قضايا

عبد السلام فاروق: رمضان.. مسرح الصراع الثقافي

الفن ضحية.. والمجتمع شريك!

رمضان لا يأتي فقط بالمسلسلات والضجيج، بل يحمل معه أسئلة تشق جدران الواقع، تُحركها دراما تلامس المسكوت عنه. هذه المرة، عادت فتوى "تجسيد الصحابة" لتُحيي نقاشًا قديمًا أشبه بصراعٍ بين نصٍّ متحجِّر وعقلٍ يحلمُ بالتحليق. ليست هذه المرة الأولى التي تُعلن فيها الهيئات الدينية حربًا على الفن، ففي تسعينات القرن الماضي، أُطلقت فتوى غريبة: "مشاهد الزواج في الدراما زواجٌ شرعي"! وكأن محمود ياسين إن نطق بـ "أوْجبتِ" أمام مأذون وهمي، أصبحت نجلاء فتحي زوجةً شرعيةً تُورَث وتُطلَّق!
العلماء الذين أصدروا هذه الفتاوى ليسوا أشرارًا، بل هم – كما يصفهم البعض – "حراسٌ مخلصون" لمعبد يخشون انهياره. استندوا إلى حديث يُحذِّر من استهانة البشر بثلاثة أمور، أحدها الزواج. لكن هل يعقل أن تتحول الكوميديا بين طالبين في الجامعة إلى عقدٍ شرعي لمجرد تلفظهما بكلمة؟ هنا يتحول الدين إلى لعبة "أحاجي منطقية" تُمارس في الفراغ، بمعزل عن روح النص ومقاصده.
المعضلة ليست في الفتوى ذاتها، بل في العقلية التي تنتجها: عقليةٌ ترفض أن ترى العالم إلا من ثقب المفتي. إنها رؤية تختزل الحياة في حروف النص، وتُلغِي السياق، والنية، والواقع المتغير. هؤلاء "المحافظون المتجمدون" – كما يُسميهم النقاد – يسكنون قلوبًا خائفةً من أن تتحول الشريعة إلى كيانٍ مرنٍ يتنفس مع العصر. هم أبناء مدرسة ابن حنبل التي انتصرت للنقل على حساب العقل، وأغلقت باب الاجتهاد منذ قرون، وكأن الزمن توقف عند لحظة تاريخية قرر فيها "الكيان الغامض" المسمى بـ"الأمة" أن يتحول الدين إلى متحف تُحفظ نصوصه في فورميكا!
المفارقة الساخرة أن هذه الفتاوى تتحدث عن "حماية الشريعة" بينما تترك الشريعة الحقيقية تُداس في واقعٍ يعج بالظلم الاجتماعي والاقتصادي. لماذا لا نسمع صوت هيئة كبار العلماء مرتفعًا حين تُنتهك حقوق النساء في المحاكم، أو حين تُنهب أموال اليتامى، بينما يتحولون إلى "فيلق خارق" لمحاربة مشهد زواجٍ درامي؟
الدراما هنا ليست مجرد مسلسلات، بل مرآةٌ تكشف ازدواجية الخطاب الديني الرسمي. فبينما يُصر الفقهاء على حرفية النص، يعيش العالم في عصرٍ صارت فيه الصورة لغة العصر، والخيالُ جسرًا لفهم الواقع. كيف يمكن لدينٍ أن يبقى حيًا إذا رفض التعبير عنه إلا بلغة القرون الوسطى؟ إن إغلاق باب الاجتهاد يعني تحويل الإسلام إلى دينٍ أحفوري، يُقدس الماضي ويخاف من المستقبل.
نحن أمام معركة وجودية: هل الدين نصٌ يُراد منه التحكم في البشر، أم رسالةٌ تُحررهم؟ حين يتحول الحب في الدراما إلى جريمة، والزواج إلى إشكالية فقهية، فإننا ندفع بجيلٍ كامل إلى الهروب من الخطاب الديني برمته. الفتاوى المتشددة لا تحمي الدين، بل تجعله سجنًا بدلًا من أن يكون حديقةً للروح.
ربما حان الوقت لكي نعيد الاعتبار إلى "المسرح الإلهي" الذي نحن جميعًا ممثلون فيه. مسرحٌ لا يُحركه خوفٌ من الله، بل حبٌ للحياة، وإيمانٌ بأن الفن – كالدين – يمكن أن يكون جسرًا نحو السماء.
لا يكتمل الحديث عن صدام الفتوى مع الفن دون الغوص في أعماق الهُوية الممزقة بين قداسة النص وضرورات العصر. فالصراع ليس مجرد خلاف على مشهد زواج أو تجسيد شخصية تاريخية، بل هو معركة وجودية حول من يملك حق تشكيل وعي الجمهور: هل هو الخيال الحر الذي يلامس الأسئلة المُعقَّدة، أم سلطةٌ ترفض إلا أن ترى العالم من خلال نصوصٍ جامدة؟
رمضان، بوصفه موسمًا ثقافيًّا تتصادم فيه كل التناقضات، يتحول إلى مرآة عاكسة لصراعٍ أعمق. فالمسلسلات التي تُنتقد لـ"خروجها عن المألوف" ليست سوى جزء من سؤالٍ أكبر: مَن يُمسك بمفتاح تفسير "المألوف" ذاته؟ حين تُدان دراما لأنها تجسِّد الصحابة، أو لأنها تقدم الحب كعلاقة إنسانية طبيعية، فإن السؤال الحقيقي هو: هل يُسمح للفن أن يعكس تنوع الحياة، أم يجب أن يتحول إلى خطابٍ وعظي منمط؟
هنا تبرز مفارقةٌ مأساوية: فبينما تُحارب بعض الفتاوى مشهدًا دراميًّا عن حب أو زواج، تُهمَل قضايا اجتماعية حقيقية كزواج القاصرات أو التحرش الجنسي، وكأنَّ "الخطيئة" الوحيدة هي ما يظهر على الشاشة، لا ما يحدث خلف الأبواب المغلقة.
الفتاوى المتشددة ليست نتاج اجتهادٍ ديني بقدر ما هي تعبير عن عقلية حبيسة التاريخ. فإغلاق باب الاجتهاد منذ قرون - تحت ذريعة "حماية الدين" - حوَّل الفقه إلى فقاعةٍ معزولة عن تحولات الواقع. لو كان ابن حنبل أو الشافعي بيننا اليوم، لربما اختلفت تفسيراتهم جذريًّا، لكنَّ الخوف من المرونة جعل "القديم" مقدسًا، و"الجديد" مُشبوهًا.
هذه العقلية لا تُحارب الفن وحده، بل تُحارب الإنسان ذاته. فحين يُختزل الدين في حُكمٍ فقهي، ويُحظر النقاش حول مقاصد الشريعة، تُسرَق الروح الإنسانية من الدين، ويُحوَّل إلى مجموعة أوامر تُنفَّذ بلا وعي.
المأساة الأكبر أن هذه الفتاوى تلقى رواجًا اجتماعيًّا لا يُستهان به. فجزء من الجمهور - بفعل التربية الدينية السطحية -يرى في الفن تهديدًا لأمنه الروحي، لا تعبيرًا عن أسئلته الوجودية. هذا التحالف غير المُعلَن بين "الخطاب الديني المتشدد" و"الوعي الجمعي الخائف" يخلق بيئةً خصبةً لتصوير الفن كعدو، بدلًا من اعتباره حليفًا في معركة بناء إنسانٍ متكامل.
هل هناك مخرج؟
لا يكفي انتقاد الفتاوى؛ فالنقد وحده لا يبني بديلًا. المخرج الحقيقي يبدأ بإعادة الاعتبار إلى "المقاصد" بدلًا من "النصوص"، وإلى "الروح" بدلًا من "الحروف". فالدين لم يُخلَق ليكون سجنًا للخيال، بل نورًا يُضيء طريق الإبداع.
علينا أن نتذكر أن الإسلام العظيم استوعب في تاريخه أقصى درجات التنوع: من تصوف ابن عربي الذي حلَّق في سماوات الخيال، إلى فلسفة ابن رشد التي انصهرت مع العقل اليوناني. فلماذا نسمح اليوم لخطابٍ مُتحجِّر أن يختزل هذا التراث الهائل في فتاوى تُحاصر الفن؟
ربما يكون الفن -بجرأته - هو الدعوة الأقوى لإعادة فتح باب الاجتهاد، ليس عبر مواجهة الدين، بل عبر إحياء جوهره الإنساني الذي يجمع بين الأرض والسماء. فالفنانون - مثل الصوفية --يبحثون عن الحقيقة عبر أسئلةٍ لا تُجيب عنها الفتاوى، لكنها تُحرك الروح نحو آفاقٍ أرحب.
الخوف على الدين لا يحميه، بل يُحنِّطه. أما الخوف على الإنسان — بإنسانيته — فهو الجدار الوحيد الذي يستحق أن نرفعه.
***
د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم