قضايا

ريبيكا روث غولد: تسامي شارلز فلوبير..

كيف ننظر الى زوج يغفر لزوجته عدم إخلاصها؟

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: صالح الرزوق

***

من هنري جيمس إلى جاك رانسييه، افترض قراء رواية غوستاف فلوبير الرائعة "مدام بوفاري" (1857) أن الرواية تعبير عن  تماهي المؤلف مع بطلته. مثل هذه القراءات تتجاهل تشارلز بوفاري، الشخصية التي تتناقض بطيبتها تماما مع اهتمام إيما بذاتها.

أقترح أن ننظر إلى ما هو أبعد من صورة شارلز الأحمق والفاشل  لتسليط الضوء على مصادر مأساة إيما. فمعاناة إيما لا تبدأ بالقمع الناجم عن الزواج، بل بخوفها من احتمال مسامحة زوجها. بعد أن قام جباة الديون بمصادرة ممتلكاتها ووقوف إيما بوفاري على حافة الإفلاس، تقف وسط يأسها لتتخيل ماذا سيكون رد فعل زوجها عندما يدرك أنها أهدرت كل ثروته.

تتخيل إيما شارلز يقول لها:" ارحلي. هذه السجادة التي تمشين عليها لم تعد ملكنا. في منزلك، لا يوجد كرسي أو دبوس أو حصيرة، وأنا، الرجل الفقير، الذي أفسدك.  وإلمام إيما بشخصية شارلز ساعدها على تخيل رد فعل زوجها على خبر الإفلاس: «سينوح، وبعد ذلك سيبكي، وفي النهاية، ستمر المفاجأة، ويغفر  لها". وينجم عن شبح مغفرة تشارلز ازدراء إيما لنفسها أكثر من احتمال ازدراء عشاقها. تمتمت إيما من بين أسنانها: "نعم، سوف يسامحني، هو الذي سيعطيني مليونًا لأنني غفرت له غلطته بالزواج مني!".

وبدلاً من أن تتعذب بسبب غفران زوجها، تختار إيما الموت. والواقع أن الاحتمال الأكثر رعباً بالنسبة لإيما على الإطلاق هو "القمع" الناجم عن "شهامة" زوجها. إيما ليست القارئ الوحيد الذي يحتقر أساليب شارلز ضعيف الإرادة. واعترف الناقد المميز هنري جيمس  أن شارلز بوفاري هو "الشخص الطيب الوحيد في الكتاب" ولكنه يضيف إنه "غبي طيب وبلا حول ولا قوة". في تقدير جيمس، كما هو الحال في تقديرات العديد من القراء اللاحقين، حظيت إيما وحدها من بين جميع شخصيات الرواية بتعاطفنا ومودتنا. قد يبدو أن مثل هذا الأسلوب في النص يجد دعمًا في تحفظ فلوبير الواضح على بطله غير المحتمل.

في حين يُقال إن فلوبير أعلن

La Bovary, c’est moi (أنا [مدام] بوفاري)، وذلك بعد أن اطلع على مراجعة بودلير للرواية، حافظ على الصمت، المزري على ما يبدو، تجاه زوج مدام بوفاري. ومع ذلك، حتى في غياب إعراب المؤلف الصريح عن طيبة شارلز، هناك الكثير في الرواية مما يشير إلى أن شارلز يستحق اهتمامًا وتعاطفا أكبر من القراء.

ومع أن الرواية تتحدث بشكل ساخر عن عيوب شارلز الشخصية، إلا أنها تؤكد أنه على الرغم من الكبت الذي تعرضت له إيما بسبب حياتها الريفية ضمن الطبقة المتوسطة، لم يكن زوجها مصدر معاناتها. علاوة على ذلك، فإن عدم قدرة إيما على تقدير طيبة زوجها ساهم في تدميرها.

