قضايا

مصطفى غلمان: الصورة الإعلامية كأيقونة زمنية

تتطلب الصور الرقمية معدات معالجة متطورة ودقيقة، تفتح بالفعل احتمالات لا حصر لها، جيدة أو سيئة اعتمادًا على الاستخدامات، تصبح من خلالها معالجة أيقونتها الزمنية سهلة للغاية. تقوم أداة التنقيح ببساطة بوضع شخصية ما على الشاشة لتعزيز وجودها من خلال تفتيحها أو تكبيرها، أو إزالتها من الصورة، يتم بعد ذلك إعادة تشكيل الخلفية على الشاشة، دون أن يكون من الممكن، حتى بالنسبة للعين المدربة، اكتشاف التلاعب.

وتقصدت الحديث عن هذا الحقل الملغم، على الرغم من تعقيداته التقنية والحاسوبية، لأهمية الإشارة في هذا السياق، إلى خطورة نسق الصورة في الاستخدامات الكمبيوترية الدقيقة، وتركزها في الأبعاد الثاوية لما يعيشه العالم الآن من قفزات وطفرات تكنولوجية خطيرة، تستعمل فيها كل أنواع السيبرانيات في أقصى درجات حضورها الاستخباراتي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ويمكن هنا تأويل هذا المعطى، لنشير تذكيرا، أن الشبكات الرقمية المفتوحة تصر على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوات دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازنات، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين البنيتين المذكورتين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي والمادي.

وهناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

يرى سوسيولوجيون معاصرون، كآلان تورين (صاحب مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي قال في إحدى أهم نظرياته الاجتماعية: يجب أن تكون السوسيولوجيا نضالية وثورية لتحرير الفاعلين من قيود النضال"، وأنطوني غيدنز (صاحب الطريق الثالث)، وحتى بيير بورديو ، يرى هؤلاء أن مجاورة الفجوة التكنولوجية قد تجعل من سؤال الازمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية التي تطالب بدراسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو الأبعاد النفسية والاجتماعية المتغايرة.

وبعكس تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، تبرز ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، كما سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وفي سياق متصل، تشهد معالجة الصور الرقمية أيضًا تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. وسيسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى ب"الافتراضية".

وإذا كان لا يزال من السهل الآن التعرف على الصورة الافتراضية من قبل أي مستخدم للأنترنيت، فلا يمكن رؤية الصورة الرقمية بالعين المجردة، وبالتالي يمكن أن تكون مضللة. اعتمادًا على استراتيجية التلاعب، كما يمكن أن يكون للتعديل الذي يتم إجراؤه آثارًا عميقة أو عواقب خطيرة للغاية.

ومن أجل تقديم نموذج علمي واع بالمفارقات التي وضعناها أمام بصائركم، سأحاول تقديم نموذج لتكريس هذا المعطى المروع، الذي نقارب فيه مخاطر التحريف والتلاعب بالصور، ويتعلق الأمر بالصور التاريخية التي يتم تحويرها وتغيير ملامحها على نطاق واسع، وبالأبيض والأسود، من خلال الصفحات الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت وعلى حساباتهم الشخصية، مما يعرضهم لخطر تحريف رؤية التاريخ.

وميزة الصورة هي أن تكون لافتة وذكية وحارقة، ويمكن الوصول إليها بسرعة، ومفهومة من قبل الجميع وأيضا مؤثرة. فإذا كان المستهلكون كبارا، فإن الشباب هم أيضا منتجون. يتم تداول هذه الأنواع الجديدة من الصور، وغالبًا ما يتم إنشاؤها من مقتطفات من الأفلام أو المسلسلات، أو الصور أو مقاطع الفيديو الحالية، أو صور فوتوغرافية لأشخاص معروفين. هذا التذوق المجازي للصور المحرفة يجعل من الممكن إنشاء رابطة بين الأجيال حول مراجع مشتركة. كما أنه يتيح الفرصة للتعبير عن المشاعر والأفكار المتعلقة بحياتهم اليومية، أو لتشويه سمعة عالم الكبار والأحداث الجارية المثيرة للقلق، أو حتى لبناء روح الدعابة المشتركة.

