قضايا
عبد السلام فاروق: كيف نصنع من التراب ذهبا؟

في زمن الأهرامات والمومياوات، حيث تحاكي الحجارة حكايات أمة علمت العالم أسرار الوجود، نجد مفارقة محزِنة: شعب يشهد الدنيا كلها عظمة تاريخه، بينما هو نفسه يحاوِل الهرب منه! كأن المصري يمسك بيده مفتاح الفخر العتيق، ويرميه في نهر النسيان، ليغوص في أعماقِ تاريخ ليس له، كسليل يستحي من أسم أبيه!
لا تخلو الذاكرة الجماعية للمصريين من صراع خفي بين "الأنا" المدفونة تحت الرمال، و "الآخر" المستورد المعلقِ في سماء الحلم. لقرونٍ طويلة، ظلت مصر تتأرجح بين غزاة ونهابين، كلهم نقشوا على جدارِ وعيها جملة واحدة: "أنت لست أهلا لحضارتك". فصارت قصور الفراعنة مجرد «أحجارٍ ميتة» في عيونِ من يرونها ، بينما تحولت سياط الاستعباد العثماني والاستعماري إلى «بطولات» في كتب التاريخ!
التعليم هنا لعب دور الجلاد: فبينما يحفظ الطفل أسماء قادة الحروب الأوروبية عن ظهر قلب، يجهل من بنى أول معبد في التاريخ. والإعلام يكمل المأساة: فمسلسلات «الباشوات» و«السلاطين » تصور عصر الاستعباد كأنه «عهد ذهب»، بينما تظهر الحضارة الفرعونية كطقوس وثنية غامضة!
عقدة الخواجة..!
الغريب أن المصري لم يكتف بكراهية تاريخه، بل سعى لتبني سيرِ مستعبديه! فها هو يتغنى ب «عظمة الرومان»، ويتمذهب ب «فلسفة اليونان»، ويتشبه ب «أباطرة العثمانيين»، كأنما يصرخ في صمت: «انظروا.. أنا أستحق مكانا في تاريخِ الغرب العظيم!». هكذا تتحول العبودية الفكرية إلى وشم في الجبين: فالمقهور يبدأ باستحسانِ سيف الجلاد!
لكن.. أليس من السخرية أن تكون أهراماتك علامة تجارية للعالم، بينما تعتبرها «مجرد أثرٍ سياحي»؟ وأن تدفع أوروبا الملايين لتلك التحف الفرعونية، بينما ترميها أنت في زوايا المتاحف كأشباحٍ من زمنٍ منسي؟
لنكسر القيود: التاريخ المصري ليس «ملكية أثرية»، بل هو سلاح هوية وقوة ناعمة تستطيع مصر أن تفرض بها احترامها عالميا. انظروا لليابان: لم تنكر سامورايها لتتبنى ثقافة الغرب، بل جعلت من تقاليدها سحرا يغزو العالم. والسر؟ أنها وظفت تراثها لتكون جزءًا من حاضرِها: سينما، أزياء، تكنولوجيا، سياحة.
مصر قادرة على ذلك: فكل حجر في معابد الأقصرِ يحمل رواية تنتظر من يخرِجها في رواية أو فيلم أو حتى لعبة إلكترونية. التراث هنا ليس للزينة، بل لإعادة صياغة الهوية المصرية العربية الإفريقية المتعالية عن التقزيم.
حين يرتدي المصري ثوب الفخر بحضارته، سيكتشف أن القيود التي ظنها حديدية مصنوعة من وهم! فالتاريخ ليس تابوتا ندفن فيه أحلامنا، بل مصباح نستمد منه نور المستقبل. لنوقظ «رع» الذاكرة المدفون.. فمصر التي بنت مجد الإنسانية قادرة أن تبني مجدها الجديد.. كل ما علينا هو أن نرفع الرأس أولا!
من سرق قلب حتشبسوت؟
إذا كنت تبحث عن جذورِ الأزمة، فاقرأ مناهج التاريخِ المصرية! فبينما تدرس حرب المائة عام بالتفصيل، تمر «حضارة مصر القديمة» كنقطة عابرة في كتاب ملون. لماذا لا يسمع الطفل قصة «إخناتون» الذي حارب الآلهة ليوحدها؟ أو يحلل رِسالة «الحكمة» لبتاح حتب كنص إنساني قبل 4000 عام؟ التعليم هو المعبد الأول لإعادة بناء الهوية، فلم نخربه بحكايات الغزاة وحروبهم؟
الحل يكمن في تثويرِ السؤال نفسه: بدلا من «متى غزا نابليون مصر؟»، لنطرح: «كيف صمم المصريون القدماء نظاما لرصد الفيضانِ قبل وجود الحاسوب؟». التاريخ ليس تسجيلا للحروب، بل سردية لكيفية بقاء أمة تحت أشد التحديات.
مسرح الأرواح أم الأوهام؟
لحظة من الصدق: متى آخر مرة شاهدت فيلما مصريا يجعلك تنتفخ فخرا بأجدادك الفراعنة؟ الأغلب أنك تذكر «كليوباترا» هوليوود، بينما سينما «العشقِ الفرعوني» المصرية تختزِل التاريخ في «لعنة المومياء» و «شبحِ الملك توت»!
السر في اليابانِ مجددا: «الأنيميشن» الياباني يصنع أبطالا من الساموراي، وهوليوود تبيع أساطير الفايكنج. فلماذا لا تصنع السينما المصرية أبطالا من «زوسر» و «حتشبسوت»؟ ليست القصة نقص إبداع، بل نقص إيمانٍ بأن التراث يحمل دروعا وسيوفا أقوى من خيال «مارفل»!
تطبيق محمول قد ينقذ التاريخ!
تخيل شابا مصريا يفتح تطبيقا على هاتفه، فيسمع «أحمس» يحدثه عن طرد الهكسوس، أو يرى معبد «إدفو» يتحول إلى رِحلة افتراضية بتقنية VR. التراث ليس حكرا على العلماء والمستشرِقين، بل يجب أن يكون «مفتوح المصدر» لجيل يعرِف لغة التكنولوجيا أفضل من لغة الهيروغليفية.
الذكاء الاصطناعي قادر على فك شفرات البرديات، وموضوعات التيك توك قادرة على تحويل «نفرتاري» إلى أيقونة أناقة. فلماذا نحاوِل إحياء التاريخِ بطرقِ القرنِ الماضي، بينما العالم يقطع مسافات في الميتافيرس؟
من يسرِق أسرار الأجداد؟
في متحف «اللوفر» تتهادى أسماعك ب «أغنية حضارة النيل».. لكنها ملحنة بأيد فرنسية! وفي متاجرِ نيويورك، تباع تلك التمائم الفرعونية بثمنٍ يضاهي الذهب.. لكنها صناعة صينية! المؤلم أن العالم يفهم قيمة التراث المصري أكثر من أهله، ويستثمر فيه بينما نحن نقتتل على بقايا «عصرِ الذهب العثماني»!
هذا ليس استعبادا فكريا فحسب، بل خيانة لجثث الأجداد الذين يصرخون من خلف زجاجِ المتاحف الأجنبية: «هذا التراب الذي تدوسونه هو ذهبكم.. فمتى تستيقظون؟».
المعرِكة الحقيقية ليست مع من سرق تاريخنا، بل مع من سرق ثقتنا بأنفسنا. الفراعنة لم يختفوا.. هم الآن يمشون بيننا: في شاب يحاوِل ترجمة البرديات، وفنانة ترسم جدارية عصرية بخطوط هيروغليفية، ومهندسة تستلهم من هرم سقارة تصميما يحمي مصر من السيول.
لن نصبح «أصحاب حضارة» حتى نوقن أن التراث ليس «ماضيا»، بل سلاح لمستقبل نصنعه. ارفع رأسك.. فالأهرامات التي بنتها أياد مصرية تنتظر أياديك أنت لتبني مجدا جديدا. لكل مصري واقف على أطلال عظمة: ابدأ بكلمة واحدة.. «أنا ابن مصر.. وهذا يكفيني!».
الخطوة الأولى لاسترداد التاريخِ هي ألا نخشاه.. فكل حجر في هذا الوطنِ يحمل رِسالة من أجداد يقولون: «لو تعلمون مقدار العظمة التي ورِثتم.. لما وقف العالم أمامكم!».
***
د. عبد السلام فاروق