قضايا

حاتم حميد محسن: هيراقليطس فيلسوف التغيير

كان هيراقليطس وُصف بشيء من الكراهية. عاش في القرن السادس ق.م، وكانت لديه الجرأة ليقول لزملائه المواطنين انهم أساسا ليسوا أفضل حالا من الحيوانات، وهو ما جعله غير محبوب في ذلك الوقت. مع ذلك هو ايضا غيّر جوهريا الطريقة التي نفكر بها حول الواقع، فكرة التغيير، وطبيعة الوجود ذاته.

ما جعل هيرقليطس مثيراً هو الطبيعة المتناقضة لشخصيته وتعاليمه. هو كان ارستقراطيا لم يرغب بالتورط في السياسة، وهو ايضا معلم كتب بألغاز، بالاضافة الى انه مفكر جادل بان المتناقضات هي أساس الواقع. معاصروه أسموه "الشخص المعتم" لأن أقواله كانت "غريبة" جدا وغامضة بتعمّد لدرجة استحق هذا اللقب.

ولد هيرقليطس في أفسس سنة 535 ق.م المدينة الساحلية اليونانية المزدهرة فيما يعرف الان بتركيا الغربية. هو جاء من عائلة ثرية لديها الكثير من الامتيازات. عائلته تمارس واجبات دينية وراثية، وكان بامكانه ان يعيش حياة مريحة في ادارة العقارات او يتسلق السلم السياسي لمدينته. مع ذلك، هو لم يختر أي من ذلك. هو اتّبع مسار العديد من المفكرين الاثرياء طوال التاريخ: اصبح متفلسفا جدا وانسحب من الحياة العامة ليفكر بعمق حول الكون.

بينما كان فلاسفة آخرون في زمانه مهوسين بالعثور على مادة أبدية لا تتغير تحكم كل شيء – طاليس مثلا، اعتقد انها الماء، اناكسيمنس اعتقد انها الهواء – هيراقليطس اتخذ اتجاها مختلفا تماما. هو نظر حوله في العالم وقال "هل تعلمون ماذا؟ التغيير ذاته هو الشيء الوحيد الدائم".

في جداله بهذه الطريقة، كان هيراقليطس أطلق ادّعاءً راديكاليا بوجه المنطق السليم. معظم الناس يريدون الاستقرار وامكانية التنبؤ وشيء ما صلبا للوقوف عليه. لكنه كان يقول لهم ان الارض التي تحت أقدامكم تتغير باستمرار وهذه ليست مشكلة او حدثا وانما صفة للحياة ذاتها.

عبارته الشهيرة حول النهر "لا احد يستطيع النزول في نفس النهر مرتين" تجسّد هذه الفكرة. الماء الذي يتدفق امامك الان هو ليس نفس الماء الذي تدفق قبل ثواني. مجرى النهر تغير، حتى ولو قليلا. انت ذاتك تغيرت – خلايا جديدة، افكار جديدة، تجارب جديدة. لاشيء يبقى ذاته – دائما.

مع ذلك، هيراقليطس لم يكن يدعو الى الفوضى حين كانت فلسفته تقوم على التغيير المستمر. هو أدخل مفهوم الـ "لوغس" الذي يُترجم الى "العقل" لكنه في الحقيقة يعني شيئا ما مثل "المبدأ العقلاني الأساسي الذي يحكم كل شيء". يمكن اعتباره كمبدأ الخوارزمية الكونية الذي يضمن حدوث كل هذا التغيير المستمر طبقا لشكل او منطق أعمق.

التقاط هيراقليطس النار كعنصر مفضل لديه يخبرك شيئا ما حول شخصيته. النار لا تقف هناك فقط كالصخرة او تدفّق يمكن التنبؤ به مثل الماء. النار تحوّل الاشياء –انها تحطم وتستهلك، تنير. تغير الخشب الى رماد، وتطلق الحرارة والضوء. بالنسبة لهيرقليطس، النار مثّلت القوة التحويلية التي تبقي الكون في تدفق مستمر وتجعل حياتنا على ماهي عليه حقا.

هو ايضا جادل ان الأضداد في الحقيقة ليست أضدادا ابدا. هي فقط وجوه مختلفة لنفس العملة. هو كتب "الطريق صعودا ونزولا هو ذاته وواحد، ". الحار والبارد، الليل والنهار، الحياة والموت- هو اعتقد ان هذه اساسيات لحياتنا وهي ليست منفصلة، او قوى متنافسة وانما مظاهر مكملة لواقع واحد جميعها تجعل العالم على ما هو عليه حقا.

