.

قلة فرص التقييم المستمر.

10. صراعات بين أعضاء هيئة التدريس:

تنافسية غير صحية بين اعضاء هيئة التدريس.

محاربة المتميزين.

11. غض الطرف عن سلبيات بعض أعضاء هيئة التدريس:

عدم محاسبة أعضاء هيئة التدريس على تقصيرهم.

غض الطرف عن سلوكياتهم السلبية.

12. المحسوبية في التقييمات:

عدم تقييم أعضاء هيئة التدريس ورؤساء الأقسام والعمداء بشكل موضوعي.

المحسوبية والمنسوبية في التقييمات.

13. غياب التخطيط الاستراتيجي:

عدم وجود خطط واضحة لتطوير التعليم العالي.

ضعف التنسيق بين مختلف أطراف العملية التعليمية.

14. سوء إدارة الموارد المالية:

عدم وجود خطة لتوظيف الموارد المالية بشكل فعال.

هدر للموارد في بنود غير ضرورية.

15. ضعف الولاء والانتماء للمؤسسة:

شعور أعضاء هيئة التدريس بالإحباط وعدم الانتماء للجامعة.

غياب الرؤية المشتركة للمستقبل.

16. غياب التنسيق بين وزارتي التعليم العالي والتربية:

عدم وجود خطة تعليمية تكاملية بين الوزارتين.

فجوة بين المناهج الدراسية في المراحل المختلفة.

17. سوء اختيار القيادات الأكاديمية:

الاعتماد على المحاصصة الحزبية أو الطائفية في اختيار القيادات.

غياب معايير الكفاءة في التعيينات.

18. انتشار التملق والمداهنة:

غياب الشفافية والنزاهة في العمل.

سيطرة بعض الشخصيات المتنفذة على القرارات.

19. ضعف الإدارة الأكاديمية:

قلة الخبرة والكفاءة لدى بعض القيادات الإدارية.

انتشار البيروقراطية.

20. هوس التصنيفات العالمية:

تركيز مبالغ فيه على تحسين ترتيب الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية دون التركيز على الجودة الحقيقية للتعليم.

اتباع ممارسات غير أخلاقية لتحسين التصنيفات.

21. كثرة الشهادات الممنوحة من جامعات ضعيفة او غير معترف بها:

سهولة الحصول على شهادات عليا من جامعات غير رصينة خارج العراق.

معادلة هذه الشهادات مع الشهادات الصادرة من الجامعات العراقية.

22. تولي الخريجين الجدد لمناصب إدارية دون خبرة:

تعيين خريجين جدد في مناصب إدارية دون خبرة أو كفاءة.

إهمال الكفاءات العلمية المتمرسة.

23. التركيز على الجوانب النظرية وإهمال التطبيق:

تركيز المناهج الدراسية على الجوانب النظرية دون التركيز على التطبيق العملي.

نقص في الوسائل التعليمية الحديثة.

24. ضعف البنية التحتية للجامعات:

نقص في المباني والمرافق الجامعية.

قلة فرص حصول الطلاب على خدمات تعليمية مناسبة.

ضعف التمويل لصيانة البنية التحتية.

25. محدودية الموارد المالية:

قلة الموارد المالية المخصصة للتعليم العالي.

عدم كفاية التمويل للبحث العلمي.

26. نقص الاستقلالية للجامعات:

تدخلات حكومية في شؤون الجامعات.

قلة حرية الجامعات في اتخاذ القرارات.

27. تقادم النظام التعليمي:

عدم تحديث المناهج الدراسية والبرامج التعليمية.

غياب التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس.

28. الفساد والتدخلات السياسية:

انتشار الفساد في الجامعات.

استخدام المناصب الأكاديمية لتحقيق مكاسب شخصية.

تدخلات سياسية في شؤون التعيينات والترقيات.

29. انعدام الاستقرار الأمني:

الأوضاع الأمنية غير المستقرة في العراق.

تكليف التدريسيين بمهام امنية.

30. محدودية التعاون الدولي:

ضعف التواصل بين الجامعات العراقية والجامعات العالمية.

قلة فرص تبادل الخبرات والبحوث.

31. نقص النزاهة في بعض جوانب التعاون الدولي:

انتشار ظاهرة شراء الشهادات والاستشهادات العلمية من مؤسسات أجنبية مشبوهة.

التعاون العلمي المزيف المبني على شراء البحوث المشتركة.

32. تقادم التشريعات والقوانين:

عدم تحديث القوانين والتشريعات المنظمة للتعليم العالي.

قلة المرونة في التعامل مع التطورات المتسارعة.

33. فقدان الثقة في الجامعات:

شعور الطلاب والمجتمع بفقدان الثقة بالجامعات كمؤسسات أكاديمية نزيهة.

34. تزييف البحث العلمي:

انتشار ظاهرة سرقة البحوث العلمية.

تزوير البيانات والنتائج.

35. ضياع التقاليد والأعراف الجامعية:

تراجع احترام المعلم والأستاذ الجامعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير.

ضعف الوعي بأخلاقيات البحث العلمي.

36. هيمنة أصحاب الجامعات الأهلية:

تزايد نفوذ أصحاب الجامعات الأهلية على القرارات الإدارية في الجامعات والكليات.

تهميش دور أعضاء هيئة التدريس.

37. منح النجاح دون استحقاق:

منح درجات النجاح للطلاب دون تقييم موضوعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير والمحسوبية.

38. إهدار ثروة الكفاءات العلمية المتقاعدة:

عدم الاستفادة من خبرات الكفاءات العلمية المتقاعدة.

إقصاءهم عن المشاركة في العملية التعليمية.

39. تخبط القرارات الوزارية:

عدم وضوح الرؤية في القرارات الوزارية المتعلقة بالتعليم العالي.

تردد الجامعات في اتخاذ القرارات.

40. هوس النشر العلمي وعرض الإنجازات الوهمية:

تركيز بعض أعضاء هيئة التدريس على نشر أوراق علمية في مجلات غير رصينة.

عرض إنجازات وهمية لتحسين الصورة الشخصية.

41. نقص الدعم المالي لبحوث الدراسات العليا:

عدم حصول الباحثين على تمويل لبحوثهم.

ضعف البنية التحتية للبحث العلمي.

42. عيوب قانون الترقيات العلمية:

وجود ثغرات في قانون الترقيات العلمية تفتح المجال للظلم والمحسوبية.

تركيز معايير الترقية على النشر يهمش جوانب أخرى مهمة من العمل الأكاديمي.

43. إشغال أعضاء هيئة التدريس بأمور غير أكاديمية:

تكليف أعضاء هيئة التدريس بمهام إدارية غير مرتبطة باختصاصاتهم.

عدم توفير الوقت الكافي للبحث العلمي والتدريس.

44. افتقاد فلسفة تعليمية تربوية:

غياب الرؤية الواضحة للتعليم العالي في العراق.

عدم وجود خطة استراتيجية لتطوير التعليم.

45. تراجع مكانة الأستاذ الجامعي:

فقدان احترام الأستاذ الجامعي.

ضعف المشاركة الاجتماعية.

46. القبول الواسع غير المدروس في الجامعات:

قبول أعداد كبيرة من الطلاب في الجامعات دون تقييم قدراتهم وإمكانياتهم.

عدم وجود خطط لتنظيم عملية القبول.

47. تحول الجامعات إلى مدارس ثانوية:

ضعف الأنشطة الطلابية والرياضية والثقافية في الجامعات.

غياب دور الجامعات في تنمية مهارات الطلاب الشخصية.

48. ضعف الإبداع والابتكار:

تركيز المناهج الدراسية على التلقين وحفظ المعلومات دون التركيز على تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع.

ضعف بيئة البحث العلمي في الجامعات.

49. هجرة الكفاءات العلمية:

شعور الكفاءات العلمية بالإحباط وعدم وجود فرص مناسبة في العراق.

ضعف مكانتهم الاجتماعية.

50. ضعف استخدام التكنولوجيا في التعليم:

نقص في استخدام التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية.

عدم توفير البنية التحتية اللازمة لاستخدام التكنولوجيا.

51. ضعف التعاون بين الجامعات والمجتمع:

قلة التعاون بين الجامعات والمجتمع المحلي.

عدم وجود خطة للتواصل بين الجامعات والمؤسسات المختلفة.

52. غياب الرؤية المستقبلية للتعليم العالي:

عدم وجود خطة استراتيجية واضحة لتطوير التعليم العالي في العراق.

عدم وجود رؤية واضحة لمستقبل التعليم العالي في العراق.

خاتمة:

يواجه التعليم العالي في العراق العديد من المشكلات والتحديات التي تتطلب حلولاً جادة وفعالة. ويعتبر معالجة هذه المشكلات مسؤولية وطنية تقع على عاتق الجميع. فمن خلال العمل معا، يمكننا ضمان حصول الأجيال القادمة على تعليم جامعي عالي الجودة يساهم في بناء مستقبل أفضل للبلاد.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

كان لودفيج فان بيتهوفن ونابليون بونابرت من الشخصيات المؤثرة التي شكلت مسار التاريخ في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. على الرغم من أن حياتهما لم تتقاطع بشكل مباشر، إلا أن بيتهوفن ونابليون كانا معاصرين تربطهما علاقة معقدة اتسمت بالإعجاب وخيبة الأمل وفي النهاية الخيانة.

ولد بيتهوفن في بون بألمانيا عام 1770، قبل سنوات قليلة من ميلاد نابليون الذي ولد في جزيرة كورسيكا عام 1769. جاء كلا الرجلين من بدايات متواضعة وأظهرا علامات مبكرة على الموهبة في مجال تخصصهما. كان بيتهوفن معجزة موسيقية وسرعان ما صعد إلى الشهرة كملحن وعازف بيانو، بينما أظهر نابليون براعة عسكرية استثنائية ومهارات قيادية قادته في النهاية إلى أن يصبح إمبراطور فرنسا.

في السنوات الأولى من حياته المهنية، كان بيتهوفن من أشد المعجبين بنابليون واعتبره بطلا للحرية والمساواة. حتى أن بيتهوفن أهدى سيمفونيته الثالثة، المعروفة أيضا باسم "إيرويكا"، لنابليون، الذي كان يعتقد أنه يجسد مُثُل الثورة الفرنسية. كان اسم السيمفونية في البداية "بونابرت"، لكن بيتهوفن غيرها لاحقا إلى "إيرويكا" بعد أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورا، الأمر الذي خيب أمل بيتهوفن بشدة وأثار غضبه.

من ناحية أخرى، كان نابليون يدرك جيدا إعجاب بيتهوفن به وقدّر التكريم الذي حظي به في موسيقى الملحن. اعترف نابليون بموهبة بيتهوفن ودعاه إلى الأداء في بلاطه، وهو ما رفضه بيتهوفن من حيث المبدأ. وعلى الرغم من ذلك، استمر نابليون في دعم موسيقى بيتهوفن، بل ومنحه معاشا تقاعديا لضمان استقراره المالي.

ومع ذلك، فإن سياسات نابليون القمعية والفتوحات العسكرية أفسدت في النهاية رأي بيتهوفن فيه. أصيب بيتهوفن بخيبة أمل بسبب طموحات نابليون المتعطشة للسلطة وتجاهله للمثل الديمقراطية التي دافع عنها ذات يوم. ردا على ذلك، قام بيتهوفن بتأليف أوبراه الوحيدة "فيديليو"، والتي عكست إيمانه بانتصار الحب والعدالة والحرية على الاستبداد والقمع.

ومع انتهاء عهد نابليون بهزيمته في معركة واترلو عام 1815، أصبحت مشاعر بيتهوفن تجاهه واضحة. في سيمفونيته التاسعة، أدرج بيتهوفن "نشيد الفرح" لفريدريك شيلر كخاتمة، والتي احتفلت بالأخوة العالمية للإنسانية وانتصار الروح الإنسانية. كانت هذه السيمفونية بمثابة شهادة على إيمان بيتهوفن الدائم بقدرة الموسيقى على نقل المشاعر العميقة وإلهام التغيير الإيجابي في المجتمع.

وفي الختام، كان بيتهوفن ونابليون يمثلان قوتين متناقضتين في أوائل القرن التاسع عشر ــ قوة الموسيقى في الارتقاء والإلهام، وقوة القوة العسكرية في الهيمنة والسيطرة. وبينما اتسمت علاقتهما بلحظات من الإعجاب وخيبة الأمل، إلا أن إرثهما لا يزال يتردد صداه حتى اليوم. لقد صمدت موسيقى بيتهوفن أمام اختبار الزمن وتبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة، في حين أن تراث نابليون هو إرث الغزو والقوة، مشوب بطعم الخيانة المرير. في نهاية المطاف، يعمل بيتهوفن ونابليون بمثابة تذكير لتعقيد الطبيعة البشرية والصراع الدائم بين المُثُل والواقع.

فهل نعي دروس الحياة؟

***

محمد عبد الكريم يوسف

المملكة المغربية، الأرض الضاربة في عمق التاريخ الغني والفسيفساء الثقافي النابض بالحياة، تتنقل بدورها كباقي دول المعمور العريقة في هذا المشهد الرقمي الراهن والمتشابك حيث تلوح الإنترنت والذكاء الاصطناعي بعصر مزدهر من التواصل الفائق وتدفق هائل لأنهار من المعلومات والبيانات الضخمة.

وبينما توفر هذه التطورات التكنولوجية إمكانيات مثيرة للغاية ، فإنها تمثل أيضًا تحديات لخصوصية الهوية الثقافية المتفردة للمغرب.

إن التراث الثقافي المغربي هو مدارة التقاء الروافد الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية. والدين الإسلامي الحنيف يعتبر بمثابة العماد العقائدي الذي تقوم عليه الدولة منذ إثنا عشر قرنا، وكياننا الرصين متشابك مع تقاليدنا الأمازيغية العريقة وغني بالمرجعيات الدينية وخصوصا الإسلامية واليهودية.

إن هذه الفسيفساء الرائعة والملهمة تتألق بتنوعها المتأصل، والذي يتم التعبير عنه من خلال الموسيقى العريقة النابضة بالحياة وسرود الحكايات الشعبية وآلاف القصائد الملحونية الحكيمة وأطباق الأطعمة والتصاميم المعمارية القديمة والعصرية..إلخ

ومع ذلك، فإن هذا التنوع الغني والمتفرد في المنطقة العربية يصطدم بتحديًات العصر الرقمي إذ يمكن لشبكة الإنترنت، بميولاتها المتشابكة وإمكاناتها كفضاءات لترديد الصدى، أن تؤدي عن غير قصد إلى التآكل المبطن لهذا النسيج الفسيفسائي حيث التدفق لهذا المحتوى الأجنبي، الذي غالبا ما يفتقر إلى التنخيل وإلى السياق المرغوب فيه أو لا يراعي القيم المغربية قبل كل شيء، يمكن أن يخلق فينا شعورا بالاغتراب الداخلي ويقوض تماسكنا الثقافي الجماعي.

فعلى مستوى التجانس الثقافي يمكن للسرديات الأدبية والترفيهية الغربية المسيطرة على العالم في الوقت الراهن أن تطفو على المحتوى المغربي المحلي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الشعور بمركب النقص الثقافي وإذكاء الرغبة في محاكاة الآخر وتقليد التيارات الأجنبية الوافدة عبر الطرق السيارة الرقمية ، مما قد يؤدي أخيرا إلى اضمحلال تقاليدنا المغربية.

إنه لم يعد خاف على أحد أن شبكة الإنترنت تزدحم بالمعلومات المضللة والملغومة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إذكاء لمختلف التوترات والنعرات الإثنوغرافية والسياسية ، مما سيشكل عائقا لترسيخ الوحدة الوطنية من الشمال إلى الجنوب أي من مدينة طنجة بوابة المغرب نحو أوروبا إلى مدينة الداخلة جنوب الصحراء المغربية بوابتنا نحو القارة الإفريقية .

يمكن لطبيعة شبكة الإنترنت غير المفلترة أن تعرض المواطنين، وخاصة الشباب منهم، لمحتوى يتناقض مع القيم والأعراف الاجتماعية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى اختلالات أخلاقية وتراجع في التماسك الاجتماعي.

يمكن لخريطة الطريق الهندسة الثقافية ، عندما يتم توظيفها بشكل رصين ومدروس، أن تكون بمثابة درعا قويا لمواجهة هذه الاتجاهات السلبية والهدامة لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال دعم إنشاء المحتوى المحلي حيث يعد تشجيع ودعم إنشاء محتوى مغربي أصيل وعالي الجودة عبر مختلف المنصات الإعلامية الورقية منها والرقمية أمرًا بالغ الأهمية. يمكن أن يشمل ذلك مختلف فنون التعبير مثل الموسيقى والأفلام الروائية والوثائقية والمواد التعليمية التي تحتفي بالثقافة والتراث المغربي.

كذلك من خلال المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي حيث إن تزويد المواطنين بمهارات القراءة والكتابة الرقمية يمكّنهم من تمييز المعلومات الموثوقة من المغلوطة. إن مهارات التفكير النقدي ستسمح لهم بتقييم المحتوى عبر شبكة الإنترنت من خلال مجهر ثقافي مغربي أصيل.

وتطوير التواجد القوي على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والأمازيغية يمكن أن يؤمن وصولاً أوسع للمحتوى المغربي ومواجهة هيمنة اللغات الأجنبية على الإنترنت.

كما إن رقمنة وأرشفة التراث الثقافي المغربي، من الموسيقى التقليدية إلى المواقع التاريخية والمخطوطات القديمة ، سيضمن إمكانية الولوج إليها والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

ومما لاشك فيه أن الذكاء الاصطناعي من جانبه يمكن أن يكون وسيلة قيمة في جهود إرساء هندسة ثقافية ناجعة. هناك بعض التطبيقات المحتملة التي تشمل إنشاء المحتوى حيث يمكن للأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد في إنشاء محتوى جذاب وذي صلة ثقافيا بالهوية المغربية ، مثل الألعاب التعليمية أو تجارب سرد الحكايات التفاعلية التي تحتفي بالتقاليد المغربية.

ومن جانب آخر يمكن لأدوات وكفايات تعلم اللغة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد المغاربة في الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت بلغات أخرى مع الحفاظ على المحتوى الخاص بهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأدوات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضمان وصول أوسع للمحتوى المغربي المترجم إلى لغات كونية أخرى.

وعلى مستوى الإشراف على مكونات المحتوى يمكن تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد المحتوى المسيء أو الذي لا يحترم القيم المغربية والمؤسسات السياسية والإبلاغ عنه. ومع ذلك، يجب النظر بعناية لتجنب الرقابة أو التضييق على المعارضة الفكرية المشروعة.

ويجب أن تحقق جهود الهندسة الثقافية كذلك توازناً دقيقاً بين الحفاظ على التراث الثقافي وتكريس الانفتاح على العالم الخارجي حيث سيستفيد المكون الثقافي المغربي الغني من التبادل الثقافي السليم. والهدف هو ضمان دمج التأثيرات الأجنبية بشكل مدروس وعقلاني ورصين، وإثراء الثقافة المغربية من خلال المثاقفة دون المساس بقيمها الأساسية.

إن حماية الهوية الثقافية المغربية في العصر الرقمي تتطلب مجهودات تشاركية مكثفة حيث يمكن للحكومة من خلال وزارة الثقافة والاتصال إلى جانب المجتمع المدني أن يلعبا دوراً حاسماً من خلال دعم المبادرات التي تدعم منتوج المحتوى المحلي، ومحو الأمية الرقمية، والحفاظ على الثقافة عبر شبكة الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يمكنها بلورة قوانين عمل لتطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول والإشراف على المحتوى.

أما على مستوى المؤسسات التعليمية بكل أسلاكها فيجب أن تلعب دورًا حيويًا في دمج المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي في مناهجها الدراسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تشجيع إنشاء محتوى تعليمي يحتفي بالثقافة المغربية بجميع وجوهها وأشكالها الأدبية والفنية والفلكلورية.

أيضا على مستوى صناعة الإعلام بجميع أسانيده يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا من خلال إنتاج محتوى عالي الجودة يعكس الثقافة والقيم المغربية إذ يمكن أن يشمل ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية الجادة والهادفة والأشكال الموسيقية والمحتوى عبر الإنترنت الذي يلقى صدى لدى الجماهير الشابة.

ومما لاشك فيه أن منظمات المجتمع المدني يمكنها المساهمة من خلال رفع مستوى الوعي الجماهيري حول تحديات وفرص العصر الرقمي، ودعم السلوك المسؤول عبر الإنترنت، والدعوة إلى السياسات التي تدعم الحفاظ على الثقافة.

من جهة أخرى يلعب المواطنون دورًا حيويًا من خلال التفاعل النشط مع المحتوى المغربي عبر شبكة الإنترنت، والتقييم النقدي للمعلومات، وتعزيز شروط الحوار السوسيوثقافي المسؤول.

إن التراث الثقافي المغربي هو عبارة عن فسيفساء نابض بالحيوية الراسخة، وهو محبوك بخيوط من التقاليد والتنوع والابتكار. ومن خلال تبني آلية الهندسة الثقافية كأداة للوحدة والمرونة، يستطيع المغرب أن يبحر في العصر الرقمي بأمان مع الحفاظ على خصوصية هويته المتفردة. ومن خلال الجهد التشاركي، يستطيع المغرب الاستفادة من التكنولوجيا لإنشاء هوية رقمية مزدهرة تحتفي بتراثه الثقافي الغني مع البقاء منفتحًا على التأثيرات الإيجابية للعالم المترابط به.

يظل إذن مفهوم الهندسة الثقافية مفهوما ديناميكيا يتطور باستمرار جنبا إلى جنب مع التقدم التكنولوجي. ومع استمرار نمو إمكانات الذكاء الاصطناعي، سيكون من الأهمية بمكان ضمان استخدام هذه الأدوات بشكل أخلاقي ومسؤول في سياق الحفاظ على هوية الثقافة المغربية.

كما يجب أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لإنشاء المحتوى أو الإشراف عليه شفافة وخاضعة للمساءلة . وتساعد في بناء الثقة وضمان عدم استخدام هذه الأدوات لأغراض عنصرية أو تمييزية.

إنه من خلال تبني هذه الخارطة، يمكن للمغرب أن يضمن تكريس هندسته الثقافية كقوة من أجل الوحدة والخير العميم، وحماية هويته الثقافية المتفردة مع دعم مساحة رقمية مزدهرة تحتفي بالوحدة والتنوع والمرونة.

إن التراث الثقافي للمغرب وموقعه الجغرافي الإستراتيجي يجعله منارة للعالم، وشهادة فخر على قوة احتضان التنوع في إطار الوحدة والقيم المشتركة. وفي العصر الرقمي، يتمتع هذا الفسيفساء الغني بالقدرة على الازدهار عبر شبكة الإنترنت، والوصول إلى جمهور عالمي وإلهام جيل جديد. ومن خلال توظيف الهندسة الثقافية بشكل مدروس، يمكن للمغرب أن يضمن استمرار فسيفساءه الثقافي في التألق لأجيال قادمة.

***

عبده حقي

 

(منصة (X) نموذجا)

الطبيعة الإنسانية هي علائقية بالدرجة الأولى، بمختلف دوائر الاجتماع البشري من أسرة وبيئة عمل ونحوه، وما التفاعل الذي تعجّ به منصات التواصل الاجتماعي، إلا دائرة من تلك الدوائر التي تشغل حيزا كبيرا في تفاعلنا الإنساني، إن لم تكن الأكبر لأسباب متعددة، فهو عالم حقيقي لا افتراضي كما هو المفهوم السائد، لكننا ندخل إليه بنسخة معدّلة منّا بما تقتضيه الشخصية التي نريد أن نظهر بها للعالم سواء وراء معرّف حقيقي أو وهمي.

ولعل منصة (X) من بين أعلى منصات التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على نصيب الأسد من التفاعل الكتابي في ارتباطه بـ (الترندات) والتي تعطي مؤشرا على الرأي العام لديموغرافيا محددة تجاه مسألة جدلية.

إن التفاعل الكتابي في منصة (X) يمثّل مساحة حيوية لمظاهر ذَوق المُخالطة، الذي أعني به هنا فن التعامل الحضاري في العلاقات الإنسانية، إلا أنّنا نشهد كيف أنّ هذا التفاعل الكتابي يرصد جانبا كبيرا من العنف اللفظي، خصوصا لدى طرح القضايا ذات الطابع الجدلي.

وأودّ أن أقدّم تعريفا للعنف اللفظي لأستند إليه في طرحي، فيكون: استعمال لغة هجومية مفرغة من الإنسانية، تتراوح من مجرد تراكيب ومفردات استعلائية إلى أقذع ألفاظ السباب والانتقاص والطعن في الشخوص.

إنّ الحَيدة عن لُبّ الأفكار - محلّ النقاش - صوب التعدي اللفظي على الآخر، أمسى مشهدا بديهيا في (الترندات) اليومية على منصة (X)، فأصبح عالم (الشخوص) متسيّدا عالم (الأفكار)، وهي ظاهرة لا تتواءم والانفتاح المعرفي والحضاري.

ولنا أن ندّعي أنّ هذا العنف اللفظي لا يأخذ نمطا مماثلا لِما لو كان النقاش وجها لوجه، ويزداد تكهرب الشحنة الهجومية فيما لو كان التفاعل يحدث عبر المعرفات الوهمية وليس الحسابات الشخصية، إذن عامل التخفي أو البُعد الفيزيائي له تأثيره على كثافة ونوعية العنف اللفظي الممارَس؛ والذي تزداد رعونته مقارنة بالوضع على الأرض.

وأراني مضطرا هنا للإشارة إلى أنني أجد صعوبة في مساواة العنف اللفظي بوصفه فعلا ابتدائيا معه بوصفه ردةَ فعل، ففي حين يكون الأول جليّ السوء، فإنّ الثاني يعكس قدرا معقولا من الطبيعة البشرية، والناس تختلف في الاستجابة، من التغاضي أو الرد بالتي هي أحسن، وحتى المعاملة بالمثل، بل وقد يصل الأمر إلى ردّ الصاع صاعين.

ومهما يكن، فإن علم نفس اللغة يقضي بوجود دوافع نفسية تُذْكي جذوة العنف اللفظي، سأتعرّض لبضعة دوافع منها، مع التنبيه على أنني لا أسعى إلى تخطئة مَن يصدر عنه العنف اللفظي بقدر ما أبغي تفهّم الدوافع وطرح بعض أدوات التحكم.

١. قصور الوعي في إدارة الشعور:

عند استعراض هرم غراهام للاختلاف، الذي يضم سبعة مستويات في كيفية الاستجابة للاختلاف في الآراء، فإنّ أول مستويين متعلقان بالوقوع في الطرف الآخر شتمًا وانتقاصا، فاللغة تَبَعٌ لمستوى الوعي، فإذا كان الوعي مُنمّطا بالتهجّم الشخصي في حالة الاختلاف فإنه يَعتبر العنف اللفظي التعبير الأمثل للرد على الرأي الآخر.

إن اللغة بطبيعتها حيادية، فحين تكون الاستجابة بالشخصنة يتم استحضار قاموس العنف اللفظي لأداء مهمته، والشعور عقبها بأريحية نفسية، وكأنّ حِملا كبيرا قد أُزيح عن العاتق، فالعنف اللفظي يصدر - فيما يصدر بسببه - لإشباع رغبة نفسية، وتضميد جرح غائر، فهو إسكات للصراخ الداخلي وتنفيسٌ عن مكبوتات متراكمة، وقد اعتبرتُ قصور الوعي دافعا للعنف اللفظي؛ كونه البيئة الحاضنة والمبارِكة والمبرِّرة، ففي هذا المستوى تكون لغة الاختلاف هي العنف اللفظي!

٢. الارتباط العاطفي:

من الطبيعي أن يخبو وَهج العنف اللفظي لدى الانخراط في مواضيع لا تشكّل أهمية بالغة، لكن ما إنْ يتصل الأمر بالانتماءات الذاتية كالدينية والوطنية والقبلية فإنك تكاد ترى نسخة متطرّفة من الشخصية المتزنة عادة، وفي الحقل الديني يكون الأمر أخطر؛ إذ يستمد العنف اللفظي شرعيّته من المقدّس، فيتحول المذموم إلى محمود بل وواجب، ويتم استحضار نصوص دينية في سياق الطعن الشخصي، فيكون العنف اللفظي مادةً تعكس الغيرة الدينية - بحسب تعبير المبررين - كما أنه يعدّ قُربةً يتعبّد بها مرتكبها، فيغدو الحطّ من المخالف الديني بما يضادّ الأخلاق الإنسانية سبيلا للذَّود عن حِمى الدين الذي يتم تصديره في الأساس حاميا لحياض الأخلاق!

إن التعلق العاطفي بالأفكار محل النقاش بسبب الانتماء، يُضعف التحكّم بالقاموس اللغوي، فيعيش (ذوقُ المخالَطة) أسوأ لحظاته، وعند عتبة الردود تُقطَّع أوصاله، وتُسقى الأرض بدمائه قربانا للانتماء!

٣. الاحتياج لأنْ نُسمع:

في تقديري أن محورية (أنْ نُسمَع) راجعة في الأساس لـ (الاحتياج للتقدير) وليس غريبا أن يضعه ماسلو ضمن هرمه المشهور للاحتياجات الإنسانية، ‏فنحن كائنات معبّرة ومدنية! ‏ولذا كانت ماهية تكويننا البشري تحتّم علينا الرغبة العارمة لأنْ نُسمع، ‏ونميل لمن يستمع لنا، ‏ونغبط مَن يجد قلبا ينصت لهواجسه مهما كانت ساذجة وواهمة.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنّ أي قصور في تلبية هذه الحاجة حال النقاش ينبري العنف اللفظي يدًا تأخذ ما تراه حقَّها عنوة! فهو إعادة صياغة فَظّة لـ: أنت لا تكترث للاستماع إليّ.

٤. التشفّي الاجتماعي:

العَمْد إلى الهجوم اللفظي على الطرف الآخر على انفراد يكاد لا يعدّ شيئا بإزاء أن لو كان الهجوم ذاته أمام الملأ، فالنيل اللفظي من الإنسان وسط الأعين مؤذٍ لدرجة مهولة؛ لأنّ الاعتراف الاجتماعي ضرورة بشرية؛ ولذا لا يكون ثمّة تشويه ولا تشهير بلا مجتمع يشهد على ذلك، فيكون العنف اللفظي هنا ممارسة متعمَّدة ومنظَّمة وجماعية! والعقل الجمعي يستمرئ الهجوم اللفظي الأهوج على الشخوص تحت أي شمّاعة كانت، ويجد الأفراد مبررا وبيئة حاضنة ودعما اجتماعيا يرعى العنف اللفظي بهدف التحييد الاجتماعي.

هذا التطواف العام يجرّنا للبحث عن أدوات من شأنها أن تعيننا على التحكم بعنفنا اللفظي، مع الأخذ في الاعتبار أن العنف اللفظي قد يكون عَرَضا لمرض نفسي أو عاهة شخصية مزمنة كالتنمّر، وهذا له معالجة مختلفة، وفيما يلي عدة مقترحات تمثّل لَبِنة جادّة في بناء استجابة واعية ومسؤولة في التعبير عن الاختلاف:

١. خلق عادة التركيز على النقد الموضوعي، وإدراك أنّ الشخصنة تَشِي بضعف مستوى الإنسانية وتدنّي النضج المعرفي، علاوة على الظهور بمظهر ضعيف الحجة، إذْ اللجوء للهجوم على الطرف الآخر عوضا عن التعاطي الصحي مع جوهر الفكرة، هو هروب ينضح منه الافتقار للبراهين، فيتم تغطية العجز وتمويه الإفلاس من البرهان بمثل هذه الأساليب.

إنّ خلق هذه العادة البديلة ليس من السهولة بمكان، ولكن يمكن البدء بطرح هذا السؤال: أين محلّ النزاع؟ أي: أين موضع الاختلاف بين الرأيين؟ وفي ضوء ذلك يتم النظر في الحجج والحجج المضادة، هذه العادة من شأنها أن تجفف منابع العنف اللفظي إلى حد كبير، إذ يتم استدعاء الفكرة بدلا من الآخر المختلف، فيتم توجيه التركيز للوجهة الصحيحة، واللغة تَبَعٌ لهذا الاستدعاء الواعي، مع التأكيد على أنّ العادة حتى تترسّخ يجب التدريب عليها ردحًا من الزمن حتى تنتقل من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور لتستقرّ ردةَ فعلٍ تلقائية فيما بعد.

