قضايا
محمد الربيعي: معايير التقييم الجامعي بين وهم البحث وتهميش التدريس

في جوهر رسالتها، تعد الجامعة منارة للمعرفة، ومصنعا للعقول، ومحركا للتنمية المجتمعية. ولكن، في ظل انظمة التقييم الجامعية الحالية، يبدو ان هذه الرؤية قد تشوهت، حيث تحول الاستاذ الجامعي الى "الة نشر" بلا روح، تهمل فيها الى حد كبير جوهر الرسالة الاكاديمية المتمثلة في التدريس والتطوير والاشراف والادارة وخدمة المجتمع. هذا التحول يطرح سؤالا ملحا: هل نحن نقيم علماء ام منتجين للاوراق؟ لقد تحولت استمارات التقييم الى اداة قمعية تكافئ من ينتج اوراقا بحثية – بغض النظر عن جودتها او مصدرها – وتهمش من يكرس وقته للتعليم والادارة والابتكار المجتمعي.
وهم الجودة واقتصاد الورق
لا تكمن المشكلة في تشجيع النشر العلمي، فهو بلا شك ركيزة اساسية للتقدم المعرفي. ولكن المازق يظهر عندما يحول النشر الى "معيار رئيسي" يقاس به اداء التدريسي، دون مراعاة عوامل حيوية تؤثر بشكل مباشر على جودة البحث وامكانية انتاجه.
اولا، يعاني التدريسيين من انعدام الميزانية البحثية. كيف يطلب منهم نشر ابحاث في مجلات مصنفة دوليا دون تمويل للمختبرات او شراء معدات ومواد حديثة او حتى دعم حضور المؤتمرات العلمية لتبادل الخبرات؟ يجبر التدريسي اما على تمويل ابحاثه من جيبه الخاص او جيوب طلابه، وهو امر غير مستدام، او اللجوء الى "مصانع الاوراق" (Paper Mills) التي تبيع ابحاثا جاهزة، او مواقع تقدم "نشرا سريعا" مقابل المال. هذا الوضع يفتح الباب امام الاختلاس الاكاديمي، حيث يتحول النشر الى مجرد وسيلة للبقاء الوظيفي، لا للاضافة العلمية الحقيقية. فهل حقا نريد بحوثا مزيفة تملا السيرة الذاتية، ام اسهامات علمية اصيلة؟
ثانيا، يجب الاخذ في الاعتبار التخصصات المختلفة. ليس كل تخصص ينتج ابحاثا بنفس الوتيرة. فبينما يمكن لناشري علوم البيولوجيا والكيمياء او الطب نشر عدة اوراق سنويا نظرا لطبيعة البحث التجريبي او التطبيقي الذي يسمح بتقسيم العمل، فان الباحث في الاقتصاد او التاريخ او الفلسفة او القانون قد يحتاج سنوات لانجاز دراسة رصينة تتطلب عمقا في التحليل وجمع البيانات والمراجعة. هذه الفروقات الجوهرية غالبا ما تهمل في انظمة التقييم الموحدة.
التدريس والادارة
الجامعة ليست معهدا بحثيا فحسب، بل هي في المقام الاول مصنع للعقول وموئل للطلاب ومصدر للالهام. ومع ذلك، تهمل جوانب اساسية في تقييم الاستاذ الجامعي. المحاضرات والاشراف على الطلبة وادارة الاقسام الاكاديمية والمشاركة في اللجان الجامعية المختلفة – كلها اعمال شاقة ومستهلكة للوقت والجهد، لكنها لا تقاس الا بـ"نقاط" شحيحة في استمارات التقييم. لماذا يعاقب الاستاذ الذي يكرس وقته لطلابه ويعمل على بناء قدراتهم ويصقل مواهبهم لانه لم ينشر العدد المطلوب من الاوراق البحثية؟
علاوة على ذلك، تعد خدمة المجتمع جزءا لا يتجزا من رسالة الجامعة. من يقيم الاستاذ الذي يقدم استشارات لمؤسسات حكومية او ينظم ورشا توعوية وتدريبية للمجتمع المحلي او يكتب مقالات توعوية تساهم في حل المشكلات المجتمعية؟ هذه مساهمات حقيقية وملموسة لا تقل اهمية عن ورقة بحثية تنشر في مجلة علمية، بل قد تفوقها تاثيرا على ارض الواقع. ومع ذلك، نادرا ما تحتسب هذه الجهود ضمن معايير الترقية او التقييم.
هل البحث ممكن بدون دعم مالي؟
يمكن القول بان البحث العلمي ممكن بدون ميزانية ضخمة، لكن بشروط وقيود كبيرة. يمكن اجراء بحوث نظرية تعتمد على المراجعات المكتبية، لكن حتى هذه تتطلب اشتراكات في قواعد بيانات دولية مرموقة (مثل Springer او JSTOR) التي غالبا ما تكون غير متاحة في معظم الجامعات، خاصة في الدول النامية. كما يمكن تحقيق تعاون دولي، لكنه يحتاج الى شبكة علاقات قوية وتمويل للسفر وحضور المؤتمرات، وهو امر مستحيل بدون دعم مؤسسي فعال. واخيرا، يمكن اجراء بحوث ميدانية بسيطة، لكنها تظل محدودة التاثير دون منصات نشر مفتوحة الوصول تضمن انتشارها ووصولها الى جمهور اوسع.
النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي اما انتاج بحوث ضعيفة تنشر في مجلات وهمية (للوفاء بمتطلبات الترقية) في احيان كثيرة، او انسحاب الاساتذة من البحث نهائيا والتركيز على التدريس والادارة، وهو ما يعاقبهم النظام الحالي الذي يضع النشر على راس الاولويات والذي يجبرهم على سلوك طرق غير سليمة ونزيهة.
لماذا لا يطبق نموذج "الجامعات التعليمية"؟
في دول كثيرة حول العالم (مثل اليابان، وكثير من الجامعات الامريكية واللاتينية)، يطبق نموذج اكثر مرونة للتقييم، حيث يقسم الاساتذة الى فئتين:
- اساتذة بحثيون: حيث يعتمد تقييمهم بشكل اساسي على النشر العلمي والانتاج البحثي.
- اساتذة تعليميون: يعتمد تقييمهم بشكل اكبر على جودة التدريس والاشراف على الطلبة والابتكار في المناهج وخدمة المجتمع.
فلماذا نصر على نموذج واحد لا يناسب واقعنا ولا يلبي احتياجاتنا المتنوعة؟ هذا التمييز يسمح بتوجيه جهود الاساتذة نحو ما يتقنون، ويضمن التوازن بين الادوار المختلفة للجامعة.
الخلاصة
لتحقيق نظام تقييم عادل ومحفز، يجب علينا تجاوز هوس "سكوبس" وعدد الاوراق المنشورة كمقياس رئيسي للجودة. يتطلب الامر اعتماد مقاربة متوازنة وشاملة تاخذ في الاعتبار كافة جوانب الاداء الاكاديمي:
- الغاء هوس "سكوبس" كمقياس وحيد، واعتماد موازنة دقيقة بين التدريس والبحث العلمي والجهود الادارية وخدمة المجتمع. يجب ان يكون هناك وزن نسبي لكل من هذه الجوانب.
- تخصيص استمارات تقييم مختلفة للاساتذة الاداريين والتدريسيين البحت والباحثين لتعكس طبيعة عمل كل منهم بدقة.
- احتساب مراحل البحث، وليس فقط النشر النهائي. يجب ان تقدر الجهود المبذولة في مجريات البحث ومدى صعوبة اجرائه وفترة انجازه ونزاهة اجراءاته والحصول على قبول للمقالات وعمليات التحكيم والدعوات العلمية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات العلمية.
- توفير دعم مالي حقيقي للبحث العلمي، بما في ذلك تمويل المختبرات وشراء المواد واشتراكات قواعد البيانات، ودعم حضور المؤتمرات. او، في حال عدم توفر هذا الدعم، يجب التوقف عن معاقبة من لا ينشر بسبب انعدام الموارد.
الجامعة ليست خط انتاج لاوراق بحثية، بل هي مؤسسة لصناعة الانسان وتنمية المجتمع. فلتكن معاييرنا انسانية وشاملة قبل ان تكون رقمية ومختزلة. كيف يمكننا ان نضمن ان الجامعات تنتج قادة ومفكرين ومبتكرين اذا كنا نقيم اساتذتها بناء على مقاييس ضيقة لا تعكس جوهر رسالتهم؟.
***
ا. د. محمد الربيعي