قضايا

حاتم حميد محسن: رهان باسكال ودور الدين في عصر العلم

قبل أربعمائة سنة راهن الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال على دور الدين في حياة الانسان، ففي رسالة نُشرت في حزيران 2023، لبابا الفاتيكان – بوب فرانسيس مدح فيها "الذهن اللامع والمحب للاستطلاع" للفيلسوف الفرنسي باسكال. اثناء حياة باسكال، وفي ذروة الثورة العلمية في القرن السابع عشر، حدث تقدم سريع في كل مجالات العلوم. الانجازات الاساسية لباسكال تضمنت اول جهاز حاسوب، واول نظام للنقل العام في العالم ومختلف النماذج الرياضية الاخرى.

في الحقيقة، يتسع تأثير باسكال في العالم الحديث كثيرا لدرجة ان كاتب السيرة جيمس كونور James A.connor كتب "انت لا تستطيع المشي عشرة أقدام في القرن الواحد والعشرين دون ان تجد شيئا أثّر فيه باسكال بطريقة او باخرى".

ما يهمنا حول باسكال هو انه كان من بين الأوائل الذين تصدّوا  لتأثيرات العلم الحديث على الايمان الديني وان تعقيدية باسكال العلمية لم تبعده عن كونه رجل متدين.

الدين في عصر العلم

كان باسكال واعيا بما يمكن ان يُعرف او لا يُعرف من خلال النموذج الرياضي والطريقة التجريبية والعقل ذاته. خلال تحقيقاته الفلسفية، هو وجد ان هناك حدودا صارمة لما نعرفه ككائنات بشرية. بالنسبة له، لا الطريقة العلمية ولا العقل يمكنهما عموما تعليم الافراد معنى الحياة او الطريقة الصحيحة للعيش. باسكال ايضا كتب حول الكيفية التي حاول بها الانسان تجنب التفكير بموته، ومدى جهله ومسؤوليته عن الخطأ. مع ذلك، هو ايضا اعتقد انه بالنسبة للناس لا شيء هناك اكثر أهمية من طبيعتهم الانسانية الحقيقية. طبقا له، بدون فهم منْ نحن، سيكون من الصعب فهم كيف يجب ان نعيش.

وفق رؤية باسكال، ان اكتساب المعرفة الذاتية كان مرحلة ضرورية في طريق ادراك حاجة المرء للعيش بهدف وايمان بشيء يتجاوز الذات.

دين باسكال

في الحقيقة، جادل باسكال ان الاعتقاد بوجود الله هو ضروري لسعادة الانسان. من بين جميع افكاره وانجازاته هو اشتهر برهانه الفلسفي pascal’s wager في ان الانسان يجب ان يراهن على وجود الله. هو كتب "اذا تربح، انت تربح كل شيء، واذا تخسر، انت لا تخسر اي شيء" . بكلمة اخرى، هو جادل، رغم ان المرء لا يستطيع ان يعرف بالتأكيد ما اذا كان الله موجودا ام لا، نحن سنكون أفضل عند الايمان بوجود الله بدلا من  بدونه.

نظر باسكال الى يسوع كوسيط لا يمكن الاستغناء عنه بين الله والبشر. هو اعتقد ان الكنيسة الكاثوليكية هي الدين الوحيد لتعليم الحقيقة حول طبيعة الانسان ولذلك فهي قدمت طريقا رائعا للسعادة.

تفضيل باسكال للكاثوليكية على الأديان الاخرى أثار سؤالا صعبا. لماذا يجب على كل شخص المراهنة على دين معين دون آخر؟ لقد ذهب بعض الباحثين مثل ريتشارد بوبكن الى حد وصف محاولات باسكال لتشويه سمعة الوثنية واليهودية والاسلام بانها محاولات "مبتذلة". 

يؤكد باسكال بانه مهما كان دين المرء، فان على كل الناس ان يختاروا بين الايمان في شيء يتجاوز ذواتهم او حياة بدون ايمان. لكن الحياة بدون ايمان هي ايضا خيار، وحسب رؤية باسكال ستكون رهانا سيئا.

على الكائن البشري المراهنة وتبنّي رؤية عالمية فيها كل شخص سيرغب بالمراهنة على حياته. يتبع ذلك، حسب باسكال، ان الانسان لا يمكنه تجنب الأمل والخوف: أمل في ان رهانه سيكون جيدا، وخوف بانه سوف لن يكون. في الحقيقة، الناس يدخلون يوميا في مراهنات لا تحصى – يذهبون الى محلات الخضار، يقودون السيارة، يركبون القطار – لكنهم عادة لا يفكرون فيها كمخاطرة. قراراتنا الكبيرة هي مخاطرة: مثلا، في اختيار موضوع معين في التعليم والعمل او الزواج، الناس يراهنون على تحقيق طموحاتهم . في رؤية باسكال، الناس يختارون الكيفية التي يعيشون بها والعقائد التي يؤمنون بها بدون ان يعرفوا حقا ما اذا كانت عقائدهم وقراراتهم صحيحة ام لا. نحن ببساطة لانعرف ولا نستطيع ان نعرف الكثير لنعيش بدون رهان.

عمل باسكال الرائع الذي لم يكتمل 

يعرض باسكال جداله للرهان في عمله العظيم "pensees" – "افكار". طوال هذا العمل، يؤكد باسكال على الحاجة للايمان، في ضوء استكشاف متعدد الأوجه للطبيعة البشرية بالاضافة الى تحقيق دقيق في حدود العقل والعلم والفلسفة. حجة باسكال المركزية في "افكار" للايمان بالله لا تعتمد على برهان لوجود الله. بالعكس، هو جادل ان وجود الله لا يمكن اثباته لأنه بالنسبة له، الله مختفي.

هو كتب ان " هناك ضوء كافي لأولئك الذين يرغبون فقط في ان يروا، وظلام كافي لذوي الميول المضادة"، لكن في النهاية لا تأكيد ممكن – ولذا فان الناس واجهوا خيارا. هو يرى، ان الايمان سيخلق فرقا بين التعاسة والسعادة الحقيقية. باسكال توفي وهو لازال شابا، لذا لم يستطيع تطوير آرائه الفلسفية في كتابه "افكار".

في الذكرى الأربعمئة لولادة باسكال، احدى طرق الاحتفاء به هي المخاطرة بالإيمان بشيء يتعدى أنفسنا وبما نستطيع معرفته، مثل هذا الايمان قد يعطينا فرصة لنعيش حياة أفضل.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم