قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة في قصة "استجمام" للقاصة نضال البدري

قصة *"استجمام"* تقدم دراما إنسانية شديدة العمق والتأثير، حيث تسلط الضوء على هشاشة العلاقات الزوجية أمام الإغراءات الخارجية والخيانة..

تدور القصة حول انهيار الثقة بين زوجين، إذ يعود الزوج من رحلة "استجمام" حاملاً معه مرض الإيدز، الذي يصبح رمزاً لانحلال القيم وتدمير الأساس الأخلاقي للعلاقة الزوجية..

الزوجة، التي بذلت كل جهدها لإحياء العلاقة بروح مليئة بالحب، تواجه خيانة جسدية ونفسية تتركها بين الألم والغضب والحيرة..

النص يُبدع في تقديم صور سردية مفعمة بالرمزية، مثل الكرسي الهزاز الذي يعكس جمود الزوج وتردده، والبريد الإلكتروني الذي يفضح الأسرار المخفية. القصة تتناول ببراعة موضوعات الخيانة، المسؤولية الأخلاقية، وصراع الضمير، مع إبراز التناقض بين الحب والغدر، والتضحية والأنانية..

السردية بين التصوير الواقعي والرمزية

النص يتألق بلغة سردية سلسة، تمزج بين الواقعية المرهفة والرمزية العميقة، مما يمنحه عمقاً وثراءً أدبياً يلامس الوجدان. ففي التفاصيل.. الأحمر الشفاه والعطر الفرنسي تتجاوز كونها مجرد عناصر وصفية لتصبح رموزاً نابضة برغبة الزوجة في إحياء شغفٍ تكهنت انه صائر الى الافول واستعادة ما تبقى من وهج العلاقة.. الكرسي الهزاز، برتابته الموحية، يعكس ركود العلاقة وانعزال الزوج وتقلقل عالمه الداخلي المثقل بالتناقضات. الحوار النفسي المكثف يفتح نوافذ على صراعٍ داخلي يشتعل تحت السطح، بينما تتنامى الأحداث بذكاءٍ درامي يشد القارئ في رحلة تتقاطع فيها التفاصيل الحسية والرمزية مع عمق المشاعر الإنسانية وتصادمها الموجع.

إشكالية الوعي والضمير

يتناول النص إشكالية عميقة تتشابك فيها خيوط الوعي والضمير الإنساني، كاشفاً عن صراع الفرد بين نزواته الأنانية وإحساسه العميق بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر. المرض، الذي يبدو في ظاهره جسدياً، يتحول إلى رمزٍ عميق لتحلل العلاقة الزوجية وتآكل القيم التي كانت تجمع الطرفين. يتجلى سؤال فلسفي مؤرق: من يتحمل عبء الانهيار؟ وهل الغفران بما يحمله من تضحية، أو الانتقام بما ينطوي عليه من تشفٍ، يملك القدرة على تضميد الجراح التي خلفها الخذلان؟ النص يترك القارئ أمام فضاء مفتوح للتأمل، ليعيد تشكيل فهمه لمعاني المسؤولية، والتكفير، واستعادة الذات الممزقة.

الخيانة وآثارها المدمرة

تغوص القصة في عمق أزمة الخيانة الزوجية، كاشفة عن تشظي الروابط الإنسانية في مجتمع يقدس الأسرة كركيزة أساسية للوجود. تجسد الزوجة رمزاً للوفاء والتضحية، وهي تواجه خيانة تقوض أسس كرامتها، لتتحول حياتها إلى مرآة تتصدع تحت وطأة الانكسار. أما الزوج، فيمثل انحرافاً أخلاقياً مأساوياً، إذ يسعى خلف لذة عابرة تُعميه عن التزاماته العميقة ومسؤوليته تجاه شريكة حياته. النص يعكس تراجيديا اجتماعية تصارع فيها القيم الأخلاقية انهياراً صامتاً، ليبرز السؤال الموجع: كيف يمكن للخذلان أن يمس قداسة الحب؟ وهل يمكن أن تولد القوة من ركام الخيانة؟

ضحية النظام القيمي

الزوجة في النص تجسيدٌ حيّ للصراع الإنساني بين قيود النظام القيمي الذي يفرض أدواراً جامدة، وبين نزيف المشاعر الذي يفيض بالحب والخيانة معاً. ليست الضحية مجرد خيانة شريكها، بل هي أسيرة قيمٍ تقيد إرادتها، وتجعلها تتموضع في فضاءٍ متأرجح بين عشقٍ يربطها به وكرامةٍ جريحةٍ تأبى الاستسلام. تتناوب في أعماقها موجات الحيرة والغضب، والرغبة في الانتقام، مما يمنح الشخصية أبعاداً إنسانية عميقة تُلامس الوجدان وتفتح أفقاً لتأويل أوجاعها بعمق وتعاطف مهيب.

القيم وغيبة الضمير

يتجلى البعد الديني في النص عبر استحضار فكرة "غيبة الضمير"، كصرخة مبطنة تدعو إلى يقظة أخلاقية تعيد صياغة السلوك الإنساني في ضوء القيم. يوظف المرض(الإيدز)، في رمزية عميقة، كعقاب دنيوي يحمل رسالة إلهية تُنبه إلى أن الأفعال لا تنفصل عن عواقبها. النص ينسج برهافة تأويلات ترتكز على العدالة الإلهية والجزاء الأخلاقي، ليطرح تساؤلات عن حدود الغفران ومسؤولية الفرد في استعادة التوازن بين الروح والجسد في مسار حياته.

المرض وتحلل العلاقة

في القصة، يتجاوز المرض كونه حالة جسدية ليصبح رمزاً لتحلل العلاقة الزوجية وانهيار القيم التي كانت تشكل أساسها. يُعبر المرض عن الانعكاس الداخلي للفساد الأخلاقي الذي ينهش الروابط الإنسانية، حيث تبرز الزوجة، التي "عفرت شعرها بعطر فرنسي"، كصورة يائسة لرغبةٍ في إحياء جذوة مشاعر تخبو في ظلال الخيانة. أما الزوج، فهو تجسيد للاغتراب والانفصال، مستغرق في مطاردة لذائذ زائلة خارج حرم الأسرة. النص يُحاك برمزية عميقة تكشف عن هشاشة الروابط عندما تغيب القيم، وتطرح تأملاً في جدلية الخلاص بين المحاولة والاستسلام.

العنوان: "استجمام:

العنوان "استجمام" يحمل مفارقة مؤلمة تُبرز التناقض بين دلالته الظاهرية ومعناه العميق في النص. فالاستجمام، الذي يُفترض أن يكون فسحةً لاستعادة الصفاء والعافية، يتحول هنا إلى نقطة انكسار تكشف عن انهيار القيم والروابط. عودة الزوج من رحلته حاملاً المرض والخيانة تجسد مأساة البحث عن الراحة في مسارات خالية من البعد الأخلاقي والروحي، مما يُبرز أن الصفاء الحقيقي لا يتحقق إلا بالتماسك الداخلي والالتزام بقيم سامية. العنوان بذلك يفتح باب التأويل، ليصبح انعكاساً لحالة إنسانية تتقاطع فيها الراحة الظاهرية مع عمق الجراح الباطنية التي لا تُشفى بسهولة.

المراسلات الإلكترونية:

المراسلات الإلكترونية في القصة تُلقي الضوء على ازدواجية شخصية الزوج، كاشفةً عن تناقضه بين قناع اجتماعي مثالي وخطايا خفية تتوارى خلف شاشات الزيف. تلك الرسائل ليست مجرد وسيلة تواصل؛ بل هي مرآة تعكس نفاقاً داخلياً يُحاول إخفاءه بمهارة، لكنها أيضاً تُمثل رمزاً للشفافية القسرية التي تفرض نفسها في عالم لا يحتمل دفن الأسرار طويلاً. البريد الإلكتروني، ببروده التقني، يفضح الحميميات الممزقة، وكأن الحقيقة تجد دائماً طريقها إلى الضوء، مهما سعى صاحبها إلى دفنها في ظلال النسيان.

ازدواجية الزمن

القصة تتنقل بين زمنين متباينين: زمن الزوجة التي تكافح لإصلاح ماضيها المثقل بالألم، وزمن الزوج الذي يظل غارقاً في أوهام لذائذ عابرة، يلهث وراء لحظات زائفة من المتعة. هذه الازدواجية تكشف عن انفصال عميق في الأولويات والرؤى بين الزوجين، حيث تتجسد الفجوة في العلاقة الزوجية التي تتآكل تحت وطأة التناقضات. الزمن في القصة يصبح مرآة لحالة من الضياع الداخلي، حيث لا يتلاقى الماضي والمستقبل إلا في مفترق الألم والخيبة.

الكرسي الهزاز:

الكرسي الهزاز، بما يثيره من حركة مستمرة بلا تقدم، يصبح رمزاً دقيقاً لحالة الجمود والتردد التي يعيشها الزوج. هو يجلس في مكانه، لكن حركته لا تقوده إلى أي قرار حاسم، بل تعكس انعدام القدرة على التغيير، كأنما هو أسير دوامة من الأفكار المتناقضة. الكرسي يصبح تجسيداً لعجزه عن المضي قدماً، ومرارته في مواجهة الحقيقة، حيث يستمر في التذبذب بين الاستقرار والتشتت، دون أن يجرؤ على اتخاذ خطوة جذرية نحو التغيير.

البنية السردية:

القصة تتسم ببنية سردية محكمة تتصاعد بمهارة، حيث يبدأ الإيقاع هادئاً كالماء الساكن، ثم يتسارع تدريجياً مع ظهور المرض كعلامة على بداية التفكك. مع مرور الوقت، يتصاعد الصراع النفسي والأخلاقي ليصل إلى ذروته، مما يعكس بصدق انهيار العلاقة الزوجية الذي يحدث تدريجياً، كأنما كل خطوة هي فصل جديد من الألم والخذلان. هذا التدرج ينسج بنبرة درامية تنبض بالحياة، مما يسمح للقارئ بالغوص في عمق التوتر الداخلي، وتداعياته المدمرة على الشخصيات.

نقاط القوة الإبداعية:

- التصوير الواقعي: استخدام التفاصيل الدقيقة، مثل عطر الزوجة ورسائل البريد الإلكتروني، يجعل القصة محسوسة وقريبة من الواقع.

- الرمزية العميقة: كل عنصر في القصة يحمل دلالة تتجاوز معناه الظاهري، مما يمنح النص عمقاً فكرياً وفنياً.

- الصراع النفسي: التركيز على العوالم الداخلية للشخصيات يجعل القارئ يتورط عاطفياً وفكرياً مع القصة.

رد الخيانة بالخيانة:

الخاتمة، بنهايتها المفتوحة، تنسج تساؤلاً أخلاقياً مؤرقاً يتجاوز حدود القصة ليغوص في أعماق النفس الإنسانية: هل يمكن للخيانة أن تُكفَّر بخيانة مقابلة؟ أم أن الانتقام ليس سوى دوامة تُعمّق الجراح وتُعيد إنتاج الألم بصورته الأكثر قسوة؟ ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس للزوجة "افعليها لو استطعت" هو انعكاس لصراع داخلي عنيف بين قيمها الأخلاقية التي تحاول الصمود، ورغبة دفينة في استرداد كرامتها بطريقتها الخاصة. النهاية، برمزيتها، لا تطرح إجابة بقدر ما تفتح للقارئ فضاءً للتأمل في حدود الغفران، جدوى الانتقام، والطريق نحو التوازن بين العدالة والسلام الداخلي.

الخلاصة:

قصة *"استجمام"* تقدم مرآة للواقع الإنساني المعاصر، حيث تُبرز هشاشة العلاقات أمام إغراءات العالم الخارجي، وتأثير السلوك الفردي غير المسؤول على المصير العائلي. من خلال لغة سردية عذبة ورمزية غنية، تنجح القصة في استكشاف موضوعات الخيانة، المسؤولية، الغفران، والعدالة الأخلاقية، مما يجعلها نصاً أدبياً عميقاً وملهماً..

اللغة المكثفة والوصف الدقيق يمنحان النص قوة أدبية، فيما تثير النهاية المفتوحة تساؤلات أخلاقية عميقة حول الغفران والانتقام. من خلال هذه الحكاية، تنجح الكاتبة في طرح قضايا اجتماعية وإنسانية معاصرة، مع تصوير مأساوي لتداعيات الخيانة وانعكاساتها على النفس والأسرة. القصة ليست مجرد سرد لحدث، بل دعوة للتأمل في عواقب الأفعال ودور القيم في بناء العلاقات الإنسانية.

قصة *"استجمام"* تعكس ببراعة مأساة اجتماعية وإنسانية تنبثق من خيانة عاطفية وجسدية تهدد حياة الفرد وتُفكك الروابط الأسرية. النص يقدم دراما مشحونة بالعواطف والتوترات النفسية، في إطار سردي مترابط يحمل مستويات متعددة من التأويلات الرمزية والاجتماعية والفلسفية.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.......................

رابط القصة

https://www.almothaqaf.org/nesos/978453

 

بقلم: د. ديشا مادان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الملخص:

يركز مسرح العبث على عبثية وحالة عدم اليقين التي تحيط بالحياة والوقت. الصور البصرية التي نراها فعلاً وتلك التي تظهر في الأحلام والذكريات والوعي غير اللفظي للعاطفة الخالصة هي مكونات حيوية لوعينا بذواتنا. ومع ذلك، يجب أن يتحول هذا الوعي إلى وعي باللاوعي. وفي هذه العملية، يكون "الذات" لغزاً – غير قابل للإمساك به، كما يتجلى من خلال عدم استقرار الشخصية البشرية عبر الزمن. التجربة الوحيدة الأصيلة التي يمكن نقلها هي تجربة اللحظة الواحدة بكل ما فيها من شدة عاطفية، وكليتها الوجودية. تركز هذه الورقة على الصور العابر للذات، وتجد الذات تكاملها في العدم. مسرح العبث يجد معنى في العدم يتجاوز الكلمات واللغة. الكلمات التي تظل غير قابلة للإمساك بها ما زالت تتحدث عن معنى يكمن في اللاوعي. يوفر وعي اللاوعي تكاملًا أبديًا للجسد والعقل والروح.

الكلمات الرئيسية: العبث، الميتافيزيقي، الجذور المتعالية، الانتظار، الزمن، العدم، البحث عن الواقع، الجنون الاستعماري، العين الداخلية.

1. المقدمة:

في نوفمبر 1957، كان مجموعة من الممثلين القلقين يستعدون لمواجهة جمهورهم. كان الممثلون أعضاء في فرقة ورشة عمل الممثلين في سان فرانسيسكو. أما الجمهور فكان يتكون من ألف وأربعمائة سجين في سجن كوينتن. المسرحية التي تم اختيارها لهذه المناسبة كانت انتظار جودو لصمويل بيكيت، وهي مسرحية غامضة وفكرية للغاية. كان هيربرت بلاو، المخرج، قلقًا. صعد إلى المسرح وأعد الجمهور من السجناء. قارن المسرحية بمقطوعة موسيقية من الجاز "التي يجب على المرء أن يستمع إليها لاستخراج أي شيء قد يجده فيها". وبالمثل، كان يأمل أن يجد كل فرد في الجمهور معنى ما، أو دلالة شخصية في انتظار جودو.

انشقت الستارة، وعُرضت المسرحية. وما كان قد أدهش الجمهور المثقف في باريس ولندن ونيويورك، تم استيعابه على الفور من قبل جمهور السجناء. تركت المسرحية تأثيرًا عميقًا على الجمهور. فقد ذكر مراسل من سان فرانسيسكو كرونيكل الذي كان حاضراً أن السجناء لم يجدوا صعوبة في فهم المسرحية.قال أحد السجناء:جودو هو المجتمع."وقال آخر: "إنه الخارج" لقد أسرت المسرحية الجمهور حيث واجهتهم بموقف كان من بعض النواحي مماثلاً لواقعهم.

2. اتفاقية جديدة:

إن استقبال انتظار جودو في سجن سان كوينتن، والإشادة الواسعة بالمسرحيات التي كتبها يوجين يونسكو، آرثر آدموف، هارولد بنتر، وآخرون، يثبت أن هذه المسرحيات، التي غالبًا ما تُعتبر هراء أو غموضًا، تحتوي على شيء يجب قوله. المسرحية الجيدة يجب أن تحتوي على موضوع مشروح بالكامل، يكون مكشوفًا في النهاية ويتم حله. لكن هذه المسرحيات غالبًا ما تفتقر إلى بداية أو نهاية. المسرحية الجيدة هي التي تعكس الطبيعة وتصور سلوكيات وعادات العصر من خلال لوحات دقيقة. لكن هذه المسرحيات تبدو وكأنها انعكاسات للأحلام والكوابيس. المسرحية الجيدة تعتمد على الحوار الذكي والمحادثات اللاذعة، لكن هذه المسرحيات غالبًا ما تتكون من خربشات غير مترابطة.

في واحدة من أعظم التأملات الفلسفية لعصرنا، أسطورة سيزيف، حاول ألبرت كامو تشخيص الوضع البشري في عالم محطم المعتقدات. يقول كامو: "لكن في كون يُحرم فجأة من الأوهام والنور، يشعر الإنسان وكأنه غريب. هو في منفى لا علاج له... هذا الطلاق بين الإنسان وحياته، بين الممثل ومحيطه، هو الذي يشكل شعور العبث."

العبث في الأصل يعني "خارج التناغم" في سياق موسيقي. وبالتالي، فإن تعريفه في القاموس هو: "خارج التناغم مع العقل أو المألوف؛ غير متناسق، غير معقول، غير منطقي". في الاستخدام العام، قد يعني "العبث" ببساطة "سخيفًا"، لكن هذا ليس المعنى الذي يستخدمه كامو في هذا السياق، ولا المعنى الذي يستخدمه عندما نتحدث عن "مسرح العبث". في مقال عن كافكا، عرّف يونسكو العبث كالتالي: "العبث هو ما يخلو من الهدف... مقطوع عن جذوره الدينية، الميتافيزيقية، والتعالية، يصبح الإنسان ضائعًا؛ وتصبح كل أفعاله بلا معنى، عبثية، وعديمة الفائدة."

يسعى مسرح العبث إلى التعبير عن الإحساس بالقلق الميتافيزيقي تجاه عبثية الحالة الإنسانية، لكنه يتخلى عن الأدوات العقلانية والتفكير المنطقي في سبيل ذلك. يحاول المسرح أن يحقق وحدة بين افتراضاته الأساسية والأشكال التي يتم التعبير عنها من خلالها. إنها تناقض داخلي يحاول كتاب مسرح العبث التغلب عليه وحله من خلال الغريزة والحدس بدلاً من الجهد الواعي. هم لا يناقشون عبثية الحالة الإنسانية، بل يقدمونها ببساطة كما هي – أي، من خلال صور ملموسة على المسرح. يبرز هذا التباين بين النظرية والتجربة. وهذه السعي لتحقيق التكامل بين الموضوع والشكل الذي يتم التعبير من خلاله هو ما يميز مسرح العبث عن المسرح الوجودي. يعتمد المسرح بشكل أساسي على خيوط قديمة في التقليد الغربي وله مؤيدون في بريطانيا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، سويسرا، أوروبا الشرقية، الولايات المتحدة، وفرنسا. وقد أنتج هذا المسرح إطارًا من القيم ذات نتائج محيرة، جالبًا معه تقليدًا جديدًا وثوريًا.

3. انتظار جودو: البحث عن الذات في العدم:

مسرحية "انتظار جودو" لا تروي قصة، بل تستكشف حالة ثابتة. "لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، وهذا فظيع." على طريق ريفي، بجانب شجرة، ينتظر شخصان مسنان، فلاديمير وإستراجون، جودو. عندما سأل آلان شنايدر، الذي كان سيخرج أول عرض أمريكي لمسرحية "انتظار جودو"، صموئيل بيكيت عن هوية جودو أو ما الذي يعنيه، أجابه بيكيت قائلاً: "لو كنت أعرف، كنت سأذكر ذلك في المسرحية." ومع ذلك، سواء كان جودو يشير إلى تدخل قوة خارقة للطبيعة أو كان يمثل كائنًا بشريًا أسطوريًا يُنتظر وصوله لتغيير الوضع، أو كلا الاحتمالين معًا، فإن طبيعته الدقيقة ليست ذات أهمية كبيرة.

موضوع المسرحية ليس جودو، بل الانتظار، فعل الانتظار كجانب أساسي ومميز من الحالة الإنسانية. طوال حياتنا، نحن ننتظر دائمًا شيئًا ما – حدثًا، شيئا، شخصًا، الموت. علاوة على ذلك، فإن فعل الانتظار هو الذي نختبر فيه تدفق الوقت في أنقى وأوضح أشكاله. إذا كنا نشطين، فإننا نميل إلى نسيان مرور الوقت، نمرر الوقت، لكن إذا كنا ننتظر بشكل سلبي فقط، فإننا نواجه فعل الزمن نفسه. كما يشير بيكيت في تحليله لمسرحيته بروست: "لا مفر من الساعات والأيام... الأمس ليس معلمًا تم تجاوزه، بل هو حجر يومي على الطريق الممهد للسنوات، وهو فورًا جزء منا، داخلنا، ثقيلًا وخطيرًا. نحن لسنا مجرد أكثر تعبًا بسبب الأمس؛ نحن آخرون، لم نعد كما كنا قبل كارثة الأمس."

يواجهنا تدفق الوقت مع المشكلة الأساسية للوجود – مشكلة طبيعة الذات. هذه الذات تخضع لتغيير مستمر في الزمن، الذي هو في حالة تدفق مستمر وبالتالي دائمًا خارج متناولنا. في أي لحظة في حياتنا لا يمكننا أن نكون متطابقين مع أنفسنا.

الانتظار هو تجربة فعل الزمن، الذي هو التغيير المستمر. ومع ذلك، بما أن لا شيء حقيقي يحدث، فإن هذا التغيير في حد ذاته هو وهم. النشاط المستمر للوقت هو عملية مدمرة ذاتيًا، بلا هدف، وبالتالي باطل. كلما تغيرت الأشياء، كلما ظلت كما هي. هذه هي الاستقرار الرهيب للعالم. يوم واحد مثل الآخر، وعندما نموت، قد لا نكون قد وُجدنا أبدًا.

في واحدة من الاقتباسات المفضلة لبيكيت، "لا شيء أكثر واقعية من لا شيء." الوقت لا يتوقف أو يتوقف، لكن السلام الإيجابي يأتي عندما يتخلى الإنسان عن الأفكار العابرة ويضيف ببساطة الأشياء إلى العدم. هذا العدم يمكن أن يكون "الواحد والوحيد" أو الاتحاد مع العدم في شكل الموت. حيث تجد الذات المتحللة طريقها للعودة إلى التكامل. الرغبات والاحتياجات المادية، كما يتم السعي لتحقيقها والحصول عليها، فإنها تتراجع. عمل الزمن يغيرنا في عملية الوصول إلى ما نرغب فيه. وأخيرًا يجد التحرر فقط في الاعتراف بذلك العدم الذي هو الحقيقة الوحيدة. كل حركة أخرى هي فوضى. كل شيء آخر هو عبث.

كل الاعترافات الخارجية والقمع، سواء كانت حيوانية أو إنسانية أو إلهية، مخزنة في الإنسان. الهروب من هذه الإدراكات في محاولة للوصول إلى العدم الإيجابي للوجود غير الموجود هو جزء هام من العبث. فالإفراج الحقيقي يكمن في معرفة المرء أنه لم يعد واعيًا. ومع ذلك، مع الموت، يتوقف الوعي وتستطيع تخيل اللحظة الأخيرة من وعي الرجل المحتضر كوعي أبدي باللاوعي.

يقول بيكيت: "أنا مهتم بشكل الأفكار حتى وإن لم أؤمن بها... فالشكل هو ما يهم." يتضح أن بيكيت كان يفتن بالشكل أكثر من المضمون. من بين جميع المجرمين الذين تم إعدامهم عبر التاريخ، كان هناك اثنان فقط، فقط اثنان، حصلا على فرصة للغفران في لحظة موتهما بطريقة فريدة وفعّالة. أحدهما أدلى بتعليق عدائي، فحكم عليه بالهلاك. بينما الآخر عارض هذا التعليق، فتم إنقاذه. كم كانت الأدوار لتتبدل بسهولة؟ فهذه لم تكن أحكامًا مبنية على تفكير عميق، بل كانت مجرد كلمات خرجت بشكل عفوي في لحظة من الألم والضغط النفسي الشديد. كما يقول بوزو عن لاكي: "لاحظ أنه كان من السهل أن أكون في مكانه وهو في مكاني، لو لم يشاء الحظ شيئًا آخر. لكل شخص نصيبه." ومن هنا، قد تتناسب أحذيتنا مع أقدامنا في يوم ما، وفي يوم آخر قد لا تتناسب.

كان حذاء إستراجون يعذبه في الفصل الأول، وفي الفصل الثاني أصبح يناسبه بشكل معجز.

4. فراغ اللغة:

أن تكون حيًا يعني أن تكون مدركًا لذاتك وأن تسمع أفكارك وسيل الكلمات التي لا تنتهي. ككائن بشري، نحن جميعًا نمتلك هذه الهمسة الدائمة. يرفض صمويل بيكيت اللغة، ومع ذلك، هو شاعر لا يستطيع الامتناع عن العمل بها. وهذه مفارقة؛ إذ يظهر أن اللغة بالنسبة له أداة إلهية، وأحيانًا تكون مجرد همسات بلا معنى. في بعض الأحيان، يعبر عن اللغة موازنًا إياها مع الأصوات غير المفهومة للطبيعة. في عالم فقد معناه، تصبح اللغة أيضًا مجرد همسات بلا فائدة. في كون بلا معنى، لا يمكن أن تُقال أي جملة ذات قيمة.

إن المفاهيم البسيطة التي يتم الخلط بينها، والحوارات الأحادية المزدوجة، والتكرار الممل للكليشيهات، وعدم القدرة على العثور على الكلمات المناسبة، والاستخدام الفوضوي للكلمات، والإغفال المتعمد للفواصل، كلها تشير إلى أن اللغة قد فقدت وظيفتها كوسيلة للتواصل، وأن الأسئلة قد تحولت إلى تصريحات لا تتطلب إجابة.

إذا كانت مسرحيات بيكيت تهتم بالتعبير عن صعوبة العثور على المعنى في عالم دائم التغير، فإن استخدامه للغة يبحث في حدود اللغة سواء كوسيلة للتواصل أو كأداة للتعبير عن أفكار صحيحة. في عالم بلا غاية فقد أهدافه النهائية، يصبح الحوار، مثل أي فعل آخر، مجرد لعبة لتمرير الوقت. هو يحاول تقليص الفجوة بين حدود اللغة وحدس الوجود. الكلمات تعجز عن التعبير عن أعمق الأفكار في الإنسان. اللغة تستخدم للتعبير عن التفكك، والانحلال في الفكر والحياة. حيث لا يوجد يقين، لا يمكن أن يكون هناك معنى دقيق. واستحالة الوصول إلى اليقين هي واحدة من المواضيع الرئيسية في مسرح العبث.

من خلال التأكيد المستمر على عدم اليقين من الموعد مع جودو، وعدم موثوقية جودو وعدم منطقيته، والعرض المتكرر لعدمية الآمال المعقودة عليه، يظهر أن فعل الانتظار من أجل جودو هو فعل عبثي في جوهره. جميع الأنشطة في المسرحية هي جوانب من الانشغال العبثي بالأهداف والأحلام الوهمية. كل حركة هي فوضى. قد تكون الأمل في الخلاص مجرد تهرب من المعاناة والكرب الناتج عن مواجهة واقع الحالة الإنسانية. استكشاف بيكيت للإبداع والحدس يتناول عناصر التجربة ويظهر إلى أي مدى يحمل جميع البشر بذور مثل هذا الاكتئاب والانحلال في طبقات أعمق من شخصياتهم. إذا كان السجناء في سان كوينتين قد استجابوا لمسرحية في انتظار جودو، فذلك لأنهم واجهوا تجربتهم الخاصة في الزمن والانتظار والأمل واليأس؛ لأنهم أدركوا الحقيقة عن علاقاتهم الإنسانية الخاصة.

هذه أيضًا هي المفتاح لنجاح مسرحيات بيكيت الواسع: أن يواجه الإنسان تجسيدات ملموسة لأعمق مخاوفه وقلقاته، التي كانت قد تم تجربتها بشكل غامض على مستوى شبه واعٍ، يشكل عملية التطهير والتحرر التي تشبه التأثير العلاجي في التحليل النفسي عند مواجهة محتويات العقل الباطن. هذه هي لحظة التحرر من العادة المميتة، من خلال مواجهة معاناة الوجود. يمكن رؤية مسرح العبث كبحث عن الواقع الذي يكمن وراء التفكير المجرد في المصطلحات المفاهيمية. تُقَلل اللغة من قيمتها كأداة للتواصل مع الحقائق النهائية، لكن هؤلاء الكتاب هم أساتذة كبار في اللغة كوسيلة فنية.

5. الخاتمة:

إن قبول العالم كما هو، ورفض لغته ومبادئه وواقعه، يجعل مسرح العبث يعكس إمكانية أخرى. يمكن أيضًا وصفه بأنه رفض للجنون الاستعماري الداخلي. إن عدم معنى الهوية والوجود ينبع أيضًا من تماثل الكون. فمسألة الوجود أو العدم تبرز حيث أن جميع الأفعال تؤدي إلى اللاشيء. الواقع لا يكمن في الإدراكات البصرية، بل في الإحساس بعمق الواقع في اللاشيء. تكمن الحواس اللاواعية غير المتأثرة في تقييم الذات والفضاء الداخلي. إن البحث عن الحقيقة ليس في السعي وراء الأفعال، بل في أن تكون غير واعٍ بذاتك وأفكارك. في فراغ الصمت تكمن موسيقى الذات والـ "لا شيء الوحيد". إن محاولة التواصل مع ما لا يمكن التواصل معه هي اعتراف بوهمية وعبثية الحلول الجاهزة للحياة ومشاكلها. إن إدراك الأسئلة في حد ذاته هو نقطة انطلاق لوعي جديد. لا يمكن أن ينتهي هذا الوعي في اليأس، بل يبدو أكثر قوة لمواجهة أسرار الحياة.

لا يمكن رسم الحقائق النهائية بالأسود والأبيض، كما أن بعض الصدمات لا يمكن تحديدها أبدًا. أنواع مختلفة من المخاوف والرهبات تحكم العقل البشري. لا يمكن للعقل البشري أن يتجنب هذه الرهبات. إن لغز الذات دائمًا ما يكون هاربًا، والكلمة المادية تتطلب التعبير اللفظي. إن استخدام اللغة يظهر تأثير التأثيرات على الفرد. بمعنى آخر، اللغة أيضًا هي علامة على الاستعمار. ومن ثم، فإن فك استعمار الجسد والعقل والروح من اللغة والثقافة يزيل غشاء الوهم. اللمسة البسيطة من اللاوعي مع الوعي تجعل المرء يرقص مع "العين الداخلية" للاشيء.

***

.........................

المراجع

1.  إسلين، مارتن. مسرح العبث. نيويورك: بلومسبري، 2014. المقدمة، ص 1.

2.  فن المسرح. نيويورك، يوليو 1958.

3.  كامو، ألبر. أسطورة سيزيف. باريس: جاليمار، 1942. ص 18.

4.  يونيسكو، يوجين. "في أحضان المدينة"، دفاتر شركة مادلين رينود-جان لويس بارو، باريس، العدد 20، أكتوبر 1957.

5.  بيكيت، صامويل. انتظار جودو. لندن: فابر وفابر، 1959، ص 41.

6.  شنايدر، آلان. انتظار بيكيت، مراجعة تشيلسي، نيويورك، خريف 1958.

7.  بيكيت، صامويل. بروست. نيويورك: جروف برس، لا تاريخ، ص 2-3.

8.  بيكيت، صامويل. مالون يموت، في مولوي/مالون يموت/اللامسمى. لندن: جون كالدر، 1959، ص 193.

9.  بيكيت، صامويل، اقتباس عن هارولد هوبسون، مسرح العبث، وعند آلان شنايدر، انتظار بيكيت.

10. بيكيت، صامويل. انتظار جودو. لندن: فابر وفابر، 1959، ص 31.

الكاتبة : د. ديشا مادان/  تعمل كأستاذة في قسم الدراسات العليا في اللغة الإنجليزية بكلية نهرو ومركز الدراسات العليا في هوبلي (ولاية كارناتاكا). تمتلك خبرة واسعة في تدريس المستويين الجامعي والعالي. نشرت العديد من المقالات البحثية في مجلات دولية مرموقة، وهي المؤلفة المشاركة لكتاب الازدواجية: نساء ذوات البشرة الملونة (الكاتبات الأمريكيات من أصل أفريقي). كما كتبت الإبيولوج (الخاتمة) للقصائد المترجمة قصائدي الواحدة والخمسون التي تم ترجمتها من قصائد آتال بهاري فاجباي، رئيس وزراء الهند السابق.

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة: یا مَنْ تجعلني ازهر الماً – للشاعرة – سلوى حسين – السليمانية – كردستان العراق.

مقدمة:  قصيدة / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ هي قصيدة سردية تعبيرية تختزل رحلة الذات في مواجهة الألم والوجد، وهي بمثابة تأمل في العلاقات الداخلية بين الذكريات والجسد، وبين الرغبات والواقع. تتداخل في هذه القصيدة أصوات الذات الشاعرة مع الصور الشعرية الرمزية الموحية التي تفتح المجال لتأويلات متعددة، وتعبّر عن حالة إنسانية معقدة تتراوح بين الغموض والكشف. عبر هذه القصيدة، لا تعرض الشاعرة مجرد مشاعر الحزن والانتظار، بل تقدم لنا معركة روحية، تلتقي فيها التناقضات لتُنتج نصًا شعريًا يوازن بين الوجود والعدم.

التوتر بين الحياة والموت: القصيدة تبدأ بأداة النداء / يا من/، مما يخلق انطباعًا بالحنين أو الاستغاثة لشخص غائب أو لقوة غيبية تُشرف على حال الشاعرة. يتجلى في العبارة الأولى / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ تحوّلًا جوهريًا في العلاقة بين الحياة والألم، حيث تُقدّم الشاعرة الألم كعاطفة مزروعة في الذات، ولكنها تُزهَر كما يُزهر الورد، وهو نوع من التحويل العميق في المعنى. هذا التعبير، رغم ما يحمله من حسّ مرير، يفتح بابًا للتفسير المعاكس؛ بمعنى أن الألم قد يكون مُحفزًا للنمو، حتى وإن كان يصاحب الشعور بالتضحية والمعاناة. إذا كانت الحياة والوجود يُفترض أن يكونا مليئين بالأمل والبهجة، فهنا الألم يصبح الوسيلة التي تُزهر بها الذات، وهو ما يفتح حوارًا بين الوجود والمعاناة.

الصور الزمنية والمكانية: القصيدة تمتزج فيها الصور المكانية والزمانية بشكل متداخل، حيث تبدأ بـ / ذات مساء/ ليخلق ذلك توترًا بين الزمن المتغير الذي يحمل معاني خاصة، وبين اللحظة الخاصة التي تتسلل عبرها مشاعر الشاعرة. استخدام كلمة / مساء / يوحي بلحظة النهاية، أو بالتحول إلى الظلام، مما يعزز من فحوى القصيدة الذي يدور حول الوحدة والعزلة. المساء هو دائمًا مزيج من الغموض والفراغ، مما يجعل اللحظة أكثر استثنائية وحزنًا.

تحت الأغصان التي تدندن سمفونية الكون، يصبح الفضاء المادي مفعمًا بالحركة والنغم، حيث تراقص وريقات البنفسج وتبدد /ظلمة الوحشة/. الأغصان هنا ليست مجرد عنصر طبيعي، بل هي ساحة تقاطع بين الكائنات الحية والذكريات التي تتجسد في هذا المشهد الغنائي، الذي يطبع الحنين إلى الماضي ويُقدم أداة للتطهر من الوحشة. يُنزع عن الظلمة تعريفها التقليدي ليتحول إلى ظل لا يوحي بالراحة أو الانتماء، بل يظل كامنا في المكان المحاط بالنقمة.

الذكريات كشرارة للوجع: في القسم الذي يتحدث عن /صهيل الذكريات التي تغرز أنيابها في جسدها الزمهريري/، نجد أن الشاعرة تستخدم صورة رمزية لتمثيل تأثير الذكريات على الذات. الذكريات، هنا، لا تأخذ شكلًا من الراحة أو الحنين؛ بل هي أشبه بكيانات مُؤذية تغرس أنيابها في جسد الشاعرة، ما يشير إلى تأثيرها العميق والمتجذر في الوعي الداخلي. التصوير بـ /الزمهرير/ يربط هذه الذكريات بالجليد والبرد، مما يعزز من إحساس الكآبة والعزلة. تتخيل الشاعرة الذكريات وكأنها قوى مدمرة، أبدية وغير قابلة للهروب منها، بل هي جزء من نسيج الوجود الداخلي، تغذي نفسها من عمق الجسد وتُحفّز الألم بطريقة شبه مستحيلة الفهم.

التناقض بين الحلم والواقع: في النقطة التي تقول فيها الشاعرة / تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج/، تبرز فكرة التمني كأداة للهرب من الواقع المرير. الأرجوحة في هذه الصورة تعبير عن حالة التذبذب المستمر بين الأمل واليأس، حيث تظل الذات عالقة بين الرغبة في شيء غير موجود وبين واقع لا يمكن الهروب منه. / اللامكان/ يشير إلى العدم، إلى المسافة الفاصلة بين الذات وبين هدف بعيد أو مستحيل. الثلج، بجماله وبياضه، يضيف طبقة من السكينة الظاهرة، لكنه في جوهره بارد وميت، مما يعكس معركة الذات مع نفسها ومع عالمها الداخلي.

العتمة واليقين: وفي النهاية، تنطوي القصيدة على السؤال المركزي: هل يمكن للذات أن تجد اليقين وسط هذا الظلام المستمر؟ تساؤل الشاعرة / لكي أكون أو لا أكون / في نهاية النص يُعيد إلى الذهن التباسية الكينونة الإنسانية وصراع الذات مع الوجود. هذا التساؤل عن الهوية يفتح الباب أمام التأملات الفلسفية حول معنى الوجود: هل أنا موجود فعلاً، أم أنني أعيش في حالة من اللاوجود، بين الظلال والأوهام؟

الخاتمة: من خلال هذه القصيدة، تطرح سلوى حسين سؤال الوجود والعدم بأسلوب شعري فني يخلط بين الواقع والمجاز، بين الذكريات والتمني، وبين الألم والبحث عن معنى. يُظهر النص مدى تداخل البُعد النفسي العميق مع الصور الخارجية التي تُبنى حولها تجارب الذات، مما يخلق تفاعلًا دائمًا بين التوترات الداخلية والخارجية في السعي للسلام الداخلي أو للهروب من الحقيقة. القصيدة بذلك لا تعبر عن مجرد لحظات ألم، بل هي مساحة للتأمل في الذات وفي معركة الوجود والتصورات عن العالم.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

...........................

یا مَنْ تجعلني ازهر الماً

بقلم: سلوى حسين

***

ذات مساء..

تحت الاغصان وهي تدندن سمفونية الكون، تراقص وريقات البنفسج لتبدد ظلمة الوحشة أمام اتقاد انتظرها فوق ضفاف الوجد. كلما تردد علی مسامعها صهيل الذكريات التي تغرز ٲنیابها في جسدها الزمهریري، تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج بین رعشات مخاضها ونتوءات الخیال الملونة بجمر الاشتياق. تدور سابحة، تردد یا من تجعلني أزهر الماً تحسس یدي بشفاه ابتسامتك لٲتمایل مع همس القلب وعمق المكان بین العتمة والیقین لكي أكون ٲو لا أكون..

اعتدت أن أكتب نوعا من النقد الأدبي، يرى بعضهم أنه لا يمت للمنهج النقدي بصلة، طالما أنه لا ينضوي على تهجم أو مدح. أما أنا فأعتبره صنفا من النقد الأدبي، أطلقت عليه تسمية (نقد الربط الموضوعي)، بالرغم من وجود مصطلح متداول من قبل المتخصصين هو (النقد الموضوعي) الذي يستخدم للإشارة إلى رأي الناقد في عمل إبداعي، سواء كان هذا العمل أدبيا أم أداءً فنيا (تمثيل، غناء، فن تشكيلي) على أن يكون رأيه هذا محايدا، وبعيدا كل البعد عن التهجم والنقد السلبي اللاذع، بل عليه الاستعاضة عن النقد اللاذع بالنصائح والاقتراحات التي ممكن أن يقدمها أو يقترحها لتقويم وتطوير العمل المستهدف. وقد جاءت كتابة هذا الموضوع وفق منهجي النقدي هذا، الذي يربط بين الناقد والعمل المنقود من خلال تجربة حياتية أو حدث مشترك.

لم يكن الموت جميلا في أي مرحلة ومهما كانت أسبابه، طالما أنه ينتزع من قد نكون تعلقنا به، كالأم والأب والأخ، فموت الأب أحد أسوأ خيارات الحياة الذي فُرض علينا دون إرادتنا، ولاسيما إذا ما كان ذلك الأب أنموذجا للإنسان الإنسان بكل قيمه النبيلة ومشاعره الإنسانية، وأولها الحب الكبير لأبنائه، والتضحية من أجلهم بالغالي والنفيس. فالأب هو الخيمة التي تحمي رؤوس الأبناء من المطر والبرد والحر ومكاره الحياة، هو الحصن الذي يدفع عن أبنائه غوائل توحش الأزمان، وعسر عاديات الأيام، والعسل الذي يزيل مرارة الحياة، هو القوة التي يقاتل بها الأبناء مخاطر التوحش والرهبة، ويصارعون بها مكاره العاديات، هو البحر الذي يستخرجون من أعماقه اللآلئ والمرجان، ويحققون الأمنيات الحسان، هو النسمة العذبة التي تُشعرهم بدفِ الكون، هو الوردةُ التي تغدق عليهم عطر الأمل، هو كل شيء بالدنيا، بل هو الدنيا.

تبقى صورة الأب مرسومة في خيال أبنائه بعدما يغادرهم لسنين طويلة، ثم تبدأ للأسف بالتلاشي ببطء كلما تقدم بهم العمر، وأخذتهم مشاغل الدنيا بهمومها ومكارهها، لكنها لا يمكن أن تُمحى إلى الأبد، فسامتها تبقى شاخصة كأجمل الصور التي يبعثها العقل اللاواعي، ليعيد لها الحياة من خلال قولٍ أو فعلٍ أو أمرٍ يحتاج إلى تلك القوة التي كانت تدعما عند كل موقف نحتاج فيه لمن يدعمنا ويشد أزرنا ويقوينا.

علاقتي بوالدي كانت أجمل ما في الدنيا رغم قسوته المفرطة، تلك القسوة التي كنتُ استهجنها أحيانا، واتبرم منها، ويضيق صدري، فأشعر بالغضب. ثم لما كبرتُ ورزقت بأولاد، وجدت أنها الدواء الشافي والفعل المعافي في مواقف بعينها، لا يصلح للتعامل معها إلا ذاك النوع من الشِدة.

إن هذا الوعي؛ وإن جاء متأخراً إلا أنه كان يجددُ ثقتي بوالدي باستمرار، فأوقن أنه كان على صح وحق، وهكذا يعيد هذا اليقين لصورته الحياة في خاطري رطبة ندية عبقة بأطايب الجنة، رغم ان تلك الصورة لم تعد تبدو واضحة الملامح بالشكل الذي يرضيني، بقدر كونها كانت تؤلمني لأنها لا تكشف عن وسامته الغامرة وإشراقه وجهه حينما كان يبتسم، والدي كان حين يبتسم يشرق وجهه نورا أزليا يضيء دياجير عتمة طريقنا، أقمارا في كبد المشاعر تهدينا إذا تاهت بنا الطرق.

وكلما تقدم بي العمر تزداد قتامة الصورة، ويزداد معها حزني وألمي، إلى أن قرأت لشاعر جزائري اسمه "عبد القادر مكاريا" قصيدة كتبها عن أبيه، والأستاذ مكاريا شاعر لا ككل الشعراء، شاعر ينظم كلماته بفم ملآن، ويكتب شعره بيد ثابتة، تتسلح بالتحدي الكبير، لا لأنه يجيد صنعة الشعر فحسب، بل لأنه إنسان طغت مشاعره النقية على ما يسطره القلم. لم أكن أعرفه، ولم أقرأ له من قبل، ربما بسبب القطيعة الأدبية والفكرية بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ولذا شعرت برجة فكرية عارمة، كأنها صعقة كهرباء حينما صفعت إحدى قصائده نظري بعنف، لتحدث صدى في القلب، أعاد لي ذكرى أبي؛ الذي فارقته منذ سنين طوال، أعاد صورته البهية النقية المشرقة الأخاذة اللماحة الساحرة الباهرة.

ومع أنه ليس من السهل على عجوز مثلي جاوز السبعين عمراً أن يستمتع بالفرح والحزن في الوقت نفسه، لا لوقار الشيوخ، بل لتهالك قواهم وضعف ذاكرتهم، إلا أن كلمات الشاعر مكاريا بحق والده صعقتني حقا، والهمتني صدقاً استرجاع ذكرى من أعماق اللامكان، صورة كانت ولا زالت تتربع في اللاوعي، بثتْ بها الحياة كلماتٌ موجزةٌ ليست ككل الكلمات حياة جديدة، فالشيوخ أمثالي لا يفرحون بيسر ولا يحزنون إلا للخطب الجسيم، لكن ان تستفز الروح بضعُ كلماتِ منقوعة بعسل، فذلك هو ما يُخرج الروح من طورها المعتاد لتعيشَ لحظات فرحٍ وأسى مزدوج خلافا لكل نظريات العلماء.

وأنا واقعا رغم كثرة تذكري لوالدي في مواقف بعينها، لم يخطر ببالي يوما أن أتذكر ما كان يبدو عليه (رحمه الله) عندما مات، فأنا حينها كنت مشغولا بجبال من الهموم والأسى. والحسرة والألم الذي يأكل قلبي؛ وأنا أرى الإنسان الذي أسعدني ودللني يمتطي صهوة الموت ليغادرني إلى الأبد، وإذا بالشاعر الجزائري المبدع عبد القادر مكاريا يتطوع ليرسم تلك الصورة التي كنت أحتاج إلى رؤيتها بشدة، بل أشتاق لذلك مثل اشتياق ظمآن في صحراء التيه إلى قدح ماء بارد، وهذا يثبت أن الشعراء الحقيقيين هم سحرة طيبون، هم ملائك الكلمات؛ التي يُنهكون أنفسهم كمداً من أجل أن يرسموا من خلالها صوراً تُسعدنا، تُشعرنا بوجودنا، بعبثِ أن نفرط بما نحن فيه، وبوجوب أن نحافظ على هذا الموروث إلى آخر لحظات وجودنا. تلك هي الصورة التي رسمها مكاريا وهو يتذكر لحظات موت والد والابتسامة التي كانت مرسومة على وجهه:

باسما، مات أبي

كجميع الأنبياء

أمسك الغيمة شوقا

هزها

ساحت مياه الله

ثم ضمّتْه السماء.!

نعم هذه هي الصورة التي اتخيل أن والدي مات، وهي مرسومة على وجهه، هكذا كان أبي يبتسم عند الشدائد، وكأن المكاره تحيي بروحه كل عناد الكون، وتترجم رغبته بالصمود مهما عتت الخطوب، فلقد تذكرت أن والدي رقى إلى السماء لتضمه بحنانها العذب الرطيب والابتسامة ترتسم على محياه، وكأنه في حفل عرس، وقد نجح الشاعر في ترميم تلك الصورة وأعاد لها الحياة وكأنها تحدث الآن امام اعيننا، فأجاد وأبدع.

ولكي يوسع مدى تأملنا، ويحول الصورة إلى باناروما، لم يكتف الشاعر برسم مخطط روحي للابتسامة فحسب، بل تجاوز ذلك فغاص في عمق المشاعر، وتماهى مع خفايا الروح البشرية، فترجم لحظات ما كان الراحل يشعر به

مرَّ حقلٌ أخضر في راحتيْه

وعلى فِيهِ جرى جدولُ ماء

نطّ من عينيْه وهجٌ

ملأ الجو بهاءً، وعطوراً، وغناء.

هذه الرؤية الميتافيزيقية لا يمكن لأدق الكاميرات أن تصورها بكل تلك الدقة المدهشة، فقط قلم الشاعر المرهف بالإحساس نجح في نقلها بأمانة، فعانقت الضمير. من هنا نجد سيل الذكريات التي سطر مكاريا حقيقتها لم يتوقف عند هذه اللقطة المشرقة بالتفاؤل والأمل، لأن الراحل حلق مع الفراشات، فلقد أبصر الواقع وما وراء الواقع، وأدرك الحقيقة، حقيقة أن يموت الذي كنتَ تعشقُ بقاءهُ حد الوله، ويترككَ وحيدا كفرخٍ أزغبٍ سقط من عشٍ، وبات في العراء يترقبُ الخطرَ الداهم:

حوله حامتْ فراشاتُ

وحولي زرعَ الخوفُ البكاء

قالت الأرض: تمنّى!

قلتُ: ما الذي يطلب فرخٌ

فجأة، صار وحيداً في العراء

هل سيكفيه الرثاء؟

ولأن مركز الأب الخالد لا يقاس عند العقلاء بمقدار ما يملكُ من مال وضِياع وأطيان ومركز وظيفي وكل متاع الدنيا، فهو الأب، فهو حتى لو كان معدما فقيرا، يكفي أنه يحمل هذه الصفة العظيمة التي أسبغها الله عليه إكراما، فجعله ربا صغيرا، إنْ كان لم يوجب السجود له، فقد جعله سبحانه السبيل إلى رضاه: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين"، هذا بالضبط ما أراد مكاريا توضيحه لنا ليشعرنا بالامتنا، وهذا ما أرادنا أن نعرفه:

باسماً، مات أبي

لم يكن طودا، ولكن

في عيوني كانَ كونا من عطاء

لم يكن ربًّا، ولكن

في حياتي

كان بستانَ رجاء

كان كالصيفِ إذا أعطى وغنى

وإذا جفّتْ ليالينا شتاء

كان يحمي مضغةَ القلبِ من البرد

ومن الخوفِ

وإعصار الطريق

كان ماء في براكين الحريق

كان كفّا نحو صيحات الغريق

كان لي كل الذي يعنيه

للعمرِ صديق.

نعم هذا هو الأب، هذا الكائن الأسطوري الذي عشنا حقيقته؛ التي نافت زهوا على جميع الأساطير. وسلمت ذائقة شاعرنا المبجل الذي ترجم مكنونا كان حبيسا في صدورنا التي تنوء بحمله، ترجمه إلى أحاسيس تضوع بُشرى لكل سميع.

وبرأيي أن الشاعر في قوله هذا تألق مرات عديدة، مرة مثل فنان عالمي يعرف كيف يرسم الصور المبهرة، ويبعث الإيحاءات المثمرة؛ التي تفتح أمامك آفاق التساؤل والحيرة. وأخرى مثل عازفٍ يعرف كيف يجعل النوتات تتراقص، وتسحبك برفق لترقص معها. وثالثة أنه لم يقف عند حدود المجد هذه، بل تجاوزها، ليستكن الأب الراحل داخل الروح المعذبة التي يقتلها الوله، وما تشعر به في لحظات الفراق الأبدي، حين تودع ركنا حصينا كانت تلجأ إليه في كل ملمة، وسوف يكشف فقدانه ظهرها لعاديات الزمان، بعد أن كان الأب جوشنا حاميا من كل سوء. وكم كان الشاعر حصيفا وهو يترجم تلك اللحظات التي تمر ثقيلة على الإنسان بقوله:

باسماً، مات أبي

وغفا في الروح مليون جواب

 كيف يمكن أن تشرق شمسٌ

وهو لا يمحو السّحاب؟

كيف يمكن أن يثمرَ قمحٌ

وهو لا يغريِ التراب؟

كيف يمكن أن يثغو خروفٌ

وهو لا يفري الجراب؟

كيف يمكن أن تضحكَ أمي

وهو لا يطرق بابْ؟

كيف يمكن أن يدعو إمامٌ لصلاةٍ

وهو لا يهمسُ للقلب دعاءً؟

ثم يتلو خاشعاً أمّ الكتاب؟

مع حشد الرؤى الذي يستفز مكامن الروح، مع كل تلك الصور البهية النقية المليئة بالآهات والحسرات والوجع اللذيذ، لم يغفل الشاعر حقيقة أن الوجع لا يُتَرجَمُ، ولا يشعرُ بالوجع إلا من كابده، وصدق من قال: "لا يؤلمُ الجرحُ إلا مَن بهِ ألمُ". فأراد شاعرنا المبجل أن يعبر عن هذه الحقيقة، حقيقة أن فراق الأب؛ ومهما تفاعل الناس معه وتعاطفوا، إلا أنه وجع دفين، هناك في أعماق الروح، ينهش كوحش كاسر، لا يعرفه إلا اليتيم، اليتيم وحده يشعر بهذه الحقيقة، لا مثل غيره من الناس، حتى وإن بدت عليهم مظاهر الحزن والتأثر، فشعور اليتم وحده هو الترجمان الحقيقي للخسارة العظمى، خسارة أن تفقد أباك:

باسماً، مات أبي

وتعرّتْ سوءةُ الكونِ أمامي

وقفَ الشعر بعيدا

يتملّى سحنتي السوداء

في مرآة حزني

ويدسُ الصمتَ في ريقي

وبردا في عظامي

لم أجد إلا اليتامى

يتهجون كلامي!

هكذا ختم شاعرنا الكبير عبد القادر مكاريا، شاعر الجزائر الحبيبة لوحته المفجعة، فأغنانا عن قراءة ألف كتاب، وبعث في أرواحنا شحنة ألمٍ أشعرنا كم فعل اليُتمُ بنا، حتى لو تجاوزنا السبعين، فالأب هو الأب ولا يمكن أن يصور مصيبة فراقه إلا الشاعر الساحر الذي فقد أباه واوجعه اليتم.

شكرا صديقي فقد أفرحتني وابكيتني.

***

الدكتور صالح الطائي

قراءة نقدية تحليلية في نصّ: كروان – للشاعرة سونيا عبد اللطيف – تونس.

***

القراءة:

قصيدة (كروان) للشاعرة التونسية: (سونيا عبد اللطيف) هي نصّ مفعم بالرمزية والمفارقات الوجدانية، يتنقل بين مستويات شعرية معقدة تعكس التوتر بين الذات الإنسانية والوطن. القصيدة ليست مجرد تعبير عن حب الوطن أو الحنين إليه، بل هي تجسيد لألم عميق وشعور بالتمزق الداخلي الناتج عن اغتراب الفرد عن وطنه في زمن الصراعات والتحولات.

1. البنية العميقة للنص: التكرار واستخدام الأنماط المتوازية:

النص يعتمد بشكل مكثف على التكرار، وهو أداة شعرية مؤثرة في هذا السياق. الشاعرة تعيد فكرة (الوطن) بشكل مستمر في عدة صور ورؤى: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي) و(الوطن الذي أحمله بين ضلوعي صار كبيرًا). هذا التكرار لا يقتصر فقط على تكرار المعنى بل يعكس التمزق والاحتدام الداخلي بين الذات والوطن. كل مرة يعاد ذكر الوطن، يبدو أنه يتغير أو يتسع أو يتحطم، وكأن هذه العلاقة بين الشاعرة ووطنها هي علاقة تتطور في الزمن، وتتصارع مع التحولات التي تطرأ على الواقع.

2. الوطن بين الحرية والقيود: تجسيد الكائن الأسير:

تبدأ القصيدة بصورة شاعرية قوية وذات دلالة رمزية عميقة: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي / مثل كناري أسير / بين قضبان قفص صغير). هذه الصورة تُسقط معاني كبيرة على الوطن. الشاعرة تبدأ بتصوير الوطن ككائن حي، لكنه أسير، محاصر، مكبل بالقفص. الكنايات هنا تشير إلى فكرة الحرية المفقودة؛ فالكناري يمثل طائرًا معروفًا بجماله وصوته العذب، لكنه لا يستطيع أن يعبّر عن ذاته بحرية في القفص. القفص هنا هو الأنظمة السياسية، القيود الاجتماعية، أو حتى الواقع المأساوي الذي يعيشه الوطن. هكذا، يبدأ الوطن رمزًا للحرية المفقودة، ثم ينتقل إلى تعبيرات أخرى تشير إلى سلب هذه الحرية.

3. التوتر بين الحلم والألم: الحلم بالسلام والانفجار الداخلي:

في الجزء التالي من القصيدة، ينتقل النص من حالة التعايش السلمي مع الوطن إلى الصراع الداخلي الذي يشل الحلم:

(كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟)

هنا، تطرح الشاعرة أسئلة تفضح التحول المأساوي في العلاقة بين الإنسان ووطنه. فالأسئلة الوجودية حول السلام والأنسام تحيلنا إلى واقع موحل بالصراعات والدمار. الشاعرة ليست في حالة استجداء للأمل بقدر ما هي في حالة احتجاج على واقع أساسي يتسم بالانكسار. السّلام هنا لا يأتي فقط من غياب الحرب، بل من غياب أعمق: غياب الحرية الداخلية للإنسان الذي تم اغتيال أحلامه.

ثم تأتي صورة (الرياح التي كسرت له العظام)، التي تمثل قوى خارجة عن إرادة الإنسان، قوى الاحتلال، القمع، والفقر، التي تنهك الوطن وتكسر ظهره، مما يفضح حالة الانهيار التي يمر بها. الطائر (الكروان) الذي كان يغرّد ينقلب إلى كائن يبكي من الألم، وهو ما يعكس صراع الذات مع واقعها الفج.

4. التدمير الذاتي: صورة الشهداء والجروح الوطنية:

ثم تأتي الصورة الكارثية التالية في القصيدة:

(أحرقت البيادر، أحرقت الأشجار، أحرقت قلوبًا جلّنار).

هذه الصورة تحمل في طياتها معانٍ دموية عن التدمير والخراب. الأشجار تمثل الحياة، والبيادر تمثل الثروة والخصوبة، أما (قلوب جلّنار) فترمز إلى الجمال والإيمان في نفوس الناس، التي كانت تتمنى السعادة والعدالة، لكنها أحرقت في سبيل التسلط والفساد.

إن إحراق هذه الرموز يُظهر الدمار النفسي الذي يطال الإنسان العادي، الذي كان يسعى لبناء وطن أفضل. كما أن (قلوب جلّنار) تشير إلى خيبة الأمل في وجدان الناس الذين (تهشّ) حياتهم ولم يعد لديهم شيء يطاردونه سوى الخراب. لا تقتصر هذه الاحتراقات على الأراضي والأشجار فحسب، بل تمتد لتطال الروح والجمال البشري، لتشكل بؤرة الألم المتراكم على قلب الوطن.

5. من الكينونة إلى الاغتراب: الوطن يتحول إلى وحش:

ثم نصل إلى النقطة الأكثر تراجيدية في النص، حيث تقول الشاعرة:

(صار كبيرًا / وحشا غريبا).

الوطن الذي كان حلمًا أو رمزًا للدفء يتحول الآن إلى وحش ضخم لا يمكن التغلب عليه. هذا التحول هو تعبير عن الاغتراب الداخلي، حيث تشعر الشاعرة بأن الوطن أصبح شيئًا غريبًا عنها، شيء لا يمكن التفاهم معه، وكأنه أصبح كيانًا معاديًا. الوطن لم يعد مكانًا للأمان والراحة، بل أصبح كائنًا ضخمًا يثير الفزع والذعر. صورة الوحش تقابل صورة الطائر في بداية القصيدة، وتظهر بشكل صارخ التناقض بين ما كان عليه الوطن في الذاكرة وما أصبح عليه في الواقع.

6. التسليم بالمأساة: الصراع بين الوعي والوجود:

أخيرًا، يُختتم النص بـ:

(ليت قلبي / ما عرف حنانا / ما عشق أوطانا)

هنا نرى لحظة التسليم بالحزن، حيث تتمنى الشاعرة لو أن قلبها لم يعرف الحب. هذا التمني ليس مجرد تهكم أو سخرية، بل هو تعبير عن اليأس العميق: لو أنني لم أحب هذا الوطن، لكانت معاناتي أقل. لكن الفاجعة تكمن في أن الوطن صار جزءًا من كينونتها، مثل الدم في الشريان والوجدان في الإنسان. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: فالوطن، رغم الخراب والألم، يبقى جزءًا من الذات، لا يمكن الفكاك منه، حتى لو كان مصدرًا للتعذيب الداخلي.

7. الدلالة الفلسفية: وجود الوطن في الذات:

القصيدة تنطوي على تأمل فلسفي عميق حول الكينونة والوجود. تطرح الشاعرة تساؤلات وجودية حول الذات ووطنها، وهو ما يعكس الاغتراب الوجودي بين الوعي الوطني والواقع المرير. الوطن هنا هو فكرة وجودية، يمثل الانتماء والهوية، ولكنه في نفس الوقت يشكل عبئًا داخليًا للإنسان الذي يشعر بالتناقض بين حبه لوطنه وبين ما آل إليه هذا الوطن من خراب.

خلاصة القراءة

قصيدة (كروان) هي نص متشابك رمزيًا وفكريًا، تتراوح فيه الأحاسيس بين الحلم والخيبة، وبين الأمل في وطن حر وبين الألم الناتج عن الفساد والدمار. الشاعرة تُظهر من خلال الصور الشعرية المبدعة التحولات النفسية والوجدانية التي يعاني منها الإنسان تجاه وطنه، بل والوجود ذاته، حيث يُصبح الوطن أكثر من مجرد مساحة جغرافية؛ إنه إحساس داخلي لا يمكن التخلص منه، حتى وإن كان سببًا للألم والاغتراب.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................................

كروان

بقلم سونيا عبد اللطيف

***

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي…

مثل كناري أسير

بين قضبان قفص

صغير

تراه يغرّد

تراه فرح

تراه…

*

مثل جناح غادره سربه

اطلق لطيره العنان

رفرف مع الغربان

كسرت له الرّياح العظام

أجهش بالبكاء الكروان:

كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟

*

مثل نبضة

مثل قدحة

مثل  شرارة…

أحرقت البيادر،

أحرقت الأشجار

أحرقت قلوبا جلّنار

كانت تهشّ …

قسما

قيما

كيانا

*

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي

صار كبيرا

وحشا غريبا

حطّم الأسوار

تفجْر بركانا

*

ليت قلبي

ما عرف حنانا

ما عشق أوطانا

ما أدمن بلدانا

ما دخل سهولا أو صعد جبالا

*

وليت الوطن …

ما حرّك فيّ ذرّة

وجدان

ما سرى كالدّم

في الشّريان

ما سكن الإنسان

وظلّ يشدو في القلوب

كروان

***

سونيا عبد اللطيف

 

(يبدو النهر هادئا وآمنا هذا المساء، وأزهار الفاوانيا متفتحة، بينما يطفو القمرعلى تيار الماء الجاري، والمد والجزر يحمل النجوم – الشاعر الصيني تشيان تشي – سلالة تانغ 618 – 907 م)

***

تعرف الفاوانيا بعدة أسماء، منها (عود الصليب، ورد الحمر). وهي نباتات عشبية معمرة أو حولية بأوراق خنجرية الشكل. تزرع غالبا في الحدائق الخاصة والعامة منذ القدم لأزهارها الزاهية الأخاذة التي تحمل نفس الاسم (وردية، بيضاء، حمراء في الغالب)، وتعرف الكبيرة منها في اليابان ب (ملكة الزهور) و(شو يو) أي الأجمل بالصينية. وأصلها من شمال غرب الصين (1000 سنة قبل الميلاد)، وقد شجعت على زراعتها الامبراطورة (وو) من أسرة تانغ (684 – 705 م). وكان انتقالها إلى اليابان وأجزاء أخرى من آسيا خلال الفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر. وقد وردت كثيرا في الأعمال الفنية (الخزف واللوحات والمفروشات والوشوم.. الخ) والشعرية اليابانية، وبخاصة شعر الهايكو، وعلى وجه الخصوص تلك القصائد التي تعود إلى فترة إيدو (1603 – 1868)، وهي أزهار آسرة، تمثل الجمال الأنثوي والغنى ونبل الروح والحظ السعيد والأناقة والمكانة الاجتماعية والاقتصادية، ومنها القصيدة الرائعة التالية للشاعر الياباني (كيتاو):

عندما تتفتح أزهار الفاوانيا

يبدو الأمر كأنه ما من زهور

أخرى من حولها

و بحسب المصادر كان الشاعر الياباني (كوباياشي إيسا) (1763 – 1828 م) في مقدمة هؤلاء الشعراء من حيث عدد قصائد الهايكو التي ألفها حول الفاوانيا، وبلغت (84) قصيدة من أصل (2000) قصيدة تقريبا. ومنها هذه القصيدة:

هنا يقيم إله الغنى

والحظوة

الفاوانيا

(أما يوسا بوسون) (1716 – 1783 م) فقد كتب (28) قصيدة هايكو حول الفاوانيا من أصل (3000) قصيدة تقريبا. ومنها:

وعاء الأرز

مملوء حتى الحافة

زهرة فاوانيا واحدة

*

ضوء الشمس في المساء

يتأرجح ظل الفاوانيا

رويدا رويدا

*

تحمي نفسها من السحب المطيرة

من كل الجوانب

الفاوانيا

*

برعم الفاوانيا

يتفتح

ليطلق قوس قزح

*

فم ملك الجحيم

جاهزة هي بتلات الفاوانيا

لتبصق

(إينما – أو هو ملك الجحيم في البوذية)

*

تطارد صورتها العقل

بعد سقوطها

زهرة الفاوانيا

بالإضافة إلى قصائد هايكو عديدة ل (كييتسو، تان تايغي 1709 – 1771، جيوداي، هوكوشي، ريومين، تشيسوكو، هاكو، تورين، بايشيتسو، وكاكين) وغيرهم كثر. ومنها:

 (1) - ماتسوو باشو (1644 – 1694)

تغادرالنحلة

زهرة الفاوانيا

مترنحة

(2) – فوكودا تشييو – ني (1703 – 1775)

هذا القلب العجوز

يحدق إلى عود الصليب

طوال اليوم

(3) - هوكوشي

تساقطت زهور الفاوانيا،

افترقنا

دون أسف

(4) – كاكين

تلك الفاوانيا !

أريد أن أرش الماء البارد

على وجهها

(5) - تورين

من أجل الفوز برؤية الفاوانيا

من الأفضل ارتداء كيمونو خفيف

و تناول الشاي الصيني

(6) – ماساوكا شيكي (1867 – 1902)

أتناول التفاح الأخضر

بإزاء زهور الفاوانيا

سوف أقضي نحبي

(7) – تايزو (القرن 20)

ظهيرة غائمة –

زهرة الفاوانيا في الجنينة

كم هي بيضاء ؟

(ترجم له هارولد ج. ايزاكسون مجموعة هايكو في 90 صفحة بعنوان - الفاوانيا كانا – المنشورة في عام 1972 وكانت المقدمة بقلم جورج ألين وأونوين)

أما في مجال الرسم فقد كانت الفاوانيا حاضرة أيضا وبقوة. وقد برز رسام المناظر الطبيعية ومبدع أسلوب (المانجا) الفنان الشهير (كاتسوشيكا هوكوساي) (1760 – 1849) الذي رسم لوحة (الفاوانيا والعصفور) في عام 1791 ولوحة (الفاوانيا والفراشة) في عام 1804 وغيرهما. وأيضا الفنان الكبير (أوتاغاوا هيروشيغي) (1797 – 1858) صاحب ال (100) منظر، وأشهرها لوحة (في الحديقة مع الفاوانيا) التي رسمها في عام 1852. وهوكي (1780 – 1850) الذي رسم (زهرة الفاوانيا) و(تانيغامي كونان) الذي رسم أيضا (زهور الفاوانيا) و(كانو سانراكو). والرسام الأشهر في عصر إيدو (أوتاغاوا كونيسادا) (1786 – 1865) الذي رسم لوحة (زهور الفاوانيا في فوكاجاوا) في عام 1864. وجاء بعدهم (كوسون أوهارا) (1877 – 1945) أستاذ الكاتشو إي (صور الطيور والزهور) المشهور بلوحته (السنونو والفاوانيا 1910). وغيرهم كثر.

وهنا لابد من الإشارة إلى الجذور اللغوية لاسم (فاوانيا) الذي يعود به البعض إلى اليونان القديمة. وقد ارتبط بمطبب الآلهة (بايون) الذي عالج (هاديس - هيدز) أخ هيرا وبوسيدون بالسائل الحليبي للزهرة. وب (بايون) تلميذ (أسكليبيوس) إله الطب في الديانة والأساطير اليونانية القديمة الذي ساعده (زيوس) ليتحول إلى زهرة. كما ارتبط الاسم ب (بيونيا) الحورية الجميلة التي حولتها إلهة الجمال والحب والجنس (افروديت) إلى زهرة آسرة بسبب الغيرة بعد أن غازلها إله الشمس، الموسيقى والرماية (أبولو) على نحو واضح. وهكذا أصبحت زهرة الفاوانيا في الغرب رمزا للجمال والخجل الأنثوي والبلوغ والرومانسية والعاطفة. وقد بدأت قصة انتشارها هناك في القرن الثامن عشر ومن حدائق الأغنياء.

- إضمامة من الهايكو العالمي مترجمة عن الإنكليزية:

(1) – بريسيلا ليجنوري / الولايات المتحدة الامريكية

الفاوانيا المزهرة -

أمام النحلة الوحيدة العديد من الأماكن

لتختبىء فيها

(2) – ليليا راشيفا دينشيفا / بلغاريا

موسم الربيع...

رائحة الفاوانيا

تملأ الجو

(3) – شكري نيماني / البانيا

قال انه لا يقدر على تكديس

الفاوانيا في المروج

سوف لن تعيش جيرالدين*

(4) – مارلين تشين / الولايات المتحدة الامريكية

مائة نملة نارية

حمراء

تطوف في زهرة الفاوانيا

(5) – جوران جاتاليكا / كرواتيا

الوقوع في الحب...

الوسيلة التي تجذب بها الفاوانيا

الفراشة

(6) - آني ويلسون / المملكة المتحدة

الفاوانيا البيضاء...

ثقل الفراق

في وقت مبكر جدا

***

بنيامين يوخنا دانيال

............................

* جيرالدين: اسم فتاة.

- المصادر الإنكليزية:

1 – A bee by Matsuo Basho. https: // allpoetry. com

2 – The peony. https: // www. ponterest. com

3 – Japanese Poetry Peony. https: // www. treepeony. com

4 – Twenty Five Haiku، Marilyn Chin – The Poetry Foundation. https: // www. poetryfoundation. org

5 – Poetry Peony. https: // www. nippon. com

6 – Peonies in Evening Light. https: // mrhass.co

10 – Chinese Peony Poems. https: // www. treepoetry. com

11 – Fukuda Chiyo – ni poetry. https: // www. poemofquotes. com

12 – Carpe Diem، Sparking Stars # 3 when the peonies ….. https: // chevrefeuillescarpediem. blogspot. com

13 – Japanese Poetry Flower’s Meaning. https: // poenypaintings. blogspot. com

14 – Art on Tuesday: Canary and Peony. https: // japankaleidoskop. wordpress. com

15 – Shiki – discovery of haiku. https: // wkdhaukutopics. blogspot. com

16 – Masaoka Shiki. https: // terebess. hu

17 – Peony Petal Pushing. https: // katiepickardfawcett. wordpress. com

18 – Between dream and metaphor، haiku of Yosa Buson. https: // www. vianegativiva. us

19 – Modern Japanese Haiku. https: // terebess. hu

20 – Peony Flower Meaning، Symbolism، Color Meaning. https: // hellofearless. com

21 – re: Virals 124 – The Haiku Foundation. https: // thehaikufoundation. org

قصيدة جنان الحسن تحمل في طياتها تعبيرًا عميقًا عن الأنا الشاعرة وعلاقتها بالعالم من حولها. تبرز الأنا ككائن متأمل، يتنقل بين بيئات متعددة (الصحراء، البحر، الغابة، الليل، والخريف) كل منها يعكس جانبًا من مشاعر الفقد، الحنين، والوحدة.

الأنا الشاعرة

تظهر الأنا الشاعرة ككائن هش، مُفكك، يسعى للتعبير عن تجاربه الوجودية. من خلال الصور المختلفة، تُبرز مشاعر العزلة والضياع، حيث تتحول إلى "حبة رمل" أو "صدفة" أو "شجرة" تعبر عن عدم قدرتها على التحكم بمصيرها. في كل مشهد، تُظهر كيف يمكن للوجود أن يكون متعثرًا ومؤلمًا، لكن في الوقت ذاته هناك جمال في هذا الألم.

الأبعاد الرمزية

البيئات المتعددة: تعكس كل بيئة تجربة إنسانية مختلفة. في الصحراء، تجسد الوحدة والفقد، بينما في البحر، يتمثل الأمل والخيانة. وفي الغابة، يُظهر الصراع من أجل البقاء والتكيف مع الظروف.

التفاعل مع العناصر: الأنا تتفاعل مع العناصر المحيطة بها، مما يضفي طابعًا شخصيًا على الطبيعة. كل عنصر يحمل معانٍ خاصة، مثل الرياح التي تعبر عن الأماني، أو الشمس التي تمثل الأمل والضوء.

الحنين والغياب

يتكرر موضوع الحنين والغياب في الأبيات، حيث تؤكد الأنا الشاعرة على مشاعر الفقد والذكريات المؤلمة. فالشعور بالوحدة يتداخل مع الرغبة في التواصل والانتماء، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر عمقًا.

النهاية المفتوحة

تختتم القصيدة بسؤال عن المستقبل، مما يضيف بعدًا من الغموض وعدم اليقين. هذه النهاية تعكس عدم القدرة على التنبؤ بمصير الأنا الشاعرة، مما يجعلها تجسد تجربة إنسانية عالمية.

والآن، دعونا لنلق نظرة فلسفية عميقة على مضمون القصيدة:

الأنا الشاعرة ككيان متغير

الهشاشة والوجود: الأنا تُظهر نفسها ككيان هش، تائها في فضاء واسع. تعبير "أنا مجرد حبة رمل" يعكس الفكرة الفلسفية الوجودية، حيث يُعتبر الإنسان جزءًا صغيرًا من كيان أكبر، يتلاعب به الزمن والظروف. يُشبه وجودها بالزخرفة على رمال الشاطئ، التي لا تلبث أن تُمحى.

التحول المستمر: تتجلى الأنا الشاعرة في صور متعددة (حبة رمل، صدفة، شجرة، نجم)، مما يعكس فكرة التحول الدائم، التي تتبناها الفلسفة الهيجلية. هذا التعدد يُظهر تناقضات النفس البشرية، والتجارب المتنوعة التي تشكل الهوية.

الصراع مع الغياب والحنين

الغياب كحقيقة وجودية: الصورة المتكررة للغياب تجسد فقدان الهوية والانتماء. تعبيرات مثل "قصم ظهرها الغياب" تشير إلى أن الفقدان ليس مجرد حدث، بل هو حالة وجودية تتغلغل في الذات. كما يطرح هايدغر مفهوم "الوجود في العالم"، حيث يكون الغياب جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

الحنين كحركة داخلية: الحنين يمثل سعيًا نحو الكمال، أو إلى ما فقدته الذات. هذا الشعور يرتبط بمفهوم "النوستالجيا"، حيث يشكل الماضي المفقود إطارًا مرجعيًا للحاضر، مما يجعل الأنا تتساءل عن قيمتها في العالم.

العلاقة مع الطبيعة

التفاعل الديناميكي: الأنا لا تعيش في عزلة، بل تتفاعل مع البيئة المحيطة. في كل صورة، تعكس الطبيعة حالتها النفسية. الأنا كـ "شجرة" تُظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة، حيث تنبعث الحياة من الألم والصراع. هذا التفاعل يعكس فكرة الفيلسوف رومان رولان عن وحدة الإنسان والطبيعة.

الطبيعة كمرآة: تمثل الطبيعة مرآة تُعكس فيها مشاعر الأنا، مما يجعلها ليست مجرد خلفية، بل شخصية حيوية تعيش التجربة. كأن الطبيعة تُحدث الأنا، وتُساعدها على فهم وجودها.

الغموض والإمكانات المستقبلية

السؤال عن الغد: تنتهي القصيدة بسؤال مفتوح عن المستقبل، مما يبرز عدم اليقين في الوجود. هذا العنصر يعكس الفلسفة الوجودية، حيث تُعتبر الحياة مليئة بالأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها بسهولة. مثل سارتر، الذي يؤكد على أن الإنسان محكوم بالحرية والاختيار، فإن الأنا هنا تُسائل نفسها عن مصيرها.

الأمل والتجديد: تتواجد إمكانية التحول والتجديد في كل نهاية. الأنا تُشير إلى احتمال التجدد من خلال "الأماني الجديدة" التي تُخلق من الفوضى. هذه الفكرة تتماشى مع فلسفة نيتشه حول قوة الإرادة.

خلاصة

قصيدة جنان الحسن ليست مجرد تعبير شعري، بل هي رحلة فلسفية تستكشف الأبعاد الوجودية للأنا. وتعكس تجربة إنسانية عميقة تتفاعل مع الألم، الفقد، والطبيعة، مُتناولةً أسئلة عن الهوية، الوجود، والمصير. بهذه الطريقة، يصبح الشعر وسيلة للتأمل في حقيقة الحياة ومعانيها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

.........................................

الذات حين تكون

بقلم: جنان الحسن

***

في الصحراء

أنا مجرد حبة رمل تلاعبت بأمانيها الريح طويلا قبل أن تسقطها سهوا بفعل الحمل الثقيل

أثقلها الحنين وقصم ظهرها الغياب..

في البحر

أنا مجرد صدفة ظنت أن قلبها الأبيض لؤلؤة ثمينة فمنحته لبحار عابر

وضعه قلادة في عنق امرأة أخرى

في الغابة

كنت شجرة أصرخ في وجه الشمس كل صباح

أكسر وهجها عن أحلام سقطت من حقائب الليل حين الرحيل

أخبئ مؤونة السناجب للشتاء

أشارك طائر النقار موسيقاه التي يعزفها على جسدي

حتى باعني الحطاب لدرويش فقير فقد ساقه في الماراثون اليومي للركض خلف الرغيف..

في الليل

أنا مجرد نجم يراني المؤرق رقما

ويراني العاشق ونيسا والضائع يراني دليلا

بينما أنا حجر صغير يقذفني الجميع بالأمنيات

ولا أدري متى أتشظى وأسقط حصى صغيرة تلهو بها أقدام الفصول لتغدو أماني جديدة..

في الخريف

أنا أغنية هاربة من حقول بعيدة حملني الناي في ثقوبه وأعطاني لرياح الشتاء

أحب الطرق على النوافذ المكتظة بالوحدة والخالية من دفء العائلة والصحاب..

وأما في الغد فما زلت لا أعلم ماذا أو أين سأكون؟

‏أحتوى الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف على 30 قصيدة من شعر النثر حيث جاءت تحت عنوان "أشجار بلون الهديل"، وصدرت في كتاب فيه من الصفحات 102 صفحة من الحجم المتوسط حيث قام بنشر الديوان "دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع".

‏ويستمر الشاعر سعد ياسين يوسف في نهجه الشعري الذي يركز فيه على لغة القصيدة والشكل فيها والبنية، قاصدا إحداث الدهشة عند القارئ لقصيدته، حتى الوصول لمرحلة الاستمتاع بالشعر، رغم اختياره لموضوعات جلّها فيها الألم إحساسا، يكاد أن يكون الدال الأعمق على النهج الشعري، ومراد القصيدة عند يوسف.

 وقد تنوعت قصائد ديوان "أشجار بلون الهديل" شكلا ومضمونا، وعدد كلمات. فهناك من القصائد ما أعده قصيرا جدا، وهناك ما يأخذ ثلاث إلى أربع صفحات من الديوان، حتى إذا أختصر القصيدة راح يكثف في لغتها ويزيد في توتر آفعالها، وصولا إلى المفارقة في خاتمتها، لأحداث الدهشة عند قارئ يتطلع إلى الجديد في الموضوع.

 وإذا كان بعض النقاد قد عدوا سعد ياسين يوسف شاعر الأشجار لتركيزه في إصداراته الشعرية السابقة على الشجرة كرمز ومعاني، فإن لأشجار هذا الديوان لونها الخاص الذي إنزاح عن أصله فأصبح كالهديل (صوتا للحمائم)، فكأن الشجرة وهي تغذي بستان الشعر وتتغذى منه، قد أمتدت جذورها عميقا في صخر الأرض لتفتته، وتبني على أغصانها أعشاشا لحمائم لا تكف عن الهديل الذي يكون في أحايين كثيرة (قصائد)..هديلاً نابعا من ألم. 

يقول الشاعر جبران خليل جبران (١٨٨٣-١٩٣١)"ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم".

 ثم إن اللغة الشعرية هي أسلوب تعبير يستخدمه الشاعر ليخلق تجربة جمالية وفنية لابد لها من أن تختلف عن اللغة اليومية، التي يستخدمها الناس في الحوار اليومي مثلا أو في النثر العام.  وعليه فاللغة الشعرية لابد من أن تتميز بالإيقاع، والصورة الشعرية الفريدة، واستخدام الاستعارات، والرموز لتحفيز الذهن.. ذهن المتلقي، بصور تعبر عن معاني عميقة بطريقة غير مباشرة.

 وقد تميل اللغة الشعرية إلى الغموض أحيانا مما يترك المجال واسعا أمام المتلقي للتأويل والتفاعل مع القصيدة.

‏ومن موضوعات الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف، موضوعة الحرب عامة، والحرب على غزة خاصة، والزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، والشهداء في حريق مستشفى الحسين في ذي قار العراقية في عام 2021.

ثم ان من موضوعات الديوان الأخرى: الأم، والأمكنة (المدن) كمدينة القليبية التونسية، والوباء، والحب الأول، وحضور الشخصيات الكبيرة كالشاعر مظفر النواب..

 ولا بد للشعر عند سعد ياسين يوسف من أن يوظف التراث والموروث الشعبي فتقرأ في ديوانه الجديد أسم الحجاج أبن أرطأة، وتقرأ خمبابا، وجلال الدين الرومي، وتسير مع الشاعر في الرابية وحي التوراة، وتسمع معه المحمداوي، وتشاركه رقصة النوبة.

وفي رصدنا الفني الجمالي لبعض من قصائد الشاعر يوسف في ديوانه "أشجار بلون الهديل" نشير الى قصيدة "ما تطحنه الحرب"..

"الحرب تطل بوجه

من رماد

بضفائر النار التي

تلتف حول البيوت".

‏فكأن الحرب بصورتها الفاجعة هذه تطل قبيحة مؤنسنة. لها وجه ولكنه من بقايا النار، ولها ضفائر من النار نفسها، ولكن هذه الضفائر لا يمكن لها إلا أن تكون شرسة، فتظل تلتف لتطيح بالبيوت.. دلالة على البشر والحجر..والفناء والدمار…وليستمر هذا الألم:

"مهشمة دمى الأطفال

تسقط فوق ما تبقى

من جذوع الشجر القتيل

الحرب رحىً

لا تطحن القمح للفقراء

قد تطحن الشمس

فتنقلب آية النهار".

‏وهكذا يذهب الأطفال كما النساء والشيوخ والأبرياء ضحايا لحرب قبيحة، فتتهشم الدمى.. دمى الأطفال.. لتكن دالة على الضحية التي توسدت جذع الشجر الذي لم يسلم من الحرب.  هذه الحرب التي كالرحى تشبيها، ولكنها رحى تطحن الكون، وتقلب المدار، فتصبح النهارات كالليل، وتختفي الشموس في لجة النيران والألم.

وفي قصيدة " وردة حمراء في يد شاحبة" والتي جاءت في زلزال أرضي، يفاجئ الشاعر القارئ بلفظة الأنين مبتدأً قصيدته:

 " أنقطع الأنين

لا

لا لا

من قال؟

فالأسقف المنهارة

تعلو بالشهيق

ثم تهبط

لا تطلقوا الرصاصة

الأخيرة

أسكتوا المحركات

الهادرة

المطارق الكبيرة

لوذوا بصمت عميق

وأرهفوا السمع

فللسماء

ما يشبه الهديل"..

‏وهنا تتجسد لغة الشعر في قصيدة الشاعر سعد ياسين يوسف فكأن ما يصاعد في السماء يشبه الهديل، في قصيدة بدأت بالأنين (دلالة الألم) والأسقف المنهارة التي تنتظر أجنحة الملائكة:

" يا أجنحة الملائكة

كوني الوسادة

لمن توسدوا كتل الركام"

هو الألم الذي ما أحوجه الى وسادة من جناح ملاك.

ثم إن قدرة التعبير الفنية عن المشاعر الإنسانية تتجلى عند الشاعر يوسف بأوضح صورها في قصيدة "الجمر ورمل البلاد" والمهداة الى مظفر النواب. لنقرأ:

"في وضح المساء

رأيت حزني

وقد تدلى على شجر الغيابِ

غيابك الذي كلما آخيته

أستبق الخطى نافراً"

‏ففي لحظة المساءات التي يعيشها المرهف الإحساس يتجسد له الحزن فيراه.  ولكن الرؤية هنا ليست إلا للحزن وقد تدلى على شجرة نادرة هي شجرة الذين غابوا عن دار الفناء.. فكأنهم لم يغيبوا.!. تقول القصيدة:

"حتما كنتَ وكانوا خلفك

وأنتَ تمّد لهم لسانا مشتعل الكلمات"

مذكّرا المتلقي من خلال عنايته بالعبارة الشعرية بأن القصيدة مهداة الى مظفر النواب.. ومَنْ غيره صاحب الكلمات المشتعلة!..

ويتواصل الألم الذي لا مسّكن له، فيكون عرس النار حول حريق في قاعة زفاف بقضاء الحمدانية في الموصل:

" آه كم تنوراً نحصي

لندرك سرّ النار

الأزلية اللاهثة فينا"..

وهي عودة الشاعر للاسم النار… والسؤال-الحق عن تنانير (جمع تنور) مفتوحة لنار لا يخمد أوارها.. ليستمر الحريق.. وليستمر الألم.

***

د. عامر هشام الصفار

الدﻻﻻت الملتبسة في بواطن الكينونة النباتية

توطئة: ان تعاملات الروائية الكورية الحائزة على جائزتي البوكر ونوبل عن روايتها (النباتية) لربما تنقل لنا الصورة النسبية المبررة في كون موضوعة الرواية تشتمل على حبكة مغايرة ومفارقة وغرائبية في نوعها المختلف، فلعل القارىء الأوربي لها من جهة خاصة يجدها في غاية تحقيق الميتاحداثوية والمغايرة في مركبات بناياتها السردية المجردة، ذلك لكون بعض خصائص موضوعاتها تمتاح في حدود تجاوزية وعدمية لطبيعة العلاقة الواقعية أو التجريبية حتى لو فرضنا كونها من الروايات ذات النمط الأكثر تجريبا في ملامح فكرتها الهادفة إلى محققات نوعية من التخييل السردي. ولكن القارىء العربي والناقد عند قرأتها لربما يواجه مراحل غير ضرورية بالمرة فيما فقدت من جهة ما كل أدلة حدوثاتها الاسبابية جملة وتفصيلا. أنا ﻻ أنكر دور البناء الروائي كحالة تشييدية من الادوات والمسوغات الاسلوبية ولكن عناصر بناء الحبكة ﻻ تتحلى بأية ديمومة تقانية من شأنها كشف وإقناع المتلقي بكيفيات العلاقة الجادة في عبورات موضوعة الرواية والتي ﻻ تتجاوز حكاية فتاة متزوجة اختارت على حين بغتة العزوف عن تناول اللحوم بكافة أنواعها، مما جعل هذا الأمر من حياتها كزوجة تنتهي وكأنها مغامرة في اللاشيء.

السارد الخارجي وتمثلات المسرود المحكي

يتبنى السارد المشارك في رواية (النباتية) والتي قام بترجمتها إلى العربية من اللغة الكورية الاستاذ محمد عبد الغفار ذلك الطابع المتمثل بشخصية الزوج لتلك المرأة النباتية، وقد يتضح من خلال زمن المسرود المحكي الواصل من على لسان الزوج نفسه بمدى حجم الاضطهاد في مسيرة حياته الزوجية، خصوصا وإنه يحيا حياة ذلك الزوج الذي لم تتأكد لديه كل القناعة بخصائص ومواصفات زوجته النباتية: (لم أكن أرى شيئا مميزا في زوجتي قبل أن تصبح نباتية، وأقول بصراحة أنني لم أشعر بانجذاب نحوها حين رأيتها أول مرة.. رأيت إنها متوسطة الطول، شعرها متموج، ﻻ هو بالطويل أو القصير، بشرتها مصفرة كأنها سقيمة، وعظمي وجنتيها ناتئين بعض الشيء. /ص5 الرواية).

1- العناصر الإشكالية وسلبية العامل الذاتي والموضوعي:

يمكننا أن نقول في هذا الفرع المبحثي من قراءتنا بأن تعريف العامل في النص الروائي: هو أنتاج للشروط الكيفية (الداخلية= الخارجية) للنص الروائي. وعلى هذا النحو تتشاطر سبل العلاقة بين الوحدات سببا وشرطا وجزاء وتقديما وتأخيرا ووصلا وفعلا. إذ تواجهنا في مواطن أدلة الرواية - موضع بحثنا - ثمة علاقات في مسار (إنشاء النص ؟) تقابلها في الجزء الآخر علاقة ذات محمولات تشكل بدورها بـ(الدﻻلة المخصوصة) بينما وحدات التراكيب النصية اتخذت لذاتها وجودا محتملا داخل إطار من كفاءة ربط المكونات (استرجاع = استباق = إستعادة) وصوﻻ إلى (جهات الحالة) كظاهرة كيانية بالفعل العاملي الذاتي والموضوعي على السواء. وبناء على مجملية هذا التصور نعاين بأن علاقات الرواية ذات منظورين (علاقة تواصل= علاقة رغبة = ذات الحالة= الحالة إلى ممثل فعل معارض) وعلى هذا النحو يتبين لنا أن علاقة الرغبة هي حالة تواصل تفترض في ذاتها (العامل الذات - العامل الموضوع) فالعامل في المرسل والعامل في المرسل إليه موحدا بطبيعة التواصل المستند إلى فعل ذلك المعارض القائم. وهكذا يبدو أن المرسل المتمثل بوصفه ذلك الزوج عاملا في توليد علاقة تواصل ورغبة فيما يقع عامل التعارض في ذات فعل الزوجة عندما ﻻ تستطيع تحقيق علاقة تواصل بين عالمها النباتي والأدوار التي تقتضيها كيانية ومؤسسة الطبيعة الزوجية: (كانت قليلة الكلام.. فمن النادر أن تطلب مني شيئاً، وﻻ تعترض وتثير المشكلات مهما تأخرت في عودتي إلى المنزل - كانت تقضي وقتا أطول من المعتاد في القراءة التي تعد هوايتها الوحيدة - كانت أيام راحتنا من العمل تتزامن، لم تكن تقترح أن نخرج معا في نزهة - بينما أجلس بعد الظهر أمام التلفاز ممسكا جهاز التحكم عن بعد، تختلي هي بنفسها في حجرتها - كانت القراءة - لسبب غير معلوم - شيئاً تغمس نفسها فيه، تقرأ الكتب التي تبدو مملة إلى درجة أنني ﻻ أستطيع أن أحمل نفسي على مطالعة أكثر من أغلفتها. /ص7 الرواية) ومن هذا المنطلق تحديداً يصير بمقدورنا أن نعلل جربة الشخصية في زمن معراجها النباتي، مرجحا الظن في كونها لربما قد طالعة الفكرة عن طريق إحدى المؤلفات الروحانية مثلا أو تلك الكتب التي تختص بالوثنية البوذية، ذلك لأننا لم نصادف في الأحداث الروائية ما يجعلنا نفرد يقيننا بكون الشخصية استمدت عوالمها النباتية من خلال تواجهات نفسية أو عاطفية أو معتقدية ما، سوى إنها كانت تتحدث حول ذلك الحلم والأحلام التي كانت تلازمها بين الحين والآخر. ولو أردنا من جهتنا النقدية التأويلية معرفة تشكل تلك الأحلام الدموية في حياة الشخصية اما وجدنا سوى كونها كانت تتلقى من والدها ذلك الرجل الذي سلخ أعواماً من عمره في وسط الحرب الفيتنامية، لذا ان هذا الأب بدوره غليظا في سلوكه مع أولاده يوجه لهم المزيد من الصفعات والتوبيخات والمناورات التي تستدعي عقابا نفسيا على تلك الأسرة من النوع الذي يشكل في مركبات النفس للطفل بعض من المشاكل في حياته النفسية السوية. بهذا أو ذاك تطل علينا مجموعة الأحداث الروائية عبر منظورات عديدة منها تحديداً (منظور رؤية الطفل - منظور التحاكي المنونولوجي - منظور الرؤية المنامية) خلوصا نحو حيوات شخوصية تصارع في أعماقها الفردية سلوكاً فنتازيا عبر رؤية ذاتها وكأنها أصبحت كائنا نباتيا تتطلب حياته الغذائية المزيد من الماء واشعاعات خيوط الشمس المتسربلة من النافذة: (كان الجو بارداً بما فيه الكفاية، لكن رؤية زوجتي كانت أكثر برودة، وقد ذهب النعاس الذي سببته الخمرة. كانت تقف أمام الثلاجة بلا حراك وقد غمر الظلام وجهها،فلم اتبين انفعالها، لكن الخيارات المحتملة أخافتني. وشعرها الكثيف الاسود غير المصبوغ منسدل من دون ترتيب - اتجهت نحوها مطقطقا عنقي ومحاوﻻ رؤية وجهها: - لماذا تقفين هنا هكذا؟ ما الأمر ؟. / ص10 الرواية).

2- التحريك التحفيزي وزوايا أفق الإنتظار:

إذا ما تفحصنا منطقة الاشتغال الحكائي للوحدات السردية، ألفيناها خاضعة لمبدئي (التحريك + التحفيز = ترسيمة بلاغة الإنتظار) لذا فالتحريك هنا وهناك يمارسه شخصية حيال آخر بغية تحقيق فعل ما. ويتجسد في مستوى الأحداث الروائية ذلك المستوى من خضوع إرادة الشخوص إلى تدابير خاصة يديرها صوت الشخصية المشاركة المتمثلة بالزوج بدئا، فالزوج غدا هو النظام السببي الذي يقوم بدور التحفيزات التي تتشكل داخل علامات حكائية مؤشرة حينا ومتوارية حينا. أقول هنا أن نظام التحفيزي يطوع من لدن العامل المساعد ومشاكله في المسار الحدثي مع قطب العقدة المتبلورة في مستوى الدال الآخر (الزوجة ؟) لذا فإن الملازمة للعامل المساعد للتحفيز ذاته بدا كحالة تحفظ على شكل وموضع (القطب التبئيري) أي بما لا يشأ المنظور السردي الافصاح عنه من خلال تلاحم حالات القطب الآخر من دال الزوجة، اللهم إلا في حدود خلق تحيينات مناسبة لزمن النص: (لم تجفل على الإطلاق عندما وضعت يدي على كتفها ألم أشك لحظة في أنني بوعيي، وأن كل هذا يحدث فعليا - سألتها عما تفعله وأنا أتجه نحوها، بينما كانت تقف هي هناك من دون أدنى استجابة، كما لو أنها تائهة في عالمها الخاص. / ص١٠ الرواية) لعل مستوى الأهلية الافعالية المشروطة للانجاز التحفيزي إبتداء من سلسلة اللحظات والأيام والشهور من زواج الزوجين وحتى هذه اللحظة المتحفظة سرديا، كلها تتمثل كمقابل في مواضع (مقدمة - عقدة - متن - مناظرة السرد) امتداداً نحو الافعال التحريكية من قبل الزوج - أنا السارد - كحالة راح يتمظهر من خلالها النمو المحكي في بناء الميثاق السردي. فالرواية (النباتية) إذن هي مستويات تشتغل على ثيمة الدال كعلامةو البنية كتصورات معادلة والمدلول كمؤثر انفتاحي نحو المعنى المؤول.

فضاء رؤيا الحلم الدموي: الشخصية صورة نباتية مسرفة

لقد بدت لنا فرضية الرواية كالعلاقة بين المعقول واللامعقول بين الشك واليقين بين الخيال والوهم أو بين الفنتازيا والعلاماتية المسكونة بروح الملموس واللاملموس. أقول من جهتي لا يوجد شيء وهمي في الجوهر والمظهر، خصوصا وأن البنية الأدبية ثورة في الشكل اللاشعوري واللامحدود تخييلا، ولكن هناك حدود مقبولة في تحويرات المتخيل ذي القيمة المسبوكة، وحدوداً مرفوضة إذا تحول النص عبر خصائصه الأداتية والادواتية إلى مجرد بقعة إنشائية خاوية. هناك حقيقة واحدة في نجاح الرواية هو خروجها عن دائرة التكرار والاجترار وإعادة الإنتاج والكتابة بلغة وسلطة وروح النثر الشعري، لذا فعندما يريد الروائي نجاح روايته عليه أولا أن يؤكد لنفسه بأنه في صدد كتابة عمل روائي وليس بناءات قصصية في حلقات هيكلية روائية. من حدود هذا المنطلق نقول بأن رواية (النباتية) وﻻدة حقيقية لرواية جادة وجديدة، بقصد كونها علاقة عناصر بنائية واسلوبية ﻻ تمنح قارئها سوى الاحساس بدخول حياة أخرى له غير مشهودة واقعيا، غير أنها حياة تشكل في ذاتها رشحات تحملنا إلى ما فوق الواقع الروائي تركيزا وتدليلا وتمثيلا. أعود مجددا إلى دراسة روايتنا، لأقول أن تحليلنا الوظائفي للعناصر والوحدات يتخذ اهتمامه من النسق الذي تنصب فيه الشخصيات والأفعال والصفات والأدوار العاملية المصاغة بالمواقف والتفاعلات والتعارضات، لذا فكوننا نقوم بتفكيك النص عبر شخوصه وحالاته ومواقفه، ما يعني أننا في صدد تشريح المنظور السردي للرؤية الروائية، وبقول آخر حتى يمكننا هذا التشريح من فهم الاسباب والانتقاﻻت بين الادوار والعوامل المشخصة في مسار زمني حكاية وخطاب النص الروائي موضع بحثنا. أقول من الظاهر أن الشخصية الزوجة التي تدعى (يونغ هيه) قد قامت مؤخرا برمي جميع أصناف اللحوم المحفوظة داخل الثلاجة وبدا الأمر امام زوجها وهي تعبئها داخل أكياس القمامة السوداء: (وضعت زوجتي على المائدة الخس وصلصة فول الصويا وحساء فول الطحالب، لكن من دون اللحم البقري المعتاد: - ما خطبك ؟ أبسبب حلم سخيف تتخلصين من اللحوم كلها ؟ / ص١٧ الرواية) يمكننا مراجعة أولى علاقات الأحداث في الرواية حيث نعثر على كيفيات سياقية تنصيصية تنم عن رؤيا حلمية تباشر الشخصية يونغ هيه وكأنها وظيفة مونولوجية مدعومة بعوامل تنضيدية ذات الحرف المثخن: (غابة مظلمة ولا أحد هناك.. أوراق الأشجار مدببة حادة، وقدمي مشقوقة، بالكاد تذكرت هذا المكان، لكني تائهة الآن، مرعوبة أحس بالرد وعبر الوادي المتجمد أرى مبنى لامعا يبدو ككوخ، وحصيرة من القش تنسدل مرتخية على الباب. لففتها إلى أعلى ودخلت. في الداخل كانت عصا طويلة من البامبو، ملطخة بدماء غزيرة تقطر منها وتتناثر قطع من اللحم.. أحاول أن اتراجع إلى الوراء، لكن اللحم ﻻ نهاية له. / ص١٦ الرواية) ولو حاولنا أن نقف قليلا حول أبعاد هذا النوع من الكوابيس التي كانت تلازم الشخصية هونغ هيه،لوجدنا أنها قادمة من إيحاءات تؤكد وجود ثمة ضغوطات في حياة الشخصية منذ طفولتها مثلا، ولكن الغريب في الأمر أن الشخصية كانت تمارس حياتها الزوجية بطريقة أكثر سلاسة وحبورا: (لو كان قيل من البداية أن زوجتي تعاني من الشمئزاز بسيط من اللحوم، لتفهمت الأمر، لكن من قبل ان نتزوج وهي تقول إنها تحب الطعام. وكنت معجبا بطريقتها في الطهو، ملقط في يد، ومقص كبير في الثانية، لتقلب ضلعا من اللحم في المقلاة. / ص١٩) ﻻ شك أن خطاب السارد المشارك كان واضحا في وحدات السرد، لذا من الأهمية ملاحظة أن عوامل التحول للزوجة جاءت بعد مراحل مديدة من الحياة الزوجية الهانئة، وصوﻻ إلى كونها لم يقتصر أمرها في عدم تناولها للحوم فقط، بل أنها دخلت في حياة عزلوية أصبحت من خلالها فرداً ينام في غرفة أخرى وزوجها في ناحية ما من سرير الزوجية الذي بات بارداً بعد هجران الزوجة لكافة حقوق الزوج تماما، إذ أنها كانت تتذرع بأسباب أكثر غرائبية من كونها امرأة نباتية بالأثر الرجعي، لذا فإنها قالت لزوجها ذات ليلة: (ما ضايقني أكثر عزوفها عن الجنس - إنها الرائحة ! الرائحة ! رائحة اللحوم.. جسدك تفوح منه رائحة اللحوم وضحكت بصوت عالٍ ساخراً./ ص٢١ الرواية).

1- التكيف والتمثل الذهاني:

تبدو الإشارات والإحاﻻت في مستوى صادرية المكتسبات الذهنية والنفسية والسلوكية في متعلقات شخص (هونغ هيه = الزوجة) منطمسة في متحكمات سيكولوجية محفوظة في مرجحات حالة إتكالية من النوع الذي يمكننا تسميته ضمن فعلية ثنائية معبرة ب (التكيف + التمثل الذهاني = علاقة تداعي متمثلة) وهنا نتعرف على أن عملية الموضوعة في الرواية تسعى إلى خلق علاقة مركبة بين الظن والتجريب أو حدوث التلاؤم الذهاني في مواضع عملية مفترضة من أوجه المعنى المعادل للوضع الامتثالي للشخصية بكافة نوازع الظرف المناور في إنتاج عملية الإحساس لدى الشخصية في كونها أصبحت نظاماً نباتيا كلملا في صورته الكيفية والتمثيلية، لذا فهي مرحلة ذاتية منسجمة في ذاتها العضوية مع مخطط تكيفها وتمثيلها السيكولوجي النباتي والكينوني معا: (لم أجد ما يقال ! كنت على دراية بأن اختيار الحمية النباتية يعد أمراً نادراً كما كان في الماضي، فهناك من الناس من يرغب في التمتع بالصحة والعيش طويلا، أو يريد أن يتغلب على حساسيات معينة. / ص١٨ الرواية) ولعل مستوى الأحداث الرواية بات اشبه ما يكون بالفنتازيا خصوصا بعد تطور حاﻻت الخلاف ما بين الزوجين ووصول الأمر إلى انفصالهما عن بعضهما الآخر، امتداداً نحو نشوب مواقف إرغامية بتناول اللحوم من قبل والد البنت يونغ هيه، مما جعلها رافضة لمطالب ذللك الأب العنيف مما استوجبه الأمر بالاب إلى توجيه صفعة على خد الفتاة يونغ هيه، جعلتها تفتقد كل قواها النفسية المتصبرة على ذلك الارغام بأكل اللحم المدسوس رغما عنها في فمها من قبل يد ذلك الأب، وعند عدم امتثالها لمضغ الطعام وتقبله من يد الأب متحوﻻ إلى مجرد بصاق راح يسقط فوق ثياب البنت وبعض من أجزاء يد الأب، حيث اشتد الغضب لدى ذلك الاب موجها المزيد من الصفعات على خدي الفتاة التي راحت ترتعد كل قواها متوجه إلى مائدة الغداء المقامة في منزل العائلة لتنتشل بيدها سكينا أخذت تذبح بها معصمها مما زاد الموفق سوءا،فيما راح زوج شقيقتها الكبرى يحملها على كتفه مسرعاً بها إلى المشفى.

2- الحلم الكابوسي وآيروسية العلاقة النباتية الحميمية:

بأختصار أن المواجهة التي حدثت في منزل العائلة للفتاة يونغ هيه، قد شهدت عقبها حوادث غريبة وقد تكشفت من خلالها حقائق حاسمة في شأن الشخصية يونغ هيه التي ظلت في المشفى عدة أيام، وبعد خروجها استقلت بذاتها داخل شقة اتخذتها لها ملاذا آمنا لممارسة حياتها النباتية الصرفة. في الواقع ما أود قوله للقارىء أن رواية (النباتية) متتالية فنتازية مشحونة بالتأثر بمرجعيات الأساطير والملاحم الآسيوية التي تمتاح بالاسراف التخييلي لحد حدود بدت غير موثوقة دلاليا وموضوعيا. صحيح أن للرواية شأنها الكبير من أدوات البناء والحكي والوصف الروائي، ولكن كل هذه المسوغات لم تسعف الرواية من تقديم (دﻻﻻت ملتبسة ؟) امتداداً نحو تلك العلاقة التي قامت بينها وبين زوج شقيقتها الكبرى والتي تلخص في فحواها الآيروسي ثمة حدوث تفاعلات بين الجسدين اللذين غطى فوقهما الرسام زوج الشقيقة الكبرى مجموعة رسوم نباتية تؤول إلى حقيقة كون تلك الممارسة كانت بدوافع عضوية تؤكد مزامنة الحيوات النباتية بكافة خوالجها الطبيعية والنمطية الفطرية الآسرة. أما وجهة نظر الشقيقة الكبرى للشخصية هونغ هيه التي حضرت تلك الممارسة بكافة شروطها الاجهارية والسرية، فقد فقدت كل ما تملكه من احتمالات قصوى بحدوث مثل هكذا أمر بين شقيقتها الصغرى والزوج للشقيقة الكبرى ذاتها، فما عليها في ذلك الحال سوى الاتصال بسيارة إسعاف مشفى الأمراض العصبية والعقلية، وقد تمكن رجال المشفى من القبض على الزوج من قبل محاولته إلقاء نفسه من الشرفة منتحرا،وﻻقد أقتيدت يونغ هيه هي الاخرى بكامل عريها الموشوم بهاﻻت براعم الأزهار الليلية والنهارية في مواطن جسد امرأة غدت وكأنها مومياء شجرة آفلة نحو مصيرها النباتي المميت. وختاماً أقول أن رواية (النباتية) للكاتبة الكورية هان كانغ من الأعمال الروائية التي تختلف في الذاكرة القرائية أثرا ودليلاً وإبداعا منفرداً رغم وجود بعض المثالب والهفوات وهشاشة اليقين في مكونات مكامنها الموضوعية الغرائبية الفاعلة والفعلية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

قراءة نقدية في قصيدة: ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون – للشاعرة مرام عطية – سوريا.

قصيدة / ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون/ هي قصيدة (سردية تعبيرية نموذجية مدهشة جداً) تأملية روحية ترتكز على المحور الديني والوجداني، وتمثل نموذجاً للمزج بين الإيمان، الحب الإلهي، والصراع الداخلي. تجسد الشاعرة من خلالها صورة العلاقة بين (الإنسان والرب)، في سياق يشمل الخلاص الروحي، التوبة، والتسليم لمشيئة الله. ولكن القراءة النقدية لا تقتصر على الظاهر العاطفي؛ بل تتعمق في التراكيب البلاغية، الرمزية، والأساليب اللغوية التي تستخدمها الشاعرة.

2. العنوان ودلالاته:

عنوان القصيدة / ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون/ يتسم بالقوة والعمق، إذ يبدأ بنداء تعظيمي موجه إلى / سيد الكون/، وهو تعبير عن الجمال الإلهي اللامحدود الذي لا يمكن تصوره، بل هو / أبهاك / (أي أجملك) في كل شيء. هذا النداء يعكس توجهاً روحياً عميقاً نحو الخالق، ويعكس الرغبة في التقرب والاتحاد به.

3. الإطار الفكري والروحاني:

القصيدة مفتوحة على فكرة التسليم الكامل لله، حيث تجسد الشاعرة العلاقة بين العبد وربه في صورة شاعرية مثيرة. تنسج الشاعرة في هذا السياق مشاعرها المتناقضة بين الذل الروحي والحاجة إلى الحماية والرغبة في التواصل مع القوة الإلهية. استخدام لفظ / ضمَّني لصدركَ / يعبر عن الحميمية الروحية التي تبحث عنها الشاعرة، وهي في حاجة إلى أن تجد السلام الداخلي والاحتضان الإلهي الذي يخلّصها من صراعاتها.

4. العناصر الرمزية:

توظف الشاعرة العديد من الرموز التي تضفي على النص طابعاً عميقاً ومؤثراً. على سبيل المثال، تقول الشاعرة / كشجرةٍ مثمرةٍ /، وهذا التصوير الرمزي يعكس العطاء المستمر والمتجدد من الرب. كما أن / زنّرْ خصري بذراعيكَ القويتين/ هو رمز للقوة الإلهية التي تمنح الإنسان القدرة على الثبات والمقاومة في وجه الصعاب. هذه العناصر الرمزية تضفي على القصيدة بُعداً شعرياً يمزج بين المعنى الروحي العميق والصور الحسية التي تمنح المتلقي فرصة التفاعل عاطفياً وعقلياً مع النص.

5. التوتر الدرامي والصراع الداخلي:

مهمة الشاعرة في قصيدتها لا تقتصر على التعبير عن مشاعر الحب والإيمان فقط، بل تتجسد في صراع داخلي بين الإنسان والخطايا، وبين الأمان الروحي الذي يقدمه الرب والشرور المحيطة به. / كلُّ معاركي كانت مع عدوٍ لدودٍ يمتلكُ المال والمدائنَ/ تعبير قوي عن الصراع مع القوى المادية التي تزعزع السلام الداخلي. هذه الصورة العميقة تشدّد على التوتر الدرامي بين / العدو/ المادي (الذي يتمثل في المال والحروب) و/ الرب/ الذي يمنح السلام والعطاء.

6. الصياغة البلاغية والتعبيرية:

تستخدم الشاعرة أسلوب التكرار والنداء المتواتر في هذه القصيدة، حيث تتوجه مراراً إلى / سيد الكون/ و/ سيد العطاء/ و/ سيد البهاء/، مما يخلق نوعاً من التوكيد على الجلال والعظمة الإلهية. استخدام الألقاب المختلفة يعزز من المكانة الرفيعة لله في النص ويعكس البُعد المتعدد لرحمة الله وعطاءه. كما أن الجمل الشعرية الطويلة التي تبدأ في صورة توصيفية (ضمَّني لصدركَ كقصيدةٍ سرمديةٍ) تساهم في منح القصيدة طابعاً موسيقياً وانسيابياً يعزز من تأثيرها العاطفي.

7. توظيف الأسلوب الاستفهامي:

الشاعرة تستخدم الاستفهام البلاغي في بعض المقاطع، مثل: / يا سيدي كم تدهشني برحمتكَ!! واتساعِ مداكَ!! /، وهو أسلوب يعكس التفاعل الوجداني مع عظمة الخالق وعطاياه. هذا التفاعل لا يتوقف عند حدود الوصف بل يتجاوزها إلى شعور بالدهشة والتساؤل عن مدى الرحمة والإحسان التي يمنحها الرب.

8. التوجه الفلسفي والروحي:

الشاعرة لا تقتصر على التعبير عن الإيمان الديني البسيط، بل تقدم تأملات فلسفية عميقة في العلاقة بين الإنسان والرب. حيث ترى في / الرب/ ليس فقط الخالق ولكن الحامي، المعين، والموجه. هذه الرؤية تعكس عميقًا مفهومًا روحانيًا متعدد الأبعاد، يتجاوز الحدود الدينية التقليدية ليشمل بعدها الإنساني والوجودي.

9. الخاتمة:

هذه القصيدة عبارة عن نص (ديني/ روحاني) ينسج علاقة حبّية عميقة بين الشاعرة والخالق، لكنّها في الوقت نفسه تحمل صراعاً داخلياً بين الإيمان والشرور المادية التي تواجه الإنسان. الأسلوب البلاغي، الرمزية العميقة، والتكرار، وكل التفاصيل الأخرى تجعل من القصيدة مشهدًا شعريًا يبعث على التأمل الروحي العميق، ويحث القارئ على التفاعل مع القوة الإلهية التي تغمر الكائنات الحية بالرحمة والعطاء، بينما تُظهر الشاعرة بوضوح كيف يمكن للإيمان أن يكون سلاحًا يقاوم الفتن والشرور في هذا العالم.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.........................

ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون

يا سيِّدَ الُّلطفِ، ضمَّني لصدركَ كقصيدةٍ سرمديةٍ، زنّرْ خصري بذراعيكَ القويتين كشجرةٍ مثمرةٍ، أبعد عن غزلاني سهام الشرورِ وسيلَ الحروبِ، فإنني قد أقسمتُ أن أبقى في رياضكَ صفصافةً عنيدةً لا تقوى عليها رياحُ الشتاءِ، فسهلْ عليّ طرقكَ، وأنرني بعدلكَ يا سيد البهاءِ.

يا سيد العطاء، إني مذ قرأتكَ في مهجتي أدركتُ أنَّ خالقاً عظيماً أبدعَ الكونَ ويداً حانيةً دائمةَ الاعتناءِ به

عرفتُ أنَّ قلباً أبوياً لا ينامُ. يسهرُ على مخلوقاتهِ، يسرعُ إلى تلبيةِ ندائهم، يصغي إلى همساتِ صدورهم، يبصرُ تضرعاتهم فيعانقهم بحبٍ وحنانٍ

يا سيدي كم تدهشني برحمتكَ!! واتساعِ مداكَ!! وأنا الخاطئ الكافرُ بعطاياك، يامن أعدتني إلى حضنكّ المقدسٍ وافتديتني بدمكّ الطاهر على الصليب.

