قضايا
أحمد يعقوب: المُثقّف والحربْ
كيف موْضع المُثقّف نفسه من الصّراع؟
ألا يزال من المستبعد أن نناقش مسألة " المثقف السوداني"؟ ومساهماته في قضايا الشّأن العام أو بالأحْرى كيف يتعاطى الشّأن العام؟. ووجه الاستبعاد حين نُدرك أبعاد المسألة من كلّ نواحيها. أعني تأثيرات عمل المُثقّف وتفكيره ومدى اسْهام افهُوماته وسلوكه الفكري وانخراطه في الحراك الاجتماعي ونتاج ذلك على القضايا العامة.وبعد أن شهدنا عديد المشاريع الفكرية التي تحوّلت إلى (دوغما) وانتهت بالاستبداد والانغلاق على نفسها. بل ورأينا المثقف نفسه أسيراً لايدولوجيا مقولاته وأفكاره والأسوأ من ذلك تحوله لمثقف قبيلة/ عشيرة .
ومع تطور نقاشات جينالوجيا المثقف، ظهرت أطروحات مختلفة بشأنه، بدأت بتعيين زمن ظهور مفردة "المثقف" بدلالاتها الحالية، ونقاش الجينالوجيا والجذور وعمليات التأريخ للمثقف قادت إلى دراسة إشكالات المثقف في سياقه التاريخي(1)، مثل علاقته بالسلطة، وظيفته، موقعه من الخريطة الاجتماعية، واجبه الأخلاقي، ونقاش وجود واجب أخلاقي بالأساس يخص المثقف، وغيرها من الإشكاليات. إن ورقتنا لا تغوص عميقاً في الجدال الذي لم يحسم بعد حول من هو المثقف والذي ظهر تاريخياً مع قضية الفريد دريفوس.
طموحٌ وحيد تدّعيه هذه الورقة؛ وهي تعرية القبْليات التي توجّه رؤية المُثقف لذاته وللآخر - بما هو آخر والمجتمع وموقعه من الحرب الجارية الان؛ وفضح البداهات المُحتجبة التي توارت خلف اطروحاته وكتاباته في الازمة التي تعيشها بلادنا حالياً. ولا أدّعي بانتماء للنّخبة والصّفوة على ما يشهد به تاريخنا السوداني من سجالات وكتابات لصفوة مقتنعة بأنه يقع على عاتقها تحرير المجتمع والجماهير وبناء الدولة والمشروع الوطني فاذا بها في أول اختبار أخلاقي تسقط وتنحاز الى رواسبها الثقافية والاثنية وموقعها الاجتماعي من حقل الصراع؛ انما انا فردٌ أعمل في ميدان الانتاج الفكري وانخرط في تجربة الكتابة وهي تجربة تشتبك فيها السّلطة مع المعرفة والاستنارة مع التّعمية، الصّراع والتّحولات، الأمل والاستحقاق على مايقول علي حرب.
نماذج مختلفة وأهداف موحدة:
وأيّاً ما كان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجاله فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام وينخرط في السجالات العمومية دفاعاً عن الحقيقة أو الحُرية أو مصلحة الشّعوب وإذ ذاك يصنف كمثقف عضوي ملتحم بالجماهير و"المثقف العضوي" هو الملتحم عضوياً مع المجتمع الخاضع لبطش نظام توتاليتاري قد يكون محلياً وقد يكون خارجياً استعمارياً. وبسبب هذا التعريف والدور أصبح تعريف "المثقف العضوي" هو الأكثر جاذبية، رغم انه ينطوي على دفاع غير نقدي عن المجتمع أو الجماعة المعنية التي ينخرط المثقف عضوياً فيها على ما يرى غرامشي في اطروحاته وتهويماته؛ او مستقبل الدولة ومشاريع البناء الوطني الجامعة باعتباره المثقف الرسولي والنبوي على ما يرى جوليان بندا في طوباويته؛ واذا صحّ ذلك فاذاً هذه مهمته وبل مشروعيته ومسؤليته وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للسياسي وربما المشروع البديل عنه.