٢. تجنّب الاسترسال مع أي طرف يوظّف العنف اللفظي في ردوده، سواء بالانسحاب أو بالتنبيه الصريح؛ حيث إن الردود اللطيفة في مقابل العنف اللفظي يُنظر إليها - في الجملة - على أنها ضربٌ من الضعف، والضعف يستميل الطرف الهجومي لزيادة وتيرة العنف اللفظي، كما أنّ استفزاز المعتاد على العنف اللفظي خاصة في المواضيع المتعلقة بالانتماءات سهلٌ للغاية، وبإمكان هذا الأسلوب أنْ يدفع الآخرين للتعرّف على منهجيتك الحوارية الحازمة، وفي المقابل تجنّب نفسك من الانزلاق إلى مستنقع اللغة السوقية.

٣. تدوين عبارات تعبّر بشكل صحي عن الاختلاف، والتدرّب عليها، حيث إنّ ذلك يساعد بشكل فعّال على ترويض ردة الفعل الارتجالية في المستوى اللاواعي على تراكيب مسؤولة، عِوَضا عن الأساليب الرعناء، فإيجاد البديل الحاضر في مستوى اللاشعور دافعٌ متين للعمل بالنهج الجديد في التحكم بانفعالاتنا اللفظية بوجه عام.

أود أن أُلملم طرحي بالزعم بأنّ التفاوت في الاستجابة اللغوية على المستوى الفردي يُحيل على وجود عدة قواميس لفظية للفرد الواحد - إن صحّ التعبير - ونحن نصطفي منها ما هو أليق وألصق وأوفق بالموقف، أو بشخصية محدد من شخصياتنا! بحسب مفهوم عالم النفس الأمريكي روجرز حول التمثيل الذاتي، دوائر روجرز متحدة المركز (Rogers Concentric circle) الذي يرى أن الذات تتمظهر في (٣) شخصيات، الشخصية الذاتية والشخصية الخاصة والشخصية العامة، فالشخصية الذاتية تكون خاصة بصاحبها، لا تشارك منطقتها غيرها كالأسرار والتخيّلات، وتكون هي المهيمنة في المعرفات الوهمية! وأمّا الشخصية الخاصة فهي تتضمّن ما تشاركه دائرتها المقربة من حبيب وصديق مقرب وعائلة، في حين تأتي الشخصية العامة لتمثّل ما تختار إظهاره أمام عموم الناس من اهتمامات وممارسات وغيره.

فالشخصية الأولى تمثّل الشخصية الحقيقية في أصدق تجلّياتها، وفي الثانية رغم نسختها المعدّلة يمكن أن تتلمّس فيها جوانب شفافة من الشخصية، فمع الأحبّة ترتفع الكُلفة، أما الثالثة فهي الأكثر تهذيبا وتشذيبا لتتواءم وأعرافَ المجتمع وإكراهات القوانين، ولكل شخصية قاموسها اللغوي الخاص! فحين تتم ممارسة العنف اللفظي رغم ذاك فهو بشكل ما خرقٌ لسمات الشخصية العامة، وكأن الشخصية الذاتية أو الخاصة تتعدى على حدود الشخصية العامة وتخترق فضاءاتها، سواء في حالات معدودة أو حالةً ذات ديمومة، وما هذا الاختراق إلا لداعٍ ذاتي قوي، يجب تفهّم جذوره النفسية، وإيجاد آلية جادة لضبطه.

***

بقلم: محمـــد سيـــف

مفتتح: قرأت مقالة (مؤسسة تكوين وضجيج مؤتمر التأسيس) للصديق الأستاذ بدر العبري من سلطنة المحبة والتسامح والحوار والتعارف والابداع الثقافي حول الضجيج الذي انتشر في ربوع أرض الكنانة مصر الحبيبة بخصوص المؤتمر التأسيسي لمؤسسة تكوين، للأسف مصر عاصمة الفكر والثقافة والتأليف والطباعة، التي قرأنا وسمعنا عنها أيام الدكتور طه حسين والأديب العالمي نجيب محفوظ والدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور حسن حنفي والدكتور عبد الفتاح إمام وغيرهم كثر، هذه البلاد التي لا تكف عن ميلاد العباقرة والعلماء والمفكرين الأحرار والمجددين والمصلحين المميزين في التفكير الديني وغيره، للأسف غابت عنها تقاليد الحوار وإحترام الرأي الآخر والفكر الآخر وما هنالك من صور التمدن الذي راح ضحيته عمالقة في الفكر والثقافة والدين، ليس مصر العربية وحدها التي أصبح الفكر الحر فيها غير محترم رغم الاختلاف مع بعض تفاصيله، إنه العالم العربي برمته كذلك حيث اكتسح التلوث الفكري – كما يعبر المفكر الراحل حسن التل- كل أركان التفكير العربي الحديث والمعاصر، فلا غرابة في هكذا ضجة مفتعلة – كما يعبر المفكر الفلسطيني الشهيد فتحي الشقاقي-  لأن ضرورات دوام التلوث والضمور والتطرف ووالتسقيط تستدعي مثل هذه السيناريوهات عبر الاعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأماكن العامة وكأن القيامة قامت، لا لشيء سوى لأن الحرية الفكرية والحوار العلمي والتعارف الثقافي مهددات لواقع التفاهة والرداءة المستشري من طنجة إلى مسقط ..

الراهن الثقافي العربي:

هذه اللحظة الثقافية المشوهة من المشهد الثقافي الأصيل هي محل إشكال ليس مصري فقط بل عربي أيضا وبإمتياز: لماذا هذا التشظي في تركيبة الذهنية العربية المعاصرة ؟ ومتى تنتهي الخصومة في الثقافة العربية برسالة تسامح ضد التخلف والرجعية والحاكمية الثقافية المطلقة بلا شرعية ولا أدنى مسوغ منطقي؟

بكل بساطة إن من يفكر بحرية في جغرافية مأسورة للتطرف الطائفي وو الإثني والجهوي والحزبي لا يمكنه أن يرفع رأسه، لأنه بالأساس فوق ميول مجتمع ملوث فكريا وبيئيا والمنحرف أخلاقيا، هنا بالتحديد تبرز وظيفة المثقف الحر النزيه المخلص الكوني – بتعبير صديقي الدكتور سامي عبد العال-[1] على طول المحاور الثقافية في العالم العربي، لأن المثقف الكوني ( هناك مفهوم أراه مماثل المثقف الرسالي عند الأستاذ ماجد الغرباوي[2]) يحمل غاية واحدة هي بعث الوعي بالكرامة للجميع لذلك كان يمازح الدكتور علي الوردي -و هو القامة العراقية العربية التي عاشت وماتت دون أن تنتبه لها المجتمعات إلا بعد عشر سنوات من رحيلها - لا تتحدثوا علانية عن ابن خلدون لأن اسمه فقط مستفز للرداءة والتلوث وما هنالك...

هناك حاجة ماسة للوقوف والمعاينة والتمحيص بكل قوة وحزم وصلاية على ردود الفعل – المسماة ثقافية- وهي واقعا إفرازات لقيم اجتماعية وأخلاقية لا حضارية، هناك أعطاب أخلاقية وإنحرافات إجتماعية تمكنت من ترسيخ "البلطجة" كثقافة تهدد كل فكرة حرة تطرح للنقاش أو للحوار أو للمداولة بين من هم أهل لذلك، مما ضيق الخيارات على الأحرار في الفكر والثقافة والدين والجامعات رغم رحابة بلادنا العربية وغنى مخزونها الثقافي الخلاق للوعي والنباهة والابداع، أليست القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والجزائر العاصمة وطنجة وتونس والكويت كانت مدن حافلة بالانتعاش الثقافي في سبعينيات القرن الماضي ومسقط مع نهايات القرن الفائت، كلها كانت مقاصد المثقفين العرب بكل مشاربهم وتوجهاتهم، لقد كانت تحتوي كل التنوعات لذلك انتعشت ولم تتسم بالأحادية الفكرية الخانقة لثقافة السؤال والضاغطة على رقاب الوعي، حيث أجدني هنا مضطرا للتنبيه أن كل ما يفتعل من ضجات مرجعه الأساسي هو القبلية الثقافية ( قيم العشيرة الناتجة عن الاستبداد الديني والسياسي كما يعبر عن ذلك المفكر الغرباوي[3]) حيث يعبر بالقول: الفرد الغربي يعتز أيضا بإنتمائه لعشيرته وبيته، لكن الفارق أن قيم العشيرة لا تفرض سلطتها عليه، ولا تنافس القانون في ولائه، فهو منحاز دائما للقانون وسلطته، وعليه ينبغي لنا من أجل نهوض حضاري ناجح تحرير عقل الفرد من سلطة العشيرة وقيمها، حينما تتعارض مع القيم الإنسانية أو تتقاطع مع القانون. فيكون ولاء الفرد أولاً للقانون، وليس العكس كما في المجتمعات المتخلفة . بل يجب التحرر من سلطة كل نظام أبوي، في البيت والمدرسة والعمل والسلطة[4]. ولعل هناك سبب آخر يوافق ما سبق ذكره، ساهم في صناعة التلوث الثقافي في المجتمعات المهزومة أو الضعيفة وهو الانشداد إلى الماضي والجمود الفكري وتقديس غير المقدس، وهذه حالة شعورية تسيطر على المهزوم وتجعله – هاربا من تحديات الواقع وإخفاقات الوعي المتحكمة فيه- فيلوذ بالماضي ويقدسه بغثه وسمينه بحيث يصبح لا يفرق بين المقدس وغيره وما هو دليل أصلي عما هو فرعي وتابع كما لدى الأصوليين، لذلك نلاحظ إعلاء غير عقلاني للماضي ومكوناته كلها بلا تحقيق ولا تمحيص، والأكيد أن هذه الظاهرة موجودة لدى كل المجتمعات البشرية وعاشتها في مرحلة ما، كل ما هنالك أن هناك من تجاوزتها وتحررت من قيودها وأخرى ظلت أسيرة فيها، وهنا الضحية الأولى هي الحقيقة والوعي والموضوعية، لأن الواقع الذي يتعاطى مع الأسئلة والنقاشات ومداراتها ومضامينها وآفاقها بعقلية ملوثة وجامدة في مرحلة تاريخية معينة وبخطاب تحنيطي للتخلف سيشكل – بلا أدنى شك- عائقا ومعوقا وسدا أمام حركة التجديد الثقافي والتنمية الحضارية، لأن العقل المستغرق في التلوث الطائفي وملكية الحقيقة وهالات الشرعية وما هنالك من شعارات محرفة محجوب عن بلوغ الحقيقة، هذا العقل الفرعوني البيزنطي المهووس بالأحادية الفكرية لا يتحمل حضور العقل النقدي في المشهد الثقافي..

ماذا عن مفهوم السلم الثقافي الصحيح؟

إن انحسار دور العقل النقدي في المجتمعات العربية، يعني تفسير الواقع وظواهره بتفسيرات غيبية وأسطورية أحيانا بعيدا عن منطق الأسباب والمسببات، ولعل العلة الأولى لذلك أن ذوي العقول الملوثة هم المسيطرين على الشأن الثقافي غالبا والديني تحديدا منه في الأغلب وإلا لماذا هناك توجس غير طبيعي من أي محاولة لمناقشة سبل التجديد والإصلاح ونقد التراث وما هنالك، فالمقدس معلوم ومحدد وليس هناك أية جهة لها سلطة منح القداسة لما ليس بمقدس، لكن العقل الملوث فكريا يعمل على شيطنة كل ثقافة السؤال حتى يبقى الحال على حاله ولا يتجاوز المجتمع إخفاقات الوعي لديه في تفاصيل واقعه، والمؤسف أن تلفق مفاهيم حضارية لتعمل عمل المخدر ويبقى الواقع في رداءته والمدينة تترّيف أكثر فأكثر حتى تنتفي معالم التمدن نهائيا، فمفهوم السلم الثقافي يراد له أن يتماهى ومفهوم الخمول الثقافي، لأن اللوثة الثقافية التي لا تعالج، تستشري وتسيطر فتروض المشهد الثقافي لتنطفئ مصابيح الوعي فيه وعندها تدرج مفهوم السلم في سياق معاكس كليا وتماما لمدلوله الصحيح، بينما السلم الحقيقي لا يجنح إلى العنف ويخضع للاعتدال والحوار العلمي الموضوعي، ولا يتحقق إلا في جو من الديمقراطية السليمة من الفساد والعجز الفكري ودناءة السلوك، لأن السلم الثقافي يعني فيما يعنيه الشعور بالآخر واحترامه والدفاع عن حقوقه والتعارف معه والإحساس بجمال التنوع والتعدد الذي يقوي الوحدة الجامعة والعادلة..

السلم الثقافي ومحنة المثقف:

هناك شرائح عدة من المثقفين في عالما العربي أو كما يسميهم الدكتور سامي عبد العال بأنماط المثقفين، شريحة انبهرت بالغرب لحد الذوبان فيه، وهذا ما يطلق عليه الإغتراب الثقافي بحيث يعمل هذا المثقف على إجراء قطيعة مع تكوينه الثقافي ورؤاه وقيمه الأخلاقية والاجتماعية، لكن الخطورة بالنسبة لهذه الشريحة أنها خدمية في الغالب وليست موضوعية كل همها إرضاء الآخر الغربي بمشروعها الذي يسعى لللحاق بمشروع القطيعة مع ثقافة العصر الوسيط لدى الغرب، فمشكلة الثقافة لدى هذه الشريحة قد تصل لحد الخيانة وقد تسمى اندماجا ثقافيا ولكنها في الحقيقة انسلاخ عن التكوين الثقافي واللهث وراء الثقافة الغربية بلا كرامة ولا حتى موضوعية في ذلك سوى هروب من محنة الثقافة في الوطن العربي لا هي علمانية بالمعنى العلمي ولا هي ملحدة بالمعنى اللا ديني، فقط تعاني من لوثة ثقافية أفقدتها وعي المخاض وسبل الخلاص.

بينما الشريحة المقابلة هي على العكس تماما من الشريحة الخدمية للغرب، إنها شريحة مستبدة فكريا وسلوكيا وتجنح للعنف بشكل مروع، لا تقبل نهائيا الرأي الآخر، تمتهن الابتزاز الفكري والإعلامي والثقافي الاجتماعي وتسعى للسيطرة على المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية ومحاصرة الخطاب الثقافي وتسييجه بحدود تتوافق مع مداراتها الفكرية والعقائدية والثقافية، فتعادي الغرب بكليته حتى علومه، بينما هي تستخدم تقانته تحت غطاء أنه مسخر لخدمتها ضمن معادلة القداسة التي ترسم معالمها في اللاوعي الجمعي حولها، فالسلم الثقافي لدى رواد هذه الشريحة هو ما يقبلونه ويدعون إليه غير ذلك فهو عدو وخطر ولابد من محاربته، ولا تقتصر على الدينيين فقط لأن خلفية هذه الشريحة هي العصبية القبلية والإثنية والدينية والطائفية والسياسية، يمتازون بالتثبيط الثقافي إلى درجة العنف بشتى أشكاله من أجل تحقيق استبدادهم الذي يعبرون عنه بهتانا وزورا بالسلم الثقافي الذي يتأسس بثقافة "البلطجة" السيئة الصيت !!

في حين الشريحة الأخيرة وهي المثلى والتي كانت ولا تزال وسطا في ركوب أمواج البحث عن الحقيقة دون التفريط أو الإفراط في الدين والأخلاق والعلم والمعرفة والتكنولوجيا، هذه الشريحة رسالتها إنسانية وليست من أجل الغرب وعيونه أو العصبيات ونزواتها، وتعمل جاهدة من أجل تجاوز أشكال الاستبداد والقابلية للإستعمار وتنقية التلوث الفكري الكاسح للعقول والمجتمعات والمتحكم في الواقع بالتثبيط والإخفاق والرجعية والشذوذ، هذه الشريحة سلمها سلم لأنها تستمد رؤيتها من ثقافة السلام العادل والكريم والحضاري، هذه الشريحة تؤمن بالحوار العلمي والتعارف الثقافي والاحترام المتبادل بين الذات والآخر الجواني والبرّاني، أهدافها واضحة في البحث عن الحقيقة، لا تتوقف أمام الضجيج المفتعل لأنها تدرك حالة إخفاق الوعي لدى ذلك المبرمج لتعطيل كل مشاريع النقد والإصلاح والتجديد والتنوير في العالم العربي، تعلم أن هناك يد للمستعمر تتلخص في مناهج فكرية وثقافية محددة يراد لها أن تنتشر دون أخرى، وتركز بجسارة في مشروعها التنويري حتى لا تستقطب نحو مستنقعات التنويم الثقافي للشعوب والقتل البربري للأفكار والمشاريع الفكرية الهادفة للتجديد والإصلاح، إن مثقف هذه الشريحة لديه كامل الوعي والأهلية والمصداقية في تصور مناورات الاشتباك الثقافية، إنه مثقف رسالته إنسانية كونية تحترم الإنسان وتسعى من أجل تخليصه من إخفاقات الوعي الحاصلة لديه، إنه مثقف أفكاره حية بحياة الإنسان وليست قاتلة أو مميتة أو ميتة...

و كما يعبر المفكر الغرباوي "سلسلة اليقينيات-طبعا السلبية- تتناسل في ثقافتنا" في معرض تحليله لما يطلق عليه اليقين السلبي والذي أراه يقينا مبتلى به أتباع الشريحتين السابقتين كل بحسب مقاصده ومصالحه، لكن ما يهمنا بهذا الخصوص هو اليقين الإيجابي لدى المثقف الكوني والرسالي في محنته الثقافية داخل المشهد الثقافي العربي، لكن هذا اليقين هو مغاير تماما لليقينيات السلبية المسيطرة على مجتمعاتنا والتي تحاط بقداسة عظيمة أحيانا تستغرب أن أغلبها لا تعرف من أين حصلت على القداسة تلك !!

يقين المثقف الكوني الرسالي هو يقين يتطور بالايجابية أي هو تحصيل مسيرة بحث وتنقيب وتمحيص وتحقيق متجدد وليس جامدا كمجمل اليقينيات السلبية المقيدة للوعي والنباهة والنهضة في عالمنا العربي، ولعل هناك طرفة فيزيائية إن صح التعبير، المتيقن أن كل ماهو سلبي يتطلب إيجابي حتى ينتج طاقة، لذلك سلبية الواقع الثقافي المنتشرة بحاجة لمثقف يفكر بإيجابية حتى تنتج طاقة التغيير والتجديد والتنوير، فليس هناك مبرر للسلبية في التعاطي مع النقد والحوار فحتى الدين شرّع السؤال ليكون الإيمان نتاج مسيرة البحث عن اليقين، الله تعالى يدعو الناس لسؤال أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، فتركوا الأمر بالسؤال وانشغلوا بالصراع حول أهل الذكر، رغم وضوح معالم أهل الذكر عقلا ونقلا، هنا طبيعي أن ينتج يقين سلبي جامد مستغرق في التفاصيل وغافل عن الأساسيات ومنقلب على الضروريات للتقدم نحو اليقين الإيجابي والاقتراب من مقتضيات القلب السليم، وأحد مسببات هذا التلوث الفكري في جمهور الشريحة الثانية أن علم الكلام في تموضعه التاريخي في الثقافة العربية الإسلامية أصيب بالركود والخمول بسبب التقليد الذي ساد العقل الفقهي في حقبة من تاريخ المسلمين وخصوصا مرحلة أفول الحضارة الإسلامية- يمكن البحث حول حركة علم الفقه وعلم الكلام ما بعد الموحدين- فتمدد التقليد لكل أبعاد المعرفة الإسلامية خصوصا علم الكلام إلى يومنا هذا، حيث نجد أغلب من اشتغلوا ونادوا بإحياء علم الكلام وسموه علم الكلام الجديد هم من غير المثقفين العرب، بل أكثر من ذلك كانوا من المثقفين النقاد وأصحاب مشاريع فكرية حساسة[5].

عموما محنة المثقف الكوني أو الرسالي تتلخص في انه مجمل المشهد الفكري في الفضاء العربي يفتقد للسلم الثقافي، مما طور الحساسيات على حساب مناهج البحث والحوار والتفكيك والتحليل، فأصبح الإبداع ابتداع والعنف وسيلة في فرض الإستبداد المدعى أنه سلماً، فالتقليد في علم الكلام جعل القوم جامدين في عصر غير عصرهم ويدّعون فهم تحديات معاصرة مركبة وخطيرة بمنهج كلامي تقليدي لو حضر أصحابه لاستنكروا صنيعهم هذا، وفي السياق أستشهد هنا بما تمناه الكاتب المصري أحمد أمين من عودة الفكر المعتزلي إلى واقعنا في كتابه ضحى الإسلام: لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم الضعف وشلهم الجبر وقعد بهم التواكل"[6]..

و عليه إن الضجة المفتعلة بخصوص مؤتمر التأسيس لمؤسسة فكرية ثقافية، التي وقع فيها هؤولاء الرافضين للآخر هي في العمق عجزهم عن الموائمة بين الحرية الفكرية الذاتية والقراءة المتعددة فكريا في الواقع، إننا أمام هذا الشكل من أشكال الغطرسة الفكرية والثقافية التي تبخس الآخر حقه في التفكير والتعبير والمواطنة، مع تهميش دوره وعزله لا يسعنا سوى القول: إن هذه الضجة سوى تلوث فكري يحاول تطويق المشهد الثقافي العربي بأي شكل من الأشكال العنفية مسيئا لكل ماهو مقدس حقيقي للإنسان العربي ويؤثر بسلبية بالغة في الواقع العربي..

إن الهدف من السلم الثقافي وتحققه هو البناء المعرفي والابستيمي للفكر والثقافة العربية والإسلامية، ولقد حاولت الوقوف على عدة صور ومشكلات وإشكاليات بعجالة حيث واقعنا مليء بالطروحات الطائفية والعصبية الجاهلية المنافية لمفهوم السلم تماما، وتناولت بالشيء من الإسهاب الشريحة الثالثة من المثقفين لمحاولاتها التوفيق والعمل بجد واجتهاد وحزم وجسارة في التفكير الحر والبناء والبحث عن الحقيقة خارج الصندوق العربي المتوقف في ما بعد الموحدين أو أكثر رجعية من ذلك، كما أشرت في عدة مواضع لضرورات الوعي الثقافي بالدراسات النقدية وخصوصا الظاهرة الدينية، فبينما الغرب انتقل بهرمس إلى اللغوس، نَقَلنَا أهل الضجيج والبلطجة من السلم إلى الاستبداد، ولن يكون هناك سلم ثقافي ما لم يتصالح الفقيه مع الفيلسوف في راهننا... لابد للصراع الفكري في البلاد العربية أن يتهذب بالحوار الموضوعي والحماية الفكرية والقبول بالآخر والتعارف معه، تأسيسا لمجتمع مدني حقيقي مرتكز على قيم التسامح والحوار والتعارف والسلم ...

أختم بحوار جرى بيني وبين أحد الأصدقاء طبيب ببلد أوروبي قبل مدة، حيث قال لي: إنني مندهش في القوم يقرأون في كل مكان حتى في وسائل النقل المكتظة بالناس، فسألته: هل تعلم لماذا يقرأون في كل مكان؟ فأجابني: أكيد للزيادة من المعرفة والثقافة !! فأجبته: هذه جزئية، لكنهم يقرأون في كل مكان لأنه الهدوء متوفر للتركيز والنهل المعرفي، والهدوء دليل احترامهم لبعضهم البعض، وغالبا يقرأون الروايات الهادفة في الأماكن العامة بينما العلوم فلها أمكنتها وأهلها كونهم يحترمون والعلوم وتخصصاتها والآخر المفكر ومشاريعه، هناك سلم ثقافي فعلي نتاجه مجتمع مدني متقدم، وصل لما بعد الحداثة لأنه مجتمع مفتوح على آفاق المعرفة العظيمة كما عبر كارل بوبر وفريديريك هايك...

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث ومترجم

................

[1]

  https://almothaqaf.com/aqlam-3/969699

[2] يمكن العودة إلى كتاب إشكاليات التجديد للمفكر ماجد الغرباوي

[3] راجع كتاب تحرير الوعي الديني الجزء 5 من سلسلة متاهات الحقيقة لماجد الغرباوي، ص 388

[4] ن، م

[5] يمكن العودة لكتاب علم الكلام الجديد للدكتور عبد الجبار الرفاعي للاستيعاب أكثر

[6] ضحى الإسلام الجزء 3 ص 70

 

(التراث كائن حي يحيا في وسط تاريخي ولغوي وجغرافي ويتغذى على التأويل وإرادة الفهم)... غادامير

اللغة روح الأمة والتاريخ ذاكرتها، والأمة التي تجهل او تتجاهل تاريخها هي أمة مريضة بلا ذاكرة اما الأمة التي تتنازل عن لغتها فهي دون ريب في عداد الأموات هكذا كان يفكر المرحوم ساطع الحصري وهو يناقش مسألة العلاقة بين الاصالة والمعاصرة، والحقيقة انه لا يجب ان يفهم من الاعتزاز بهوية الامة وتراثها التنكر لقيم العصر ورفض الاخر، بل ان الحكمة تقتضي المزج بينهما والعمل على احداث التفاعل بين منهج العلم ونسقه التقني الذي يعكس روح هذا العصر واحياء تراثنا المادي واللامادي.

لقد شهدت الجزائر في الأيام الماضية حراكا ثقافيا على مستوى الإعلام الرسمي ومنصات التواصل الاجتماعي حركية أوحت للبعض بوجود ما يشبه الزخم الفكري او السحاب الثقافي لكن لم يكتب لهذا السحاب المفكك ان يتحول الى مطر يسقي العقول ويحيي النفوس المتعطشة لدهشة السؤال والباحثة عن التحرر من قيود السذاجة والتفاهة، فقد غلبت الكثير من المؤسسات والهيئات الرسمية الشكل على المضمون وتجلى ذلك بوضوح ضمن فعاليات الاحتفال بشهر التراث (18 أفريل-18 ماي) وهذه الفعاليات تتوافق في اجندتها مع اليوم العالمي للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية واليوم العالمي للمتاحف والذي جاء هذه السنة تَحت شعار "التراث الثقافي الجزائري وامتداداته الافريقية" تزامنا مع ذلك احتفلت الشقيقة تونس على غرار باقي بلدان العالم بشهر التراث تحت شعار “تراثنا ..رؤية تتطور..تشريعات تواكب”

والمجتمع الدولي يوم 18 أبريل سنوياً يحتفل بفعاليات يوم التراث العالمي. باعتباره اليوم الذي حدده المجلس الدولي للمباني والمواقع الأثرية للاحتفاء به كل عام برعاية منظمة اليونسكو ومنظمة التراث العالمي. وذلك بحسب الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في باريس في عام 1972.وقد جاء الاحتفال بيوم التراث العالمي بغرض حماية المواقع التراثية من العبث وتدميرها. وذلك من خلال إعداد التشريعات والأنظمة والسياسات العامة التي تلزم المؤسسات والأفراد بالحفاظ على المواقع التراثية والأثرية. وفقاً للاتفاقية التي وقعتها اليونسكو.

في مفهوم التراث؟

يمكن العودة الى الندوة التي اشتغلت عليها مجلة الفيصل ضمن اعدادها القديمة في حديثها عن ندوة التراث وسنحاول في هذه الورقة الإشارة الى بعض ما جاء فيها فقد حدد الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، مفهوم التراث قائلا: " تراث أي أمة من الأمم هو موروثها الحضاري في شتى العلوم والفنون والآداب، وتراثنا العربي هو كل ما أبدعه العقل العربي من ذخائر الفكر والعلم والأدب، والفن، وبقي لنا ساطعاً في كتب مخطوطة أو مطبوعة، وهذا التراث العربي يتناول ما دون من آثار أدبية مأثورة عن العصر الجاهلي، ومن معارف وأساطير، وقصص وأحداث تاريخية مروية للجاهليين، كما يتناول الآثار الدينية والأدبية والعقلية والعلمية والفنية التي تركتها الحضارة الإسلامية، والعبقريون من أسلافنا المسلمين على اختلاف عصور التاريخ، منذ ظهور الإسلام حتى العصر الحديث بل حتى اليوم " ويطلق لفظ التراث، بالمعنى الواسع، على نتاج الحضارة في جميع ميادين النشاط الإنساني، من علم وفكر وأدب وفن، ومأثورات شعبية وآثار ومعمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي و كلمة تراث مأخوذة من مادة (ورث) والتي تدور معانيها حول حصول المتأخر على نصيب مادي أو معنوي ممن سبقه، ويقول الأستاذ عبد السلام هارون مانصه: أجمع اللغويون على أن التراث ما يخلفه الرجل لورثته، وأن (تاءه) أصلها (الواو) أي: (الوراث)، وله نظائر في كلمات أخرى منها: التجاه وأصلها الوجاه أي الجهة .. وهكذا يدور قلب الواو المقصورة لهذه الكلمات ثاء، لأنها أحيذ من الواو، ولا تتغير بتغير أحوال ما قبلها كما يقولون . ولعل من أقدم النصوص التي وردت فيها هذه الكلمة ما جاء في القرآن الكريم من سورة الفجر: (وتأكلون التراث أكلاً لما) كانوا في جاهليتهم يمنعون توريث النساء وصغار الأولاد ... ومدلول التراث عرف حركية وتبدلا في العصور الحديثة فقد تشعب البحث في كل الميادين وأصبح هناك تراث تاريخي. وتراث حضاري وتراث في الفن والأدب.

وتاريخيا العلماء العرب كان لهم السبق في شتى مجالات الفكر الإنساني ويرجع اليهم الفضل في كثير من العلوم المستحدثة، وتذكر (ابن فارس) في كتابه (مقاييس اللغة (الذي استطاع أن يستنبط نظرية لغوية دقيقة لم يسبقه إليها مفکر، حيث أرجع كل مادة لغوية من مواد المعاجم إلى أصل أو أصلين أو عدة أصول معنوية، وهذه النظرية تعتبر من الأعمال الفريدة في عالم التأليف، وكذلك (ابن خلدون) في كتابه (مقدمة ابن خلدون)، والزمخشري في كتابه أساس البلاغة)، وابن سينا في كتابه (القانون)، ونصير الدين الطوسي صاحب على حساب المثلثات، وكذالك الخوارزمي صاحب علم الجبر والبصري صاحب علم الضوء .. ...

أهمية التراث تتمثل فيما يلي:

- إنه يمثل قيمة تاريخية فريدة ثمنه

- انه يكشف لنا عن تطور الإنسانية في عصورها الماضية، الأمر الذي يجعلنا على قدرة من استكشاف المستقبل واستشعاره.

- إنه يمثل قيمة قومية فهو يحمل قيمة تعلو على كل قيمة.

- إنه الأساس الذي يجب أن نبني عليه نهضتنا المعاصرة.

كيف يمكن الاعتناء بالتراث؟

يجيب الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عن هذا التساؤل بأن أي خطة لأحياء التراث والاستفادة منه يجب ان تتضمن ما يلي:

- نقيم المؤتمرات العلمية الدائمة من أجل خدمة التراث .

- زيادة عناية مراكز التراث في جامعاتنا به عناية أكثر .

- ضرورة الاستفادة بما سبق من تجارب الأمم الأخرى

- تدريب طائفة كبيرة من المشتغلين بالتراث على العمل من أجل خدمته وتحقيقه

- نشر خلاصات علمية لأهم ما نقف عليه من كنوز علمية .

- الفهرسة البيبليوجرافية الكاملة لمخطوطاتنا،

- تحسين مردودية التراث الوطني بين مختلف القطاعات ليصبح قطاعا واعدا وحيويا خالقا للثروة.

- أهمية التراث وقيمته العلمية والإنسانية لنا عملية معقدة تحتاج إلى (التمويل)، فإن وجد هذا التمويل بالقدر الكافي وضعت الخطة اللازمة لإنقاذ التراث من الدمار.

النصوص القانونية لحماية التراث في الجزائر

النصوص عديدة ولا يمكن حصرها وسنكتفي بالإشارة الى بعضها

1- الدستور:

أولى الدستور الجزائري الجديد ولأول مرة وبشكل صريح أهمية للتراث الثقافي، حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة 76 ما نصه: "تحمي الدولة التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2020، ص. 18).

2- قانون الولاية:

تضمن قانون رقم 12 – 07 مؤرخ في 28 ربيع الأول عام 1433 الموافق 21 فبراير سنة 2012 المتعلق بالولاية مادتين فيهما ما يفيد بضرورة مساهمة المجلس الشعبي الولائي في إنشاء الهياكل الخاصة "بحماية التراث التاريخي والحفاظ عليه بالتشاور مع البلديات وكل الهيئات الأخرى المكلفة بترقية هذه النشاطات أو الجمعيات التي تنشط في هذا الميدان" حسب المادة 97.