كلُّ معاركي كانت مع عدوٍ لدودٍ يمتلكُ المال والمدائنَ يشحنُ النفوسَ بالضغينةِ والحسدِ، فينشرُ مصائدهُ وأحابيلهُ. يلبسُ ألوانا زاهية تارةً وتارةً أخرى يلبسُ جلداً ناعماً ليغريني بجماله الكاذب ويفوزَ بي، وما علمَ أنَّكَ زوَّدتني بسلاحِ الإيمانِ الماضي وقوةِ العزيمةِ، وأنَّكَ منحني عقلاً يفتحُ أبوابَ المستحيلِ، ويكشفُ أحابيلَ العداةِ حتى غدا قلبي محراباً للنور ومعبداً للسلام.

***

للدّكتور نبيه القاسم

القصّة هي جنس أدبيّ نثريّ قصير الحجم، يهدف إلى تقديم تجربة قرائيّة مكثّفة ومؤثّرة في وقت وجيز، تتّسم بتركيزها على حدث أو مجموعة من الأحداث المترابطة، وشخصيّات محدودة ومساحة معيّنة، وغالبا ما تركّز على لحظة حاسمة في حياة شخصيّة ما، أو على صراع داخليّ أو خارجيّ تعيشه، وقد تطوّرت القصّة القصيرة عبر التّاريخ، متأثّرة بالثّقافات المختلفة.

لقد ترك العديد من الأدباء العالميين بصمات واضحة عليها، مثل الفرنسيّ "غي دو موباسان" والأمريكيّ "إدغار آلان بو" والرّوسيّ "أنطون تشيخوف"، الّذين يعتبرون روّاد هذا الجنس الأدبيّ، كما أسهم أدباء عرب مثل محمّد حسين هيكل، توفيق الحكيم، يوسف إدريس وغيرهم في إثراء هذا الحقل.

اعتبر "موباسان" أن القصّة القصيرة هي الأقدر على التّعبير عن اللّحظات العابرة والمشاهد السّريعة في الحياة، وهذا الرّأي يتّفق مع رؤية العديد من النّقاد للأدب القصصيّ. لعلّ هذا النوّع الأدبّي هو الأقرب إلى روح عصرنا السّريع، الّذي يتّسم بالسّرعة والتّكثيف.

في مجموعة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" للدّكتور نبيه القاسم، تتجلّى هذه الخاصيّة بصورة واضحة، فهل نجحت هذه المجموعة في التقاط جوهر هذه اللّحظات العابرة ونقلها إلى القارئ؟

سأحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا السّؤال من خلال التّوقّف عند بنية القصص السّرديّة وأحداثها ولغتها، تحليل شخوصها، دلالاتها الرّمزيّة، علاقتها بالسّياق العامّ، التنوّع الموضوعيّ فيها، والأسلوب والرّؤية الفنّيّة للكاتب.

تقع هذه المجموعة الصّادرة عن مكتبة كلّ شيء، في (178) صفحة من القطع المتوسّط، دَقَّقتها لغويّا كلّ من دلال عتيق وسحر أبو زينة، وتضمّ (22) قصّة، تصوّر لوحات واقعيّة حيّة من حياتنا اليوميّة، وتعكس الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ المعاصر، تستعرض شظايا من الواقع المعاش، وتتناول اللّحظات الحاسمة الّتي تكشف عن أعماق نفوس شخوصها، مشاعرهم وأحاسيسهم المتشابكة.

تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه القصص قد سبق نشرها، وقد تمّ التّنويه إلى ذلك في كلّ قصّة على حدة.

يفتتح الكاتب بقصّة "عودة الفارس من رحلة الضّياع" (ص7)، مستلهما أحداث صبرا وشاتيلا، راسما لوحة حزينة عن مأساة شعبنا ومعاناته، متّخذا من اللّغة الشّعريّة والرّمزيّة أداة لنقل معانيه، مُخَلِّقا بذلك أجواء من الحزن والشّوق والأمل المتداخل، جامعا الماضي بالحاضر، وكاشفا عن واقعنا الاجتماعي المعقّد، وعن الصّراع بين القويّ والضّعيف، وبين الظّالم والمظلوم.

يقدّم لنا سردا مؤثّرا، يثير التأمّل في معنى الحياة والموت والحبّ في ظلّ الظّروف القاسية، مجسّدا بذلك صورة حيّة عن شوق العاشق لحبيبته، وحنينه إلى أيّام مضت.

هذا النّصّ، لا يقدّم حكاية حبّ مأساويّة فقط، بل يتجاوز ذلك ليعبّر عن معاناة شعب بأكمله. تتجلّى هذه الرّمزيّة في صورة "النّوتي الأسمر" الّذي يعبر الأردن، فيبيّن من خلاله حالة الشّوق والحنين الّذي لا ينقطع، نرى كيف أنّ الضّفائر تتحوّل إلى قيد يربط العاشق بحبيبته، كرمز للأسر والحبّ الّذي يتحوّل إلى ألم: "وتتدلّى ضفائرُ شَعركِ لترسم على عنقي مشنقة، وأنا منذ اليوم الّذي أحاطتني فيه ضفائرُكِ أسير قيدِكِ" (ص7).

إنّ اختيار الكاتب لنهر الأردن؛ كحاجز فاصل بين الحبيبين، يحمل دلالات عميقة؛ فالحدود السياسيّة المفروضة، تفصل النّاس عن أحبّائهم وأوطانهم، تماما كما يفصل النّهر الحبيبين في القصّة، وهنا يتمّ ربط الأحداث الشّخصيّة بواقع أوسع وأعمق.

"النّوتيُّ الأسمرُ المُتحدّي تيّارَ الأردن بقاربه السّريع، يعود ليظهر مع كلّ حرف من حروف اسمكِ" (ص7).

على الرّغم من أنّ القصّة لا تُفَصِّل الأحداث التّاريخيّة بشكل صريح، إلّا أنّ القارئ يستشفّها من خلال الرّموز والأحداث الموصوفة، فالنّهر الّذي يفصل الحبيبين يرمز إلى الحدود المفروضة، والضّفائر الّتي تحيط بالرّقبة قد ترمز إلى القيود على الحرّيّات.

استخدم الكاتب تقنيّة التّضاد بين الحبّ والكراهية، بين الحياة والموت، ممّا يزيد من عمق النّصّ الذّي يغوص في أعماق النّفس البشريّة، ويصوّر مشاعر الخوف والحزن والألم والمعاناة، وكيف تتفاعل هذه المشاعر مع مشاعر الحبّ والأمل.

يصوّر أيضا لحظة الذّروة في الانفعال العاطفيّ لشخوص القصّة، ناطقا بمكنونات صراعها النّفسيّ مع الحياة، في مشهديّة تبرز تلك الانفعالات بكلّ عنفوانها، وتجسّد الصّراع الذّاتيّ المُكتمل، مع إبقاء بعض الإشارات مفتوحة، وتوظيف التّناقضات الصّارخة في مشاعر الشخصيّة الرّئيسة، الّتي تعكس الحالة الّتي تعيشها بسبب قسوة الواقع، فمثلا.. هو يحبّ حبيبته ويكرهها في آن واحد، يشعر بالسّعادة والحزن معا، ويضحك ليقاوم آلة القهر والموت: 

"وأنا منذُ عرفتكِ أحسست بالموت، واستشعرت لذّة الحياة، تكبرين وأكبر، وتظلّ السّنون تفصل أكثر" (ص7).

" وأحببتكِ لحظة تملّكني كرهك، وحرموني إيّاكِ ساعة وجدتك" (ص8).

"قد لا يجد الواحد منّا غير الضّحك في حضرةِ الموت، الضّحك يقهرُ الموت، ويُفزع الجبان، ويُدمّر كلّ آلات الحرب" (ص12).

"لم نُعر الدّم النّازف اهتمامنا، لم نتألّم، كنّا نضحك رغم الجراح، ونضحك وسط بقع الدّم!" (ص15).

أيضا، يربط الكاتب بين الحياة والموت بشكل وثيق، فالموت يصبح أجمل من الحياة، والحياة تستمدّ قيمتها من الموت: "الحياة جميلة، لكنّ الموت أحيانا يكون أجمل، فحيث يكون الموت تكون الحياة" (ص8).

هذا التّرابط، يعكس الفلسفة الّتي تتبناها الشخصيّات في ظلّ الحرب والدّمار، فالشّخصيّة الرّئيسيّة ترى أنّ الموت قد يكون أفضل من الحياة بسبب الظّروف الّتي تعيشها.

يستمرّ الكاتب في ربط الحبّ بالموت والحياة؛ ليُظهر الحبّ قوة دافعة للصّمود في وجه الظّلم والقهر، يتمثّل ذلك في تمسّك البطل بالأمل، وبحبيبته رغم كلّ ما يحيط به من معاناة:

"وأنا منذ اللّحظة الّتي فصلني الأردن عنكِ، أدركت أنّني سأحبّكِ حتّى الشّقاء" (ص8). "وتبقين أنتِ بضفائرك المتراقصة على وجنتيك عزائي في الحياة، ودفقة أمل للمستقبل" (ص9).

"أيّ حبّي أنتِ، وحدكِ بقيت لي في هذه السّاعة من الغسق الحزين، حيث أفقد في آن واحد خيط قصيدتي، وخيط حياتي والفرحة والصّوت" (ص9).

ثمّ يبقى التمسّك بالأمل بين ثنايا النّص، رغم الألم: "ووالدي يؤكّد أنّ كرسيّ الرّبّ سيُعلى، وأنّ الرّبّ سيظهر، فيُزهَق باطل ويخلّد حقّ" (ص13).

"إنّها لم تمت، وستعود" (ص14).

" وتبقين التّعويذة الّتي أحتفظ بها، واللّحن المردّد في خاطري، والاسم الّذي أنشر حروفه في كلّ بقعة من الوطن"(ص14).

يستخدم الكاتب رموزا سياسيّة ودينيّة لتعزيز معانيه، يربط بين جبل الحسين وجبل عرفات بالصّراع السّياسيّ الّذي يؤثّر على الحياة اليوميّة للأفراد؛ ليعكس عمق الجرح الفلسطينيّ، مركّزا على معاناة الأطفال كضحايا للصّراع، ناقلا معاناتهم بأسلوب يلامس الشّعور ويبرز الجانب الإنسانيّ للقضيّة.

تظهر المرأة كرمز للمقاومة والصّمود، فهي تواجه الألم والمعاناة بشجاعة، وتقدّم نموذجا يحتذى به: "وتبقين أنتِ بكلّ عنفوانك، تتحدّين الموت والحياة" (ص10).

كما يشبّه الوطن بالحبيبة، وبالحبّ الرّومانسيّ من حيث عمقه وتأثيره على النّفس، فكما يعاني العاشق من أجل حبيبته، يعاني أبناء الوطن من أجله، وكلاهما يتطلّب التّضحيّة والتّفاني.

 يكتب: "الألم يطهّرُنا، الدّموع تغسلنا، والحزن قَدَرُنا، وليسَ من حبٍّ إلّا وغَذّاه الدّمع، ما من حٍبٍّ سعيد، سواء أكانَ حبّكِ أم حبُّ الوطن". (ص11).

إنّ ربط الحبّ بالوطن بهذه الطّريقة يضفي على النّصّ بعدا إنسانيّا وفلسفيّا، فالحبّ في هذا السّياق هو حبّ ممزوج بالنّضال، والمعاناة هي جزء من التّجربة الإنسانيّة، والألم وسيلة تطهير وتنقية للرّوح. الألم هنا ليس مجرّد عاطفة شخصيّة فحسب، بل هو رمز لوجع شعب، أمّا الدّموع فتعبّر عن حجم المأساة.

يستذكر الكاتب أسماء بعض الأماكن؛ كسهل البطّوف ومجد الكروم، مخيّم الوحدات وتلّ الزّعتر وجسر الباشا، وأحياء الشيّاح والرّمّانة، يستحضر شخصيّات بارزة كالشّاعر محمود درويش وأحمد العربيّ الّذي خلّدته قصيدة تلّ الزعتر، وعبد النّاصر وغيرهم، ولتعزيز رسالته يستعين بأسطورة "بروميثيوس" من الميثولوجيا الإغريقيّة (الثّائر الّذي تحدّى سلطة الآلهة، وسرق النّار ليمنح البشر شرارة التّقدّم والتّطوّر).

يستعرض أيضا الدّور الّذي لعبته الأحزاب السياسيّة في تلك الحقبة، وكيف تأثّرت مسارات الأحداث بتوجّهاتهم وآيديولوجيّاتهم.

القصّة الثّانية " لماذا فعلتَ ما فعلتَ يا صديقي؟" (ص23): يختلف عنوانها عن عنوان المجموعة الرّئيسيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" اختلافا طفيفا في الصّياغة، فعنوان المجموعة يشير إلى سؤال عامّ موجّه إلى شخص ما، ويعكس حالة من الاستغراب والحيّرة العميقة تجاه فعل ما، ويترك المجال للتّخيّل والتّفكير في الأسباب الدّافعة وراء هذا الفعل المجهول.

يُوَجَّه عنوان هذه القصّة إلى شخصيّة محدّدة، فضمير المخاطب يجعل القارئ يشعر بمشاركة أعمق في الأحداث، وكأنّه يتحدّث مباشرة إلى الشّخصيّة، ومن خلال النّصّ نستشفّ أنّ البطل يوجّه السّؤال لصديقه ليعاتبه على غدره بعد أن وثق به، وكأنّه يقول: لماذا خنت العهد ونكثته وأفشيت السّرّ.

إذن، يكمن الاختلاف في درجة التّعميم والتّحديد، فعنوان المجموعة أكثر عموميّة، بينما عنوان القصّة الثّانية أكثر تحديدا وتركيزا على نوع الفعل.

تطرح القصّة سؤالا جوهريّا حول طبيعة الحبّ والخصوصيّة، والحدود الفاصلة بين توثيق الذّكريات والواقع الحياتيّ، تتناول حكاية حبّ سريّة تعيش في الظّلال، تغذّيها اللّقاءات المسروقة والهمسات الخافتة، لكنّ القدر، متخفيّا في ثوب الصّديق الغادر، يكشف هذا السرّ، فتتحطّم العلاقة على صخرة الخيانة، تاركة خلفها رمادا بدلا من جمر الغرام.

كما تقدّم القصّة شخصيّات متباينة ومتشابكة، ظهرت "سمر" كشخصيّة مركّبة تتّسم بالغموض والرّقة، تمثّل الجمال الأنثويّ والحبّ الرومانسيّ، وظهر حبيبها كشخصيّة مأخوذة بالعشق، يحاول توثيق لحظاته معها، لكنّه يقع في فخ التملّك والغيرة، وهو يمثّل صوت العاطفة.

أمّا الصّديقة الشّاعرة فتمثّل صوت العقل والحكمة والتّحذير، واختلاف وجهة النّظر بينهما يكشف عن طبيعة الإنسان الملتبسة والمركّبة، ويظهر الصّديق كشخصيّة مزدوجة، تحوّلت إلى الخيانة والغدر بشكل مفاجئ، ممّا غيّر مجرى الحدث، وكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانيّة، وأهميّة الصّدق في بناء العلاقات.

غابت أسماء الحبيب والصّديقة الشّاعرة، والصّديق الخائن، إضافة إلى عدم تحديد الزّمان والمكان، وكلّها عناصر فنّيّة تعمّد الكاتب تغييبها لأهداف دراميّة، وذلك ما أضفى على القصّة صبغة عامّة وجعلها قابلة للتّطبيق على أيّ زمان أو مكان.

كما أنّ غياب التّفاصيل الخارجيّة يجعل التّركيز أكبر على جوهر القصّة وعلى المشاعر الدّاخليّة للشّخوص وصراعها النّفسيّ.

أضاف هذا الغياب طابعا رمزيّا على النّصّ، فالحبيب والصّديقة الشّاعرة رمز للحبّ والصّداقة والوفاء، والخيانة الّتي تعرّض لها الحبيب هي رمز لخيانة القيَم والمبادئ.

أمّا السّرد فهو ذو طابع شخصيّ، حيث يروي الحبيب قصّته بألم وحسرة، ويمثّل التّصوير رغبة الحبيب في تملّك لحظات الحبّ، والاحتفاظ باللّحظة الجميلة وذكراها الطيّب في تلك الصّور، لكنّه في الواقع يدمّر اللّحظة الحيّة، ممّا يؤكّد على أهميّة العيش في اللّحظة الحاضرة واغتنامها والإحساس بها.

يبرز الصّراع واضحا بين العقل والعاطفة، وتظهر الصّداقة كسلاح ذو حدّين، إذ يمكن أن تكون مصدرا للقوّة والدّعم، ويمكن أن تكون مصدرا للألم والخيانة، ممّا يكشف عن جوانب مظلمة من الطّبيعة البشريّة مثل الغيرة والحسد، أمّا النّهاية فتبقى مفتوحة، حيث لا نعرف مصير الحبيب بعد فقدان حبيبته، وهذا يترك للقارئ مجالا للتّفكير في العواقب المحتملة.

في قصّة "ليس لديّ غير الدّموع" (ص34)، نقرأ عن يتيمة الأب الّتي وَجدَت ملجأها في قلب أستاذها الحنون في الجامعة، مع مرور الوقت، تعلّقت به تطوّرت مشاعرها تجاهه من الإعجاب والتّقدير إلى مشاعر أعمق، ممّا زاد من حزنها عند فراقها له بالتّخرّج، حيث شعرت بالفقدان.

هذا الارتباط الّذي تغذّيه الحاجة الإنسانيّة الأساسيّة للحبّ والدّعم، يجد جذوره في فراغ عاطفيّ تعاني منه الطّالبة؛ بسبب غياب الأب، فهي تعيش على المستوى النّفسيّ صراعا داخليّا، أمّا الأستاذ فيشعر بالمسؤوليّة تجاهها ويدرك حدود دوره كمعلّم، وضرورة الحفاظ على حياديّة العلاقة المهنيّة.

هذه العلاقة، تمثّل تداخلا بين الحاجات الإنسانيّة والدّيناميكيّات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتثير أسئلة مهمّة حول حدود العلاقات، وكيفيّة التّعامل مع المشاعر المعقّدة الّتي تنشأ في سياقات غير تقليديّة.

في قصّة "جدّو والهسهسة اللّعينة"(ص37)، يعاني الجدّ من إزعاج النّاموس الّذي يخترق طنينه سكون اللّيل، فيحاربه بكلّ ما أوتيَ من قوّة؛ ليدافع عن لحظات راحته، يشعل الأنوار باحثا عنه، مقلّبا كلّ ركن في المنزل، يرشّ المبيدات الحشريّة، مسبّبا الإزعاج لزوجته وأولاده الّذين يحاولون إخفاء المبيد، فلا يعرف النوّم ويخرج هاربا الى الحديقة.

في الصّباح، يستيقظ الجدّ على صوت حفيدته الصّغيرة التّي تخبّئ علبة المبيد، حين سمعت أنّ العائلة ستتخلّص منها، فيحتضنها ويقبّلها باكيا، مقدّرا براءة قلبها الصّغير.

تتميّز هذه القصّة بسردها البسيط، ما يجعلها قريبة من حياة القارئ، وهي تبرز بعض الجوانب الإنسانيّة كحبّ الجدّ لحفيدته واهتمامها به.

قصّة "موت الأستاذ" (ص43)، تثير فضول القارئ منذ بدايتها بمشهد مؤثّر ينتهي بصدمة مفاجئة، حيث تروي حكاية أستاذ جامعيّ مرموق، يغلق باب غرفة مكتبه في الطّابق الثّالث مستلقيا على الأريكة، وبعد ساعات، يُعثَرُ عليه جثّة هامدة تترك وراءها لغزا محيّرا بهذا الموت المفاجئ.

تساهم سلاسة السّرد وبساطته في سهولة تتبّع أحداث هذه القصّة، أمّا تقديم شهادات مختلفة عن الأستاذ، بعضها مضيء وبعضها مظلم من قبل زملاء الأستاذ وطالباته وزوجته، فيضيف طبقات متعدّدة لشخصيته، ويجعلها أكثر عمقا. نهاية القصّة تُركت مفتوحة؛ لتمنح مساحة للتأمّل والتّفسير، ولتعكس فكرة أنّ الحقيقة قد تكون أكثر تعقيدا ممّا تبدو عليه.

تستكشف قصّة "أمّي" (ص51) معنى الحياة والموت من زوايا متعدّدة، تعرض تأثيراته النّفسيّة والجسديّة على الفرد والمجتمع، وتناقش الرّؤية الدّينيّة للحياة والموت وما بعدهما، تدفعنا إلى التّفكير في ماهيّة الوجود وعبثيّة الحياة، وتركّز على دور الأمّ في حياة الطّفل، وكيف يؤثّر فقدها على تكوينه النّفسيّ وصورته عن العالم.

تتجلّى هذه الفكرة المؤلمة بوضوح في قصّة "أنا لا أحبّ أمّي" (ص58)، الّتي تركّز على عمق تأثير فقدان الأم على الطّفل، الّذي يعاني بصمت، مصارعا مشاعر الحزن والضّياع.

تتبعها قصّة "وأخيرا ماتت أمّي" (ص61)، في سرد مؤثّر عن عالم اليتم، لكن.. هذه المرّة تشرق شمس الأمل بفضل الأخت الكبرى الّتي تحتضن الأسرة بحنان، فتكبر مع إخوتها، تسقيهم من عطفها وتغدق عليهم بحبّها، لكنّ القدر يشرع في كتابة فصل جديد من الألم، لترحل الأخت الكبرى مخلّفة وراءها فراغا هائلا في قلب الرّاوي، الّذي اعتبرها أمّه ومصدر قوّته، فيشعر بقسوة اليتم مرّة أخرى، بعد أن فقد أخته الّتي كانت بمثابة أمّه الثّانية.

في هذا السّياق، تقدّم لنا اللّغة العربيّة بعض المفردات الّتي تصنّف حالات اليتم بدقّة، فاليتيم هو من فقد أباه، بينما يُطلَق على من فقد أمّه "العجيّ"، أمّا من حرم من كلا والديّه فهو "اللّطيم".

نُطلّ مع قصّة "رجل فقد العلاقة بالحياة" (ص68) على واقع معاش يلامس حياة الكثيرين، فهي تصوّر بأسلوب واقعيّ حالة الفراغ الوجوديّ الّتي يعاني منها الرّجل، وانفصاله التّدريجيّ عن العالم من حوله؛ ليصبح كائنا آليّا يتحرّك دون هدف أو شغف، ينسحب إلى دوّامة من الرّوتين المملّ بين جدران البيت ومكتب العمل وواجباته الأسريّة، وفي زحمة الأيّام المتشابهة يتلاشى شغفه بالحياة، يشعر بفقدان كبير في طاقته الحيويّة، وكأنّه يتآكل من الدّاخل، ممّا يؤدّي إلى فقدان اهتمامه بكلّ ما يحيط به، حتّى يصل إلى نقطة يصبح فيها غريبا عن ذاته.

أمّا قصّة "الزّوج العبيط" (ص73)، فتجسّد مأساة كلّ من رضخ إلى قيود المجتمع وتقاليده الّتي تسحق أحلام الفرد، وتجبره على التّضحية بسعادته في سبيل رضا الآخرين وأحكامهم، مقدّما على مذبح ذلك أحلامه وحبّه ومشاعره، في تضحية أبديّة لا تنتهي، تدفعه إلى ارتداء قناع لا يعبّر عن شخصيّته الحقيقيّة، وتمنعه من أن يعيش حياة مليئة بالمعنى. هذه القصّة تثبت أنّ العواقب النّفسيّة لرضوخ الفرد لضغوط المجتمع باهظة جدّا. 

وبطابع واقعيّ تقدّم قصّة "اللّيل المخيف" (ص86)، دراما نفسيّة عن صراع الإنسان وكبار السّن مع الوحدة والفقد بعد فقدان شريك الحياة، من خلال رحلة بطل القصّة "سمير" بعد وفاة زوجته "سميرة".

يوظّف النّصّ الأحلام والكوابيس كرمز لحالته النّفسيّة، حيث تعبّر الأحلام عن ذكرياته السّعيدة مع زوجته، بينما تجسّد الكوابيس مخاوفه ووحدته، أمّا استخدام اسم الزّوج "سمير" والزّوجة "سميرة" فيضفي رمزيّة على العلاقة بين الزّوجين، يشير إلى التّرابط العميق بينهما ويعزّز فكرة الوحدة الّتي يشعر بها الزّوج بعد فقدان زوجته، وكأنّه فقد جزءا من روحه.

قصّة "وحدث أن مات بعد أن نشر خبر انتقاله إلى رحمته تعالى" (ص95)، تثير الأسئلة حول طبيعة الموت، العنوان ذاته يشكّل مفارقة عندما يتحوّل الموت إلى خبر ينشر ويعلن عنه كأيّ حدث عاديّ.

في قراءة سلسة تلامس مشاعر القارئ وتستحضر في ذهنه ذكريات الطّفولة والعلاقات الأسريّة الدّافئة، تقدّم قصّة "حفيدي أشطر دكتور" (ص99) حكاية إنسانيّة مفعمة بالدّفء والطّرافة، حيث يعاني الجدّ من ألم شديد في رجله، فيندفع كلّ من حوله لتقديم النّصائح الطّبيّة المستندة إلى تجاربهم الخاصّة، ممّا يضفي على السّرد نكهة فكاهيّة.

في هذه الأجواء، يظهر الحفيد الصّغير؛ ليقدّم علاجا بسيطا وعفويّا للجدّ، وهو "الموت" الّذي يريح من كلّ الأوجاع، وعلى الرّغم من براءة الحفيد، إلّا أنّ كلامه يحمل في طيّاته حقيقة وجوديّة عميقة، وهي أنّ الموت هو النّهاية الحتميّة لكلّ آلام الحياة.

قصّة "حالة" (ص102)، تمزج بين الواقع والخيال، حيث يقع أستاذ الجامعة في حبّ طالبته "هند"، الّتي تطلب مساعدته؛ ليجد نفسه عاجزا عن مقاومة سحرها وجمالها، فيعيش صراعا بين واجبه كأستاذ، ورغبته بمساندتها في مواجهة ظلم أستاذ آخر.

يوظّف الكاتب رمز "القط الأسود" ليجسّد الظّلم الّذي يهدّد براءة "هند" ومستقبلها، هو رمز للشّر والإغواء؛ كشخصيّة غامضة تحاول استدراجها والتّلاعب بها.

من خلال هذا النّصّ يمكن مناقشة قضايا مهمّة، مثل صورة المرأة النمطيّة في المجتمع، وسوء استخدام السّلطة.

أمّا قصّة " آه يا زمن" (ص111)، فتسافر بنا عبر سرد تاريخيّ لأهم الأحداث الّتي شهدتها المنطقة، تمزج بين الذّكريات الشخصيّة والأحداث السّياسيّة المؤثّرة؛ وبين الوصف والحوار والسّرد الذّاتيّ، تطرح رؤية نقديّة لواقعنا، ويعبّر "العلم" فيها عن الهويّة، ويجسّد الصّراع بين الذّات والآخر والاندماج.

ترسم قصّة "مشاهد كلّ يوم" (ص121)، لوحة واقعيّة نابضة للحياة في بلادنا، من خلال عيون طفل يرافق والده في جولة عبر شوارع مدينة نهاريا، ليشهد على التّفاعلات بين الشخصيّات، والتّناقضات في علاقاتهم وسلوكيّاتهم وتصرّفاتهم في واقع معقّد متشابك.

يشكّل الطّفل نافذة على الواقع المعاش، فهو يلاحظ التّفاصيل الصّغيرة ويطرح أسئلة تكشف عن حقيقة الأمور ببراءة، ليحمل وصفه للمَشاهِد دلالات عميقة، تشير إلى الظّلم والتّمييز وتعبّر عن صراع الهوية. تُختَتَم القصّة بمشهد دالّ على الظّلم وانعدام الأمان.

أمّا قصّة "وتكون لنا راية"(ص126)، فتبرز التّمييز والقمع، تشكّل "الرّاية" رمزا مركزيّا للهويّة، حيث يمرّ بطل القصّة بصراع داخليّ بين رغبته في المواجهة، وبين خوفه على نفسه وأحبّائه.

في قصّة "العمّ فندي التّركيّ" (ص132)، نجد صورة لغربة الإنسان وصراعه مع الهويّة من خلال شخصيّة العمّ فندي، المجاهد الّذي قرّر البقاء في البلاد بعد عام (1948م)، ليعيش غربة مركّبة عن وطنه وأهله وعن المجتمع الّذي يعيش فيه.

تشكّل هذه القصّة وثيقة أدبيّة وشهادة على واقع الحياة بعد النّكبة، وهي تحمل في طيّاتها الكثير من الألم والحنين والأمل، فيها العديد من الرّموز الّتي تضفي على النّصّ بعدا فنّيّا، مثل "الشبّابة" الّتي تعبّر عن الشّوق إلى الجذور والحنين إلى الوطن والأهل والماضي الجميل، و"اليانصيب" الّذي يمثّل الأمل في التّغيير واللّجوء إلى الأوهام هربا من الواقع المرّ. أمّا العمّ فندي فيمثّل البطل الّذي خاض معركة من أجل قضيّة يؤمن بها، لكنّه مُنِيَ بالهزيمة، ممّا أدّى إلى شعوره بالضّياع وفقدان الهدف.

تُسقِط هذه الشّخصيّة ظلالها على الهزيمة الّتي تشعر بها الشّعوب العربيّة، وحالة الضّياع والتّشتّت الّتي تعيشها في ظلّ التّحدّيات السّياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة، كما يرمز العمّ فندي إلى جيل كامل عاصر أحلام التّحرّر والوحدة، لكنّه اصطدم بواقع مرير مليء بالإحباطات والانكسارات، هذه الأجيال الّتي شهدت تبدّد الأحلام وتلاشي الآمال، وأصبحت رهينة لليأس والقنوط.

تعرض قصّة "أمّ عوّاد تصفع الضّابط وترميه على الأرض" (ص148) صورة اجتماعيّة حيّة لبلدة الرّامة في فترة ما بعد النّكبة، مستندة إلى ذكريات الكاتب وواقع حياته في بلدته، ليقدّم حكاية منسوجة بخيوط الواقع والخيال، ولا بدّ أنّ شخصيّة "أمّ عوّاد" مستوحاة من شخصيّة حقيقيّة عرفها الكاتب، إلّا أنّه يضيف إليها ملامح خياليّة؛ لتصبح رمزا للمرأة الفلسطينيّة الشّجاعة.

يركّز النّصّ على مجموعة من الشّخوص، كلّ منها يحمل رمزيّة خاصّة، ويظهر أهميّة التّضامن الاجتماعيّ في مواجهة الصّعوبات، كما يضفي استخدام اللّهجة المحلّيّة في السّرد طابعا من الواقعيّة والحميميّة، ويساعد في بناء شخصيّات قريبة من القارئ، تُعبّر عن بيئتها وثقافتها. 

استُخدمت العبارات العاميّة أيضا في القصّة الأخيرة "سيّدنا نمر" (ص159) الّتي تتمحوّر حول صراع الإنسان من أجل البقاء والتمسّك بهويّته، واعتمدت فيها الرّمزيّة للتّعبير عن المعاني العميقة.

يتمثّل ذلك في الصّراع على الأرض، الّتي تعتبر في هذا النّصّ أكثر من مجرّد مكان، فهي رمز للهويّة والوجود والكرامة.

تقدّم القصّة رسالة قويّة عن أهميّة الوحدة والتّضامن في مواجهة الظّلم، وتبرز دور الرّموز في إلهام الشّعوب، وتحفيزها على النّضال من أجل الحرّيّة والكرامة.

الخصائص والأساليب الفنّيّة:

وظّفت في هذه المجموعة تقنيّة تيّار الوعي؛ لكشف تناقضات الشّخصيّات وأفكارها، كما تشكّل الرّمزيّة فيها لغة ثانية، حيث تتجاوز الكلمات دلالتها المباشرة؛ لتغدو إشارات تحمل المعاني، وتخفي بين ثنايا السّرد صرخات مكبوتة وانتقادات لواقع مرير.

أمّا اللّغة فموجزة، سلسة وواضحة، تستعين بصور فنّيّة تعكس رؤية كاتبها، تحمل في طياتها الكثير من المعاني والمشاعر، وهي في الوقت ذاته، لغة اقتصاديّة لا تبذل أيّ كلمة عبثا.

يتمتّع هذا العمل أيضا بوحدة أثر قويّة، كما وصفها "إدغار آلان بو"، حيث تتضافر جميع عناصره لتحقيق تأثير كلّيّ على القارئ، تتمحور مواضيعه حول صراعات الإنسان في الحياة، وتتناول قضايا وجوديّة واجتماعيّة وسياسيّة، مما يخلق ترابطا موضوعيّا واضحا.

يظهر ذلك من خلال شخوصه الّتي تصارع الواقع بحثا عن الهويّة والسّعادة في ظلّ ظروف قاسية، ولا ننسى نهاياته المفتوحة الّتي تترك للقارئ مساحة للتّفسير وإعادة صياغة المعنى، أمّا بنية القصص فتتنوّع بين قصيرة ومتوسطة، مُكَوِّنة تشكيلة سرديّة، تضفي حبكاتها المتنوّعة ديناميكيّة على السّرد.

وبعد.. يجيب هذا العمل الأدبيّ عن سؤالنا المطروح في بداية المقال، يكشف عن عمق القصّة القصيرة وقدرتها على حشد معانٍ عميقة في سطور قليلة، والتقاط اللّحظات الحيّة وتحويلها إلى نصوص أدبيّة مكثّفة، مثيرا تساؤلات جوهريّة تحفّزنا على تأمّل ذواتنا والعالم من حولنا.

نجح أيضا في نقلنا إلى عالم الكاتب الإبداعيّ الخاصّ، ولا شكّ في ذلك، فالدّكتور نبيه القاسم، هو صاحب الإنتاج والرّصيد النّقديّ والأدبيّ الثّريّ، الّذي أسهم في إغناء مشهدنا الثّقافيّ بمشاركاته النّقديّة، وبالكثير من دراساته، ومقالاته الّتي نشرت في العديد من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة، على مدى سنوات عطائه الطّويلة.

***

صباح بشير

قراءة تحليلية في نصّ: قبلكَ – للشاعرة نسرين عيسى محمد – سوريا.

هذا العنوان يسلط الضوء على التوتر العاطفي والتجربة الإنسانية التي تعيشها الشاعرة بين العيون (رمز للحب والمصير) والنصوص (رمز للكتابة والتعبير). كما يعكس رحلة التشكيل والتحوّل التي يخوضها الشخص في هذه القصيدة، من حالة التشتت إلى التماسك بفضل الحضور المُلهم للشخص الآخر.

المقدمة:

في قصيدتها /قبلكَ/ تلامس الشاعرة نسرين عيسى محمد عمق التجربة الإنسانية المعقدة، حيث تجمع بين الأبعاد العاطفية والفكرية في إطار من الشِعر الذي يتسم بالصدق والإحساس العميق. القصيدة، كما يظهر من عنوانها، تفتح لنا نافذة على التكوين النفسي والفكري للشاعرة، مبلورةً رحلةً تبدأ من لحظة الفقد والوحدة إلى لحظة التجدّد والتكامل بعد اللقاء بالشخص الآخر، الذي يمثل الفتح والتحول في عالمها الداخلي.

التمهيد الفني والنفسي:

تبدأ القصيدة بتصوير رمزَي القوة والضعف: /حصن/ و/عيون/. الشاعرة تشير إلى /حصنها/ الذي لم يتمكن أحد من اختراقه، حتى /جاءت عيناك/ لتكون /قدراً/ جديداً في حياتها. هذا التحول الجذري في رؤيتها للعالم يوحي بأن اللقاء بالآخر ليس مجرد حدث عابر بل هو نقطة تحول فاصلة في مسار حياتها، حيث أصبح هذا اللقاء بمثابة الاستنارة التي انتشلتها من /جهالتها/.

العينان كمصدر للقدرة والتحول:

من خلال تصوير العيون كمفتاح لتحرر الشاعرة، تقيم الشاعرة علاقة روحية بين العينين التي هي نافذة الروح، وبين الكلمة التي هي تمثيل للفكر والمشاعر. إذ ترى الشاعرة في عيني الحبيب /قدراً/ يسحبها من عزلتها لتتعلم وتعيد تشكيل نفسها في عالمه. / تتلمذ / هنا ليست مجرد تعبير عن الفهم المعرفي، بل أيضاً استعارة لتطور وتغير النفس.

القصيدة والتكوين الفكري:

/ازرعني بين سطورك لأكون نبراسَ قصائدك/ – في هذه الصورة الشعرية، نجد أن الشاعرة لا تقتصر على كونها موضوعاً للحب أو الإلهام، بل تطمح أن تكون جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني للآخر. هذا الاندماج الروحي والعقلي بين الشاعرة و/الآخر/ في القصيدة يعكس رغبتها في أن تصبح شريكةً في إبداعه وتكوينه.

/فقبلكَ قصائدٌ ما روتني/ – هنا تعبير عن البحث الذي يسبق اللقاء، عن النصوص التي لم تقدم لها العزاء أو الفهم الكافي لحياتها. وبمجرد أن يظهر الآخر، تصبح الكلمات التي يطلقها دافعاً لتغيير رؤيتها لذاتِها.

الحلم والانتظار:

يتحول /الحلم/ إلى عنصر أساسي في القصيدة، حيث أن الشاعرة تستمر في شرب /الحلم/ على أمل أن يكون الشخص الآخر بجانبها. /كم من الحلم سأحتسي لتكون بجانبي؟!/ سؤال يحمل بين طياته اليأس والأمل معاً، ويكشف عن البعد المتناقض للعلاقة؛ فهناك التوق المستمر لملاقاة الحبيب، وفي الوقت نفسه، تعبير عن حجم المعاناة التي يسببها الانتظار.

الاحتواء والتكامل:

إن اللحظة التي تنتظرها الشاعرة هي لحظة تكامل بين الذات والآخر: /تعال... ضمّدْ وحدتكَ بوحدتي/. في هذه الكلمات، تصبح الوحدة التي كانت تعيشها الشاعرة جزءاً من الكيان المشترك الذي يبني مع الحبيب. اللقاء ليس مجرد شغف أو حب، بل هو حاجة نفسية وجودية للاتحاد والتكامل، لملء الفراغ الداخلي الذي تعيشه الشاعرة.