شارلز وخيانة زوجته

كان من الممكن أن تتعلم إيما من قدرة زوجها على المسامحة. وقد حان الوقت لقراءة تشارلز بوفاري على عكس التأويل المعهود الذي ينظر إلى زوج إيما البائس وكأنه مجرد خلاصة لكل شيء لا تجده لدى زوجته. والطبيعة الأخلاقية لأعمال فلوبير الرائعة أكثر تنوعًا مما اعترف به معظم القراء. لم يكن الانتحار خيار إيما الوحيد. لو كانت إيما على قيد الحياة لتعلمت من قدرة زوجها على المسامحة. ينظر معظم قراء الرواية إلى إيما كما ترى هي نفسها: امرأة اضطهدتها الأعراف البورجوازية، موهوبة برؤية ما وراء التقاليد المحلية، لكنها تفتقر إلى ما يكفي لتحقيق أحلامها السامية.

ومع ذلك، هناك مناسبات عديدة يظهر فيها شارلز مع إيما ويبدو فيها أنه أقل عناية من زوجته بالتقاليد.

عندما يدعو رودولف بولانجر، الذي سيصبح حبيب إيما قريبًا، إيما لركوب الخيل، تقاومه إيما في البداية. في نهاية المطاف يقنع شارلز زوجته بانتهاك العرف الذي يحض المرأة المتزوجة أن لا تخرج بمفردها مع رجل آخر. تحتج إيما أن هذا السلوك سيكون غير مقبول لأنه قد يبدو غريبًاdrôle  بنظر جيرانهم.  وتشعر بالقلق من رؤية امرأة متزوجة تركب بمفردها مع رجل آخر غير زوجها. وتعتقد أن هذا يسبب فضيحة لها. يرد شارلز بجرأة: “أي شيطان يدعوني للاهتمام بالأمر. الصحة أولا! أنت مخطئة."

كان الزوج التقليدي أو الغيور يصر على الركوب مع زوجته بدلاً من تركها تركب بمفردها مع رجل آخر. ولكن يبذل شارلز قصارى جهده لإقناع إيما بالذهاب مع الرجل الذي، دون علمه، سيصبح قريبًا منافسًا له ويبدأ في تدمير زواجهما. تمامًا كما حث تشارلز إيما عن غير قصد على علاقة حبها مع رودولف من خلال تشجيعها على الركوب معه إلى الغابة، كذلك يوفر شارلز أيضًا الدافع الأولي لتحقيق رغبة ليون وإيما، وفي نفس الوقت يتحدث الأصدقاء الثلاث في روان بعد عرض لاغاردي أوبرا دونيزيتي لوسيا دي لاميرمور (المقتبسة من رواية السير والتر سكوت). يشترك ليون وإيما بازدرائهما لأداء لاغاردي، ويعرب شارلز عن أسفه لاضطرارهما إلى المغادرة قبل انتهاء العرض. وكما لو أنه يرغب في منح زوجته الفرصة للاستمتاع بشيء  لا يمكنه توفيره، يقترح عليها أن تبقى  في روان ليلة إضافية،  ويعود هو إلى المنزل بمفرده. ويكرر شارلز خطأه في إقناع إيما باتباع المسار الذي سيبلغ ذروته بعد تدمير زواجه، ويتهمها أنها مخطئة tu as tort  حين تقيد سلوكها بقيود اللياقة الاجتماعية: قائلا: "أنت مخطئة إن لم تبقي. مع انك تشعرين أن البقاء يفيدك ولو بأدنى الحدود".  وإصرار شارلز أن إيما مخطئة أمر مثير للسخرية، لأنه في كلتا الحالتين تدفع هذه التهمة إيما إلى نهاية الطريق الذي سيدمر زواجهما، فالبقاء في روان ليلة إضافية يمنحها الفرصة لمعاشرة ليون ليكون عشيقها الثاني.