ولكن؛ أي موقع يمكن أن يتموْضع فيه المثقف في ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد؟ أو بالأحرى كيف موْقع المُثقفين أنفسهم في ظل الصّراع الحالي؟ فما بين المثقف الذي احتمى باثنيته وتنازل عن مقولاته ووجّه معرفته لخدمة القبيلة وذاك الحائر بسبب تشوش ذهنه والمختبئ خلف برجه العاجي وانتهازيته؛ والاخر الذي اكتفى بالحياد وليس الصمت، وهو حياد يضمر فيه الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع ولكنه خائفٌ من الاعلان عن ذلك؛ وما بين هؤلاء وأؤلئك مشتركاتٌ تتمثّل في غياب الرؤية وفهم الواقع بشكل ضباب بالاضافة للهشاشة المعرفية وعدم معرفة المكان الصحيح الذي يجب أن يتموضع فيه المثقف في وقت الأزمات والشدّة وحين يوضع قدر الشّعوب على المحك.
أزمة فهم الواقع:
إن اللحظة التي يتعرض فيها نظام ما فكري أم سياسي أو إجتماعي ...الخ إلى عطب أو اعطال تنجم عنه اضطراب وظيفي في آلية اشتغاله بحيث لايعود في وسع دورته الطبيعية أن تعمل على النحو الذي استقر عليه أمرها في السابق(2) يدعى هذا الامر بالأزمة . ومن نافل القول أن مناحي الحياة في البلاد شهدت أزمة خطيرة جداً متمثلة في الاستقبال الخاطئ للواقع فكان أن هُزم المثقف في فهم الوقائع . فاليومي هو الحقل المُنخرط فيه على حساب الاستراتيجي الذي يمثل الهيكل والبنية والحافز لما يظهر عليه اليومي ويتبدى في الفعل والسلوك. وبالتالي تعرض الاجتماع السياسي الى انسداد كامل وغاب التفكير الجاد في مشروع الدولة الوطنية والبناء الوطني مما أحدث شرخ وتفكك أمام أي قدرة لتشكيل الوجدان المشترك وبناء اللُّحمة الوطنية.لمجابهة التحديات التي مرت بها البلاد من الحروب الاهلية وانفصال جنوب السودان والابادة الجماعية وهما حدثان مهمان في تاريخ السودان الحديث والمعاصر.
انخرط المثقف السوداني يبني أفهوماته وخطابه ليتطابق الواقع معها وليست لتكون آلية لقراءة وفهم الواقع بل سعى عبر خطابه لتزيف الواقع وانكاره تارة. فالحرب لم تفاجئه بفظاعتها وعنفها فقط بل جعلته يموضع نفسه وفقاً للحقل الاجتماعي الذي ينتمي اليه حيث تترابط هذه الأثننة مع علاقات السلطة وموقعه من الصراع يتحدد بمدى الخطر الذي يحيق بامتيازات كيانه الاجتماعي أو بما يمكن الحصول عليه كغنيمة تستوي في ذلك المؤسسات والسلطات والمكان ..الخ. وتخضع الارادة والكرامة ...الخ. ساهم عدم فهم الواقع في تعطيل العقل عن ممارسة التفكير في الوقائع الماثلة للعيان وبما يمكن أن يطلق عليه الاتصال الخاطئ مع المحسوسات والسيطرة الكلية للقبيلة والعشيرة على نمط تفكيره. .
فكر سياسي أم فكر عشائري:
ومثلما فضحت حراكات ديسمبر من العام 2018 سوْءات مجتمعنا السّوداني على كافة الأصعدة فقدفضحت مثقّفنا وعرّته من ورق التوت المعرفي، أمّا الحرب الحالية فقد أتاحت لنا أن نعرف من هو المثقف بمقولاته وتمثيلاته المُنحاز لشعبه وللحقيقة أينما وجدت. وذاك الذي هرب للقبيلة والاثنية ليجنّب نفسه طرح الاسئلة والاجابة عليها ؛ المُثقف الذي تتنازعه سلطتين سلطة الجيش بكل ارث العنف وخلله وسوءاته وكياناته الاجتماعية المُسيطرة على مراكز قراره منذ مائة عام؛ وسلطة الدعم السريع المولود من رحم الجيش ومن كيانات اجتماعية محددة استخدمت في ما مضى لتركيع واخضاع باقي الكيانات، اذ أن فشل ما يسمى بالدولة ونخبها هو ما انتج كل المليشيا .
