قضايا
عصمت نصار: من أين نبدأ؟ (2)

سؤال يصعب علينا تجاوزه واجتيازه
أمّا فلاسفة الإسلام الذين جمعوا بين المباحث الفلسفية والنزاعات العقديّة، فنجد "الكندي"، و"الفارابي"، و"ابن سينا"، و"الغزالي"، و"ابن باجة"، و"ابن طفيل"، و"ابن رشد"، و"ابن سيدة البطليوسي"، وغيرهم من المتكلمين والفقهاء والصوفية الذين أثاروا مئات الأسئلة المحرضة على التفلسف، والتي دفعتهم إليها الوقائع والأحداث والأحوال والمواقف العقدية والسياسية والاجتماعية والفلسفية المنطقية.
ومن أشهر المصنفات التي عبّرت عن هذا المنحى الاستفهامي: الهوامل والشوامل، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وكتاب الحروف للفارابي، والجد والهزل، والمحاسن والأضداد للجاحظ.
ناهيك عن المؤلفات الحاوية للسياقات الحُوارية الفلسفية المثيرة للجدل والعصف الذهني، والخطابات الثائرة على ثقافة الواقع المألوف، التي تدفع الذهن للتأمل والنقد المنتج. ويبدو ذلك في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وكتاب الحيوان للجاحظ، وطوق الحمامة لابن حزم، فجميعها محشوة بالأسئلة الفلسفية المباشرة وغير المباشرة؛ الأمر الذي يقطع بمركزية السؤال الفلسفي، سواء على الصعيد النظري أو في ميدان العمل والتطبيق في الثقافة العربية الإسلامية.
4- مكانة السؤال الفلسفي في الفكر العربي الحديث وإحياء المعارك الفلسفية:
لقد أدرك المجددون في الفكر العربي الإسلامي الحديث حاجتهم إلى المعارف ٧الفلسفية لإعادة تشكيل بنية الفكر الإسلامي، وتخليصه من طور الركود، وتحريره من قيود التقليد. ومن ثم اتخذوا من السؤال الفلسفي آلية لتأهيل العقلية السردية التقريريّة، لإحياء ميادين النقد والتحاور والتناظر، عوضًا عن الحفظ والتلقين والتقرير والسرد والتلخيص، لإنهاض الأذهان وهدايتها إلى الأصلح من الضروب والنهوج التي تُعين الأمة على معالجة أدرانها، وإصلاح الفاسد من قيمها، وانتخاب النافع من العلوم الحديثة التي أهملتها، وإعداد العدة لصياغة الدفوع للذود عن هويتها ومُشخّصاتها التليدة، التي انتهكها الأغيار بكتاباتهم الطاعنة في نتاج حضارتها وأصول عقائدها.
ويبدو ذلك واضحًا في السؤال الذي طالما طُرح في مجالس قادة الرأي في مصر وبلاد الشام وتونس: (ماذا عن آليات النهضة وبواعثها؟ وكيفية توعية العقل الجمعي وتحريره من قيود التقليد والتبعية؟ وترغيب الأذهان في العلم وانتخاب النافع من الأغيار المتقدمين؟ وتقديم النقد على السرد في خطاباتهم التوجيهية؟).
ومن أبرز المفكرين الذين اضطلعوا بهذه الرسالة: الشيخ حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، وخير الدين التونسي، وأحمد فارس الشدياق، وعبد القادر الجزائري، وغيرهم من طلائع النهضة الذين حرصوا في مؤلفاتهم على انتهاج الأسلوب الجدلي والحواري في سرد أفكارهم، كما حرصوا على إبراز النسق النقدي التوجيهي في صياغة مشروعاتهم الإصلاحية، فابتدعوا صحافة الرأي، وحدّثوا وجدّدوا فن المقامة الأدبية، وأضفوا عليها الطابع الفلسفي. نذكر منها مقامة علم الدين لعلي مبارك، ومقامة فكريّة لعبد الله فكري.
ثم جاء الرعيل الثاني من قادة الرأي ليطرح بدوره عدة تساؤلات لمعالجة قضايا الواقع، منها:
(كيفية إحياء الأصيل من الموروث؟ وما آليات نقده وغربلته وتخليصه من الدخيل؟ وماذا عن آليات التجديد وموجِبُه؟ وكيفية التصدي لحملات التغريب والرد على المشككين في ثوابت العقيدة بأسلوب جامع بين الحجج الفلسفية والبراهين العقلية، والأسانيد العلمية، والتجارب العملية؟).
ومن أبرز رواد هذه المرحلة: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأديب إسحاق، ويعقوب صَنّوع، وعبد الله النديم، وفرح أنطون، وحسين الجسر، وغيرهم من العشرات أصحاب الأقلام الذين أضاءوا كل جوانب الثقافة العربية بمصنفاتهم النقدية، ومجالسهم الحوارية، وأقصوصاتهم المسرحية النقدية الساخرة، وحكاياتهم الفكاهية الثائرة، ذلك فضلًا عن رسائلهم العلمية الجامعة بين المنقول والمعقول، والموروث والوافد المستحدث. ومن أشهر هذه المؤلفات: رسالة الرد على الدهريين لجمال الدين الأفغاني، ورسالة التوحيد لمحمد عبده، والرسالة الحميدية لحسين الجسر.
أما الجيل الرابع؛ من التنويريين العرب الذين تخرّجوا في مدارس زعماء الإصلاح وقادة الرأي، وجمعوا في ثقافتهم بين نفائس الموروث والطريف المستحدث من الوافد الجديد، فكانت معظم كتاباتهم تنطلق من الأسئلة التي أنتجها الواقع المعيش واحتياجاته، لتُجيب عن المجهول من المعارف، والعلل من الأسباب والقضايا، وتُقدّم الحلول للمشكلات التي تُعرقل نهضة أمتهم، وتُزيل المعوّقات التي تعوق خطواتهم صوب المدنية. فراحوا يتساءلون عن: علّة تخلّف الحضارة الإسلامية، وكيفية التجديد والتحديث، ونشر الوعي وتربية الرأي العام، وتحديث برامج التعليم، وتقويم منابر التثقيف، والإعلاء من قيمة الحرية بشتى صورها، وكيفية وضع المناهج والبرامج والآليات للوصول إلى الغايات، وذلك في متنفس راقٍ ينعم بالحرية في النقد والبوح والتشاور والتثاقف، لانتخاب الإصلاح من الآراء والتصورات، والمناسب من الوسائل والمناهج في التطبيق.
والجدير بالذكر في هذا السياق هو الوقوف على أشهر المؤلفات التي أثارت عناوينها العديد من القضايا الهامة في الفكر العربي المعاصر، أهمها: لماذا تخلّف المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟ للأمير شكيب أرسلان، وكتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي. وقد أثار هذان الكتابان العقل الجمعي في العالم العربي الإسلامي، ودارت حولهما عشرات الحوارات والمساجلات بين قادة الرأي في النصف الأول من القرن العشرين.
أما شبيبة المستنيرين، فعكفوا على شرح وتوضيح معاني النظريات والاتجاهات الفلسفية الوافدة من الثقافة الغربية، وقد حملت عناوين كتاباتهم أسئلة أيضًا، نذكر منها:
ما بعد ذهنية التحريم لصادق جلال العظم، وما يُقال عن الإسلام لعباس محمود العقاد، وما النهضة لسلامة موسى.
وهناك كتابات أخرى اتًسمت بالطابع الحواري، منها: لماذا نقرأ؟ لطائفة من المفكرين، نذكر منهم: رجب البنا، وطه حسين، وحسين فوزي، وإسماعيل صبري.
وإذا ما انتقلنا إلى الصحف والدوريات التي اتخذت من طرح الأسئلة الفلسفية وسيلة للتشاور حول قضايا الفكر والمجتمع والسياسة، وجعلت من هذا النهج أداة لاستفتاء قادة الرأي حول قضايا المرأة والنهضة والتجديد وبرامج التعليم، فسوف نأسف على غياب هذا اللون من التثقيف في صحافتنا المعاصرة. في حين أن قادة فكرنا العربي الأوائل قد أدرجوا هذه الاستفتاءات والحوارات النقديّة في معظم مجلاتهم منذ مئة عام. نذكر منها:
استفتاء مجلة الهلال عن المرأة الشرقية، وجاء في أسئلته: (ماذا يُحسن أن تُستبقى من أخلاقها التقليدية؟ وماذا يُحسن أن تقتبس من شقيقتها الغربية؟). وقد أُجري ذلك الاستفتاء عام 1922م، وشارك فيه: جميل صدقي الزهاوي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وجبر ضومط، وعبد القادر المغربي، ومصطفى صادق الرافعي.
واستفتاء آخر عن نهضة الشرق العربي وموقفها إزاء المدنية الغربية، وكانت الأسئلة المطروحة على المفكرين: (هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء، أم هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟ هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار العربية وتآلفها؟ ومتى؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟).
وقد أُجري هذا الاستفتاء عام 1923م، وشارك فيه: طه حسين، وجبران خليل جبران، وأمين واصف بك، ومحمد لطفي جمعة، وسامي الجريديني.
واستفتاء أجرته مجلة المقتطف حول قضايا التعليم، جاء في أسئلته: (ماذا عن النهضة الغربية الحديثة؟ وما أبرز مظاهرها؟ وأبقى آثارها؟). وقد أُجري هذا الاستفتاء عام 1927م، وشارك فيه: عباس محمود العقاد، وحنا خباز، وأمين الريحاني، وغيرهم.
كما كان للسؤال الفلسفي حظٌّ كبير من اهتمام المفكرين المعاصرين منذ العقد الثاني من القرن العشرين، ولا سيّما في ميدان التصاول والتناظر. ومن أشهر الكتب التي حملت عناوينها هذا الضرب، والتي أثارت حفيظة الاتجاه المحافظ، وحفّزت الاتجاه العلماني على البوح بآرائه النقدية في الأمور العقدية والسياسية، نذكر:
هل من تحريف في الكتاب الشريف للمستشرق الإنجليزي وليم كولد ساك، وقد قام بالرد عليه الشيخ يوسف الدجوي في كتاب الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف.
(وللحديث بقيّة)
***
بقلم: د. عصمت نصار