على الرغم من السخرية غير المقصودة في كلماته، فإن محاولة شارلز النظر إلى ما هو أبعد من التقاليد الاجتماعية من أجل إسعاد زوجته محاولة غير تقليدية وجريئة. والأمر الأكثر غرابة بالنسبة لزوج في بيئته هو أن  يؤيد مغامرات إيما الأسبوعية في روان  بالموافقة على دفع تكاليف دروس العزف على البيانو الأسبوعية مع الآنسة لامبرير ، وهي دروس لم تعط أبدًا في الواقع. توفر هذه الدروس (غير الموجودة) الذريعة للقاء إيما الأسبوعي مع ليون. لكن ليس عدم مبالاته بالتقاليد هو ما يميز شارلز عن بقية سكان يونفيل فحسب. الأمر اللافت، إن لم يكن بالضرورة الجذاب، هو المودة الشديدة التي لا تنتهي، والتي يخص بها تشارلز زوجته، لدرجة الحب والمسامحة، حتى عندما يعلم بعد وفاتها أنها كانت على علاقة غرامية مع رجال آخرين.

تشارلز يخبر بالحقيقة

عندما علم بخيانة إيما من الرسائل المحشوة في درجها، تعاطف معها أولا. بعد وفاة إيما، يلتقي رودولف وشارلز وهما بطريقهما إلى السوق في أرجيل. ربما لتجنب حرج اللقاء بعد وقت قصير من وفاة إيما، دعا رودولف شارلز لشرب البيرة معه في الحانة المحلية. يقبل شارلز عرضه. أثناء حديثهما، يتجنب رودولف موضوع وفاة إيما، وبدلاً من ذلك "يملأ كل الفراغات بعبارات شائعة" قد توفر فرصة للإشارة إلى علاقته مع إيما. ومع ذلك، يرفض شارلز مثل هذه المحادثات، ويقاطع مونولوج رودولف بالإعلان الصريح، وإن كان غير متوقع ويقول له: "أنا لا أحمل شيئا ضدك".

بالكلام على علاقة حب إيما، يكون شارلز قد أعلن عفوه على رودولف، وهذا من شأنه أن يخفف من حدة مداخلته. بقدر ما يتناغم شارلز، مثل أي شخصية، مع إيقاع الصمت،  لا يحاول كذلك تحديد معناه. وبدلاً من ذلك، يضيف إلى إعلان العفو الخاص ملاحظة كانت وفقًا للراوي هي العبارة البليغة الوحيدة (الكلمة الأساسية) التي نطق بها شارلز: "كان هذا خطأ القدر". يرى رودولف أن ملاحظة شارلز عديمة الذوق، "ومبالغ فيها بالنسبة لرجل في مثل وضعه، وحتى أنها هزلية، وحقيرة بعض الشيء". نظرًا لكثرة الكليشيهات والخداع في خطاباته، فإن رودولف غير مؤهل لإصدار حكم على شخص يتحلى بإخلاص وتعاطف يفوق إخلاصه وتعاطفه. في نهاية السرد، يبدو أن رودولف، على الرغم من ذكائه، مقيد أكثر من شارلز بالخيال الفاشل. ولا يستطيع رودولف فهم الفروق الدقيقة التي تعمق شخصية شارلز، ولكنها أيضا تضعفها بسبب خيانة زوجته.

نظرًا لبلادة مخيلته، لا يستطيع رودولف إلا أن يرى أن عفو شارلز عنه  غير مستحب، وهو إساءة لرخاء المجتمع.  لو كانت إيما قادرة على رؤية هذه العيوب في تفكير رودولف، لربما وجدت السعادة، حتى في مقاطعة يونفيل. ويبقى القراء تحت تأثير انطباعهم عن شارلز باعتبار أنه رجل غريب الأطوار، ومرهق، ومتعثر، وفي بعض الأحيان متواضع، فإن نقاط الضعف هذه ذاتها تتسبب في تسامي شخصيته في بعض الأحيان بشكل أوضح. في الواقع إن شارلز مجرد إنسان مدرك لما حوله. عندما علم بخيانة إيما من خلال الرسائل المحشوة في درجها شعر بالتعاطف. وهذا بالتأكيد رد فعل غير عادي بالنسبة لزوج مغدور به، حتى لو أنه زوجته ميتة. بدلاً من أن يستفز الغضب تشارلز من إيما أو منافسيه، يسعى إلى الوصول إلى أعماق معاناة زوجته. واستعداده للعيش بظل ألم زوجته - الألم الذي دفعها إلى إنهاء حياتها، وتركه يشعر بأنه مهجور ووحيد - كان أكثر حدة من اهتمامه بنفسه.