كما يساهم حسب المادة 98: "في حماية التراث الثقافي والفني والتاريخي والحفاظ عليه بمساهمة الصالح التقنية المؤهلة وبالتنسيق مع البلديات وكل هيئة وجمعية معنية. ويطور كل عمل يرمي إلى ترقية التراث الثقافي والفني والتاريخي بالاتصال مع المؤسسات والجمعيات المعنية ويقترح كل التدابير الضرورية لتثمينه والحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2012، صص. 5-25).

3- قانون البلدية:

تضمن قانون رقم 11 – 10 مؤرخ في 20 رجب عام 1432 الموافق 22 يونيو سنة 2011، يتعلق بالبلدية في المادة 116 ما فيه إشارة إلى أن البلدية بمساهمة اJصالح التقنية المؤهلة، على المحافظة وحماية الأملاك العقارية الثقافية والحماية والحفاظ على الانسجام الهندسي للتجمعات السكنية وذلك في إطار حماية التراث المعماري وطبقا للتشريع والتنظيم المعمول بهما المتعلقة بالسكن والتعمير والمحافظة على التراث الثقافي وحمايته (الجريدة الرسمية، 2011، صص. 4-28).

4- قانون الجمارك:

نص القانون رقم 79 – 07 مؤرخ في 26 شعبان عام 1399 الموافق 21 يوليو سنة 1979 يتضمن قانون الجمارك، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 10 مؤرخ في 29 ربي الثاني عام 1419 الموافق 22 غشت سنة 1998، والمعدل والمتمم أيضا بالقانون رقم 17 – 04 مؤرخ في 19 جمادي الأولى عام 1438 الموافق 16 فبراير سنة 2017، في فقرة من المادة الثالثة منه على أن إدارة الجمارك من مهامها السهر على حماية "التراث الفني والثقافي"، و"مكافحة المساس بحقوق الملكية الفكرية والاستيراد والتصدير غير المشروعين للممتلكات الثقافية"، وقد أوجد المشرع من أجل ذلك عدة إجراءات عقابية في حق مرتكبي جرم تهريب أو بيع وتصدير أو استيراد بدون وجه قانوني لكل ما له صلة بالتراث الثقافي (الجريدة الرسمية، 1979، ص 678. الجريدة الرسمية، 1998، صص. 6-60 ؛ الجريدة الرسمية، 2017، ص. 5).

5- القانون البحري:

تضمن الأمر رقم 76 – 80 مؤرخ في 29 شوال عام 1396 الموافق 23 أكتوبر سنة 1976 يتضمن القانون البحري، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 05 مؤرخ في أول ربيع الأول عام 1419 الموافق 25 يونيو سنة 1998، والقانون رقم 10 – 04 مؤرخ في 5 رمضان عام 1431 الموافق 15 غشت سنة 2010، نصوصا تحمي حطام السفن وكل الممتلكات الثقافية والتاريخية الغارقة في عرض البحر ضمن حدود المياه الإقليمية للجزائر، وحدد الآليات والعقوبات المرتبطة بها في القسم الرابع منه والخاص بإنقاذ حطام السفن، خاصة المادة 358، 360، 381 (الجريدة الرسمية، 1977، العدد 29؛ الجريدة الرسمية، 1998، العدد 47 ؛ الجريدة الرسمية، 2010، العدد 46).

6- قانون الأملاك الوطنية العمومية:

أكد المشرع الجزائري في القانون رقم 90 – 30 المؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتضمن قانون الأملاك الوطنية المعدل والمتمم بالقانون رقم 08 – 14 المؤرخ في 17 رجب عام 1429 الموافق 20 يوليو سنة 2008، على أن "الآثار العمومية والمتاحف والأماكن الأثرية" و"الأعمال الفنية ومجموعات التحف المصنفة" و"المحفوظات الوطنية" و"حقوق التأليف وحقوق الملكية الثقافية الآيلة إلى الأملاك الوطنية العمومية" تعد من ضمن الأملاك الوطنية العمومية (الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52 ؛ الجريدة الرسمية، 2008، العدد 44).

7- قانون التهيئة والتعمير:

أولى المشرع في مختلف النصوص القانونية المتعلقة بالتهيئة والتعمير عناية كبيرة بأخذ كل الاحتياطات الضرورية التي يستوجبها التراث الثقافي المادي خاصة المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية أثناء إعداد مخططات التعمير وشغل الأراضي، حيث أفرد لها قسما ضمن القانون رقم 90 – 29 مؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتعلق بالتهيئة والتعمير، المعدل والمتمم بالقانون رقم 04 – 05 مؤرخ في 27 جمادي الثانية عام 1425 الموافق 14 غشت سنة 2004 (الجريدة الرسمية، 2001، العدد 77 ؛ الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52).

8- قانون العقوبات:

تضمن الأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات، المعدل والمتمم نصا صريحا في المادة 160 من هي جرم ويعاقب مرتكبي مختلف المخالفات التي تخص التراث الثقافي بما فيها الاتلاف أو الهدم أو التشويه والتخريب (الجريدة الرسمية، 1966، العدد 49). كما حددت المادة 350 مكرر 1 و350 مكرر 2 من القانون رقم 09 – 01 مؤرخ في 29 صفر عام 1430 الموافق فبراير سنة 2009، المعدل والمتمم للأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات على أنه يعاقب "كل من سرق أو حاول سرقة ممتلك ثقافي منقول محمي أو معرف" (الجريدة الرسمية، 2009، العدد 15).

9- قانون مكافحة التهريب:

حدد الأمر رقم 05 – 06 المؤرخ في 18 رجب عام 1426 الموافق 23 غشت سنة 2005 والمتعلق بمكافحة التهريب المعدل والمتمم عقوبات مشددة على مرتكبي جرم تهريب "التحف الفنية أو الممتلكات الأثرية" حسب المادة 10 والتي تصل العقوبة إلى الحبس لمدة 10 سنوات، وغرامات مالية تساوي عشر مرات قيمة البضاعة، وتتضاعف هذه العقوبات في حالة استعمال وسيلة النقل حسب ما جاء في المادة 12 منه (الجريدة الرسمية، 2005، العدد 59).

***

علي عمرون  - الجزائر

 

لا ندري أين وصل المشروع العراقي للطاقة السلمية، وهل أجازته الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) وهي التي لها شروط ومتطلبات وإلتزامات وضمانات أساسية هامة عديدة، تُلزِم البلد تنفيذها قبل منحه الرخصة والضوء الأخضر للشروع بإنشاء المفاعل النووي أو محطة للطاقة النووية السلمية.

الوكالة الدولية مخولة دولياً في هذا المجال، وهي تحتكم لمعاييرها التي توفر نظاماً لمبادئ الأمان الأساسية، وصولآ لضمان حماية الناس والبيئة من التأثيرات الضارة للإشعاعات المؤينة. وقد ُوِضعتها لتطبق في جميع أنواع مرافق الإستخدامات النووية السلمية، وكذلك في الأنشطة النووية التي تُستخدم في الإجراءات الوقائية لتقليص المخاطر الإشعاعية القائمة. وتتحقق من خلال نظام المراقبة والتفتييش، وامتثال الدول الأعضاء للإلتزامات التي قطعتها على نفسها بموجب الإتفاقيات الدولية المتلقة بحظر إنتشار الأسلحة النووية، والإمتناع عن استخدام المواد والمرافق النووية لغير الأغراض السلمية.

وعدا هذا، فالوكالة الدولية تُعُدُ محور المشروعات النووية للأغراض السلمية. وهي تروج وتعمل مع الدول الأعضاء والشركاء في جميع أنحاء العالم لتعزيز الإستخدامات الآمنة والمأمونة والسلمية للطاقة الذرية وللتكنولوجيات النووية.

ضمن توجيهاتها، تنبه الوكالة الدولية الحكومات التي تفكر بإختيار الطاقة النووية السلمية الى ان إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة/ ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية، الخ. تتطلب أموالآ طائلة لابد من توفيرها.

ووضغت الوكالة وثيقة إرشادية ليسترشد بها صانعي القرار عند التفكير بالمشروع. وتبين إمكانية تقسيم الفترة ما بين الفكرة المبدئية لتبني خيار الطاقة النووية السلمية وحتى البدء في تشغيل محطة الطاقة النووية / المفاعل، الى 3 مراحل:

1- إجراء دراسات قبل إتخاذ القرار، والبدء بإطلاق برنامج الطاقة النووية.

2- القيام بأعمال تحضيرية لإنشاء المفاعل/ المحطة/ بعد إتخاذ القرار السياسي.

3- أنشطة لتنفيذ برامج الطاقة النووية.

ومن هذه الأنشطة ما يتعلق بإحتياجات البنية التحتية، التي تشتمل على مكونات متعددة، بدءاً من البنية التحتية الصناعية، مثل مرافق التصنيع، والإطار القانوني والتنظيمي، والإجراءات المؤسساتية لضمان الأمان والأمن، وحتى الموارد البشرية، والمالية، كإدراك مطلوب بان الطاقة النووية تقوم على تكنولوجيا متقدمة، ولذا تتطلب بنية تحتية متقدمة مماثلة.

ومن الشروط والإلتزامات ما يتعلق بالمشروع وحيثياته وأغراضه. وأخرى بالمفاعل النووي/ المحطة النووية. وثالثة بالقوى البشرية المطلوبة لإدارته و لضمان تشغيله وفق الأمان النووي والإستعداد للطوائ، وغيرها.

إن جميع الإلتزامات والمتطلبات مشروطة بعقد إتفاق للإلتزامات وللتعهدات والضمانات، يُعقد بين حكومة البلد والوكالة الدولية، هدفه تأمين السلامة النووية والإشعاعية، وصولآ لتحقيق أعلى معايير الأمان والأمن للمفاعل النووي، ولأنشطة مرافق المشروع، والحماية الملائمة للإنسان والبيئة من آثار الإشعاع المؤين الضارة، ومن أي تعرض إشعاعي فعلي أو محتمل. وكذلك الأمان في سلامة نقل المواد المشعة، وعند استيراد وتصدير المواد النووية ومتعلقاتها.

وهكذا، في تسلسل المتطلبات يأتي: إستحصال الموافقة الأصولية، أي الإجازة، من الوكالة الدولية. وأول الضمانات الألتزام بتنفيذ بنود المعاهدة الدولية لحظر إنتشار الأسلحة النووية، ثم الإنضمام إلى الأطراف المتعاقدة في اتفاقية الأمان النووي، التي تهدف إلى إلزام البلدان التي تشغِّل محطات قوى نووية أرضية بالحفاظ على مستوى رفيع من الأمان، والتخلص الآمن من النفايات النووية الخطرة، وتجنب مخاطر الطاقة النووية الضارة بالإنسان والبيئة معاً، ومنها تسرب مياه المفاعل أو مواده المشعة، و حدوث ذوبان للمفاعل النووي، مما يؤدي الى كارثة وخسائر بشرية ومادية جسيمة، لا تقتصر على البلد وإنما تهدد الدول المجاورة. ولذا تُعدُ الطاقة النووية من الصناعات المرتبطة بالمجتمع الدولي، رغم كونها محلية بطبيعتها، ومن هنا مشاركة عوامل دولية عديدة يتعين أخذها في الحسبان عند إنشائها، ومراقبة تشغيلها، وقبل ذلك، في مساندة إجازتها أو معارضتها..

ومن المتطلبات أيضاً ما يتعلق بالبنية التحتية للمفاعل النووي للإستخدامات السلمية، بدءاً من موقعه، الذي ولو يشغل مساحة جغرافية ليست كبيرة نسبيا من الأرض، لكنه يستلزم بنية تحتية خاصة، بحيث تكون الأرض، التي يُبنى عليها، أرضاً صلبة، ومتينة، وملائمة. وان يبنى المفاعل النووي عقب إجازته ً في موقع مناسب، ويُشترط ان لا يقع في منطقة زلازل أو معرضاً لكوارث طبيعية أخرى. ويكون بعيدً جداً عن المناطق السكنية، وعن مقرات مراكز ودوائر الدولة والمؤسسات الأخرى، كالمدارس والمحال التجارية والمعامل والمتنزهات وأماكن الراحة..

ولابد من الأخذ بالحسبان إزدواجية الطاقة النووية السلمية، فهي عدا فوائدها العديدة، ثها مخاطر تهدد الإنسان والبيئة معاً. فالمفاعلات النووية لتوليد الطاقة النووية السلمية تحتاج إلى وقود من اليورانيوم المخصب عالي الإشعاع (U-235). وان عملية الحصول عليه تخلف نفايات مشعة بالغة الخطورة على البشر والحيوانات والنباتات. كما يسبب الماء المستخدم في المفاعلات النووية بمشكلات تهدد سلامة البيئة والمياه الجوفية بإشعاعاتها الخطيرة.

إقترانا بذلك، يتعين ان يتوفر في المشروع جناحاً لعملية معالجة منتوجات المفاعل الثانوية المشعة، والتخلص من النفايات النووية الخطرة، الناتجة من عمله، بطريقة تتفق مع المعاهدات الدولية، وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تشترط وتراقب وتشرف على تطبيق إستخدام العلوم والتكنولوجيا النووية إستخداماً سلمياً واَمناً. وهذه المهمة تتطلب تقنيات عالية لتفادي الأضرار، إضافة لتوفير كوادر علمية وفنية متدربة وكفؤة للتعامل بها.

نتوقف بإختصارعند المشروع العراقي المطروح، والذي أُطلقت عنه تصريحات رسمية إفتقرت للدراية بمتطلبات الوكالة الدولية. ففي 26/3/ 2024 أدلى رئيس هيئة الطاقة الذرية والوزير نعيم العبودي بتصريح أعلن فيه: " الموقع المختار لإقامة المفاعل سيتم تطهيره من التلوث الإشعاعي".. أي أن المفاعل النووي للطاقة السلمية العراقي، سيبنى في موقع أقل ما يقال عنه غير ملائم تماماً، وذلك لكونه ملوث بالإشعاع. وهذا مخالفة صريحة لمتطلبات وضمانات إجازته..

فالموقع الذي تحدث عنه يقع، غالباً، في التويثة، أي في الموقع السابق لمقر الطاقة الذرية العراقية، الذي تم قصفه من قبل إسرائيل في عام 1981، ومن ثم قصفته القوات الأمريكية عدة مرات، في أعوام 1991 و 1998 و 2003. ولم يعد سراً انه ملوث بإشعاع عالي وخطير جداً. فوفقاً للدكتور م. د. أستاذ الفيزياء الذرية السابق في جامعة بغداد، يُعدُ (مفاعل تموز) في التويثة من أكثر المناطق الملوثة إشعاعيا في العراق. وان مخلفات المفاعل وركامه ملوثة بنسب تصل إلى أكثر من ألف ضعف الحد المسموح به دوليا، وهذه النسب حددها فريق خاص في الأمم المتحدة كان قد زار الموقع.

وليس سراً أيضاً ان عمليات تنظيف الموقع بدأت منذ 18عاماً، ولم تنته لحد اليوم. و ليس مستبعداً سوء الإدارة البيئية، وتجاهل إدارة الطوارئ، إضافة للإستهانة بمخاطر التلوث، هي التي حالت دون إتمام تنظيفه لحد الآن. وقد كشفت تقارير إستقصائية وتسريبات وجود تعتيم وتستر على واقع حال التلوث الإشعاعي الخطير في موقع التويثة، الذي بسببه سمي "تشرنوبيل العراق"، والذي حصدت إشعاعاته القاتلة أرواح أعداداً كبيرة من المواطنين، من سكان المناطق القريبة للموقع، كالرياض والجعارة والوردية وجسر ديالى والزعفرانية والمدائن، إضافة للعشرات من الموظفين التابعين لدوائر وزارة العلوم والتكنولوجيا، الذين شاركوا في عملية التنظيف، وأُصيبوا بالسرطان وعلل أخرى غير قابلة للعلاج..

وكانت عضو لجنة الصحة والبيئة البرلمانية النائبة اكتفاء الحسناوي، قد كشف تقديم الوكالة الدولية للطاقة الذرية 80 ملاحظة بشأن اشعاعات (مفاعل تموز) وتصفيته، جواباً على استفسارات وزارة العلوم والتكنولوجيا. ونصحت بعدم طمر نفاياته المشعة إلا بتطبيق التوصيات التي وضعتها بشكل صحيح. وتحدث عضو مجلس النواب، محمد البلداوي، عن صعوبات بمعالجة التلوث الإشعاعي للمفاعل المضروب، مؤكداً " ان المعالجة ليست بللمعايير العالمية". ودعا الحكومة الى " التعامل مع ملف التويثة على أنه ملف خطر".. سنعود للملف لاحقاً..

ختاماً، إذا صح ما كشفه العبودي، نجزم بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لن تسمح بتشييد مفاعل نووي في منطقة موبؤة بالإشعاع القاتل. وإذا واصل المسؤولون العراقيون تخبطهم، وإفتقارهم للمعرفة، فان المشروع العراقي للطاقة النووية السلمية برمته لن يرى النور لا الآن ولا بعد 10 سنوات !

***

د. كاظم المقدادي

أكاديمي عراقي متقاعد - مقيم في السويد

 

مع أن مؤسسة تكوين افتتحت قبل فترة بشكل غير رسمي عن طريق موقعها في الشبكة العالمية؛ إلا أنه لم يحدث ذلك الضجيج في وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما حدث في مؤتمرها الأول في المتحف المصري الكبير، والذي سمي بمؤتمر التأسيس، وقد ظهر فيه أمناء المؤسسة، وهم: يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري من مصر، وفراس السواح من سوريا، وألفة يوسف من تونس، ونايلة أبي نادر من لبنان، وقد شارك في المؤتمر مجموعة من الباحثين والناقدين وعلماء من المسلمين والمسيحيين.

والمؤتمر كعادة المؤتمرات تمر أوراق أيامها دون ضجيج، ويخلصون إلى توصيات تنشر في وسائل الإعلام، قد تتحول إلى مشروع عملي، وقد تبقى -كالعادة - في ذاكرة التأريخ، ولكن ما حدث هنا؛ أن هناك من أثار ضجيجا حول مؤسسة تماثل مسجد الضرار، هدفها نشر الإلحاد، وهدم ثوابت الدين، والتشكيك بمسلمات المسلمين، وإباحة الفواحش والمحرمات، وإنكار السنة، وأنها ممولة من جهات مشبوهة، جعلت القاهرة مقرا لها، واتخذت من اسم أول سفر في التوراة عنوانا يميزها.

ولولا هذا الضجيج لما علم الناس عن المؤسسة ولا عن مؤتمرها الأول شيئا، إلا من قبل المهتمين بالفلسفة والفكر والتنوير، ثم من حقهم النقد، وهذه حالة صحية، لكنه ليس صحيا أبدًا هذا التجييش - إن صح التعبير- الذي هو أقرب إلى العاطفة والإقصاء منه النقد والتفنيد العلمي، وهذه التهم الجاهزة، والتي تظهر الأديان ومنها الإسلام، وكأنها في حال ضعف يرثى له، وأن الإسلام سوف يسقط بالكلية لوجود مؤسسة كهذه، أو مؤتمرات تقام بين فترة وأخرى.

مع أن مصر نفسها يوجد فيها أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، وهي مؤسسة الأزهر الشريف، وفيها من الإمكانات والأوقاف ما لا يقارن بما عند مؤسسة تكوين، فضلا عن جامعتها ومدارسها وفروعها داخل وخارج مصر، وعن منشوراتها ومطبوعاتها ومؤتمراتها الدورية، فضلًا عن المؤسسات الإسلامية والمسيحية الأخرى في مصر ذاتها، وفي غير مصر بالمئات، مع رابطة العالم الإسلامي، وهيئة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوزات والجامعات شرقا وغربا، فهذه تستطيع التفنيد والنقد بإمكاناتها العديدة بكل سهولة ويسر، بيد أنهم بهذا الضجيج يظهرون الإسلام أنه سوف يسقط بوجود مؤسسة أو مؤتمر له صبغة فلسفية علمانية أو حداثوية أو تنويرية في مصر أو غيرها، كما حدث سابقا مثلا مع مؤسسة (مؤمنون بلا حدود).

والضجيج فيما يبدو لي ليس مع المؤسسة كمؤسسة، فشعارها كما في موقعها «تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين»، الضجيج في نظري كان مع بعض الرموز الذين بفكرهم أثاروا شيئا من الجدل سابقا، فهو ضجيج أقرب إلى شخصنة المؤتمر أو المؤسسة من نقد ما خرج به المؤتمر ذاته، وكان على الأقل في الاتجاه المقابل لها أن يخرج من مرحلة الضجيج إلى ردات الفعل إذا كان نقديًا، وإذا لم يستطع أن يكون في مرحلة تأسيس الفعل، وهي حالة متقدمة جدا.

فالضجيج لا يجدي شيئًا من الجانبين، أو من أي جانب آخر، فهناك ضجيج أيضا يحدثه الطرف الآخر ضد اتجاهات إسلامية أو أصولية أو حركية، نراه بين حين وآخر، ولا يصح لأحد إقصاء الآخر، وكأن الفضاء ملك له، ثم لا يجوز استجداء السلطة، والأصل في الدولة أن تكون مركزية تحمي الجميع، وتترك التدافع بشكل طبيعي ليتهذب، لا ليتصارع ويتنافر.

هذا الضجيج بسلبياته وإن ظهر مناصروه البطولة فيه لا يجدي شيئا كما أسلفت، فالفكرة تتقوى وتنتشر بأي ضجيج حولها، بينما تتدافع وتتهذب إن قوبلت بالنقد والفكرة الأخرى، وفي مصر الحديثة ذاتها نماذج عديدة، فمحمد عبده اتهم بالماسونية، ومنهم من كفره ومنع من التدريس في الأزهر، وتعاونت السلطة الدينية مع السلطة السياسية لينفى خارج مصر، ثم حدث الأمر مع تلميذه قاسم أمين ورؤيته حول تحرير المرأة، وعلي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم، ثم محمود أبو رية ورؤيته حول السنة وأبي هريرة، وخالد محمد خالد وكتابه من هنا نبدأ، وهكذا حتى طه حسين وكتابه حول الشعر الجاهلي، فذلك الضجيج ذهب كغيره، فهو أقرب إلى الهواء المرسل، وبقي ما تدافع معه نقدا وتفكيكا، لتتقبل العديد من أفكارهم المؤسسة الدينية نفسها، ومنها الأزهر فيما كتبه هؤلاء أو بعضه، ويتدافع معه حتى اليوم في حوزاتها وجامعاتها، ولهذا رفض محمود شلتوت مصادرة الكتب وما يحمله من فكر، فالكتاب يواجه بالكتاب، والفكرة تواجه بالفكرة.

ثم إطلاق التهم جزافًا عن طريق الضجيج إن كان كلامًا مرسلًا سيمر كغيره من الكلام، ولكن تهييج العقل الجمعي به من جهة، واستجداء السلطة من جهة ثانية، قد يؤدي إلى نتائج سلبية، تسجل كنقاط سلبية في تأريخ مجتمعاتنا المعاصرة، فعلي عبد الرازق أقصي وطرد من وظيفته، ونجيب محفوظ طعن في رقبته، وفرج فودة قتل وهو في طريقه ومعه ابنه الصغير، ونصر حامد أبو زيد حكم عليه بالردة، وأرادوا إبطال رابطته بزوجه ابتهال يونس.

أيضا علينا أن ندرك أن فضاء المعرفة اليوم، ومنها المعرفة الدينية ليست حكرًا على المؤسسة الدينية، وليست حكرًا على رجال بأعيانهم، ولا على مؤسسات معينة، ولو غلقنا دولنا القطرية لأي اتجاه آخر؛ فإن الفضاء اليوم لا يمكن غلقه، والعالم مفتوح على بعضه، وأصبحت في المقابل رموز عقلية لها مكانتها المعرفية والنقدية، لا يخلو منها قطر إسلامي أو عربي، ولهم حضورهم في وسائل التواصل وغيرها، فلا مفر اليوم إلا أن نعترف بالآخر، وأن نتدافع معه علميا وفكريا، وأن نتجاوز مرحلة الضجيج والتهييج السلبي وإصدار الأحكام المسبقة، وألّا ندور في دائرة الشخصنة والخوف وردات الفعل بشكل سلبي ومبالغ فيه.

***

بدر العبري

على الرغم من اندياح صيت العقيدة الماركسية على مستوى جهات العالم الأربع، بسبب كونها من أكثر الفلسفات تعبيرا"عن التصورات (العقلانية)، وأشدّ المنهجيات تمسكا"بالأساليب (الواقعية). إلاّ أنها وبرغم ذلك – وربما بسبب طابعها الكوني ونزوعها الشمولي – تعد من أكثر الفلسفات عرضة لسهام (النقد) وطعون (المراجعات) منذ أن أبصرت النور عند منتصف القرن التاسع وحتى يومنا هذا، ليس فقط من جانب خصومها العديدين وأعدائها المتنوعين فحسب، وإنما من قبل المنتمين إليها والمحسوبين عليها من مختلف تيارات الأنصار والمشايعين أيضا".

ولما كانت الماركسية تتكون من ثلاثة أقسام رئيسية هي؛ المادية بشقيها الفلسفي والتاريخي، والاقتصاد السياسي، والشيوعية العلمية. فقد أثيرت حول الأقسام المتعلقة بقضايا التاريخ وشؤون المجتمع الكثير من التساؤلات والعديد من الإشكاليات التي لا يبدو أنها ستقف أو تنتهي عند حدّ معين، طالما أن مباحثها تتناول تلك القضايا بطريقة أعمق وأوسع مما تفعل بقية الأقسام المعنية بالجوانب الفلسفية المجردة. ولعل مسائل من مثل؛ مراحل التطور الاجتماعي، وأنماط الإنتاج الاقتصادي، والتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، كانت الشغل الشاغل لأجيال متعاقبة من المنظرين والباحثين الماركسيين، الذين حاول كل واحد منهم إثبات وجهة نظره الخاصة حيال الكيفية التي تعمل بها السيرورات والديناميات والتفاعلات المسؤولة عن حصول التغييرات والتطورات في البنى والأنساق والسياقات، على إيقاع الأواليات الجدلية التي تخترق الظواهر الاجتماعية عموديا"وأفقيا"لتعيد تشكيلها على نحو دائم.

وفي هذا الإطار، فقد تربعت مقولة (التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية) وما يترتب عليها ويتمخض عنها من (أنماط إنتاجية) متنوعة، صدارة الجدالات النظرية والنقاشات المنهجية لا على مستوى العالم الغربي بصيغ فلسفات ونظريات ومنهجيات فحسب، بل وكذلك على مستوى العالم الشرقي ولواحقه بصيغ خلافات واختلافات وتقاطعات. ففي الوقت الذي لم تعد فيه الأطروحة الماركسية التقليدية حول التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الخماسية (المشاعية، والعبودية، والإقطاعية، والرأسمالية، والشيوعية) تحظى بالقبول والموافقة من لدن الكثير دون نقاش أو تساؤل كما لو أنها معطيات تعلو على الواقع وتتسامى فوق التاريخ , بحيث ينظر إليها كمعيار مطلق لكشف ميول (الأصدقاء) أو (الأعداء) الافتراضيين، سواء ممن ينتمون الى معسكر اليسار أو ينخرطون في مواقف اليمين.

ولذلك فقد أظهرت الدراسات والبحوث التاريخية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة التي أنتجها طيف واسع من الماركسيين (الجدد)، ان جدليات التطور والتغير في المجتمعات البشرية من التعقيد والتشابك والتفاعل بحيث لا يمكن حشرها ضمن أطر نظرية ثابتة أو صبها في قوالب إيديولوجية جامدة. وهو الأمر الذي حدا بالانثروبولوجيان الغربيان (كريس هان) و(كيث هارت) تضمين كتابهما المشترك (الانثروبولوجيا الاقتصادية)، بعض الإشارات والملاحظات المنهجية التي مؤداها (ان أفكار ماركس عن تعاقب أنماط الإنتاج في التاريخ هي، في أحسن حالاتها، أفكار تمهيدية)، مثلما ان (الانثروبولوجيا الاقتصادية عند ماركس هي مجموعة من البناءات التحليلية عن نمط الإنتاج الرأسمالي، يعدّلها وعي العالم الذي سبق الرأسمالية ويقع خارج نمطها).

والحقيقة ان هذه الإشارات والملاحظات لا تعدو أن تكون تتويجا "لسلسلة طويلة من السجلات المتقادمة والتحليلات المتراكمة، التي اندلع النقاش حولها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي تعبيرا "عن طبيعة الانقسامات الحاصلة داخل المعسكر الشيوعي - الماركسي ذاته حول جملة من القضايا الفكرية والمنهجية التي لم يعد ممكنا "تخطيها أو تجاهلها. ففريق أول استمر مصرا"على التمسك بالمقولات والأطروحات التقليدية التي تعكس الصور النمطية لسيرورة التشكيلات (الخماسية)، دون السماح بإدخال أية تعديلات يمكن أن تحيد عن الصراطات المستقيمة التي أضحت من جملة عوائق تطور العقيدة الماركسية. في حين ارتأى فريق ثان ضرورة إخضاع تلك المقولات والأطروحات لسنّة التطور الاجتماعي، ليس فقط تمشيا" مع المنهجية الديالكتيكية للماركسية التي شكلت حجر الأساس في منظوماتها فحسب، وإنما لمواكبة التحولات النوعية التي لا تفتأ تتعرض لها المجتمعات الغربية والشرقية على حدّ سواء.

وفي خضم تلك السجالات والجدالات العاصفة والساخنة في بعض الأحيان، ظهرت العديد من الآراء والأفكار الداعية الى الخروج عن قوالب النسق التقليدي لأنماط الإنتاج (الخماسية) المتداولة، والتي اجترحت بالأصل كمقاربة لتفسير الإيقاع التطوري في المجتمعات الغربية، كون هذه الأخيرة لا تستجيب أو لا تتوافق مع أشكال التمرحل الإنتاجي للمجتمعات الشرقية – الآسيوية كما أوضح أصحاب تلك الآراء. وكما لاحظ المؤرخ والمفكر الاقتصادي العراقي (عصام الخفاجي) انه (في أواخر الستينات وطوال السبعينات كانت الموضة السائدة بين الانثروبولوجيين الماركسيين أن يختتموا دراساتهم العميقة لمناطق أو جماعات معينة بمحاولة البرهان على أن تلك الأشكال من التنظيم الاجتماعي التي درسوها تمثل نمط إنتاج متميز، فخرج علينا دوبري وراي بمفهوم (نمط الإنتاج السلالي)، في حين وصفت كوكري فيدوفيتش ما أسمته (نمط الإنتاج الإفريقي). هذا بالإضافة الى (نمط الإنتاج الآسيوي) الذي سبق لماركس أن أشار إليه في إطار تحليلاته لبنى المجتمعات الزراعية ما قبل الرأسمالية، مثلما (نمط الإنتاج البدوي) الذي اقترحه المؤرخ (بيري أندرسون) لتفسير الطبيعة النوعية لتلك المجتمعات التي لا تزال عالقة بين الطورين البدوي والإقطاعي.

أخيرا"، ولأن طبيعة الموضوع لا تتناسب وحجم المسموح به ضمن هذه الصفحة، فإننا نأمل ان الإجابة عن سؤال؛ هل يعكس هذا التشظي في المقولات والمصطلحات دلائل (مكاسب معرفية أو انحرافات إيديولوجية)، ستكون حافزا" لمقالات أخرى.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث من العراق

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

رُوي أنَّ (حُيَيَّ بن أَخْطَبَ النَّضْرِيَّ) خرج «حَتَّى أَتَى كَعْبَ بن أَسَدٍ القُرَظِيَّ، صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وعَهْدِهِمْ، وكَانَ قد وَادَعَ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلَى قَوْمِهِ، وعَاقَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وعَاهَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ بَابَ حِصْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ.» فدار بينهما هذا الحوار، الذي يصحُّ أن نُسمِّية (حوار وَيْحَ)؛ لكثرة ما تردَّدت فيه هذه العبارة:

- «وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ! افْتَحْ لِي!

- وَيْحكَ، يَا حُيَيُّ: إنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤومٌ! وإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وبَيْنَهُ، ولَمْ أَرَ مِنْهُ إلَّا وَفَاءً وصِدْقًا.

- وَيْحَكَ، افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ!

-مَا أَنَا بِفَاعِلِ!

- واللهِ، إنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إلَّا عَنْ جَشِيشَتِكَ، أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا!

فَأُحْفِظَ الرَّجُلُ(1)؛ فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ:

- وَيْحَكَ، يَا كَعْبُ، جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِـ(قُرَيْشٍ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ (رُومَةَ)، وبِـ(غَطَفَانَ) عَلَى قَادَتِهَا وسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ (نَقْمَى) إلَى جَانِبِ (أُحُدٍ)، قَدْ عَاهَدُونِي وعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ (مُحَمَّدًا) ومَنْ مَعَهُ.

