قضايا
مصطفى غَلمان: خوارزمية الحرب.. المقاتلة المعكوسة
في الأفق الفلسفي، تبرز خوارزمية الحرب، كحتمية إنسانية مجردة من أي استثناء (السلم والاستقرار). بل إن طبيعة تكوينها تنتج عن مفارقة ثابتة، تقوم على اعتبار "الشريعة نزاعا" مستمرا ومقدرا، وأن "الحرب ملك للجميع، وأب الجميع أيضا" بحسب عبارة هيرقليطس.
السؤال: ما الذي تقدمه الحرب، في صراعها ضد قيم الوجود والإنسان والحتميات التاريخية؟ وما التأثيرات النفسية والثقافية التي تتولد بإزائها، عند تقديمها كإرادة وعقيدة وسلوك، وفكر واستراتيجيا أيضا؟
هل تسقط الماكينة الإعلامية، في تدوير هذه الفرضيات القيمية، وتشكيلها بالأنماط التي تمت صناعتها في كل النماذج الحربية العالقة في متاهة التاريخ المظلم، على اعتبار قوة "الإسقاط" التزييفي للحقائق، وتأويلها إلى بيانات ضدية، غارقة في المواربة والتعتيم والزيف وصناعة الأوهام؟.
فعندما يتم توجيه بوصلة الأخبار عن الحرب، في اتجاه ابتداع تأويلات مبطنة للعمليات العسكرية، بخلفيات سياسية معينة، وتأطيرها على مستوى البناء الإعلامي الموجه، يصبح العمل الصحفي عائدا لا منتظما لما يسميه هاوارد تومبر ب" الاستنتاج النظري في التغطية الإعلامية للأخبار". وهو ما يفرض وجود نقائص في تناول الحرب كساحة طرفية للغالب الذي يستعمل كل مقاصد البروبجندا ضد الطرف المغلوب، العاري من كل شيء، والمعزول عن العالم، والمضطهد بالقياس الأخلاقي لحقه في الإعلام والتوجيه.
وإذا كان استعمال الحروب هنا، يناكف مناط التوجه السياسي، في شكله المنبثق عن تكتلات قوية، تفرز آلياتها بإزاء هذا التفوق والضغط والتكشف على حقيقة العدالة العالمية، بمعناها المغاير للحقوق الأممية والإنسانية المتعارف عليها، فإن منطق السلام هو الآخر، يصير أثرا لحقيقة صناعة الحروب وتداعياتها على الوعي الجمعي وتداولياته في الخطابات الإعلامية المبتوتة في الأحواز الفضائية الزرقاء وغالب مواقع التواصل الاجتماعي، المرهون بفعل قوة الصانع وتبعيته للسياسات المخترقة.
في هذا المنحى بالذات، أورد الباحث الإنجليزي ستيوارت آلان صاحب كتاب "الإعلام، علم ومخاطر"، في كتابه الآخر "الصحافة: قضايا نقدية"، مجسا رصديا لمجموعة نماذج في انشغال النقد الصحفي بإشكالية تفوق الأخبار الحربية وانحيازاتها الثاوية في تعبئة الرأي العام، مع استحضار خلفيات اختيار الأخبار وتوتراتها البنيوية وتأثيراتها في الدوال السياسية المجتمعية والخطابية عامة.
ومثل ستيوارت بحادث تفاعل الصحافة الامريكية مع أحداث 11 سبتمبر، مبتدعا ثلاث أسئلة نسقية، حولها إلى منطقة تحليل استبياني، تحولت فيه كل المعطيات الواردة في التعليق إلى مجال مفتوح للنقاش والجدل. أما الأسئلة الثلاثة المطروحة بنظر ستيوارت (1) فهي:
ـ كيف ومتى بدأ الحديث عن الحرب بعد 9 / 11؟
ـ ما أشكال الوصف الأخرى المتاحة؟
ـ هل فقدت الصحافة تأثيرها الانطباعي من الشخصيات العامة؟
ومهما كان تحليل الخطاب هنا معبأ لتأسيس قاعدة استشرافية متوترة وضاغطة للمعرفة والاستنتاج السيروري، فإن تحويل الحادث (الإرهابي) بلغة التوصيف، إلى عملية شن (حرب)، تجرد التغطية الصحفية من حدودها المنطقية والعقلية، الساردة لفعل غير موجود، أو هو في وارد الافتراض، الذي يترتب عليه، توجيه منظور، يراد لتداعياته الزمنية المواربة، أن تفعل في سلطة ما، يمكن أن تكون الرأي العام، أو مراكز القرار، أو حتى منظومة الحكم، بشكلها الدولتي.
وغالب اعتقادي، أن البناء الإيقاعي لمدلول هذا الاستنتاج الذي حصرته الآليات الإعلامية في هذا الاعتقاد الصارخ لحدوث شن عملية حربية، له ما يكيف أسلوبه المباشر في استحضار المشهد أولا، ثم تحويله إلى مبدأ للتكيف.
وستيوارت آلان نفذ ببدهيته الخبراتية الإعلامية إلى هذا النظر، فقال في فورة برهانية سماها ب"ملاءمة الاستجابة لكل من المشهد المذاع ومبدأ الكيف": "إذا كانت مشكلة الوصف هي "الجودة" أو "الدقة"، و"الحصول عليها صحيحة"، أي عدم قول ما يمكن أن يكون غير مؤكد، فإنها سوف تصبح سريعا مشكلة "كم"، كما في المصطلحات "الجريسية"، اجعل مساهمتك مليئة بالمعلومات من أجل أغراض التغيير الحالية"، و"هذا المبدأ الجوهري يمكن إعادة تسميته ب"مبدأ التضخيم المتزايد" (2).
إذا كان الأمر هنا يتعلق فقط بتأويل نقل خبر متجاور للدلالة على "الحرب" من عدمها، فما بالك بالوقوع في "الحرب" ذاتها، أو خوضها، واستعمال أسلحة محرمة، وتحويلها إلى أداة للسيطرة والتقتيل والعدوان المبرح، والإبادة الجماعية حتى؟.
إنها المقاتلة المعكوسة، التي تجعل من الحروب شكلا من أشكال الإفناء والقطيعة المخزية. ليس فقط، لأنها شيطانية ومرعبة وغير قابلة للتحويل "الاجتماعي" أو "السياسي"، بل لكونها تفيض عن الحاجة العقيدية أو القدرية أو الاختلافية.
***
د مصطفى غَلمــــان
.....................
1 و2 ـ "الصحافة: قضايا نقدية" ستيوارت الان، مجموعة النيل العربية، ط1 / 2009 ـ ص405 و 410