وكما في نار هيرقليطس المتغيرة دائما، التاريخ والافكار هي في تدفق دائم – حرق القديم لإفساح المجال للجديد.

كل هذا يبدو يشبه البوذية تقريبا. هناك احساس بان التناقضات الظاهرة تذوب عندما تنظر لها من زاوية صحيحة. الفيزياء الحديثة أدركت هذه الرؤية بطرق مثيرة. نحن الان نعرف ان المادة والطاقة يمكن التبادل بينهما، وان الجسيمات تتصرف كالموجة وبالعكس، وان الكرسي الذي تجلس عليه والذي يبدو صلبا هو في معظمه فراغ مملوء بطاقة اهتزازية.

الجدير بالملاحظة هو مدى ملائمة هذه الرؤى القديمة في الوقت الحاضر. نحن نعيش في عصر استقطاب شديد – سياسيا وثقافيا واجتماعيا. كل واحد يأخذ جانبا، يرسم الخطوط في الرمل، رافضا حتى الاستماع للجانب الاخر. هيراقليطس ربما ينظر الى نقاشاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي ويهز رأسه . هو سيذكّرنا بان التوتر بين الرؤى المتعارضة ليس شيئا للإلغاء وانما شيء للفهم والاحتفال به.

لننظر في ان التقدم تقريبا دائما يأتي من التوتر الخلاّق بين المحافظة والابتكار، التقاليد والتغيير، النظام والفوضى. الحقوق المدنية نجحت ليس بازالة التوتر بين المساواة والقمع وانما بتوجيه ذلك التوتر الى فعل تحويلي – الى عمل شيء حول المشكلة لكي تُحل في النهاية.

كيف أثّرت افكار هيراقليطس في الفكر الغربي

هناك أثار ثرية لفلسفة هيراقليطس في الفلسفة الغربية، حتى لو لم يعترف كل شخص بذلك. افلاطون من الواضح تأثر بافكار هيراقليطس حول التغيير المستمر حتى عندما قرر بالنهاية انه يجب ان يوجد هناك عالم من أشكال أبدية غير متغيرة لتحقيق التوازن في الاشياء.

من جهة اخرى، ارسطو صرف وقتا لا بأس به مصارعا مع مفاهيم هيراقليطس وبالذات مشكلة كيف تتغير الاشياء وتبقى في نفس الوقت كما هي.

الرواقيون أحبوا هيراقليطس وبنوا فلسفة كاملة حول قبول ما لا تستطيع تغييره مع العمل لتغيير ما تستطيع – تفكير هيرقليطي خالص. هم ايضا تبنّوا تأكيده على اللوغس وحوّلوه الى مفهوم مركزي لنظام كوني عقلاني.

في العلاقة مع العصر الحديث، هيجل بالاساس بنى كامل نظامه الفلسفي على الاسس الهيرقليدية. طريقة هيجل الديالكتيكية الشهيرة التي تلتقي فيها الاطروحة بنقيضها لتخلق تركيبا هي فلسفة هيرقليدية لبست اسلوبا اكاديميا ألمانيا حديثا . قال هيجل "لا توجد عبارة لهيراقليطس لم اتبنّاها في اللوغس الخاص بي" وهو اعتراف كبير من فيلسوف غير معروف بتواضعه.

حتى كارل ماركس رغم تركيزه المادي، ورث هذا الاتجاه الديالكتيكي من خلال هيجل. فكرة ان التقدم التاريخي يأتي من خلال تصادم القوى المتضادة – البرجوازية مقابل البروليتارية، والانظمة الاقتصادية القديمة مقابل الجديدة – كانت صدى للرؤية اليونانية القديمة حول التضاد المنتج وأسست حركة سياسية واقتصادية شكلت التاريخ الانساني منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

اخيرا، هيراقليطس الذي هو ذاته لاحظ "كل شيء يتدفق"، الرجل الذي لم يتمكن من التعايش مع جيرانه نجح نوعا ما في تطوير افكار تجاوزت مدينته وامبراطوريته وكامل الحضارة.

GreekReporter,July4,2025

*** 

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم