قضايا

عبد السلام فاروق: رمضان من المئذنة إلى الشاشة (1)

في زاويةٍ خافتةِ الضوء من متحف الدنمارك الوطني، تقبع بدلةٌ تبدو للوهلة الأولى كقطعةٍ من أسطورةٍ منسية. جلدها المُحاك بعناية، وثقبها المركزي الغريب، وتفاصيلها التي تختزل حكاية إنسانٍ واجهَ البرد القارس والمحيطات المتجمدة قبل قرون. هذه ليست مجرد بدلة صيد، بل هي شاهدٌ صامتٌ على حوارٍ قديم بين البشرية والطبيعة، حوارٍ لم يتوقف رغم تغير الزمن، رغم تحول التحديات والأدوات. فالقدرة على التكيف، تلك المَلَكة التي نحسبها أحياناً اختراعاً حديثاً، هي في الحقيقة جذورٌ ضاربةٌ في أعماق تاريخنا.
حين كان الجليد يكتب حكايات البقاء
تصور نفسك لحظةً في جرينلاند قبل مئتي عام. رياحٌ تزمجر كالوحوش، مياهٌ تلامس حافة التجمد، وصيادون يزحفون عبر ثقبٍ ضيق في بدلةٍ جلدية لمواجهة الحيتان العملاقة. لم تكن تلك البدلة مجرد غطاءٍ للجسد، بل كانت حافظةً للحياة. كل غرزةٍ فيها كانت حكمةً متراكمة، وكل انحناءةٍ في تصميمها إجابةً على سؤالٍ وجودي: كيف نعيش هنا؟ لقد حوّل الإنسان جلود الفقمة إلى درعٍ ذكي، يحاكي طبيعة الجسد ويحاصر البرد بذكاء، وكأنه يقول للطبيعة: "سأجد طريقةً لأرقص مع قسوتك، لا ضدها".
التكيف.. لغةٌ لا تشيخ
اليوم، وقد صار الحديث عن التغير المناخي يملأ الصحف والشاشات، قد ننسى أن البشر لم ينتظروا عصرَ الأقمار الصناعية ليبدعوا حلولاً. الفلاحون في صحاري أفريقيا الذين صمموا أنظمةً لالتقاط الندى، سكان جبال الأنديز الذين بنوا "تراسات" تتناغم مع منحدرات الجبال، وصيادو جرينلاند ببدلاتهم الجلدية.. كلهم شاركوا في نفس السردية: التكيف ليس ترفاً، بل هو فن البقاء. الفرق اليوم أن التحديات امتدت، وصارت الأدوات أكثر تعقيداً، لكن الجوهر لم يتغير. الألواح الشمسية التي تلتهم أشعةَ الحر، المباني العائمة التي تتحدى ارتفاع منسوب البحار، حتى الزراعة العمودية في قلب المدن.. كلها استمرارٌ لذلك الحوار القديم بين الإنسان وبيئته.
البدلة الجلدية في عصر الذكاء الاصطناعي
قد يبدو من السخرية أن نقارن بين بدلةٍ جلديةٍ بسيطة وبين تقنياتٍ حديثةٍ تكافح الاحتباس الحراري، لكن كليهما ينتميان إلى روحٍ واحدة: روح من يرفض الاستسلام. هناك، في الماضي، كان الإبداع يُستخرج من مواردَ محدودة، ومن مراقبة دقيقةٍ لطبائع الحيوان والمناخ. هنا، في الحاضر، صار الإبداع يُستخرج من البيانات والخوارزميات. لكن في كلا الحالين، يبقى السؤال الأصلي هو ذاته: كيف ننسج من مواردنا، مهما قلّت، حياةً قادرةً على الاستمرار؟.
ما تخبرنا به تلك البدلة الآن
ليست البدلة المعروضة خلف زجاج المتحف مجرد ذكرى من زمن غابر، بل هي مرآةٌ نرى فيها أنفسنا. لو نظر إليها مهندسو اليوم بعينٍ متأملة، لوجدوا فيها درساً عن "البساطة الذكية". فالتكيف مع المناخ لا يعني بالضرورة تقنياتٍ فائقة التعقيد، بل يعني الاستماع إلى الأرض، وفهمَ لغتها الخفية. قد نصنع في المستقبل بدلاتٍ فضائية لمجابهة الحرائق أو الأعاصير، لكنها لن تختلف جوهرياً عن بدلة جرينلاند: ستكون غلافاً يحمينا، ووعوداً بأن البشرية، رغم كل أخطائها، ما زالت تملك ذلك السحر الخفي: القدرة على إعادة اختراع حياتها، غرزةً تلو الغرزة.
في قلبِ كلِّ قطعةٍ تراثيةٍ تُخبئُها المتاحف، ثمةَ حكايةٌ عن إصرارٍ بشريٍّ يرفضُ الاندثار. تلك البدلةُ الجلديةُ التي صمدتْ قروناً لتهمسَ لزائري المتحف اليوم، ليست مجردَ شاهدٍ على ماضٍ انقضى، بل هي جسرٌ خفيٌّ يربطُ بين عبقرية الأجدادِ وتحديات الأحفاد. فالتكيّفُ مع المناخ، قديماً وحديثاً، ليس مسألةَ أدواتٍ فحسب، بل هو رقصةٌ معقدةٌ بين الحاجةِ إلى البقاءِ والرغبةِ في الازدهار.