تميّزُ تاريخنا السّوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً لتجريب كل الايدلوجيات التي أثبتت فشلها المريع من اليمين الى اليسار(...)؛ كانت القبيلة هي (الايدلوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ اليها كل المهزومين من النخب السياسة والمثقفين باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسية التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الايدلوجيا والفكر لصالح الكيانات الاثنية. ولا يجدي الهروب من الحقيقة في حال اردنا تشخيص وقائع بلادنا واحداثها المتسارعة؛ فقد صُمّمت هذه البلاد بشكل عنصري ومارست كل الحكومات المتعاقبة سياسات الاقصاء والاستلاب وقامت مشروعية الحكم على العنف. فالدولة هي دولة غلبة ومن يحكمها يتعاطى معها باعتبارها غنيمة. فالذين يتحدثون عن الحفاظ على الدولة ؛يدركون تماماً أنه لاتوجد دولة بل توجد كيانات اجتماعية قبلية محددة تسيطر على الجغرافيا والموارد. إن وجود معنى "القبيلة" بوصفها حصناَ على سبيل المثال، سيسخر من معنى ووجود المواطنة والدولة، ومن ثم سيهدم الطريقة الحديثة في تكوين المجتمعات التي تدعمها الثقافة ويفككها النفاق الشوفيني، وفي كليهما تلعب الثقافة دورا في تذويب تلك التصنيفات لصالح الإنسان وحده، سواء كان أقلية او كان متسعا وواسعا ومساهما في صناعة "الأمة" بمفهومها القار والراسخ الذي لا يعترف بنزعة التقسيم العرقي او الديني او الطائفي. الثقافة على وفق هذا النسق ستعبر الى آفاق الإنسان وروحه المتطلعة الى الحرية والانعتاق من التبعية.
تجلّت أزمة المثقف في هذه الحرب بصورة كبيرة؛فقد اصطفّت النخب المُثقفة كلاً حسب موقعه القبلي والاجتماعي من الصراع. وثمة محايدون ينتظرون آخر فرس في سباق الفوز بالسلطة ؛ فقد رأينا كتابات لمثقفين يقدمون نقداً صارماً للدولة وسلطتها وايدلوجيتها وعنفها وما ان بدأت الحرب حتى كفروا بما قالوا لأن امتيازهم أصبح مُهدداً ولأن موقعهم الاجتماعي سيتضرر منها. وموقفهم من الصراع الحالي هو موقف كياناتهم الاجتماعية وامتيازاتها لا موقف وقائع شعوبنا والحدث الذي تمر بها ومخاضها في أن تولد من جديد بوجدان مشترك لتبني دولة محترمة؛ فالصراع الحالي هو صراع سلطة لأن مفهوم الدولة في ذهنية من يتصارعون يرونها غنيمة ومن يفوز بها سيحكم بالمطلق؛ أما الاجندة الوطنية فهي غائبة تماماً ؛ وأما وقف الحرب في القريب العاجل فهو أمرٌ يتعذر حدوثه لاتساع الرقعة وتداخلات المصالح الاقليمية والدولية في البلاد.
مثقف تنظيمات ما قبل الدولة:
يشير مصطلح تنظيمات ما قبل الدولة اصطلاحا الى (القبيلة) ومثقف "القبيلة" متهم بالمساهمة في تعميق الجهل الذي يكبل القبيلة ومجتمعاتها وأفرادها وشرائحها، ويعيق بروز ما ومن يمكن أن يخفف من ذلك الجهل. فهو يبرر لها كل خطاياها، ويحسن لها مساوئها، ويجمّل صورتها لتبدو زاهية وهي على النقيض من ذلك. هو يمتلك الخطاب، والوسيلة، والمصادر، والنبرة العالية، والشرعية القبلية كي يصوب ويخطئ أياً كان، ويطلق النيران على كل من تُسول له نفسه النظر إلى ذات القبيلة ونقدها، ولو على سبيل الملل من ديمومة نقد "الآخرين"، عند كل منعطف وعلى رأس أي قضية. في طول وعرض تاريخ صيرورة مجتمعات البشر واندياح مساراتها، توزع المثقفون والمهمومون بمصائر مجتمعاتهم إلى "مثقف قبيلة" متواطئ. ومثقف ناقد حريص على انبعاث التجديد في مجتمعه. من دون الحفاظ على تجديد دائم وانبعاث متواصل؛يتجمد المجتمع ويتكلس ويسير للخلف بثبات -ولا معنى أو مغزى هنا للتقدم المعماري وامتلاك سبل التكنولوجيا والحياة الحديثة ما دام المضمون "القبلي" هو الذي يعشعش في دواخل تلك الوسائل والأدوات.
