قضايا
عبد الأمير كاظم زاهد: الجبرية في تراثنا نظرية الاستبداد

يعتقد المؤمنون بالجبرية اعتقادا فلسفيا او دينيا بان جميع أفعال الانسان ومقادير الكون كلها خاضعة للقدر، وان الانسان مسير ليس له قدرة الاختيار، او التأثير في تصرفاته او صناعة مستقبله بمعنى وضع (نفي الاختيار الانساني)، وعليه فان مسؤوليته عن أفعاله منتفيه ما دام ليس له قوة الاختيار، انما يحصل الفعل ذاك بإرادة خارجة عن ذاته، وتنسب أفعال الانسان عند الملتزمين بالجبر انها من الله تبارك وتعالى وهي تجري ضمن سنن الخلق التكوينية ويقرر هذا المسلك نفي قدرة الانسان على اكتساب الأفعال لأنه لا يملك إرادة مستقلة فلا يكون له كسب من أفعاله لكنه مسؤول عن سلوكه عقابا (الحساب الإلهي) على افعاله وهنا يظهر ان في فقه الجبرية اشكال في عدالة الحساب والعقاب المنزه عنه الباري، طالما الانسان لم يخلق افعاله .وهذه النزعة هي النقيض لنظرية (حرية الإرادة) ويرى باحثون ان اصل هذه النزعة يعود الى الفكر التلمودي وانها تسربت الى الفكر الإسلامي في بواكير زمن الدولة الاموية قيل ان من دعاتها الجعد بن درهم وابان بن سمعان ومنها صارت الفرقة الجهمية . والجعد بن درهم من الموالي من أهل الشام، وهو مؤدب مروان بن محمد الخليفة الأموي وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية اما بيان بن سمعان التميمي النهدي فهو من الغلاة، وإليه تُنسب الطائفة البيانية.
لقد وضع الاشاعرة في أصول الإسلام مبدأ الايمان بالقضاء والقدر في أصول الدين فصير هذا مستندا للاعتقاد بالجبر لأنه من الفهم السلبي للدين، ويتفرع عن القول بالجبرية ان الانسان عاجز عن القيام باي شيء غير ما يقوم به فعلا، وعليه فهناك مبرر للتخلي من مواجهة التحديات، لأنه يعتقد انه لا مفر منها، ويقال ان بعض المذاهب الفلسفية الهندية ترى ان تناسخ الأرواح هو الأصل في الأيمان بالقضاء والقدر والجبرية ويرون ان الاحداث والافعال حاصلة حتما وان المستقبل مرسوم مما يدعى بالحتمية أي (عدم جدوى الإرادة الانسانية) فيكون من الوهم التخطيط البشري لمستقبلهم، ولا بد من تقبل احداث المستقبل المرسومة (الحتميات التاريخية)، فالمعرفة مهما بلغت لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل طالما ان للطبيعة قانون قهري وان الله هو الذي يخلق أفعال الناس كما يخلقها في الجمادات انما تنسب الأفعال الى الانسان مجازا لانها من الله ولعل دوافع القول بالجبر والاعتقاد بملازماته تنبع عن
من الناحية السايكولوجية الرغبة في رفع المسؤولية عن الفرد، وتبرير (الحرية السائبة) للفرد عن أفعاله وعدوانه وسلوكه السلبي المدمر، وعلى المستوى السياسي ترى سلطات الاستبداد ان هذه النزعة رؤية فلسفية مطلوبة لأنها تقلل من الثورات ضد الحكام الجائرين لذلك تم ترويج هذه المفاهيم في أوائل زمن الدولة الاموية ليبرروا السياسات القهرية الاجرامية والتنكيل والبطش التي كانت الميزة الرئيسة لدولتهم وتصلح نظرية الجبر وهي سلطة معرفية لإخماد كل الاحتجاجات التي تزعزع عروشهم (1) وهذه النزعة وان بدت من صنع الأنظمة الوراثية الاستبدادية الا انها سرعان ما تمددت الى المجال الفقهي واثرت على مجموع العقائد والأصول لاسيما عند من اعلنوا مولاتهم للسلطة الحاكمة، ويذكر ان الامام مالك اعلن بطلان بيعة الإكراه للمنصور لما سألته الناس عن مدى شرعية الالتحاق بمحمد ذو النفس الزكية، وحديث ان الله رفع القلم عما استكرهوا عليه لايعنى رفع المسؤولية عنه انما رفع ما يترتب على الاكراه من الطاعة وكان ملوك بني امية اول من دعوا الى القول بالجبر وشجعوا اعراب الرواية على الكذب على رسول الله (ص) واعقبهم العباسيون على هذا المنوال الا المامون
يقول د . سامي النشار - كان معاوية يعلن الجبر في الشام، ونقل قوله (ان لم يراني الله اهلا لهذا الامر ما تركني واياه فإنما قاتلتكم لا تامر عليكم (2)..) وعلى فكرة الجبرية نصب ابنه يزيد ملكا على المسلمين فلما اعترضت عائشة اجابها ان أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من امرهم (3). ومن معطيات الجبر في المجال السياسي
أ/ اجبار المسلمين على بيعة صورية لأي مستول على السلطة جبرا واكراههم على الإقرار بشرعية السلطة المتغلبة المستبدة
ب/ شيوع عقيدة ان الله هو خالق أفعال العباد كيفما كانت، تلك العقيدة التي قبلها من اهل السنة بعض الاشاعرة، ومن ذلك ما قاله ابن بطال القرطبي في شرح البخاري ان (الفقهاء مجمعون على ان الامام المتغلب طاعته لازمة)
ج/ان الخط العام للفكر الجبري وامتداداته في الكلام الاشعري يوجب على الناس ان يتركوا السياسة وشأنها ويكتفوا بثمار الثروة وعلى العلماء ان ينشغلوا بالعلم بعيدا عن الاحتكاك بالسلطة او توجيهها او تغييرها ولقد استقرت مفاهيم الجبرية في العقل العام حتى القرن الرابع الهجري ومنها ما اعتبره الاشاعرة ايدولوجية مقابلة لنظرية حرية الانسان واختياره عند المعتزلة فقالوا ان العبد غير قادر ان يخلق افعاله انما له الكسب فقط، فاذا أراد الانسان فعل امر ما، فان الله تعالى يخلق له القدرة على ذلك الفعل (4)
ومن أنواعها الجبرية السياسية ويراد بها اثبات شرعية زائفة للحاكم المتسلط على الرغم من عدم اختياره من الامة، وتبرير الإذعان لأمره، والتسليم ببيعة الاكراه دون التدقيق في حقيقتها، والمقصود ان يسلس انقياد الامة لحكام الجور وإشاعة عدم جدوى النقد السياسي للجائرين والمتغلبين ومحاسبتهم وتشكيل وضع قانوني ( لفقهاء البلاط) لتبرير امارة التغلب والاستيلاء الغاصب للسلطة لوصفه عندهم انه (جزء من القدر الحتمي ) فيكون المستبد خارج المحاسبة والتقاضي، وتقبل الظلم الذي ينتجه الاستبداد ولكن بأدوات دينية مبررة بنصوص شرعية ومن الاستبداد توريث السلطة للأبناء ببيعة صورية والخلاصة ان النزعة الجبرية أسهمت في :
- تبرير الاستبداد السياسي والدولة المتغلبة غير الشرعية ودعت الى طاعة الحاكم مطلقا وحرمت انتقاده ومحاسبته وعزله لأنها تشيع ان السلطان (قدر من الله) فلا يجوز الاعتراض عليه لأنه قضاء الهي فصارت الطاعة للحاكم واجبا دينيا
- نزع المسؤولية عن الظالم والفاسد لاعتقادها ان المظالم الاجتماعية من اقدار الله التي لا ترد ولان الله فرض على الناس الرضا بالأمر الواقع تحت طائل الايمان بالقضاء والقدر
- انهاء روح المعارضة وجهود الإصلاح والترقية السياسية والاجتماعية، وانهاء (المعارضة السياسية) واعتبارها خروجا عن الدين بحجة ان ذاك يخدم الاستقرار
- إضفاء القداسة على النظام الاستبدادي للربط بين القدر الإلهي والشرعية السياسية للمستبد
- اضعاف مفهوم المسؤولية الأخلاقية والسياسية وتلاشي مفهوم المحاسبة السياسية لان الاعتقاد ينص على ان كل شيء مكتوب
- تراجع قيمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن السياسي وتحجيم الفكر النقدي وضعف مفهوم الحرية العقلانية النقدية ليتاح للسلطة الهيمنة
ونلاحظ ان التيار المضاد للجبرية هو تيار المعتزلة الذي جعلوا العدل احد اهم عناصر منظومة أصول الدين عندهم وجعلوا الامر بالمعروف من اهم ركائز العقيدة الاعتزالية وتوسط اغلب الاشاعرة بين نظرية حرية الإرادة والاختيار وبين الجبرية فابتدعوا نظرية الكسب، واتفق الشيعة الامامية مع المعتزلة في هذا الصدد ان الجبرية نظرية تفضي الى دولة استبدادية دكتاتورية تحكم باسم الله ولا تراعي أي قيمة من قيم الحقوق السياسية للفرد والجماعة.
***
ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد
..................
(1) الاشعري: مقالات الإسلاميين ص279/ الشهرستاني: الملل والنحل 1/87
(2) النشار: نشأة الفكر الفلسفي في لإسلام 1/231
(3) ابن قتيبة: الامامة والسياسة 1/ 127
(4) عضد الدين الاليجي: الموافق 3/214