حين تُصبحُ الثقافةُ رداءً للبقاء
لم تكن بدلةُ صيدِ الحيتانِ اختراعاً منعزلاً، بل كانت جزءاً من نسيجٍ ثقافيٍّ كاملٍ. لغةُ الملابسِ، طقوسُ الصيدِ، حكاياتُ المغامرةِ التي تُروى حول النار.. كلُّ تفصيلٍ كان يُغذي روحَ الجماعةِ ويُذكّيها بالتضامن. فالبردُ القارسُ لم يكن عدوّاً فرديّاً، بل عدواً جماعيّاً، والتكيّفُ معه لم يكن عملاً تقنياً بحتاً، بل كان عملاً اجتماعياً. هذه الروحُ الجماعيةُ هي ما نفتقده أحياناً في عصرنا، حيث تُحاصرنا الحلولُ الفرديةُ، وتنحسرُ فكرةُ أن النجاةَ من الكوارثِ المناخيةِ تحتاجُ إلى ذاكرةٍ جماعيةٍ تحملُ حكمةَ "نحن" قبلَ "أنا".
التكيّفُ: بين الحكمةِ القديمةِ وعبقريةِ الهامش
في قرى غابات الأمازون المطيرة، تبنى المنازلُ على أعمدةٍ عاليةٍ لتفادي فيضانات الأنهار، وفي صحراء الربع الخالي، تُحفر القنواتُ تحت الرمالِ لالتقاطِ شذراتِ الماء. هذه الحلولُ لم تولدْ من مختبراتٍ علميةٍ، بل من حوارٍ يوميٍّ مع الأرض. إنها "علومٌ هامشيةٌ" قد لا تجدُ طريقها إلى الكتب الأكاديمية، لكنها علومٌ تدركُ أن التكيّفَ الحقيقيَّ يبدأ بفهمِ الإيقاعِ الخفيِّ للطبيعة: متى تهاجرُ الطيور؟ كيف تتشكلُ السحبُ فوق الجبل؟ ما هي النبتةُ التي تنجو من الجفاف؟ اليوم، بينما نحاولُ تبريدَ الكوكبِ بتقنياتٍ عملاقةٍ، قد نحتاجُ إلى تعلُّمِ التواضع: فـ "المعرفةُ المحليةُ" التي راكمها الإنسانُ في ظلِّ محدوديةِ الموارد، قد تكونُ مفتاحاً لاستدامةٍ أكثرَ عمقاً من كلِّ الأرقامِ والإحصائيات.
المناخُ يتغيرُ.. فماذا عن أحلامنا؟
في الماضي، كان التحديُ منحوتاً بوضوح: صائدُ الحيتانِ يُريدُ العودةَ إلى أسرتهِ حياً. أما اليوم، فأخطارُ التغيرِ المناخيِّ تبدو مُبهَمةً، كوحشٍ لا يُرى يزحفُ من وراء الأفق. هذا الغموضُ يُنتجُ شيئاً أكثرَ خطورةً من ذوبان الجليد: إنه يذيبُ الإحساسَ بالهدف. كيف نحاربُ عدواً لا نراه؟ كيف نُقنعُ جيلاً نشأَ في المدنِ الخرسانيةِ أن إنقاذَ غابةٍ بعيدةٍ هو جزءٌ من إنقاذِ ذاته؟ ربما هنا تكمنُ أهميةُ قصصٍ مثل بدلةِ جرينلاند؛ فهي تذكّرنا أن التكيّفَ ليس عملاً تقنياً جافاً، بل هو فعلٌ روحيٌّ يُعيدُ تشكيلَ علاقتنا بالعالم. فذلك الصيادُ الذي كان يزحفُ إلى قلبِ المحيطِ المتجمد، لم يكنْ يبحثُ عن الطعامِ فقط، بل كان يبحثُ عن معنى لوجوده في عالمٍ قاسٍ.
مستقبلُ التكيّف: هل ننجو أم نُبدع؟
الأرضُ التي نعيشُ عليها اليوم تشبهُ مركباً خشبياً وسطَ عاصفةٍ، والفرقُ بين الماضي والحاضرِ أن السفينةَ لم تعدْ ملكاً لطاقمٍ واحدٍ. التكيّفُ الحديثُ يحتاجُ إلى لغةٍ عالميةٍ تترجمُ حكمةَ البدويِّ في الصحراءِ إلى سياساتٍ لمدنٍ تغرقُ، وتُحوِّلُ تصميمَ البدلةِ الجلديةِ إلى إلهامٍ لمهندسي ناطحاتِ السحابِ المقاومةِ للأعاصير. لكن هل يكفي أن نبدعَ الحلولَ دون أن نبدعَ طريقةً جديدةً للتعايش؟ قد تكونُ الإجابةُ في أن التكيّفَ الأعمقَ يبدأ حين نتوقفُ عن النظرِ إلى الطبيعةِ كعدوٍّ أو كموردٍ، ونبدأ برؤيتها كشريكٍ في رحلةِ البقاء. فذاك الصيادُ القديمُ لم ينتصرْ على البحرِ، بل تعلمَ كيف يسبحُ مع تياراته، وكأنه يقولُ لنا من وراء القرون: "انتبهوا، فالفنُّ الحقيقيُّ ليس في الهروبِ من العاصفةِ، بل في بناءِ مراكبَ تستطيعُ الرقصِ مع أمواجِها".
***
د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم