قضايا

حبيب مرگة: المقولات القبلية لإيمانويل كانط.. صالحة لكل زمان ومكان

نحن نعيش اليوم في عالم معاصر يُجسّد التعدّدية، لكن دون أي عمق نقدي أو تحليل اختياري. وهذا بالتحديد ما يُثير قلقا فلسفيا جديدا: سهولة الوصول إلى المعلومات تُضعف قدراتنا الإدراكية على الإبداع والتفكير. وهذا ما كان ليُزعج كانط لو عاش في عصرنا الحالي.

فربما كان ليغضب بسبب سرعة التغيّرات عكس أسلوبه النقدي المتأني الذي يأخذ كامل وقته للتمحيص في فكرة كيفما كانت، وعند عدم توفّر الشروط والسياق اللذين يسمحان له بتطوير أحكامه يخلق مجالا خاصا به ويعاود الكرة حتى يصل مبتغاه. لقد عاش في كونيغسبرغ في القرن الثامن عشر، مع التكنولوجيا المتاحة آنذاك والتشكيك العلمي الناتج عنها هذه العناصر كانت كافية بحيث مكنته من الوصول إلى استنتاجات واضحة ومتقدمة أصبحت أساسًا لتحليل حالتنا الإنسانية.

يمرّ الزمن ولا تكاد السرديات ترتكز على نقطة ثابتة. إنها تتجدّد باستمرار، لكن هذا يتوقّف دائمًا على الطريقة التي نتناولها بها. من الضروري تجنّب التفكير اللحظي والسريع، داخل السياق أو خارجه. إن القدرة على الرؤية من وراء الحجاب بتمعن دقيق امتياز جعل كانط ينفرد لوحده بمشعل الإبيستمولوجيا في قرن روسو وفولتير وقرن الفلسفة السياسية بامتياز، ولكن رؤية الأمور بشكل واضح جدًا أمامنا دون الحاجة لرفع ستار العقل، جاهزة للاستهلاك، مطبوخة سلفًا، تُعدّ لعنة قد يمقتها كانط وكل الفلاسفة.

يتخيل جيل دولوز أن جميع التيارات الفلسفية قبل كانط تعرضت لصفعة من هذا الألماني، فكل تيار فلسفي يجلس على كرسيه، في انتظار أن يُحكم عليه بناءً على ما فعله، وما استنتجه، وما نقله من مفاهيم، لعل ذلك ما ميز كانط عن تاريخ الفلسفة كله، مساءلة العقل الفلسفي وليس التفلسف في ذاته فقط.

إن مقولات الفهم عند كانط، رغم أنها تفرض إطارًا منظّمًا للتفكير، تهدف قبل كل شيء إلى تنظيم معرفتنا بالعالم وتقييد ما ينتمي إلى الخيال، باعتباره ميتافيزيقي أو غير واقعي. هذه المقولات هي أدوات ضرورية للفكر الإنساني من أجل فهم العالم كظاهرة، لكنها تعمل في الوقت ذاته كأدوات تحدّ من المعرفة، إذ تحدد ما يمكن معرفته وكيفية معرفته. بهذا المعنى، حتى العقل، وهو الأداة الأساسية للذهن البشري، يحتاج إلى إطار ليعمل ضمنه. وهذا الإطار يصبح كأنه مشهد أو خلفية تتشكل فيها أوعية تضم قابلية لحمل الفكرة

وهكذا، فإن كل اختيار أو فكرة أو رغبة نقوم بها، تصبح مرتبطة مباشرة بهذه المقولات، أو بمزيج منها، في تدفّق ديناميكي يتغيّر ويتداخل باستمرار. هذا المسار يُفضي إلى نتيجة دقيقة: فكر يخرج من الذات ليُصبح جزءًا من الوعي الجمعي. وهذه العملية مُدهشة، رغم أنها جامدة وغالبًا ما تبقى أسيرة البُنى المسبقة. يبدو أنها تفتقر إلى تحرّر فعلي من تلك المقولات، خاصة عند أخذ البُنى الاجتماعية المُسبقة في الحسبان، والتي تؤثر بحد ذاتها في تطور هذه المقولات داخل الوعي البشري وتُعيد تعريفها. فالأدوار الاجتماعية، مثلًا، قادرة على إعادة تشكيلها، بل وربما تغييرها مع مرور الزمن.

لكن، بحسب كانط، تبقى هذه المقولات ثابتة وغير قابلة للتغيير. فهي تشكّل بنية العقل البشري نفسه، وتُعدّ، من وجهة نظره، شروطًا ضرورية لكل تجربة ممكنة. وتغييرها يعني التلاعب بجوهر الفكر البشري، وهو ما اعتبره كانط أمرًا مستحيلًا من الأساس.

***

حبيب مرگة

مقتطف مترجم من كتاب القادم بعنوان محاولة في فهم تطور الوعي البشري

 

في المثقف اليوم