قضايا

حاتم حميد محسن: لماذا تخلت حنة أرندت عن الفلسفة في مواجهة العالم؟

اعتقدت حنة ارندت ان فلسفة القرن العشرين أصبحت سلبية جدا وتجريدية. هي دعت الى "تفكير نشط" يعدّنا لنعيش في العالم الواقعي. في عام 1964، أجرى الصحفي الالماني غونتر جاوس Gunter Gaus مقابلة مع حنة ارندت بدأها بالسؤال حول تجربتها في كونها امرأة فيلسوفة في مهنة لاتزال على الأغلب يسيطر عليها الرجال. لكن ارندت أخرجته عن مساره فورا. هي رفضت بهدوء ولكن بحزم قائلة انها لم تكن فيلسوفة ابدا، وانها لا تنتمي لدائرة الفلاسفة. الصحفي جاوس كان في حيرة واضحة لكنه استمر بإلإلحاح. بعد ذلك، توجهت ارندت لدراسة الفكر الفلسفي الالماني. هي درست مباشرة تحت اشراف مارتن هايدجر وكارل جاسبير، العقلان الشاهقان في القرن العشرين. هي ألّفت أعمالا مشهورة مثل (أصل الشمولية) و (الوضع البشري)، كُتب تنبض بالطاقة الفكرية لسقراط وكانط وهيجل وهسرل.

لماذا مفكرة متجذرة بعمق في هذا المجال الفكري تتبرأ منه رغم ان العديد يعتقدون انها فيلسوفة، وبدلا من ذلك هي تسمي نفسها منظّرة سياسية؟ هي صمدت في موقفها وأعلنت بشكل لا لبس فيه : "انا قلت وداعا للفلسفة مرة واحدة والى الأبد".

نحن ندرك حقيقة ان تمرّد حنة ضد اللقب لم يؤثر كثيرا في الطريقة التي يتم تذكّرها بها. هي لا تزال تُسمى فيلسوفة شاءت ام أبت. ولكن كلما ذهبنا عميقا في تضاريسها الفكرية كلما أصبح هذا الرفض مفتاحا لكشف اسلوب تفكيرها غير المعتاد. لم يكن الامر حذلقة حول الأصناف الاكاديمية. انه موقف في العالم، وصفْ للحياة تدور حوله كامل فلسفتها. قصة ارندت وحياتها الذهنية، كما سنرى، أثارت تحقيقا عاجلا: ماهو التفكير، ما الغاية منه، ماذا يعني الانخراط الحقيقي فيه، وماذا يجب ان يجرؤ عليه التفكير النقدي؟

لكي نفهم حقا طريقة ارندت في التفكير، يجب علينا ان نتتبعها ليس فقط من خلال الافكار وانما من خلال الأحداث الشخصية والتاريخية. تفكيرها لم يتكشف في عقم وصمت دراسة الفيلسوف. انها تحركت من خلال النفي، الأزمات، الانهيارات. هذا يلمّح الى نوع من التفكير الذي يرفض ان يطفوا فوق العالم. تحوّل ارندت لم ينطلق بفعل الهام شخصي، منفصل عن السياق. ذلك يتناسب تماما مع المفكرين التجريديين الذين سعت لإبعاد نفسها عنهم. تفكير ارندت تشكّل حينما ضغط التاريخ بقوة – بشكل فوضوي وعلني وواقع لا يمكن تجنبه.

الملك المخفي في عالم التفكير

ازدواجية ارندت نحو الفلسفة كشفت عن نفسها اولاً في ارتباطها بالمفكر الذي أثّر عليها مباشرة وهو مارتن هايدجر. لقائهما في جامعة ماربورغ كان مثيرا لدرجة انه كشف عن سر دام أربع سنوات بين بروفسور متزوج عمره 35 عاما وطالبة يهودية بعمر 18 عاما.

