قضايا
باقر صاحب: ثورة الحسين في الفكر والأدب الحديث
يمكن القول أنّ المفكرين والأدباء والفنانين، أصحاب الضمير الحيّ، يتآلفون مع نضال الثوار في كلّ أنحاء العالم، من أجل إحقاق الحق وردع الظلم. غالبية النتاج الفكري والإبداعي المستنير في العالم قاطبة يستلهم مبادىء ارتكزتْ عليها كبريات الثورات، تلك التي لها آثارٌ كبيرةٌ في تاريخ الإنسانية، فقد سعتْ وبقوّة السلاح والفكر الوضّاء إلى نشدان العدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان والذود عنها. نرى تلك المبادىء تتوهّج من فيوضات المعرفة الإنسانية الحقة. ونجزم هنا أنّ الثوار الشهداء أحياءٌ في ضمائرنا، دماؤهم وتضحياتهم تغذّي أسس الحضارة .
من هنا ننطلق في الحديث عن استلهام الفكر والأدب المعاصرين لثورة الإمام الحسين (ع) على أرض الطف في كربلاء المقدسة، هي الثورة الإصلاحية الأولى في التاريخ العربي والإسلامي، حين قال الإمام الثائر قولته الكبيرة، التي ظلّت ترنّ أصداؤها على مدى ألف وأربعمئة عام، ولمّا تظلّ تتصادى في أرجاء المعمورة " والله إنّي ما خرجت أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
أثرها في الفكر الإنساني
ومن ذلك ما قاله مفكرون أجانب في الخلود الأبدي للإمام الحسين (ع) وثورته ضد الظلم والطغيان، ومن أجل مقاصده الروحية والإنسانية في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل.
الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي توماس كارليل، يتحدّث عن الدرس الحسيني الكبير للإنسانية جمعاء، وكيف أنّ الفئة القليلة تهزم الفئة الكبيرة بعلوّ إيمانها بالحق وانتصاره الحتمي على الباطل، إذ قال" أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمانٌ راسخٌ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه". وعلى ذلك يوثّق المسترق الأميركي غوستاف غرونييام، بأنّ واقعة الطف باتت واقعةً أممية، استشهد فيها وأصحابه، خالقاً أثراً ثورياً لم تصنعه أيّة شخصيّةٌ إسلاميّةٌ أخرى منذ ألف وأربعمئة عام، فيذكر" الكتب المُؤلّفة في مقتل الحسين تعبّر عن عواطف وانفعالاتٍ طالما خبرتها بنفس العنف أجيالٌ من الناس قبل ذلك بقرونٍ عديدة. إنّ واقعة كربلاء ذات أهميةٍ كونيّة، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصيةٌ مسلمةٌ أخرى". وتلك العبارة الثورية التي قالها عالم الآثار الانكليزي وليم لوفتس، بأنّ ما قام به الحسين (ع)يمثل أروع مآثر الاستشهاد في سبيل الحق والصلاح " قدّم الحسين بن علي أبلغ شهادةٍ في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة".
وعلى هذا النحو، وأبعد من ذلك، كتب كبار مفكّري الغرب ومستشرقيه، من الألمان والفرنسيين والانكليز والأميركان؛ كارل بروكلمان، وإنطون بارا، ولويس ماسينيون، وادوار دبروان، صابرينا ليون ميرفن، وفيليب حتي وغيرهم.
استثمارٌ أدبي
شأنه شأن نخبة الثوار الشهداء في العالم قديماً وحاضراً، لايزال استثمار واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع) يتجدّد في الأدب المعاصر. فهو من الذين ربحوا الخلود الإنساني. توّجوا مبادئهم الثورية على المدى الطويل، على صراط القيم الخيّرة . هم نخبةٌ في كلّ زمانٍ ومكان، همُ الخلاصة الحقيقية لكلِّ عصر.
من فضائل ثوار العالم وشهدائه إنّنا نستدعيهم عناصر قوةٍ وجمالٍ وعدالة، كلما حلّت بنا المكاره والشدائد، ومن رذائل طغاة العالم إنّنا نلعنهم وندعو ونعمل إلى أن يؤول إلى مصائرهم ذاتها، كلّ من يستبدّ الآن في أرجاء المعمورة. يستجير المفكرون والأدباء والفنانون، بشهداء الكلمة وثوّار الواقع، ويستنهضون مواطني زمنهم من أجل استمرار ديناميّة الثورة.