بدلاً من أن تسيطر على شارلز أشكال الغيرة التقليدية والتي يمكن التنبؤ بها، تغلبت عليه  رغبة عاطفية وجنسية في نفس الوقت تجاه زوجته المتوفاة. وتتعزز هذه الرغبة بعد  اكتشافه لرغبات الرجال الآخرين بها. كانت أسباب خيانة إيما، كما يقول شارلز، ورفضه أن يحكم على حبيبته، منطقية فقط. يقول لنفسه: "من المؤكد أن جميع الرجال كانوا يطمحون إليها". يقدم الراوي تأملات بروستية حول تداخل الزمن والرغبة: فقد كانت إيما “تبدو له أكثر جمالا بسبب هذا؛ لقد استحوذت عليه رغبة دائمة وغاضبة تجاهها، مما أثار يأسه وكانت لا حدود لها لأنها أصبحت الآن غير قابلة للتحقيق".

ألوان الحب العديدة عند شارلز

يحب شارلز إيما لسبب بسيط له علاقة بنكران الذات حتى أنه كرس حياته لحبها. شارلز ليس قديسا. وهو ليس محصنًا ضد مفارقات المودة الإنسانية، كما يتضح من استعداده لقبول نسخ حبه لإيما،  ويتوقف ذلك على مدى استحسانها للرجال الآخرين، وعلى حقيقة أن رغبته وذكاءه المحرج  لا يشتعل إلا  بعد أن أصبحت علاقتهما الفيزيائية مستحيلة. كانت عاطفة شارلز تعاني من نقطة ضعف بالمقارنة مع عواطف رودولف الحسية. والفرق البارز بين أساليب الحب لدى المتنافسين يؤكد أن حب شارلز غير المعصوم من الخطأ لا يضر بموضوعه، في حين أن حب رودولف ساعد على تدمير إيما.  وكل هذه الأمثلة توضح الفرق الجذري بين حب شارلز لإيما والرضا الجسدي والرومنسي الذي تبحث عنه إيما، دون أن تعرف في الواقع ما تريد حقًا. ويحب شارلز إيما حتى عندما لا يحمل هذا الحب أي أمل في الإشباع. وهو يحب إيما جزئيًا بسبب جمالها، وهذه سمة مادية، مثل الصفات الجسدية التي تجذب إيما إلى رودولف وليون. ولكن، على عكس إيما - وعلى عكس أي شخصية في "مدام بوفاري" - يحب شارلز إيما لسبب بسيط وغير أناني ويكرس حياته لحبه لها. يحب تشارلز إيما لأنها على طبيعتها ولأنها جزء من ذاته. وهنا يكمن سمو شارلز بوفاري، الذي لم تتمكن أي شخصية في الرواية من إدراكه، ومن المدهش أن يلاحظه حفنة من قراء الرواية فقط. 

قلب بسيط

كانت إيما قادرة على تحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع تحمل لطفه. إن تعاطف تشارلز الغريب يتنبأ بتعاطف الخادمة فيليسيتيه، بطلة رواية «قلب بسيط» لفلوبير (1877). مثل شارلز، إلى حد أكبر، تحدد فيليسيتيه حياتها بأكملها من خلال عاطفتها تجاه الآخرين. كتب فلوبير "قلب بسيط" لإثبات قدرته على تصوير الشخصيات البسيطة بشكل عاطفي، كما تقول بريسيلا ماير. تتمتع فيليسيتيه، مثل شارلز، بتعاطف غريب يتم الاستغناء عنه دون تفكير ودون اعتبار للربح أو إرضاء الذات.

حينما كانت فيرجيني طفلة، وعهدت بها عشيقتها السيدة أوبين إلى فيليسيتيه للرعاية، وحملت الكأس المقدسة من أجل مناولتها الأولى، تراقب فيليسيتيه الإجراءات كما لو كانت تخضع لطقوس العبور بنفسها. تعمل لغة فلوبير  لمواءمة قدرة الكاتب على تصوير حياة الكائنات الغريبة مع القدرات الفذة لفيليسيتيه - وتشارلز - على العيش في  تجارب الآخرين كما لو كانوا هم أنفسهم الفاعلين.