لكن ارندت لم تكن هي الوحيدة الساحرة. في عام 1924 كان هايدجر حسبما ذكرت في كلماتها "الملك المخفي الذي حكم في عالم التفكير". الطلاب المحتشدون في محاضراتها انجذبوا الى القول الشائع، "مرة اخرى، عاد التفكير الى الحياة". العديد من الناس، شعروا بما يشبه حدثا روحيا: "يوجد هناك معلم يستطيع تعليم كيفية التفكير". وبعد عقود، قبضت ارندت على ما اشتعل في تلك السنوات المبكرة. هي تكتب، التفكير كنشاط خالص يمكن ان يصبح عاطفة – ليس ذلك النوع الذي يحكم او يقمع وانما نوع ينظّم تماما ويسود من خلال جميع القابليات والمواهب الاخرى.

لكن ارندت أدركت تدريجيا ان عاطفتها للتفكير لا تنسجم بسهولة مع فكرة "التفكير كنشاط خالص" – وهي الفكرة التي بطريقة او باخرى تعرّف الفلسفة ذاتها. وبمرور الزمن، هي بدأت في التراجع عن ذلك النوع من التأمل الذي رأته في هايدجر: بريق معزول عن العالم، منغلق على ذاته. كلما طورت الكثير حول مسارها الخاص، كلما أزعجها كثيرا هذا المدار العقلي المنغلق على ذاته. بدا لها انه يتميز بـ "الأنانية المطلقة، الإنفصال الراديكالي عن جميع زملائها". مع ذلك، في هذا الوضع، الدوران في حلقات، هو نسيان لعالم لم يعد بالإمكان تلمّسه.

إهتمامها تغير. هي التفتت الى معلّم هايدجر، ادموند هسرل الذي دعا بسرعة الى ثورة: "عودة الى الاشياء ذاتها". في هايدلبيرغ، وبتوجيه من كارل جاسبير، هي شهدت نقطة تحوّل. هي كتبت "التفلسف واقعي لأنه يتغلغل في الحياة الفردية في لحظة معينة". التأمل، بالمقابل، عزل الروح وخدّرها تجاه نداء العالم. انه جعل الذات الداخلية تشبه أي شيء. وبالنظر رجوعا، رأت ارندت بوضوح : الانسحاب الى الداخل جذبها ذات يوم – لكنه كان خطئاً شبابيا تجاوزته لاحقا. وبالرغم من عدم وجود ربط سببي، كان دعم هايدجر العلني للنازية بدا يؤكد رؤية ارندت المؤلمة التي بدأت تتشكل سلفا: ان التفكير الفلسفي العميق لا يقود بالضرورة الى الوضوح الأخلاقي والانخراط في العالم.

هايدجر ذاته إعترف : "التفكير لايهبنا مباشرة قوة الفعل". هذا الانفصال بين الفكر والفعل ترك بصمة دائمة على ارندت. هي أصبحت ترى الاثنين عالمين منفصلين لا يوجد جسر فطري بينهما. بعد عشرين سنة من ذلك التوقف، هي سامحت هايدجر وجددت الصداقة معه التي استمرت حتى وفاتها عام 1975. لكنها لم تعد للايمان بان التفكير يجب ان يبقى ضمن نقاء الفلسفة. تلك العقيدة كانت تنتمي لشبابها . الان، تخلصت من ملجأ التأمل الداخلي، هي بدأت السير في مسار جديد: بعيداً عن التجريد، نحو تفكير متجذر في العالم ذاته.

اللحظة التي لم يعد فيها المرء متفرجا

التحول الأخير لأرندت لم يأت من كتاب او مرشد انما جاء من التاريخ ذاته، اصطدم بحياتها. "العالم الخارجي السيء"، الذي بدا ذات يوم بعيدا ونظريا، الآن اخترق و "تحرش" حسب تعبيرها بتفكيرها، مجبراً اياها الى نوع من الانخراط لم تتصوره ابدا.

وكما أخبرت الصحفي غونتر جاوس، ان عدم رغبتها المبكرة في السياسة والتاريخ بدأت تتحطم في بداية الثلاثينات، عندما وصل الحزب النازي للسلطة ونفد صبرها من المثقفين الذين استجابوا بصمت وتأمل عقيم. نقطة التحول جاءت عام 1933 بعد حريق الرايخستاغ وموجة الاعتقالات التي أعقبته. ومع اختفاء الناس في أقبية جهاز المخابرات (الغستابو) والمعسكرات، هي قالت، "لقد كانت صدمة كبيرة لي لدرجة شعرت بالمسؤولية بعد ذلك".

تلك الصحوة السياسية ترافقت فورا مع صحوة اخرى شخصية. عندما "حوّلت الوقائع السياسية العامة ذاتها الى قدر شخصي"، اكتشفت ارندت ان العديد من أصدقائها المثقفين كانوا يتعاونون. "هذه الموجة من التعاون"، حسب قولها "جعلتك تشعر محاطا بمساحة فارغة". منذ تلك اللحظة فصاعدا، هي تعهدت " كلا ابداً" لا مزيد من الانفصال، لا مزيد من "تاريخ الافكار". التأمل المجرد يمكن ان يصبح شكلا من أشكال التواطؤ حسب زعمها.

كان هذا عندما يلتقي التفكير بالفعل. مع ذلك هي كانت تدرس الهجرة، ارندت اختارت البقاء. هي فتحت منزلها في برلين لاولئك الفارين من النظام. لأول مرة شعرت بالرضا ليس من التفكير وانما من الفعل. تلك اللحظة من المقاومة ستصبح بذرة لمعظم رؤاها السياسية الأصلية. مع فقدان الايمان بالنزاهة الاخلاقية للمفكرين، بدأت ارندت البحث في مكان آخر عن فهم للشر – وعن الظروف التي في ظلها يبرز الحكم الصحيح والفعل الصحيح في العالم. هذا يمثل دخولها الى الميدان السياسي وحيث تبنّت موقفا سياسيا وتاريخيا واضحا. بالنسبة لها، الفلسفة فشلت. انها تجاهلت جوهر الوجود الانساني: الانسان ككائن فاعل. إنغماسها في التأمل الميتافيزيقي تركها غير قادرة على التحدث بشكل هادف الى عالم السياسة، وحيث الناس يلتقون ويحكمون ويعملون.

في فترة ما، تركت ارندت عالم الفكر كليا. هي هربت الى باريس وألقت بنفسها في مناهضة الحرب ودعم جهود اليهود والصهيونية. هي بدأت التفكير بطريقة جماعية وليست فردية. "عندما يُهاجم الفرد كيهودي"، "الفرد يجب ان يدافع كيهودي".

هويتها التي كانت خاصة في يوم ما، اصبحت الآن سياسية. هي رفضت الرؤية الأنانية في علم النفس وبدأت تحكي قصتها من داخل مجتمع تاريخي مشترك "نحن". الفردي كما ترى، تشكّل بالزمن والمكان وبالناس الذين ولد فيهم. مشاكل حياة الانسان لم تكن أبدا فقط شخصية انها هيكلية، سياسية.

بالنسبة لأرندت، أي تغيير حقيقي، أي تجديد واقعي كان يجب ان يحدث ضمن الميدان السياسي. الحركة التي فشلت في الدخول الى ميدان الفعل العام والتي لم تترجم ابدا مُثلها الى أهداف ملموسة، ستبقى خاملة. لكي يتصرف المرء في هذا العالم، عليه ان يبيّن أين صُنع التاريخ.

مولد التفكير النشط

التفكير يأتي في عدة أشكال. هناك النوع الخامل، المتحرك ببطء: أحلام اليقظة والتجوال الذهني. هناك الانسحاب الفلسفي الى أفكار عديمة الوزن، تنسى العالم كليا. هناك الاسلوب الاكاديمي الذي يشرّح الحجج ويطارد العيوب المنطقية. لكن ارندت أشارت الى شيء آخر: التفكير النشط، شكل من الفكر يبقى يقظا للعالم ويعدّنا لنعيش فيه. بالنسبة لها، التفكير لم يكن هروبا، انه كان انشغال. لتفكر بنشاط هو ان تفعل سلفا، ان تأخذ المسؤولية، تبقى حاضرا، تحكم بعناية. ارندت لم تهمل حياة الذهن. هي ببساطة طلبت منها العمل اكثر. هي سحبت التفكير نزولا من البرج العاجي للفلاسفة ووضعته بجانبنا، في التاريخ، في الكوارث، في الحياة.

ارندت اتخذت خطوتها الجريئة الاولى نحو توحيد الفكر والفعل بعد الهروب من فرنسا تحت الاحتلال النازي والعثور على مأوى في الولايات المتحدة. في (أصل الشمولية) استطلعت ماكنة الرعب في ظل النازية والستالينية، كاشفة عن ان الشمولية لم تهيمن فقط بل انها حطمت شروط التفكير.

الناس لا يحتاجون ليُجبروا على الخضوع، هم يمكنهم الإنزلاق الى الطيش بارادتهم. بالنسبة لأرندت، السياسة لم تكن حول مسؤولين يتفاوضون في غرف خلفية. انها كانت المساحة المشتركة حيث يفكر الناس ويحكمون ويتصرفون مع بعضهم. وعندما تنهار تلك المساحة سينتصر الشر. جوابها ليست ديمقراطية تقودها الاحزاب وانما مجالس تشاركية، تلقائية، جمعيات شعبية فيها يتخذ الناس المسؤولية دون الحاجة لتفويضها للقادة او المؤسسات.

في (الوضع البشري)، هي كثفت نقدها لإنسحاب الفلاسفة من العالم. الفلسفة والسياسة، كانتا ذات يوم متشابكتان في اليونان القديمة، أصبحا أقل صداقة. الفكر اتجه صعودا الى التجريد، بينما يحترق العالم في الاسفل. هي تجادل، ان الفلاسفة مجّدوا الإنفصال مقيّمين التأمل أعلى من الفعل، السلبية أعلى من المشاركة. ومنذ سقراط، كان هناك احتقار للسياسة بين المفكرين الذين سعوا لحماية الفلسفة من التدخلات الدنيوية.

هي تكتب "التفكير يهدف الى التأمل وينتهي فيه ... والتأمل ليس فعالية وانما سلبية". هي أرادت شيئا آخرا: لتجلب الفكر مجددا الى الارض، لتجعله يتحرك، يستجيب ويفعل خاصة في عالم تؤرقه الحروب والرعب والكوارث السياسية.

في زمن ارندت، بدا الحطام الذي تركته الستالينية والنازية يعلن عن "نهاية الايديولوجية"، ومعه، نهاية دور المثقفين. لكن ارندت لم تكن مستعدة للتخلي عن التفكير. هي أرادت ربط الفكر والعمل معاً مرة اخرى، لكي توحّد بين الفيلسوف والمواطن. هي اعتقدت ان التفكير الواقعي يمكن ان يشعل تغييرا حقيقيا اذا بقي قريبا من شؤون الانسان.

كان ذلك أمل الحياة النشطة: حياة المنشورات، حيث الناس يتحدثون ويحكمون. خلافا للعمل الانتاجي، الفعل يخلق اللامتوقع. لكن ارندت خشيت ان تتقلص هذه المساحة من الحرية ، وتحتجب بفعل التحكم في "العالم الاجتماعي" والانسحاب الى زوايا تأملية خاصة.

في أفكار ارندت السياسية يكمن شيء اكثر حميمية وهو فلسفة الحب. كان العنوان الأصلي لكتاب (الوضع البشري) هو Amor Mundi او حب العالم، تحدّي مباشر للتقليد القديم لإزدراء العالم. بالنسبة لها، الحقيقة لا تعيش في عزلة وانما في مساحات بين الناس. التفكير لم يكن ابدا منولوج خاص، انه كان دائما علائقيا، دائما على شكل محادثة مع العالم. ايمانها اعتمد ليس على النظريات العظمى وانما على "اللاّمؤكد والمترجرج وعلى ضوء ضعيف" اُشعل بفعل حياة الناس.

لاحقاً، في (حياة الذهن) هي التفتت الى الداخل ليس لتنسحب وانما لترسم تضاريس التفكير والحكم والرغبة. هذه، تشبه فروع الحكومة العادلة التي يجب ان تتوازن وتحقق الرقابة فيما بينها. بالنسبة لأرندت، ان يكون المرء في حوار صادق مع نفسه هو فعل سياسي. التفكير يعدّنا لمواجهة العالم كما هو – فوضوي، واقعي، مشترك. مواجهته بوضوح والحكم عليه جيدا، لا يقل عن فعل الحب.

أدولف ايخمان كاستعارة

ارادت ارندت انقاذ التفكير من ايدي الفلاسفة المهنيين واعادته للافراد لتجعله فعالا وطاقة حية. هي اعتقدت، في وقت عندما تنهار الهياكل الأخلاقية يجب ان يصبح التفكير الحر الملاذ الاخير لنا. لا ايديولوجية تستطيع ارشادنا، فقط السؤال الداخلي: هل سأكون قادرا على العيش مع نفسي بعد هذا؟

بالنسبة لارندت، الاخلاق وُلدت في ذلك الحوار الانفرادي حيث يتم تشكيل تجربة الماضي في المعنى، والقصص تُصنع ليُشارك بها. هي كتبت، التفكير يسمح للناس بضرب الجذور لكي لا يُجرفوا بأي شيء قادم. لكن اولئك الذين يخسرون هذه الطاقة يصبحون خطرا. مثالها الاكثر اثارة للجدل هو الضابط الالماني ادولف ايخمان الذي غطت محاكمته في ذي نيويوركر.

حتى ذلك الوقت، فحصت ارندت الشر نظريا – الشمولية كنظام. لكن محاكمة ايخمان أعطتها فرصة لملاحظة النظام عن قرب. مثل العديد من الناس، هي توقعت وحشا. "الشر الذي تعلمناه هو شيء شيطاني"، كما تقول. بدلا من ذلك، هي وجدت انسانا بلا عمق ابدا. "ذُهلت في الضحالة المتجسدة في الفاعل" هي لم تر الكراهية وانما الفراغ المؤلم – شخص لم يدرك ابدا ماذا كان يعمل.

ايخمان لم يكن أحمقا. هو أوقف التفكير، وهي تشاهده راجعت فكرتها عن "الشر الراديكالي" . انه لم يكن قوة مظلمة، انه كان غياب الفكر. حول تفاهة الشر هي حذرت: عندما نُسكت صوتنا الداخلي، يصبح من السهل انقيادنا للاوامر. هي كتبت "شيء واحد مؤكد"، " كل شخص يمكنه ان يقرر بذاته ليكون اما خيرا او شريرا في معسكر اوشفيتز". لكن ايخمان أغلق جوهر المقدرة التي تجعل هذا الخيار ممكنا. هو لديه دوافع تتجاوز المهنية، لا تفكير مستقل - فقط ولاء روبوتي للأوامر. بذلك هو فقط اتّبع رغبة الآخرين، هو صرح بان ذاته ليس شخصا ابدا. مع لا ذات، لن يكون هناك ذنب ولم يتبقى احد ليتسامح.

العديد وجدوا نغمة ارندت باردة لكنها اعتقدت ان الحكم (اطلاق الاحكام) يتطلب الوضوح، وليس الغضب. هذا بالنسبة لها شكّل بداية أخلاق سياسية جديدة: نحن ملزمون أخلاقيا لنفكر، نحكم، نقاوم الشر ليس في الايديولوجية وانما في التفكير. وبالنسبة لاولئك الذين يتجنبون الحكم من باب الحياء او الخوف، هي لها رد صادم: "عندما تقول لنفسك بهذه الطريقة: منْ انا لأحكم؟ فانت خسرت سلفا".

تفاهة اللاتفكير

في تلك الايام، العديد يشكون من ان أذهانهم "نشطة" جدا لكنهم يعنون ان افكارهم مزعجة، مضطربة، مشتبكة في حالة من القلق والاستياء. التأمل وتقنيات التنفس تعطي املا بالراحة، والهدوء الذهني يمكن ان يكون بلسما. لكن ارندت تدعو الى الحذر: لا تخلط بين ضوضاء الذهن والتفكير الواقعي. الخطر كما ترى، هو "هذا الغياب للتفكير الذي هو عادي جدا في حياتنا اليومية حيث من الصعب ان يكون لدينا الوقت، ناهيك عن الميول، لنتوقف ونفكر". معظم ما نسميه تفكير هو فقط انجراف ذهني.

علم النفس يتفق على ان الدماغ يفضل أقل جهدا، منخرطا في "سهولة معرفية". السرعة تعطي شعور بالصواب. الكسل يعطي شعور بالصحة. لكن هذا الذهن الباحث عن الراحة يصدر أحكاما ضحلة ويتبع الحشود. الخط الاحمر لأرندت واضح: عندما نتوقف عن التفكير لأنفسنا، نحن نتخلى عن جوهر انسانيتنا، ونستسلم ليس للافكار الشريرة وانما لأي فكرة.

وبينما كل فرد يرغب حاليا ان يرى نفسه كـ "فرد"، تذكّرنا ارندت بان الفردية الحقيقية تبدأ بتفكير ارادي. بدونه نحن نقع فريسة لـ "تأثير العربة" (انحياز سلوكي يتم فيه تبنّي فكرة لأن الاخرين تبنّوها)، نعمل ما يعمله الآخرون، متبنّين عقائدا لأنها شعبية وليس لأننا فكرنا بها. هذه ليس فقط عن كيفية تسلل الشر، وانما الكيفية التي يمكن ان تصبح بها الخيرية قديمة. حتى الافكار النبيلة مثل "حب جارك" يمكن ان تصبح روتينية دون فهم لأنها تتكرر دون تفكير.

ترى ارندت ان جميع الايديولوجيات حتى الأفضل من بينها تدفع العقل الى سلبية. حالما نتخذ "موقفا" نحن عادة نوقف التفكير كليا. ذلك يفسر لماذا هي رفضت كل من الوصفين الليبرالي والمحافظ مما اثار استياء أصدقائها النشطين. هي ايضا رفضت ان تخبر الآخرين بما يفكرون فيه. الحرية الواقعية كما ترى، تكمن في التفكير الطازج، مرة بعد اخرى. التخلص من الايديولوجية ليس كافيا، انه يتركنا بمهمة صعبة جدا: ان نحكم بأنفسنا، لحظة بعد اخرى، ما هو الشيء الصحيح للعمل.

نحن ربما نقرأ دروس ارندت من الحرب العالمية الثانية ونعتقد اننا نحكم بشكل صحيح، تصرّفنا بشجاعة، قاومنا المد. لكن تشخيصها هو اكثر حدة: غياب التفكير العادي، المألوف، غير المُلاحظ هو ما يجعل التواطؤ الصامت ممكنا. هذه الرؤى تتحدث مباشرة لفوضى اليوم: الايديولوجية تتكلس، الحقيقة تتهشم، الذكاء الصناعي يدعم الأحكام، السياسة تستقطب. هل نحن حقا نفكر ام فقط نمارس رد فعل او تكرار؟

تدعونا ارندت ليس لإسكات الصوت الداخلي وانما لرفعه عاليا، لنجعل حوارنا الداخلي يقاطع نشوة الإمتثال. هذا النوع من التفكير ليس انسحابا، انه استعداد أخلاقي. وكما هي سألت بعد ان شهدت محاكمة ايخمان، "هل مشكلة الخير والشر مرتبطة بقدرتنا على التفكير؟". المعرفة بذاتي وبواسطتها تتطلب ان نفكر، لأن فقط اولئك الذين يسمعون أنفسهم يفكرون يمكنهم الشعور بضمير سيء، واولئك الذين يشعرون هم فقط لازالت لديهم الفرصة للبقاء اناسا.

 ***

حاتم حميد محسن

Big Think, April24, 2025

في المثقف اليوم