قضايا

عبد الهادي عبد المطلب: أين اختفت الحكايات؟

"الطفل يعرف الأشياء ولا يعرفها مادام يجهل الحكاية".. رضوى عاشور

تمهيد:

ـ بلغني أيها الأمير السعيد...

وماذا بعد؟

أين اختفت الحكاية؟

استوقفني الطفل الذي يسكنني متسائلا، لماذا لم تعُد الجدات والأمهات اليوم، يجلسن في حلقات مع أولادهن وأحفادهن للحكي وغزل جميل الكلام ونسج عوالم الأسرار؟

هل في زحمة الحياة وبهرجتها الكاذبة، ضاعت الحكايات وانقضى زمنها؟

هل شَحَّ خيال الجدات والأمهات، بعد أن كُنّ حكّاءاتٍ بارعات يعرفن كيف تُنسج خيوط الحكايات والأحاديث اللذيذة وحلو الكلام؟

هل حين تخلّت الجدات والأمهات، والحكواتيون، والمؤسسات التربوية عن دورهم، هؤلاء بالتهافت على العمل والبحث عن لقمة العيْش المُرّة، وأولئك بتمرير الممجوج والمعطوب من البرامج الرخيصة التي لا تصنع رجالا أسوياء لمستقبلٍ ينهضُ على المغامرة والحلم والإبداع، فُتِحَ البابُ على مصراعيه أمام تُجّار الصورة والعنف والقتل، الباحثين عن الربح، لصُنع حكايات من صور وألوان تُمَجِّدُ القتل والغش والإرهاب؟

هل، لم تعد حكايات الجدات والأمهات مُقْنِعة في زمنِ هجْمةِ الوسائط التكنولوجية وسلطان الصورة؟

كيف يمكن ردُّ الاعتبار للحكي والحكايات التي توارت من حياتنا خلف جدار النسيان والإهمال، وسكنتْ ظِلاّ باردا بنت عليه العنكبوت عشها؟[1]

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من المحاور الآتية:

أولا: الطفل ذلك الأمير السعيد

الطفل، هذا الكائن الصغير البريء، القوي الضعيف، الغِرُّ الذّكي، الباكي المُبْتسم، السّاكنُ دفء الجوانح، القِطْعةُ من الكَبِد...

الطفل، هذا الذي يحْضُن العالم في بسمة، ويختزله في لُعبة، هذا الذي يُلوّن الوجود بضحكاته العذْبة الرائعة، هذا الذي حين نُناديه يبتسم فيخضرُّ أديم الأرض ويسْعد...

الطفل عالَمٌ وحده، على امتداد طفولته يصنع الوجود ويُشكّلُ الموجودات بخياله الجامح الذي لا تحُدّه الحدود ولا توقفُه الحواجز والعوائق، يُحيل الخيال مطِيَّةً للسفر البعيد والقريب، «فيجعل من العصا حصانا يسابق به الريح، ومن قطعةِ خشبٍ مُهْملَةٍ مُسدّسا أو سيفا يُحاربُ به عدوّاً يتربّص به الأماكن المظلمة والزوايا المنسية في غرفة نومه أو في أزقة الحي وردهاته، ومن سِلكٍ سيّارةً أو دراجةً يُسْمع أزيزها من بعيد وهي تقطع المسافات جيئة وذهابا، ومن وسادته صديقا يتجاذبُ معه أطراف الحديث، فيبُثُّه أحزانه وهمومه الصغيرة وأمنياته»[2]..

الطفل عالَمٌ وحده، معقَّد، مليءٌ بالأسرار والعجائب والأمنيات التي لا تنقضي، هو بكلِّ بساطةِ العالمِ وعفويته، حكايةٌ تتعددُ حِبْكاتُها.

الطفل.. هذا الذي قيل عنه أنه "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، والذي أقام الفكر ولم يقعده لحد الآن،  والذي دفع ببعض المهتمين به إلى الكلام عن "عقيدة جديدة هي عقيدة الطفولة"، هذا الذي يُحْتفى به وبأعياده على امتداد السنة، هذا الذي تُنَظّمُ من أجله الأيام والأسابيع والمهرجانات..

أين هو؟

إنّه "يريد الوصول إلى القصر المسحور الزاخر بالأمنيات والأحلام الوردية المُفعمة سعادة ونشوة ودهشة، يسمع وقع خطاه على الحصى، يلفُّه ظلام الليل البهيم، والصمْت المُخيف فيُسلم قلبه الصغير للوساوس والخيالات.. هنا سيطل العفريت بوجهه البشع المخيف، وهنا سيخرج المارد الجبّار يحيل الوجود جمادا... هنا وهنا...

تتزاحم الصور في رأسه الصغير، يتشجَّع، يستجمعُ قواه ويُسرع الخطى نحو باب القصر الكبير، يقف عند عتبته، يرفع عينيه إلى الرقم الكبير، هو ذا باب القصر المسحور.. يدق...

يسمع صدى دقاته كأنها تطلع من بئر عميقة لا قرار لها، يُفتَح الباب.. يدخل..

يجد في استقباله شخصيات حكاياته القديمة والجديدة التي كانت جدته ترويها له وهو في فراش النوم، شهرزاد، شهريار، جحا، سندباد، احديدان، الشاطر حسن، علي بابا وآخرون، شخصيات يعرفها جيدا ويُحبّها.

تحضُنه شهرزاد أميرة الحكي، تُقبله وتسرد له الحكاية..

ـ بلغني أيها الأمير السعيد..."[3]

السؤال الآن، أين اختفى هذا الأمير السعيد وأين اختفت حكاياته؟

إن الدخول إلى العالم المعقد والسحري والعجائبي والفانتازي للطفل، يفرض علينا* أن نطرح سؤالا على أنفسنا، أين الطفل الذي يسكننا؟ هل ذاك الطفل المتواري فينا ما يزال حيا فينا ينبض بالحياة؟ وهل يمكننا التعامل مع الطفل في غياب طفل يسكننا؟

ثانيا: الطفل الذي يسكننا

إن دخول هذا العالم البسيط والمعقد في نفس الآن، يحتم علينا وبالضرورة، أن نُحرّر الطفل الذي بداخلنا، ونمدّه بأسباب الحياة لأنه الشرارة والجذوة التي تُبقينا على اتصال دائم بهذا العالم الشفاف العامر بالأسرار، وغياب هذا الطفل أو تغْييبُه أو إلْباسُه لبوس الراشد العاقل المتعقّل، يجعل أحكامنا وتعاملنا لا ينطلق من أرضية صلبة متماسكة تنهض على الوعي بالطفل وعالمه المحيط بالهموم الصغيرة والأمنيات الكثيرة، وتأخذ من كل جوانب المحيط لتحقيق الهدف للوصول به إلى الغايات المنشودة والكفيلة بصناعة المستقبل.

كيف لمن لا يدري عن الطفل الذي يسكنه شيئا، أن يفتح للآتي نوافذ يدخل منها النور والدفء، ومدارج السمو نحو الجمال والبحث والاكتشاف والمغامرة والسؤال؟ وكيف يبني طريقاً من لا يملك خريطة طريق واضحة المعالم والحسابات؟ وكيف يُرشِد من أضاع خريطته ومعالمه؟

عالم الطفل عالم رفيف شفّاف، لا يدخله إلا من ملك مفاتيحه، وإلا من نظر إلى داخله وجسَّ نبط الطفل الذي يسكنه، وإلاّ جاء ما يقدمه للطفل أعرجا كسيحا لا يستند إلى سر من أسرار الطفولة ولو مَلَكَ من المعرفة وزُخرُف الكلام ما يمْلأ الكتب والمصنّفات، لأن الطفل قبلاً، روحٌ شفيفةٌ تسكن شِغاف القلب وسُوَيداء الكبد، تبني عالما بالحب أولا ثم تُشَكِّل خاناته لبِنَة لبنة نحو المستقبل.

وبما أن "الطفل مشروع وجودي يسعى لأن يتحقق من خلال نمو إمكاناته وطاقاته ضمن الفرص التي يوفرها المجتمع"[4] ولحظات الدهشة الهاربة التي يسعى للقبض عليها والتي توفرها الحكايات وأدب الطفل عموما، كانت الحكايات حِرْزا وتميمةَ حِمايةٍ للطفل من كل اغتراب علني أو مبطّن بالألوان والإيقاعات والحركات التي تُغريه وتُزين له عالما ليس عالمه، وفي نفس الوقت تهدده وتهدد مستقبله في غياب شبه تام للحكايات  ـ ولأدبه بصفة عامة من مسرح ومجلات وألعاب وإذاعة...ـ التي تؤسس لأرضية صلبة متينة، تمنحه الثقة والمناعة والانطلاقة الواثقة، لكن في غفلة منا ومؤسساتنا الموكول لها حماية المستقبل ـ لأن الطفل هو المستقبل ـ وهذا ما فطن له "الآخر" الذي يعلم يقينا ما للحكايات من تأثير على حياة ومستقبل الأطفال، فتصدّى لها بِفيْضٍ من حكايات مضادة أكثر إثارة وجذباً، لتغريب عقليتهم وإبعادهم عن ثقافتهم وهويتهم ولغتهم ودينهم، وهنا نطرح السؤال، هل أطفال الوطن العربي محصّنون من الحكايات التي تبثّها الأجهزة الإلكترونية والحاملة للكراهية والغضب والتعصب..؟

نحن أمام هجمة شرسة تفرض الوعي بأهمية الحكايات ودورها في صناعة جيل سليم أولا، وثانيا إحياء ورَدِّ الاعتبار للحكايات إذا نحن أردنا "للمجتمع وللمستقبل أن يُحافظ على تماسكه الذهني والعاطفي والقيمي وتوجهه الوجودي"[5]، لأن الحكايات هدفها "تقديم نماذج من السلوك والمثل العليا المرغوب تمَثُّلُها ومحاكاتها لإشباع حاجات (الطفل) والإجابة على تساؤلاته، وتقديم الحلول لمآزم وتحديات الحياة، كما تُقدم للطفل النماذج المُفضّلة من السلوك والقيم مُجَسّدةً في أشخاص/أبطال، يشكلون في خصائصهم وتصرفاتهم وأدْوارِهم، المُثل العُليا المطلوب تعزيزها من ناحية، وأشخاص آخرون يمثلون على النقيض من ذلك الاستجابات المطلوب إطفاؤها أو صدُّها، أي يُمثّلون القيم المضادّة"[6]، وهي بالتالي ، كما تقول جوليا كريستيفا، تأخذنا إلى حافة الوجود، حيت تدعو مَشاهدها المُتخيّلة، القارئ والسامع، إلى أن يُصبح مسافرا مملوءا بالدهشة، بما فيها من مشاهد عجيبة، تُذكي الخيال وتُحرّك السؤال.

ثالثا: لماذا الحكاية في زمن الصورة؟

في زمن الصورة، وهجمة الصورة، وخبث الصورة، وعلى مرأى ومسمع من العالم، تتعرّض حكايات الأطفال لمحاولات مسخٍ صادمة وهدّامة تروم أولا وأخيرا، الهيمنة لطمس أثرها، وتفتيت صروحها، وتعطيل آليات بنائها، وتقويض أسباب الحماية التي تمنحها بالضرب في الأصل، لتبني على أنقاض غيابها وتراجعها، حالات من التبعية البليدة، مُستخدمة أكثر الأسلحة فتكا وخطورة، الصورة، لأنها السُّمّ في العسل، وما تحمله من إمكانات هائلة تعتمد على تقنيات تتطور كل يوم، بل كل ساعة، وتتسارع لضرب الأهداف النبيلة التي تبنيها الحكايات، مانحة الغلبة للصورة وسلطانها على المحكي والمكتوب، وبما أن الطفل "مستهلك لكل ما يقدمه له المحيط من إمكانيات، وباحثٌ نشِطٌ عنها"[7]، وفي غياب الحكاية، تنبعث الصورة من رمادها كمارد يعرف كيف يستميل ضحاياه، وكَسَهْم لا يُخطئ ضرْبته، ويتفنن الآخر، مالك الصورة وسلطانها، في شد انتباه الطفل، بل الدفع به إلى الإدمان المرضي للصورة، عبر الحركات والإيقاعات والألوان، بدون تسرع، وبتخطيط يعرف مكامن الإصابة، وينتظر بصبر، حين تشرئب  نفس الطفل التّوّاقة للحكاية، للتعلم وبناء الذات، وتثبيت قدمه لينطلق قويا إلى الأمام، فينْبري له هاجما، مانحا إياه أسباب الانكفاء والسقوط والدمار فيُخرّب ذاته وعوالمه البكر البريئة بيديه، ويصنع له حكايا جديدة تخزن في طياتها سمّاً قاتلا.