- جِئْتَنِي، واللهِ، بِذُلِّ الدَّهْرِ، وبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ، فَهُوَ يَرْعُدُ ويَبْرُقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ، يَا حُيَيُّ! فَدَعْنِي ومَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَّا صِدْقًا ووَفَاءً.

فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ والغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنْ اللهِ ومِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وغَطَفَانُ، ولَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي ما أَصَابَكَ. فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ الله.»(2)

كذا ناوشنا (ذو القُروح) بحكاية (حُيَيٍّ وكعب) المشار إليها. قلتُ:

- فما جزاء من فعلَ ذلك؟! 

- إنَّما نَكَب نفسه بنفسه.  فاليهود أخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ونالوا جزاء خياناتهم المتعاقبة؛ «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه».  وما أشبه حِوار (حُيَيٍّ وكَعْبٍ) بالأمس بحِوارهما اليوم، متمثلَين في (الكيان الصهيوني المحتل) و(الولايات المتَّحدة القُرَظِيَّة)!

- قد يقال: هذه رواية المسلمين، وقد اختلقوها؛ إذ مَن كان يسجِّل حِوار حُيَيٍّ وكعب بتفاصيله المذكورة في «السِّيرة النبويَّة». 

- وهذا تساؤلٌ مشروعٌ من الوجهة العِلميَّة.  لكنَّه لا يُعْشِي الناظر عن خيانة هؤلاء، بقطع النظر عن التفاصيل؛ بدليل أنَّ مَن وَفَى بعهده من اليهود أو صالحَ، لم يمسسه سوء.  وذلك مثل أهالي ما سُمِّي بمنطقة (الكتيبة) في (خيبر)، التي صالح أغلبُ آطامها الرسول، فأقامهم على أراضيهم، ولم يُمَسُّوا، هُم ولا مزارعهم ولا ذراريهم.(3) 

- ما حدث، يا ذا القُروح، أنَّ هؤلاء الذين لجؤوا ذات فرارٍ إلى (الحِجاز)، وهم لا يمُتُّون إلى الحِجاز بصِلة، فارِّين من (الرُّومان) في (الشام)، فاستوطنوا في أحياء من أرض العَرَب، وبين ظهرانيِّ أرباب الأرض الأصليِّين، لم يحفظوا جميلًا، كنهجهم التاريخي، ولم يَرعوا جِوارًا، ولم يحترموا عهدًا، فنالوا جزاءهم، ثمَّ أُعيدوا من حيث جاؤوا، ما دامت تلك حالهم وذاك سلوكهم. 

- أجل، فلقد جاء (محمَّد)، لا رسولًا فحسب، ولكن أيضًا محرِّرًا للعَرَب ولأرضهم من الاستيطان الأجنبي، ومن الاستعباد الفارسي أو الرُّوماني.  والحقُّ أنَّ كلَّ منصفٍ يُدرِك سياسة اليهود الحمقاء في مواجهة المدِّ الإسلامي.  فـ(بَنُو النَّضير)، مثلًا، لم يكفُّوا عن التآمر على المسلمين، بعد إجلائهم، بل عادوا إلى التآمر، فسعى زعيمهم (حُيَيُّ بن أخطب) ثانيةً، كما رأينا، للتغرير بـ(بني قُريظة)، الذين كانوا ما يزالون على معاهدة مع محمَّد، فحَمَلَهم على نقض تلك المعاهدة.  ولمَّا حلَّ ببني قُريظة ما حلَّ بسالفيهم، بسبب نقضهم عهدهم هم أيضًا، ظهر التآمر مرَّةً أخرى في أهل (خيبر) للانقضاض على (المدينة)، للقضاء على المسلمين، وجعلوا يحرِّضون (قريشًا) و(غطفان) على ذلك.(4) وبعيدًا عن اختلاف الروايات الإسلاميَّة في أسباب ما حلَّ باليهود في الحِجاز، فسنَدَع الشهادة هنا لمؤرِّخٍ يهودي، هو (إسرائيل ولفنسون).

- إذن، دَعْ عنك المؤرِّخين المسلمين، وهات ما يقوله (ولفنسون)؛ فالحقُّ ما شهدت به الأعداء!

- يقول: «ينبغي أن لا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة التي لحِقت يهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام، فقد أنقذَ الفاتحون المسلمون آلافًا من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرُّوميَّة، وكانوا يقاسون ألوانًا من العذاب.»(5)  ثمَّ يقول: «كان يهود يثرب يتشوَّقون لرؤية الرَّجُل الذي ينشر دعوةً دِينيَّةً تتفق في جوهرها مع عقائدهم، وكانوا يعتقدون أنَّ ظهور رَجُل ليس من بني إسرائيل يدعو إلى توحيد الإلَه وإلى تعاليم التوراة وإلى تمجيد إبراهيم وموسى إنَّما هو ظاهرةٌ غريبةٌ في التاريخ البَشري.  ولا شكَّ أنهم سمعوا من مُصعب بن عُمير بعض الآيات القرآنيَّة، وأنه كان لهذه الآيات وقعٌ حَسَنٌ في نفوسهم جعلهم يؤمِّلون في هِجرة النبيِّ إلى يثرب آمالًا كِبارًا.  ويظهر أنهم كانوا يعتقدون، أو على الأقل يرجون، أن يتمكَّنوا من التأثير فيه حتى يَدخُل في دِينهم، حيث يتعاونون على محو عبادة الأصنام، وقد يُحتمل أنهم كانوا يرجون أيضًا أن يتمكَّن الرسول من التأليف بين البطون اليثربيَّة وجعلها كُتلةً واحدةً تتعاون على النهوض بهذه المدينة التي كانت في حاجةٍ شديدةٍ إلى الهدوء والسكينة، وكانوا يعتقدون أنه لو تمَّ ذلك لأصبحت يثرب أعظم مركزٍ للتجارة في الجزيرة، ولتمكَّن أهلها من أن يضربوا تجارة مَكَّة وغيرها.»(6)  واعترفَ في موضعٍ آخَر بأنَّ «الذي يلامون عليه بحق، والذي يؤلم كُلَّ مؤمن بإلَهٍ واحد، من اليهود والمسلمين على السواء، إنَّما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفرٍ من اليهود وبين بني قريش الوثنيِّين، حيث فضَّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دِين صاحب الرسالة الإسلاميَّة.  نعم، إنَّ ضرورات الحروب أباحت للأُمم استعمال الحِيل والأكاذيب، والتوسُّل بالخدع والأضاليل للتغلُّب على العدو، ولكن مع هذا كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورَّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، و أن لا يصرِّحوا أمام زعماء قريش، بأنَّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدَّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأنَّ بني إسرائيل الذين كانوا مُدَّة قرونٍ حاملي راية التوحيد في العالم بين الأُمم الوثنيَّة باسم الآباء الأقدمين، والذين نُكِبوا بنكباتٍ لا تُحصَى، من تقتيلٍ واضطهادٍ بسبب إيمانهم بإلَهٍ واحد، في عصور شتَّى من الأدوار التاريخيَّة، كان من واجبهم أن يُضَحُّوا بحياتهم وكلِّ عزيزٍ لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين.  هذا فضلًا عن أنهم بالتجائهم إلى عَبَدة الأصنام إنَّما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويُناقضون تعاليم التوراة، التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة.»(7)  وينقل عن (البلاذري) ما يؤيِّد شكَّ بعض العلماء والمستشرقين في صِحَّة بعض الأحاديث التي تقول إنَّ البقية الباقية من اليهود في المدينة قد تمَّ جلاؤها عنها في حياة الرسول، قائلًا: «ويؤيِّد شَكَّهم ما وجدنا من رواياتٍ ونصوصٍ تاريخيَّةٍ تدلُّ على أنَّ الرسول كان يُعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنَّه أوصی عامله معاذ بن جبل (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديَّتهم).  وعلى هذا النحو عُومل يهود البحرَين؛ إذ لم يُكلَّفوا إلَّا بدفع الجِزية، وبَقُوا متمسِّكين بدِين آبائهم.»(8)

أ فمن يُنكر وقائع التاريخ، ولا ينظر إلَّا بعينٍ واحدة، هي عين أيديولوجيَّته، متجاهلًا سياقات الأحداث، التي يشهد بها كلُّ موضوعيٍّ منصف.. أ فمثل هذا يُحكِّم العقل، أو يستطيع تحكيمه؟!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1)  في الأصل: «فاحفظ الرجلَ».  ولا معنى لهذا.  وإنَّما الصواب ما أثبتناه، أي أنه اغتاظ من كلام حُيَيٍّ ففتح الباب.  والغريب أن محقِّقي «السِّيرة» شرحوا كلمة «أُحفِظ» بمعناها الصحيح في الحاشية، وأثبتوها في المتن غَلَطًا، كما ضبطوا المبني للمجهول بعدها منصوب الآخِر!

(2)  ابن هشام، عبدالمَلِك، (1955)، السِّيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السَّقَّا وآخرَين، (مِصْر: مصطفى البابي الحلبي وشركاه)، 3: 220- 221.

(3)  يُنظَر: ولفنسون، إسرائيل، (1927)، تاريخ اليهود في بلاد العَرَب في الجاهليَّة وصدر الإسلام، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر)، 174.

(4)  يُنظَر: م.ن، 157- 000.

(5)  م.ن، ي.

(6)  م.ن، 110- 111.  ويُنظَر عموم: الباب السادس من كتابه، 110- 140.

(7)  م.ن، 142- 143.

(8)  م.ن، 177.

 

إن الموجات القوية المتزامنة من التكامل الأوروبي والتفضيلات المناهضة للهجرة التي تجتاح أوروبا، والتي تستفيد من الخطابات الشعبوية، تعكس مخاوف المواطنين الاقتصادية الناجمة عن الأزمة المالية، والمخاوف الثقافية الكامنة، والشكوك واسعة النطاق تجاه المؤسسات الدولية، والإحباط من الأزمات المالية والسياسية العالمية. توفر الأبحاث الانتخابية وأبحاث الرأي العام المتوفرة روايات مجزأة ومتضاربة حول الأصول النفسية لهذه التفضيلات المناهضة. نحاول تحديد إطار نظري شامل جديد يركز على رد الفعل كتوجه سياسي، وتقديم اختبار تجريبي للنظرية المقترحة باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي الأوروبي. إن تفسير رد الفعل السياسي كمحرك للتفضيلات السياسية يمكن أن يدفع البحث إلى الأمام حول التحديات التي تواجه التمثيل الديمقراطي، وخاصة فك الارتباط السياسي، والاحتجاجات العنيفة، والتصويت الشعبوي، والأحزاب المناهضة للمؤسسة في سياق الأزمات المالية والسياسية.

يمكن مقارنة حجم المواقف التي يتخذها الرجال والنساء المختلفون تجاه التغيير الاجتماعي بالطيف الشمسي. وعلى الطرف المقابل يقف التطرف ورد الفعل الذي لا هوادة فيه.

تهدف هذه المقالة إلى التعبير نظرياً عن الخصائص النفسية للرجعية باعتبارها توجهاً سياسياً جماعياً في سياق الأزمة المالية وصعود السياسات الحزبية الشعبوية، وتقديم اختبار تجريبي للرجعية كمحرك رئيسي للمقاومة المتزامنة. تفضيلات التكامل في الاتحاد الأوروبي والهجرة. يُشار إلى الرجعية على أنها النظير الأيديولوجي للتطرف والتقدمية. في شكله المعاصر، يستخدم الباحثون هذا المصطلح بشكل متزايد لوصف خطاب الأحزاب الشعبوية اليمينية والنظرة السياسية لمؤيديها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

إن الإشارات إلى "العقل الرجعي"، و"المزاج الرجعي"، و"القلب الرجعي"، و"المد الرجعي"، و"الناخب الرجعي"، و"الأحزاب الشعبوية الرجعية والمعادية للأجانب" تعترف بالروابط المفاهيمية بين الرجعية وكراهية الأجانب، والمطالب المناهضة للهجرة، العنصرية، والتشكك المناهض للخبراء، والمشاعر المناهضة للمؤسسة، والمواقف المناهضة للاتحاد الأوروبي، لكنها تترك خصائصها النفسية غير مستكشفة إلى حد كبير.

عرّف الأكاديمي والسياسي اليوناني "كونستانتينوس ديمرتزيس" Konstantinos Demertzis الرجعية بأنها "مفهوم جماعي يصف توجهاً سياسياً معقداً، يجمع بين العاطفة الاستيائية والرغبة القوية في العودة إلى الماضي". يعتمد التوجه الرجعي على قيم المحافظة والنفور مما هو جديد. إن طابعها العاطفي هو المشاعر المعقدة للاستياء، ومزج الغضب والخوف والأمل والحنين والخيانة والشعور بالظلم المتصور. إن الأدلة على الرجعية يمكن تتبعها تجريبياً في المشاركة والدعم الخامل للأعمال السياسية غير القانونية والعنيفة، والتي يحركها شعور متزايد بالركود الاقتصادي، والقلق الناجم عن الأزمة المالية، والمخاوف الاقتصادية والثقافية لدى العديد من المواطنين.

يعتمد تطبيق مفهوم الرجعية كمحرك للتفضيلات المجمعة المناهضة للهجرة ومعاداة الاتحاد الأوروبي على الأبحاث الموجودة التي تظهر أنهم يتشاركون في الخصائص النفسية العاطفية والتحفيزية، والذي يدعو إلى الفرضية القائلة بأن هذه التفضيلات يمكن أن تنبع من توجه مشترك. يتم تفسير التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي من خلال المواقف العاطفية تجاه الاتحاد الأوروبي التي تتغذى من قضايا الثقافة والهوية، والميول الاستبدادية، ومعارضة العالمية، والانفتاح.

 وبما أن الاتحاد الأوروبي يتطلب المزيد من التخلي عن السيادة الوطنية، فإنه يثير اعتبارات الهوية الوطنية والهجرة. وفي المقابل، ترتبط التفضيلات المناهضة للهجرة بالمشاعر تجاه المجموعات الخارجية (التي تشكل أيضاً العلاقات بين المجموعات) وتعتمد على الضعف الاجتماعي والاقتصادي، مثل المهاجرين. انخفاض مستوى التعليم، وضعف الوضع في سوق العمل، والحرمان الاقتصادي. وبما أن العديد من الأحزاب اليمينية تصور الهجرة على أنها الخطر المركزي على الدولة القومية، فإن التفضيلات المناهضة للهجرة تُستخدم لتفسير التصويت اليميني.

ترتبط التفضيلات المناهضة للهجرة أيضًا بقيم الحفاظ على البيئة، واعتبارات هوية الاتحاد الأوروبي، والمواقف المناهضة للاتحاد الأوروبي. العديد من أولئك الذين يرون تهديداً من المهاجرين لهويتهم الوطنية يكرهون المهاجرين ولا يرون أي فوائد في التعاون الدولي حتى في شكل عضوية الاتحاد الأوروبي.

تقدم هذه النماذج رؤى قيمة لفهم التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، لكنها تفشل في مراعاة جوهرها المشترك: رد الفعل والاستياء تجاه الحاضر والدافع لتغييره إلى الوراء - وبعبارة أخرى، الدوافع العاطفية والتحفيزية للتوجه الرجعي. نقترح أن تحليل هذه التفضيلات تحت العدسة المفاهيمية لرد الفعل عندما تحدث معاً، بدلاً من اعتبارها ظواهر مستقلة، سيسمح بفهم أوضح لدوافعها النفسية المعقدة. تدمج الرجعية تحت مفهوم عنقودي واحد المقاربات المجزأة الحالية التي تدرس فقط بعض أجزائها، مما يؤدي إلى تجزئة هذا التوجه السياسي المعقد. وعلى هذا النحو، فإنه يمكن أن يوفر رؤى قيمة نحو فهم التحديات المعاصرة للتمثيل الديمقراطي.

في البيئة الشعبوية المتصاعدة الحالية في أوروبا، أصبحت الرجعية آخذة في الارتفاع. إن تجميع التفضيلات المناهضة للهجرة والمناهضة للاتحاد الأوروبي أمر متكرر في الخطاب السياسي للأحزاب السياسية الرئيسية والجديدة، بهدف تعزيز الشعور بالسيادة الوطنية. إن الوقت غير المحدد الذي كان فيه كل شيء أفضل، عندما ازدهرت الأمة باستخدام سلطاتها الخاصة وكانت تبدو مستقلة، يتم تصويره بشكل مثالي من خلال شعار ترامب "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" في الولايات المتحدة أو هتاف حزب استقلال المملكة المتحدة "لاستعادة السيطرة" في المملكة المتحدة. في مثل هذه الروايات الشعبوية، يؤثر التنوع العرقي الثقافي، والاستيعاب الثقافي، والعولمة على سيادة الوطن بطرق تدمج المخاوف الثقافية والاقتصادية والسياسية. ولكي نكون واضحين، فإن هذه التفضيلات المضادة يمكن أن تحدث بشكل منفصل، وهنا لا يوجد افتراض بأنها تعتمد بالضرورة على توجهات رجعية. إن فرضيتنا هي أنه عندما تحدث معاً، فمن المحتمل أن تكون دليلاً على رد الفعل.

نحن نختبر هذه النظرية باستخدام بيانات من المسح الاجتماعي الأوروبي، والتي تم استخدامها على نطاق واسع لدراسة التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي. لقد وجدنا أن مكونات ما نطلق عليه "التوجه الرجعي" تتنبأ بتفضيلات مناهضة للاتحاد الأوروبي ومعادية للهجرة بين الناخبين في أوروبا، وتؤدي أداءً جيداً بشكل خاص بعد الأزمات المالية. مساهمتنا ذات شقين: نحن نوضح إطاراً نظرياً جديداً وشاملاً يركز على رد الفعل كتوجه سياسي، ونثبت تجريبياً أن رد الفعل يقع في قلب التفضيلات المعاصرة المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، بالاعتماد على مزيج من المشاعر العاطفية والعاطفية. الخصائص النفسية التحفيزية.

الرجعية: فصل رد الفعل عن المذاهب الأخرى

يوفر تعريف المفاهيم جنباً إلى جنب مع المصطلحات المجاورة وضوحاً، وهو أمر ضروري لتطوير النظرية وكذلك البحث التجريبي. نناقش هنا بإيجاز الخصائص التي تميز الرجعية عن المذاهب المرتبطة بها: الشعبوية، والراديكالية، والمحافظة، والتقدمية.

ـ الرجعية ليست نتيجة ثانوية للشعبوية وليست مرادفاً لها. الرجعية هي توجه سياسي مشترك بين المواطنين الذين يتبنون نظرة عكسية للحاضر. تتغذى الشعبوية، التي يتم تناولها إما كأيديولوجية رقيقة أو كنوع من الخطاب، على التوتر بين "الشعب" و"النخبة الفاسدة". وحتى يومنا هذا، فشلت الأدبيات في إظهار توجه أو أيديولوجية "شعبوية" واحدة بين المواطنين. يمكن أن تكون الرجعية أحد هذه التوجهات السياسية التي تفسر سبب دعم المواطنين الأفراد للأحزاب الشعبوية. نحن نرى أن الأحزاب الشعبوية تستغل النظرة الرجعية للرجعية، وتجمعها بنجاح مع الخطابات المناهضة للمؤسسة والنخبة. سوف تنظر الرجعية دائماً إلى الوراء. والأحزاب الشعبوية ليست بالضرورة رجعية، ولكنها يمكن أن تروق لتوجهات المواطنين الرجعية، فعندما يعتمد مزاج الناس بقوة على رد الفعل، تزدهر الروايات الشعبوية.

ـ الرجعية ليست يمينية أيضاً ولا يسارية. على الرغم من أن النظرة الرجعية للرجعية غالباً ما ترتبط بالإيديولوجيات اليمينية. تجدر الإشارة إلى أن الأيديولوجيات والسرديات اليسارية لا تتطلع بالضرورة إلى الأمام. فاليسار لديه رجعيون أيضاً. على الرغم من أنهم قد لا يرغبون في العودة إلى الماضي، إلا أنهم ينشرون ذكريات وأفكاراً من الماضي لتوضيح نوع معين من الحاضر والرؤية للمستقبل. على سبيل المثال، الحجج اليسارية المتشككة في أوروبا الداعية إلى عودة أوروبا الاجتماعية القديمة. قام الأكاديمي اليوناني "ديمرتزيس" بتحديد التوجهات الرجعية ذات الميول اليسارية في اليونان خلال الأزمة المالية، موضحاً كيف يتم الخلط بين الرجعية والراديكالية في كثير من الأحيان (خاصة في الإشارات إلى "اليمين الراديكالي"). كلا التوجهين يدعوان إلى الاقتلاع والانفصال عن الوضع الراهن؛ إنهم يفعلون ذلك، لكنهم يفعلون ذلك في اتجاهات متعاكسة. تؤوي السياسة الراديكالية رغبة في الجديد، في حين تعزز السياسة الرجعية الرغبة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه.

ـ الرجعية ليست محافظة أيضاً، لأن السياسة المحافظة تدعم الوضع الراهن، وتريد إبقاء الأمور كما هي، وتعارض التغيير. أما التوجه الرجعي فيحتفل بالماضي، ويكره التطورات السياسية الحالية، ولا يستمتع بالحاضر. الاستياء والحزن يقعان في قلب الحنين الرجعي. يشعر المحافظون بالارتياح تجاه التقاليد المألوفة ويتبنونها، ولكن من قاعدة عاطفية مختلفة: يمكن أن تكون درجة رضاهم عن الحياة عالية، ويمكن أن يكونوا متفائلين. ومن الممكن أن يتبنى المحافظون الذين يشعرون بالاستياء إزاء الظروف الحالية شوقاً رجعياً للعودة إلى أمان الماضي بمجرد أن يتخلوا عن الأمل في الحاضر.

ـ ترتبط الرجعية بالتقليدية، التي تعبر عن الرغبة في الحفاظ على المعتقدات والممارسات المشابهة لثقافة الفرد المألوفة وعدم الرغبة الواضحة في التغيير، ولكنها تضيف تأثيراً مستاءً على القيم التقليدية. وتتعزز إحباطات التوجه الرجعي في الرغبة الحازمة في التغيير إلى الوراء، واستعادة فترة زمنية غير محددة في الماضي، مقترنة بعاطفة الاستياء والشعور بالظلم. إن تفضيل التراجع والانشغال بما هو مفقود يضع الرجعية على الجانب الآخر من التقدمية، وهو ما يتجلى بوضوح في الهجمات اللفظية لليمين البديل ضد النخب التقدمية.

التوجه الرجعي: المجموعة المعقدة من التفضيلات والرغبات والعواطف

لتقدير جاذبية رد الفعل، فإننا نتعامل مع جذوره النفسية: تصوراته، وفهمه، ورؤاه (الإدراك) التي يتم التعبير عنها في مواقف القضية، والقيم والأهداف التي تحركه (الدوافع) بهدف تحقيق نتائج موجهة نحو الأهداف، والعواطف التي تستلهمها.

تفضيلات القضايا الرجعية في البيئة الاجتماعية والاقتصادية للأزمة

نحن نفترض أن محتوى رد الفعل هو وظيفة جانب العرض في السياسة. في الوقت الحالي، أصبحت الرجعية جزءًا لا يتجزأ من سياق سياسي تزدهر فيه الأحزاب القومية والشعبوية. يتم استخدام الخطابات المناهضة للهجرة والاندماج في الاتحاد الأوروبي من قبل الأحزاب المتخصصة التي تروج لاستحضار الحنين إلى الماضي المجيد المتخيل، حيث لم يتم الشعور بالقلق وتم تهدئة الشكوك. في حين أن المواقف المناهضة يمكن أن تنشأ في مكونات غير رجعية، ويمكن للمواقف الرجعية أن تمتد إلى ما هو أبعد من السياسات المناهضة للاتحاد الأوروبي والسياسات المناهضة للهجرة، فمن الجدير استكشاف مدى قدرة المجموعة الرجعية من القيم الرجعية والعاطفة الساخطة على تفسير هذه المناهضة للاتحاد الأوروبي المناهضة للهجرة. باقة تحديد المواقف المناهضة الأخرى المتعلقة بالرجعية يعتمد جزئياً على توفر البيانات ويفتح إمكانات كبيرة للدراسات المستقبلية. إن التشكيك في المناخ، والمشاعر المناهضة للخبراء، ومناهضة العولمة، ومناهضة التجارة الحرة، ومعاداة العلم، والتقارب السياسي، هي مرشحات محتملة في السياق الشعبوي الحالي.

القيم الأساسية كمحركات تحفيزية للرجعية

تعكس القيم السياسية، مثل العدالة والمساواة، والمركزية العرقية، والحد الأدنى من المشاركة الحكومية، والأمن الاقتصادي، والقانون والنظام، والتقليدية الأخلاقية المعتقدات المعيارية أو المثل العليا حول المسائل السياسية. إنها توجه السلوك السياسي وتعمل كأساس للمواقف السياسية والتفضيلات الفردية فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي، والإجهاض، وإصلاح تمويل الحملات الانتخابية، والرعاية الاجتماعية، واتجاهات الثقافة السياسية، والتوجهات نحو الحرية.

ويعود القيد الداخلي للقيم السياسية إلى القيم الشخصية الأساسية، التي تعمل في جميع مجالات الحياة وتربط التفضيلات السياسية بظروف الحياة واختياراتها. القيم الأساسية (الإنجاز، ومذهب المتعة، والتحفيز، والتوجيه الذاتي، والعالمية، والإحسان، والتقاليد، والامتثال، والأمن، والقوة) هي معتقدات دائمة، مرتبطة بالأهداف المرغوبة وأنماط السلوك، وتوجه السلوك والعمل. وهي موجودة في مجموعات تمتد عبر الانفتاح مقابل الحفاظ على الذات، والسمو الذاتي مقابل تعزيز الذات. بالنسبة للمواطنين العاديين الذين ليسوا منخرطين بشكل كبير، وليسوا أيديولوجيين للغاية، وغير مطلعين جيداً على الأحداث السياسية، قد لا تكون القيم السياسية بارزة، لكن القيم الشخصية الأساسية تتنبأ بتفضيلاتهم السياسية لديهم.

تعمل القيم الأساسية عبر الثقافات وهي أكثر اتساقًا من التفضيلات العابرة، ولكنها تتغير أيضاً ببطء بمرور الوقت وفقاً للظروف المجتمعية والسياسية. إنها توفر أساساً مستقراً، ولكن مرناً لدراسة الرجعية. نحن ننظّر إلى القيم الأساسية التي تشير إلى دعم التقاليد والنفور من التغيير كعناصر تحفيزية مركزية للرجعية. هناك صلة ثابتة في الأدبيات بين القيم الأساسية (العالمية، والامتثال، والتقاليد) والمواقف تجاه الهجرة. علاوة على ذلك، وبما أن الخطابات الشعبوية تصف التكامل في الاتحاد الأوروبي بأنه تهديد للشعب، فإننا نتوقع أن تكون التفضيلات المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي مدفوعة بالقيم الأساسية المرتبطة بالنفور من المخاطرة. وهنا تتميز الرجعية بشكل واضح عن المحافظة الاقتصادية، التي تعتمد على القيم التقليدية، ولكن مع المخاطرة الإيجابية. ربما هذا هو السبب في أن التوجهات الرجعية التي تتنبأ بالتفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي لا تترجم بالضرورة إلى (أو تنشأ فقط من) الأصوات المحافظة، ولكنها تمتد عبر تفضيلات حزب اليمين واليسار. ومن الممكن أن تجمع الرجعية بين المعارضة الحمائية اليسارية لقوى السوق المفتوحة، فضلاً عن المعارضة الثقافية التقليدية.

التفسيرات المتنافسة: التوجهات الرجعية مقابل مؤشرات الشخصية

وجدت الدراسات الموجودة ارتباطات وثيقة بين القيم الأساسية والأيديولوجية والتفضيلات السياسية ومقاييس الشخصية. هذه البنيات مترابطة ويصعب تمييزها تجريبياً. إن الرغبة في اليقين والأمن (القيم) مرتفعة بين المحافظين (الأيديولوجية) الذين يسجلون أيضاً درجات عالية في الضمير ومنخفضة في الانفتاح على التجارب (الشخصية). تجمع الدراسات الاستبداد كمقياس للشخصية بين احترام التقاليد والامتثال والطاعة للسلطة والنظرة الأيديولوجية المتطورة.

وقد يبدو هذا بمثابة المؤشر الواضح لدعم الأحزاب الشعبوية. وفي حين يبدو أن الاستبداد والدعم الشعبوي مرتبطان في بعض البلدان، إلا أنهما ليسا كذلك في بلدان أخرى. قد يكون للاستبداد قاعدة قيمية مماثلة للرجعية، ولكن لا يبدو أنها توظف أو تشير ضمناً إلى الرغبة المزعجة في إعادة الأمور إلى الوراء. علاوة على ذلك، فإن التوجه الرجعي ليس سمة شخصية، وبالتالي فهو لا يحدد هوية الأفراد خلال حياتهم. بل هي طريقة منسوبة ذاتياً للتواصل مع العالم السياسي. فبالنسبة لبعض المواطنين، يعد هذا توجهاً ذا معنى، والبعض الآخر أقل من ذلك. وبمرور الوقت، يتم تعزيزها والإشراف عليها وإبطالها بناءً على كيفية تفاعل المواطنين مع بيئتهم السياسية. فهو يشكل الكيفية التي يختبر بها المواطنون السياسة، ولكنه لا يتطلب نظرة أيديولوجية راسخة.

ويترتب على ذلك أن الأيديولوجية المحافظة والشخصية الاستبدادية والتوجه الرجعي ترتكز على قيم جوهرية تظهر تفضيل المألوف، أي احترام التقاليد والحفاظ على الأعراف العائلية والدينية القديمة. إنهما مختلفان بقدر ما قد يجادل المحافظ بأن الوضع الراهن يستحق الحفاظ عليه، والشخصية الاستبدادية سوف تطيع السلطة وتتبع تفضيلات أيديولوجية منظمة، في حين أن التوجه الرجعي سيضع نفسه ضد الوضع الراهن غير المرغوب فيه ويتطلب تحسينات عاجلة من خلال الشوق إلى العودة إلى الوراء.

يعد انخفاض القبول مقياساً آخر للشخصية يرتبط بالتصويت للأحزاب الشعبوية في الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا. ترى بعض الدراسات أن التصويت الشعبوي هو عمل يتوافق مع شخصية الفرد، وتجادل بأن الناخبين ذوي القبول المنخفض ـ المسمى "المتشككين" حساسون للرسائل المناهضة للمؤسسة من الأحزاب الشعبوية. لكن السمات هي صفات شخصية غير ملحوظة يتم قياسها بالتقريب باستخدام المؤشرات السلوكية. لذا فإن ما يُلاحظ في أحسن الأحوال هو وجود نمط ثابت بين السلوكيات السياسية وغير السياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القبول مثل جميع السمات، هو بحكم تعريفه سمة شخصية دائمة إلى حد ما.

 فهل يعني هذا أن الأحزاب الشعبوية تكتسب زخماً في مجتمعات ذات أنماط شخصية معينة؟ هذا سيناريو غير محتمل. علاوة على ذلك، فإن الأفراد ذوي القبول المنخفض ليسوا بالضرورة "متشككين"، فمن الممكن أن يكونوا منعزلين، أو ساخرين، أو غير مبالين بالمجتمع ولا بالسياسة، وهي صفات ذات خصائص نفسية مميزة. ومن المرجح أن يكون الارتباط بين مقاييس الشخصية والتفضيلات السياسية هو قطعة أثرية تفسرها القيم. نحن نرى بشكل أساسي انخفاض القبول كمقياس سلوكي لرغبة الأفراد في مقاومة التغيير، المرتبط بانخفاض الثقة الاجتماعية والسياسية، والتعصب، وقلة التعاون، وانخفاض الإيثار. وكلها متوافقة مع التوجه الرجعي. اقتراحنا هو أن القيم العميقة الجذور (وليس شخصيات المواطنين) هي التي تحفز التوجهات الرجعية، والتي يتم تنميتها أو تقويتها أو التقليل منها. وفي البيئات الشعبوية، يتم التعبير عنها على أنها تفضيلات مناهضة للهجرة ومعادية للاتحاد الأوروبي.

العاطفة الاستياء: الأصول العاطفية المعقدة للرجعية

لفهم المحتوى المعقد للتوجه الرجعي، نحتاج أيضاً إلى التعامل مع جوهره العاطفي. تتحول الدراسات الحديثة إلى مشاعر مثل الغضب والخوف لتفسير التوجهات المناهضة للاتحاد الأوروبي، مما يساهم في المناقشات التي تركز على الهوية أو أخذ الإشارات. ورغم أهميتها في تسليط الضوء على الكيفية التي يشكل بها التأثير عملية صنع القرار السياسي بشأن الاتحاد الأوروبي، فإن النماذج التي تعتمد على المشاعر المنفصلة مقيدة بالحدود التشغيلية الثابتة لهذه التدابير.

يجادل الأكاديمي والسياسي اليوناني "كونستانتينوس ديميرتزيس" Konstantinos Demertzis بأن الرجعية مبنية على مجموعات معقدة من التجارب العاطفية المفعمة بالاستياء والتي تكون سائلة ومتطورة باستمرار وليس على مشاعر منفصلة. ولأن رؤية رد الفعل تقع في الماضي، فإن أصولها العاطفية ليست بسيطة. أولئك الذين يشعرون بأنهم متخلفون عن الركب يريدون الرجوع إلى الوراء. رد الفعل هو استجابة للقلق وعدم اليقين، ومشاعر الخسارة من التفكير في التخلي عن الشخص، مما يولد أيضاً الغضب والتظلم. وبعبارة أخرى، فإن الرجعيين ليسوا غاضبين فقط بشكل رئيسي. هناك خوف (غير) عقلاني في الشعور "بالتخلف عن الركب"، في تجربة إدراك أن المرء غير قادر على مواكبة التعقيد الاجتماعي والاقتصادي المعاصر.

إن الحديث العاطفي للرجعيين يحمل في طياته الاستياء. يشعر الرجعيون بالإهمال من قبل دولتهم ويشعرون أن مصالحهم يتم التغاضي عنها. توفر هذه العاطفة الغاضبة مورداً مهماً للشعبوية المناهضة للمؤسسة والتي تتغذى منها أيضاً حسابات الحنين الشعبوية للفخر والشعور بالقوة، ولكن أيضاً الإحباط والقلق.

في الوضع الراهن، يعتمد القادة والأحزاب الشعبوية على هذه البيئة العاطفية المعقدة التي تروّج لسرديات ووجهات نظر العظمة الوطنية والمشاعر القوية المناهضة للمؤسسة. إنهم يستحضرون القوة العاطفية للاستياء لتسليط الضوء على الفروق الثنائية بين "نحن" و"هم". عندما يتم تصوير النخب السياسية بشكل متكرر على أنها شريرة، يتآكل إحساس المواطنين بالكفاءة السياسية والثقة، ويجد من السخرية السياسية أرضاً خصبة. ويترتب على ذلك أن المواطنين ذوي التوجهات الرجعية سيكونون أقل تفاؤلاً وأكثر هياجاً من المحافظين، وعندما يتواصلون مع الخطابات الشعبوية، سيشعرون بالحسد ويكونون أقل فعالية أيضاً. سيكونون غير راضين عن الحاضر ويريدون التراجع إلى الماضي. وبالنسبة للتوجه الرجعي فإن الحل هو تصفية النظام السياسي الحالي، والعودة إلى الماضي الذي لم يعد موجوداً. إن الرجعية تحب ما يمكن التنبؤ به: الهياكل الأسرية التقليدية، والثقافة المشتركة، والدولة القومية ذات السيادة الواحدة، والضوابط الحدودية القوية. ولكن إذا تجاوزنا التقليدية، سنجد أن الرجعية أصبحت ساخنة: حيث يتم التعبير عن مشاعر الاستياء في صورة كراهية الأجانب والعنصرية المقنعة. يتم تقديمه على أنه دعم للأحزاب الشعبوية، لكن لا يتم احتواؤه ولا يتوقف عند الشعبوية. ويمكن أيضاً توجيهه إلى سلوكيات عنيفة ومتطرفة أو يؤدي إلى السخرية وفك الارتباط مع الآخر.

نحو تحقيق تجريبي في علم النفس السياسي لرد الفعل

نحن نفترض أن التوجه الرجعي يحمل طاقة عاطفية مستاءة، ويحفزه القيم المحافظة. ونعتقد أيضاً أن التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة ـ عندما يتم تجميعها معاً ـ هي مؤشر محتمل لرد الفعل. لذلك نتوقع أن تكون القيم المحافظة بمثابة تنبؤات مهمة للتفضيلات المناهضة المجمعة وأن تكون آثارها أضعف عندما لا تقترن التفضيلات المناهضة للهجرة والاتحاد الأوروبي معاً. يمكن التعبير عن العاطفة الرجعية المفعمة بالاستياء على أنها عدم رضا عام، ومشاعر سلبية تجاه مستقبل يعيد إنتاج الاتجاهات الحالية ويحافظ عليها، وانخفاض الكفاءة، وارتفاع الشعور بالظلم، وانخفاض مستويات الثقة الاجتماعية، وعدم الثقة في المؤسسات الوطنية والدولية. لم تتم دراسة الاستياء فيما يتعلق بمناهضة الهجرة والتفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب عدم وجود تدابير تجريبية متاحة، ولكن تعبيراته العاطفية أظهرت روابط: ترتبط مشاعر انخفاض الفعالية الخارجية بالخطاب الشعبوي؛ يرتبط انخفاض الثقة تجاه الأفراد والمؤسسات السياسية بالتشكك في أوروبا والتفضيلات المناهضة للهجرة. وبالتالي فإننا نتوقع تأثيرها الكبير كمتنبئ للتفضيلات المجمعة المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة.

توضح الأبحاث السابقة أن التوجه الرجعي يتنبأ بالانخراط في أعمال سياسية غير تقليدية ويقلل من المشاركة التقليدية. ولذلك فإننا نتوقع أن الرجعية الساخطة من شأنها أن تمنع المواطنين من الانخراط بنشاط في السياسة السائدة، وهو ما يتجلى في انخفاض المشاركة في المظاهرات السياسية وانخفاض معدلات المشاركة.

في نموذجنا النظري، التوجه الرجعي هو أكثر من مجموع أجزائه. ويتجلى ذلك في شكل مجموعة من المكونات المتزامنة: القيم التي تشير إلى تفضيل تغيير الأمور مرة أخرى، والعاطفة الاستيائية التي تتجلى في انخفاض الثقة بين الأشخاص، وانخفاض الثقة في المؤسسات، وانخفاض الكفاءة خاصة في الأوقات الشعبوية، وانخفاض المشاركة (مثل تكرار التصويت). وبطبيعة الحال، تعمل بعض هذه العناصر كمحددات للمعارضة غير المجمعة للهجرة أو معارضة الاتحاد الأوروبي، ولكن تأثيرها يجب أن يكون أقوى بالنسبة للأفضليات المناهضة المجمعة. كما تم وضع نظرية مفادها أن التوجهات الرجعية تتزايد في أعقاب الأزمة المالية حيث تبرز الخطابات الشعبوية ولا يمكن لنماذج العقاب الاقتصادي التقليدية أن تنجح. لذلك نتوقع أن تكون المكونات التحفيزية والعاطفية للرجعية بمثابة تنبؤات أقوى للتفضيلات المضادة المجمعة في مرحلة ما بعد بدلاً من بيئة ما قبل الأزمة.

الاختبار التجريبي

لتفعيل الرجعية في نقاط ما قبل وما بعد الأزمة، استخدمنا المسح الاجتماعي الأوروبي الذي تم استخدامه على نطاق واسع لدراسة التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي ومناهضة الهجرة. وتم اختيار وحدات 2016 و2020 لأنها تحتوي على الوكلاء اللازمون لتحديد التوجهات الرجعية: القيم الشخصية للتقاليد والنفور من التجارب الجديدة، والديناميكيات العاطفية الاستيائية المرتبطة بعدم الرضا، وانخفاض الثقة، وانخفاض الكفاءة ومشاعر الظلم، والسيطرة على الأيديولوجية والتركيبة السكانية. لضمان تكافؤ القياس، قمنا بتضمين 17 دولة تتوفر فيها نفس المقاييس لكلتا نقطتي البيانات: النمسا، بلجيكا، جمهورية التشيك، الدنمارك، ألمانيا، إستونيا، فنلندا، فرنسا، بريطانيا العظمى، المجر، أيرلندا، هولندا، بولندا، البرتغال. وإسبانيا وسلوفينيا والسويد.

تحددت أربع مجموعات من التفضيلات تجاه التكامل مع الاتحاد الأوروبي والهجرة. التفضيلات المجمعة المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي، والتفضيلات المناهضة للهجرة المؤيدة لأوروبا، والتفضيلات المناهضة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي، والآراء الداعمة للتكامل في الاتحاد الأوروبي والهجرة. ولرسم خريطة تجريبية لنموذج رد الفعل النظري الخاص بنا، استخدمنا وكلاء لمكوناته. ولتقريب القيم الأساسية ذات النظرة الرجعية، تم اعتماد احترام التقاليد والنفور من الانفتاح على التغيير. ولمراعاة الانفعالات الاستيائية، تم قياس الرضا العام، والشعور بالظلم، والثقة الاجتماعية والسياسية، والشعور بالفعالية. ولاختبار المشاركة السياسية النشطة، جرى استخدام نشاط التصويت والتظاهر.

بشكل عام، ساهم مزيج معقد من العوامل المتوافقة مع التوجهات الرجعية في الانتقال إلى التفضيلات المضادة، ولكن بغض النظر عن الديناميكيات النفسية، فإن السياق مهم. أدى العيش في نظام شيوعي سابق إلى تقليل احتمالية الانتقال من مؤيد للمؤيد إلى مناهض للمعارضة. ولكن في عام 2016، كانت أوروبا الشرقية عرضة بنفس القدر للتحول الرجعي. كما أدى العيش في بلدان الإنقاذ (البرتغال، أيرلندا، إسبانيا) إلى تقليل احتمالية الانتقال من مؤيدي المؤيدين إلى مناهضيهم. ويشير هذا التأثير، الذي ظل سلبيا باستمرار في عام 2020، إلى أن الحرمان الاقتصادي في حد ذاته لا يبرر ولا يولد هذه الأفضليات السياسية، بل يخفف منها. إن التأثير الإضافي للعوامل النفسية هو الذي دفع التحول من دعم الهجرة والاتحاد الأوروبي إلى مناهضة ردود الفعل.

تمت دراسة العوامل التي حولت تفضيلات الهجرة من مؤيدة إلى معارضة، مع الحفاظ على دعم الاتحاد الأوروبي. في عام 2016، أدت القيم التقليدية ومعارضة المغامرة إلى جانب التأثير السلبي (انخفاض الرضا العام والثقة الاجتماعية والسياسية) إلى زيادة احتمال الانتقال من الموقف المؤيد إلى الموقف المناهض للهجرة، وأن يكون المرء يمينياً، وذكراً، وذو مستوى أقل. وقد ساهمت مستويات التعليم وقلة التصويت والمشاركة الأقل في المظاهرات في هذا التأثير. بحلول عام 2020، أصبحت القيم التقليدية مؤشراً أقوى للتفضيلات المناهضة للهجرة، حيث يؤدي عدم الرضا العام إلى زيادة تأثيرها المناهض للهجرة، وتصبح الكفاءة المنخفضة ومشاعر الظلم كبيرة، كما أن انخفاض التعليم وانخفاض المشاركة لهما التأثير المتوقع.

ننتقل إلى احتمال التغيير من المواقف المؤيدة لأوروبا إلى المواقف المناهضة لأوروبا مع الحفاظ على دعم الهجرة عبر النقطتين الزمنيتين. في عام 2016، لم تكن القيم ذات أهمية بالنسبة لتفضيلات المتشككين في أوروبا والتي تم التنبؤ بها من خلال الاعتبارات العاطفية (واضحة في انخفاض الرضا العام والثقة الاجتماعية والمؤسسية)، ومستويات أعلى من الفعالية الداخلية، والتوجهات الأيديولوجية المعتدلة. كما أدى الانخفاض في التصويت والمظاهرات وانخفاض مستوى التعليم إلى زيادة تفضيلات المتشككين في أوروبا التي تشير إلى فك الارتباط بدلاً من الرجعية. بحلول عام 2020، يتغير محتوى المتشككين في أوروبا بشكل كبير. أصبحت القيم التقليدية والنفور من المغامرة ذات صلة في مرحلة ما بعد الأزمة. وبالإضافة إلى ذلك، أدى عدم الرضا وانعدام الثقة إلى استمرار التوجه المتشكك في أوروبا، جنباً إلى جنب مع الشعور بالمعاملة غير العادلة، والتطرف الإيديولوجي، والمواقف اليمينية. مع أخذ ما سبق في الاعتبار، يمكننا القول بأن الصورة النفسية للتشكيك في أوروبا خضعت لتغيير كبير يشير إلى التفضيلات الأيديولوجية المتطرفة، والقيم الرجعية، والتأثيرات الاستيائية التي تعمل فوق وتجاوز حواجز التعليم التقليدية، والعمر، والدين. إن العيش في بلدان الإنقاذ أو أوروبا الشرقية أدى باستمرار إلى انخفاض احتمالات تبني تفضيلات مناهضة لأوروبا.

التوجه الرجعي والتفضيلات المضادة

أثبتت الأدلة التي تمت مراجعتها أن التحول إلى تفضيلات مناهضة الهجرة والاندماج في الاتحاد الأوروبي كان مدفوعاً بمزيج معقد من القيم والعواطف الأساسية المتسقة مع التوجه الرجعي. لقد افترضنا أن النظرة الرجعية للرجعية تعتمد على الحفظ والنفور من المغامرة.

- عرضت تفضيلات مكافحة المجمعة أعلى الدرجات في توجهات القيمة هذه. وأظهرت التفضيلات المناهضة للهجرة والاتحاد الأوروبي أيضًا آثاراً لرد الفعل: فقد تنبأ احترام التقاليد بمناهضة الهجرة جنباً إلى جنب مع العناصر العاطفية المتمثلة في عدم الرضا، والشعور بالظلم، وانخفاض الكفاءة، واكتسبت التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي لوناً رجعياً، مدفوعة بالقيم. التأثير السلبي، والشعور بالظلم، وانخفاض الفعالية.

لقد تم الافتراض أيضاً أن النغمة العاطفية للرجعية تعتمد على الاستياء، وهي عاطفة جماعية تجمع بين التأثير السلبي ومشاعر الظلم المتصور وتدني قيمة الذات. وقد أدى عدم الرضا، المقترن بالشعور بالظلم، إلى تفسير التفضيلات المناهضة للاتحاد الأوروبي والهجرة، وهذا يتطلب المزيد من التحقيق. يمكن توجيه العواطف إلى أشياء محددة وتكتسب معاني مختلفة لمن يختبرونها. من المرجح أن يكون المواطنون المناهضون للاتحاد الأوروبي ومؤيدو الهجرة حساسين للمخاوف المتعلقة بالمستقبل الاقتصادي المجهول للاتحاد الأوروبي وأقل حساسية للمخاوف المتعلقة بالتقاليد والثقافة.

 وترتبط معارضة الهجرة، إلى جانب دعم الاتحاد الأوروبي، بالمخاوف بشأن تآكل التقاليد. وفي كلتا الحالتين، يشعر المواطنون بالقلق، لكن محتوى قلقهم مختلف. ويتناسب هذا بشكل جيد مع التفسيرات الموجودة للتشكك في أوروبا والتي تشير إلى أن الأحزاب اليسارية المنتقدة لأوروبا مثل "بوديموس" و"سيريزا" تعمل على حشد المشاعر المناهضة للتقشف، في حين أن الأحزاب اليمينية مثل الجبهة الوطنية الفرنسية، أو حزب الشعب الدنماركي، أو أحزاب الحرية في هولندا. والنمسا تتغذى على المخاوف المناهضة للهجرة.

تعمل النتائج التي التوصل إليها أيضاً على تسوية التوتر بين الدراسات التي تربط الميل إلى المخاطرة بزيادة الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة في المملكة المتحدة وغيرها التي تربط الشعبوية بسمات الشخصية التي تتجنب المخاطرة. وكما أشرنا سابقاً، فإن التوجه الرجعي لا يتطابق مع التوجه المحافظ، وليس كل الرجعيين يرغبون في تجنب المخاطر. بالنسبة للمحافظين، فإن جمود الوضع الراهن أمر مهم. بالنسبة للرجعيين الذين يعارضون الوضع الراهن، ولكن إلى الوراء، يمكن أن تكون المخاطرة مقبولة، ومع المخاطر يأتي القلق. يمكن أن ينجم القلق أيضاً عن الخوف من المجهول الذي يعتبر غير مرغوب فيه. ومعها يأتي الاستياء، ومشاعر الخيانة، والشوق لاستعادة الماضي (المتخيل). إن العاطفة الاستيائية للرجعية معقدة، وتتطلب دراسة أعمق واستخدام مقاييس متطورة لفهم تأثيرها.

الحاجة إلى إطار نظري لسيكولوجية رد الفعل السياسي

لقد أصبح من الواضح أن الرجعية تستحق دخولها كأداة لفهم التحديات التي تواجه التمثيل الديمقراطي في أوروبا والعالم اليوم. يمكن للأسس النفسية لهذا التوجه أن تسلط الضوء على المخاوف الأساسية التي تنطوي على الجاذبية المتزايدة للشعبوية والقومية، والتفضيلات المناهضة للمؤسسة والمناهضة لليبرالية، والاغتراب، والعمل السياسي غير المعياري أو العنيف، والاستقطاب المجتمعي، وتحديات التكامل في الاتحاد الأوروبي.

وقد لاحظ علماء السياسة الحزبية أن التصنيفات السياسية السائدة على طول الطيف اليساري واليميني لم تعد تستجيب بشكل كاف لرغبات العديد من المواطنين. وبدلاً من ذلك، فإن نشر الماضي المثالي والنظام الاجتماعي والرغبة في استعادة الماضي يمثل روايات متشابهة إلى حد كبير للأحزاب السياسية المعاصرة "الراديكالية" الشعبوية والنازية الجديدة والقومية العرقية مثل حزب استقلال المملكة المتحدة (المملكة المتحدة)، والجبهة الوطنية (المملكة المتحدة). فرنسا)، أو حزب الحرية خيرت فيلدرز (هولندا)، أو حزب الفجر الذهبي (اليونان)، أو حزب جوبيك (الحركة من أجل هنغاريا الأفضل)، أو حزب الحرية النمساوي (حزب الحرية في النمسا). وكما تشير أسماؤها في كثير من الأحيان، فإن هذه الأحزاب والحركات تنشر موقفاً وطنياً ومناهضاً للمؤسسة، والذي يَعِد بالحفاظ على قيم ومصالح مؤيديها وحمايتها. ويقدم مرشحوهم وقادتهم روايات تتبنى وتعزز الرغبة في استعادة العصر الذهبي، والعودة إلى الماضي المجيد، من خلال تأييد الغضب العام والفزع والوعد بإنجاز الأمور لصالح المواطنين "المتروكين".

وبدلاً من الابتكار، فإنهم يحتضنون الترميم بشكل طبيعي. ولنتأمل هنا رسالة "استعادة السيطرة" التي حملتها حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لقد احتوت على تصوير الحاضر المتوقف والمستقبل الذي تتعرض للخطر بسبب التغييرات التي لا يمكن وقفها والتي فرضتها النخب على البلاد رغما عنها. كانت السمات الأساسية لهذا الخطاب المناهض للمؤسسة هي الإشارات إلى العظمة الوطنية والتفوق الاقتصادي، بالإضافة إلى الحجج القوية المناهضة للهجرة والتكامل المناهضة للاتحاد الأوروبي، مما يوفر العودة بالحنين إلى الماضي كاحتمال بديل. وقد زادت هذه الأحزاب من قوتها في الأعوام الأخيرة، ولم يعد إدراجها في الحكومات الائتلافية صادماً كما كان الحال في الماضي. ومع ذلك، لا توجد نظرية أساسية تشرح العنصر النفسي لهذا التصويت.

وتحظى هذه الأجندات السياسية بصدى جيد لدى الناخبين الذين يدعمونها. فهم يشعرون بالاستياء من النخب السياسية، ويشعرون بالإحباط إزاء "السياسة المعتادة"، ويشككون في المؤسسات المتعددة الجنسيات والدولية والوطنية، ويشعرون بالخيانة الشخصية والاجتماعية، ويحملون شعوراً قوياً بالظلم. إنهم ينتقدون العولمة، ويحتقرون نموذج التعددية الثقافية، ويفضلون المبادرات التصالحية. غالباً ما يشار إلى تفضيلاتهم بشكل وصفي على أنها مشاعر شعبوية، لكن التيار النفسي الكامن لهذا التوجه السياسي المعقد يحتاج إلى فهم أفضل، لأنه ليس عاطفياً تماماً، ولا هو شعبوي في حد ذاته، كما هو بحكم التعريف جانب العرض في السياسة. وفي الوقت الحاضر، يعتبر هذا التوجه الذي يسخره الخطاب الشعبوي رجعيا في جوهره. ومن خلال وصفها بأنها "شعبوية"، تظل خصائصها العاطفية والتحفيزية المعقدة موضع تجاهل إلى حد كبير.

وفي حين يجد بعض الناخبين ملاذاً لهم في الخطابات المناهضة للمؤسسة التي تقدمها الأحزاب الشعبوية، ينسحب آخرون من الأنشطة السياسية السائدة، ويشاركون في الحركات الشعبية مثل "indignados" (إسبانيا) أو "aganaktismenoi" (اليونان) (ديناس، وجورجيادو، وكونستانتينيديس). ينخرطون في أعمال سياسية شاذة وعنيفة تقع في أقصى الحدود، أو يظلون داعمين سلبيين لخطابات الكراهية. هذه الميول، التي غالباً ما توصف (خطأ) بـ “الموجة الجديدة من الراديكالية السياسية”، لها آثار مهمة على السياسة الديمقراطية وتستحق الاستكشاف المنهجي. إذا كانت، كما نقترح، رجعية بطبيعتها، فإن أصولها النفسية واحتياجاتها وأهدافها ستكون مختلفة تماماً عن أصول الحركات الراديكالية، وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهمها بشكل كامل.

ونختتم بالملاحظة لمقاومة الثنائيات المعيارية للخير والشر التي يمكن أن تصف هذا التوجه الرجعي بأنه ضار أو خطير أو علامة على الخلل السياسي. من المهم إجراء تقييم نقدي حول ما إذا كانت الرجعية يمكن أن تكون بمثابة قوة مستنيرة وبناءة، ومتى يمكن ذلك، تقديم تقييم نقدي للحاضر. إن الخصائص التي تعزز المشاركة التداولية في السياسة - على سبيل المثال، الثقة والكفاءة والأمل - تظهر بشكل أقل في سياق رد الفعل. لقد حاولنا الربط بين النقاط: إن الفعالية المنخفضة للتوجه الرجعي تسير جنباً إلى جنب مع الرغبة في تبني خطابات الضحية التي تروج للحجج المناهضة للهجرة والتكامل في الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن تفسر عودة الظهور الحالي وزيادة جاذبية الشعبوية والقوميات والحركات المتطرفة. والأجندات الحزبية المتطرفة. هناك إمكانات غنية لمزيد من البحث في هذا السياق. إن الروايات التي تجمع بين قوة الشعب الضحية ضد النخب، ومشاعر الظلم، والحنين، والخيانة، والاستياء، يمكن أن تكون جذابة للمواطنين الذين يحملون أوهام رجعية عن الماضي المثالي. يجب علينا أن نحقق أكثر في هذا الأمر، وفي البداية، يجب أن نتعامل مع علم النفس السياسي لرد الفعل باعتباره تحدياً تجريبياً ونظرياً.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

لم يكن من المبالغة فى شيء تأكيد القول إنّ الإمام عليّ رضوان الله عليه كان يمثل فضائل الإسلام مجتمعة هو الوعاء الذى أنقدح فيه العلم الإسلامي. وقد سبقت الإشارة فيما تقدّم إلى أن أسس العلوم الإسلامية برمتها ترتد إليه سواء كانت علوماً مستيقنة من طريق الذوق أو كانت علوماً مستنبطة عن طريق العقل؛ فهو من بين الصحابة جميعاً فارس الطريقين، وقد شهدوا له فقال عمر كان عليُّ أقضانا. وعن هذين الطريقين تفرّعت العلوم الإسلامية الأصيلة، ومصدرها وجذرها الإمام عليّ، ومصدره هو رسول الله ثم معايشة القرآن معايشة حقيقية مع النبيّ أثناء حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وقد عاش رضوان الله عليه فى خلافة الشيخين حياة الفقيه العابد المتبتِّل، وكان يجمع القرآن؛ عهداً قطعه على نفسه حين قبض الرسول، ثم تمضى الليالى الطوال وهو يتعبّد ويتهجّد ويُمعن فى تأمل القرآن، والشيخان يلجأن إليه فى الفتاوى العويصة التى كانت تلم بالمسلمين فى هذا العهد المتطور، وسبقت له فى المشورة سوابق مأثورات، وعرف عنه من سرائر العلم ودقائق الفهم ما عز على غيره؛ الأمر الذى دعى الشيعة من بعدُ ينسبون إليه (العلم السّري)، وأن هذا العلم أورثه إيِّاه النبيَّ، ودعى الصوفية أيضاً ينسبون إليه (العلم اللدنّي)، مع فارق شديد بين التصوف والتشيع، وفارق شديد أيضاً بين محبّة الإمام عليّ وآل البيت لدى أئمة الصوفية، وهم من أهل السنة، وبين نظام التعبد الشيعي.

هذا الفارق نفسه هو الذى يحدّد الفرق بين العلم السّرى والعلم اللدني، بين المحبة والموالاة، وهما وصية رسول الله صلوات الله عليه، وبين أخذ العلم السرى من طريق الإمام المعصوم كما هو الحال فى التشيع. ولسنا بحاجة إلى تأكيد هذه المحبة مع الموالاة لدى أئمة التصوف استناداً إلى أحاديث النبيّ فى مناقب عليّ : مَنْ كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)، (أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيّ بعدي).

وحديث الخيمة الذى رواه الصديق، رضوان الله عليه، حيث قال :

(رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّمَ خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفى الخيمة عليَّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال معشر المسلمين: أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلا سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقى الجد ردئ الولادة).

وكثير غيرها أحاديث صحيحة من وجوه كثيرة تواترت عن أمير المؤمنين عليّ وهو يتواتر أيضاً عن النبى عليه السلام رواها الجم الغفير عن الجم الغفير ولا عبرة بمن حاول تضعيفها، وقد ورد الأول مرفوعاً عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وأبى هريرة، وأبى سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وحبشى بن جنادة، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وأبى ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وأسعد بن زرارة، وخزيمة بن ثابت، وأبى أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وحذيفة بن اليمان، وسمرة بن جندب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وصحّ عن جماعة منهم من يحصل القطع بخبرهم، وثبت أيضاً أن هذا القول كان منه صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ، وذلك فى خطبة خطبها النبى عليه السلام فى حقه ذلك اليوم، وهو الثانى عشر من ذى الحجة سنة إحدى عشر لمّا رجع النبيّ من حجة الوداع.

ولا يُخفى محبّة النبى لعليّ، لكنها المحبّة التى تعلو على نظرة العصبية والقرابة وتتجرّد عن نوازع الإثرة لأنه يحبه ويحبِّب الصحابة فيه، ويريد أن يختاروه من بعده عن قناعة ورضى وحبور، لعلمه وفضله وسبقه إلى الإسلام.

وللإمام أبى الخير شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجزْريّ الشافعى (ت 833 هـ) كتاب : أسنى المطالب فى مناقب سيدنا على بن أبى طالب، يقول فى نهاية الكتاب (ص 121): (انتهت إلى الإمام عليَّ رضوان الله عليه، جميع الفضائل من أنواع العلوم، وجميع المحاسن وكرم الشمائل من القرآن والحديث والفقه والقضاء والتصوف والشجاعة والولاية والكرم والزهد والورع وحُسن الخلق والعقل والتقوى وإصابة الرأي. فلذلك؛ أجمعت القلوب السليمة على محبته، والفِطَر المستقيمة على سلوك طريقته، فكان حبُّه علامة السعادة، وبغضه محض الشقاء والنفاق والخذلان).

عِلمُ الإمام طاقة نورانيّة من علم رسول الله ولا شك؛ لكن أعجب العجب أن نجد فينا من يعرف هذا الفضل الجامع الكبير ولا يذكر للإمام فضله خشية أن يصاب بالتشيع وكأن الشيعة من عالم آخر محجوب عن الإسلام، ولو سقط النزاع لتوحدت الغاية على القصد وحلّ الوفاق.

(وللحديث بقية)

***

د. مجدي إبراهيم

حياة الكتابة ومهنة الكتابة شيئان منفصلان

بقلم: لان سامانثا تشانج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أثناء حديثي مع صديقة عزيزة ليست كاتبة، ذكرت أنني كنت أفكر كثيرًا في أهمية الحياة الداخلية. بدت صديقتي، وهي طبيبة متزوجة من أستاذ جامعي وأم فخورة لطفلين مثاليين، في حيرة من أمرها. وتساءلت: "ماذا تقصدين بـ ’الحياة الداخلية؟‘؟ "عندما نقول أن شخصًا ما يتمتع بحياة داخلية غنية، أليست هذه طريقة للقول أنه يبدو وكأنه في حالة من الفوضى من الخارج؟" بالنسبة لها،فإن وصف شخص ما بأنه يتمتع بحياة داخلية غنية هو مكمل غير مباشر أشبه بالمراوغة في الصين في عهد ماو، حيث عندما يحاول الناس وصف امرأة شابة لم تكن جذابة جسديا، يقولون: "إنها وطنية للغاية".

يوضح سؤال صديقتي الضغط الكبير الذي يتعرض له الناس في هذا المجتمع من أجل الحصول على حياة خارجية قوية ومحمية بشكل جيد. وفي نيويورك، قد يشمل ذلك العقارات والمدارس الخاصة. في ولاية أيوا، قد يشمل ذلك وجبات العشاء العائلية المنتظمة المصنوعة من الأطعمة البرية التي يتم حصادها شخصيًا. بدأ هذا الضغط منذ زمن طويل مع مؤسسي بلادنا، الذين آمن الكثير منهم بوجود المختارين، في فكرة أن البعض منا مقدر له الخلاص. يمكن توسيع هذه الفكرة منطقيًا لتعني أن البعض منا ليس كذلك. لأنه ليس لدينا طريقة، عندما نكون على قيد الحياة، لمعرفة أي منا قد تم تعيينه مسبقًا، فمن المهم أن نتصرف كما لو كان.

لا أحاول إلقاء اللوم على أي شخص لأنه يريد أو يمتلك عقارات جميلة، أو أطفالًا لطيفين، أو حيوانًا أليفًا رائعًا. كل ما أؤكده هو أن الناس يعيشون في قلق، بل وفي خوف، من معرفة ما إذا كانت حياتهم الخارجية كافية لهم. من السهل أن نصدق أنه إذا نظرنا بشكل جيد بما فيه الكفاية، فربما تكون حياتنا ذات معنى، بل وحتى مباركة. في كل مكان نذهب إليه يمكننا أن نرى دليلاً على ذلك. أثناء السير على طول نهر السين، سترى العشرات من الأشخاص من جميع أنحاء العالم يقفون وظهورهم للمنظر، ويبتسمون على هواتفهم المحمولة. يتم نشر الملايين من صور السيلفي بدافع الأمل والخوف.

يتزايد القلق المماثل لدى الكتّاب الجدد الذين يشعرون بالضعف عند مشاركة أعمالهم مع أشخاص آخرين، خاصة بعد نشر كتاب ما. لقد تعلمنا أن نعتقد أن نشر كتاب ما هو تتويج للعمل الشاق والجهد الطويل، ولكن وفقا للعديد من المؤلفين الجدد الذين تحدثت معهم بشكل متكرر خلال هذه العملية، فإن النشر هو مجرد بداية رحلة التعلم للتنقل في العالم ككاتب عام، وهو عكس صناعة الفن، ويتطلب تعلم كيفية حماية تلك الذات الداخلية التي نشأ منها الفن في المقام الأول.

وفجأة، يتعين على الكاتب الجديد أن يبذل جهودًا مضنية لوصف ما كتبه. يقرأ البعض التاريخ والنظرية والعلوم في محاولة للعثور على المفردات التي تنير إبداعاتهم. أعتقد أن هذا الصراع يحدث لأن رد الفعل الصادق لصنع فن ذي معنى غالبًا ما يكون الصمت. نحن نصنع فنًا حول ما لا يمكننا فهمه بأية طرق أخرى. المنتج النهائي يشبه اللؤلؤة، كامل وجميل، ولكنه صامت في نفسه. لقد أعطانا الكاتب هذه القطعة من كتاباته الداخلية، وفي كثير من الأحيان لا يوجد تفسير لها، ولا شيء ليقوله عنها. غالبًا ما يكون لدى الكاتب نفسه فكرة قليلة جدًا عما أنشأه.

