قضايا
محمد سيف: عزلة الدماغ.. كيف تُعيد العزلة الاجتماعية رسم خرائطك العصبية؟

قراءة مركّزة لمقال
(The Neurobiology of Social Distance)*
***
من منظور علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive Neuroscience): هل يمكن أن تتحول الوحدة إلى فخ إدراكي يُشوّه رؤيتك للآخرين ويمنعك من النجاة؟
كيف تعمل الصداقات درعا مناعيا يحميك بيولوجيًا أكثر من الأدوية؟
هل تنتقل المشاعر - كالسعادة والاكتئاب - بين الناس مثل العدوى، حتى لو لم يلتقوا؟
ما الرابط بين عدد أصدقائك وقوة جهازك المناعي؟
هل يمكن لعقلك فعلًا أن يتعامل بعمق مع أكثر من خمسة أصدقاء؟
هل تمنحك المحادثات النصية الإشباع العصبي نفسه الذي يولّده حضور شخصي حقيقي؟
كيف تُعيد الشبكات الاجتماعية - القوية والضعيفة - تشكيل دوائر دماغك؟
هل يمكن أن تؤدي العزلة في الطفولة إلى تغييرات دائمة في بنية الدماغ ووظائفه؟
كيف تدفع الوحدة في الشيخوخة الدماغ نحو الخرف وتعاطي البدائل الكيميائية؟
***
هذا المقال** يستعرض العُزلة الاجتماعية من منظور عصبي لا بوصفها حدثا عابرا، وإنّما باعتبارها خللًا عصبيا يتغوّل في الذاكرة والمناعة بل وحتى الهوية. وما يلي استنطاق مركّز للأفكار الكامنة بين ردهات المقال:
1. مشكلة العزلة الاجتماعية
لأنّ الإنسان مفطور على التفاعل الاجتماعي، فالانعزال ينعكس سلبا على تكوينه البشري؛ ومن هنا كان الشعور بالوحدة إنذارا عصبيا تطوّريا يُنبهك لخطر الانفصال عن الجماعة، ويدفعك غريزيًا للاتصال بالجماعة، إلا أنّه ثمة مفارقة غريبة في الأمر، إذْ إنّه يؤدي تفعيل هذا الإنذار إلى تحريف الإدراك الاجتماعي؛ الأمر الذي يجعلك ترى الآخرين مصدر تهديد، فتستمرّ في عزلتك الاجتماعية؛ وذلك بسبب أنّ الدماغ في تلك الحالة يقوم بتضخيم الإشارات السلبية وتشطين عبارات الآخرين وسلوكياتهم الحيادية، كما أنه يتوقّع الرفض مسبقًا، فليس عجيبا أن تصنّف منظمة الصحة العالمية الوحدة الاجتماعية ضمن قائمة التهديدات الصحية العالمية، ويسلّط المقال الضوء على ذلك قائلا:
"Once lonely, humans can become trapped in a psychological downward cycle that can be dif cult to escape from. This is in part reinforced by a skewed perception of negative cues and social threat from others, or the expectation of being socially excluded by others." p.717
أي: "بمجرّد أن يشعر الإنسان بالوحدة، يمكن أن ينحصر في دوّامة نفسية هابطة يصعب الخروج منها، ويُعزّز هذا جزئيًا بفعل إدراك مشوَّه للإشارات السلبية والتهديدات الاجتماعية من الآخرين، أو توقّع أن يتم استبعاده اجتماعيًا من قبلهم".
2. لماذا الروابط الاجتماعية مفيدة لك؟
تُظهر التجارب السريرية أنّ تمتّع المرء بشبكة صلات متينة من شأنه أن يعزّز المناعة، كما أنه مرتبط بانخفاض معدلات الإصابة بالأمراض وتسريع عملية الشفاء.
ويوضح المقال ذلك بجلاء:
“The tighter someone is embedded in a network of friends, the less likely they are to become ill. The higher your social capital, the faster you get better if you fall ill, the quicker you recover from surgery, and the longer you will live.” p.717
أي: "كلما كان المرء مندمجًا بشكل أعمق في شبكة من الأصدقاء، قلّت احتمالية إصابته بالمرض، وكلما ارتفع رأس مالك الاجتماعي، تعافيت أسرع عند المرض، وشُفيت بسرعة أكبر بعد العمليات الجراحية، وامتدّت فترة حياتك أكثر".
“The investigators also documented a strong effect of 'geographical contagion'. If you have a happy friend who lives within a radius of 1 mile, you are 25% more likely to be happy. In addition, you are 34% more likely to be happy if your next-door neighbor is happy.” p.718
أي: "كما وثّق الباحثون تأثيرًا قويًا لما يُعرف بـ(العدوى الجغرافية) فإذا كان لديك صديق سعيد يسكن ضمن دائرة نصف قطرها ميل واحد، فإن احتمالية شعورك بالسعادة تزداد بنسبة 25٪. بالإضافة إلى ذلك، فإن احتمال شعورك بالسعادة يرتفع بنسبة 34٪ إذا كان جارك المباشر سعيدًا."