إن الصور المثيرة هي تلك التي يتم تداولها أكثر من غيرها. تميل المشاعر السلبية والخبيثة إلى توليد معدل مشاركة ووجهات نظر أعلى بكثير من المشاعر الإيجابية. ومن خلال تصفية الخوارزميات التي تعرض الصور الأكثر مشاهدة، مهما كان محتواها، تغدو المنصات ك "غرف صدى" Chambres d'écho تفضل الصور الصادمة التي يتم نشرها بسرعة عالية، دون حواجز المعلومات التقليدية. وهذا يعزز البيئة التي يجتمع فيها الأفراد ذوي التفكير المماثل، مما يخلق فقاعات معلومات يتعرض فيها المستخدمون لصور تتوافق في الأغلب مع آرائهم، على عكس التنوع الموجود في وسائل الإعلام التقليدية. والنتيجة هي استقطاب في الآراء. كما تستفيد اتجاهات التطرف من هذا النظام الذي يجمع مجتمعات كبيرة لتنظيم عمليات تآمرية أو تخويف أو مضايقة أو حتى ترهيب وفراز لعنصرية أو ما شاكل.

ملاحظة أخرى هي أن الأخبار المزيفة والدعاية المرئية وكل ما يتعلق بما بعد الحقيقة مفضل على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا المحتوى ينتشر بسرعة مَهُولة دون احتدادات مسبقة. والنتيجة هي مجتمع يتفوق فيه مشهد ما بعد الحقيقة على صحة الحقائق، كما يتضح في العديد من الأحداث التي عايشناها كمغاربة، في جائحة كوفيد 19، وزلزال الحوز وغير ذلك.

ويطرح ما بعد الحقيقة قضايا مجتمعية مهمة تتعلق بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، وفي واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. كيف يمكن للشباب والناشئين ا أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

إنه يجب تطوير "الإدراك اليقظ"  Conscience consciente لدى الشباب ودعمه وتوجيهه لفهم كيف يمكن للصور أن تضلل أو تسرق لحظة الجمال الكوني، وذلك بعدة طرق، من خلال اللعب على العواطف والتصورات والسياقات. يعطي مقياس Arcom مؤشرات مثيرة للقلق حول السياق الحالي. وهو يقترح أن نساعد في التمييز بين المستويات بين المعلومات الخاطئة، والمعلومات المضللة، والمؤامرة، والأخبار المزيفة، وجميع المصطلحات المستخدمة في الخطاب الاجتماعي والإعلامي.

وعلى الرغم من تشابه هذه المفاهيم، إلا أنها تشير إلى حقائق وممارسات مختلفة. يعتمد الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة بشكل أساسي على القصد. المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة هي دائمًا نتيجة النية. المعلومات الخاطئة هي معلومات مبنية على الواقع، وتستخدم لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة اجتماعية أو منظمة أو بلد. أما المعلومات الخاطئة، من ناحية أخرى، فهي أمر لا إرادي. يشمل التضليل مجال الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة وتلفيق الأخبار المزيفة.

إن ما يكمن وراء التضليل هو تعمد إنتاج أخبار كاذبة على نطاق واسع لتحقيق الربح أو لأغراض سياسية من أجل التأثير أو زعزعة الاستقرار أو حتى الإضرار. وفي حالات كثيرة، يمكن للأخبار المزيفة أن تكون قاتلة ومدمرة بالفعل، خاصة عندما يتم إنشاؤها لتأجيج الكراهية بين مجتمع ضد مجتمع آخر. ويعد مجال المعلومات المضللة أكثر إشكالية لأنه يستفيد من استراتيجيات النشر المتزايدة الكفاءة والتي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

..................

* ملخص المحاضرة التي ألقيتها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ماستر السرديات الثقافية والسيميولوجية) جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع " الصورة في الزمن الأيقوني الجديد" يوم الثلاثاء 27 ماي 2025.

في المثقف اليوم