لا يهم بالنسبة للمؤلفين الجدد، الذين هددوا بأن كتابهم سوف يفشل ما لم يستمروا في التغريد، وإعطاء القراءات (إذا كانوا محظوظين)، وقراءة المراجعات (إذا كانوا محظوظين)، وكتابة العشرات من المقالات الصغيرة والأسئلة والأجوبة التي ستبقى على الإنترنت إلى الأبد. أصبح نشر الكتب أكثر عمومية من أي وقت مضى. هذه معلومات عامة مفادها أن كتابًا ما قد تم عرضه أو لم يتم عرضه ككتاب لمشاهدته على مواقع ويب معينة، أو أنه/لم يتم وضع قوائم مفضلة معينة، أو قوائم المبيعات، أو مائة قائمة نهاية العام. ناهيك عن موسم الجوائز، الذي يمكن أن يجعل الكاتب محظوظًا بما يكفي ليشعر بأنه وصل إلى المرحلة النهائية في مسابقة ملكة الجمال. ذات مرة، كان كاتب وصل إلى المرحلة النهائية ولكنه لم يكن فائزًا بجائزة كبيرة يسير في أحد شوارع مدينة آيوا. توقفت سيارة، وسقطت النافذة، وصرخ أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية للكاتب: لقد تعرضت للسرقة!

إذا أتيحت لي الفرصة لتقديم نصيحة واحدة لكاتب ناشئ، أود أن أسلط الضوء على الحاجة الملحة للتمسك بالحياة الداخلية. أفكر كثيرًا في G.K. اقتباس تشسترتون قدمه لي العبقري كيفن بروكماير، والذي يعد في رأيي أحد أنجح كتابنا في حماية الذات التي يكتب منها: لكنني مهتم بالأحرى بالداخل وليس بالحقيقة الداخلية؛ وكما قلت من قبل، فإن الحقيقة الداخلية تكاد لا توصف.عليك أن تتحدث عن شيء ما، ولهذا السبب لا يتحدث الناس عنه؛ لا ينبغي لنا أن نترجم ببساطة من لغة أو كلام غريب، بل من صمت غريب.

الكثير من عملي كمدرس ومرشد يتضمن إخبار الكتّاب بعدم القلق بشأن الأشياء. إن تعلم عدم القلق كثيرًا أمر بالغ الأهمية، ليس فقط لأننا لا نملك سوى القليل من السيطرة على الكتاب بعد أن يترك أيدينا، ولكن أيضًا لأن هذا النوع من القلق سام للإبداع. نحن نعيش في ثقافة تنشر فيها صحيفة وول ستريت جورنال مقالاً على الصفحة الأولى عن طبيب أمراض جلدية يقوم بفقع البثور على اليوتيوب، ويحصل على 2.4 مليون مشترك. باعتبارنا حراسا لحياتنا الداخلية، يجب علينا أن نحمي أنفسنا الداخلية من الجزء البافلوفي فينا الذي يجيب: "2.4 مليون مشترك!" يجب علينا بدلاً من ذلك أن نتذكر كلمات سانت إكزوبيري بأن "ما هو ضروري غير مرئي للعين". يجب علينا أن نعزل ذواتنا الداخلية عن الجزء الاستعماري الذي يقيم، ويحدد، ويحكم.

الحياة الداخلية هي الطفل الذي يزدهر في مكان هادئ وغير مسبوق. الحياة الداخلية لها قيمة قليلة جدًا في البيئة الاجتماعية ولكنها ثمينة. ولا يمكن العثور عليها في أي شخص آخر، ولا يمكن لأحد أن يراها. إنها سر. على حد تعبير السيدة باسل فرانكويلر: "ولكن يجب أن يكون لديك أيضًا أيام تسمح فيها لما هو موجود بداخلك بالانتفاخ بداخلك حتى يمس كل شيء. ويمكنك أن تشعر به بداخلك. إذا لم تأخذ الوقت الكافي للسماح بحدوث ذلك، فإنك ببساطة تقوم بتراكم الحقائق، وتبدأ في التأثير عليك. يمكنك أن تحدث ضجيجًا معها،ولكنك لا تشعر أبدًا بأي شيء معها. إنها جوفاء."

تمسك بهذا الجزء منك الذي أجبرك على البدء بالكتابة. تمسك بهذه الذات خلال تقلبات "المهنة". إن حياة الكتابة ومهنة الكتابة شيئان منفصلان، ومن المهم الحفاظ على الأولى. إن مهارة البقاء الأساسية الوحيدة لأي شخص مهتم بإبداع الفن هي تعلم كيفية الدفاع عن هذه الحياة الداخلية من العالم. اعتز بنفسك وخصص غرفة داخلية حيث يمكنك أن تنسى حياتك المنشورة ككاتب. تنفس بعمق. داخل هذه الغرفة المسيجة، الزمن مختلف، فهو مرن وطيّع. يُسمح لنا بثنيها، وتسريعها، وإبطائها، والقفز ذهابًا وإيابًا، تمامًا كما يفعل عقلنا. يمكننا العودة إلى أفكارنا وذكرياتنا من خلال اختيار الأفكار الأكثر أهمية بالنسبة لنا. هناك صوت هادئ ومشرق، مثل الصوت القادم من داخل الصدفة.

***

..............................

المؤلفة: لان سامنثا تشانج / Lan Samantha Chang: روائية أمريكية وكاتبة قصة قصيرة. وهي مؤلفة كتاب The Family Chao (2022) ومجموعة القصص القصيرة Hunger. تعيش تشانج في مدينة آيوا.

كثيراً ما يتم طرح سؤال بخصوص النتاج الفكري لأساتذتنا في الفلسفة من الجيل الذهبي الذين غزوا جامعات عالمية كبرى، وعادوا منها بشهادات عليا كانت هي الأساس الذي بنوا عليه بحوثهم وكتبهم اللاحقة، فهل قدم هؤلاء ما يوازي سمعتهم العلميَّة ومكانتهم الأكاديميَّة، وما يجعلهم أصحاب اضافات جوهريَّة في مسار الفكر الفلسفي العربي؟

قد يكون الجواب المجرد من المسببات غير منصف بحقهم، إذا ما تمت المقارنة مع أساتذة الفلسفة العرب والمصريين على وجه التحديد، ومنهم أصحاب المدارس والاتجاهات الفلسفيَّة والمذاهب والتيارات التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين، تلك التي أحصاها ونظمها جميل صليبا بداية الستينيات، وعاد اليها معن زيادة في مقدمة المجلد الثاني للموسوعة الفلسفيَّة العربيَّة، وقد صنّفها صليبا بسبعة تيارات رئيسية يمكن ايجازها بتيار الفكر المادي ممثلاً بفكر الطبيب اللبناني والمفكر الذي هاجر إلى القاهرة شبلي شميل، وتيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب من أمثال محمد عبده ومحمد فريد وجدي، وتيار المثالية وفي عداده وجدانية عباس محمود العقاد وجوانية عثمان أمين ورحمانية زكي الأرسوزي، والتيار الذي مثلته المدرسة التكاملية في علم النفس ولا سيما تكاملية يوسف مراد التي اهتمت بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظواهر الفسيولوجية، والتيار الوجودي وفي طليعته عبد الرحمن بدوي، وتيار الشخصانية الذي أراد أصحابه الرد على الوجودية من جهة، وعلى الماركسية من جهة أخرى، ومن كبار ممثليه رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي، والتيار السابع والأخير هو تيار الاتجاهات العلمية ويمثله يعقوب صروف صاحب مجلة المقتطف، وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود الذي نجح في تأسيس مدرسة وضعية عربية، لكن هذا التصنيف كما يراه معن زيادة غير شامل "ويقف عند الفترة الزمنيَّة التي وضع فيها من جهة، ويهمل تيارات فلسفيَّة عرفها الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن الماضي، كلماركسي والاشتراكي والتيار القومي من جهة أخرى".

أكررالقول ان الجواب قد لا يكون دقيقاً، لسبب بسيط ان أغلب تلك المدارس والتيارات الفلسفيَّة قد سبقت ظهور الجيل الفلسفي الأكاديمي الأول في العراق، من دون أن نهمل رواد النهضة الفكرية العراقية الحديثة الذين كان لهم دور تنويري مؤثر مع نهايات السيطرة العثمانية وبدايات تأسيس الدولة العراقيَّة مطلع العشرينيات، أما الجيل الفلسفي الذي تدرّج في تحصيله الأكاديمي فإنه في الأعم الأغلب لم يعط ثماره الفكريَّة والفلسفيَّة إلا مع مطلع الستينيات ولعقدين لاحقين آخرين، وهي ثمار لم تسهم لأسباب لا علاقة لها بشخصياتهم العلميَّة، في خلق تيار فلسفي عربي مجدد بروح عراقيَّة، مثلما حدث في حركة الشعر الحر، والفنون التشكيلية، وبقيت نتاجات الجيل الذهبي الأول في الفلسفة محدودة التأثير، إلا في حدود الجدران الأكاديمية المغلقة.

لعل أحد الأسباب التي حجبت المشاركة الفكريَّة والفلسفيَّة العراقيَّة في خلق تيار فلسفي عربي له بصماته وهويته، ظروف العراق الخاصة وأوضاعه السياسيَّة المتقلّبة، وغياب البنية المؤسساتية التي ترعى العلماء وتنشر نتاجاتهم، لكن بعضهم أيضاً لم يكن متفرّغاً لقضية الفلسفة، وكانت جهودهم مشتتة بين تخصصاتهم وهواياتهم الأدبيَّة، وإلا بماذا نفسّر أن يختتم مفكر وباحث حياته بديوان شعري شخصي ضخم بعدد صفحاته، ولم يختمها بعمل فكري، أو بكتاب يدوّن ذكرياته الدراسيَّة ومسيرته الأكاديميَّة والفلسفيَّة الطويلة؟.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

(وجهة نظر)

سؤال مشروع يطرحُ نفسه بقوة علينا نحن أبناء دول العالم الثالث عموما، ومنها دول الوطن العربي على وجه الخصوص، هذه الدول التي كثيرا ما نعتها العديد من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي، بالدول المتخلِفة، أو المخلّفة، وهم بهذا التوصيف مصيبون تماما لإدراكهم حالة التخلف البنيوي المزري الذي تعيشه هذه الدول على كافة مستوياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، هذا التخلف الذي راح يتجلى ساطعاً في سيادة العديد من الأنظمة التوتاليتاريّة/ الشموليّة، التي رهن قسم كبير منها قرارات البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة للخارج، كما تجلى هذا التخلف في حالات الخلل الواضح في العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي يأتي في مقدمتها تبلور سلطات العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب الواحد، والتمسك في إعادة إنتاج عصبيات هذه السلطات اجتماعياً وسياسياً وقفافياً، وكل ما يتفرع عنها من قضايا حالت دون تحقيق المقدمات الأساسيّة الموضوعيّة منها والذاتيّة للمجتمع المدني ودولة القانون والمواطنة، أما حالات التخلف على المستوى الثقافي والفكري، فقد تجلت في سيادة الجهل والتجهيل معا بحقائق الأمور التي تهم حياة الوطن والمواطن ومستقبلهما في هذه الدول، إضافة لزرع الخوف والعبوديّة والذل في وعي ونفسيّة الرعايا ولا نقول المواطنين من قبل هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، بدلاً من التأكيد على قيم الشجاعة والحريّة والعزّة في قول الحقيقة وممارستها.

من هذه المعطيات تأتي مشروعيّة التساؤل عنوان موضوعنا، هل الديموقراطية أولا؟، مع إدراكنا بأنه لم يزل الكثير من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي يراهنون على أن الديموقراطية هي الدواء السحري لكل مشاكل تخلفنا، في الوقت الذي يبدو أن هؤلاء يجهلون أن الديموقراطيّة في الغرب ذاته لم تكن هي الحل أولا، بل هي ذاتها كانت نتاج تحولات بنيويّة عميقة في  حياة هذه المجتمعات، حيث شكلت هذه التحولات (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة) الأرضيّة التي قامت عليها الديمقراطيّة والدولة المدنيّة وترعرعتا، مع علمنا وإدراكنا أن الغرب وعبر سلطاته الحاكمة منذ أن وصلت الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة، قد عمل على دفع الديمقراطيّة وبأقصى حد ممكن في الاتجاه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، في الوقت الذي قوننها أو حاصرها في الجانب السياسي كما هو معروف للجميع.

على العموم، تظل الديمقراطيّة في سياقها العام إشكاليّة في مفهومها ودلالاتها وأهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وما تعدد المفاهيم أو التعريفات التي تناولت ظاهرة الديمقراطيّة من قبل المفكرين والسياسيين الذين تعاملوا معها عبر التاريخ إلا تأكيداً على هذه الإشكاليّة، علما أن هذه التعدديّة جاءت في حقيقتها محكومة بمواقف طبقيّة وسياسيّة وأيديولوجيّة ينتمي إليها حاملها الاجتماعي، أو من نَظَرَ لها من المفكرين والكتاب والسياسيين، وهذا ما يؤكد تاريخيّة الديمقراطيّة، والدور الكبير الذي تمارسه هذه المرحلة التاريخيّة أو تلك، التي أنتجت هذه الصيغة من الديمقراطيّة أو تلك على الديمقراطيّة ذاتها أيضاً. لذلك من هنا جاء تعريف الديمقراطيّة أو مفهومها عند بعضهم، بأنها الحياة اليوميّة المباشرة، التي أفضل ما فيها ممارسة الفرد وتعبيره عن رأيه وقناعاته بعيدا عن أي خوف من سلطة أو قانون، طالما أن الذي يريد قوله أو ممارسته يصب في مصلحة الوطن والمواطن. أو جاء عند بعضهم الآخر أيضا، بأنها ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، لها قوتها الماديّة في جوهرها، ولها أشكالها وحركتها وتعدد محطاتها المتوافقة مع تعدد أشكال النظام السياسي القائم بشكل خاص.. عدوها الجهل، وحليفها الدائم العلم والعلمانيّة، وصندوق أسرارها وقوتها الجماهير المقهورة والمضطهدة والمستلبة بكل فئاتها وشرائحها .(1).

أما نحن فيمكننا أن ندلوا بدلونا في السياق ذاته إذا جاز لنا أن نعرفها لنقول بأنها: منهج في التفكير العقلاني، وأسلوب في الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.. ترمي أهدافها وحواملها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتأمين العدالة للمجتمع بكل مستوياتها وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.. حواملها الاجتماعيّة تتبدل وفقا لطبيعة الصيغة الديمقراطيّة المنتجة أو السائدة وأهدافها عبر مراحل التاريخ المتتالية، وهذا في الحقيقة ما يؤكد عندنا أيضا، أن الديمقراطيّة وفقا لهذا التعريف تخضع  للتطور والتبدل في جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ، كما يؤكد نسبيتها وينفي إطلاقيتها، في الوقت الذي يؤكد عناصر استبدادها مثلما يؤكد عناصر قوتها وعدالتها وإنسانيتها .

إذن إن الديمقراطية وفقا لهذه المعطيات ليست مقتصرة في ممارستها وأهدافها على تحقيق البعد السياسي للمجتمع كما يعتقد بعضهم، بل أن ممارسة الديمقراطيّة وأهدافها تصبان في مجمل النشاط الإنساني اليومي لحياة الفرد والمجتمع، بغية تحقيق العدالة والمساواة والاستقرار الاجتماعي. كما أنها ليست صيغة واحدة مطلقة، تُفرخ مجردة، صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صيغ مشخصة ببعدها الاجتماعي التاريخي، وبحواملها الاجتماعيّة التي تأتي من داخل التاريخ وتعمل على تحديد أهدافها ووظائفها وطبيعة المؤسسات التي تنشط عبرها، وذلك وفقا لمصالح هذه الحوامل، ومصالح القوى الاجتماعيّة التي تعبر عنها في فترة تاريخية محددة.

نقول: إذا كانت هذه هي الديمقراطية في مفهومها ومعطياتها، فما هي أبرز مقوماتها، وبالتالي معوقاتها أيضا؟ .

مقومات الديمقراطيّة:

كثيرا ما اعتقد بعض المبشرين بالديمقراطيّة والمطالبين بها، كما أشرنا في موقع سابق، بأنها في حال تطبيقها لدى هذا المجتمع آو ذاك، ستشكل الرافعة التي بها ستتحقق النهضة والتقدم والرقي والخلاص من كل عوامل التخلف، وبالتالي فهي هنا الترياق الذي سيحقق الشفاء للمجتمع المُمَارس لها من كل أمراضه المستعصية منها والطارئة. وهذا الموقف من الديمقراطية برأيي هو موقف يفتقد إلى الكثير من المنطق والعقلانيّة والتاريخيّة بحق الديمقراطية وأهدافها وحواملها معاً، بل هو الجهل المعرفي بعينه، الذي إذا ما سعى دعاة الديمقراطيّة إلى تطبيقها في المجتمع بعيدا عن فهمها في نطاق تاريخيتها ونسبيتها، وهذا سيسيئ بالضرورة إلى الديمقراطيّة ذاتها، والانتقاص في المحصلة من أهميتها ودورها في بناء المجتمع. لذلك ومن هذا المنطلق المنهجي في فهم أهمية الديمقراطيّة، ودورها في بناء المجتمع، لابد لنا من الوقوف قليلا للإشارة إلى أبرز مقومات الديمقراطية هنا وهي:

أولا: الوعي الديمقراطي: لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطيّة سليمة، إذا لم يكن هناك وعي ديمقراطي سليم أساسه التربية والتعليم لدى حملة المشروع الديمقراطي عبر التاريخ، بحيث يستطيع حملة هذا المشروع أن يدركوا عبر تربيتهم وتعليمهم آليّة عمل الديمقراطيّة وإنتاجها، وكذلك عوامل نشوئها، وما هي المساحة الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تستطيع هذه الصيغة أو تلك من صيغ الديمقراطيّة أن تمارس نشاطها فيها. فامتلاك هذه الوعي/المعرفة، يشكل القدرة على التحكم وضبط آليّة ممارسة الديمقراطيّة وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبالتالي فإن أي جهل في هذه الآليّة المركبة والمتداخلة في مكوناتها، سيؤدي بالضرورة إلى إخراج الديمقراطيّة من تاريخيتها، ووضعها في دائرة مبدأ "سرير بروكست"، حيث سيعمل حملتها هنا، إما على مطمطة، أو قصقصت  الواقع المعاش، كي ينسجم مع رغباتهم وشعاراتهم الديمقراطيّة، وليس وفقا لخصوصيات هذا الواقع .

ثانيا: المسؤوليّة: تشكل المسؤوليّة الشرط الأساس لنجاح التطبيق الديمقراطي، فلا ممارسة حقيقيّة للديمقراطية دون تحقيق شرط مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه، ومسؤوليته تجاه الآخرين. فالمسؤولية تشكل في الواقع الشرط الأخلاقي / ألقيمي لحاملها الاجتماعي، الأمر الذي يفرض عليه – أي الحامل الاجتماعي – أن يخضعَ لشروط عقلانيّة وعي وممارسة الديمقراطية، وبخاصة تاريخيتها ونسبيتها، بما يخدم المجتمع ومصالحه وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة .

ثالثا: توافر الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي: نستطيع القول في هذا الاتجاه: بأنه، لا ديمقراطيّة بدون ديمقراطيين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هو، ما هي طبيعة هذا الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي؟ .

لقد أشرنا في موقع سابق، أن لكل صيغة من صيغ الديمقراطيّة حواملها الاجتماعية المسؤولة عن تطبيقاتها، ومعرفة آليّة عملها، وظروف إنتاجها، والمساحة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة التي يجب أن تتحرك فيها أو تشتغل عليها. وهذا يعني أن الصيغة الديمقراطية المطروحة للتطبيق وحواملها الاجتماعيّة كلاهما يرتبطان بجملة الشروط الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة للوجود الاجتماعي في مرحلة تاريخيّة محددة، فعلى سبيل المثال لاالحصر، إن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها من الطبقة الارستقراطيّة لدى اليونان التي كانت تعبر عن عدالة اجتماعيّة تقر بالعبوديّة والتفاوت الطبقي، هي غيرها في المرحلة التاريخيّة للنظام الرأسمالي، أو لدول العالم الثالث التي يغيب فيها الوضوح الطبقي ولم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة- أي وجودها الاجتماعي- المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.. الخ . إذن، نستطيع القول أو التأكيد مرة أخرى في هذا الاتجاه: إن طبيعة الحامل الاجتماعي ومدى وعيه لمفهوم الديمقراطي ودرجة مسؤوليته تجاه المهام المناطة بالديمقراطيّة التي عليه ممارستها في مرحلة تاريخيّة محددة، هي التي تلعب الدور الكبير في تحديد طبيعة النشاط الديمقراطي، ومستوى درجة نجاحه في تطبيق أهداف الديمقراطيّة من عدالة ومساواة واستقرار، التي يتضمنها هذا النشاط، ثم مستوى مطابقته للظروف الموضوعيّة والذاتيّة لهذا المجتمع في المرحلة التاريخية ذاتها .

معوقات الديمقراطيّة:

إذا كانت القضايا التي جئنا إليها أعلاه تشكل مقومات التطبيق الديمقراطي، فإن معوقاته تكمن حقيقة في غياب هذه المقومات. فغياب الوعي الديمقراطي أولا، والشعور بمسؤوليتها الأخلاقيّة لدى حواملها الاجتماعية ثانيا، إضافة إلى غياب هذه الحوامل الاجتماعيّة التي تمتلك هذين الشرطين ذاتها ثالثا، دفع بالديمقراطيّة أن تتحول إلى وسيلة لتحقيق المصالح الأنانيّة الضيقة لمن يحمل المشروع الديمقراطي في عالمنا الثالث المخلّف بشكل خاص، والذي غالبا ما تكون فيه الصيغ الديمقراطيّة المطروحة في مثل هذا الغياب، سلعا مستوردة من مجتمعات أكثر تطورا من المجتمع الذي يعيش فيه دعاة هذه الديمقراطية الفاقدة لشروطها الموضوعيّة والذاتيّة، أو هي تُفصل على قياس القوى الحاكمة، كما هو الحال لمن يطالب بديمقراطيّة وعدالة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تطبق في الصين المتقدمة حضاريا اليوم بكل مستوياتها، على واقع دولة متخلفة ومنهارة اقتصادياً، ومعظم اقتصادها اليوم في يد القوى الأجنبيّة والبرجوازية المحليّة من الفئات الطفيليّة والسماسرة. والنتيجة ستكون هنا تحقيق ما نستطيع تسميته بـ" فوضى الديمقراطيّة الاقتصادية والسياسيّة معاً على اعتبار السياسة هي الاقتصاد المكثف، وهذا ما سيزيد في النتيجة من تعميق أزمات المجتمع بدلا من انفراجها، بل سيدخل المجتمع في صراعات داخليّة وحروب أهليّة بغية تحقيق مصالح أنانيّة ضيقة أبرز ما تسعى إليه القوى الحاكمة هنا من  مهام ووظائف هو الوصول إلى السلطة لتحقيق هذه المصالح والبقاء بها، هذا  وغالبا ما تتحرك في هذا الدولة أو تلك من مستوردي الديمقراطية، الصراعات الداخلية وفقا لمرجعيات ضيقة (عشيرة، قبيلة، طائفة، دين)، بالرغم من السعة الاجتماعيّة والوطنيّة في بنية الشعارات الديمقراطيّة المطروحة من قبل هذه الحوامل الاجتماعية المتصارعة على المصالح الأنانيّة الضيقة، وهناك أمثلة كثيرة على مأزق أو (فوضى الديمقراطيّة) في دول العالم الثالث بشكل عام، ومنها دولنا العربيّة بشكل خاص، التي سببتها تلك الشعارات الديمقراطيّة الفضفاضة المستوردة من مجتمعات أكثر تطورا، ستساعد في المحصلة شاؤا أم أبو على تعميق أزمة المجتمع والديمقراطية معا.

أما إذا أخذنا الجانب السياسي للديمقراطيّة في هذه المجتمعات أيضا، فنستطيع القول في هذا الاتجاه: إن الديمقراطيّة السليمة هنا تشكل عنصر إصلاح أساسي في المجتمع، وخاصة إصلاح السلطة، أي هي ستعمل في أبسط صورها على تحقيق تداول السلطة، وهذا في الواقع ما لا تسمح به السلطات الحاكمة في دول العالم الثالث ومنها دول وطننا العربي الشموليّة/ الكليانيّة على سبيل المثال، وهذه إشكاليّة قائمة بذاتها، غالبا ما كانت وراء قيام المعارضة وطرحها لشعارات المجتمع المدني ،هذه المعارضة التي لا تختلف هنا من حيث طبيعة تكوينها ومرجعياتها التقليديّة عن السلطات الحاكمة الشموليّة، وبالتالي ستكون دوافع ونوايا قسم كبير من هذه المعارضة شبيهة، إن لم تكن متطابقة مع مواقف ونوايا القوى الحاكمة ذاتها. لذلك ماذا يعني أن تلتقي المعارضة في سوريا - على سبيل المثال لاالحصر- في منزل شيخ عشيرة وهي ترفع شعرات المجتمع المدني، في الوقت الذي لا يمكن أن تتطابق فيه شعارات المجتمع المدني مع عقلية شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة.

من هنا نجد أن كلاً من السلطة وقوى المعارضة يدعيان بأنهما يعملان لمصلحة الشعب وحريته وعدالته وتحقيق مواطنته. هذا إذا ما أضفنا معوقاّ آخر من المعوقات التي تحول دون ممارسة الديمقراطيّة في عالمنا الثالث، وهو موقف الأصوليّة الدينيّة المتزمتة من ممارسة  الديمقراطيّة، حيث لم يزل قسم واسع من حملة هذا الفكر الأصولي يرفضون ليس قبول ممارسة الديمقراطيّة ممثلة بآلياتها ومؤسساتها في واقعنا، وإنما يرفضون مصطلح الديمقراطيّة ذاته، على اعتباره عندهم مصطلحاً غربيّا قادما من دار الكفر والرذيلة، وهو يناقض الشورى التي أقرها الله في كتابه العزيز، في الوقت الذي لم يستطيعوا حتى هذا التاريخ الاتفاق على تحديد آليات عمل هذه الشورى وتبيان أهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وهم بذلك يبرهنون على جهلهم بمعرفة الشورى والديمقراطيّة معا، مثلما يسيئون لهما أيضا .

ختاما نقول: تظل الديمقراطية مشروعاَ إنسانيّا بالنسبة للمجتمعات البشريّة عموما ومنها مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، يهدف في سياقه العام - إذا ما توفرت شروط تحققه الموضوعيّة والذاتيّة - إلى سعادة الإنسان وتقدمه ورقيه، بل وتفجير إمكاناته وإبداعاته وقواه الحيّة التي تعمل على إثبات وتنمية إنسانيته .

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...............................

الهوامش:

1- راجع كتابنا: الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة – إصدار دار العلم – دمشق – 1993- ودار التكوين دمشق – 2005.

تحليل من منظور علم النفس وألأجتماع السياسي

تنويه: معظم المنشغلين في السياسة سوف لا يقرأون هذا المقال لأنهم ينفرون من عنوانه، مع انه يشخّص الحقيقة. فأحدى اهم نقاط الخلاف بيننا نحن علماء النفس والاجتماع السياسي والأخوة السياسيين، انهم يشخصّون الخلل في الانتحاري الإرهابي بالاستيلاء على السلطة عن طريق العنف، فيما نشخصّه نحن في المعتقد الذي يحمله في رأسه ويسوقه إلى تحقيق هدفه. فنحن نرى أن السلوك، أيا كان نوعه: عبادة، قتل، تطرّف، تسامح.. ناجم عن فكرة أو معتقد، وأن اختلاف الناس في أفعالهم ناجم أساسا عن اختلافهم في الأفكار والمعتقدات التي يحملونها.

التحليل

ثمة حقيقة سيكولوجية هي.. إن كلّ المنتحرين، عدا الحالات الفردية، يقدمون على الانتحار إخلاصا لمعتقد يؤمنون به. ولا اختلاف في الفعل بين الطيارين اليابانيين الذي انتحروا بضربهم، في لحظة مباغتة، البوارج الأميركية الحاملة للطائرات وتفجيرها بطائراتهم في ميناء بيرل هاربر، وبين انتحاري إرهابي يفجّر نفسه بين الناس. فالفعل هو انتحار، والفرق يكمن في نوعية المعتقد الذي يدفع صاحبه إلى الانتحار. فهو عند الطيارين اليابانيين كان من أجل الوطن، فيما هو عند الانتحاري الإرهابي إلحاق أكبر الأذى بالآخرين. ولهذا علينا أن نجيب على هذا السؤال:

كيف تشكّل هذا المعتقد لدرجة أنه يجعل الفرد يستسهل إفناء نفسه والآخرين بعملية قتل بشعة؟

الانتحاري الإرهابي.. صناعة عربية

من متابعتنا الميدانية وجدنا أن الانتحاري الإرهابي هو صناعة عربية، وأن المصدر الأول في تشكيله هو السلطة العربية، وأنه ابنها بامتياز. وأن هذا لا يعود لظلم السلطة بالدرجة الأولى، بل لانعدام العدالة الاجتماعية المتمثل بثراء فاحش ورفاهية خرافية تتمتع بها قلّة، وحرمان تعاني منه الأكثرية، أفضى إلى اغتراب بين المواطن العربي وسلطته. وما لا يدركه كثيرون أن الاغتراب، فضلا عن كونه حالة مأزقية بين الفرد والسلطة، فإنه يجعل صاحبه يشعر بأن وجوده لا معنى له، وأنه يعيش حياة بلا هدف.

ولأن الحاكم العربي تتحكم فيه “سيكولوجيا الخليفة” التي يرى فيها نفسه انه امتداد للخليفة من 1400 عام، ولأنه استفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته، فإن بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها لوجوده معنى ولحياته هدفا، فوجدها في القاعدة ثم في داعش، بعد أن زين له من يراهم قدوة أنه سيكون بين هدفين لا أروع منهما: إما أن يفوز بتحقيقه دولة إسلامية يكون فيها أميرا، وإما يموت ويفوز بالجنّة، في حياة أبدية بها ما لذّ وطاب وحور عين وولدان مخلدون بخدمته.

ولهذا فإن الانتحاري الإرهابي ليس فقط يستسهل تفجير نفسه بل يستعذبه، لأنه مؤمن إيمانا مطلقا بمعتقده الذي لا أروع وأكرم وأعظم منه في نظره. ولهذا لم تستطع أميركا بعظمتها العسكرية ومعها حلف الناتو القضاء على الإرهاب، لأن السلطة العربية “ولادّة” لانتحاريين إرهابيين يعدّون الحياة أمرا تافها إزاء حياة أبدية في جنّات النعيم، ويعدّون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاّء في وطنهم.. قصاصا عادلا وأمرا جهاديا.

الشخصية الإرهابية.. في اطروحة دكتوراه

في عام (2009) اشرفت في جامعة السليمانية على اطروحة دكتوراه للسيدة جوان احسان (صارت فيما بعد عضوا في البرلمان العراقي) تعدّ الأولى عراقيا وعربيا ودوليا من نوعها، وقد استضافتها اميركا لتقدم محاضرة عنها.

ما يعنينا هنا ان الباحثة التقت بالمحكومين بجرائم الإرهاب في السجون التابعة لوزارة الداخلية في اقليم كوردستان ومؤسسات السجون التابعة لوزارة العدل العراقية لتطبيق الاختبارات واستمارات المقابلات عليهم. وتبين ان نصف الإرهابيين يحملون الجنسية العراقية فيما توزع نصفهم على عشرة بلدان عربية هي: سوريا، السعودية، اليمن، السودان، تونس، فلسطين، الاردن، مصر، الكويت، والجزائر.. لتؤكد مقولتنا ان الإرهابي هو صناعة عربية.

وتوصلت في نتائجها الى ان الإرهابيين (لديهم شعور دائم بالغبن وغير راضين عن السلطة ومن يواليها)، وان الإرهابي يعتقد (ان ضحايا التفجيرات والعمليات الانتحارية.. شهداء) وان تلك العمليات (هي قمة الاستشهاد ) وان هدف الإرهابي في حياته هو (نصرة دينه والفوز بالجنة).

البندقية.. لن تقضي على الشخصية الداعشية

ثمة حقيقة سيكولوجية.. إن البندقية وحدها لن تخيف من يستسهل ويستعذب إفناء نفسه والآخرين، وليس بمستطاعها القضاء على داعش، وإن عقد مؤتمرات دعائية لمكافحة الإرهاب تبدأ ببهرجة وتنتهي بوضع توصياتها في الأدراج، وأخرى تدعو لتوافق سياسي ومصالحة وطنية تلتقي بوجوه متآلفة وتنتهي بقلوب متخالفة، لن تجدي نفعا، ما لم يتم توظيف السلاح المفقود في هذه المواجهة باستقطاب خبراء سيكولوجيين وعلماء تربية واجتماع يضعون إستراتيجية علمية يشكل تحقيقها ظهيرا اجتماعيا وسيكولوجيا يسهم في إنهاء داعش بزمن أقصر وتضحيات أقل.

وهنالك مفقود آخر لم تفكر السلطات السياسية باستخدامه في مواجهة داعش، هو أن المسألة الحاسمة في الفكر الداعشي هي التكفير، إذ يرى أن تفسير القرآن والسنة النبوية بكلام الفقهاء بدعة أبعدت الناس عن معرفة الحقيقة التي جاء بها القرآن، وقد تبناها جمال الحمداني (أبو نوح قبر العبد) وجماعته المنتشرة في الجزيرة والقرى بين الحدود العراقية والسورية، التي تكّفر من لا يقول بمثل قولها، فيما هنالك جماعة أشد غلوا يمثلهم أبو علاء العفري نائب البغدادي، لا يعذرون بالجهل مطلقا، حدثت بينهم ومجموعات أخرى خلافات تجاوزت الطرد والتسفيه إلى التصفية الجسدية، بينهم قاضي داعش التونسي أبو جعفر الحطاب الذي كفرته وقتلته، وقبله تمت تصفية قاضيها السابق الكويتي، أبو عمر الكويتي، الذي كفّر البغدادي. وقد أدى مسلسل التكفير إلى قتل 18 قائدا من أصل 43 من قيادات الصف الأول بين يونيو 2014 وأبريل 2015، ما يعني سيكولوجيا أن الحول العقلي( وهو مصطلح ابتكرناه وادخلناه في علم النفس العربي) يتحكم بالتفكير الداعشي. ولأن المصاب بالحول العقلي ينظر إلى الأمور الجدلية على أنها أبيض وأسود فقط، ومنغلق ذهنيا على معتقدات جزمية، ولن يتخلى عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، فإن هذا يعني أن هنالك خطرا كبيرا يتهدد داعش من الداخل، وهذا هو المفقود الفكري الذي لم يتم التفكير به أصلا في مواجهتها، ولم يفكر به القائمون على شبكة الأعلام العراقي، والاعلام العربي.

في ضوء منظورنا هذا، نرى ان العالم لن يستطيع القضاء على الإرهاب، وهذا ما اكده الجيش الأمريكي بتصريحه في (6 / 4 / 2024) بأن داعش ما يزال قويا في العراق وسوريا. ومع تعدد وتنوع الأسباب، فأن السبب الرئيس هو ان السلطة العربية ما تزال ولّادة للإرهابيين ممن باتوا يعدّون حياتهم البائسة أمراً تافهاً إزاء حياة أبدية يسعون إليها في جنات النعيم، وهم يعدون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاء في وطنهم.. قصاصاً عادلاً وأمراً جهادياً، وأن فساد واستبداد الأنظمة العربية وعجز المواطنين عن تحقيق التغيير السلمي، يشكل بيئة مناسبة لتغذية الأفكار المتطرفة وبروز الجماعات الإرهابية.

اقتراح

نكرر القول بأن البندقية تقضي على الإرهابي جسديا ولن تقضي على افكاره التي يبثها بين الأطفال والمراهقين والشباب والمضطهدين ومن يرى أن السلطة مصدر شقاء له.

ولو كانت ظاهرة الإرهاب تقتصر على بضعة أفراد لأمكن القول أنهم قلة من المجرمين المرضى نفسيا في المجتمع، لكن الحديث يدور اليوم عن ملايين يسمون أنفسهم مجاهدين ويقتلون الناس بدم بارد. بل انهم نجحوا في ان يجعلوا صانعة الحياة ومانحة الحب ورمز التضحية والايثار والعطاء غير المحدود.. المرأة.. ان تكون قنبلة تقتل من حولها!

وعليه نقترح عبر جريدة (المدى ) العراقية عقد مؤتمر عربي في بغداد يشارك فيه أكاديميون وسياسيون ورجال دين واعلاميون من المعنيين بالإرهاب تحديدا لوضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب تنفذ على مراحل، تبدأ من المناهج الدراسية بمرحلة الدراسة الأبتدائية وتنتهي بسياسة الدولة وخطط المؤسسات الامنية في مكافحة الإرهاب في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: فرح عبد الصمد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تتشكل حياة سكان شمال إفريقيا في فرنسا من خلال صراع مروع من أجل الانتماء، والذي يوصف بصدمة ما بعد الاستعمار

لم أتمكن من تناول الكثير من الطعام وكنت أترنّح معظم الوقت. غادرت القوة جسدي الضعيف. قلت لأولئك الذين استمعوا إلي: "أشعر أنني لست على ما يرام". أضفت: "إنه أمر مؤلم"، وأنا أشير إلى معدتي، ورأسي، ومعصمي، في حين أن ركبتي أو رقبتي لم تكن هي التي تزعجني. خلال تلك الأوقات، كان جسدي يشعر بأنه متأرجح بين التوتر وقلة النوم: مملة، تتخللها أحاسيس الطعن والالتواء والطعن. تمنيت أن يضغط أحد على ذراعي، فيعلمني أن كل ما يسحق دواخلي سوف يُهزم قريبًا. كلما حدثت حالات تفشي المرض، كنت أختبئ ممسكة بقلادة مرجانية تونسية تقليدية جعلتها بمثابة تعويذة.

كنت طفلة مريضة مجعدة الشعر تتجنب اللعب في الخارج. نشأت في غرب باريس، وقد برزت بالفعل بين أصدقائي الفرنسيين كطفلة كانت مثلهم ولكن ليس تمامًا - نصف بيضاء، عن طريق أمي، ونصف عربية، عن طريق والدي، الأمر الذي حكم عليّ بالعيش في غرب باريس. فئة مختلفة من الفرنسية. كنت أرغب بشدة في الاندماج، لأكون نسخة مما اعتقدت أنه "طبيعي". لكن معاناتي جعلت هذا الأمر أكثر صعوبة. لقد شكلت ذخيرة مدمجة تشمل الالتهابات الشبيهة بالأنفلونزا والبرد التي تركتني أسعل بانتظام حتى تحترق أضلاعي. لفترة من الوقت، كنت مصابة بقروح البرد المشوهة.

لقد رفض الأطباء والأصدقاء وحتى أفراد الأسرة تشخيصاتي الذاتية، وأصروا على المصطلح الغامض المألوف "الفيروس". أوه، إنه مجرد فيروس، كما يقولون، على أمل أن يقلل ذلك من قلقي. لكنها أثارت فضولي فقط. أي فيروس؟ ألديه اسم؟ هل يمكنني إجراء الاختبار؟ لماذا يأتي لي، على وجه التحديد وبانتظام، وليس لأي من أصدقائي البيض؟

بينما قام الأطفال الآخرون ببناء حصون من الوسائد، قمت بتطوير البروتوكولات الصحية (الأطعمة والفيتامينات والأعشاب) والحاسة السادسة لعلامات المرض. عندما ضرب الفيروس، قمت بنشر ترسانتي من الجرعات والعلاجات. وعندما فاجأتني قوتها، تركت نفسي يجرفني الضباب. كنت أخشى الليالي أكثر من أي وقت مضى، ونادرًا ما أجرؤ على التحقق مما كان تحت سريري.3879 مظاهرة في باريس

في مظاهرة في باريس بفرنسا، عقب إطلاق الشرطة النار على ناهل مرزوق في ضاحية نانتير؛ 2 يوليو 2023.

الحالة المزمنة التي عانيت منها تشبه الحالة التي تم تسميتها قبل وقت طويل من ولادتي. في عام 1952، كان فرانتز فانون البالغ من العمر 27 عامًا قد نشر للتو كتابه الأول، بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، وهي أطروحته للدكتوراه المثيرة للجدل والمرفوضة حول آثار العنصرية على الصحة. كان فانون يتدرب في مستشفى سان ألبان في جنوب فرنسا عندما لاحظ سريعًا أن العاملين في المجال الطبي غالبًا ما يتجاهلون قلق المرضى في شمال إفريقيا ويقللون من شأنه. في ذلك الوقت، كان المغرب والجزائر وتونس (حيث ولد والدي) إما مستعمرات فرنسية أو محميات، وكان هؤلاء المرضى من المهاجرين من الجيل الأول، وهم رجال عبروا البحر الأبيض المتوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء فرنسا المتروبولية. ولم تكن الحياة سهلة بالنسبة لهم. عاش معظمهم في عقارات الطبقة العاملة غير الصحية الذين استفادوا من دخولهم الضئيلة واحتلوا أدنى درجات المجتمع الفرنسي. لقد نجوا من مجرد حنين عميق للوطن والعائلة التي تركوها وراءهم. وكان لديهم أعراض مماثلة لمرض غير معروف. ومن خلال ملاحظات فانون السريرية - التي من شأنها أن تؤثر على كتابه المؤثر بشكل كبير وتدفعه للانضمام إلى مستشفى البليدة-جوانفيل للأمراض النفسية في الجزائر - كتب مقالًا أساسيًا يكشف عن مجموعة مشتركة من الأعراض لما أسماه "متلازمة شمال إفريقيا".

اشتكى سكان شمال إفريقيا من الألم المراوغ. أوصافه، بحسب الأطباء الفرنسيين، كانت غير موثوقة. ويبدو أنهم يكذبون بشأن أمراضهم أو يبالغون فيها، ولم يصبحوا أكثر من مجرد إزعاج طبي. لكن فانون خصص وقتًا للاستماع. وعلى أسس تقليدية، كان من الصعب تفسير آلامهم. كتب فانون أنهم «يصلون محاطين بالغموض»، وباستثناء حالات نادرة، لم تظهر عليهم أي آفات جسدية. إنه يؤذي "في كل مكان" وليس في أي مكان على وجه التحديد. أراد الأطباء تشخيصهم من أجل إعطاء الدواء بشكل صحيح، لكن المرضى أصبحوا منزعجين من كل الأسئلة لأن معاناتهم كانت موجودة، وواضحة بشكل لا يطاق لوصفها. "إنه أمر مؤلم" - ولكن ما طبيعة هذا الأمر؟

فضح فانون الأحكام المسبقة التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون

في الخمسينيات، كانت فرنسا عند نقطة تحول. اندلعت حرب الاستقلال الجزائرية في عام 1954، والتي دعمها فانون بنشاط لبقية حياته القصيرة، وخسر الاتحاد الفرنسي (الذي حل اسمياً محل الإمبراطورية الاستعمارية) مستعمراته في جنوب شرق آسيا. عشية الاستقلال وإنهاء الاستعمار، وضع فانون نظرية مفادها أن الألم الجسدي الذي يعاني منه المهاجرون من شمال إفريقيا كان تجسيدًا للاغتراب العميق الجذور، ومظهرًا من مظاهر تبدد الشخصية. وقام بتحليل شكاواهم المشتركة من المعاناة الجسدية باعتبارها "نظرية اللاإنسانية":

بدون عائلة، بدون حب، بدون علاقات إنسانية، بدون شركة مع المجموعة، سيحدث أول لقاء مع نفسه في الوضع العصابي، في الوضع المرضي؛ سوف يشعر بأنه فارغ، بلا حياة، في صراع جسدي مع الموت، موت على هذا الجانب من الموت، موت في الحياة – وما هو أكثر إثارة للشفقة من هذا الرجل ذى العضلات القوية الذي يقول لنا بصوته المكسور حقًا: دكتور، سأموت؟

ناضل العمال في شمال أفريقيا للتعبير عن عجزهم الاجتماعي والعاطفي، المحفور في العنف الاستعماري والاقتلاع. أوصى فانون بالعمل بشكل جماعي على "معنى الوطن" لمعالجة حرمانهم وألمهم. لقد فضح تحيزات أقرانه التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون. على سبيل المثال، أصبح "الداء الخطير" ــ وهو التشخيص الذي تم اختراعه في مطلع القرن العشرين لمراعاة ميل العمال المفترض إلى تضخيم الحوادث بهدف المطالبة بالتعويض ــ مرتبطا فيما بعد بسكان شمال أفريقيا على وجه الخصوص: حيث تقاربت المخاوف الطبية والسياسية. لكن سكان شمال أفريقيا الذين دخلوا مستشفى فانون لم يكونوا مختلين أو ماكرين. لقد كانوا على ما يرام لأن الظروف المعاكسة في المجتمع الفرنسي سحقت إنسانيتهم.

قادني مقال فانون إلى التساؤل عن سبب إصابة سكان شمال إفريقيا الفرنسيين بالألم أكثر من غيرهم، وما إذا كان الأمر لا يزال كذلك، وما الذي يمكننا تعلمه من المدى الذي تلعب فيه ظروفهم الاجتماعية والثقافية دورًا حاسمًا في تشكيل وفهم الأمراض. أنا لست طبيبة مثل فانون؛ تجربتي أكثر ذاتية من كونها قابلة للاختبار بشكل موضوعي. بالنسبة لي، الألم شخصي وعالمي بشكل عميق. لديهما القدرة على جعلنا نشعر بالوحدة في العالم، ولكن أيضًا للتواصل مع مجموعة أوسع تعاني من نفس المحنة. لقد واجهت هذه الازدواجية منذ وقت ليس ببعيد.

في يونيو/حزيران 2023، بعد ساعات قليلة من قيام شرطي بقتل مراهق فرنسي من شمال إفريقيا يبلغ من العمر 17 عامًا يُدعى ناهل مرزوق، عند نقطة قريبة في ضاحية نانتير بباريس، أصابني ألم شديد لدرجة أنني بالكاد أستطيع التحدث. وخلافاً لعمليات القتل الأخرى – ما لا يقل عن 20 قتيلاً سنوياً على يد الشرطة الفرنسية في العقد الماضي – فقد تم تصوير هذه الحادثة. في التسجيل القصير، توقفت سيارة صفراء محاطة بدراجات نارية تابعة للشرطة وشرطيين راجلين. في البداية بدا الأمر وكأنه تفتيش عادي، إلا أن أحد رجال الشرطة يحمل مسدسًا موجهًا نحو السائق ناهل، ويحذره من أنه سيطلق النار. وعندما بدأت السيارة في التحرك، أطلق الشرطي النار، فاصطدمت السيارة على بعد أمتار قليلة. مات ناهل. وسرعان ما تم دحض المحاولة المؤسسية للتستر على الحادث عندما تسرب الفيديو عبر الإنترنت.

باعتباري مواطنة فرنسية من شمال إفريقيا، كان لدي شعور رهيب بأنني رأيت مثل هذا من قبل وثمة حسرة في القلب. وانضم إليها شعور مشترك بالغضب، مما أدى إلى احتجاجات عنيفة على مستوى البلاد اندلعت بعد وقت قصير من اغتيال ناهل. وكانت في ذهني ذكرى ناهلز آخرين، مثل الشاب زيد بينا وبونا تراوري، اللذين توفيا في عام 2005 أثناء مطاردتهما من قبل الشرطة في ضاحية باريسية أخرى، كليشي سو بوا. إن صور الهوية غير الواضحة لزيد وبونة، والتي تم تداولها على نطاق واسع في التلفزيون والصحف، قريبة إلى قلبي. كتبت سوزان سونتاغ في كتابها "فيما يتعلق بألم الآخرين" (2003): "عندما يتعلق الأمر بالتذكر، فإن التصوير الفوتوغرافي له التأثير الأعمق". "التصوير الفوتوغرافي هو بمثابة اقتباس أو حكمة أو مثل. " وفي حالة زيد وبونة، فإن صورهما بمثابة تحذير. إذا كنت تبدو هكذا، فقد تكون في خطر.

عرضت القنوات الإخبارية خبراء يلقون اللوم على ناهل في قتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته).

سأل أحد الصحفيين بعد أسبوع من مقتل ناهل: "هل تعتقد أن هناك عنصرية في [قوة] الشرطة؟". أجاب قائد شرطة باريس: «لا على الإطلاق». لقد شعر بالصدمة من إمكانية اقتراح مثل هذا المصطلح. تواصل العديد من المؤسسات إنكار وجود العنصرية النظامية في فرنسا. ولكن، كما قالت عالمة الاجتماع كوثر هارشي* في مقال نشرته ذلك الصيف، فإن حياة الفرنسيين الأفارقة "أصبحت معرضة للقتل" بسبب فكرة كونهم عنصريين بشكل واضح. وكتبت: “إن العيش حياة كرجل عربي، رجل أسود، في فرنسا العنصرية هيكليًا، يعني العيش على مسافة قريبة من الموت”.

إن تجربة العنف هذه أعمق من مجرد حالات معزولة لوحشية الشرطة. في عام 2017، أفاد 80% من الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود أنهم أوقفوا مرة واحدة على الأقل من قبل الشرطة، مقارنة بـ 16% لبقية السكان. في الفرنسية، تسمى هذه العنصرية السيطرة على الوجه أو "التحكم في الوجه"، وهو ما يشير بشكل فظ إلى أهمية المظهر العرقي، وهو نوع آخر من عدم المساواة الذي يحدد المساحات المتاحة لسكان شمال إفريقيا للعيش بأمان، وخاضعة لوصفات البيض حول ما يعنيه الأمن.

ومع انتشار الاحتجاجات في الصيف الماضي، تحولت في بعض الحالات إلى أعمال عنف. بعد ثلاثة أيام من وفاة ناهل، وسط فرض حظر التجول على نطاق واسع، أدانت اثنتين من أهم نقابات الشرطة "جحافل المتوحشين" وتعهدتا بمحاربة هذه "الآفات". باتباع مبدأ فوكو القائل بأن العقوبة ليست عملاً من أعمال العدالة، بل هي عمل من أعمال القوة، وعدوا بتهدئة السكان الأصليين المتمردين في القرن الحادي والعشرين والحفاظ على النظام (نظام من؟)أصبحت العقوبة الجماعية للمتحدرين غير المنضبطين من الرعايا المستعمرين، الذين كانوا ميالين عرقيًا للعنف مثل أسلافهم، مشهدًا عامًا على القنوات الإخبارية، حيث يتهم النقاد ناهيل بقتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته) ). لقد تم إطلاق العنان لأسوأ الميول العنصرية في فرنسا. ولم تعترف النخب بالاختلاف العرقي باعتباره حقيقة أساسية فحسب، بل قامت بإضفاء طابع عنصري عليه وتسييسه لتقسيم الرأي العام. وكما تساءلت جوديث بتلر ذات مرة: متى تكون الحياة "حداداً"؟ فقط عندما تُفهم حياة المرء على أنها حياة – حياة محفوفة بالمخاطر ومحدودة. لكن نخب المجتمع الفرنسي لم تنظر إلى ناهل وأمثاله إلا على أنهم مجرد تهديد، ولا شيء غير ذلك. بالنسبة لهم، لم تكن حياته حزينة.

لقد نشأت أيضًا في إحدى ضواحي باريس، لكنني لم أكن في فرنسا الصيف الماضي. ومع ذلك فقد قمت بإعادة تشغيل مقطع الفيديو الخاص بمقتل ناهل مرارًا وتكرارًا على أمل أن تظهر المشاهدة المختلفة ذنب ناهل بطريقة أو بأخرى أو ربما اللجوء المشروع للدفاع عن النفس من قبل الشرطة. لكن كل مشاهدة كانت تؤكد عكس ذلك،، مما أثار استياءً متزايدًا من أن ألمي لم يكن يشاركني على نطاق أوسع من قبل أشخاص لا يشبهونني أو يشبه ناهيل. ولا يحدث العنف في عزلة، أو في الماضي فقط، كما حدث في عام 1961، عشية استقلال الجزائر، عندما قتلت الشرطة 100 متظاهر، وتم دفع الجزائريين إلى الغرق في نهر السين. هذه الأحداث، مثل ألمي المزمن، موجودة هنا والآن وهي حاضرة دائمًا.

الألم موضعي في الجسم. على هذا النحو، فإنه يعيدنا إلى دستورنا الجسدي، والذي يعتبر بالنسبة لمواطني شمال إفريقيا في فرنسا مرادفًا للهوية السياسية. أجسادنا هي مواقع ذات أبعاد متعددة ومتداخلة – رمزية، وحقيقية، وذاتية – تعمل معًا في تضاريس اجتماعية هرمية اكتسبت مؤخرًا من الإسقاطات الاستشراقية الاستعمارية. يقال لنا إننا ننتمي إلى أراض غريبة، تختلف جوهريا عن أوروبا، وأننا يجب أن نكون "متحضرين" ومحتلين. نحن موضوع للبحث العلمي الخارجي، ممنوعون من رواية قصصنا الخاصة - يجب أن يخبرنا الخبراء الأوروبيون عن هويتنا.

الألم هو "تجربة حسية وعاطفية غير سارة مرتبطة أو تشبه تلك المرتبطة بتلف الأنسجة الفعلي أو المحتمل"، وفقًا للرابطة الدولية لدراسة الألم. الألم يأتي من التمزق. يرسل الجسم إشارات إلى الدماغ بأن شيئًا ما ليس على ما يرام وأننا يجب أن ننتبه إليه. نحن الآن نفهم فكرة فانون عن "متلازمة شمال أفريقيا" تحت الشعار الواسع لصدمة ما بعد الاستعمار. هذا هو المجال الذي يدرس التفاعل بين الأقليات العرقية (أو المجموعات غير الغربية) وفشل علم النفس والطب النفسي التقليدي في تفسير الإرث أو الميراث أو ذكرى القهر عبر الأجيال. يسعى الانضباط إلى تحديد علاقات جديدة بين الشخصية والخبرة والجروح. ولا يتعلق الأمر بتأكيد الحتمية البيولوجية ــ فكرة أن جينات المرء تتحكم في سلوكه ــ أو تصنيف العرب على نحو ما على أنهم عرب. يتعلق الأمر بالاعتراف بمجموعات محددة من التجارب الموروثة والمكتسبة التي تظهر صراعًا بين كيفية تمثيل الفرد وكيفية تجربة هذا التمثيل، والذي قد ينشأ من إرث تاريخي مشترك. ولكن على عكس النهج التقليدي تجاه الصدمة أو الألم الذي يفضل صياغة نموذج قائم على الحدث (محفز واحد، استجابة واحدة)، أو الفصل الصارم بين ما قبل وما بعده، فإن ألم ما بعد الاستعمار مستمر. إن صدمة ما بعد الاستعمار هي "أسلوب حياة، وحالة دائمة من الأشياء"، كما كتبت الباحثة والمحللة النفسية جينيفر يوسين.

لا يمكن لأحد أن يصنف شخصًا ما على أنه إسباني من الجيل الثالث، لكن "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة

المرضى الذين وصفهم فانون عاشوا، أو بالأحرى نجوا، في حالة متواصلة من الاغتراب، تفاقمت بسبب ظروفهم المادية. انضم العديد منهم إلى منازل العمال أو عاشوا في الأحياء الفقيرة الموحلة في نانتير، والتي وصل عدد سكانها بسرعة إلى 10000 ساكن، ومنها انضم مئات الجزائريين المؤيدين للاستقلال إلى الاحتجاجات التي تم قمعها بوحشية في باريس عام 1961. غالبًا ما اعتبرت الدولة الفرنسية الأحياء البائسة التي يكتظ بها سكان شمال إفريقيا خطيرة لأنها توفر أرضًا خصبة للنشاط السياسي، الذي يغذيه عزلتهم وفقرهم. تم تجديد حي نانتير الفقير في السبعينيات، وقُتل ناهيل في نفس المدينة بعد 50 عامًا، وهو مراهق يعيش حياة على هامش فرنسا. وكما كان الحال في الماضي، تظل الضواحي أماكن للنشاط والاحتجاج لأنها تبقي المواطنين والمهاجرين في مرحلة ما بعد الاستعمار في ما يسمى بـ "المناطق المحظورة".

في الخمسينيات من القرن الماضي، كان بإمكان فانون أن يقول عن المرضى في شمال إفريقيا إنهم "ضغطت عليهم فرنسا"، وبالتالي، فإن إرسال هؤلاء المرضى إلى شمال إفريقيا ليس له أي معنى. واليوم، يدعو اليمين المتطرف إلى "الهجرة مرة أخرى" لتطهير فرنسا من هؤلاء غير المرغوب فيهم. ولكن على الرغم من كون سكان شمال أفريقيا فرنسيين بأغلبية ساحقة، إلا أنهم ما زالوا يتميزون بجيلهم - الثاني والثالث والرابع. ومن خلال القيام بذلك، يخبرهم المجتمع الفرنسي أنهم لا ينتمون بشكل كامل. لا يمكن لأحد أن يعتبر شخصًا إسبانيًا من الجيل الثالث، لكن الجميع يعلم أن كلمة "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة. بينما يمثل جيل واحد مرور الزمن، فإن تجربة العنف في شمال أفريقيا هي تجربة تحددها حوادث متكررة ضمن إطار أوسع من التهميش. العنف هو ثعبان ملتف يخنق بقوة أكبر عند كل منعطف.

نظرًا لأن العديد من سكان شمال إفريقيا الناطقين بالفرنسية يشعرون بشيء مزعج وغير طبيعي عالق في أجسادهم، فإنهم يبحثون اليوم عن متخصصين في الصحة العقلية ويكسرون المحظورات الثقافية. إنهم بخير جسديًا باستثناء هذا الألم الحارق الغريب والانزعاج الذي لا يمكن تحديده، مما يجعلهم قلقين إلى حد الجنون وفى حاجة إلى الاستماع إليهم. في عيادة فاطمة بوفيت دو لا ميزونوف للصحة العقلية غرب باريس، يتحدثون بصراحة عن الألم الناجم عن الهويات المتضاربة والاعتداءات الصغيرة ومختلف أشكال التمييز، وتأثيرات الخطاب اليميني المتطرف المتصاعد المناهض للعرب في وسائل الإعلام الرئيسية وفي الطبقة السياسية. قال بوفيت دو لا ميزونوف، وهو طبيب نفسي ومؤلف فرنسي تونسي، لصحيفة لوموند في عام 2019 إن هؤلاء المرضى يعيشون مع "ألم حقيقي غير مفهوم"، بعد أن تعرضوا لمعاناتهم على مدى عقود. لم يغير الزمن بشكل جذري متلازمة شمال أفريقيا، وهي صدمة منتشرة في فترة ما بعد الاستعمار تكافح من أجل التوفيق بين الخارج والذات.

يتطلب كونك مريضًا أن تتم مراقبتك، وخلع ملابسك، وفحصك، والحكم عليك. فهو يضع المرء بالفعل في علاقة غير متكافئة مع سلطة طبية، مما يضع الباحث في مواجهة متبرع، وشخص عادي وباحث، وهي ديناميكية السلطة التي تضع المريض في دور ثانوي.(التي اعتاد عليها سكان شمال أفريقيا، بحكم ظروف الحياة وثقل تاريخهم).ولا يختلف هذا التشابه عن التغطية الإعلامية الفرنسية لمواطني شمال إفريقيا، حيث تقوم النظرة المتطفلة بتشريح كل علامة انحراف من شأنها أن تبرر وضعهم الأدنى، وترفع دائمًا الأخبار التي تثبت صحة التحيزات الموجودة مسبقًا. كتب عالم الأنثروبولوجيا وعالم الاجتماع ديدييه فاسين عن امرأة من غرب إفريقيا تم إحالتها إلى عيادة نفسية عرقية خارج باريس بسبب مشكلة الأبوة والأمومة: "كل عبارة نطقتها أصبحت علامة تستحق التفسير، وهذا أيضًا يسبب الألم".

أنا الابنة الوحيدة لأم فرنسية بيضاء وأب تونسي عربي. لم أختر الواصلة واعتمدت على تفسيرات بهلوانية كلما سُئلت من أين أتيت حقًا، وهو سؤال تم طرحه بشكل متكرر محير لأنني كنت كبيرة بما يكفي لفهم ما يعنيه نصه الفرعي. لم أكن فرنسية بالكامل - وهذا ما كنت أعرفه من خلال نبرة سؤالي - ومع ذلك فقد استغرق الأمر مني عقودًا للوصول إلى الإجابة: لقد جئت من باريس وتونس، وبلاد الغال وقرطاج، والصليب والهلال، والبحر الأبيض المتوسط وحدائق مونيه، والزبدة وزيت الزيتون، والنبيذ والليمون. أنا الزيت والخل. أنا من دم لا يمتزج تقليديًا. قد لا يكون الأمر منطقيًا بالنسبة لك ولكنه ليس كذلك أو. سعيد الان؟ لكنهم لم يكونوا سعداء ولا مقتنعين. في بعض الأحيان يشكل هذان المكونان من هويتي اتحادًا خجولًا، وأحيانًا ينفصلان. وفي كثير من الأحيان، يبدو الأمر وكأنه عبئًا مستعصيًا يتطلب شرحًا وتنقلًا وتفاوضًا مستمرًا. في فرنسا، التمييز بين كونك فرنسياً أو الرغبة في أن تكون فرنسياً لا يرحم. أنت كذلك، أو لا تكون، وعندما لا تكون كذلك، فهذا أمر وحشي ولا رجعة فيه.

لقد نشأت في أواخر سنوات فرانسوا ميتران في فرنسا، في شفق مخيب للآمال لمسيرة عام 1983 من أجل المساواة ومناهضة العنصرية. وخلال تلك المظاهرة، قُتل السائح الجزائري حبيب غريمزي بوحشية على متن قطار ليلي على يد ثلاثة فرنسيين، بينما كان عشرات الآلاف من سكان شمال أفريقيا (وبعض الحلفاء) يسيرون من مرسيليا إلى باريس للتنديد بالانتهاكات اليومية والتمييز.على الرغم من هذا المظهر للمحاسبة المجتمعية التي يقودها الجيل الثاني من سكان شمال أفريقيا الذين سعوا إلى حياة أقل عنفاً من حياة آبائهم، فإن زخم التغيير لم يدم.ونتيجة لذلك، لم يكن هناك الكثير من الروايات المفعمة بالأمل التي يمكنني الاتصال بها.في دائرتي، كانت المسيرة مزحة؛ غالبًا ما تم تقديم الاستقطاب السياسي لقادتها كقصة تحذيرية لمواطني شمال إفريقيا بأنهم يجب أن يظلوا مذعنين من أجل تحقيق النجاح (يشار إلى "الرجل نعم" باسم بني أوي، وهو أيضًا مصطلح من الحقبة الاستعمارية تم تصديره من الجزائر).

لغتي الأم هي الفرنسية؛ أشعر بالألم بالفرنسية

لم أكن أنتمي إلى القصص والأساطير الوطنية الفرنسية على الرغم من أنني ولدت فرنسيًا لأبوين فرنسيين. لقد كنت ملطخًا بالنقص، وكان اسمي غريبًا، ولم يكن لدي أحد أتطلع إليه. لم أكن أعرف "نصفين" آخرين مثلي، ولا أن البوصلة يمكن أن تشير ليس فقط إلى شمال أو جنوب البحر الأبيض المتوسط - تلك الحدود الحضارية المزعجة - ولكن إلى مركز في مكان ما بينهما. في ظل غياب القدوة، كان علي أن أوضح بنفسي الأحاسيس التي بدت حقيقية ومخيفة. نظرت ووجدت نفسي على خلاف مع الأطفال الفرنسيين البيض من حولي، الذين يكافحون من أجل مصادقة "الفيروس" الذي هاجمني. شعرت وكأنني أشغل مساحة كبيرة جدًا، واضحة جدًا بملامحي العربية بينما لم تكن إنسانيتي مرئية بدرجة كافية. في كثير من الأحيان أردت ببساطة أن أختفي.

كانت تونس أرضًا غامضة رأيتها منذ صغري من خلال عدسة استعمارية: متخلفة وفقيرة وعنيفة ومنحطة. والدي (ألم يغادر هو نفسه للحصول على فرص أفضل؟) لم يخبرني كثيرًا حتى زيارتنا الأولى معًا في أواخر التسعينيات، الأمر الذي تركني في حالة من الصدمة الثقافية والمزيد من الارتباك حول سبب وجوب أن يكون هذا المكان الآخر جزء من وجودي. على أية حال، لم نتحدث العربية مطلقًا في المنزل، وهي لغة لا أتقنها بعد. لغتي الأم هي الفرنسية. أشعر بالألم بالفرنسية. فرنسا "محصورة فيّ".