3. العدوى الاجتماعية تنتشر في المجتمع الأوسع
المشاعر معدية وهكذا ما يرتبط بيها من سلوكيات كالسعادة والاكتئاب! وهذه العدوى الاجتماعية لا تقتصر على دائرة الأصدقاء بل تمتد إلى أصدقاء الأصدقاء! وعليه؛ فإنّ الانتماء للتجمعات كالأندية والانخراط في الأنشطة الاجتماعية يقلل من خطر الاكتئاب،وارتفاع الرضا عن الحياة، الجدير بالذكر أنّ هذه التأثيرات لا تنحصر على المجتمعات البشرية، بل وُجدت أيضًا لدى الحيوانات الاجتماعية مثل الشمبانزي والدلافين، ويؤكد المقال ذلك بعبارته:
“People who belong to more groups are less likely to experience bouts of depression.” p.718
أي: "الأشخاص الذين ينتمون إلى عدد أكبر من المجموعات يكونون أقل عرضة لنوبات الاكتئاب".
4. الوحدة مضرة للجهاز المناعي
لقد بات جليا أن متانة العلاقات الاجتماعية تتناسب طرديا مع كفاءة الجهاز المناعي، وبالتالي فإن العزلة الاجتماعية مرتبطة بضعف مقاومة العدوى.
ويؤكد على ذلك المقال قائلا:
“Research has found that freshmen students who reported feeling lonely had a reduced immune system response when they were given a flu vaccine compared to students who felt socially well engaged.” p.719
أي: "أظهرت الأبحاث أن طلاب السنة الأولى في الجامعة الذين أبلغوا عن شعورهم بالوحدة كانت لديهم استجابة مناعية منخفضة عند إعطائهم لقاح الإنفلونزا، مقارنةً بالطلاب الذين كانوا مندمجين اجتماعيًا بشكل جيد."
5. ما الذي يحدّ من عدد الأصدقاء؟!
يعجز الدماغ البشري في حالته الصحية الافتراضية عن إدارة أكثر من حوالي 150 علاقة اجتماعية، والذي يُطلق عليه (عدد دنبر) (Dunbar’s number) إننا نعتقد أنه لا تحدّنا حدود في صلاتنا الاجتماعية، إلا أنّ الدماغ لا يوزّع وقته بسخاء! فثلثا تفاعلاتنا الاجتماعية محجوزة سلفًا لأقرب 15 شخصًا، كما أنّ الدائرة الضيقة لا تجاوز 5 أفراد! فالعلاقات القريبة تستهلك طاقة عصبية للحفظ والتفاعل، وتحتاج وقتًا منتظمًا كي تبقى حيّة ومؤثرة؛ لهذا لا يمكننا أن نُدير بعمق أكثر من عدد محدد من العلاقات القريبة مهما حاولنا.
وفي هذا السياق، يستطرد المقال:
“One prospective study estimated that it takes ~200 h of face-to-face contact over a 3 month period to turn a stranger into a good friend. Conversely, the emotional quality of a relationship declines rapidly if contact rates drop below those appropriate to the relationship quality. Time resources, however, are naturally limited: we devote only ~20% of our day to direct social interaction (excluding business-related interactions), equivalent to about 3.5 h per day.” p.720
أي: "قدّرت إحدى الدراسات المستقبلية أن تحويل شخص غريب إلى صديق مقرّب يتطلّب نحو 200 ساعة من التواصل وجهًا لوجه خلال فترة ثلاثة أشهر، وعلى العكس من ذلك، فإن جودة العلاقة العاطفية تتدهور بسرعة إذا انخفض معدّل التواصل عن المستوى المناسب لنوعية العلاقة، إلا أن موارد الوقت بطبيعتها محدودة؛ فنحن نكرّس فقط حوالي 20٪ من يومنا للتفاعل الاجتماعي المباشر (باستثناء التفاعلات المرتبطة بالعمل) وهو ما يعادل تقريبًا ثلاث ساعات ونصف يوميًا".
6. التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت مقابل التفاعل الواقعي
إنّ من شأن التواصل الواقعي تنشيط المناطق العصبية المعنية بتفسير المشاعر والنوايا، كما أنّ اللمس والتزامن الحركي وتعبيرات الوجه عناصر لا تتأتّى محاكاتها رقميًا بالكامل، ورغم أنّ مكالمات الفيديو قد تقلل من الفجوة الناتجة من التفاعل النصي - عبر دردشات التواصل الاجتماعي مثلا - لكنها تظل أقل فعالية عصبيًا من اللقاءات الحقيقية، وتعزيزا لهذه النقطة يوضّح المقال:
“Faces offer a plethora of social information about the sex, age, ethnicity, and emotional expressions of an individual, and potentially about their intentions and mental state (all of which influence the strength of the bond between two individuals).” p.722
أي: "توفِّر الوجوه كمًّا هائلًا من المعلومات الاجتماعية حول الجنس والعمر والعرق والتعبيرات العاطفية للفرد، بل وربما أيضًا حول نواياه وحالته الذهنية، وجميع هذه العناصر تؤثر في قوة الرابط بين شخصين".
