قضايا

سجاد مصطفى: هل يكتبنا المقال قبل أن نكتبه؟

تأملات في خيانة الوعي لنفسه

لا يُعدُّ فعل الكتابة، في جوهره، إنتاجًا لفظيًا نابعًا عن إرادة حرّة، بقدر ما هو انكشافٌ لوعيٍ مأزومٍ بتكوينه، متورّط بمراجعة ذاته عبر أدواتٍ ليست نابعة منه خالصًا. بل إن الكاتب، في لحظة الكتابة، لا يخطّ سطورًا تعبّر عن ذاته فحسب، بل يُستَخدَم بوصفه أداةً لفكرةٍ تتخطاه، فكرةٍ تكتبه أكثر مما يكتبها.

في مقال سابق ذكرت أن: الفكرة الحقيقية لا تنبع من داخلنا، بل تستدعينا لنتجسّد فيها. فالمقال، حين يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يتولّد من الداخل وحده، وإنما يُكتب من منطقة تماسٍّ بين البنية الثقافية الكامنة، وبين الصدع الكامن في ذات الكاتب؛ ذلك الصدع الذي يسيل من خلاله المعنى بغير استئذان.

الكتابة بوصفها انفعالًا معرفيًّا

ليس الكاتب، كما يُظن، فاعلًا مُطلقًا في عملية الكتابة، بل إن سلطته على النص لا تتجاوز حدود الاستضافة. فهو يستضيف الفكرة، لا يخلقها. ينفعل بها، لا يتحكّم فيها. وهذا ما يجعل المقال، في كثيرٍ من الأحيان، أذكى من كاتبه، وأسبق منه في التكوين.

وقد أشار بول ريكور إلى هذا المعنى حين قال: لسنا نحن من نبدأ بالكلام، بل اللغة هي التي تُجبرنا على النطق من داخلها. فاللغة – بوصفها نسقًا سابقًا على الذات – لا تتيح حرية مطلقة، بل تفرض بنيةَ تعبيرٍ تُملي شروط الإدراك وصياغة المعنى.

خيانة الوعي لذاته: انكشاف لا إرادي

كل فكرة تخرج من الكاتب دون مقاومة، لم تمرّ على وعيه بما يكفي

الخيانة التي نقصدها هنا، لا تشير إلى انحدار أخلاقي، بل إلى مفارقة معرفية، حيث يُنتج الوعي ما لا يُطابق تصوّره السابق عن ذاته. وهذه المفارقة هي التي تُنبّه الكاتب إلى أن وعيه لا يملك سيادةً كاملة على ما يخرج منه.

يقول عبد الجبار الرفاعي: المعرفة الحقيقية لا تُطمئن، بل تربك الوعي وتُقلقه في جذره الأول. وهذه الإرباكات التي تُخلخل بنية الكاتب هي ما يجعل المقال يتجاوز وظيفة الإفصاح إلى موقع الخلخلة والتفكيك وإعادة التشكل.

بين فاعلية الكتابة ولاوعي النص

لو نظرنا إلى لحظة الكتابة من زاوية هيغلية، لأمكننا القول إن الكاتب لا يُنتج النص من عدم، بل يحقّق لحظةً ضمن تطوّر تاريخي ووعي جمعي سابق عليه. فهو ليس فاعلًا في معزل عن البنية، بل متجلٍّ لحركتها، يُكتب بواسطتها، ويذوب في خطابها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار المقال ليس تعبيرًا عن الذات، بل أداة لتجاوزها أو حتى فضحها.

في هذا البحث اقول أنا لا أكتب، بل أسمح للفكرة أن تكتبني

الغيرة المعرفية: حين يغار الوعي من نص لم يُولد

ثمّة لحظة شديدة الخصوصية يعيشها كل كاتب: يرى فكرةً تتكوّن على أطراف وعيه، يشعر بوجودها، لكنه لا يمتلك أدوات الإفصاح عنها بعد. إنها الغيرة المعرفية، حين يُدرك الكاتب أن ثمّة نصًّا حقيقيًا ينتظره، نصًّا لم يُولد بعد، لكنه موجود بالقوّة. وهنا، لا يكون الكاتب سوى قارئٍ مؤجَّل لنصّه المستقبلي، قارئٍ يحاول اللحاق بنصّ يتقدّمه، لا يلحقه.

 سلطة النص على الوعي

كل مقال يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يُعدّ امتدادًا لصوت الكاتب، بل اعتراضًا عليه. هو تجلٍّ لفكرةٍ تأخّرت في الظهور، لكنها حين ظهرت، كشفت هشاشة صاحبها.

وأقول في الخاتمه: لا أكتب لأقول ما أعرف، بل لأُجرِّد وعيي مما يظنه عن نفسه. فالكتابة، إذًا، ليست عملاً تعبيرياً، بل خيانة معرفية ضرورية. خيانة تُخرج الكاتب من استقرار الإدراك إلى أزمة التساؤل، ومن الطمأنينة إلى مكاشفةٍ لا تحتمل التراجع.

***

سجاد مصطفى حمود

..................................

هوامش توثيقية

1. بول ريكور، الذات بوصفها آخرًا، ترجمة جورج كتورة، المركز الثقافي العربي.

2. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، بيروت.

3. جورج فيلهلم هيغل، فينومينولوجيا الروح، بترجمات مختلفة.

 

في المثقف اليوم