قضايا
إبراهيم أبو عواد: اختراع العزلة

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ. والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ. وبالتالي، تُصبح العُزلةُ خُلاصةً للمَشاعرِ الداخليَّة، ودَليلًا عَلى وُجودِ الحُلْمِ المَقموعِ في عَوالمِ النِّسيان.
وَمِنَ الذينَ نَقَلُوا العُزلةَ مِنْ المَفهومِ المَاديِّ التَّجْرِيدِيِّ إلى المَعنى الأدبيِّ الإبداعيِّ، الرِّوائيُّ الأمريكيُّ بول أوستر (1947 _ 2024). يُعَدُّ كِتَابُهُ " اختراع العُزلة " (1982) مُذَكَّرَاتٍ عَنْ وَفَاةِ وَالِدِه، وتَأمُّلاتٍ شخصية في فِعْلِ الكِتابةِ وَالخَسَارَةِ وَالوَجَعِ والفَقْدِ. يَنقسِم الكِتَابُ إلى جُزْأَيْن، الجُزْءُ الأوَّلُ: صُورة رَجُلٍ خَفِيٍّ. يتناول المَوْتَ المُفَاجِئ لِوَالِدِه، حَيْثُ يُبَيِّن أوستر طبيعةَ غِيابِ وَالِدِهِ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَوْتِه، ويُعيدُ بِنَاءَ حَياةِ وَالِدِهِ مِنَ القِطَعِ الأثرية التي تَرَكَهَا وَرَاءَه. والجُزْءُ الثاني: كتاب الذاكرة. وَهُوَ سَرْدٌ بِضَميرِ الغائبِ، حَيْثُ تَبْرُزُ المَوضوعاتُ المَوجودةُ في أعمال أوستر اللاحقة، مِثْل: تَرتيب الأحداث، والعَبثية، والوُجودية، والصُّدْفَة، وعَلاقة الأبِ والابْنِ، والبَحْث عَن الهُوِيَّةِ والمَعاني الإنسانيَّةِ. وَيَعتبر النُّقَّادُ " اختراع العُزلة " مِفتاحًا لِتَفسيرِ أعمال أوستر السَّرْدِيَّة والشِّعْرِيَّة، وَهُوَ جَوْهَر أعمالِه كُلِّهَا.
لَقَدْ قَامَ أوستر _ مِنْ خِلالِ شخصيةِ الأبِ _ باختراعِ العُزلةِ شُعورًا وسُلوكًا، عَبْرَ الحَفْرِ في الذاكرةِ، والغَوْصِ في المَاضِي الذي لا يَمْضِي، وَتَفْسِيرِ مَعنى الخَسَارَةِ، واسترجاعِ الذِّكْرَيَاتِ اعتمادًا على المُقْتَنَيَاتِ التي تَرَكَهَا هَذا الأبُ الذي يَتَّصِفُ بِالغُموضِ والخَفَاءِ والغِيَابِ.إنَّهَا رِحْلَة بَحْث مُضْنية عَنْ أبٍ مَعْزُولٍ، وَغَامِضٍ، وَغَرِيبِ الأطوارِ، وَغَيْرِ مَرْئيٍّ، وَلَمْ يَكُنْ حاضرًا بِما فِيه الكِفَاية في حياة أُسْرته.
ولا يُمكِن حَصْرُ مَفهومِ العُزلةِ في الروابطِ الأُسَرِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، فالعُزلةُ مَنظومةٌ إنسانيَّة على تَمَاس مُباشر مَعَ الشَّخصيةِ والهُوِيَّةِ،وهَذا يَتَّضِح في كِتاب" مَتاهة العُزلة " (1950) للأديب المَكْسيكي أوكتافيو باث (1914 _ 1998 / نوبل 1990)، وَهُوَ يُعْتَبَر أهَمَّ أعمالِه على الإطلاق. وقد أشادت به الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل. وحاولَ فيه باث أن يَتَحَرَّى عَنْ شخصية الإنسان المَكْسيكي، وَيَسْبُر أغوارَها.
وَهَذا الكِتابُ عِبارة عن بحث في التاريخ الرُّوحِيِّ للمكسيك، في طُقوسه وعاداته المَوْروثة، مِنْ أيَّامِ الأزتيك (سُكَّان المَكْسيك القُدامى). وهو أيضًا نظرة تأمُّل مُتَعَمِّقَة في الأوضاع التي أثَّرَتْ في تَحديد طبيعة المكسيكيين وتاريخهم.
