قضايا

أسعد عبد الرزاق: التكفير وتبديد الضمير الأخلاقي

من السنن الجارية في الأديان وطبيعتها أنها تتضمن ثنائيات متعددة كثنائية القيم من خير وشر وحسن قبح وثنائية المصير (الجنة والنار) وثنائية اليمان والكفر التي تختزل تصنيفا للبشر على اساس مثول الإيمان في العمق الوجودي من عدمه، والايمان من ابرز تجليات الدين في الطبيعة البشرية وهو الذي تحول فيما بعد الى (قانون تصنيف) يكرس حالة الانتماء الديني، بالنحو الذي جعل من الدين جهة ذات أسيجة صارمة وحادة، أمام اشتراطات التعددية النوعية والتعايش السلمي ومرونة الاستيعاب والقبول للآخر، وفي تقديري لم يكن من هم  الدين تكريس تلك الثنائية (الايمان والكفر) ولم يقدم نفسه على أنه جهة قابلة للانتماء بقدر ما كان همه تكريس ذاته (أي ذات الدين) في الوجدان الإنساني وترسيخ هويته الإيمانية في نفوس البشر، ولم يكن ينبغي توظيف الايمان كانتماء بل كهوية كونية يشترك فيها الجميع، وفيما بعد تحول الإيمان من حالة وجودية كامنة في عمق الإنسان إلى حالة تتمظهر بالشكليات ليصبح هوية وانتماء في الوقت ذاته، وهذه المشكلة ربما تتطلب بحثا مستقلا لكنها على صلة وثيقة بما نحن بصدده من مسألة التكفير وممانعته في بناء القيم الإنسانية، والذي يمثل نتيجة حتمية لقراءة الإيمان الديني على أساس كونه انتماءً، ونحن نفرق بين كون الإيمان (هوية) وكونه (انتماءً) فالهوية ذات امتداد طولي عميق يتصل بوجود الإنسان الداخلي، في حين تبدو امتدادات الإنتماء أفقية تنحو منحى الإقصاء للآخر (المختلف)، وهو ما سيتم تفصيله لاحقا.

ومسألة التكفير من المسائل التي تبحث – دينيا- في إطار الفقه والكلام معاً، ذلك أنها ترتكز على ثنائية الإيمان والكفر في بنيتها الأساس، وفي العصر الراهن طالما اقترنت ظواهر العنف الديني بالتكفير، وكان الأخير العامل الأساس وراء نشوء تلك الظواهر، فلولا الحكم بكفر الآخر لم يكن من الجائز جهاده وقتاله بحسب معطيات الفقه والكلام.

إن مشكلة التكفير ترتبط أساسا بمشكلة الإيمان، فقراءة الإيمان بنحو يكرس جهوية الإيمان، وممانعته من تقبل الآخر (غير المؤمن)، تجعل من التكفير نتيجة طبيعية وردة فعل تلقائية تجاه ما هو مختلف..

لم يفهم الإيمان على أنه يقين واطمئنان وسكون تدريجي نحو المقدس، بل أصبح محمية بلون واحد تكسي من يدخلها طابعها الخاص دفعة واحدة وتخلع عن من يخرج منها كل ما يتصل بوجود الإنسان وكرامته، فالإيمان بمعناه التقليدي والمتشدد لم يمنح الفرد إنسانية مضافة حينما قبله ولم يزدد الفرد أي معنى في دخوله التقليدي للدين، في حين ثمة مفارقة في عملية الخروج، فالتدين التقليدي بالرغم من عدم إضافته للفرد أي معنا إنسانيا راح يتسبب بخلع كل المعاني عن الفرد عند خروجه مرتدا أو كافر.. فيأخذ من الآخر (الخارج) ما لم يعطه مسبقا، ويعطي للمؤمن مالم يفتقده مسبقا، هذه المفارقة كامنة في الفهم البشري للدين، لتنعكس على ممارسات تندرج في ضمن الدين تدريجيا.

التكفير في منطق الفقه..

التكفير في منحاه الفقهي يشغل الموقع غير المناسب، فلم يكن من شأن الفقه أن يتناول ايمان الفرد، وقياسه، والحكم عليه، وما يقتضيه الضمير الاخلاقي هو عدم اجتزاء الدين بالفقه، واقصار الايمان الديني على ما يستظهره الفقه من معايير تحدد مصير الانسان ووجوده عبر معايير شكلانية، تفتقد المحتوى الأخلاقي، يذكر الرفاعي أن : (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي) ، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط.

إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية.

ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية ، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية ، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة..

إن التوسع في أسباب الكفر والتكفير مما يعد مشكلة في تضخم العقل الفقهي على حساب الحس الأخلاقي، حتى أفضى إلى الاعتباط في التكفير وعدم الاكتراث بنتائج التكفير من حيث ترتب آثاره من نجاسة الكافر فضلا عن وجوب قتله، وإغفال واضح لحرية الانسان في الحياة الدينية، مما انعكس سلبا على الحياة الاجتماعية من نشوء الفئوية الدينية التي تستبع أقسى ممارسات الإقصاء والعنف الديني.

لذا ينبغي التعامل مع لوائح التكفير في المدونة الفقهية من منطلق معايير الاخلاق الدينية الذي يعد عنصرا حاكما على اجرائيات الفقه، ولا يمكن اجتزاء المعطى الفقهي وتعميمه على الواقع الانساني مع اغفال المحددات الاخلاقية للتفكير الفقهي، إذ لم يكن فقه التكفير ناشئا في أحضان رؤية دينية مستوعبة للإلزامات الأخلاقية، بل كان ذلك الفقه قد نشأ بمعزل عن الاحتكام الى رؤية شاملة تتضمن شروط الحرية والكرامة الانسانية مستحضرةً كل ما يتصل بضرورة الحفاظ على الضمير الأخلاقي عبر قراءة متوازنة بين متطلبات الأخلاق وما تنتجه قراءات الفقهاء للنصوص الدينية تلك القراءات التي طالما كانت بمنأى عن مآلات الحكم الفقهي في واقع الحياة الإنسانية.