القصائد الخوالد لا تموت أبد الدهر، لا سيّما إذا كانت عن رجالٍ عظام، لهم بصماتهم في تاريخ النضال الإنساني ضد الباطل والظلم والزّيف، مشيرين هنا إلى عينية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، تلك العينية التي كتبت خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس الذي يؤدي إلى الرواق الحسيني في مرقد الإمام الحسين(ع) في كربلاء، لمهابة معانيها وتوظيفها الوقوف المقدّس في حضرة سيّد الشهداء، فاجتمعت هنا جزالة المفردات وقوّة المعاني والأنوار القدسيّة وضوع الجنان، والخلود الأبدي لواقعة الطف، والدعاء بأن تكون أرض الشهادة خيراً ونماءً لأنّها تحتضن أعظم الشهداء:
فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ
تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
*
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ
رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ
*
وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"
وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ
كما وظّف أشهر الشعراء العرب المعاصرين أدونيس الثورة الحسينية في عديد قصائده، مبرزاً أنّ مفاصل القسوة والهمجيّة في قتل الإمام الحسين(ع)، تنبت ضديدها النقيّ المشرق المغذّي للأمل البشري في حياةٍ حرّةٍ كريمة:
"حينما استقرّتِ الرماح في جسم الحسين/ وازّيّنتْ بجسد الحسين/ وداستِ الخيول كلّ نقطة في جسد الحسين/ واستلبتْ، وقسّمتْ ملابس الحسين/ رأيتُ كلَّ حجرٍ يحنو على الحسين/ رأيتُ كلَّ زهرةٍ تنام عند كتف الحسين/ رأيتُ كلَّ نهرٍ يسيرُ في جنازة الحسين".
عديد الشعراء العرب الكبار من مختلف أنحاء العالم العربي، ثوّروا في قصائدهم قضية الحسين، وتراها تصبُّ في تخليد مكان الفاجعة، كربلاء المقدسة، حيث ينشد الشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح لهذه المدينة الطهور، بوصفها بؤرة انطلاق الثورة ضدّ الشرّ منذ الأزل:
"نحن من كربلاء التي لا تخون
ومن كربلاء التي لا تخون وُلدنا
ومن دم أشجارها خرجتْ للظهيرة أسماؤنا
منذ موت الحسين
مدينتنا لا تصدّر غير النجوم
ولا تصطفي غير رأسٍ تتوّجهُ
بالنّهــــار الشّـــهادة
وتغسلهُ بالدماء العيون الجريحة" .
لقد وظّف شعراء مسيحيون قضية الحسين، إسوةً بنظرائهمِ المسلمين، لأنّ القضيّة بمعانيها الكبرى عابرةٌ للأديان والقوميات، على سبيل المثال، الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب، إذ تستنهض قصيدته مظلوميّة الحسين وتقاربها مع مظلوميّات الأنبياء والرسل واضطهادهم من قبل أقوامهم، حين يبشّرون بقيم التوحيد والعدل وإحقاق الحق:
"هناك تداخلٌ حتى الذوبان بين راس المسيح بعد الصلب ورأس الحسين بعد القطع.
بين رأس يوحنا على طبق ورأس الحسين على رمح .
بين خيل العطش على الصليب وملح العطش في عاشوراء .
بين زينبيّات الحسين ومريمات المسيح.
وأن الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب المسيح على الجلجلة هم أنفسهم الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب الحسين في كربلاء .
وأنّ الشهوات التي في أعماق هيرودس هي ذاتها الشهوات في أعماق يزيد.
وأنّ الراقصة التي طالبت بقطع رأس يوحنا هي ذاتها الدولة التي طالبت بقطع رأس الحسين" .
وغير ذلك تناصَّ شعراء آخرون مع إضاءات الثورة الحسينية، وخلودها في ذاكرة الإنسانية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، العراقيون بدر شاكر السياب ومظفر النواب ومصطفى جمال الدين وعبد الرزاق عبد الواحد، والمصريون أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وفاروق جويدة. استلهامات الفكر والأدب لثورة الحسين وشهادته، ينبغي أن تحفّزنا على الإفادة من أفكارها الإنسانية والإصلاحية. دروسٌ كبيرة، علينا التمسّك بجوهرها فقط، فبالجوهر المتجدّد نحترم الإمام الحسين "ع" ونخلّد ثورته.
***
باقر صاحب