يقول الراوي: "بالخيال والمشاعر العميقة والقدرة على العطاء يبدو لفيليسيتيه أنها كانت بالفعل هي الطفلة" حينما كانت تقترب من الكأس المقدسة. يضيف: "أصبح وجه فيرجيني وجهها، وكانت ترتدي ملابسها، كان قلبها ينبض في صدرها. وعندما جاءت اللحظة التي فتحت فيها فمها، أغلقت عينيها وكاد أن يغمى عليها". حتى تجربة فيليسيتيه الخاصة بالتناول "لم تمنحها نفس البهجة المدهشة" التي شعرت بها عندما لاحظت طفلتها المحمولة وهي تشارك على لحم ودم يسوع المسيح. مثل هذا التعاطف صفة تفتقر إليها إيما ورودولف وحتى ليون.

إن ولاء شارلز البسيط الذي لا جدال فيه ميزه عن زوجته، التي كانت رغبتها شهوانية دائمًا وترضي نفسها، سواء كانت موجهة إلى رودولف أو ليون أو حتى الله. وتعترف إيما بهذا التميز الذاتي عندما يسألها شارلز وهي على فراش الموت لماذا قررت تناول الزرنيخ. ترد على سؤاله: "ألم تكن سعيدا؟ هل هذا خطأي؟". يقول لها: "لقد فعلت كل ما بوسعي"، وتوافق إيما جزئيا: "نعم، هذا صحيح. أنت طيب – أنت!".

وكأنما أدركت ما كان يمكن أن يقدمه لها  تعاطف شارلز الواهم لو أنها كانت قادرة على  تفهم بركاته، قبل وقت قصير من وفاتها، فتقوم بمسح شعر زوجها بمحبة أكثر مما فعلت من قبل.

وعلى الرغم من صورتيهما في الرواية كشخصين محبطين يعطل الواحد الآخر، فإن شارلز وإيما ليسا متناقضين بشكل جذري، أو ليس غير متوافقين، كما يبدو. كان شارلز منهمكا جدًا في ذوق زوجته حتى أنه شاركها  إعجابها بردولف.

وحين كان يحدق في منافسه  ويحتسي الجعة ويتصرف بشكل نمطي، أصبح شارلز "ضائعًا في أحلام اليقظة أمام هذا الوجه الذي أحبته... لقد كان أعجوبة بالنسبة له". كان يود أن يكون هذا الرجل. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعليمات شارلز بشأن دفن إيما تكشف عن مزاجه الرومانسي الذي يوازي مزاج زوجته. يقول شارلز آمرا: "أتمنى أن تُدفن" بفستان زفافها، مع حذاء أبيض، وإكليل من الزهور. يجب أن ينتشر شعرها على كتفيها. ثلاث توابيت، واحد من خشب البلوط، والآخر من الماهوجاني، والآخر من الرصاص... فوق كل شيء يجب وضع قطعة كبيرة من المخمل الأخضر".

سخرية فلوبير واضحة حتى في تعليمات الدفن هذه، فالمخمل الأخضر – لون المخدوع – هو القماش الذي لف رودولف نفسه به عندما زار منزل بوفاري لأول مرة. تتنبأ هذه الاستعدادات المتقنة أيضًا بإجراءات فيليسيتيه لتلبيس جثة حبيبتها فيرجيني. بينما كانت لا تزال طفلة، ماتت فيرجيني بسبب مرض مفاجئ. تغدق فيليسيتيه اهتمامها على جثة المتوفى بنفس الطريقة التي أملى بها شارلز وصايا مفصلة لدفن إيما. أثناء تحضير جسد فيرجيني للجنازة، "وضعت فيليسيتيه مكياج الفتاة، ولفتها في كفن، ورفعتها إلى نعشها، ووضعت إكليلًا على رأسها، وفردت شعرها".