لسنوات، شننت حربًا ضد نفسي حتى هدأت المتلازمة التي أعاني منها مثل الحكة. أدخلني والداي إلى مدرسة خاصة حيث كنت الطفل الوحيد من شمال إفريقيا في صفي، وكان من المتوقع مني أن أكون شخصًا آخر غير عربي من ضواحي باريس. لقد تجولت بقناعي الأبيض الرمزي وأسعدت الناس، بما فيهم أنا، إلى حد الاغتراب عن الذات. ولكن بعد وقت قصير من الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أدركت أنني أنتمي إلى مجموعة تابعة غير قابلة للتغيير يُلقى عليها اللوم عن كل شيء، وأنني لن أستطيع أبداً أن أكون جيداً بالقدر الكافي، أو ذكياً بالقدر الكافي، أو لائقاً بالقدر الكافي، أو ودوداً بالقدر الكافي ــ أو إنسانياً بالقدر الكافي ــ لهؤلاء المراقبين.

وفي هذا الخطاب العام البغيض الذي شكله التمييز بيننا وبينهم، أصبحت "هم" مرة أخرى. لمرة واحدة، لم أشعر بالوحدة، حتى لو كان ذلك يعني أن أدرك أن مكاني كان في الأسفل، في الخارج، بعيدًا. عندها بدأت بقراءة فانون وأدركت أن ألمي كان حقيقيًا. لقد طمأنتني كلماته وبدأت أرغب في علاقات جديدة. إن التهميش والتمييز الواسع النطاق ضد العرب والمسلمين في ذلك الوقت دفعني إلى التفكير سياسياً في أسلافي وفي نفسي من خلالهم. أدركت العيش تاريخيًا وتعلمت أن الألم يلخص حكاية جسدية عن الحياة المعقدة لسكان شمال إفريقيا في فرنسا. إنه سؤال لا ينتهي أبدًا.

(تمت)

***

..........................

*كوتار هارتشي، من مواليد عام 1987 في ستراسبورغ، كاتبة وعالمة اجتماع في الأدب الفرنسي. نشأت في ستراسبورغ لأبوين من الطبقة العاملة من أصل مغربي (والدها عامل صيانة ووالدتها تعمل في دار للمسنين)

المؤلفة: فرح عبد الصمد كاتبة/Farah Abdessamad ناقدة فرنسية تونسية مقيمة في مدينة نيويورك.  تتمحور مقالاتها ومراجعاتها حول مناقشة الأفكار واللحظات التاريخية من منظور متعدد الثقافات .

 

"ما طار طير وارتفع ...إلا كما طار وقع"!!

منذ الصغر وهذا البيت الشعري الذي يجري مجرى الأمثال يتردد في خاطري ومن حولي، وقد سمعته من العديد من الذين مرَوا وأثروا بحياتي، ولا يزال مترددا، ويحضرني اليوم وأنا في خضم محاورة عميقة مع عدد من الزملاء عن الصيرورة الآتية للواقع السلوكي فوق التراب!!

إبتدأت المحاورة باستغرابي من سرعة الزمن وفقداننا الإحساس بالوقت، فالأيام تجري بسرعة فائقة، حتى ليفقد الناس طعمها وقيمتها ومعانيها، فالمخلوقات بأسرها في دوّامة الحركة المتسارعة التعجيل والساعية إلى آفاق المجهول المتسع المتشاسع.

قال زميلي: أن الضخ المعلوماتي وآليات التواصل وشبكات التفاعل الآنية، أفقدت الحياة الكثير من خصائصها التي عهدتها الأجيال السابقة، فأصبحنا نطارد سرابا!!

وبعد أن تشعب الحوار، ختمه بالقول: أخشى أن التوسع  سيدفع بنا إلى الإنكماش، وكأنه يلوح في أفق الواقع العالمي المعاصر!!

قلت إنها فكرة تصلح للكتابة!!

ضحك زميلي مودعا، وبدأت أكتب!!

إن ما يحصل في أي جرم كوني لا يمكنه أن يحيد، أو يشذ عما يتحكم بالكون المطلق من قوانين ومعايير ونواميس، لا تقبل أي خطأ مهما كان ضئيلا، فالمفردات الكونية تتحرك وفقا لنظام دقيق، وتحكمها معادلات متوازنة، ذات عوامل مساعدة أو معوّقة، وفقا لآليات التفاعل والعناصر الداخلة فيه، والنتائج المطلوبة.

وبما أن الأرض جرم ينتمي لمجموعة شمسية لازلنا لا نحيط بها علما، وأنها واحدة مما لا يحصى من المجموعات الشمسية، التي تمر بدورات حياتية وإستحالات كونية، وتدخل في محتدم الإحتراب المستعر في أرجاء الكون المعتم الحرّاق اللهّاب المعتقلات، فأن الأرض تعبّر عن تلك القوانين والسيرورات، وما فيها مختصر لآليات التفاعل الكوني الأعظم، وما في مخلوقاتها كافة يحقق ما فيها من الحالات المتواصلة مع مطلق معادلات الوجود الصاخبة المتعالية الأزيز والفوران.

فسلوك الموجودات الأرضية يتوافق مع إيقاع سلوك الأرض، ولا ينفصل عنه أو يشذ عن طبيعته ومراميه الدورانية الخلاّطة الولاّدة، المنهمكة بإعادة تصنيع الموجودات من عناصرها الأولية، الداخلة في جوهر كيانها وما تحتويه من طاقات تطلعية وإرادات صيروراتية.

وعندما ننتقل للإنسان فما في الأرض فيه، وما فيها من كونها الأكبر، وهذا يعني أن الإنسان فيه مختصرات كونية، وتعبيرات سلوكية متفقة والتفاعلات الحاصلة في أية بقعة كونية متحركة، ومحكومة بقبضة الدوران الخارقة الخانقة.

والكون يتسع وكل إتساع موعود بإنكماش أو إنكباس في مركزه، بقوة متناسبة وشدة إتساعه وتعاظم مطاطية قدراته الإنجذابية والتنافرية، المتحكمة بمصيره ومنتهياته المتماوجة المتقادحة، والمتسابكة في أوعية الفراغ الفوارة، والأرض يتمدد ما فيها وعليها وينقبض، وظاهرة المد والجزر تعبير واضح عن هذا النشاط الدوراني المتواصل مع موجودات كونية في مدارات مجموعتنا الشمسية، ومدارات وجودها  الفائقة الحركة والتفاعلات.

والأرض مضغوطة بغلافها الجوي أو قشرتها الغازية، التي تتدرع بها وتغلفها بقدرات كهرومغناطيسية ذات خصائص إنجذابية وتنافرية، فهي تتحرك كما تتحرك الرئة ما بين الإتساع والإنكماش، أي أن الأرض تتنفس كما الأحياء تتنفس، وهذه الحركة المنتظمة تشترك فيها المخلوقات وبدرجات وتنوعات متباينة وفقا لطبيعتها ودورها الحياتي.

ولا يمكن للأرض أن تحيا إذا إتّسع غلافها الجوي وترسها الغازي وتزعزعت طبقاته، لأنها ستكون عرضة لإختراقات إشعاعية وجُرمية هائلة، تقضي على الحياة فيها، ولهذا فأن عليها أن تحافظ على قدراتها الإحتضانية الكفيلة بديمومة الحياة وتجددها.

فالأرض كينونة حية متحركة ذاتيا وموضوعيا، وترتدي ثيابها وتتدرع بأواصر غازية متماسكة، ومقتدرة على مقاومة الصولات العنيفة، التي تستهدفها بتواصل وإنقضاض تدميري نيراني الطباع والتفاعلات، وهي تدرك مقومات حياتها وشروط بقائها وتدافع عنها، وكأي موجود حي تصاب بالخوف والقلق والإضطرابات السلوكية، التي تتلخض بالبراكين والهزات الأرضية والأعاصير والفيضانات وغيرها من التفاعلات التي تحققها الطبيعة الأرضية، وهي تحاول الحفاظ على حالتها الموائمة لأحيائها، وشخصيتها الكونية التي تتميز بملامحها وعلاماتها الفارقة.

ومشكلة الأرض أن مخلوقاتها تتناسى وتتعامى، وتنحدر إلى مسارات ذات متاهات ونهايات خطيرة، وكأنها منوّمة أو مخدرة بالأفكار والتصورات والمعتقدات التي تعاديها، وتقتلع إرادة قوانينها من أعماق موجوداتها، وخصوصا البشر الذي تسيّد على جميع المخلوقات، وتفوّق عليها بأعداده وقدراته الشرسة، وأصبح المالك الحقيقي للآرض والمتحكم بإتجاهات تفاعلات ما عليها، فهم الذي يقرر وينفذ ويتصور ويتوهم ويمضي في سلوكياته الفردية والجمعية القاسية.

وبما أن قوانين الوعاء تتحكم بمصير ما يحتويه، فأن الأرض تفرض قوانينها وإرادتها على ما يدور فيها وعليها من الأحداث والتطورات، ولا بد لها أن تتدخل وتدفع البشر إلى مواضعه التي يجب عليه أن يكون فيها.

فالأرض متوازنة السلوك، ولا تسمح بالإتساع الفائق، لأن ذلك السلوك لا يتفق ومناهجها الدقيقة المتعادلة، لكن البشر قد إتسع وتمدد وتمادى في نأيه عن التراب، وصار يمتلك القدرات الهائلة الكفيلة بصناعة الجحيمات الأرضية، والجهنمات المحتملة فوق الماء والتراب وفي الفضاء، أي أنه وكأنه قد بلغ منتهاه الإتساعي، الذي يعني أنه على شفا حفرة الإنكماش الرهيب، والمحق والغياب والعودة إلى مبتدءات المسيرة البشرية فوق التراب الحامي المتأهب المتقطب الملامح، والغاضب المتناقم المتحامل على موجوداته التي أنجبها من رحم ما فيه.

والإتساع البشري إتّخذ منحى توالد الأفكار العلمية ذات القدرات الفتاكة بمحيطها البيئي والتواصلي، إذ بلغت التصنيعات المدمرة أوجها، وصارت المصانع المتوثبة للصراع والتخريب الدامي في تسابق كمي ونوعي، لإنتاج ما هو هائل المحق والشراسة والتوحش، فما عادت القنابل الذرية والهيدروجينية وأخواتها بكافية، وإنما تعددت أنواع الأسلحة النووية وتداخلت حتى صارت الأرض قابضة على جمرة الهلاك، ولا تحتاج إلا لمجنون متهور يمتلك حق إتخاذ قرار الإنتحار الأرضي الذي تحققه ضغطة  على زر في حقيبة تحملها الأيادي المتأهبة للإنقضاض على الوجود الأرض بأكمله.

وذهبت الأفكار إلى مديات ما عاد البشر بقادرٍ على التحكم بها، لأنه أوجد ما يتحكم به ويسيّره ويستعبده، فالبشر هو المخلوق الوحيد الذي يبتكر ويخترع ما يًستعبده ويمتلكه تماما، ونحن نعيش في عصر الإستعباد بالمخترعات التي تعزلنا عن أنفسنا وبعضنا البعض، وتحوّلنا بموجبها إلى موجودات سرابية أو أرقام على شاشات ضوئية ملونة.

كما أن المعارف قد بلغت مستويات كبيرة أعجزت الرؤوس البشرية على إستيعابها وبرمجتها، بل أنها عطّلت الأدمغة وجعلتها مدمنة على أجهزة كأنها أذكى من البشر، حتى ليبدو أمام قدراتها المعرفية متضائلا متصاغرا ومفرّغا من آليات النشاط المعلوم، أي أن البشر أجهَز على ذاته وأفرغها من محتوياتها، بل وخربها ونسف أسس صيرورتها التماسكية القوية، حتى أضحى ما بين الحالة الإسفنجية والصلدة، وبهذا الكيان صار من الصعب عليه هضم المعلومات ووعي التطورات، مما سيؤدي به إلى الوقوع في حفر الإنكماش الرهيب، كما يشهد الزمن المعاصر العديد من مظاهرها التي أخذت تسري وتنتشر بوبائية غير مسبوقة، وبعدوى عولمية دامية محطمة لأركان الأمن والسلام والرحمة والطمأنينة.

وكذا يبدو أن بلوغ الذروة المعرفية قد بدأ بأخذنا إلى منزلقات تهالكية إنكماشية، ذات تعجيل متسارع ومتوثب للسقوط في وديان السكون، الذي يحلم بالحركة من جديد على سفوح أخرى ذات قمم أعلى، ليبلغها وقد تأهب لمنزلق بعيد!!

***

د. صادق السامرائي

 

""وفي هذا الواقع يُطلّ علينا التاريخ من نوافذ متعددة... ومادمنا نعود إليه مختارين أو غير مختارين واعين أو غير واعين، وما دمنا نستلهمه ونستوصيه، فمن الخير لنا أن تكون عودتنا أصيلة متبصرة"[1]

لماذا الوعي في الخطاب؟ لماذا الآن؟ في نظر المثقف المتأثر بالتاريخ أي تاريخ، هل هو المؤهل للتحدث للناس حول الحاجة لوعي في خطاب التاريخ، من يمكنه إقناع المجتمع القائمين على الثقافة أو كليات التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية؟ أصحاب المشاريع الأكاديمية ذات العلاقة بالتاريخ؟ لا: فأولئلك كلهم يأتون ويذهبون. المثقف أم المؤرخ؟ نعم، ولهما فقط. شرح سبب حاجتنا للوعي التاريخي لأنه ببساطة هو سبب وجود خطاب الوعي في حركة الثقافة الإجتماعية.

إن المؤرخ هو الذي يتخذ قرار إطلاق هذه المبادرة مفضلا على الآخرين، والأمر متروك له أيضا لجعل نفسه مبشرا بها مع أولئك المثقفين والأكاديميين الفاعلين الذين تأثروا بخطابات الوعي التاريخية. لماذا المؤرخ هو الناقل الرئيسي لرسالة " إننا بالحاجة إلى تغيير الخطاب من أجل الوعي بتاريخنا"، هذا هو جوهر خطاب الوعي، هناك عدة أسباب لهذا:

أولا: سبب عملي: كان على المؤرخ في عالمنا العربي الفعالية لإفساح المجال للمبادرة ومشروعها ضمن الحقل الثقافي الخاص. ومن الطبيعي أن نطلب منه أن يشرح قراره لمن يعنيه الأمر.

ثانيا: ثم هناك سبب تنظيمي: التسلسل الهرمي يدعو كل الفاعلين في مجال الثقافة التاريخية للعب الأدوار ابتداءا بالمؤرخ.

ومن أجل الالتزام بالجهد المطلوب، يحتاج الجميع إلى طرح سؤال مصيري قبل الانطلاق نحو فهم سبب تغيير شيء ما: ماهي مواصفات الشخص الشرعي"المؤرخ" القادر على تفكيك إشكاليات الحاجة إلى تغيير وتجديد الخطاب عن التاريخ من أجل بناء الوعي؟

وبالتالي، يكون هنا أساس مطلق المبادرة لتجديد الوعي التاريخي عبر تجديد الخطاب مهمة المثقف العارف بماهية التاريخ ومرتكزاته ومنعطفاته وآفاقه، أتوقع أن يأخذ المثقف- المؤرخ زمام المبادرة ويتحدث ويدافع عن المبادرة علنًا. شفهياً وكتابياً، بأي وسيلة متاحة له بلا تحيزات. ويمكن لنا الاستفادة من دراسات وأفكار بول ريكور في مجال السرديات التاريخية وأهمية الكتابة التاريخية ونظريته حول الخطاب التي جاءت لنقد الحداثة العلمية والتقنية التي صبغت الحياة الغربية بتصوراتها المتطرفة، ولعل عبارته المشهورة في كتابه (نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى) " فإنّ التخارُج القصدي المناسب لمختلف طبقات الفعل الكلامي هو الذي يجعل التسطير بالكتابة ممكنا [2]" ثم إن ما أثير في الندوة حول النفسية والإيديولوجية أمر واقعي ولكن ريكور يرى ضرورة إطلاق فاعلية البحث عن المعنى الممكن في النصوص التاريخية، فما يهم فعلا، هو الدلالة، والمعنى، والعالم الذي تقترحه وإمكانيات الوجود الجديدة التي تتضمنها. فلا يتعلق الأمر بالبحث عن نفسية ما، أوايديولوجيا في داخلها، بل الفهم الذي تقدمه لنا لكي نقيم فيها فإنّ " ما نفهمه في خطاب ما، ليس شيئا آخر بل تطلُّع ما [3]".3874 الوعي التاريخيكعادته في اقتناص الأفكار التجديدية، والعناية بالفكرة، والتلطف في العرض، والهدوء في الحوار، جاءت طلة المثقف المميز في تجربته الفكرية والفلسفية، الدكتور قادة جليد؛ فالفكرة ذاتها تقع ضمن النسق التاريخي الواقعي، إلا أنها كما هو متعارف عن صاحبها ليس توثيقاً للتاريخ بل توعية للمؤرخ والمثقف والأكاديمي وغيرهم، كون صورة واقعية للتاريخ، هي تجميع للعناصر الأنثروبولوجية في بناء الوعي الإنساني وشكل المكان في ذلك الزمن تطلعا بحسب نظرة ريكور لصياغة الفكرة الحضارية الراهنة، واستحضار المؤثرات غير المرئية في بلورة العامل الثقافي والاجتماعي لإنسان تلك الفترة الزمنية، ضمن الإطار السياسي الصاخب في كفاح الأجداد ضد الغزاة آنذاك.

لعلي ما استلهمته من مقالة أ,عيش حول الندوة ونظرة الدكتور قادة جليد، أننا ضمن أطروحة تجديد وعي الخطاب التاريخي في بناء النباهة السوسيوثقافية تواجهنا إشكالية ذات علاقة بالتاريخ ومطارحاته : هل يمكن الحديث عن التحولات القيمية في أي مجتمع دون العودة إلى السردية التاريخية الثقافية في هذا المجتمع؟

لا مناص أن الرؤية تحتاج إلى بيانات ومعطيات علمية تتناول الثابت والمتغير في القيم الاجتماعية والأخلاقية والفكرية عبر التاريخ بمراحله المتعددة، لكن هناك بعد منهجي يجب مراعاته، كون مجتمعنا ليس بنية متجانسة ومتشابهة، مما يعني أن التحولات القيمية ليس لها الإيقاع نفسه في جميع المجالات، عموما، شهد مجتمعنا تحولات على مستوى العمق السوسيوثقافي، كالزيادة الديموغرافية والأماكن الحضرية (المدن) وتراجع لنسبة الأمية، انحسار العائلة لصالح الأسرة النووية، وهذه التحولات كان لها وقع كبير في البنية الثقافية، على مستوى الذهنيات والأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم . ومن بين القيم:

- انفتاح الشباب على التواصل الافتراضي، وتخلي بعض الآباء والأمهات عن المسؤوليات التربوية

- تفشي قيم سلبية مثل الغش والخيانة وعدم الجدية في العمل والأمانات والبحث عن الربح الجاهز والسهل وبأية وسيلة على حساب على الغير والمجتمع والوطن ...

لعلي لا أبالغ إذا قلت أن أغلب المجتمعات التقليدية إن لم تكن كلها تنتج رموزها التاريخية وتنقلها إلى أجيالها المتلاحقة وتربّيهم عليها. فهناك إذن ثقافة تاريخية موروثة؛ فالشخص لا يختار ثقافته التاريخية بل يرثها كما يرث البيوت والأراضي والأنتيكات والآثار عن والديه وأجداده. بينما مجتمع حضري أفراده تماهوا في حراك ثقافي نشط ويومي، مما جعل الأشخاص يتيهون داخل سوق دولي كبير للرموز الثقافية التاريخية (الدينية غالبا)، فيختارون منها ما يشاءون ويعرضون عمّا لا يتناسب وتطلعاتهم. وعليه تشكلت توليفة (bouquet) للرموز التاريخية الخاصّة بالمجتمع، ويأخذ من تلك الرموز القليل الذي يحتاجه لبناء هويّته في مشروع معيّن. وبذلك يتم إختزال ثقافة التاريخ في سرديات رمزية محددة. كما هناك صورة أخرى أنّ الثقافة التاريخية أصبحت سؤال وجواب (على طريقة المسابقات)؛ فالمتفاعل التاريخي في مجتمعاتنا يذهب إلى الأنترنت ويأخذ منها ما يريد، وهو سلوك عام حتّى عند غير الناشئة المتمدرسة. والمسألة متعلّقة بالذاكرة والخطاب وتوسع دوائر النسيان؛ فالناس لا يحفظون القيمة الوجودية في سرديات التاريخ ولكن الأنترنت توفّر لهم المعلومات الشكلية المطلوبة.

و بالتالي نحن أمام صورة جديدة لمجتمع يلاحق الزمن المعاصر في تمثلاته وبالاعتماد على التعدد في مصادر المعرفة وتثبيط عامل الذاكرة ودورها، بمعنى أنّ هناك إنتقال أو تحول أنثروبولوجيّ يرتكز على معطيات ومتطلبات زمن الحداثة . وحتّى المؤرخ الذي نقول عنه إنّه مهتم بالذاكرة والخطاب والوعي التاريخية في مجتمعنا، يشتغل بنفس الميكانيزمات أو الآليّات التي يشتغل بها المؤرخ المعاصر نفسه في المجتمعات الأخرى لكنه لا يجد الأرضية البحثية الفعالة في تجميع المعلومات والتحقيق والمراجعة والتشذيب والتدقيق إلا بشق الأنفس .

هناك عدّة مستويات لهذا الموضوع تهمّ المؤرخ، مثلما تهمّ الهيئات والمؤسسات المهتمة بالتاريخ ومعطياته ؛ فلا بدّ في تقديري تحقيق مصالحة ثقافية، تُطرح في إطارها أسئلة تجديدية، وأن ينشأ منها تفكر تاريخي جديد، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بلحظة الإصلاح التاريخي الفلسفي والفكري الذي ستتفرّع عنه خطابات معاصرة وكتابات نقدية هادفة تعمل على تفسير التاريخ وعلى تبسيطه حتّى يلقى القبول من المجتمع.

ثمّ إنّ هذا الفكر بطبيعة الحال سيقدم لشواغله التاريخية الأجوبة الملائمة للتطلع الحضاري؛ حيث أن تتصالح مع تاريخك يعني أن تتصالح مع فكر الإنسانيّة المعاصرة. فأنا لا أعتقد أنّ ضعف الفكر التاريخي في مجتمع ما آت من الفكر التاريخي نفسه. فالضعف، ههنا، كامن في الثقافة السائدة في المجتمع أيضا.و هذا ما لمح إليه الدكتور قادة بإشارته لمشروع مالك بن نبي رحمه الله، فلكي ينهض الفكر يجب أن ينهض التعليم والاقتصاد وأن تطرح الأسئلة في مناخ من حرّيّة الرأي والتعبير. وهذا ما يقيم البرهان على وجود تكامل بين المعارف الإنسانيّة وبين مختلف قطاعات المجتمع؛ فالنهضة الفكريّة في التاريخ لا تنتج خطاب وعي إلاّ إذا قامت نهضة فكريّة في علوم الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتوفّرت الحرّية الفكرية والاحترام المتبادل بين الشركاء في الفعل الثقافي والاجتماعي.

واقعا إننا نصطدم بأسئلة محيّرة. وعصر ما بعد الحداثة يفرض علينا طرح هذه الأسئلة بجد والاجتهاد في الإجابة عنها، لأن الحداثة قامت تحت ضغط الآخر المنافس؛ فالفرنسي تحول إلى الحداثة عبر الإهتمام بإصلاح التعليم لأنّ أمته انهزمت في معركة سنة 1870[4] مع ألمانيا، وقارن الفرنسي الجامعات الفرنسيّة بالجامعات الألمانيّة وهذا ما نجده في كتابات بول ريكور الذي رفضت أفكاره بداية لأنه كان مشغوفا بالفلسفة الألمانية وكل ماهو ألماني. إنّ الحداثة في مجتمع معيّن تقوم على أساس وجود تحدّيات من مجتمع آخر. والتحدي هو المهمّة التاريخيّة للوعي.

نختم بالقول أن الوعي والخطاب التاريخيين بحاجة لدراسات بطريقة موضوعيّة حتى نتمكن من تفكيك وتجاوز تلك الصور النمطيّة المركبة في ذاكرتنا التاريخية. وعلم اجتماع التاريخ كتخصص يمكنه أن يساعد على دراسة هذه الصور ويعمل على تفسيرها. ولعل تركيز الدكتور قادة على جاك بيرك وهو السوسيولوجي الفرنسي المعروف يندرج ضمن هذا السياق،  وهنا علينا أن نستوعب الأدوات المعرفيّة التي يمتلكها الآخر وبذلك نستطيع أن نطلق خطاب تاريخي مفعم بالوعي ونشارك فعلا في إنتاج معرفة جديدة وحضارة إنسانية.

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث

......................

[1] قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، 1985م ص47.

[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى،المركز الثقافي العربي، 2003، صفحة69

[3] بول ريكور، من النص الى الفعل، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 2001، صفحة 146.

[4] سبب المعركة كان طموح بروسيا بتوحيد الأمصار الألمانية وخوف فرنسا من تغير موازين القوى الأوربية إذا نجحت بروسيا في مسعاها. وتم ذلك سنة 1871م بقيادة بسمارك.

..................

للاطلاع على وقائع الندوة ومحاضرة د. قادة جليد

https://almothaqaf.org/qadaya/975478

 

(الخطاب الذي لا ينتج وعيا تاريخيا لا يمكن أن يكون خطابا تاريخيا).. د. قادة جليد

سؤال العقل والتاريخ إشكالية معقدة وخيوطها متشابكة تحتاج إلى نقاش عقلاني مثمر من قبل المفكرين والأكاديميين بعيدا عن العاطفة، والعشوائية للخروج برؤية جديدة موحدة ، وهو ما أشار إليه الدكتور قادة جليد باحث أكاديمي وأستاذ سابق بكلية الفلسفة بجامعة وهران (غرب الجزائر) داعيا النخبة إلى إعادة النظر في الخطاب التاريخي والثقافة الوطنية وأن يخضعان للبحث والتحليل حتى لا تبقى الأمة معطلة الطاقات، ويبدو أن الدكتور قادة جليد متأثر جدا بالفلسفة الهيغلية والنظرية الخلدونية وهو الذي اكد في محاضرته أنه يتبنى أطروحاتهما

المحاضرة التي ألقاها الدكتور قادة جليد في منتدى الكتاب بالمكتبة الوطنية الجزائرية كانت مشروع لكتابين حول نقد العقل الجزائري واستعمال هذا المفهوم يتجدد عند طرح أسئلة الناقوس لإصلاح الذهنيات في ظل التحولات التاريخية، التي فيها كل شيئ يتغير إلا المسألة الثقافية التي ظلت جامدة ما جعلها تمارس نوعا من المقاومة أي طريقة التفكير والطريقة التي يمكن الحكم على الأشياء، ومن خلالها يطرح السؤال إن كانت هناك إمكانية بناء نهضة بعقل غير واع، خاصة بالنسبة للعقل الجزائري ، وهل بمقدور الباحث الأكاديمي تفكيك العقل الجزائري وإعادة بنائه من جديد، وبالتالي زحزحة بعض التصورات، وهي إشكالية طرحها الدكتور قادة جليد ولأول مرّة في عالم الأفكار كون العقل الجزائري له بعدٌ معرفيٌّ ومضمونٌ تاريخيٌّ، فمن خلال ما جاء في المحاضرة نلاحظ أن الدكتور قادة جليد في أطروحته اعتمد على أفكار بعض المفكرين الغربيين على غرار جاك بيرك الذي قال أن شعبٌ غير مدروس لا يفهم نفسه ونقاط قوته وضعفه كيف يمكن له أن يتقدم ويدخل التاريخ؟ ، أمّا المفكرين الجزائريين ذكر الدكتور قادة جليد المفكر مالك بن نبي ورؤيته للزمن وهو يتحدث عن الدورة الحضارية ، كذلك الدكتور أحمد بن نعمان الذي تساءل عن نفسية الإنسان الجزائري وكيف ينظر إلى نفسه ؟، كما استدل بأفكار المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله عندما نادى بإعادة الاعتبار للثقافة الجزائرية وتقييمها، ومعرفة كيف يفكر العقل الجزائري، مبرزا كذلك رؤية المفكر محمد أركون للعقل والتاريخ، ودعوته إلى كتابة التاريخ الشفهي كما كتبه الغرب وانتقاده القراءة التاريخانية وما نقله التاريخ في كثير من المواضع، في مقابل التاريخية والوضعية التي لا تهتم إلا برصد الوقائع الثابتة وعدم الإهتمام إلا بالزمن التسلسلي للوقائع والأحداث.

من وجهة نظر قادة جليد فإن العقل الجزائري وبالرغم من أنه مرتبط بالتاريخ وبالتراث، إلا أنه موجود في الثقافة الشعبية ( الشفهية) فقط، مقدما مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي لها علاقة بالبناء الحضاري كمفهوم "الزمن" ورؤية الجزائري له ، حيث يرى أن مفهوم الزمن يُعَبِّرُ عن مفاهيم أخرى كالموت والفقر والجوع وإعدام المستقبل وعدم البقاء، أي النهاية الكلية للإنسان، أما الشق الثاني من المحاضرة فهي تتعلق بالتاريخ من خلال طرحه سؤالا عن الطريقة والكيفية التي نكتب بها التاريخ وبخاصة تاريخ الجزائر الذي له حدود بين ما هو معرفي وما هو إيديولوجي؟، مشيرا إلى ما قدمته المدرستين التاريخية المعاصرة والمدرسة الفرنسية ، عندما قالت أن الجزائر ليست أمّة والرد عليها بأنها وقعت في الانتقائية التاريخية ، يقول قادة جليد أن هذه الأطروحات ما هي إلا انغلاقا دوغماتيا إلى حد أن أصبح التاريخ مسرحا لصراعات بين هاتين المدرستين، وهذا يحتاج إلى فتح نقاش فكري ثقافي حول هذه القضايا بعيدا عن الشخصانية أو تقديس الأشخاص والخروج من السجالات السياسية والإيديولوجية في التفكير من أجل تقديم البدائل، وانتقد الدكتور قادة جليد الجامعة الجزائرية التي - كما قال هو- لا تنتج سوى مفاهيم مجردة ولا تعتمد على مناهج تطبيقية، داعيا إلى دراسة تاريخ الجزائر في طابعه البنيوي التزامني الكرونولوجي بعيدا عن العاطفة والقبلية والعصبية ، لأن التجرد من هذه الصفات يزيل الإنغلاقات الدوغماتية والمدونات المغلقة في تحليل الأحداث مثلما نراه عند محمد أركون وأبو القاسم سعد الله، وتحدث قادة جليد عن الدور الذي قامت به الحركة الدوناتية الوطنية الأمازيغية في مواجهتها الاستعمار الفرنسي، معبرا عن اسفه للتغييب الكلي لما سمّاه بالرأسمال الرمزي كالملكة روبا وهي امازيغية دوناتة قاومت الإستعمار والملكة ديلتا وأوغسطين وسانتا مونيكا، ليؤكد أنه لا يمكن تحقيق التقدم دون إشاعة النقد الذاتي.

في تعقيبه على ما جاء به الدكتور قادة جليد من أفكار يرى المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية الدكتور بهادي منير أن النخبة هي التي تنتج المعرفة بمختلف أشكالها والخطاب - سياسي كان أو تاريخي-، مرتبط بتصورات إيديولوجية وهذا النوع من الخطاب وجب الكشف عنه أمام التحوّلات التي نشهدها على كل المستويات اللغوية والفكرية، والتي من ورائها ظهرت تكتلات، فالمؤرخين اليوم كما يقول يكتبون انطلاقا من ضغوطات ولا يملكون البدائل لوضع مفاهيم جديدة ومنهم من لا يملك الجرأة لإعادة تفكيك الخطاب التاريخي وإعادة تشكيله من جديد، الملاحظ أن كل واحد من الطرفين له وجهة نظر مختلفة عن الآخر، فالفعل الثقافي في الجزائر كما قال الدكتور قادة جليد هو مقاومة ثقافية خاصة، خارج المؤسسات الرسمية، وأن النهضة العربية لم تتحقق بعد على أرض الواقع، والسبب كما أضاف يعود إلى غياب الإطار الإجتماعي، كما أن الفكر يفتقر إلى الخاصية الإجتماعية، والأطر الإجتماعية من وجهة نظره وحدها التي تدافع عن المشروع التنويري الذي يطمح إلى بناء العقل الجديد ، لفشارة فقط أن الندوة تخللتها نقاشات جادة فمنهم من قال أن المفكرين والمؤرخين كانوا مسيّسين وفي الغالب معارضين فحدثت صدامات وقال آخرون أن الحديث عن العقل الجزائري خطوة هامة جدا لتحليل الحالة العقلية للنخبة في الجزائر.

***

علجية عيش

 

في المثقف اليوم