على أن ذلك النقد لا يعني عزل الفقه أو تقويضه بقدر ما يعني إحلال الفقه في موقعه الطبيعي، وعلى حد ما ذكره حيدر حب الله من معارضة تنامي الفقه وتضخمه إلى حد غياب الروح الأخلاقية، ومعارضة تقديم الفقهاء على المفسرين والعرفاء والفلاسفة بوصفهم الناطقين باسم الدين دون غيرهم، نحو فهم خاص للدين يجعل الفقه مجرد ضلع من أضلاعه، ويمنحه موقعه الطبيعي في إدارة حياة الناس.. .

اتجاهان في مفهوم الكفر:

إن علماء المسلمين على اتجاهين في رؤيتهم لمفهوم الكفر:

الاتجاه الاول: يميل إلى توسعة مفهوم الكفر تجنبا للإخلال بالضبط المنطقي، كما في قولهم أنه : (إنكار لما علم مجيئه بالضرورة) وهذا التعريف وإن كان فيه تجنب واضح للخوض في تفاصيل مع يقع عليه الإنكار إلا أنه يؤدي –بحسب الواقع- إلى الاعتباطية في الانطباق على مصاديق متكثرة، تجعل من التعريف وسيلة للإدخال الكثير من المصاديق تحت ما يعلم مجيئه بالضرورة، فالمشكلة في تحديد ما هو ضروري وما هو غير ضروري.

فيما يوضح الاتجاه الثاني:

أن الإنكار يتعلق بالربوبية والوحدانية والرسالة، وهو لا يتعارض مع الاتجاه الأول بل يضيق مداه إلى دائرة أكثر انضباطا من ناحية تغلغل المصاديق الدخيلة تحت طائلة الاعتباط..

فالربوبية يشير إنكارها إلى معنى الإلحاد، والوحدانية يقابلها الشرك، والرسالة يقابلها تكذيب النبي (صلى الله عليه واله)  ، وهذه الثلاثة تعد معايير أساسية إلى حد ما، لكونها تتناسب مع مضمون الشهادة الذي يؤكد على الإذعان بالله وبرسوله.

لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحاد فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم(1).

الخصوصية الكونية للإيمان:

الكونية مصطلح يرمز إلى مفاهيم دينيّة، فلسفيّة حول الكون يقترب مما ينطبق على كلّ شيء. إنّه مفهوم يشمل جميع الناس في كينونتهم، وفي الدين، تعد الكونيّة مبدأ يؤكّد انصياع جميع الناس تحت ارادة ورعاية الخالق، وتؤكّد على أنّ الكون تحت تصرّف الخالق(2).

ان الايمان بوصفه موقف وجودي انساني يربط الانسان بتجليات المطلق على مستوى الوجود أو القيم يمكن أن يعد من المفاهيم الكونية التي يشترك فيها جميع البشر وبمختلف اتجاهاتهم الدينية والفكرية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه قدرة التفكير والميل نحو المعتقد والانتماء لمختلف المنظومات الدينية مما يجعله كائنا مؤمنا، وصفة الكونية تتيح الى جعل الايمان كينونة بشرية دائمة ومشتركة تستبطن حقا عاما لكل فرد من منطلق حرية الفكر باعتناق اية مضامين قابلة للإيمان، وبالرغم من الحاكمية العقلية على نقد مختلف اشكال الأصول الايمانية فإن ذلك لا يمنع حق الاختيار الانساني للقضايا الإيمانية بالنحو الذي يجعل من الايمان عنصرا محوريا في نشاط الانسان الروحي والذي لا يمكن إلغاءه من جهة كما لا يمكن فرضه على الآخرين من جهة أخرى، وهو ما تفيد به جملة من النصوص الدينية.

وعلى هذا الاساس يمكن ان يكون التكفير بما يحمله من وسائل الاقصاء والالغاء عاملا مجانبا بل مناقضا لكونية الايمان، واذا سلمنا بوجود قيم كونية مشتركة بين البشر فإن الثابت منها لا يلغي حق الانسان في اختيار معتقده وممارسة نشاطه وحركته الايمانية.

وهنا يصبح الايمان في إطاره الوجودي هوية إنسانية لها استحقاقاتها ومكتسباتها التي تكرس اجرائيات الحماية والتنظيم للنشاط الايماني الذي اتسمت به الطبيعة البشرية ليكون عنصرا أساسا في كينونتها ووجودها.

فلا يمكن لفقه التكفير أن يقفز على تلك الحقيقة الكونية بتعميم أحكامه على خلع انسانية الانسان بمجرد تمايزه الاعتقادي، وهو ما يتنافى أساسا مع طبيعة النبوات التي جاءت لتنشر التجربة الايمانية بوسائل لا تتجاوز طابعها المعرفي عبر استثمار مسوغات الوعي والنزوع نحو التقبل الروحي لمختلف تصورات وقضايا الايمان الديني، إذ لم يكن العنف الديني حاضرا في قاموس التجارب النبوية سوى في حدود ظرفية استثنائية تم تعميمها تاريخيا مما أفضى إلى التباس واضح بين ما هو ديني وما هو تاريخي.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

..................................

(1)¬ ظ: الحسني القاسمي، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد: 223.

(2) - ظ: ندره اليازجي, مفهوم الكونية, موقع الكتروني

في المثقف اليوم