7. الشبكات الاجتماعية القوية والهشّة تنعكس في دوائر الدماغ العصبية
لقد لوحظ وجود تناسب طردي بين حجم اللوزة الدماغية (Amygdala) - المسؤولة عن معالجة المشاعر وخصوصا التهديد والخوف - وبين قوة الشبكة الاجتماعية وتعقيدها، وبعبارة أخرى فإن حجم اللوزة تشير إلى درجة التشبّع الاجتماعي.
“Volume effects in these regions were reported for several markers of brittle social integration, such as living in a socially ‘emptier’ household, knowing fewer individuals with whom to regularly share experiences and concerns, and feeling unsatisfied with one’s friendship circles, as well as having grown up without brothers or sisters and being unhappy with one’s family situation.” p.725
أي: "تم رصد تأثيرات في حجم هذه المناطق فيما يتعلق بعدة مؤشرات على هشاشة الاندماج الاجتماعي، مثل العيش في منزل أقل اجتماعية، ومعرفة عدد أقل من الأشخاص الذين يمكن مشاركة التجارب والهموم معهم بانتظام، والشعور بعدم الرضا عن دوائر الصداقة، إضافةً إلى النشوء دون إخوة أو أخوات، والشعور بعدم السعادة ضمن إطار العائلة".
8. العواقب العصب-معرفية للعزلة الاجتماعية
إنّ العزلة الاجتماعية في سنّ مبكرة تُحدث تغييرات بنيوية ووظيفية في مناطق الدماغ، وبعضها يكون بشكل دائم.
“Those children who remained in the institution showed significantly lower development indices and lower IQs (of ~70) than the adopted orphans. Being deprived of social bonds with caregivers also led to a pernicious reduction in grey and white matter tissue and lower fiber tract integrity as evidenced by brain MRI.” p.726
أي: "الأطفال الذين بقوا في مؤسسة رعاية أظهروا مؤشرات نمو ومعدلات ذكاء (IQ) أقل بشكل ملحوظ (~70) مقارنة بالأطفال المتبنين، كما أدى الحرمان من الروابط الاجتماعية مع مقدّمي الرعاية إلى انخفاض ضار في أنسجة المادة الرمادية والبيضاء، وانخفاض في سلامة الألياف العصبية حسبما أظهرت صور الرنين المغناطيسي للدماغ."
9. الوحدة والشيخوخة لدى البالغين
لقد وُجِد أنّ الوحدة لدى كبار السن ترتبط بانخفاض النشاط العصبي في شبكة الوضع الافتراضي (default mode network)، وهي شبكة من المناطق الدماغية تتنشط عندما لا يكون الإنسان منشغلًا بمهمة خارجية محددة كحالة التأمّل الذاتي، كما أنّ انخفاض التحفيز الاجتماعي يؤثر سلبا على معدلات الإدراك الاجتماعي والتفاعل مع مشاعر الآخرين، ناهيك عن أنّه يزيد من خطر الإصابة بأمراض عصبية كالزهايمر.
“Among the many consequences of loneliness on body and mind, the scarcity of social contact encourages drug compensation and substance-use behavior, such as alcoholism, possibly via non-social rewards triggering dopaminergic neurotransmitter pathways.” p.725
أي: "من بين العديد من عواقب الوحدة على الجسد والعقل، فإنّ ندرة الاتصال الاجتماعي تشجّع على التعويض عن طريق الأدوية وسلوكيات تعاطي المواد المخدّرة، ربما من خلال مكافآت غير اجتماعية تُفعّل مسارات النواقل العصبية الدوبامينية".
مجمل القول إن الوحدة الاجتماعية تكشف عن وجهها العصبي بكونها خللًا يتجاوز الشعور العابر إلى إعادة تشكيل البنى الدماغية ذاتها؛ ولذا فإنه لا ينبغي النظر إلى العلاقات الاجتماعية بوصفها ترفًا سلوكيًا، بل آلية بيولوجية ضرورية لجهاز المناعة، وتنظيم الإدراك وتثبيت الهوية، كما أن الصداقة عملية مكلفة عصبيًا! فهي لا تتكوّن إلا من خلال مئات الساعات من التواصل الواقعي،وأنّ غيابها يؤدي إلى ضمور مناطق دماغية أساسية، مع التأكيد على أنّه تمتدّ آثار العزلة في تدهور الإدراك الاجتماعي من الطفولة المبكرة وحتى الشيخوخة، إن الدماغ الاجتماعي - كما يصفه المقال -لا ينجو من الوحدة إلا وقد أُعيد تشكيله!
***
محمد يوسف – سلطنة عمان
......................
* منشور في مجلة (Trends in Cognitive Sciences)
** نشرت المجلة العلمية المحكّمة Trends in Cognitive Sciences (تصنيف Q1) المتخصصة في علم الأعصاب الإدراكي مقالًا علميًا حديثا (2020) بعنوان: العزلة الاجتماعية.. عصبيًا
[The Neurobiology of Social Distance].
رابط صيغة PDF للمقال كاملا:
https://www.cell.com/action/showPdf?pii=S1364-6613%2820%2930140-6