من منطلق كرم الروح ودون الشك في أن ازدراءه للتقاليد قد يجلب المعاناة لزوجته وكذلك لنفسه، يدفع شارلز إيما باستمرار تجاه الرجال الآخرين. إن قيام تشارلز بكل ما في وسعه لتأمين حرية زوجته يدحض اعتقاد إيما بأن سبب اختناقها زواجها من رجل غبي. ولو كانت ترغب حتى في طلاق شارلز، لكان قد سامحها بالتأكيد. وربما كان سيساعدها في تحقيق النتيجة المرجوة. كان بإمكان إيما أن تتحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع أن تتحمل لطفه، ومرونته اللامحدودة، وتعاطفه اللامحدود، ومخزون المودة الجياشة التي يمتلكها. حتى لو لم يهتم القارئ بهذه السمات الشخصية مباشرة ولم ينظر لها على أنها تستحق المعالجة، فإن أثرها المعقد على خيال شارلز، وتحديدًا الطريقة التي تعمل بها أشكال السخاء هذه في كثير من الأحيان ضد مصالحه الأساسية، توجه تصور فلوبير عن "قلب" فيليسيتيه "البسيط".

وفاة إيما

بإهمال الناحية الفنية تنتهي إيما إلى ترخيص قيمة حياتها. في حين أن أفعاله الطيبة تعتبر أخطاء قاتلة على مستوى ما، إلا أن شارلز لا يتحمل أي مسؤولية عن النتائج. إذا كان اللوم يقع على أي جهة، فهو يقع على عاتق المؤلف، الذي جعل من إيما بوفاري زوجة محبطة وذلك  للتخلص من مخاوفه من الأدب. قال الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير مؤخرًا إنه يحكم على إيما "بأنها فنانة سيئة تساوي بطريقة خاطئة ما بين الفن واللافن". في إضفاء الطابع الحرفي على الفن، تنتهي إيما بتخفيض قيمة حياتها. وفوق كل شيء،  تقلل من شأن شارلز، وتجعل نفسها غير مهتمة بعواطفه العميقة. وكما قال شارلز نفسه لرودولف: مأساة حياة إيما يمليها القدر. ومثل رودولف، ولو بشكل أكثر مأساوية، فإن انشغال إيما بذاتها يجعلها صماء بعيدة عن الأعماق الخفية التي تتردد "في استعارات جوفاء، حيث لا يمكن لأحد أن يعطي المقياس الدقيق لاحتياجاته، ومفاهيمه، ولا معاناته". ويقارن فشل خيال إيما  في الرواية مع فائض التعاطف المتخيل عند شارلز.

ووفاة إيما نتيجة لحاجة مؤلفها إلى فضح الخط الذي يفصل الحياة عن الفن بلا رحمة، والذي يفصل النفاق البرجوازي بكل غطرسته الدنيئة عن عالم الخيال. ومع ذلك، فإن شارلز، الذي هو في بعض النواحي أكثر إدراكًا من مؤلفه، لا يشعر بمثل هذه الحاجة. نظرًا لأن إيما غير واعية لحب شارلز، فإنها تحرم نفسها من السعادة الحقيقية الوحيدة التي كان من الممكن أن تحصل عليها إطلاقا. تعترف إيما نفسها بعجزها عن تحقيق السعادة، حتى عندما تحقق أهدافها. وبعد فساد علاقة حبها مع ليون، تعترف لنفسها بعبثية كل الرغبات. تقول لنفسها:

كل ابتسامة تخفي نوعا من الملل، وكل فرحة لعنة، وكل متعة، وكل شبع، و... أحلى القبلات لا تترك على الشفاه سوى رغبة بعيدة المنال في لذة أعظم. يشير وعي إيما بمعاناتها الداخلية إلى سبب خوفها الشديد من احتمال مغفرة زوجها. أكثر من أي خوف آخر، فإن خوف إيما من مغفرة زوجها يدفعها نحو الانتحار.  وقبول لطف تشارلز سيجبر إيما على مواجهة أوهامها فيما يتعلق بالحدود التي يسهل اختراقها بين الفن والحياة. لا يستطيع فلوبير ولا إيما التعامل مع سيولة هذه الخطوط الخيالية. مثل هذه المواجهة بين أحلام إيما المستحيلة وواقع شارلز المتواضع كان من شأنه أن يلقي ضوءًا قاسيًا على الأوهام التي بررت خيانتها لزوجها. مثل سلفها الفارس الخيالي دون كيشوت دي لا مانشا تموت إيما بوفاري ضحية حاجتها إلى الحلم. وعلى الرغم من أنها بطلة مأساوية تكسب تعاطف القراء بشق الأنفس، إلا أن انتحار إيما هو بالكامل نتاج خيالها الفاشل.