يَرَى باث أنَّ الوَحْدَةَ أعمقُ حَقيقةٍ في الوُجودِ الإنسانيِّ، فالإنسانُ هُوَ الكائنُ الوَحِيدُ الذي يُدْرِكُ أنَّهُ وَحِيدٌ، والوَحِيدُ الذي يَبْحَثُ عَنْ غَيْرِه. وَقَدْ جاءَ إلى الدُّنيا وحيدًا، وَسَيَمُوت وَحِيدًا. والإنسانُ أثناءَ فَترةِ حَياته يُعيد اختراعَ عُزلته، واكتشافَ نَفْسِه، ويَسْعَى إلى تَحقيقِ ذَاتِهِ في غَيْرِه، فَهُوَ دَائِمُ الحَنينِ إلى المَاضِي، ودَائمُ البَحْثِ عَن التواصل مَعَ الآخَرِين.
وَيُعْتَبَر كِتابُ " مَتاهة العُزلة " أساسًا وُجوديًّا ودَليلًا فِكْرِيًّا لِفَهْمِ الهُوِيَّةِ المَكْسيكية،مِنْ خِلالِ تَحليل عميق للشَّخصيةِ الفَرْدِيَّةِ والهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ والتفاعلِ الثقافيِّ، ويَعْكِسُ جوانب مِنَ العُزلةِ الثقافية التي عَاشَتْهَا المَكسيك بَعْدَ فَترةِ الاستعمارِ، وتأثير ذلك على المُجتمع المَكْسيكي الحديث الغَنِيِّ بثقافته وتاريخِهِ المُعَقَّد.
والإنسانُ _ في لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَة في حَيَاتِه _ يَشْعُرُ بانفصالِهِ عَن العَالَمِ، واغترابِه عَنْ ذَاتِه، وانعزالِهِ عَن التاريخِ والحَضَارَةِ. ومَعَ هَذا، فَهُوَ لا يَمْلِكُ خِيَارًا سِوَى السَّعْي إلى تَجَاوُزِ العُزلةِ، وَمَحْوِ الاغترابِ، واستعادةِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّة. وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بِتَفعيلِ الوَعْي بذاتِه، وعَدَمِ مُحاولة تَغييرِ جِلْدِه.
والشُّعُورُ بالعُزلةِ والانفصالُ عَن الآخرين يُمثِّل أُسلوبَ حَيَاةٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأُدباءِ، فالرِّوائيُّ الفرنسي جان ماري لوكليزيو (وُلِدَ 1940 / نوبل 2008)، يُعْتَبَر مُتَعَدِّد الهُوِيَّات ومُتشابِك الجُذور، فَهُوَ مَولود في مدينة نيس الفرنسية لأبٍ بريطاني عَمِلَ طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا، وأُمٍّ فرنسية مِنْ جُزَرِ موريشيوس. وَقَدْ ظَلَّ الروائيُّ طِيلة عُقود يبحث في التباس الانتماءِ والهُوِيَّة، الذي وَجَدَ نَفْسَه فيه، فَقَد اكتسبَ الجِنسية الفرنسية مِن أُمِّه، وأَخَذَ الجِنسية البريطانية مِنْ والدِه. وكانَ يَشْعُرُ بأنَّهُ مُزْدَوَج الولاء والانتماء، وَهَذا مَنَحَه شُعورًا بالغُربةِ والعُزلةِ. وطَالَمَا رَغِبَ بالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذا الشُّعور، وكانَ بحاجةٍ إلى هُوِيَّةٍ مُحَدَّدة بشكلٍ حاسمٍ.
يَرفضُ لوكليزيو الظُّهُورَ في الإعلام، فَهُوَ صَامِتٌ ومُنعزِل ومُتَأمِّل، ويَعْتَبِر الإنسانَ مَجموعةً مِنَ المُكْتَسَبَاتِ الثقافية، والإرْثِ العائليِّ، والمُتغيِّرات الفِكرية، وَتَجَارِب العَيْشِ في بُلدان وأوضاع مُتغيِّرة، وخِيارات شخصية، وكُشوفات وأحلام مُتحقِّقة أوْ مُتهاوية. ويَمتاز إبداع لوكليزيو بِعُمْقٍ إنسانيٍّ، وفُيوض شِعْرِية دَفَّاقة، وَتجريب مُمْتِع. ويُعْتَبَر أعظمَ كاتب فرنسي على قَيْدِ الحَيَاة.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن