قضايا
سعاد الراعي: الحفر في طبقات المعنى، قراءة في فخ الاستضافة لابراهيم برسي

لم يكن الفكر يومًا رفاهيةً زائلةً أو زينةً يتأنق بها من يقتاتون على هوامش النصوص، بل كان وسيظل ميدانًا لصراع الإنسان مع واقعه، ومنبرًا للتساؤل الدائم الذي يهزّ أركان الجمود.
والقراءة النقدية التي نحن بصدد تحليلها ليست خروجًا عن هذا المسار، بل تأتي كإسهامٍ جادّ في بلورة معالم الصحافة الثقافية، وإعادة مساءلة دورها في إنتاج المعرفة ومشاركتها.
لقد استطاعت هذه القراءة النقدية أن تنفذ إلى قلب إشكالية الصحافة الثقافية، متجاوزةً الطابع الاستهلاكي لبعض المنابر إلى تفكيك علاقتها بالمثقف العضوي، وما إذا كانت فضاءً للحوار والتجديد، أم مجرد دائرة مغلقة تعيد إنتاج ذاتها بشكل روتيني بحت.
والمقال هنا لا يكتفي بوصف المشهد أو الاكتفاء بموقع الرائي المحايد، بل يتورط فيه، مُسائلًا ذاته بالقدر ذاته الذي يُسائل فيه الآخر.
أهمية هذا الطرح تتجلى في كونه يزاوج بين النقد الذاتي ونقد المؤسسات الثقافية، فلا يكتفي الكاتب بمساءلة صحيفة المثقف موضوع النقد، بل يمدّ أسئلته إلى ذاته ايضا، متسائلًا عن موقعه داخل هذا النسق. وهذه الازدواجية تمنح المقال قوةً ومصداقية، إذ يتحول النقد هنا من سلطة تُمارس من موقع الوصاية، إلى فعلٍ عضوي يتجاوز أحكام القيمة إلى الحفر في طبقات المعنى.
إن البناء اللغوي لهذا النص يتسم بجزالة المفردات وثراء التراكيب، حيث تتضافر الجمل المتماسكة في نسيجٍ يجعل القراءة أشبه بتجربة فكرية جمالية في آنٍ معًا. فهو لا يُسهب في التوصيف السطحي، بل يختار كلماته بعناية، فيأتي النص مشحونًا بكثافة فكرية لا تنفصل عن طاقته التعبيرية.
أما على المستوى النقدي، فيمكن القول إن هذا المقال ينتمي إلى مدرسة النقد الجدلي، حيث لا يضع الأمور في ثنائيات جامدة، بل يخلق دينامية داخل النص، فيظل القارئ متنقلًا بين التساؤلات، لا ليجد إجاباتٍ نهائية، بل ليشارك ويدعو الى المشاركة الفعالة في توليد أسئلةٍ أكثر عمقًا املا في الوصل الى الامثل.
هذه المقاربة تجعل من النقد فعلًا مفتوحًا، لا يبتغي هدم ما هو قائم لمجرد الهدم، بل يسعى إلى بناء بدائل أكثر حيوية وانفتاحًا.
والنقد هنا ليس تمرينًا لغويًا ولا محاولةً لتسجيل المواقف، بل هو التزامٌ معرفيٌّ واعي يحاول أن يردم الفجوة بين التنظير وديناميكية التطبيق، بين المثقف والجمهور، وبين الخطاب الثقافي وواقعه الاجتماعي. وفي هذا السياق، يكتسب هذا المقال قيمته الحقيقية، إذ إنه لا يدين الصحافة الثقافية من موقع المتعالي، بل من موقع الشريك في إنتاجها، الأمر الذي يمنح النقد بعدًا أخلاقيًا يخرجه من دائرة الخطابة إلى مجال التأثير الفعلي.
إن قراءةً نقديةً كهذه تكشف عن أهمية وجود منابر "مثل المثقف" تستوعب هذا النوع من الطرح، لأن النقد الموضوعي والبنّاء لا غنى عنه في تطوير العمل الصحافي الثقافي، وضمان انفتاحه على آفاقٍ جديدة. فالمجلة أو الصحيفة التي تحتضن هذه الأصوات تبرهن على أنها ليست مجرد قناة لنقل المحتوى، بل مختبرٌ لإنتاج الأفكار، ومجالٌ لاختبار حدودها وإمكاناتها.
في النهاية، فإن هذه القراءة النقدية ليست مجرد مقالةٍ عابرة، بل نموذجٌ لما ينبغي أن يكون عليه النقد الثقافي: فعلٌ حيويٌّ لا يكتفي برصد المشكلات، بل يضع ذاته على المحك، ليؤكد أن الفكر الحقيقي لا يتوقف عند حدود القول، بل يمتدّ إلى مساءلة الذات والواقع في آنٍ واحد.
***
سعاد الراعي