مشكلة "مثقف القبيلة" أنه يشعر بالدفء المنبعث من جنبات الأمية الأبجدية والأمية الثقافية التي تحيطه بالتصفيق وتهيل عليه عبارات الإطراء والتأييد. يقع فريسة الخطاب الخادع والوعي الزائف الذي ينشره في مجتمع الجهل. وهكذا يدور "مثقف القبيلة" مع دوران قبيلته جهلاً وتجهيلاً معاكساً. وقد رأينا المُثقف القبلي الذي يصارع من أجل قبيلته وامتيازاتها ذاك المثقف الذي وجّه كل كتاباته للكيان الاجتماعي الذي ينتمي اليه مستهيناً بالروح البشرية متلذذاً بالدماء التي تسيل هنا وهناك. فريق من المثقفين يرى أن الجيش بخلله وتشوهاته يمثل الدولة نفس الجيش الذي قاد حروب على مناطق (جنوب السودان؛ دارفور؛ النيل الازرق؛ جبال النوبة) نفس الجيش الذي وأد كل السبل لقيام دولة مدنية وديمقراطية أما الفريق الاخر فانه يرى أن الدعم السريع يمكن أن يجلب الديمقراطية والدولة المدنية...الخ من الترهات وقد بشّرنا هذا المثقف بنهاية وزوال دولة 1956 التي لم توجد أصلاً فدولة ما بعد جلاء المستعمر لم تظهر كدولة بهيكلها وبنيتها ومؤسساتها وأفهوماتها وخطابها بل ظهرت كأشكال بيروقراطية ومؤسسات قبلية تتنازع وتتصارع ما بينها منذا العام 1955 أي قبيل ولادتها المشوهة وفي الجهة الاخرى المعاكسة يطالب المثقف بالحفاظ على شئ لم يوجد أبداً ؛ وهذه السردية التي يتنباها مثقف القبيلة تظهر لنا الكم الهائل من التشوهات المعرفية والخلل العقلي الذي أصاب المثقف. . ولا أبالغ حين نقول أن تأثير المثقف الاثني في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر في هذه الحرب سواء كانت أحزاب سياسية أو إئتلاف سياسي أو منظمات المجتمع المدني أو النّقابات فمثقفنا يرى الدولة بمنظور مقولاته وتمثلاته لا بمنظور الواقع والحدث ويريد تطبيق مقولاته وخطاباته على وقائع واحداث لا يفهم كيف بدأت متناسياً كرنولوجيتها قافزاً نحو النهاية.
أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في بلادنا ليست علاقات مترسبة ومتناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل هي علاقات سياسية واقتصادية في آن واحد، وعلى نحو أدقّ؛ هي علاقات سياسية - اقتصادية. فهذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. وظلت علاقات القربى تضطلع بمهمات العلاقات الموحِّدة للمجموعات التي ارتبطت بهذه الكيانات القائمة على التوازن.
تظهر الحرب الحالية وبشكلٍ جلي إن القبائل لا تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة وسعيها لابتلاع كل الجغرافيا السياسية التي تسمى السودان، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة التي يقول بها البعض من دون إلغاء هذا أو ذاك ؟ حيث أضحت القبيلة ؛عقبة أو تحدٍ لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في بلادنا في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الاقاليم والأطراف.
وجه أخر للمثقف المختبئ أظهرته هذه الحرب وهو المغاير للمثقف الاثني المقتنع فعلاً بصحة مواقفه وأفكاره؛ وهو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام ما يحدث، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك؛ على ما كتب ويرى عزام أمين في مقاله المنشور بالعربي الجديد.
أي مثقف نريد:
تطويراً على "مثقف غرامشي العضوي" اذدهر مفهوم "المثقف الناقد" والذي قدم تعريفاً أكثر عمقاً إزاء دور المثقف في مجتمعه وإزاء مصفوفة السلطات التي تواجه الأفراد. "المثقف الناقد" هو الذي يعتمد النقد رؤية لمقاربة المواقف والأنظمة والسياسات، حتى إزاء الشرائح والطبقات والشعوب المضطهدة.(3) مقارباته ابستمولوجية أكثر منها إيديولوجية، وتضامنه مع المظلومين وإن كان قائماً وحاسماً بيد أنه ليس تضامناً أعمى بل مرفوقاً ومشروطاً بالنقد أيضاً، ذلك أنه "لا تضامن من دون نقد"، كما قال إدوارد سعيد. "المثقف الناقد"، إذن، ينقد دكتاتورية السلطات وينقد أيضاً، بتمايز عن "المثقف العضوي"، دكتاتورية المجتمعات وأنظمتها الثقافية والدينية والاجتماعية.
يصعب القول أن بلادنا تمتلك المثقف الناقد؛ اذ الكل منخرط في خطاباته الايدلوجية ورؤيته القبلية وموضعة نفسه في حقل كيانه الاجتماعي فهو لايرى خارج حدود القبيلة والدين والمجتمع فشخصية المثقف منفصمة (4)سواء في بياناته في المعرفة والتنظير على الدوام، فهو الرجل المهووس بانتمائه العرقي المتفوق دائما، وهو نفسه المنزوع الى تمثلات المعرفة والثقافة التي لا تعترف بحدود هذه التمثلات وتعبرها الى الكوني والإنساني.. ومن ثم فنحن أمام شخصيتين تتصارعان في جسد واحد وفكرة واحدة، لكنهما – اي الجسد والفكرة – ستوحيان بالفشل الذريع في النظرة الى الكون والطبيعة والمجتمعات. وهي ذروة النفاق الاجتماعي الذي يشيعه المثقف بمناسبة ومن دون مناسبة وهو يستسلم بطريقة مروعة الى قاع تلك النزعة ونتائجها الكارثية على أهمية الثقافة في ترويض النزعة العصبية وتفسير أهمية أن يكون المرء إنسانا بالدرجة الاولى، وان الصفات التي نسبغها عليه ما هي إلا اضافات شكلية تأتي على وفق ضرورات ما ينجزه في الحياة من جهد وعطاء.
ماهو الموقف من الحرب:
يلعب المثقّفون دوراً بارزاً في مجتمعاتهم بتوجيهها وقيادتها الى التعايش المستدام في بلادنا التي عانت كثيراً من الحروب الأهلية ؛وإذا كانت الأنساق الثّقافية غير مدركة من قبل الجميع؛ نتيجة اتساع رقعة الجهل وتراجع مساحة التعليم، وسيطرة الإعلام الموجه الذي يركز على إنتاج الأتباع والقطيع بوصف ذلك أحد نتائج الحرب؛ فإن الأعمال الأدبية والثقافية والفنية والفكرية يفترض أن تكون قادرة على الغوص في عمق هذه الثقافة، ومواجهة أسس العنصرية ومظاهرها، وأن تجتهد بعد ذلك من أجل صناعة وعي ثوري ثقافي واجتماعي مناهض للتمييز العنصري.وخطابات الكراهية وهزيمة مشاريع العنصريين واجتثاثها تماماً.