من معارضتها لزوجها، فإن مثالية إيما تشير إلى القرابة التي تتقاسمها معه، لأن شارلز وإيما حالمان. الفرق بين الزوج والزوجة أن تشارلز برضى بالواقع، لكن إيما ترفضه تمامًا. ولكن في حين أن كلا من إيما وشارلز  أبناء دون كيشوت، فإن مثاليتهما تميزهما أيضًا عن بعضهما البعض. إيما وريثة انشغال دون كيشوت القاسي بذاته، والذي ينتج، من بين أمور أخرى، لامبالاة الفارس تجاه الضرب الذي يتلقاه القرويون الفقراء حين يصادفهم. شارلز وريث جانب آخر من شخصية دون كيشوت، ذلك الجانب الذي ألهم دوستويفسكي شخصية الأمير ميشكين الأحمق المقدس الشبيه بالمسيح، بطل رواية "الأبله" (1869)، ليتماثل معه ويحل بصورته. مثل شارلز كان الأمير ميشكين راضٍ تمامًا عن واقعه، لأنه يرى أنه مملوء بالنعمة الإلهية. وكما هو الحال مع القيم المتضاربة لرودولف وتشارلز الفرق الأساسي بين مثاليات إيما وتشارلز هو أن الأول يسبب المعاناة للآخرين بينما الثاني يسبب المعاناة لذاته فقط.

 مع "فيليسيتيه" في "قلب بسيط"، تتأرجح وجهة نظر مدام بوفاري السردية بين الإعجاب بخيال شارلز المتعاطف وازدراء اللغة الخرقاء التي يعبر بها عن عاطفته. في وقت مبكر من السرد، يقال إن رودولف يُظهر "تفوق الحكم المناسب لشخص يحمل كل المشاعر من مسافة"، ولكن بحلول نهاية السرد، أصبح رودولف مجرد شخص مضجر قاسٍ يفشل في فهم تعقيدات شخصيته.

حب المنافس

على الرغم من أن فلوبير ربط هويته بإيما في أول تصريح علني له عن هذه الرواية، إلا أنه لا يمكن للقارئ إلا أن يشك في أنه أصبح يقدر بشكل متزايد القلوب البسيطة لشخصيات مثل شارلز وفيليسيتيه. عندما ترى فيليسيتيه ببغاءًا ضخمًا يحوم فوق رأسها على فراش الموت، فإن اتساع اللون الأخضر لا يدل على غيرة المخدوع، بل على خصوبة الخيال الأدبي. من هذا المنطلق، اقتربت مُثُل فلوبير الأخلاقية من تلك التي جسدها حمقى دوستويفسكي المقدسون بشكل أكثر شمولاً وهذا ما أدركه معظم القراء أكثر من الكاتبين معا.

***

........................

* الترجمات من الفرنسية هي ترجمتي. استخدمت هذه الطبعات: غوستاف فلوبير، مدام بوفاري: امرأة ريفية (باريس: مكتبة فرنسا، 1921)، و"قلب بسيط"، الأعمال الكاملة لغوستاف فلوبير، المجلد VI Contes et Mélanges  باريس: أ. كوانتين، 1885.

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould

أستاذة الأدب المقارن وزميلة في مركز الدراسات الفلسطينية بجامعة لندن، كلية الدراسات الافريقية والاستشراق. أهم أعمالها: "محو فلسطين" الصادر عن دار فيرسو في لندن ونيويورك وباريس.

 

في المثقف اليوم