خاتمة كإطلالة على الآتي المُرتجى

تأسيسا على ما تقدّم، نعتبر الحكاية، بل أدب الطفل عموما، وبكل تنويعاته، ـ إذا أعطيناه الاهتمام اللازم ـ الوسيلة الفعالة والضامنة لحماية الطفل من كل تدخل تغريبي وتخريبي يروم تشويه ذاته وهويته، وطمس معالمها البريئة التوّاقة إلى التفتّح الدائم لاحتضان العالم. كما نعتبر الحكاية ورشة بنائية تظهر نتائجها بعد وقت يطول، وقد تصاحبه العمر كله، لأنها لا تحمل إليه المعرفة فقط، بل "تساعده على المران في تنمية قدراته، وتتيح له المتعة والترفيه، كما تحمل إليه إجابات على تساؤلاته وتوضيحا للألغاز الوجودية التي تجابهه، وحلولا للمآزم التي يمر بها على صعيد حياته".[8]

لا نريد لزمن الحكايات أن يختفي ويندثر أو ينقضي، ولا أن ينقطع أثرها، بل نريدها أن تحيى في صدور الجدّات والأمهات وكتب المدارس، وعلى ألسنة الحكواتيين، نريدها شُعلة تتّقد ولا تنطفئ جذوتها، ولا يخبو أوارها، وحصنا يدفع عن حمى الطفولة براثن التغريب والتشويه والتبعيّة والتفتيت.

لا نريد لجدار الصّمت أن يعلو شاهقا بالخوف والاستسلام والخنوع للصورة وجبروتها، ولا صيدا سهلا مسْتساغا لتُجّار الصورة وفتنتها.

نعم، في زمن العولمة والانترنيت والتواصل الاجتماعي، نريد أن تحضُر الحكاية قوية، تأخذ من الصورة فتنتها، ومن الكلام والحكي قوته، ومن لَمَّة ليالي السمر حمايته وأمْنَه، لأنها دفءٌ عائلي، وتَتَبُّعٌ للطفل من الزوغان والتلاشي والذوبان في ذات الآخر، ـ لأنه بهذه اللَّمّة ـ يكون تحت نظر وحراسة الحكواتي أو الجدة أو الأم أو المربي، ومن المغامرة أجوبة يبني بها عوالم قوية تتساوق والتي يعيشونها فاعلين ومؤثّرين، لا متفرّجين يُحسنون الضحك والتصفيق وإحصاء الخسارات والإحباطات بل منتبهين ومحصّنين.. وهنا لابد من تقديم تحية إكبار وإجلال للحكواتين المرابطين على خط السرد والقص، ماسكين على جمْر المواجهة يحْمون ثغر الحكايات، وللجدات والأمهات حارسات الحكايات اللواتي ما زِلْن يُحْيين فينا، جمال وعشق الحكايات بسردها وتوثيقها وتحصينها، رغما عن الهجوم القوي لسلطان الصورة، يحاربْن إلى جانب الحكواتيين والمهتمين بالشأن الحكائي والثقافة الشعبية، الطواحين التي تدهس وتطحن الأخضر واليابس، حيث لا تُبقي ولا تذر..

***

عبد الهادي عبد المطلب / المغرب

.....................

[1] عبد الهادي عبد المطلب ـ ساحة الكلام، نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الثاني) الناشر صوماكرام 2018 بدعم من وزارة الثقافة (ص 10)

[2] نفس المرجع ـ ص 9.

[3] عبد الهادي عبد المطلب ـ المرآة ـ نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الأول) ـ دار النشر المغربية 2005 (ص 15).

* على المهتمين بعالم الطفل: اسرة، مربون بالمؤسسات التربوية والمخيمات، صحافة، تلفزة...

[4] مصطفى حجازي مع مجموعة من الاختصاصيين. ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية 1990 ـ ص 46.

[5] نفس المرجع.

[6] نفس المرجع. ص 46

[7] نفس المرجع

[8] نفس المرجع ص 168

 

في المثقف اليوم