يقول البير كامو أنه: ليس بوسعنا إنكار الحرب، بل ينبغي أن نموت فيها أو نحيا بها. وإذا كان الامر كذلك فلابد للمثقف من اتخاذ موقف من الحرب العبثية التي تدور رحاها اليوم، سواء بالكلمة والجهر بالحقيقة متى تجلّت واضحة بلا مساحيق فلسنا في حوجة للمزيد من الضحايا أو النتائج الكارثية للحرب لكي نتخذ قبل كل شيء موقفا مناهضا لها في جميع الاتجاهات والمسارات والمآلات. ذلك أن الحرب في مطلق الأحوال هي الحرب بكل مخلفاتها وفظاعتها وشرورها؛ إذ هي مرفوضة أخلاقيا في أي ظروف جرت، وبأي مسوغات اندلعت، وبأي دوافع مشروعة من الناحية السياسية أو الأمنية انطلقت ووقعت ؛ لذا فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على المثقف الانتصار للعقل في صف الحق والوقوف ضد عبثية التاريخ وصناعة المآسي كما يقول عبدالرحمن السخيري في مقاله عن المثقفين والحرب.
وعلى خلاف كلاب الحراسة والكهنة من المثقفين القبليين فالمثقف الاخلاقي والنّزيه، لا يُقايض موقعه في الصراع بالتوقيع على شيك بياض للعسكريين أو الطغاة (جيش ودعم سريع) في التصرف بمصير ملايين البشر ودفعهم إلى الجحيم غير مبال بالتضحيات الجسام التي تقع على كاهل كل أطراف الحرب؛ كما تقع ويلاتها على من هم خارج دائرة المواجهة العسكرية ومعاركها سواء اقتصادياً او اجتماعياً.
وليس المثقف خارج التاريخ أو النمط الاجتماعي فهو كغيره من البشر لديه نزعاته واطماعه وفكره ويرتبط بمصالح وحسابات إيديولوجية أو ظرفية أو ما شابه ذلك، وتتوزّعه مشاعر الكراهية إزاء هذا أو ذاك من أطراف الحرب والصراع، لكنه في الوقت نفسه ينفرد بموقع أو صفة تسمح له باستعمال عقله بصورة نقدية وتشريحية للفصل بين الحقائق والأوهام، والتمييز بين المرئي من الحقيقة وبين الأكاذيب المفبركة، وليس الاحتماء بالاثنية والعرق والباس دفاعه عن كيانه الاجتماعي لبوس الدولة وأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة.
لا زلت اؤمن بان بلادنا تحتاج لثورة ثقافية قبل ثوراتها السياسية ؛ نحتاج لثورة ثقافية تحدث تحولات في مسارات التفكير والإنتاج والترويج الثقافي لبلادنا يستجيب لمثيرات التحولات الاجتماعية ولتنوعنا وتعددنا ويحفزها فيتحول من نتيجة للتغير المحيط إلى سبب له. نحتاج لثورة ثقافية لننتج ما يكفي من القطائع والتجاوزمن أجل مشروع جديد ومختلف. نحتاج لثورة ثقافية تتفاعل مع الثورة السياسية التي تعيد تشكيل منظومات الفعل السياسي والاقتصادي والتنموي عامة وتعمل لاحقا على قيادته أو تقديم البدائل الجمالية له وتمنع النخب التي بلا ضمير وطني والمتسلقين والانتهازيين وأصحاب المشاريع الوهمية من الصعود.
***
أحمد يعقوب
....................
هوامش:
1- عن المثقف العربي والحرب – أيمن نبيل – العربي الجديد 9 اغسطس 2015
2- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000 ص 113.
3- مختصر محاضرة ألقيت في المركز الموريتاني للأبحاث والدراسات الإنسانية (مبدأ) ـ نواكشوط ٣ فبراير ٢٠١٧.
4- المثقف والقبيلة علي سعدون – الصباح 2-7-2020
مصادر:
1- أوهام النخبة أو نقد المثقف – علي حرب – المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2004.
2- سوسيولوجيا المثقف – جيرار ليكرك، ترجمة د. جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدة كانون الثاني 2008
3- خيانة المثقفين – جوليان بندا
4- المثقف والسلطة – إدوارد سعيد
5- توماس سويل المثقفون والمجتمع – أنماط المثقفين العامة واثرها في حياة الشعوب – ترجمة عثمان الجبالي الطبعة الاولى 2011 فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
6- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000
7- المثقف المشتبك والمثقف المختبئ – عزام الامين –العربي الجديد 2023
8- المثقفون والحرب – عبدالرحمن السخيري – الحوار المتمدن 2022