النهاية: العودة إلى الذات عبر الآخر:

/امنحني بعض الوقت لأستعيد توازني، أرتّب بعضي المتناثر وأحتويك بكل جوارحي/ – تنتهي القصيدة بتعبير عن ضرورة الوقت لإعادة بناء الذات. الشاعرة هنا تضع نفسها أمام الآخر، ليس فقط ككائن ضعيف منتظر، بل ككائن قوي يطلب أن يُمنح الوقت لاستعادة توازنه النفسي والمعنوي. هي في حاجة إلى إعادة ترتيب ذاتها، ولكن هذه العملية لا تكتمل إلا بحضور الآخر، الذي يمنحها القدرة على التماسك مرة أخرى.

الختام:

في قصيدة /قبلكَ/ تلتقط نسرين عيسى محمد اللحظات الفاصلة بين الفقد والوجد، بين الهدم والبناء، في علاقة عميقة وشاملة مع الآخر. القصيدة تتسم بالصدق العاطفي والنضج الفكري، وتعكس تطور الوعي الشخصي عبر العبور من العزلة إلى الاتحاد والتكامل. الشاعرة لا تجد في الحبيب مجرد مصدر للسعادة أو الإلهام، بل هو الرفيق الذي يمنحها الأدوات لإعادة بناء نفسها وتكاملها.

***

بقلم: د. كريم عبد الله – العراق

...................

قبلكَ......

بقلم: نسرين عيسى محمد

***

ما استطاعَ رجلٌ

أن يحتلَّ حُصني..

حتى جاءت عيناكَ

فكانت قدري..

انتشلني من جهالتي

لأتتلمذَ في محرابكَ

ازرعني بين سطوركَ

لأكون نبراسَ قصائدكَ

فقبلكَ قصائدٌ ما روتني..

ومعكَ

بعضُ عباراتٍ أثملتني..

كم من الحلمِ سأحتسي

لتكون بجانبي..!

تعال.......

ضمّدْ وحدتكَ بوحدتي..

فأنت نشأةُ ولادتي..

بدايةُ تكويني..

وامتدادُ حاضري..

امنحني بعضَ الوقتِ

لأستعيدَ توازني..

أرتِّبَ بعضي المتناثرَ

وأحتويكَ

بكلِّ جوارحي...

*** 

إغوائية لميا في مصير طانيوس وليدا، الفصل الثاني - المبحث (2)

***

توطئة: ﻻ تتوقف وظيفة التخييل في عوالم مرويات (أمين معلوف) نحو قيمة ذلك الاشباع السياقي ذي العلاقة التفاعلية النقلية من حدود حصيلة مرجعيات تأريخية ووثائقية مشحونة بما قاله (الرواة؟) بل العين التخييلية راحت تفتح ذهنية التلقي لأجلى مغاليق حكايا الاساطير والملامح والموروث الشعبي الحكائي، لذا يمكننا استشفاف أفق صناعة المتخيل والتخييل في تقديم مجاﻻت وعوامل دﻻلية مركزة في متعينات العلاقة الحبكوية في تضاعيف الحكي السردي، ولأجل أن يبقى السرد الروائي السياقي أثرا في الصورة والمشهد والمتواليات الوحداتية، أثرهُ معلوف ابقاء علاماته الاحتوائية الكثيفة اندراجا مسرودا في الجزيئات والكليات والهوامش والتفاصيل الأكثر جنوحا في الاكمال والهوامش والتقصي لإحساس تجليات وبواعث الواقعة السردية المتعددة في الإمكان والتمكين السياقي وتخييلي.

- العلاقة الإنتاجية بين فعل السارد وحديث مساحة المنقول.

تشكل الصورة السردية في محكيات العلاقة الإنتاجية للحكي تماثلا بين طرفي (فعل السارد مشاركا.... مساحة حديث الوظيفة التدوينية) وتزداد دائرة الوظيفة الصورية اجتيازا نحو ناحية الانفتاح التخييلي الذي راح يتعامل مع حدود العلامات والأسماء والمواقف والشخوص ضمن جملة وتيرة إنتاجية تنص بأن السارد المشارك هو الطرف الذي يستوح قابلية تحريك الصور والأفعال ضمن إشارات مدونة في دفاتر القساوسة والكهنوت وبعض من شواهد الأشخاص السابحين في فضاء الهامش من الوظيفة النقلية ذاتها.

1. الربط الزمكاني في واصلة الزمن الحاضري:

يحظى الفضاء الروائي في تجربة (صخرة طانيوس) بملاذات موروث (الحكاية المرجعية) عبر حياتها وزمنها المشرب ب(المسرود إليه راويا؟) لذا فإن مضمار الأهمية في السرد والمسرود، تتعدى ممارسة (الحاكي النمطي؟) اقترانا بذلك الشكل من وظائفية (السارد العليم = المسرود إليه راويا). لقد عانينا مرارا في مواضع عدة من روايات معلوف، بأن الدور الفعلي للسارد لم يكن في وحدة الفاعل السردي الأكثر استقلالا بسرده، إنما الأمر يمرر عبر تفاصيل (الحكاية المرجعية. المروى إليه ساردا) وهذه الآلية التي اعتمدها معلوف في رواية (ليون الأفريقي) والآن نجد لمثلها مع الاختلاف النسبي في صدد رواية (صخرة طانيوس). أود القول هنا ببساطة متوخاة حدود الدقة والإحاطة أن شكل الممارسة الروائية في عوالم معلوف تتطلب الشاهدية المرجعية في وسائل نقل الرواة أو حتى من خلال ذلك الأثر المدون، حتى تتاح للروائي خلق فاصلة وواصلة تمتدد من مساحة الزمكانية للسياق النصي، وحتى انعطافة ومعالجة صناعة التخييل السردي. لذا فلم يتبق للشيخة زوجة الشيخ الاقطاعي سوى حزم عدتها الى الرحيل من القصر، فيما ظلت لميا تتذرع لزوجها جريس أن يسمح لها بمرافقة الشيخة إلى مكان قصر ذويها: (لم خطر ببالها قط من ذي قبل مرافقة الشيخة، ولكنها استيقظت في ذلك الصباح، وقد راودتها هذه الفكرة بعد ليلة جديدة من السهاد. خطر لها الرحيل، والابتعاد قليلا عن القصر، وعن نميمة النساء، ونظرات الرجال وهواجسها. /ص٣٧ الرواية) من هنا يتضح لنا بأن هناك ما يستدع مخاوف لميا من حقيقة رحيل الشيخة وترك القصر نهبا لشهوات وغرائز زوجها الشيخ في خلواته الحمراء.

2. المنظور السردي والاستبعاد السردي:

لعل الانطباعات التي يتركها السرد الى محصلة تمحيصات القارىء،هو الأمر ذاته الذي تركه معلوف تحت طي وحدات مخاوف وقلق وهواجس لميا من وراء رحيل الشيخة من القصر، لو حاولنا معرفة مساحة الاختلاف ما بين وجود الشيخة وغيابها عن القصر وما الذي يشكله في حقيقة معنى لغز قلق لميا ذاتها. طبعا معلوف يترك فجواة كثيرة لم يداولها في الصورة الواضحة في أحداثه، فهو عرض لنا في وحدات سابقة من الفصول الأولى من الرواية بأن لميا كانت تجاهد في سبيل إرضاء الشيخ، لذا فإنها تقوم بخدمته دون تردد منها قيد أنملة، كما وإنها هي الوحيدة المطلعة على حاﻻت وهن الشيخ في تلك الأمسية التي قضاها الشيخ متوعكا، وفهي بدورها من فرضت طابع المبادرة لأجل تحريك مشاعر الشيخ بمدى اهتمامها به، ولكن الغريب هي الآن ممن تبحث لها عن مأوى يحفظها من مصائد ومكائد الشيخ بعد أعقاب رحيل الشيخة عن القصر في زيارة موسمية إلى قصر ذويها: (كانت لميا تكشف وجها كاملا من كل نهد. لوددت أن أضع رأسي على هاتين الهضبتين كل ليلة: تحنحنت وكيف تعلم كل هذه التفاصيل، ولم تراها قط في حياتك؟. إذا كنت ﻻ تريد أن تصدقني، فلماذا تسألني؟. /ص٣٨ الرواية) في الواقع هذا الحوار كان دائرا بين جبراييل والمروى إليه ساردا. وهذا بدوره مما ذكرته بمنظور السرد واستبعاد السرد، ذلك كون التفاصيل المذكورة عن لميا هي من رؤية النقل المرجعي المدون في أحدى كتب القساوسة التي تحكي عن حكايا الجبل والضيعة معا. أردت القول أيضا إن تفاصيل منظور السرد جاءت في حدود المرويات أيضا، إلا أن هذه المرويات لا تستبعد من أن تكون مرمزا الى مواضع خاصة من الإفصاح بدورها، ذلك لان لميا عند مغادرة الشيخة صارت تعتزم لذاتها عدم خدمة ذلك الشيخ مجددا وخصوصا كونه صار بمفرده الآن، ولو راجعنا بعض الوحدات في المتون الأولى من الرواية لفاجأتنا لميا في كونها كانت تحلم بجس بعض معالم الشيخ الخصوصية، إذن إن حدوث المواقعة كانت من قبل رحيل الشيخة وليس بعد زمن فراقها للقصر: (نهض الشيخ، وانتقى في أجمل عنقود أكبر حبة، ودنا بها من وجه لميا، فشقت شفتيها.. في الخارج، لا بد أن سحابة كثيفة قد حجبت الشمس لأن الغرفة أظلمت. /ص٤٣ الرواية) وعلى هذا النحو اقول أن ملحمات الإشارات ومواطن حجب المرمزات أقرت بقرار تلك العلاقة التخصيبية الحميمية، ولكنها لم تكن بدورها الأول في حدوثها، بل لعل المواقعة الملمح إليها هنا هي الثانية بدورها وزمنها الذي راح يفصح بعد فترة من الوقت عن حمل لميا من ذلك الشيخ.

العبور الزمني وإشكالية دﻻلة التسمية

لعل من أكثر الفقرات الوحداتية في الفصول الاولى من الرواية، يتلخص في ذلك الجانب العلائقي من كيفية حصول الظواهر التي بدت عليها حاﻻت الشخصية لميا بعد إصابتها بنوبات غثيانية، والبحث في الأسباب التي جعلت الزوجان ومنذ قرابة السنتين ام يحصلا على ذلك الوليد المنتظر:(في الأسابيع التالية، شعرت لميا بأولى نوبات الغثيان، كما كان وجهها شاحبا وناحلا بعض الشيء. كانت قد تزوجت منذ قرابة السنتين، وأهلها قلقون لأن بطنها لم يتكور بعد./ص٤٧ الرواية) غير أن لميا في غضون هذه الفترة قد بانت عليها علامات الحمل المفاجئ (ولم تلمح أية نظرة مرتابة، أو تسمع أي تلميح جارح. / ص ٤٧ الرواية) إلا أن ما كان مفاجئاً فعلا، هو بعد عودة الشيخة من رحلة ذويها الطويلة إلى قصرها غدت متقلبة الأطوار متوترة في كافة سلوكها إزاء الخدم من النساء، مما جعلن أغلب الخادمات يتحاشن مواجهتها عن قرب. لعل ما أثار حفيظة الشيخة هو علمها بعد غيبتها بمسألة حمل لميا، وهذا الأمر في تصوراتها لا يعفي الشيخ بدور من تدخلة العضوي في هذا الجنين، خصوصاً وإن علاقة الود صارت شائعة على كل لسان في الضاحية بين لميا وذلك الشيخ الشبق. يدخل زمن الشائعات في رواية الوحدات من خلال اشارات وتلميحات ترتبط بواقع كون ذلك الوليد هو الأبن الأكيد للشيخ، لذا ظلت عملية تسمية الوليد من اختصاصه. اي الشيخ. صحيح أن الأسم الذي اختاره لم يلق قبوﻻ لدى لميا: (لاحظ جريس، اذ جال بنظرة المبتهج على الحاضرين لاستدرار عبارات الاستحسان المعهودة. تلكأت نظرة جريس برهة، وفجأة، أدرك ما يجري، كيف قبل بهذا الأسم، وما الذي يدفع الشيخ لاقتراحه على وجه الخصوص؟. / ص٤٩ الرواية) لعل الغريب في أمر جريس هو امتعاضه من تسمية الشيخ للوليد الذي يعتبره بصفة رسمية ولده المنتظر، وهو لم يبحث في إشكالية تقلب أحوال الشيخة وكلام الناس في الضيعة حول مدى شرعية هذا الوليد من والده الاصل جريس، والذي كان مؤكداً هو الأبن الحقيقي للشيخ بعد مواقعة لميا عدة مرات سرا. أقول من هنا قد ساد الإشكال في الضيعة حول مقترح تسمية الشيخ للمولود باسم (عباس!) ولكن المشكلة الكبيرة تكمن في معتقدات أهل كغريبدا وخصوصا أنهم يطلقون الأسماء على أولادهم تيمنا بأسماء القديسين والأسماء الواردة في الأنجيل والتوراة: (ان لميا أقسمت سرا. ماذا تودين ان تسمي هذا الطفل يا لميا؟. طانيوس. /ص٥٢. ص ٥٣ الرواية) تخبرنا الرواية عبر وحداتها بأن ردود فعل الشيخة كانت كبيرة جدا، لذا أقسمت بأنها ستكون قد رحلت عن هذا القصر المشؤوم، في فجر اليوم التالي، مع أبنها، وقد عزمت في دخيلتها ثأرا بأن ترسل أشقائها إلى قصر زوجها الشيخ بالعنف والسلاح لاسترداد ماء وجهها بعد مقاطعتهم للشيخ الذي أطلق نزوته مع امرأة تعيش تحت سقفهما، فقد أنجب هذا الشيخ طفلا من امرأة تشاركهم المكان والزمان وهي لميا ذاتها.

تعليق القراءة:

ربما من الواضح أن المتخيل الروائي في حدود حقيقة الحكاية المرجعية، يزداد تألقاً ورؤية سردية تتجمل بأقصى مستويات التحبيك المسوغ بالوعي الذاتي للمادة السياقية في الرواية، وعلى كونها رواية ذات ملازمات وعلاقات وأحوال مدهشة إلى أبعد ما تقتضيه مواقف وحالات الأوضاع التراتيبية في متطلبات المتخيل وفردية محكيات توليد المقاصد الارتباطية بلحظات خاصة ومخصوصة من خلفيات وابعاد جناية إغوائية لميا في مصير ولدها طانيوس الذي غدا يشكل في محور الرواية مركبا من الحكي يتجاوز آلة وأداة المتخيل والواقعي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

 

للشاعرة آمال قزل – فلسطين - منطقة الجليل.

قصيدة: من أنا في لغة الانكسارات؟ للشاعرة آمال قزل تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية. تتناول الشاعرة قضايا الهوية والانتماء، بالإضافة إلى تأثير التاريخ والظروف الاجتماعية على الذات الفردية والجماعية.

1. البحث عن الهوية:

تبدأ القصيدة بسؤال صريح /من أنا/، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم مليء بالانكسارات. هذا السؤال يُظهر الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في مواجهة واقعه، والذي يبدو مُعقدًا وصعبًا.

2. الانكسار والخيال:

تتطرق الشاعرة إلى فكرة الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع، حيث تعيش الخيال أكثر من الواقع. يُبرز ذلك التوتر بين ما هو حقيقي وما هو مُتخيل، مما يُعبر عن معاناة الشاعرة ككائن شعري يسعى إلى تجاوز الألم من خلال الفن.

3. استحضار التاريخ:

تستحضر الشاعرة شخصيات تاريخية مثل جان دارك، مما يُعكس تأثير التاريخ على الهوية. تطرح تساؤلات حول العدل والظلم عبر الأزمنة، وتسلط الضوء على التناقضات في القيم الإنسانية، مثل تقديس الشخصيات بعد تعذيبها.

4. العبودية والحرية:

تناقش القصيدة مفهوم العبودية، سواء في سياق العلاقات الإنسانية أو في ظل الأنظمة السياسية. تتساءل عن مدى الحرية التي يمتلكها الإنسان، وتعرض صورة قاتمة عن الطبيعة البشرية ووجود الطغيان.

5. البحث عن العدالة:

تختتم القصيدة بنبرة تشاؤمية حول عدم وجود عدالة على الأرض. تُظهر أن الإنسان مُحاصر بين قسوة العالم وطغيان الزمن، مما يُعكس أزمة القيم في المجتمع.

خلاصة

قصيدة آمال قزل تُعد تأملًا عميقًا في قضايا الهوية، التاريخ، والعدالة. من خلال لغتها الشاعرية العميقة، تدعو القارئ للتفكير في المعاني المتعددة للوجود، مُسلطة الضوء على انكسارات الإنسان ومعاناته.

أنّ هذه القصيدة تتجاوز السطح لتقدم دراسة فلسفية عميقة للوجود الإنساني. دعونا نستكشف بعض العناصر الفلسفية والنفسية في هذه القصيدة بشكل أكثر تفصيلًا:

1. الانكسار كحالة وجودية:

تتكرر في القصيدة فكرة /الانكسارات/، والتي تمثل تجارب الفشل والإحباط. هذا المفهوم يشير إلى حالة الوجود الإنساني الذي يتسم بالتناقض، حيث يجد الفرد نفسه بين آماله وطموحاته من جهة، وواقعٍ غالبًا ما يكون قاسيًا من جهة أخرى. الشاعرة تسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الانكسارات على الهوية الفردية والجماعية، مما يجعل القارئ يتساءل عن قيمة الذات في ظل هذه الظروف.

2. تداخل الواقع والخيال:

الأسئلة التي تطرحها الشاعرة حول العيش في /الخيال أكثر من الواقع/ تدل على الصراع بين الطموحات والأحلام من جهة، والواقع المحبط من جهة أخرى. هذا التداخل يُظهر كيف أن الخيال يصبح ملاذًا للأفراد، يحاولون من خلاله تجاوز معاناتهم. يمكن أن يُفهم الخيال كأداة للتكيف، حيث يتمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية أكبر مما هو متاح في الواقع الملموس.

3. التاريخ والهوية:

استحضار الشاعرة لشخصيات تاريخية مثل جان دارك يُظهر كيف أن التاريخ يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية. هذه الشخصيات تمثل الاضطهاد والبطولة، مما يعكس الصراع بين الحق والباطل عبر العصور. كما تُظهر الشاعرة كيف أن هذه الشخصيات تُقدس بعد موتها، مما يثير تساؤلات حول مفهوم العدالة والظلم.

4. أسئلة العبودية والحرية:

تتناول القصيدة مفهوم العبودية بشكل موسع، حيث تطرح تساؤلات حول الحرية الفردية والجماعية. تُظهر الشاعرة أن العبودية ليست فقط في المعنى الجسدي، بل تشمل أيضًا العبودية الفكرية والنفسية. تتجلى هذه الفكرة في وصفها للعبودية كعبودية للزمن والأفكار، مما يُظهر كيف أن الأنظمة الاجتماعية والسياسية تُقيّد الأفراد.

5. التناقضات الإنسانية:

تشير القصيدة إلى التناقضات في الطبيعة البشرية، حيث يُظهر الإنسان في نفس الوقت ميولًا للخير والشر. العبارات التي تتحدث عن /ملك ومملوك/ و/قاضي وسفاح/ تعكس كيف يمكن أن يتداخل الخير والشر في النفس البشرية، مما يخلق حالة من الاضطراب الأخلاقي.

6. نداء للعدالة:

تنتهي القصيدة بنبرة تشاؤمية، تُعبر عن انعدام العدالة في العالم. هذا يُظهر كيف أن الشاعرة لا تكتفي بمجرد الاستغراق في الألم، بل تدعو القارئ للتفكير في السبل الممكنة للتغيير. يُعتبر هذا النداء بمثابة دعوة للوعي الاجتماعي والتفكير النقدي حول قضايا العدالة.

خلاصة أعمق

قصيدة آمال قزل ليست مجرد تعبير شعري، بل هي تأمل فلسفي عميق في طبيعة الوجود الإنساني. تُظهر الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجه الفرد، وتطرح تساؤلات حول الهوية، التاريخ، العدالة، والحرية. من خلال استخدام الرموز والشخصيات التاريخية، تخلق الشاعرة عالمًا غنيًا بالمعاني، مما يُعزز من قيمة الشعر كوسيلة لفهم الواقع والتفاعل معه.

***

د. كريم عبد الله

..........................

من أنا في لغة الانكسارات؟!

بقلم: آمال قزل

***

من أنا في لغة الانكسارات؟!

لماذا أكتب بكل هذا الكم!!!

ولماذا أحمل كل هم الشعوب!!!

لماذا أعيش الخيال أكثر

من الواقع!!!

لماذا تسبح روحي الملهمة في ملكوت الله

بكل هذا الشغف!!

من أنا في لغة الانكسارات!!!

من أنا

في لغة الانتصارات

من أنا في لغة الأنوثة!!

من أنا في سر التكوين!!

من يعاقبني على حلمي البعيد من يطوق حرفي الشريد!!!

من يقرأني عبر سطورٍ

تعمقت في الميدوزا

من يفك طلاسمي المعقدة!!!

من يكشف لغتي على جداريات الروح!!!

من يسير طريق الفلاسفة ويهوى وعورة الطريق يتحدى السير

وراء القطيع

من يقيم مدينة

أفلاطونية التفكير

ويسير درب الحرير!!

من يوشوش البحر

ويسأل صدفاته التي

توارت كما تتوارى السفن

عن سر الشواطئ وتسونامي الوقت!!!

من يسألني عن أحدب نوتردام وكيف أحرقوا كنسيته في يومٍ أغبرَ!!

من قيد جان دارك!!

ومن أحرقها!!!

ومن بعد هذا أقر أنها قديسة.!!!

يا لتلك الأضداد!!

يا لتلك الأحكام!!!

يا لعبوديتنا التي نفرضها

على بعضنا

يا لعقول طاغية

عَبرت قرون من الوقت

لكنها عادت بوجهٍ أخر

وانتحلت شخصية

راسبوتين وهولاكو

يا لأطرافنا الباردة

يا لرؤوسنا الجوفاء

يا لعبودية الزمنكان

لا عدالة على الأرض

لا عدالة

من يوم ولد الأنسان

ولد ليتعذب

ولم يزل

ملك ومملوك

وقاضي وسفاح

وأرض لا تعرف غير الطغيان..

وقساوة الأنسان

للإنسان..

***

للشاعر جميل حسين الساعدي

قصيدة "نداء البحر" للشاعر جميل حسين الساعدي تعبر عن تجربة وجدانية تزاوج بين الحب العاطفي والحوار الفلسفي مع عناصر الطبيعة الملهمة. انها تتسم بثراء رمزي ودلالات إنسانية وإبداعية تظهر في تفاعل البحر مع الحضور الأنثوي، ما يجعل البحر فضاءً لبوح الشاعر ووسيطًا لعلاقة أزلية بين الذات والعشق.

هذه القصيدة تنبض بروح رومانسية عذبة، تعكس تمازجاً فريداً بين جمال الصور الشعرية وعذوبة الموسيقى اللغوية. يتجلى فيها إحساس عميق بالحب، حيث تنساب الكلمات كالموج لتخلق عالمًا من السحر والدهشة.

القصيدة تزخر بصور حية مفعمة بالمشاعر، حيث يصبح كل شيء في الكون مرآة للحبيبة. في البيت الأول، نجد الشاعر يرى في كل زهرة عطراً من شذاها، وفي كل درب أثراً لخطاها. هنا، تتجسد فكرة الامتزاج الكلي بين العاشق والمعشوق، حيث تصبح الطبيعة وسيلة تعبير عن الحب.

الصورة التي يرسمها الشاعر للبحر في الأبيات اللاحقة تأسر القلوب؛ فهو يراه مخلصًا يحمل أغنيات الحبيبة وصدى كلماتها. الشاعر يوظف البحر كرمز للامتداد والحنين، وكأنه الوسيط الروحي بينه وبين محبوبته، وهو ما يظهر في البيت:

"إنه البحر يناديني فهل... قد سحرتِ البحر قبلي فالتقاكِ".

هذا التساؤل الممزوج بالدهشة والحنين يبرز جمال الصورة الشعرية، حيث يصبح البحر شخصية فاعلة ومأخوذة بسحر الحبيبة.

إيقاع القصيدة سلس ومتناغم، حيث يتنقل القارئ بين الأبيات دون انقطاع في تدفق المعنى أو الشعور. القافية العذبة، التي تتكرر برقة وانسجام، تضفي على النص إيقاعًا يشبه تلاطم أمواج البحر، مما يعمق الأثر الشعري.

تكرار الكلمات مثل "أنتِ" و"البحر" يعكس شغف الشاعر وافتتانه، ويمنح النص إيقاعًا دائريًا، وكأن الحب يعود دائمًا إلى نقطة البداية. استخدام الكلمات مثل "سناكِ"، "ملاكِ"، و"هواكِ" يشكل موسيقى داخلية، إذ تلتقي الحروف ذات النغم الرقيق لتنسجم مع روح النص.

القصيدة تعبر عن حب مطلق، حب يتخطى الزمان والمكان، حب يجعل الشاعر يرى محبوبته حتى في الغياب، وكأنها جزء من كيانه. فكرة الحضور الدائم للمحبوبة، حتى في غيابها الجسدي، تُعبر عن نوع نادر من الاندماج العاطفي. يقول:

غائبٌ في آخر الدنيا أنا

وبعيدٌ عنكِ لكنني أراكِ

هذه الأبيات تفيض بالحنين وتعبر عن قدرة الحب على إلغاء الحواجز بين القلوب.

القصيدة تنتهي بتصعيد عاطفي مذهل، حيث يتعهد الشاعر بالاحتفاظ بحبه مهما حدث:

ســــوفَ أصطادُكِ يــــا حوريّتي

أنتِ والبحــــر جميعـــاً في شباكـي

كما ويعلن الشاعر أنه هجر الناس والدنيا من أجل هواها ويظهر تفانيه المطلق، ويُبرز الطابع الاستثنائي لهذا الحب الذي بات مركز حياته:

قدْ هجـــرتُ الناسَ والدنيا معـا

لمْ يَعُـــــدْ يشغلني إلّا هـــــــواكِ

باختصار، هذه القصيدة تمثل سيمفونية شعرية تتناغم فيها الصور الرومانسية مع الموسيقى الشعرية الراقصة مع رقصة البحر العاشق، لتخلق عملاً أدبيًا ينبض بالحب والتحدي، فتخلق تجربة قرائية تفتح آفاق التأمل في الحب والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، متمثلة في هذا الحوار بين الشاعر والبحر والحبيبة، مما يرفع من قيمتها الأدبية والفنية.

***

سعاد الراعي

.........................

جميل حسين الساعدي: نداء البحر

 

هذه قراءة تفكيكية الى قصيدة سركون بولص قارب الى ألكتراز حيث قمت بتقطيع هذه القصيدة الى ثلاثة مقاطع لتسهيل عملية تفكيكها، فالقصيدة وان بدت نسيجاً واحدا للقارئ لكنّ بالنسبة لعملية التفكيك تكون بحاجة الى عزل المقاطع، لتساعدَ في فهم المستوى القريب والمستوى العميق والذي حاول الشاعر اخفاءه

الجو العام للنص

من الملاحظ أنّ النصوص الشعرية التي يكون لها ارتباط بالمكان وشخصياته، تكون انعكاسا للهوية الثقافية للمكان والسياقات الاجتماعية لأهل المكان، ولا يمكن ان يقدّم المكان،سواءا في النص الشعري او النثري بوصفه مجرد إطار مكاني للشخصيات والأحداث معا، لكن نراه يتحول إلى رمز للمفاهيم الثقافية والأحداث التاريخية التي لعبت دورا أساسيا في تشكيل الهوية الشخصية للمكان وناسه، بل أنّه يتشظى الى رمزيات كثيرة تحمل الخصوصيات الثقافية للزمكان وشخصياته، حيث تتحوّل النصوص الشعرية التي أرتبطت بالمكان، الى رموز للشخصيات التي تنبثق منه، لتصبح ممثلا رمزيا للهوية الجمعية والذاكرة الزمكانية، بل هي حافظة وممثلة للتراث الأنساني بشقيّه الثقافي والتأريخي، وبذلك يتحوّل المكان الى جزءٍ مرتبط أرتباطا تأريخيا وجغرافيا في شخصية النصوص الشعرية، عبر المفاهيم الثقافية والتجارب الشخصية التي تحاكي او تعكس الوضع الأجتماعي والسياسي والأنتمائي لهذا المكان، لتتحوّل هذه التفاعلات بين الزمكان والأشخاص الى دلالات موحية ورموز ثقافية أرتبطت في ذاكرة الأنسان والهوية المكوّنة له من خلال البعدين التأريخي والدلالي اللذان كان لهما دور في تكوين هذه الهوية؛

دلالة العنوان قارب الى ألكتراز

النص يتحدث عن قصة أضطهاد أهل البلد الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية (الهنود الحمر) والذين عرفوا بنوع معين من التقاليد والصلوات من جهة، وأخرى بتلك الحروب التي خاضوها ضد الغزاة من الرجال البيض وكيف صادروا أراضيهم وأضطهدوهم أول الأمر، حيث كانت هذه الجزيرة في خليج سان فرنسسكوا عبارة عن سجن لهم – كما قدم الشاعر لها – حاول زعيمهم دينسي بانكس استرداده كونه ملكا للأمة الهندية وهذه الجزيرة تابعة لهم، لكنّ السلطات الأمريكية طردتهم منها وهذا النص يشير الى الوقت الذي تزامنت كتابته بذات الوقت الذي تزامن وقوع الحادثة به وأقصد 1969 وفي هذا العام وقعت ثلاثة أحداث معا هي (وصول الشاعر الى الولايات المتحدة ووقوع هذا الحدث وكتابة هذه القصيدة)

من خلال أحداث القصيدة نرى انّ الشاعر كان قد تعرف الى فتاة هندية أسمها فالو وكانا بأنتظار قارب ليقودهما الى جزيرة ألكتراز في خليج سان فرنسسكو وقد حدد الشاعر الوقت ب الساعة الثانية ليلا وفي هذا اشارة الى شحة عدد القوارب التي تقل الناس الى هذه الجزيرة والتي لم يبق أمامهم وقت الى آخر قارب، ومن خلال هذه الثيمة اي الوصول الى جزيرة ألكتراز تدور أحداث هذا النص والتي عمد الشاعر الى توظيفها عبر مستويين، الأول هو سرد الأحداث وتفاصيلها وهو الظاهر والثاني هو موقف الشاعر من الرجل الأبيض سليل رعاة البقر الأمريكيين والكيفية التي يتعاملون بها مع السكان الأصليين من الهنود الحمر.

المقطع الأول:

في الساعة الثانية ليلاً أعود مع امرأة هندية من

المدينة الى منطقة الخليج، ننتظر القارب الذاهب الى ألكتراز

وهو آخر القوارب - الهندية التي أسمها فالو

ننتظر آخر قارب

قال البارمان الأبيض بلهجتة

مراهن مُدمن: اراهن أنك لن تلحق بالقارب

وأضاف بأسف كاذب، آمل أن تلحق به، على أية حال - -

جلست فالو في الرمل وجلست في الرمل، مع فالو

و أمامنا الكتراز في الماء

جزيرة كالأبهام

في يد هندية أكلت أصابعها الكلاب

أنها من مرسيليا مجدها الميت:

أراك قريبا مون شير

ترعى على سراويلي وأنا أخرج مع فالو في الرمل مع

فالو

وكيف رسمت لي في الضوء البار الفوسفوري

صورة الزعيم الراكع وخلفه الشمس دائرة

تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال

لأنني قلت لها أنني رسام

وكيف

رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع

والشمس المائلة بنصف سهامها على سور المخيّم

يدخل الشاعر نصه عبر عامل الوقت (الساعة الثانية صباحا) ليربط الحدث وهو أنتظارهما الى قارب يقلّهما الى الجزيرة ولأنّ الوقتَ متأخرٌ جدا فيكون وجود قارب نادرا جدا وهذا ما جعل البارمان ينصح ساخرا اُراهن أنّكَ لن تلحق بالقارب وهذا يعكس الروح العنصرية التي تميّز بها البيض عبر تأريخهم نحو اللون الاخر ومنه فالو وصاحبها عبر تقنية السرد التجريدي (الشاعر) ذو الملامح الشرقية ثم يضيف البارمان وهي لفظة مكوّنة من مقطعين

Bar – man

و تعني نادل الحانة او عامل الحانة (آمل ان تلحق به) لكن الشاعر يعمد الى رسم صورة بصرية على نحو أيحائي وخيالي لهذا الرجل الأبيض وهو يرسم علامة السخرية على وجهه بقوله (بأسف كاذب) هذه الجملة تحدث وقعها من حيث الدلالة المضمرة وهو شعور كامن يضمر غير ما يظهر وهذا يحيل الى الدلالة العنصرية وهي المستوى الثاني الذي يحاول الشاعر أخفاءه في أستطراده السردي حيث يستمر في سرده المتلبس بالفكرة فيعمد الى مفهوم التكثيف الصوري وكأنّه يفكر صوريا

(جلًستْ فالو في الرمل وجلستُ في الرمل، مع فالو

و أمامنا الكتراز في الماء)

(ترعى على سراويلي وأنا أخرج مع فالو في الرمل)

(و كيف رسمت لي في الضوء البار الفوسفوري

صورة الزعيم الراكع وخلفه الشمس دائرة)

(تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال)

انّ من يلاحق الصور المتتابعة في هذا المقطع يعرف كيف يفكر الشاعر صوريّاً، هذا التلاحق الصوري يحيلنا الى مفهوم محاكاة الشعر للحياة عبر تقنيات صورية مستغلا كل ما تتيحه اللغة او الميتالغة من أنزياحات دلالية حيث تتميز قوة الشعر بالأيحاء من خلال الأفكار التي تتلبس بالصور والتراكيب المتتابعة والتي تضع القارئ أمام مشهد ميلودرامي او حكاية عبر الشعر سواءا عبر التصريح بالأفكار المجردة او بتلك المختلطة بالأحاسيس عبر المشاعر فالأستعانة بالصور شعريّاً أقرب الى أظهار الحقائق المضمرة او الشعور المخفي تجاه الأشياء، بعبارة أدق، هي ترجمة المشاعر وانعكاساتها،

(تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال

لأنني قلت لها أنني رسام)

(وكيف

رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع)

(والشمس المائلة بنصف سهامها على سور المخيّم)

و هكذا وبذات التقنية يستمر الشاعر عن طريق المحاكاة من خلال الربط بين القصيدة والرسم وكأنّه يحاول أنتاج اللغة عبر تراكيب او مفاهيم جديدة من خلال مفهموم المحاكاة عبر آلية الرسم بالكلمات وكأنّ الشاعر قد تميّز بالخلق الصوري عن طريق بث الحركة والحياة بكل ما حوله من مشاهد او بكل ما تقع عينه عليه من خلال عامليّ الخيال واللغة فمن قدرة على أستحضار أشياء ذهنية الى خلق عوالم جديدة عبر المدركات البصرية، ولا يخفى تأثر الشاعر بتقنية او خصائص الشعر الأنكلو-أمريكي من حيث المعالجات في مفهومي الخيال واللغة عبر آلية المدركات التي تقود الى بناء عوالم جديدة تماما تخلق أتساقها ووحدتها داخل البناء الشعري للتحوّل عبر الصور المتتابعة الى تكثيف يقود الى قراءة هذه الأشطر قراءة ذهنية وبصرية في ذات الوقت، والتي تميّز بها الشاعر صياغة تفرد بها عن أبناء جيله

***

المقطع الثاني:

سأقسم هذه المقطع الى جزئين: الجزء الأول

حيث يمرض الأطفال حيث مات طفلها حيث يهذي

جدّها في المطر - يُجنّ الشيوخ يهرب الشبّان

ليتحولوا الى مدمنين ليقتلوا في المدن ليناموا في الشوارع

و ينتهوا في السجون، النساء بغايا - -

و كيف رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع

و الشمس الأجنبية تقبع عليه كالسرطان، بمخالب

عمياء،

يستمر الشاعر في رسم صور المأساة التي خلّفها الرجل الأبيض على سكان أمريكا الأصليين حيث يستعين الشاعر بالصورة والأساليب الموارية لتقريب الفكرة والتي يلّفها التعقيد فيلتجأ الشاعر الى الأشارة والرمز وتوظيف الأسطورة وهذا جزء من تأثره بالشعر الغربي ولاسيما الأنكلوأمريكي حيث يعمد الى تقنية التمازج التي تساعده على بناء فكرته عبر ربطها بعلاقة خفية وفي هذا المقطع ربط بين ما آلت اليه ظروف الهنود من: يمرض الأطفال، يَجنُّ الشيوخ- يهرب الشبان ثم يتحولون الى مدمنين ليُقتلوا في المدن، ليناموا في الشوارع، وينتهوا في السجون، النساء بغايا، ثم عمد الى مزجها في المقطع الثاني بتلك العلاقة الخفية التي يخفيها كموقف للشاعر من الرجل الأبيض حيث يستطرد في المقطع الجزء الثاني

شمس أمريكية داجنة روّضتها البنادق

شمس رعادة البقر رجال العصابات

شمس الأدمغة المغسولة، دجاجة في قفص، دجاجة

مذبوحة تبحث عن رأسها في الظلام

فأنّ الشمس الداجنة التي روضها بنادق رعاة البقر وهذا رمز للهمجية الأمريكية وهم رجال عصابات هكذا بدأ التأريخ الأمريكي من رجال عصابات ورعاة بقر، أما قوله الأدمغة المغسولة فدلالة على الأنفلات اللا أخلاقي والتسيب الذي سعت له السياسيات الأمريكية لغسل أدمغة الشعب بالأكاذيب، ثم يستعير صورة جميلة لتقريب فكرته وهي: دجاجة في قفص حيث توحي الدلالة الى مونولوج فلسفي في صياغة الصورة عبر تراكيب مختارة بعناية فائقة موظفا الأسطورة الهندية من جهة عبر رسم صورة الزعيم الهندي وهو راكع دينسي بانكس الى توظيفه للزمكان ثم الحدث وهو محاولة أستعاة جزيرة ألكتراز وهكذا تنوع النص عبر دلالاته التي تشظّت تماما الى أصوات وبُنى اسهمت في توليد المعاني الجمالية لهذه القصيدة

الجزء الثاني من هذا المقطع

و كيف بصقت فالو على شمسها

و أمسكت بالورقة وعليها شمس تنظر

كعين حرّاس المخيم، كعين الدولة الآن وليس كشمس القبيلة

و ليس كأي شمس الآن وليس شمس فالو

الآن

و كيف مزّقتْ بأسنانها

هذه الشمس، وكيف قذفت بها

كالروث في وجه البارمان وفي وجه العالم

اللآمعين كالأحذية

و علا غضبها كنهر من النخاع يضرب جدران جسدها

و غربان مجنونة تنعق بين اسنانها

تطير من عينيها الضيقتين

يعود الشاعر الى صديقته الهندية فالو وكيف سخرتْ من كلّ ما آلت اليه الأحداثُ حتى بصقت على الشمس الأمريكية والتي لم تعد شمس قبيلتها الجميلة التي كانت تختبأ خلف تلال جزيرة ألكتراز التي أحتّلها الأمريكيون البيض، لأنّ شمسهم لا تشبه شمس فالو التي قادها غضبها الى تمزيق الصورة التي تحمل رسم الشمس الأميريكية ولا تحمل رسم شمس قبيلتها حيث لم تجد أمامها ممثلا للأمريكي الأبيض غير نادل الحانة البارمان لتقذف الورقة مثل روث الحصان بوجه الذي يرمز الى عرقه الأبيض الذي كان سببا في مأساة فالو وقبيلتها ثم قادها الحنق الى غضب مثل نهر نخاع يضرب جدران جسدها وأصبحت كغربان مجنونة سوداء تتطاير من عينيها، نستطيع ان نلمح الأنزياح الدلالي في هذه الجمل يؤدي الى خلق المعاني الجمالية عبر التحولات الشعورية في الأستطراد الوصفي لحالة فالو قاد الى رسم صورة حالة صديقته عبر متواليات نفسية تحتوي على طاقة توالدية وبنيّة وصفية محفزّة أخذت بالأرتقاء بالنص من السردي الى الأسطوري وهذا سوف يقود الى أثارة المتلقي عبر آليتي الخيال والتأمل من خلال الأنزياحات الدلالية المتوالية التي لعبت دورا في التكثيف الأستطرادي المتشكل من خلال الأيحاء البصري والمعاني الأشارية ودلالاتها نلاحظ عبر هذا المقطع تشكيل بصري أنتهى بأنتهاء المقطع، وتطير من عينيها الضيقتين

***

المقطع الثالث:

و ذلك

عندما نصحني البارمان لفائدتي

بأنها خطرة حين تغضب

بأنها نصف مجنونة، هندية من قبيلة شايان

هربت من سبعة مخيمات حكومية وتشردت بعيدا

تشردت بعيدا في وطنها الذي أغتصبوه بالآلة

في القفص الذي يحلم الدولار بالمسدس

و المسدس بالدولار

و فالو

التي كانت شيطانية وصغيرة

تحارب البوليس والقوادين في الشوارع

في جزمتها الطويلة المصنوعة من جلد الغزال

ذهبنا في الساعة الثانية ليلا آخر قارب الى ألكترار

أنا والهندية التي أسمها فالو

...........      سان فرانسسكو 1969

يبدأ هذا المقطع من خلال السرد الأستطرادي ليقود الى رسم صورة نهائية للنص عبر آلية اللغة هذه المرة المتمثل بالحوار بين الشاعر وعامل الحانة البارمان من خلال طاقة الفعل، نصحني، حيث أستخدام عامل اللغة الأيهامي عبر سلسلة من الصفات مثل: خطرة، نصف مجنونة، هربت، تشرّدت، حيث قادت هذه الألفاظ المشحونة بدلالات حسيّة مؤطرة بهواجس نفسية ومشاعر عبارة عن مزيج من الألم والحسرة قادت الشاعر الى تكوين موقفه من الحدث الذي قاده الأمريكيون البيض حيث يعود الشاعر الى موقفه السابق منهم متمثلا بقوله:

تشرّدتْ بعيدا في وطنها الذي أغتصبوه بالآلة

في القفص الذي يحلمُ الدولار بالمسدس

و المسدس بالدولار

لا يخفي الشاعر مشاعره من مواقف الرجل الأبيض الذي كان يتعامل بعنصرية تامة مع سكان البلد الأصليين ولا يترك مناسبة في القصيدة ألا وأستغلها ليصب غضبه عليهم عبر هذا الحوار المونولوجي بين الذات والعالم وكأنّه معنيّ برسم صورة بانورامية عبر الكلمات التي أنتقاها بعناية فائقة لتؤدي دورها الوظيفي عبر آليتيّ السرد والخيال وكأنّه يعمد الى تشكيل حوار داخلي نفسي بين الضحية المتمثلة بصديقته فالو الهندية من قبيلة شاشان والجلاد المتثل بالرجل الأبيض وينوب عنه في هذا النص البارمان عامل الحانة الذي أخذ على عاتقه الأساءة الى فالو من خلال نعتها بألفاظ مهينة، حيث تقود هذه الحوارية الى تفجير الصراع المخفي بين الهنود والبيض من خلال شخصيتي أساستين هما الهندية فالو والرجل الأبيض عامل الحانة حيث نجح الشاعر بتوظيف هذه المولودراما الى أرتقاء لغوي حفّز الخيالي والشعري عبر آلية الوصف المشحون بالتراكيب الدلالية والصور المتتالية التي قادت الى فضاء سردي أخّاذ يقود القارئ الى عوالمه دون ملل من القراءة حيث ينهي الشاعر هذه الدراما الشعرية بمقطع رومانسي ساحر ليربطه في بداية هذه القصيدة والتي بدأت عبر الحديث عن الذهاب الى جزيرة ألكتراز

ذهبنا في الساعة الثانية ليلا آخر قارب الى ألكترار

أنا والهندية التي أسمها فالو

و كأنّ الشاعر يريد ان يكتب النهاية الى هذه القصة التي رسمها عبر مفهومي اللغة والخيال حيث قادتا الى عوالم مشحونة بالأنزياحات الدلالية والأحالات الصورية التي جاءت في بعض المقاطع بشكل أستطرادي مدروس بعناية فائقة من قبل الشاعر

الخصائص الفنية للقصيدة

تكوّنت هذه القصيدة من ثلاثة مستويات دلاليّة:

المستوى الأول: عبر مفهوم المكان وهو الجزيرة حيث استهل الشاعر القصيدة بتعريف حول بناء مكاني ذي إشارات مكانية ضاربة في عمق التاريخ والزمن والأسطورة، محاولا أستخدام المدلول الشعري لتوظيفها عبر عامليّ الزمكان والأسطورة والتي تأتي هنا عبر الميثولوجيا الخاصة بالهنود الحمر السكان الأصليين لهذه الجزيرة، ألكتراز، لذلك حشد الشاعر أمكانياته اللغوية والشعرية عبر توظيفٍ سردي تمكن من لجمه عبر الصور الشعرية التي أنسابتْ بشكل تلقائي درامي ممتع في هذه القصيدة، فمن الصعب على القارئ تذوّق الدلالات الأحالية بدون فهم الأسطورة التي قادت الى الموضوع، والتي نجح الشاعر بتوظيفها بدقة فائقة في هذه النص رغم الاستطراد السردي الذي أخذ مداه في النص ودون خيال ولا تكثيف صوري لكن الفكرة قد صمدت في مقاطع النص فحولت السرد الى شعر فارتقى الى مصاف الجمال الشعري

المستوى الثاني: توظيف الدلالة عبر علاقة عابرة مع فتاة هندية فالو لأعطاء بعد درامي للحدث يذكر برؤيا هوليودية ان القصص الناجحة في السينما لا تتولد الا عبر قصة حبٍ تكون بمثابة ثيمة الحدث، والملاحظ هنا ان الشاعر وظّف هذه الثيمة بدربة وعناية فئقة وحقيقية عبر علاقته ب فالو ذات الجذور الهندية والتي تود ان تذهب الى جزيرة أجدادها لتتباهى بتأريخ زعيمها الذي وقف ضد الرجل الأبيض المختصب لحقهم التاريخي في المكان جزيرة ألكتراز

المستوى الثالث:

يستخدم فيها الشاعر حرف العطف "الواو" بصورة ملفتة فمن خلال 58 شطر عدد أبيات القصيدة عمد الشاعر الى أستخدام حرف العطف " الواو " 18 مرة اي أنّه تم توظيفه بثلث القصيدة ومهمة هذا الحرف هو ربط الأمكنة وأزمنة وشخصيات وحالات ورؤى وأفكار وقيم ونماذج وصور متعددة ومتنوعة في تشكيلاتها والذي أدّى بدوه الى ربط نسيج القصيدة بشكل لفظي يؤدي الى وحدة الموضوع، حيث لعب حرف العطف دورا محوريا في المحافظة على النسيج الشعري على مستوى المكان والحدث الدرامي والفكرة من خلال الطاقة الفونيمية العالية التي تجمعت من خلال تكراره مرة18 مما عمل على توليد طاقة موسيقية أرتقت بالنص وحافظت على تماسكه من خلال الربطين الموسيقي والسردي

الدلالتان النصيّتان في القصيدة:

هذه القصيدة تحتوي على دلالتين نصيتين:

الدلالة الأولى وهي الظاهرة: وهو مسرح الحدث الذي يحاول الشاعر ان يأخذنا اليه وهو عالم مرئي عبر مفاهيمه الدلالية من خلال لقائه بصديقة من جذور هندية تحاول ان تأخذه الى جزيرة ألكتراز وهي بعض من تراث قبيلتها الهندية ولم يجدوا قاربا يقلهما الى الجزيرة وهكذا تتوالى أحداث هذه القصيدة

الدلالة الثانية المضمرة : هي ما يحمله الشاعر من فكرة تلبست بموقف خفي أزاء الرجل الأبيض والذي يمثل غالبية السكان الأمريكيين والذي يعني أغتصاب الحقوق الشرعية لسكان البلد الأصليين وبالنزعة الأمبريالية التي تكوّن ذاكرة القتل والأحتلال والسيطرة في عقلية الأمريكي الأبيض والذي لا يخفي الشاعر موقفه الحاد منه سواءا على مستوى هذه القصيدة ام على مستواه الشخصي فكل من يعرف الشاعر يعرف مدى كرهه لأمريكا وللرجل الأمريكي الأبيض وقد كان هذا الحدث مناسبة للشاعر ليصب غضبه على النزعة العنصرية المتمثلة في الرجل الأبيض وهذا هو المستوى الدلالي المخفي في القصيدة

***

رسول عدنان - ناقد وشاعر عراقي

 

تتميز قصص "ستار الحلم" للقاصة المغربية غزلان شرفي بنزعة واقعية سواء على مستوى البناء القصصي المستوفي للعناصر الأساسية للقصة القصيرة من حدث، وحبكة، وحوار، واسترجاع... أو على مستوى الوقائع الوقائع المستمدة، في غالبها من غمرة الواقع، وما يعج به من مفارقات، وصُدَف يتجاذبها فيض من ضروب المعاناة، وأنماط المآسي.

فالحدث الذي طغى على نصوص المجموعة ارتبط بحالات الطلاق بمختلف خلفياتها، وتبعاتها، فضلا عن سمة ظروف العيش المتدني، وما يشوبه من عوز وفاقة تتمرغ في حمأته فئات عريضة من مجتمع تنخره العديد من الآفات ، وتمزقه الكثير من الأزمات، مع حضور تيمات ذات أبعاد واقعية، ووجودية، كما اخترقت نصوص المجموعة انفلاتات وانزياحات أثثتها انبعاثات الصدفة، وجمالية العبارة، وأمام انسداد الآفاق في وجه الكثير من أفراد الطبقات المعوزة يتم التفكير في سلك طرائق ومسلكيات تنقذهم من براثن العطالة كالهجرة التي خاضوا غمارها كمخلص من ربقة الضياع واليأس، ومنقذ من وضع متردي مأزوم.

فقبل الوقوف على الأحداث التي تميزت بالتنوع والغزارة سنذكر ببعض عناصر القص التي وردت في قصص المجموعة كالحوار في قصة " حلم مشروع ": " ـ لم لا تعودين لمقاعد الدراسة يا فاطمة ؟... ـ ليت الأمر بيدي يا أستاذة. " ص 61، أو في قصة " حِمْل مرغوب ": " ـ هل أرهقك الحمل ؟... ـ إنما أرهقني الحلم." ص 88، والاسترجاع في نص " القرار الأخير": " عادت بذاكرتها كثيرا إلى الخلف. " ص38، بينما تضفي الأحداث، بوفرتها وتعددها، على المتن القصصي زخما بحمولات وجودية وحسية ترتهن لراهنية معطوبة لا تفتأ، رغم ما يكتنفها أحيانا من بؤس، تتطلع لاستشراف آفاق تستجيب لكتلة أحلام وأماني ظلت بعيدة ومستعصية عبر هجرة نحو المجهول وإن كان الطريق نحوها محفوفا بالمخاطر والصعوبات.

ويخترق موضوع الطلاق، باعتبار هيمنته على قصص المجموعة، العديد من الأحداث ابتداء من أول نص " جحود ": تلك السعادة التي اختزلتها في صغيرها. الذي هتك ستر وحدتها بقدومه إلى دنياها التي منحتها لقب (مطلقة) وهي في ريعان شبابها. " ص7، وفي قصة " خسارة مزدوجة "، حيث عاشت نفس الحالة، حالة الطلاق، سلمى التي انفصلت عن زوج أنجبت منه ابن وطفلة: " اضطرت سلمى للسماح لطليقها برؤية ابنيه. وقضاء يوم الأحد برمته معهما. " ص12، وفي " القرار الأخير " حيث يتكرر موضوع الطلاق بين مديرة مؤسسة نجحت بفضل كدها واجتهادها على تسلق سلم الترقي إلا أنها فشلت في حياتها الزوجية مع زوج اكتشفت خيانته لها، مما ساهم في توتر علاقتهما، والتي قررت إنهاءها بعد حصول ابنيها التوأم، وبعدهما ابنتها على شهادة الباكلوريا وانتقالهما لدراسة الهندسة المعمارية بالخارج، حيث كلفت المحامي بإتمام إجراءات الطلاق والتحاقها بأبنائها في الخارج. وحضر الطلاق أيضا في قصة " غصة عالقة "، و" أطياف الماضي " كتجسيد لحالة اجتماعية تفرز تداعيات وتبعات تتبخر معها آمال وأحلام أمهات وأبناء بتغيير مجرى حياتهم عبر ما يتخذونه من خطوات ومسارات هي وليدة ظرفية طارئة تفتح أمامهم آفاقا لم يفكروا فيها، ولم يخططوا لها من قبل. ويبرز موضوع الهجرة كذلك ضمن ثنايا نصوص الأضمومة، حيث تتم الإشارة إليه في اول نص (جحود) كاختيار أمام الزوجة المطلقة لبناء حياة جديدة تسعفها على تجاوز نكسة الطلاق إلا أنها رفضت ذلك مؤثرة البقاء رفقة صغيرها بدل الهجرة التي اقترحها عليها أخوها الذي آثر الحياة في الضفة الأخرى، بينما كانت الحالة مختلفة بالنسبة لابن التاجر الحاج عبد الله في قصة " التجارة المربحة " الذي هاجر للدراسة بأمريكا وحاز على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد والتسيير، إلا أنه اختار البقاء للاشتغال بإحدى الشركات هناك مخيبا رغبة والده المضمرة في عودته إلى أحضان بلده للإشراف على تجارة أبيه. وهجرة الأب إلى بلاد الخليج في قصة " طفولة متشظية " كمهندس في شركة نفط لتوفير ما يكفي من مال يضمن له حياة كريمة ببلاده التي ينوي العودة إليها. وهجرة عبر قوارب الموت في قصة " وحيد " الذي هلك وسط مياه البحر وأمواجه وفي حلقه غصة إنقاذ مستقبله و تعويض والدته عن سنوات البؤس والشقاء، وفي قصة " أجنحة الحلم " حيث اختفى سعيد مخلفا رسالة يخبر فيها والدته بعبارات: " وجدت لي جناحين وطرت بهما إلى بلاد الكفار. الجهاد فيهم سبيلي إلى حياة أفضل بعيدا عن دنيا العذاب التي لم تمنحني من السعادة إلا اسمي فقط. " ص 120، وقد تضمنت المجموعة مظاهر اختلالات داخل مجتمع يعاني من تفاوت طبقي يكشف مدى معاناة وحرمان فئات عريضة من أبناء المجتمع من نيل ما يستحقون من فرص بفضل مستواهم المعرفي والتعليمي المتميز كما يتجسد ذلك في قصة " أحلام... قيد الاعتقال " التي حرمت من ولوج كلية طب الأسنان: " كلية طب الأسنان مكلفة... بينما معهدان آخران يتطلب الالتحاق بهما الانتقال للسكن في مدن أخرى. وما لذلك من تبعات مادية ما حسبت لها حسابا في غمرة فرحتها بنجاحها، وانتشائها بتفوقها. " ص 84، وضع يعكس إحباطا مريرا، وخيبة عارمة اختزلها الأب في قوله: " إذا أحبت إتمام مشوارها الدراسي، فلتنتسب للجامعة، مثلها مثل قريناتها، من أبناء العائلة والجيران، ولتترك المعاهد والكليات لمن أنشأت لأجلهم... فأبناء الشعب البسطاء يجب أن يكون سقف أحلامهم قريبا من هامة رؤوسهم. " ص 84، واقع يتكرر في نص " المباراة النهائية "، والتي لم تشفع شهادة "الماستر" لحاملها من العثور على شغل يدرأ عنه معاناة البطالة: " ها هي شهادة " الماستر " التي كابد للحصول عليها تتوارى عن الأعين في درج مظلم من أدراج مكتبه الخشبي المهترىء... لا أمل في ولوج مسالك الوظيفة العمومية في غياب واسطة (معتبرة) ولا مستقبل مع القطاع الخاص في ظل الركود الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا. " 114، وإلى جانب هذه الموضوعات تضمنت المجموعة عناصر، ساهمت في إثراء حمولاتها الدلالية وتوسيع دائرتها التعبيرية، كالمقارنة في نص " جحود " لتوضيح الفرق بين حالة الطليقة في ماض زاخر بالحيوية، ممتلئ بالأنوثة: " ليطالعها شبح امرأة كانت في الماضي البعيد تنفجر حيوية وأنوثة. " ص 7، وما آلت إليه من خيبة آمال مس كيانها، وأخمد شعلته التي كانت ساطعة متوهجة: " واليوم لم يتبق منها إلا حطام لملمت بعض أجزائه ووضعتها بكيس مغلق وأوصدت عليه خافقها. " ص 7، عبر مونولوغ حميمي ذات خلوة مفعمة بمزيج من مشاعر تنضح هما وغما. ومقارنة الابن بين وضع والدته المعيشي المتواضع، وحالة والده الراقية والميسورة: " وَوُضِع في مقارنة بين حياته مع والدته في حجرتها الخانقة وبين عيشه في كنف والده حيث الرحابة والسعة والحرية. " ص 8، وفي وضع صورة بين أسرة معوزة ورب البيت المأجور حيث يتجلى البون الشاسع، بشكل ملحوظ وملموس: " لقد بدا له صاحب البيت في تلك اللحظة. وحشا آدميا استطال حتى بلغ عنان السماء. وحجب عنه نور الشمس. بينما كانت أمه وإخوته كالأقزام أمامه طولا وشأنا. " ص 69. وعنصر المفارقة في قصة " التجارة المربحة "، وطرفاها التاجر الحاج عبد الله المتشبع بمبادئ الدين الإسلامي في حثه على البر والإحسان: " اعتاد أن يتصدق بواحد من تجهيزات محله الكهربائية... إلى إحدى العائلات المحتاجة في نهاية كل شهر. " ص 9، ابنه المتخرج من أرقى جامعات أمريكا في تخصص الاقتصاد والتسيير الذي عارض فكرة تبرع والده بالتجهيزات الكهربائية للأسر المحتاجة: " فأنكر الاقتصادي اللامع على والده تصرفه. مبينا له بمنطق الربح والخسارة الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي، المبالغ الطائلة التي ضيعها سدى طوال هذه السنوات. " ص 10، بل حذره من إفلاس مشروعه التجاري إن استمر في توزيع الهبات: " حذره من الإفلاس الوشيك إن استمر الوضع على ماهو عليه. " ص 11، وكان رد الأب انطلاقا من قناعة دينية راسخة على البر والإحسان بتقديم الدعم والمساعدة لكل معوز ومحتاج: " إنك فعلا قد حصلت على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد. وإنك فعلا بارع في العمليات الحسابية ودراسة الجدوى من كل مشروع. لكني أفوقك علما وخبرة وفهما لأن مرجعي كتاب ربي وسنة نبيي... " ص 11، كما انضافت الصدفة إلى باقي العناصر مسهمة في إغناء نسيج السرد، وتوسيع دائرة معانيه ودلالاته، شاءت الصدفة في قصة " حياة جديدة " أن يُحاكَم ابن الزوج، المدلل، من الزوجة الثانية، والذي اقترف جريرة قتل بسيارة والده التي كان يقودها تحت تأثير جرعة مخدر من طرف ابنته من طليقته، والتي صارت، أي الابنة، قاضية كُلِّفت بمحاكمة أخيها من زوجة أبيها الثانية الشيء الذي أذهل الأب، وزج به في دوامة ذهول وحيرة. وكان للصدفة حضور إثر تزامن حدث اعتقال الطالب من طرف الشرطة، ضمن المتهمين بشغب الملاعب، ورسالة الإشعار بقبوله في ولوج المعهد الملكي للشرطة، مما أقحمه وعائلته في قعر أزمة تعالقت بأسئلة عويصة ومعقدة حول الحكم الذي سيصدر في حقه والذي قد يحرمه من حلم الوظيفة الذي ظلت تربطه به خيوط من أمل رفيع، أم أن الحكم سيؤول إلى تبرئته لعدم توفره على سوابق، ومراعاة قبوله في وظيفة ستنقذ مستقبله بالقطع مع معاناة مرحلة العطالة التي أثرت على حياته النفسية والذهنية والعمرية. احتمالات وتوقعات مقلقة ومحيرة، وما تخلقه وتخلفه من آثار في نفسية الطالب الجامعي العاطل وأفراد أسرته. وموضوع الموت الذي ورد بأشكال مختلفة في قصص المجموعة مثل ما ورد في قصة " وحيد " الذي اختطفه الموت، وهو على متن قارب، في اتجاه الضفة الأخرى، رحلة لم تكلل بالنجاح أجهضت معها أحلام إنقاذ حياة وحيد وأسرته وبالخصوص والدته التي غمره إحساس فظيع، وهو يلفظ آخر أنفاسه بخذلانها، وقصة "بائع الشاي " الذي لم يمهله الموت على تدبير مصاريف أدوات ابنته المدرسية، فقضى نحبه، من فرط الجهد والعياء، وهو منشغل ببيع الشاي بأحد الأسواق لتحيق حلم ابنته ورغبتها في الحصول على الأدوات المدرسية.

ورغم سيطرة النزعة الواقعية على أسلوب قصص مجموعة " ستار الحلم "، وأحداثها فإنها لم تخل من تعابير ذات طابع جمالي بمجازية أضفت عليها مسحة جمالية ودلالية درأت عنها مغبة السقوط في إسار النمطية والتقريرية، ويتجلى ذلك في قصة " خسارة مزدوجة " حيث نقرأ: " رفرفت فراشات الحب على العش الجميل، وظللته أجنحة السعادة. " ص 13، في تصوير رومانسي نهل من مكونات محيط طبيعي يطفح نضارة وبهاء (فراشات، العش، ظللته، أجنحة)، وفي نص " حب لا مشروط " نقرأ أيضا: " فهو كان كل عالمها. وهي كانت شمسه وقمره. " ص 32، بذكر الشمس والقمر في سياق مجازي تشبيهي يفتح أفاقا رحبة غنية بأبعادها الرمزية والدلالية. وقصة " بقي فقط ثلاثة أيام " الذي تخلع فيه الكاتبة على بيت، متواضع بسيط، أوصافا نابعة من عشق متجذر في وجدانها وذاكرتها تمنحه دفقا من روعة وجمال: " ودفء بيتها الذي تعشق كل ركن فيه رغم بساطته، ووضاعة أثاثه، بينما يخلع عليه الزمن رداء الشر، ويصبح عروسا حسناء تتمايل بغنج ودلال... " ص66، وصف دال ومعبر للبيت بالعروس الحسناء الغنوج الدلول. وكلها تعابير تكسر نمطية السرد ورتابته، وتمنحه بالتالي إضافات يغدو معها أكثر غنى وتنوعا.

نخلص في الأخير إلى أن قصص " ستار الحلم " منجز قصصي يندرج ضمن جنس القصة القصيرة زاوج بين الطابع الواقعي على مستوى استقاء الحدث، وتشكيله عبر شخصيات تنتمي لشرائح اجتماعية قطباها الفقر والغنى ارتهنت لخلفيات وآفاق واقع في رسم مناحي حياة لم تسلم من هزات وتقلبات أثثتها عوامل كالصدفة والحلم المفارقة.

***

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.............................

ــ ستار الحلم (قصص قصيرة) لغزلان شرفي.

ــ مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر 2022.

 

قصيدة /سيمفونيَّة/ للشاعرة نازك مسُّوح – سوريا تتميز بجمالية موسيقية واضحة، حيث تبرز الألفاظ والتراكيب بشكل يتناغم مع المعاني العميقة التي تحملها.

الموسيقى في القصيدة:

الإيقاع:

تعتمد الشاعرة على تكرار الكلمات والعبارات، مما يخلق إيقاعاً متدفقاً يشبه الأنغام الموسيقية. مثل تكرار /هلمُّوا/ و/أنتِ/.

الصور البلاغية:

استخدمت الشاعرة استعارات جميلة مثل /فراشة الضياء/ و/أنت رضعتِ حليباً محلَّى بسكَّرِ الشهقة/، مما يضيف عمقاً للمشاعر ويعزز الصوت الشعري.

التوازن والتناغم:

تتنقل بين المشاعر المتناقضة مثل الشغف والهدوء، مما يمنح القصيدة تنوعاً يُشبه التنقل بين مقاطع موسيقية مختلفة.

الألفاظ المختارة:

استخدام ألفاظ حسية مثل /عطر/، /نار/، و/عسل/، يساهم في خلق تجربة حسية غنية، مما يُشعر القارئ بأنه يعيش اللحظة.

الرمزية:

تمثل الرموز مثل /النار/ و/الماء/ العلاقة بين الحب والشغف، مما يعزز من عمق التجربة الشعرية ويُضفي عليها بعداً روحياً.

أنّ هذه القصيدة تُعبر أيضاً عن تجربة عاطفية عميقة وتستكشف موضوعات الحب، الهوية، والبحث عن المعنى. دعونا الان نقرأها بطريقة أعمق:

1. التمثيل الرمزي:

الفراشة: ترمز إلى الهشاشة والجمال، مما يبرز تعقيد العواطف الإنسانية. تعكس الفراشة جمال الروح وتجعل القارئ يتفكر في التحول والتجدد.

النار والماء: تمثل هذه العناصر الثنائيات المتعارضة - الحب والشغف (النار) والهدوء والخصب (الماء). هذا التوازن يعكس الصراع الداخلي بين العواطف والرغبات.

2. اللغة التصويرية:

الشاعرة تستخدم صورًا حية، مثل /تلثمين عنَّابَ البُروق/، التي تجعل المشاعر ملموسة وتجعل القارئ يشعر وكأنه في قلب التجربة. هذه الصور ليست مجرد تعبيرات جمالية بل تمثل تجارب حقيقية وعميقة.

3. الأبعاد النفسية:

الاستبطان: تُظهر الشاعرة الصراع الداخلي، كأنها تنظر في أعماق ذاتها وتستكشف أفكارها ومشاعرها. تطرح أسئلة مثل /مِن أين لكِ هذا/، مما يعكس حالة من الاستفسار والبحث عن الذات.

الدهشة والعجب: تبرز مشاعر الدهشة كجزء من تجربة الحب، حيث يبدو أن الشاعرة تُدرك أن بعض المشاعر لا يمكن تفسيرها بسهولة.

4. الإيقاع والتكرار:

تستخدم الشاعرة التكرار بشكل مُعبر، مما يُعزز الإيقاع ويخلق حالة من التوتر والتشويق. العبارات مثل /هلمُّوا/ تخلق دعوة جماعية للمشاركة في هذه التجربة العاطفية، مما يعكس روح الجماعة.

5. التواصل مع التراث:

إشارة إلى /المَعرِّي/ تعكس التفاعل مع التراث الأدبي العربي، حيث تجسد الشاعرة حبها للأدب وتجربتها الشخصية في سياق أوسع. هذه الإشارة تُضيف بُعدًا تاريخيًا وثقافيًا للقصيدة.

6. المشاعر الإنسانية:

تعبر القصيدة عن مشاعر الحب والشغف، لكنها أيضاً تتناول العزلة والبحث عن الارتباط. هناك شعور بالحنين والاحتياج إلى الآخر، مما يجعل التجربة عميقة ومتنوعة.

خلاصة:

تُعتبر /سيمفونيَّة/ تجسيدًا للفن الشعري الذي يجمع بين الإبداع والعمق العاطفي، حيث تستخدم نازك مسُّوح اللغة والصور بطريقة تجعل القارئ يغوص في عالم من المشاعر والأفكار. تعكس القصيدة رحلة داخل النفس البشرية، تستحضر الجمال والحنين والتعقيد الموجود في العلاقات الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

........................

سيمفونيَّة / نازك مسُّوح

أراكِ  تُحلِّقينَ  بجناحَي نور

تمرّينَ بعطرك وبسرِّ الروح،

وبداخلِك أفكارُكِ تتعاركُ مع المعاني..

نداءٌ يأتي من أبعدِ نقطةٍ فيك..

أيُّها الحالمُ بي أقبِلْ

لملمْ جهاتِ القلبِ المشتَّتة

وعانقِ الشغفَ بيقينِ السؤال:

مِن أينَ لكِ هذا

وأنتِ فراشةٌ الضياء؟

قربكِ قربُ النار

وكلُّك يقولُ برداً وسلاما،

وقبضُ الريحِ يعلنُ دستورَه..

توسّدي كفَّ اللقاء

واكتبي بلسانٍ فصيحِ الشهد

أنا طفلتُك..

لا الدهشةُ تملكُ تفسيرها

ولا العجبُ يقيمُ سرادقهُ

ببساطةِ تفسيرِ الماء..

أنت رضعتِ حليباً محلَّى بسكَّرِ الشهقة

أعلمُ لا ثغرَ لكِ

أعلمُ  أنَّكِ عندَ المساءِ  تلثمينَ عنَّابَ البُروقِ

متى ما زَمجرَ وحشُ الجمال

تهمسينَ لزنابقَ غَفَت في أحضانِ الحُقول:

استيقِظوا...

فكلّي عسلٌ ونار!

هلمُّوا لهطولٍ

يحيي ويحيي

يسابقُ أنفاسَ العاشِقين

ليصنعوا سباقَ الركضِ إلى جنَّتي

وكلِّي غيمٌ يتلاقى في طبقاتِ العِناق

ليسكبَ قطراتِ الهوى

على صفيحِ قلوبٍ أعياها العطش..

هلمُّوا نغنِّي أغاني الحبِّ،

ونكتب حولَ الماءِ، حول النارِ ما تيسّر من لهفةٍ

نُدندنُ سيمفونيةَ الخِصب،

نهلِّلُ للخيرِ معَ "المَعرِّي"

"فلا هطلَت عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ ليسَ تنتظمُ البِلادا"

***

نازك مسُّوح

قراءة نقدية في نصّ: التسكع في ليالي الشراب كم هو حزن لذيذ!

للشاعرة: چـنور نامـق – كردستان العراق

***

مقدمة: نصّ: التسكع في ليالي الشراب.. كم هو حزن لذيذ؟ للشاعرة الكردية چنور نامق هو نصّ مفعم بالصور الشعرية المركّبة والرمزية العميقة التي تعكس تجربة إنسانية مأزومة. يحمل النص معاناة الذات المرهقة والقلقة، ويستعرض جوانب من الاغتراب الداخلي والخارجي، مشيراً إلى علاقة الإنسان بالألم والذكريات والهويات المكسورة. من خلال استخدام الشاعرة لتقنيات شعرية متعددة، يتم تسليط الضوء على العيش في حالة من التشتت النفسي والروحي، في قلب عالم يضج بالخيبة والندم.

البنية الشعرية والأسلوب:

يتسم النصّ بالأسلوب التعبيري الذي يركز على الاستعارات والرمزيات. يبدأ النصّ بصورة شديدة الخصوصية: /التسكع في ليالي الشراب كم هو حزن لذيذ؟!/، وهي دعوة للتساؤل عن طبيعة الألم وكيف يمكن أن يكون لذيذاً في أوقات معينة. هذه الجملة تُثير العديد من الأسئلة الفلسفية حول علاقة الإنسان بالحزن، وتطرح فكرة أن الألم قد يكون أحياناً مصحوباً بمتعة أو تسلية، ربما بسبب العادة أو الانفصال العاطفي.

تتوالى الصور الشعرية المرتبطة بالمعاناة والفقدان؛ فالطبيب في /ردهة العشق/ يوصف بأنه يُعالج الشاعرة بالقصائد وجبتين و/ثلاث ليالي أرق/، مما يخلق توازناً بين العلاج والنضوج الروحي، وبين المعاناة النفسية الناتجة عن الاغتراب والفراغ العاطفي.

الموضوعات والعوالم الشعرية:

تتوزع موضوعات النصّ بين الغربة الداخلية والذكريات الحزينة، والتساؤل الفلسفي عن الحب والموت، واللذة التي يمكن أن يستشعرها الفرد من الألم. فالشاعرة تتحدث عن المهجر كزمن ضائع، وتخفيه /تحت وسادتي/ في إشارة إلى محاولتها مواجهة هذه المشاعر المخبأة. إن المهجر، سواء كان جغرافياً أو نفسياً، يصبح مكاناً للألم والتأمل.

الحديث عن /سكرات الموت/ في غياب الحبيب يشير إلى شعور عميق بالفقد والتضحية، في الوقت الذي يتخذ فيه /التسكع في ليالي الشراب/ ملاذاً للهروب من هذه المعاناة. النص يلامس مفهوم /الموت الوجودي/ الذي يتمثّل في حالة الشاعرة حيث يصبح الخيال وحده، سواء عبر القصيدة أو الشراب، هو المكان الوحيد للهروب من الواقع القاسي.

تذكر الوطن هنا يعكس شعوراً مزدوجاً من الحنين والخيبة، فالوطن في النصّ ليس فقط المكان الجغرافي، بل هو أيضا حالة من الذاكرة والهوية التي تتعرض للتشويه في غياب الحبيب. وهذه الصورة تأخذ شكل /عدم نضوج التفاح في بستان القلب/، مما يوحي بأن الذاكرة والعاطفة لا تنضج، بل تبقى مشوهة أو غير مكتملة بسبب الغياب المستمر.

التكرار والرمزية:

يستخدم النصّ التكرار بشكل مكثف ليعزز المشاعر التي يعبر عنها. فمثلاً، تتكرر عبارة /ثلاث وجبات/ في سياقات مختلفة لتعبر عن صبر مرير وحالة متكررة من الذنب والحزن. كما يتكرر الحديث عن /القصيدة/ كملاذ وحيد في محاولات للتصالح مع الذات والعالم الخارجي. التكرار يضيف إيقاعاً كئيباً للنص ويعمق من إحساس المعاناة المستمرة.

أما /سيجارة تتركني/ فهي صورة رمزية يمكن أن تكون إشارة إلى طريقة الشاعرة في التعامل مع الألم، حيث تأخذ لحظة هروب مؤقتة عبر التدخين، الذي يرمز أحياناً إلى التخفيف المؤقت للهموم، إلا أنه يبقى في النهاية غير كافٍ لتخفيف الآلام الداخلية العميقة.

الأسلوب الفلسفي والتأملي:

يتميز النصّ بأسلوب فلسفي تأملي يتساءل عن العلاقة بين العاطفة والموت، الحضور والغياب. الشاعرة تطرح أفكاراً متناقضة بين الحياة والموت، بين الأمل والخيبة، ما يفتح المجال للتفكير في معاناة النفس البشرية حين تتعرض للهجران والخيانة. السؤال الرئيسي في النصّ، /كم هو حزن لذيذ؟/، يعبّر عن التناقض الداخلي بين الحب والألم، كما يطرح فكرة أن الألم قد يُعاش ويُستمتع به من خلال التعود عليه.

الخاتمة:

إن نصّ /التسكع في ليالي الشراب: كم هو حزن لذيذ؟/ هو نصّ شعري يعكس معاناة الوجود البشري في لحظات من الفقد والحزن، ويطرح تساؤلات حول علاقة الإنسان بالألم واللذة. من خلال استخدام الرمزية، التكرار، والصور الشعرية الغنية، تقدّم الشاعرة رؤية معقدة لحالة الإنسان في مواجهة الأزمات الوجودية والنفسية. النصّ يعبر عن فراغ داخلي عميق يغذي خيبة الأمل ويبحث عن ملاذ في الخيال، بينما يستمر السؤال الأهم في الترديد: كيف يمكن أن يكون الحزن لذيذاً؟

***

بقلم: د. كريم عبد الله – العراق

...............................

التسكع في ليالي الشراب

كم هو حزن لذيذ؟!

عدد يتركني

الطبيب في ردهة العشق

وصف لي قراءة القصائد وجبتين

وثلاث ليالي ارق

زمنٌ أعطاني المهجر

لأخبئه تحت وسادتي

وأهجر الصباحات

وكأس من الخيال الثمل في المساءات

وفي الليل خيبة أمل

وثلاث وجبات من تركيبة الصبر

من وطن التردد

انه لا يعرف

إن غياب الحبيب في سكرات الموت

إشارة لعدم نضوج التفاح

في بستان القلب

لا يفهم أبداً

إن المشي مع القصيدة (الملاذ الوحيد)

والتسكع في ليالي الشراب

كم هو حزن لذيذ؟!

تَذَكُّر عبق الورود

لو لم يكن في ظلك

هو خيال وصفر في اليد

ثلاث وجبات من الذنب

يجعل من القلب سوق الهرج

يفتح المزاد على لِقائَيْ عمري

أَوَكَمْ مرة أخبرتك؟!

إن تذكر الوطن

وعدم حضور الحبيب في سكرات الموت

إشارة لعدم نضوج التفاح

في بستان القلب

سيجارة تتركني

والطبيب المخدوع في مجانين العشق

وصف لي قراءة القصائد وجبتين

وثلاث ليالي أَرقْ

***

شـــــــــعر: چــــــنور نامــــق

ترجمة عربية: لقمان منصور

 

من هو الروائي "حسن الجندي": حسن الجندي، كاتب وروائي مصري، اقترن اسمه بعالم الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين وعالم الرعب، لغاية ما لقبه الكثير من القراء بأبي الرعب.

كثير من القراء أُعجبوا بأسلوبه في الكتابة التي تتميز بسهولة التعبير، إضافة لاهتمامه بعامل التشويق فى رواياته واختراقه أماكن كثيرة محرمة. في أحد لقاءاته الصحفيّة قال بأنه تلقى الكثير من الاتصالات والرسائل تطلب منه أرقام هواتف شخصيات معينة فى رواياته، فكان رده بأنها شخصيات غير حقيقية، وبعض المتصلين يصر على أنه لا يقول الحقيقة لدواعي أمنية.(1). الويكيبيديا.

تقع الرواية في باب الأدب السياسي، ويقوم النسق المضمر لمضمونها على مسألتين أساسيتين هما: الإرهاب أولاً وقوى الأمن ثانيا. وكلاهما في دولنا العربيّة المتخلفة يمارسان الظلم بهذا الشكل أو ذاك على المواطنين الأبرياء دون مبرر، فالإرهاب يمارسه حملته على الأبرياء نكاية بالدولة، فعديد من أعمال التفجير التي قام بها الإرهابيون باسم الدين، قتلت من الابرياء الكثير، أطفالاً ونساءً ورجالاً. وأجهزة الأمن بدورها غالباً ما تصلها تقارير كاذبة بحق ناس أبرياء، فيقوم رجال الأمن بتعذيبهم دون وجه حق للوصول إلى ما ورد من تقارير بحقهم كذباً.

من هذا المنطلق جاءت رواية (الجزار)، للروائي المصري "حسن الجندي" محاولةً لتسليط الضوء على هذه الاشكاليّة وما تولده من قهر وظلم يصل إلى درجة الاجرام بحق الإنسانيّة، إما تحت ذريعة الأيديولوجيا الدينيّة والدفاع عن العقيدة كما يفهمها هؤلاء الإرهابيون، أو تحت ذريعة الدفاع عن الوطن وحماية الشعب كما يدعي بعض رجال الأمن.

لا شك أن الرواية تحمل في مضمونها الكثير من التضخيم في مسألة التعذيب، وخاصة (اغتصاب زوجة) المتهم أمامه، دون أن يتم التأكد من خلال التحقيق تورط الزوج بقضية إرهابية،  ولكن هذا لا ينفي ما تمارسه أجهزة الأمن من تعذيب يندى له الجبين في دول تتدعي المدنيّة، ودساتيرها مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة واحترام الرأي والرأي الآخر.. ففي هذه الدول في وطننا العربي وفي مثل هذه القضايا المتعلقة بالسياسة التي يتدخل بها الأمن، لا دور للقضاء فيها، وإن وجد له دور فهو يأتي متأخراً بعد أن ينهك السجين وربما يموت تحت التعذيب أو يفقد صحته ومعنى الحياة.

يبدأ الروائي "حسن الجندي روايته " (الجزار) بعبارة مدهشة حقاً في مضمونها ودلالاتها المشبعة بالساديّة ونكران لكل القيم والمبادئ الأخلاقيّة الوضعيّة منها والدينيّة عند المحقق الرائد  "حسن" في مباحث آمن الدولة وهو يخاطب "آدم"، الذي لا يعرف لماذا هو هنا في مقر الأمن قائلاً:

(يمكنني في خلال ساعة واحدة أن أجبرك أن تكفر بوجود الله ببساطة، أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها.).  (ص10).

البنيّة السرديّة في الروايّة:

تعثر مباحث آمن الدولة في مصر على عبوات ناسفة في أحد الفنادق في القاهرة.. ويتم القبض عن المكلف في التفجير ويعترف بكل شيء عن العمليّة، وعن طريقه تم الوصول إلى  المهندس الذي ركب عبوة المتفجرات في الفندق والقبض عليه، وعن طريقه أيضاً وصلت مباحث آمن الدولة إلى نتائج هامة تتعلق بالخليّة الإرهابيّة وارتباطاتها الخارجيّة، حيث قام المهندس بإرشاد مباحث أمن الدولة على شقة الخليّة الإرهابيّة الكائنة في مدينة "نصر".. عند دخولها من قبل رجال الأمن  حصلوا على وثائق كثيرة وأرقام هواتف، ومعرفة كيف دخلت مواد التفجير إلى مصر من ثلاثة دول. والأهم من كل ذلك وصولهم إلى اسم الرأس المدبر لهذه العمليّة وهو (آدم محمد عبد الرحمن)، الذي لم يتم القبض عليه. وبعد التحري عن الاسم  في قيود النفوس المعتمدة، تبين أن هناك عدّة شخصيات تحمل هذا الاسم. منهم طفلان، ورجل في السبعين من عمره ضرير، وشخص ميت منذ ست سنوات، وشخص في العقد الرابع من عمره سافر إلى الإمارات،  ولم يبق سوى "آدم" (رئيس قسم الحسابات في شركة الحاسوب. ( (n. m group. في القاهرة.

جاءت الأوامر العليا بإحضار المشتبه به "آدم" بأسرع وقت ممكن، فكان يوم جلبه لمقر مباحث آمن الدولة، الثلاثاء 14/ 12/ 2007/ الساعة 11،50. ليلاً.

دورية من مباحث آمن الدولة تقتحم باب شقة "آدم".. وبعد كسر الباب ودخول الشقة بطريقة (غير قانونيّة)، يُقتاد "آدم" شبه عارٍ، مع زوجته في قميص نومها إلى مقر مباحث آمن الدولة، وتترك الطفلة وحيدة.. في المنزل... تجري عمليّة التحقيق اللاعقلانيّة مع "آدم وزوجته"، حيث مورس عليهما كل انواع التعذيب.. رجال ساديون يجدون متعة في تعذيب المتهمين قبل الحصول على أي دليل يدين المتهم. يعذب "آدم" ويكوى جسده بالنار، ويذبح جلده بالسكين ويصب عليه الكولونيا.. ويمارس الجنس على زوجته أمامه من قبل الضباط الرائد "حسن".

بعد فشلهم في الحصول على أي اعتراف من "آدم" يقرر الضباط المسؤولون عن التحقيق إغلاق الملف، وجلب أحد المجرمين المدانين بسوابق ليوقعوه على اعتراف بأنه هو من كان وراء تدبير العمليّة.

تتوفي زوجة "آدم" "بتول" المريضة أصلاً بمرض القلب، مما لاقته من تعذيب وانتهاك لعرضها.. يغمى على "آدم" من هول ما لاقى من تعذيب ومن قهرٍ لما حدث لزوجته أمامه.. تُؤخذ الزوجة وتلقى في أحدى حاويات القمامة في المدينة، بينما تأخذ الدورية "آدم" وتلقيه في فسحة أمام مبنى العمارة التي تتواجد فيها شقته عاريّاً تماماً لاعتقادهم أنه مات أيضاً. يعرفه أحد الساكنين في المنطقة فيقدم له اللباس... ليصعد إلى الشقة بعد أن عاد له شيء من وعيه.. يجد ابنته قد توفيت من الجوع... يحملها ويذهب إلى أهله.. يُعثر على زوجته ويتم التعرف على هويتها وتدفن من قبل ذويها، ليختفي بعد ذلك "آدم" طوال أحداث القصة التي بدأ فيها يمارس القصاص بطريقة (الجزر) على فريق التحقيق بمباحث آمن الدولة، وعلى هذا الأساس سميت الرواية بـ (الجزار).

تبدأ عمليات الانتقام من كل فريق التحقيق في مباحث أمن الدولة الذين مارسوا التعذيب عليه وعلى زوجته "بتول" واحداً بعد الآخر، حيث جرت عمليات الانتقام   لكل واحد  أسبوعيّاً وفي اليوم والوقت المشابه لليوم الذي أخذ فيه وزوجته للتحقيق، وهو يوم الثلاثاء الساعة 11،50/ ليلاً، وكانت عمليات الانتقام  تجري بطريقة وحشية تخللها تقطيع لأعضائهم، وأكل للحوم أجسادهم، والتمثيل بها.

أخذت عمليات الانتقام تجد صداها داخل البلد بشيء من القبول والتشفي، حيث تناولها الإعلام، وجعل من منفذها أسطورة يتحدث عنها الجميع... تقلق الدولة مما يجري لعناصر أمن الدولة، ويكلف ضابط من جهة أمنيّة أخرى هو العميد "سامح" من الأمن العسكري، لمتابعة البحث عن القاتل بعد أن عرقل فريق تحقيق مباحث أمن الدولة أنفسهم الوصول إلى (الجزار). ومن خلال خبرته وعلاقاته الخاصة مع أصدقاء له من دكاترة علم النفس، وبعد جهد كبير يصل من خلال ملامح الخوف التي كانت ترسم على وجوه ضباط وعناصر آمن الدولة الذين كان يقع عليهم الجزر.. يصل "سامح" أخيراً إلى الدوافع والأسباب الحقيقة لهذه المجازر ومن يقوم بها، وهنا يبدأ بالتعاطف مع القاتل (الجزار) نفسه، وكان يتمنى أن يعثر عليه حتى يوقف مجازره ويقدم هو ومن بقي من معذبيه إلى المحكة، وبالتالي يأخذ القضاء والعدل مجراه. ولكن لا فائدة يقتل الجزار آخر عناصر التحقيق وهو الضابط الرائد "حسن" الذي اغتصب زوجة "آدم" أمام عين "آدم"، إذ يقتل بطريقة وحشية فيها الكثير من الفانتازيا(العجائبية)، بحيث يعترف هو ذاته بأنه هو (الجزار)، وهو من قتل زملاءه بهذه الطريقة الوحشيّة، ولكن يتبين للضابط "سامح" أن الرائد "حسن" قد حقن بمادة كيميائية تدفع للهلوسة والتخيل وفقد للوعي، وهي مادة (إميتال الصوديوم) أو (بتنثال الصوديوم) وهي مواد استخدمها الألمان النازيين في معتقلاتهم، بحيث أن من يحقن بها تؤثر مباشرة على القشرة المخية عنده، وتقوم بفصل جزء من وعي الشخص المحقن بها، ويصبح قابلاً لأخذ أي أوامر تأتيه من الخارج وتنفيذها قولاً أو فعلاً، لأن وعيه يكون في حالة غياب موقت.

بعد إغلاق الملف يتابع العميد " سامح " ملاحقته للقاتل الحقيقي (آدم)، بعد أن تأكد من شخصيته عبر جهد كبير من المتابعة، إلى أن شاهده أخيراً في مقبرة العائلة، إلا أن آدام يبتعد عنه بطرية عجائبيّة أيضا، ولكن "سامح" يسمع صوت " آدم" يقول له : (والآن يا سيد (سامح) سيختفي الجزار، فالنهاية قد كتبت كما قلت لك.. ستُغلق ملفات القضية، ويصبح (حسن)، هو الجزار، وينتهي الأمر كما خططت له تماماً.. لا وجود للخير.. ولا وجود للشر.. لم ينتصر أحد.. لم ينهزم أحد.). ص321

إن أهم ما يلفت النظر في هذه الرواية هو طرق التعذيب أو الأساليب التي يمارسها رجال الأمن في عالما العربي ضد المواطنين المتهمين ولا أقول المدانين، فمع غياب المنطق والوسائل القانونيّة في التحقيق التي تقرها الدساتير، والقائمة على احترام القيم الإنسانيّة لدى الفرد، نجد الأمور تجري بطريقة خارج القانون.. حيث تأخذ عمليات الاستدعاء لأي شخص وتعذيبه وقهره، وربما تؤدي طرق التعذيب إلى مرحلة التصفية الجسديّة بطريقة شريعة الغاب، وهنا نجد الكثير من الناس المتهمين  تحت التعذيب يعترفون باقتراف قضايا لم يقوموا بها، وعل هذا الأساس يأتي الحس الشعبي ليعبر عن حالات ظلم الناس بدون حق كما يقول المثل: (كثير بالسجون مظلمة). نعم كثير من الناس تظلم وتسجن وتشرّد عائلاتهم وينحرف أفرادها بسبب غياب القانون وسيادة شريعة الغاب.

دعونا نتابع ما جاء في متن الرواية عن مثل حالات الظلم هذه وكما جرى لآدم:

في غرفة التحقيق يتساءل "آدم"

- ماذا يحدث، وأين أنا ومن أنتم؟.

رد عليه "علي" بنبرات حادة:

- لا تسأل أسئلة أيها (الكلب)، أنت هنا لترد على أسئلتنا نحن.

في حين ابتسم (حسن) لـ (آدم) ورد بطريقة ودودة.

- صديقي العزيز أنت هنا في مبنى مباحث أمن الدولة، وصدقني لو فعلت ما أقول لك بهدوء، فسنكون أصدقاء في المستقبل وسترى كل العطف والحب مني، وإذا اخترت الطريق الصعب، وأردت أن تمارس دور البطل، فدعني أقول  لك شيئاً بسيطاً: إن كل الأفلام التي شاهدتها، وكل الأساطير التي سمعتها عما يحدث هنا لا تظهر سوى1% مما يمكننا فعله يا صديقي، يمكنني في خلال ساعة واحدة على إجبارك أن تكفر بوجود الله ببساطة، أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها. ولكي أكون صريحاً معك أقول لك: إن تقطيع الأطراف وهتك الأعراض هو لعب أطفال لما يمكن أن تراه هنا، فأنا بالذات رجل (فنان أحب الاستمتاع بعملي أثناء تأديته)، يمكنك ان تتأكد الان من ذلك.). ص37.

إن هؤلاء لديهم القدرة أن يبرروا تعذيبهم لمن يقع تحت أيديهم لأي سبب باسم الدفاع عن الوطن.

يقول رجال الأمن لأحد أصدقائه: (أنا وطني.. نعم أنا وطني  وأحب بلدي واعشق ترابها أكثر من أي شخص آخر... كل من يتعاملون معي لا يعلمون حجم المجهود الذي يبذله أمثالنا في حماية آمن الوطن.. أنا مخبر في آمن الدولة الكل يخاف مني بمجرد أن يعرف ذلك، ولكن ما المشكلة؟.. نعم أنا أفتخر بعملي الذي لا يعرف أسراره أحد من العامة. ص97وص98... لو أخطأت ما المشكلة؟... من فضلك لا تقل لي أنك لا تخطئ، فأنت ظلمت أحدهم في يوم من الأيام، وربما قمت بضربه. أما نحن فلو ظلمنا أحداً إنما نظلم لغاية أسمى وهي جعل الشعب في أمان دائم.). ص100.

الرواية في الشكل:

العتبات السيميائية في الاسم داخل المتن الرواية:

إن اسماء الشخصيات، غالباً ما تأتي متناسبة مع سماتها وخصائصها، بحيث تحقق للنص جماليته ومصداقيته. فالاسم يوضّح هويّة الشخصيّة، فهو يمثل للشخصيّة ما يمثله العنوان للرواية أو قصة أيضاً، إنه أحد الخطوط المميزة والهامة وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنويّة لهذه الشخصيّة أو تلك، وهو يمثل بثباته وتفاعله وتواتره عاملاً أساسيّاً من عوامل وضوح النص. فالأسماء والصور والرموز داخل العمل السردي تعتبر شكلاً فنياً مشبعاً بالدلالة، فلا مجال فيه إلى منطق المصادفة، فلكل من اسمه نصيب. فالاسم هو الذي يحدد الشخصيّة ويجعلها معروفة، ويختزل صفاتها، ولهذا لابد للشخصية أن تحمل أسماء تميزها".

يأتي اسم الرواية (الجزار) حاملاً دلالات عميقة عن روح الانتقام  وقسوته من قبل " آدم"، تجاه من مارس عليه وزوجته التعذيب والقهر والظلم. ولذلك تتجلى لنا دلالة العنوان في صورة الغلاف التي تعبر عن رأس إنسان قد أدخلت سكين في عينيه عند نهاية أنفه من الأعلى، ووجه ملطخ بالدماء، وهذا يدل على  شهوة الانتقام التي سيطرت على الفاعل حتى حاز على لقب (الجزار).

أما بالنسبة لاسم البطل "آدم"، فهو تعبير عن الإنسان الضعيف المغلوب على أمره، الذي يمارس عليه القهر والظلم والاستلاب والتشيء والاغتراب، فليس من حقه أن يسأل حتى عن سبب ظلمه، وهذا ليس جديداً على "آدم" وهو الذي طرد من الجنة وزوجته لأنهما خالفا أوامر رب السماء، وها هو اليوم يمارس عليه الدور نفسه في ضرورة الطاعة والامتثال لرب الأرض. الذي نعته بـ (الكلب) فقد لأنه سأل أين هو ؟.

وكذا الحال لدلالات اسم زوجة "آدم" وهو " بتول" الذي يعني العفة والنقاء.

البنية العامة للشخصيات في الرواية:

الشخصيّة هي ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. هو "كائن موهوب بصفات بشرية، وملتزم بأحداث بشرية.

وفي الرواية نجد شخصيات تملأ فضاءات الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي والسياسي. فهناك الشخصيات الفاعلة والنامية في الرواية، ويأتي في مقدمتها "آدم" الشخصيّة الرئيسة، وهي الشخصيّة التي تدور حولها فكرة الرواية الأساس، القائمة على إظهار دور ومكانة الفرد في الدول المستبدة، فهو متهم دائماً، وفاقد لحريته وإرادته ورأيه وكرامته، أو بتعبير آخر: هو من سقط المتاع في وطنه.. هو رقم لا أكثر، تمارس عليه الوصاية والتدجين والنمذجة والتذرير.

وشخصيّة "آدم" إذا ما حاولنا تفسيرها في أبعادها النفسيّة والتحول في مواقفها داخل المتن الروائي، فهي شخصيّة (نامية) أصابها الكثير من التحولات والتعقيد، لقد تغيرت في أفكارها وقيمها ومسلكها بتقدم أحداث الرواية، ولكنها ظلت واضحة بمجرى الأحداث في وطبيعتها ودوافعها وصراعها، وهذا ما جعل الشارع يتعاطف معها بسبب ما يقوم به من مجازر بحق رجال الأمن الذين لم يستطيعوا مدّ جسور المحبة والألفة عبر تاريخهم مع الشعب الذي يدعون بأنهم وجدوا لحماتيه وتحقيق أمنه، بل كل الذي عملوه هو زرع الخوف عند أفراد الشعب وجعلهم يرتعبون من أي شخصيّة تنتمي لسلك الأمن.

وهناك في الرواية شخصيات جاءت في المرتبة الثانية، أو ما يسمى بالشخصيات (الثانوية)، وهي تفتقر إلى الكثافة السيكولوجيّة والتعقيد الذي ميز شخصيّة "آدم" لأنها شخصيات ذات طابع أحادي ثابت غير متغير". ولكن الشخصيّة الثانوية تظل في المتن الروائي صديقاً للشخصيّة الرئيسة، فهي تضيء الجوانب الخفية لها، والكشف عن جوهرها وحتى تعديل أو حرف سلوكها، وهذه الشخصيات الثانويّة تمثلت في الرواية برجال الأمن مثل (علي وصابر وحسين وغيرهم). التي ساهمت في تغيير سلوك آدام من رجل يعمل بعقلانيّة وعلميّة لتحقيق حياة سعيدة له ولأسرته، إلى شخصيّة تمارس القتل لتحقيق العدل من باب الانتقام. هذا مع التأكيد على ضرورة الكشف عن أبرز سمات وخصائص هذه الشخصيات الأمنيّة التي أصبحت شبه ثابتة، وهي شعورهم بفوقيتهم واستعلائهم على غيرهم من المواطنين، ووصولهم إلى مرحلة من النرجسية، بحيث ينظرون ويتعاملون مع الآخرين بأنهم (حمير وكلاب)، وأنهم وحدهم من يحب الوطن ويدافع عنه.. مفردات حياتهم تقوم على تعذيب المتهم وإهانة كرامته وممارسة كل ما يساهم في إذلاله بشكل أصبح أقرب إلى العادة. يقول أحدهم في الرواية: (ينظر العامة لنا على أننا أدوات تعذيب، ورجال جبارين على الضعفاء.. ولم ينظر أحد لنا بأننا كنا السبب في حماية عائلته من عشرات القنابل التي كان من الممكن أن تنفجر فيه... ومن عشرات الانقلابات التي يمكن أن تنهي حياته ومستقبله.. ومن آلاف المجرمين الذين يحاولون أن يعيشوا في هذا الوطن بأمن وسلام.). ص98.

ولكن نجد في المقابل رجل آمن آخر له عقليّة وسلوكيّة تشبعت بفهم طبيعة عملها. فرجل الأمن عندها هو حماية الفرد والمجتمع والدولة، دون التعالي على أفراد المجتمع، بل هو وضع في خدمتهم. وهذا النموذج نجده في شخصية العميد "سامح". وهو الاسم الذي يحمل دلالات المحبة والإنسانيّة، فعند لقائه مع والد "آدم" يقول له: (آدم ظلم في حياته، وأنا أعرف من هم الجناة، وأعرف من فعل هذا به وبزوجته). ثم يتابع: (قلت إنني توصلت لحل قضيّة "آدم" ومن فعل به، ولكن "آدم" كان يسبقني في قتلهم الواحد تلو الآخر، أما أنا فأريد لهم أن يقدموا للمحاكمة أمام الجميع ويحصلوا على جزاء فعلتهم.). بهذا الموقف يتجلى موقف العميد "سامح" كرجل أمن يعرف ما هو القانون وما هي دولة القانون، وهكذا يجب أن يكون دور الأمن وكل المؤسسات القضائيّة.

وهناك شخصيّة ثانوية أيضاً هي "سالم" الصحفي الذي مارس دوره الصحفي في قضية "آدم" بشكل عقلاني. فاستطاع أن يبن من خلالها عمله ودور ومكانة الصحافة عندما تعمل لخدمة المواطن والوطن، وكيفيّة امكانيّة التعامل مع الشخصيات النظيفة في مؤسسات الدولة كشخصيّة العميد "سامح" الذي عرفه بدوره كصحفي نشيط، وطلب منه التعاون بكل أدب من موقع المسؤوليّة العامة، للوصول إلى الحقيقة.

هناك شخصيات هامشية في الرواية لا يتجاوز دورها ملء فضاءات صغيرة في الرواية، أي هي شخصيات لا يتعدا دورها مجرد الربط بين الشخصيات الرئيسية والثانوية، حيث أدت مهام بسيطة ثم اختفت على إثرها مباشرة. مثلها في رواية (الجزار) والد "آدم"، وضابط الشرطة محمد عبد الرحمن، والممرضة أمل، وعاطف دكتور في علم النفس، وغيرهم.

عموماً نجح الروائي في رسم شخصياته بشكل بارع، وحقق النفاذ إلى أعماقها، مبرزاً أحوالها الشخصيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وتأثير هذه الأحوال بصفاتها وقيمها المعنويّة. ولم تكون الفصول طويلة. وبالتالي لم يكن هناك سرد مجاني ممل للمتلقي رغم تعدد السارد، لقد ظهر أثر الروائي واضحاً في الكشف عن رؤية كل شخصية سارده وموقفها من أحداث الرواية، وبالتالي الوصول إلى أعماق شخصيات روايته والتحكم بها، ووضعها في إضاءات واقعيّة وديكور واقعي ورسم ملامحها بألوان وخطوط واضحة. لقد ظهرت قدرة الكاتب في استغلال تقنيات روايته، مثل تعدد السارد، وبناء الشخصيّة الروائيّة، والزمان والمكان، واللغة، والتفاعل مع الحدث. والأهم أن الروائي استطاع أن يصنع برأيي في روايته وفي خياله وبصيرته، فضاءً فلسفيّا واخلاقيّاً وسياسيّاً وفكريّا ونفسيّاً. تتنفس فيه الشخصيات وتبوح بأسرارها عبر علاقات التناسب والتفاعل والتناغم بين حضورها الدرامي والفني والجمالي في كل تلك الفضاءات التي احتوت عليها الرواية. لقد استطاع خلق علاقة متناغمة ومتكاملة بين شخصيات الرواية أشبه ما تكون علاقة متكاملة من الألوان والخطوط ومساحات الضوء في لوحة تشكيليّة لفنان مبدع..

البنية الفنيّة للرواية:

تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأيه عن السرد الانفعالي أو التقريري والانشائي أو التسجيلي، أو الحكي المجاني من خلال انفعالات وفكر كل شخصيّة. لقد كان السرد موزوناً وعقلانيّاً ودقيقاً، صيغ بمفردات تناسب وعي كل شخصيّة وثقافتها واهتماماتها، ومن زوايا تتناسب ومصالحها وهمومها وعواطفها... سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، وحافل بمفردات من المشاهد والمواقف والحوارات التي توالت في إيقاعات منضبطة ورصينة وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع. والسرد في الرواية لا يسير باتجاه واحد حيث وجدنا بَالبنية السرديّة التي ينقلها الراوي عن طريق شخوص الرواية، أن هناك مجموعة من السرديات الحواريّة التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم، فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد وكانه أمام خشبة مسرح أو مسلسل درامي، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى. ولكن يظل هناك تداخل واستغراق للسرديات ونشاط الشخصيات مع بعضها عبر محطات الرواية.  وكل ذلك جاء وفق دوائر تتسع لهموم من ظلم، ولهموم الوطن، ولهموم الإنسان في فضاء كوني واسع مشبع بالتناقضات والصراعات والمصالح المتناقضة.

أشكال السرد في الرواية:

لقد سيطر على السرد في الرواية بشكل عام، السرد الحواري، وهو تقنية سرديّة تتصل بالحوار، ويغيب الراوي بضمير الغائب تقريبا، والسرد الحواري بين شخصيات الرواية، يتجلى كالمشاهد، أو مقاطع حواريّة من الخارج تعبر فيها كل شخصيّة عن رؤيتها وبلغتها الخاصة وطريقة تفكيرها وقناعاتها، رغم أن المستوى اللغوي للحوار كان على درجة واحدة تقريباً بسبب طبيعة شخصيات الرواية ودرجة ثقافته وتعليمها القريبة من بعضها هنا. وتسمى الرواية الحواري أيضاً بالمتعددة الأصوات، وهي تتبنى علاقة الكاتب بشخصياته على مبدأ الاستقلاليّة حيث تتمتع الشخصيّة بحضور مستقل عن شخصيّة الكاتب، لأنه يتركها تعبر بحريّة عن أفكارها وقناعاتها. لذلك حفلت الرواية بتعدد الأفكار والمواقف السلوكية وصراعاتها. إن الكاتب في الرواية الحواريّة لا يعرف عن الشخصيّة أكثر من خارجها، فهو يقوم بوصفها  لا أكثر أو وصف ما يسمعه أو يراه، وما يجري من حركات وأصوات وألوان، أي هو لا يعرف ماذا يدور في ذهن الشخصيّة وبما تفكر فيه أو تحسه من مشاعر. إن هذه الرواية تدخل في نمط الرواية الجديدة أو الرواية (الشيئية) التي تقوم على الحس. وهي برأيي أقرب إلى الدخول في المنهج البنيوي الذي يلغي دور المؤلف ويترك تفسير الرواية ومعرفة دلالاتها من خلال المتلقي. وهذا ما جعل الروي يركز على شكل الرواية دون التطرق لمحطيها والظروف الخارجية التي أنتجت أحداثها.

البنية الزمكانيّة في رواية الجزار:

المكان:

إن للمكان في حياة الإنسان قيمته الكبرى ومزيته التي تشدّه إلى الأرض، ولا غرو فالمكان يلعب دوراً رئيساً في حياة أي إنسان. والمؤلف المبدع يحرص على براعة تصويره للمكان و مدى تطابق المكان المروي بالمكان الواقعي، فالأمكنة بالإضافة إلى اختلافها من حيث طابعها وتشكيلاتها (مغلقة – مفتوحة - ضيقة - متسعة)، فهي تختلف أيضاً من حيث نوعية الأحداث التي تجري فيها. لقد اشتغل الروائي في هذه الرواية على الأمكنة المغلة وقليلاً ما نجد أمكنة مفتوحة فيها. وهذا ما يجعل المتلقي أو القارئ لرواية "الجزار" يجد أبطال الرواية يتحركون وكأنهم على واجهة تشبه واجهة الخشبة في المسرح.

لقد أدت الأمكنة المغلقة في الرواية دورا محوريّاً داخل الرواية، لأنها ذات علاقة وثيقة بتشكيل الشخصيّة الروائيّة واحداثها ومهامها، فهذه الأمكنة المغلقة، مثل  البيت.. الغرفة القطار.. السجن، غرف التحقيق، المشافي.. الخ. هي أمكنة مليئة بالأفكار والذكريات والآمال والترقب والخوف والتوجس. فهي التي تولد المشاعر المتناقضة في النفس، وتخلق لدى الإنسان صراعاً داخلياً بين الرغبات وبين المواقع، ففي الوقت الذي توحي بالراحة والأمان، هي توحي في الوقت نفسه بالضيق والخوف". أي إن هذا النوع من الأمكنة يتسم بالألفة والأمان، مثلما يتسم أيضاً بالكراهية والحقد وممارسة الظلم. لقد مثلت الأمكنة المغلة في رواية الجزار عالماً من الخوف والرعب، إن كان على مستوى غرف التحقيق في أجهزة الأمن أو المشافي أو شقق السكن التي مورس فيها فعل القتل والجزر والتعذيب. يقول أحد شخصيات الرواية واصفاً حالة الشقق المغلقة وما يجري داخلها وما تركته من خوف لدى المواطنين خارجها: (المهم أنه منذ عام ظهرت أصوات من داخل الشقة، وأضواء، وبعدها كل من سكن داخل العمارة كان يشتكي من الأصوات المرعبة التي كانت تأتي كأصوات صراخ وهمهمات وبكاء ودقات، وكل ترك شقته ولا زال الوضع كما هو حتى الآن.). ص265و 266.

الزمن في الرواية:

إن الزمن الأدبي أو القصصي هو زمن التجارب والأحداث التي تلازم الكاتب وشخصياته، وبالرغم من أنه ليس زمناً واقعيّاً بقدر ما هو زمن افتراضي أو نسبي شاهد على الشخصيات والوقائع.

إن الزمن يشكل الروح المحركة لوجود حياتنا اليوميّة، أو في كتاباتنا القصصيّة والروائيّة، فالزمان يؤثر بصورة مباشرة على سرد الأحداث كما المكان، بل هناك علاقة عضويّة بين الزمان والمكان والحدث، فبدونهم تتوقف الحياة. فزمن السرد جاء في رواية "الجزار" خاضعا لمبدأ السببية، حيث جاءت الوقائع متتالية وفق تسلسل زمني منطقي، أي إن الزمن جاء هنا ًليمضي متواصلًا دون إمكان إفلاته من سلطان التوقّف رغم مشهديته الحواريّة … فهو زمن طولي يتواصل بشكل مستمر، وحركته ذات بداية ونهاية توافق فيها زمن السرد مع زمن الرواية، وهذا من ميزات المنهج الواقع في السرد.

اللغة في المعمار الروائي:

جاءت اللغةً بسيطةً شفافةً واقعيّةً، متماسكة، خالية من الصناعات البلاغيّة والتكلف والغموض المصطنع، وهذا ما يجعلها أقرب إلى المتلقي العادي والمثقف معاً.

أهداف وطموح الرواية:

أراد الروائي أن يقدم رؤيته الخاصة للحياة ذات الطابع العميق، عبر وسيط فني وجمالي يألفه ويناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة، وجد فيه ملامح من تراثه وبيئته وحياته السياسيّة المعاصرة. ولكي يحقق هدفه تأمل إبداعات الذات العربيّة التي تجسد فيها الخوف والرعب والموت والمجهول والغربة والأسطورة والخرافة والاستلاب واللامعقول، مقابل أحلامها بالمنطق العقلاني وبالعدل والبطولة والحريّة والمساواة واحترام الرأي المختلف، والخلاص من الاستبداد والوصاية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، والتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر.

أما الأهم في طموحها داخل نسقها المضمر، فهو سيادة دولة القانون، وعدم هدر كرامات الناس وفقاً لمواقف سلطويّة مستبده، تجد نفسها هي وحدها من يمتلك الحقيقة والوطن، وتسيير شؤون الدولة والمجتمع وفقاً لمصالحها أو وجهة نظرها. فالحقيقة تظل نسبية والمواطن يحميه القانون، والسلطة ليست سلاحاً للقهر بقدر ما هي وسيلة لتحقيق العدل والأمن والاستقرار، وأن كل سلطة في الدولة لها دورها ومكانتها الوظيفيّة، ولم يكن تداخل السلطات وفوضى ممارستها المشينة، وجعل بعضها فوق القانون والمحاسبة، إلا امتهاناً بحق الوطن والمواطن، وغياباً لدور الدولة ومؤسساتها.

الرواية بعنوان (الجزار) للروائي المصري " حسن الجندي" دار اكتب للنشر والتوزيع – ط2-2011. تقع الرواية في 322صفحة...

الرواية جديرة بالقراءة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

 

قراءة في قصيدة: اسكافي عفك للشاعر كزار حنتوش – العراق.

اسكافي عفك / كزار حنتوش

يا من اسرفت بأكل الجمر على ريب

وغصصت بجرعة ماء

لم لم تبتلع الياء

من اسم الحاج كليب

ولماذا لم تلثم كف زعيم الشورجة

وجها لقفا

وتناديه أيا عم اغثني

لم تجد فتيلا كل قصائد ابن الريب

ولماذا يا ذئب السبعينات تظل وحيدا تعوي

ما من احد قال الحال سواء

سيضيع الصوت رويدا

وتموت شريدا

كمغن نهر بويب

يا اسكافي عفك

يا طالب تمر شثاثة

يا سيف خلف

*

راح العرس وناح الطرس ولاح الشيب

*

كانت في الشام لنا نخلة

قصوا كل جدائلها

كانت خلف مدينة عبادان لنا قرية

قلبوا عاليها سافلها

والان خرجنا من مكة

لم نربح بيعا كصهيب

انت الان كما انت

لا شق نواة في الجيب

لا لمع دوانيق في الغيب

ضاقت دائرة الفلسين عليك

اختر عما لم ينزل من صلب الجد وغن

للشر وانت بعيد

تقول العيب..العيب..العيب …العيب

ثبرت العالم بالعيب

بكم تشرى الاوقية في سوق مريدي من هذا العيب.

***

القراءة:

القصيدة / اسكافي عفك / للشاعر كزار حنتوش هي نص شعري معقد وذو طابع تجريبي يتناول قضايا اجتماعية، سياسية، ووجودية في سياق ما بعد الحداثة. القصيدة لا تتبع هيكلًا شعريًا تقليديًا، بل تعتمد على صورة شعورية مبللة بالرمزية واللغة المكثفة التي تعكس التوتر الداخلي للعالم العربي في فترات حاسمة من التاريخ. نلاحظ أن هناك أبعادًا متعددة في القصيدة يمكن استكشافها من خلال قراءة نقدية معمقة.

1. البنية الرمزية:

القصيدة مليئة بالرموز التي تحمل دلالات غنية. على الرغم من أن القصيدة قد تبدو وكأنها سرد شخصي أو موحد، إلا أن الرمزية تشبع النص وتعطيه طابعًا سياسيًا وثقافيًا يمتد إلى مستوى الوجود البشري. على سبيل المثال: أكل الجمر: في الثقافة العربية، أكل الجمر هو استعارة للألم والمعاناة التي لا تنتهي. الجمر يشير إلى المعاناة المذلة التي يفرضها الواقع، سواء كانت اقتصادية، سياسية أو اجتماعية. وعليه، يمثل الأكل المجازي للجمر نوعًا من القبول بالمعاناة أو الاضطرار إلى تحمل الألم. غصصت بجرعة ماء: هذا الصراع بين الجمر والماء يُظهر حالة من التناقض؛ الماء هنا يُفترض أن يكون مرادفًا للراحة والشفاء، لكن رغم ذلك، تظل هذه الجرعة ضئيلة وغير قادرة على منح الشفاء أو الراحة. يظهر هذا التوتر بين التوق للراحة والمقاومة لليأس. لم لم تبتلع الياء من اسم الحاج كليب: يشير هذا المقطع إلى فقدان الهوية أو تغييبها في إطار السياسة أو التاريخ. / الياء/ قد تكون رمزًا للمجتمع أو الهوية الشخصية التي لا تستطيع أن تستمر أو تتجسد كما يجب. اسم / الحاج كليب / هو إشارة تاريخية وثقافية تمزج بين العناصر الشعبية والرمزية، وفي ذات الوقت تحيل إلى أبعاد اجتماعية وسياسية معينة. هذا التساؤل حول / لماذا لم تبتلع الياء؟ / قد يعني أن ثمة نقصًا في التفاعل مع التاريخ أو مع الرموز الدينية والشعبية التي يتوقع أن تكون جزءًا من بناء الهوية. يا ذئب السبعينات: هذه العبارة تحمل إشارة إلى فترة السبعينات التي كانت مشحونة بالتحولات السياسية في المنطقة العربية، مثل الثورات، الانقلابات، والحروب. / الذئب / في هذا السياق يشير إلى القوة التي تحكم في الظل، شخصية تسعى لتحقيق أهدافها بينما تغيب في العلن، في وقت كان فيه الوضع السياسي في المنطقة متأزمًا للغاية. تموت شريدا كمغن نهر بويب: هذه الصورة تلمح إلى أن الصوت الجريح أو النضال المنهك يضيع تدريجيًا، مثلما يضيع مغني النهر في جو من الخراب والفراغ. نهر بويب يشير إلى مكان تاريخي، وهو يعكس بشكل رمزي التداعي والدمار الذي طال المنطقة العربية.

2. التمرد على القيم التقليدية والهويات:

الشاعر يعبر هنا عن حالة من الرفض التام للقيم والرموز التقليدية، وهو يقيم نوعًا من الممارسة النقدية للتراث الشعبي والذهني. / يا اسكافي عفك / هو خطاب موجه لشخص، ربما يمثل الفرد العادي الذي يظل مشغولًا بتفاصيل حياته الصغيرة بينما يعجز عن التأثير في الواقع الأوسع. فالشاعر يهاجم التقاليد التي تُفرض على الناس ويحث على الثورة ضد الهيمنة الثقافية والاجتماعية التي تقيد الحرية الفردية. /راح العرس وناح الطرس ولاح الشيب/ هذه الجملة توضح أن الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية الكبرى قد اختفت أو انتهت، في إشارة إلى تقادم الزمن وتغير الأحوال. الشيب هنا يعكس تحولًا قاسيًا في الزمن، ويمثل خسارة مستمرة للآمال والطموحات التي كانت في وقت من الأوقات جزءًا من حلم جماعي.

3. الحروب والتهجير والهويات المبعثرة:

قصيدته تحمل أيضًا إشارة إلى التهجير والحروب. /كانت في الشام لنا نخلة/ تمثل بداية الحلم الذي تم تدميره من قبل القوى السياسية، حيث فقد الناس امتيازاتهم الروحية والعاطفية بمرور الزمن. نخل الشام كان رمزًا للسلام، ولكن تم قصه ونهبه. في هذا السياق، يشير الشاعر إلى الانكسارات التي طالت الجغرافيا والتاريخ العربي بشكل عام. كان خلف مدينة عبادان لنا قرية: هنا يشير حنتوش إلى مكان ذي معنى تاريخي وثقافي خاص. مدينة عبادان تمثل التغيير الاقتصادي والسياسي في المنطقة، حيث كان لها مكانة اقتصادية في إيران والعراق في فترة سابقة. الآن خرجنا من مكة: مكة في النص تمثل مركزًا دينيًا، ومع خروج الشاعر من مكة يتأثر سياق الهجرة الروحية والوجودية، بما يشير إلى فقدان البوصلة الدينية والروحانية في ظل ظروف عيش قاسية وممزقة.

4. التعالي والتشكيك في القيم الاجتماعية والسياسية:

/ العيب.. العيب.. العيب/: التكرار المكثف لكلمة / العيب / يشير إلى الاحتجاج على الانحرافات الأخلاقية والسياسية في المجتمع. الشاعر هنا يعبر عن التوتر الذي يعيشه الفرد بين العيب كقيمة اجتماعية وبين التحدي المستمر لهذه القيم التي تحكمت في المجتمع العربي لعقود. يطرح سؤالًا عن مدى جدوى تلك القيم في عالم يعج بالفوضى والظلم.

5. الخاتمة:

القصيدة لا توفر أجوبة حاسمة، بل تترك المجال مفتوحًا لتفسير متعدد ومركب. الشاعر يستخدم الأدوات الرمزية والتاريخية ليخلق صورة شعرية معقدة عن الفقدان والهويات المبعثرة في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية. القيم التي يشير إليها حنتوش ليست ثابتة، بل هي في حالة تطور وتغير مستمر، مما يعكس مشهدًا من التيه والحيرة في لحظة تاريخية حساسة.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

قراءة في العروض الموجهة للأطفال

أساس وجود المسرح هو إقامة المهرجانات، فقد كانت البداية الفعلية للعروض المسرحية لدى اليونان مهرجان المسرح في أثينا المتوافق مع الاحتفالات بالإله ديونيسوس، ومنها انطلقت المظاهرات المسرحية مجتمعة (بصيغة المهرجان) أو عروض مسرحية منفردة.

المهرجانات بوجودها العام ظاهرة ثقافية تهدف إلى: لقاء الثقافات المختلفة - تبادل الخبرات بين المشاركين - الاطلاع على المستجدات في المجال الفني والأدبي في ضوء توجهات العروض المشاركة. وتحرص المهرجانات على ديمومة إقامتها في توقيتات دورية، كأن تكون سنوية او كل سنتين، مما يجعل التحضيرات للمشاركة ميسورة، ويجعل المشاركين أكثر خبرة، ويجعل إجراءات القائمين على المهرجان مكتملة من حيث التنظيم والإدارة.

انعقد مهرجان كركوك الدولي  لمسرح الشارع بدورته الثامنة تحت شعار (تعايش) تضمن المهرجان واحد وعشرين عرضا مسرحيا خلال ثلاثة أيام، انطلقت الفعاليات  يوم السبت  الموافق ٢/ ١١/ ٢٠٢٤ واختتمت مساء يوم الاثنين ٤/ ١١/ ٢٠٢٤، الدول المشاركة (إيران - أسبانيا - تركيا - بلجيكا - اليابان - تونس - الجزائر - لبنان) وشاركت العاصمة بغداد ومحافظات النجف والانبار فضلا عن مشاركة أقليم كردستان، وقد صرح الفنان "نجاة نجم" مؤسس ورئيس المهرجان أن اللجنة الفنية المنوطة بمشاهدة العروض وفرزها قد أرسلت لإدارة المهرجان تقريرا يفيد أن اللجنة شاهدت ٨٠ عرضاً من ٢٤ دولة وكان المعيار الرئيس في اختيار العروض للقائمة القصيرة، هو الجودة الفنية العالية الدقة من خلال المفهوم الصحيح لممارسة هذا الفن برسالة إنسانية مشتركة  تعزز الفهم بين الشعوب. وقد تضمن المهرجان:

المحور الفكري: أقيمت ندوة فكرية طرحت خلالها ثلاثة بحوث.

أصدر المهرجان ثلاث كتب اختصت بطروحات عن مسرح الشارع:

الكتاب الأول: مسرح الشارع والمسرح الملحمي في حركة المسرح الكردي - كيفي احمد وزيلوان طاهر.

الكتاب الثاني: مسرح الشارع والخلط الشائع - حسام الدين مسعد.

الكتاب الثالث: بحوث ودراسات معاصرة في مسرح الشارع - مجموعة من الباحثين.631 show

انقسمت عروض المهرجان المسرحية إلى قسمين: عروض موجهة للكبار وعروض موجهة للاطفال، مع الاشارة إلى أن مسرح الشارع الموجه للأطفال في جوهره عرض موجه للعائلات وليس للأطفال حصريا، ذلك أن القضايا المطروحة تراعي بموضوعاتها ومفردات لغتها مستوى إدراك الأطفال وبالوقت نفسه تتضمن رسالة للكبار مفادها: عليكم أن توجهوا أطفالكم على وفق مضمون هذا العرض وأهدافه.

ويأتي الاهتمام بعروض مسرح الشارع عموما والعروض الموجهة للأطفال على وجه الخصوص، من أن صناعة الجمهور وزيادة عدد رواد المسرح، تفترض الذهاب إلى الشارع لتقديم عروض مسرحية تتناول قضايا الناس، ويفضل عرض المسرحيات الموجهة للأطفال وعموم أفراد العائلة في الشارع لكسب الجمهور وتنمية ذائقتهم.

وجاءت فعاليات المهرجان في اختيار وتقديم العروض منسجمة مع تعريف (باتريس باڤي) لمسرح الشارع في المعجم المسرحي: ص ٥٥٣-٥٥٤. بأنه " مسرح يحصل في الأماكن الخارجية وفي مبان تراثية: شارع، ساحة، سوق، ميترو، جامعة … إلى آخره. إن الإرادة في ترك حرم المسرح تأتي من رغبة في الذهاب لمقابلة جمهور لا يذهب عادة لمشاهدة عرض مسرحي، ويأخذ مبادرة اجتماعية- سياسية مباشرة، ويشاركه بإحياء مناسبة ثقافية وتظاهرة اجتماعية، وينخرط في المدينة كمحرض وكضيف. لطالما كان هناك بين مسرح الشارع والمسرح السياسي (لسنوات العشرينيات والثلاثينيات في ألمانيا والاتحاد السوفياتي) ومنذ السبعينيات اتخذ مظهرا اقل سياسية وأكثر جمالية " هذا مع الأخذ بالاعتبار أن موضوعات مسرح الشارع الموجه للأطفال تنأى عن الجانب التحريضي وتنحصر عادة بالجانب الثقافي الاجتماعي، ومن العروض الموجهة للأطفال التي امتازت في موضوعاتها وتوظيف مفرداتها:

عرض مسرحية (دجاجة الجيران ليست وزة) - المصمم والكاتب والمخرج:  مصطفى كوليفاندي - ايران

تمحورت فكرة العرض حول ضرورة الاعتزاز والتوافق مع الوطن الأصلي وعدم السعي للبحث عن أوطان أخرى لأن جذور الإنسان تمتد عميقا وينمو في وطنه وليس اوطان اخرى مهما كانت جاذبة. استند المخرج في تأسيس حكاية العرض وعرضها إلى مفردات يحبها الأطفال، تمثلت بالبساط والمصباح السحري الذي ينتقل بطل العرض بواسطته إلى بقاع اخرى، وذلك يتناغم إلى حد كبير مع خيال الأطفال وشغفهم بالوسائط والعوالم الخيالية، تجسد الصراع بين شخصية البطل الباحث عن بيئات اخرى وبين نفسه من جهة، وبين ما يصطدم به من معوقات تجعله لا ينسجم مع البيئة الجديدة، وقد استعان المخرج بمجموعة ممثلين متمكنين من إثارة تفاعل الجمهور بأدائهم إلى جانب الموسيقى والمؤثرات الصوتية والغناء التي حصلت استجابة الجمهور بأنغامها وايقاعاتها حتى وإن لم يتمكن معظم الحضور من فهم كلماتها، وتوظيف تكوينات أجساد الممثلين في الإيحاء بمسار الرحلة والطيران على البساط السحري، وكانت الصورة البصرية كفيلة بالتعبير عن أحداث العرض ورسم أجواء المرح التي سادت العرض.

فاز مسرحية (دجاجة الجيران ليست وزة) بالجائزة الأولى للعروض الموجهة للأطفال.

عرض مسرحية (عشرة على عشرة) تأليف ماجد درندش - إخراج حسين علي صالح - بغداد.

سبق وأن قدم هذا العرض في فضاء المسرح المغلق مرات عديدة وشاركت في مهرجانات، وتمت مشاركته في مهرجان مسرح الشارع، وعرض في فضاء مفتوح يحيط به الجمهور، وقد استثمر المخرج خبرته وخبرة الممثلين في تكييف العرض لفضاء مسرح الشارع وأقاموا علاقة بوشائج عالية مع الجمهور من خلال تقديم شخصية التلميذ المجتهد الذي يتمكن من  إحداث تغيير في سلوك شخص كسول وضئيل المعرفة وجاهل بأبسط المعلومات  حتى انه لا يفرق بين صوت البلبل وصوت الحمار، ولا يعرف كيفية عبور الشارع،  وأحدث المخرج صراعا دراميا بين التلميذ الشاطر والكسول الذي لا يريد أن يتعلم شيئا من خلال ترغيبه بالتعلم وجعله يتطلع الى جمال البيئة المحيطة به وينظر للناس والأشياء بمحبة، يحدث التغيير عندما يكتشف الجاهل متعة المعرفة وأن السعادة تكمن في التعاون مع الآخرين، وقد وضع المخرج أحداث المسرحية في إطار من الكوميديا والموسيقى والغناء، مما جعل إيقاع العرض بسبب عدم خروجه عن موضوعة واحدة وحدث محوري غير متشعب وبالنتيجة حققت الشخصيات حضورا بفعل الأداء الذي حرص على بناء علاقة مع الجمهور منذ البداية وعمل على تنميتها طوال زمن العرض. أسقط المخرج وفريق العرض فرضية عدم صلاحية العرض المصمم للمسرح التقليدي/ المغلق للعرض في فضاءات مفتوحة عندما عملوا على تكيف حركة الممثلين وإنشاء المنظر بصورة تتوافق مع مسرح الشارع دون ان تتأثر فكرة العرض وعناصره الجمالية.632 show

فاز العرض بالجائزة الثانية للعروض الموجهة للأطفال.

عرض من مسرحية (من هي والدتي) اعداد واخرج هه ردى شيخ هادي - كردستان/ حلبجة.

فكرة العرض و أحداثه مقتبسة من مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) للكاتب برتولد بريخت، وعمل المعد/ المخرج على إجراء تغييرات في شخصية النساء في النص الأصلي إلى فتيات، الفتاة الأولى مترفة - يتضح ذلك من أزياءها وسلوكها المتعالي، الفتاة الثانية بسيطة فقيرة، وحول الطفل المتنازع عليه بين الأم الأرستقراطية والمربية إلى دمية تتنازع على أحقية امتلاكها الفتاة المترفة التي أهملتها والفتاة الفقيرة التي وجدت الدمية مرمية في الشارع وعملت على العناية بها بخياطة ملابسها والمحافظة على نظافتها، يبدأ العرض بدخول رجل يبيع البالونات واشياء اخرى ينادي علي بضاعته تقاطعه الطفلة المترفة الغنية تحمل دمية، تفزعه بصورة كوميدية وتسخر منه وتبعثر أشياءه … تهرب منه بعد اتصال هاتفي وتترك دميتها وتخرج، تدخل فتاة فقيرة يتضح ذلك من ملابسها، يعثر البائع على الدمية مرمية يعرض عليها أن تأخذ الدمية، تفرح بها تسميها لولو، تعده أنها ستضعها بين عينيها وتعتني بها، يغادر البائع، تدخل امرأة عجوز تحمل صندوقا لغرض خياطة الملابس، تغني هي والبنت الصغيرة الفقيرة، تطلب منها البنت خياطة الجزء المعطوب من الدمية وتخرجً البنت الفقيرة الدمية بعد ان فرحت بإصلاحها، تدخل البنت الغنية باحثة عن دميتها تلاقي الخياطة، تخبرها أنها أصلحت دمية لإحدى الفتيات، تطلب اعادة دميتها من الفتاة الفقيرة، تتشاجران، يحضر البائع والأب ليحكم الاب بعد ان تحولت العربة إلى منضدة حكم ويكون الأب قاضيا، وهنا وصل العرض إلى مرحلة ذروة الصراع بين الفتاتين، حين يضع الدمية في دائرة على الارض ويطلب القاضي من البنتين الإمساك بالدمية وكل من يسحبها بقوة اليه تكون من نصيبها، ترفض البنت الفقيرة سحب الدمية لأن عملية سحب الدمية ستمزقها،حرص المخرج على مشاركة الجمهور بإصدار الحكم بأن تعود الدمية للفتاة الفقيرة، لأن الفتاة الغنية عاملت الدمية بخشونة وقسوة، تغادر الفتاة الغنية مستاءة وغاضبة، تفرح الفتاة الفقيرة ويشاركها الجميع سعادتها.

فاز عرض (من هي والدتي) بالجائزة الثالثة للعروض الموجهة للأطفال.

عرض مسرح (نوتا الدمى والأقنعة) من اسبانيا، ثلاث مسرحيات تحت عنوان  (عوالم الاقنعة والدمى) إخراج (رافائيل ري) وقام بتحريك الدمى والاشياء الاخرى على طاولة واداء الأصوات ثلاث شبان يظهرون أمام المتلقي. 

تظهر مع الموسيقى دمية امرأة عجوز تجلس في كرسيها، تكاد لا تقوى على المشي إلا بمعونة الآخرين إنها تنهض عندما تجد الورد حولها وتسعد به، تبدأ بالعمل على تنظيف ما حولها بالمكنسة وترمي القمامة في مكانها الصحيح، يزداد نشاطها وترقص مع الموسيقى،  يحدث صراع بين شيء من القمامة وبين المكنسة لتظهر من القمامة وردة حمراء تسعد بها المرأة العجوز، ذلك أن عملها ونشاطها انتج وردا جميلا. أن جمال الورد جمال يحيي في داخلها حب الحياة ويمنحها قوة وعزيمة، مغزى العرض وفكرته تتضمن دعوة صريحة للناس بجميع الاعمار للمحافظة على البيئة، والعمل على زيادة الورد في حياتهم. مفردات العرض الموسيقى والمؤثرات الصوتية، دمية المرأة العجوز، ورد في سنادين، صراع يدور بين المرأة العجوز وقواها المتعبة من جهة، وبين المكنسة والقمامة من جهة ثانية، تنتصر العجوز على قواها الخائرة عندما تنجح بتنظيف وتجميل حياتها، وتبدأ بالتحرك برشاقة وترقص فرحا.

العرض الثاني الذي قدمه مسرح (نوتا الدمى والأقنعة)

تناول موضوع حماية البيئة والكائنات مثل الطيور التي تأكل الأسماك، والأسماك بدورها تأكل ما يرمى في الأنهار، من جماليات هذا العرض صناعة المفردة الأساسية (دمية طائر اللقلق) التي اعتمدها العرض من مخلفات البيئة، بحجم كبير نسبيا، شكل خزان ماء بلاستيكي أصفر بطن الطائر، قاعدة جهاز تلفزيون أقدام الطائر، وتشكل الجناحين من انابيب خضراء وقطع اسفنج حمراء وتكون ريش جناحي الطائر من أكياس بلاستيكية ملونة متدلية يمينا ويسارا، أما المنقار فكان قنينة ماء مشطورة الى نصفين،  والرأس يتكون من كرات، وتربط الأجزاء أسلاك، وكأن العرض يقول ان البلاستيك اخطر مخلفات البيئة، أنه عرض صامت لقضية الضرر الذي يطال الإنسان وجميع الكائنات من المخلفات وهي قضية هامة للعالم  والإنسانية جمعاء.

فازت الفرقة الاسبانية بتكريم خاص من قبل لجنة التحكيم وإدارة المهرجان.

امتازت العروض الخمسة الوارد تقديمها أعلاه بجملة من المقومات الفنية منها:

أولا: أتخذت مساحة جميع العروض شكل حدوة حصان، وليس إحاطة كاملة، وذلك لغرض فسح مجال لدخول وخروج الشخصيات. ومنحت فضاء لمشاهدة الجمهور بوضع مريح.

ثانيا: امتلكت العروض أهم مقومات تقبلها والتفاعل معها لأنها تناولت أفكارا موضوعات تتجاوز المكان والزمان المحلي وذهبت إلى عموم الانسانية (مسرحية دجاجة الجيران ليست وزة: لا توجد بيئة يمكن الانسجام معها والعمل فيها أفضل من بيئة الوطن) - (مسرحية عشرة على عشرة: يقود النشاط والتعلم والتعاون إلى الحصول على أعلى درجات المفاضلة ومن ثم الحصول على السعادة) - (مسرحية من هي والدتي: الأشياء لمن يحافظ عليها ويعتني بها) وتناول العرض الاسباني الأول: (فعالية الإنسان في أي عمر كان  تزهر جمالا)  وتناول العرض الاسباني الثاني: (الحفاظ على البيئة وحماية الكائنات)

ثالثا: شكلت الموسيقى والغناء عنصرا حيويا في العروض، ووظفت الملحقات (الأدوات والاكسسوار) من قبل المخرج والمؤدين بصورة لا زوائد فيها ولا ترهل، إلى جانب الابتعاد عن الخطابية والنصائح والمقولات المباشرة للجمهور.

رابعا: انطوت العروض على امكانية إثارة تفاعل الجمهور من الأطفال والكبار والسعي إلى مشاركتهم.

خامسا: تتضمن العروض الخمسة مقومات فنية وموضوعية وجمالية تهم جميع أفراد العائلة، ويصح ان يصطلح عليها وإدراجها ضمن عروض (مسرح العائلة) الذي يعني المسرح الذي يتوجه للأطفال والراشدين دون تمييز لا بالفئة العمرية ولا الطبقة الاجتماعية.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

في مجموعة (ضوء ازرق من اخر النفق) – مريم نزار حنا

تجلت شخصية مريم نزار حنا القصصية منذ ولادة مجموعتها الاولى (بحار زرقاء وأعماق ملونة) عام 2019 والصادرة من قبل المركز الثقافي في الرابطة السريانية – لبنان من حينها تراءى لي عمقها الغني بالعطاء الجديد، هذا الديوان الذي قالت عنه القاصة د. درية فرحات الاستاذة في الجامعة اللبنانية (نعم... إنّ لمريم نزار حنا قلمًا ناشئًا يافعًا، لكنّه قلم سيّال، يكتب ما يجول بالخاطر والبال، وهو قلم موعود بالنّجاح والتّطور والتّقدّم متى استطاعت صاحبته أن تنمّي موهبتها الأدبيّة، وأن تنهل من قراءاتها وان تتزوّد من الكتابات النقديّة).

هذا الكتاب نبئ بولادة كاتبة تمتلك من الموهبة الكثير، وها هي اليوم مريم في مجموعتها (ضوء أزرق من آخر النفق) تحقق مقولة د درية بهذه الولادة. من خلال عالمين الأول هو عالم الشعور، والثاني المقابل له هو عالم الأعماق الملونة، إذ تكشف تلك الأعماق المذهلة والمتجسدة داخل أعماق الكاتبة الضمني وهي تحاول في مجموعتها الثانية سبر أغوار الذات الداخلية بصراعاتها الشخصية والنفسية والفكرية.

ان الولوج لمجموعتيها القصصية لا بد ان يكون من خلال عتبتيها واللتان كانتا المرآة العاكسة لذاتها أولا ولفضاء تخيلاتها ثانيا، هذا البناء المعماري الذي وظفتهُ في العنونة جاء طبقاً للمناخات التي واكبتها وفق الحدث القائم في حينه، وربما الطراز الذي يؤسس فضاؤهُ القصصي.

(ضوء أزرق من آخر النفق) هذه هي مجموعتها الثانية والصادرة من دار (منهل القراء للنشر – حلب – سوريا /2024. وكانت للمسة الفنان القدير غسان فتوحي على غلافها طابعا جميلا ترك بصمة تؤهل القارئ سبر أغوار الكتاب منذ عتبته الاولى.

 القاصة مريم وضعتنا منذ عتبتها الاولى أمام مقاربة قطبين أحدهما، اللون الازرق الذي يشير الى الطاقة والإثارة والى الهدوء والثقة بالنفس، انه لون المساحات المفتوحة الواسعة وكما في النفق الذي يمتد بعيدا، إلا أنها في اختيارها لهذا اللون وكما في مجموعتها السابقة عززت الشعور بالحرية وحيث السماء والبحر واسعتان، وفي وسعهما تثير الحدس، والخيال الواسع للنظر الى أخر النفق.

هذه العنونة تُفضي إلى تأويل افتراضي لعوالمها الغامرة، فضلا عن كونها دالة على مفارقة سيميائية تتبدى فيها تجليات الواقع المأزوم مقابل تمثلها لتمظهرات السرد.

هكذا أفاضت علينا عنونة المجموعتين بقدرتها على رسم مسار الخلفية الدلالية وحيث يتسرب اللون الازرق بين فضاءات التشكيل الفني للنفق معبرا عن الأثرُ الجمالي للمجموعة، فلا يتوقف الأثرُ الجمالي لهذا التزاوج بين اللون الازرق والنفق لكونه أثراً متخيلاً بل يترك وجوده على صعيد الصور التي ترسمها لنا قصصها.

ركزت الكاتبة مريم نزار في مجموعتها القصصية هذه وكما في سابقتها على الذات، العاكسة لانشطاراتها وخصوصيتها من خلال ارهاصات تتجسد في الواقع الذي نعيشه، لتبوح لنا ما في داخلها وهي تتلمس انهيار القيم وامتهان كرامة الإنسان.

ففي قصتها (حافة تولد إنسان) تزيل الستار عن الذي يجعل الانسان يتصدع فتقول:

(على حافة المرتفع، يجد ذاته الثكلى بالفراغ الذي عبئه بيديه لا لشيء بل لفقدان الهوية وسؤال الذات الذي لم يجبه ليصبح القريب من نفسه.. اينحدر؟ سينحدر؟ من على قمة الخوف أو في نهاية منحدر الخوف! وإن لم ينحدر من هذا العلو ماذا سيفعل؟؟؟)

هذا التساؤل الذي يكشف عن صراعاتنا اليومية ونحن نتقمط عشرات الاسئلة التي تكتنف اجابتها الصراع الداخي الذي نعيشه نحن الذين تركنا أوطاننا وركبنا عباب الهجرة..

هذا يعني ان الذات في قصصها تعني السمات الشخصية النفسية والاجتماعية لابطال قصصها وحيث تزاوجهم مع شخوص تاريخها المشرق والعمليات الموحدة التي انطلق وينطلق منها الفرد في تعامله مع كل ما يحيط به من البيئة المحيطة... ويبلغ الانشطار وتشظي الذات ذروته مع صنع ثنائيات ضدية بين الانحدار والتربع في عرش القمة لذا تنوعت لديها أفضيتها الرؤيوية وإمكاناتها التشكيلية.

وفي قصتها (الأرستقراطي) والتي تقول فيها:

(من سيارة لامبورغيني الفاخرة، خرج رجل مع زوجته التي تشبه الدمى من كثرة التصنع بسبب عمليات التجميل والنحت. اكتظ مراسلو القنوات حولهما، سأل احد المراسلين الرجل صاحب اللامبورغيني:

كونك في بلد غير وطنك حدثنا عن حضارتك وتاريخك العريق، عن العراق العظيم وماهي رسالتك في الحياة؟

سكت الرجل الملياردير لثوانٍ ومن ثم نظر لساعته وقال:

اعذروني لقد تأخرت، لا مزيد من الأسئلة. هرول إلى قاعة المطعم، وكان أول الواصلين...)

سلطت القاصة عدستها على الواقع المزري في بلدها لتصطاد فريستها من خلال قادة يتربعون عرش بلادها وهم لا يصلحوا الا التسكع في المطاعم الفاخرة....

وفي قصتها (حافة تولد إنسان) تراها تغوص في الاعماق العميقة للذات في تقاطعاتها وتوازياتها وتماساتها مع العالم الخارجي والداخلي عن طريق التشكيل، لتعكس لنا مخيلتها صورة تتمظهر بها وفيها من خلال محاورة ذات هذه الشخصيات في باطنها وتجلياتها فتقول:

(لم يرتطم بالمصير الذي أراده! إنحدر ولكن قوة ما خفية أنقذته. صوت كالصدى المجهول وإذ به ودون إنذار يقول وهل الهروب هو الحل؟ أين الفرصة التي يجب أن تمنح للذات؟ أين الخلوة مع الذات؟.. أين، كيف، هل ولماذا؟...)

وفي قصتها (انحجاب الستار عن المرايا) تنطلق من بؤرة ذاتها أيضا كونها القادرة على تمثيل الحدث الذي تتلمسه، وهو الذي يوفر لذاتها رافداً اجتماعياً ونفسياً وثقافياً يسهم بعمق في إيصال الصورة إلى مخيلتها لتعكس لنا صورة ثانية موازية لها:

(في ضجة المتعارف عليه والتشابه وجد نفسه، الهدوء والخلوة مع الذات لم يكن أسلوب حياة له، المعرفة كانت سلاحاً للكبار، تباهياً بالرقم الذي يزيد معهم كل سنة. ولكن! في يومٍ ما وجد نفسه حبيس غرفة محاطة بالمرايا من كل الاتجاهات. لم يجد غير ذاته، لم يجد صديقاً أو قريباً غير نفسه وكأنه لأول مرة يتعرف على نفسه عن كثب! وكأنه يكتشف أن لا بشر ولا وسيلة تشفي غليل الأنسان أو تسمعه أو تعرفه كما هي ذاته).

نجد في كل قصة من قصصها تتحرك الأحداث أو الوقائع لتكون بمثابة مرآة تدفع قوى الموقف الإنساني كي يتطور نتيجة لفعل إرادي ناتج من تجاذب أو تصارع بين الفعل ورد الفعل، بين الحدث والموقف الانساني منه، ويكون الحل فيه من خلال الفعل الإرادي.

تشكل القراءة المحايثة لنصوصها هذه وغيرها في رؤاها وأبنيتها التشكيلية من زاوية تأويلية حيث استطاعت إثراءها وتخصيبها بآليات سردية وتخييلية وإيقاعية وثقافية متنوعة لتعطي لها بعداً واسعا يتشظى في حدود الخيال... وتمكنت القاصة مريم من أن تفرض دينامية التلقي وخلق الإحساس المستمر بالدهشة وتوليد الصدمات التي تجترح ذائقة القارئ باستمرار.

مريم تستخدم الانزياح في الكثير من قصصها هذه وكما في قصتها (الثقب) وهي تقول:

(هذا الثقب ضيق للنظر من خلاله، هذا ما قاله الطفل صاحب السبعة سنين فلم يكن يعلم أن الإكثار من الرؤية عمى ونظرة ثاقبة واحدة هي بمثابة تلسكوب بعيد المدى).

هذا الانزياح في كتاباتها لم يكن الا تمردا وجوديا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات الخارجة عن النسق ببوصلة منكسرة تجعل صاحبها في حالة تيه وضياع. القاصة اعتمدت على التكثيف المولّد للغموض فتشكّل لديها نصا في إطار قصصي مكثف يحمل قدرًا من آليات السرد، ولكنّه سرد سريع يجسد بين طيّاته ابتهال صوفيّ يحيلنا الى فعل الخطيئة بطموحاتنا فكأن الترميز فيه يحفر في ذواتنا وكما في الذاكرة صور متشظية بتأويلاتها.

أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل لديها يبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى حيث تنتقل من المشهد الحسي للصورة إلى العلاقات التي يفرزها الواقع النفسى والشعورى، لذا تراها تستمد خاماتها الايقاعية من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق لتكشف لنا صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة.

تمتاز قصص القاصة مريم بشفافيتها وتلقائيتها وعفويتها في معالجاتها النصية، فنصوصها شفيفة سهلة ورموزها التاريخية دالة عميقة المعنى تبعث الدفء في أعماقنا، بما فيها من انفعال وجداني وفيض عفوي ودفقات شعورية شديدة الوضوح...

 وهذا ما تجسده في قصتها (نحو اللامعروف) فتقول:

(... لكِ مظلتي فلا أحتاجها. فقد قالوها أجدادي، نحن المبللون سلفاً من ويلاتِ الحياة لا خوف لنا من الزخات.. لكِ كل آمالي وأحلامي وتوقعاتي، فلم أعد بحاجة للتخيلات)

القاصة مريم تمتلك إيحاءات عميقة وبليغة، في اكتشاف الظاهر والباطن، وصورها هي حصيلة استلهام صور الواقع في الدال وانعكاساته في المدلول، فهي علاقة متبادلة بين التصويري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية.

في قرائتي لمجموعتها هذه تلمست تعبيراتها الدالة، في ثنائية سيميائية متقابلة، سيميائية الفعل الفني من جهة، تقابله سيميائية فعل الواقع الذي خرج عن المعقول والمنطق من جهة أخرى فتصفه في قصتها (معتقدات عصرية): فتقول:

(خرجت وهي تشعر بأنها أنثى جميلة ومرغوبة، وصل خطيبها ليصطحبها كي يذهبا معاً إلى الحفلة، لم يعلق بشيء، انطلق بسيارته فرحاً، بعد حين وصلا واِلتقطا صوراً جميلة لكي يتم نشرها على الإنستغرام وهو متباهٍ بخطيبته الفاتنة مدعياً أن الحب في بلاد الغرب لا يحتاج لغيرة رجل، وكلما قصر القماش زاد التفاعل على صورتيهما معاً على منصات التواصل الاجتماعي لكي تنافس خطيبات أصدقائه).

تجاربها القصصية هذه هي في حقيقة الأمر مكاشفة واكتشاف لأناها التي تعكس لنا الأنا الجمعية في الوقت نفسه، وفق رغبات جامحة في التغيير، تلبية لشعورها الخصب الذي يستفزنا من خلال حاسة الرؤية بمؤهلاتها النفسية والثقافية، ففتحت النص السردي بانزياحاتها على إمكانات جديدة، استطاعت إثراءه وتخصيبه بآليات سردية وتخييلية.

ففي قصتها (ܦܝܫܬܐ – البقاء) يحتل السؤال محور هذه القصة بعد أن استدعت مذابخ سيفو لتقول:

(ܥܲܠ ܚܲܕ ܟܹܐܦܐ ܓܵܘ ܛܘܼܪܐ ܪܵܡܵܐ ܝܬܝܼܒ̣ܐ ؛ ܡܨܵܠܡܘܼܢܹ̈ܐ ܐܲܪܐ ܚܲܝܘܼܬܐ ܝܼܠܗܿ ܩܫܝܼܬܐ ܝܢ ܐܲܚܢܵܢ ؟ ܘܗܘܹܐܠܹܗ ܡܨܵܠܡܘܼܢܹ̈ܗ ܓܘ ܦܸܪܡܵܐ ܕܣܵܝܦܐ ܘܗܘ ܒܲܫܐܵܠܐ ܐܟܡܐ ܡܢ ܒܢܝ̈ ܐܘܡܬܝܼ ܦܝܫܠܗܘܢ ܩܛܝܼܠܹ̈ܐ ܕܠܐ ܥܸܠܬܐ ؛ ܠܡܢ ܝܼܠܹܗ ܠܵܘܡܐ؟ ܚܲܝܘܼܬܐ ܝܢ ܩܸܫܝܘܼܬܐ ܕܜܠܘܿܡܝܹܐ؟

جالسًا على صخرة فوق جبل مرتفع، منسجم بخياله يتساءل:

أيا ترى الحياة هي القاسية أم نحن؟

وهو يتأمل بمذبحة سيفو ويتساءل بتعجب:

كم من أبناء شعبنا كان ضحية القتل من دون سبب. لمن اللوم؟ الحياة أم قسوة الظالمين؟)

من خلال تساؤلها هذا فتحت لنا كوة تتوجه نحو التشكيل، وأحالت الطبيعة البشرية الى مد متواصل من التجاوز فرضت دينامية التلقي وخلق الإحساس المستمر بالدهشة وتوليد الصدمة التي تجترح ذائقة المتلقي للحدث. صورة كهذه هي حصيلة استلهام الماضي في مصداقية الدال، كونه علاقة متبادلة بين الصورة وإيحاءاتها في الرؤية الفكرية وما عرضها الا لنتعلم منه درسا جديدا. نحن أمام صراع متبادل بين صوتين متقابلين في المحاججة والمجادلة.

وأحياناً القاصة مريم تلجأ الى التناص التاريخي في بناء نصها القصصي؛ حيث تتداخل احداث وشخصيات تاريخية مع النص الاصلي، كي تضفي على تجربتها القصصبة دلالات تاريخية. فتحضر رموزها التاريخية، التي تركت بصماتها على التاريخ لتشعل من خلالهم شعلة النهوض في نفسيتها ففي قصتها (شبعاد في ساحة التحرير) تستدعي رموزها لتجعلنا أمام صورتين متناقضتين، صورة ماضيها المجيد وحاضرها المؤلم والذي يعكسه لنا مظاهرات الطبقة المثقفة في ساحة التحرير تلك الطبقة التي لا تريد ان يكون وطنها وشعبها رموزا في المعادلة السياسية والاقليمية فتقول:

(إنها الملكة شبعاد مزينة بحليها وأناقتها الملطخة بالحزن والاضطهاد. حلَّيها الباهظة أصبح ثمنها فتات طعام للأطفال المتسولين مع ذويهم في شوارع سومر وفي القرن الواحد والعشرين، ونبيذها المعتق الثمين قد تحول إلى حقول نفط، إلاّ أنه لا يروي عطش الفقراء والمساكين، لأن زمن مملكة سومر وأكد وبابل وآشور وكلدو قد انتهى، ليحل بدلاً منه زمن الحرب والصراع من أجل الكراسي).

وظفت في قصتها هذه شخصية تاريخية لتكون مجددة في حضورها الى ساحة التحرير لتوحي إلى القارئ ما يعنيه هذا الحضور من أفعال وأحداث داخل فضاء المنظور بعد أن اعتمدت على تداخل الزمن لتؤكد على المعنى الذي تعطيه لنا هذه الملكة (شبعاد) والدرس الأخلاقي الناتج من حضورها، كل هذا يعتمد على نوع العلاقة التي تنسجها الكاتبة في عملية حضورها لإنتاج الدلالة داخل المسار التوليدي. وهكذا في قصصها (حلم على ضفاف دجلة، أساطير من الواقع، نهر العراقة، ملاك على الأرض...).

وفي قصتها (تبعية) نجحت القاصة في خلق مواربة فنية، تمنح نصها كثافة دلالية مضاعفة ؛ تتحصل في رغبة النص توسيع دلالاته النصية إلى مدى يؤهل القارئ الى الإمساك بالزمن التاريخي ومدخلاته الكثيفة ليضعنا أمام تعالق أجناسي، بين الأسلوب السردي وأسلوب غنائي:

(رمادي هو طقس هذا اليوم! ولكن روحي ما زالت زرقاء. أخطو كأيقاعات موسيقى ليلية تحاور القمر، وأنا أيضاً أحاور القمر غاية لأستلهم منه نوره المتوهج وسط العتمة القاتمة.

ينظر العالم إلى القمر كتشبيه للجمال لكني أراه تشبيهاً يليق بالقوة والصمود).

فالغنائية تجسدت في حضور الذات التي أطرتها القاصة ببنية نصية وظفتها لتكون قادرة على التشظي بأكبر قدر من التخييل الغنائي البنية ؛ لتجري مقاربة بين الطقس والروح، بين الرمادي والازرق، بين الواقع المتخيل والواقع المنطق. في هذه القصة تقوم القاصة بتصويرها لاناها تصويراً نفسيًّا خالصًا يعتمد على شعورها أي على الأفكار التي تطوف وتتصارع في مخيلتها والأحاسيس التي تنتابها.

وهكذا في قصتها (ضوء القمر: ليلةٌ أسميتها الهدوء،....).

وفي قصص أخرى تحيل فيها الضد على ضده فيضيئه دلاليا اي انها تتمثّل في أوجه التّناقض والتّضاد في علاقات وأطراف يجب أن تكون متوافقة وكما في قصتها (صرخة التربة الحمراء):

(في مكانٍ ما نعيق الغراب الأسود يسود... الأرض انشقت من أزيز الرصاص... فخرجت تربة جديدة تكسو الأرض... تربة حمراء، نبتت عليها نخلة يابسة على وشك الموت... فأمطرت السماء زخات حمراء لتسقيها... تلونت النخلة بأربعة ألوان فلكل لون حكاية).

القاصة مريم لا تهتم كثيرا في تصوير المكان بقدر تصويرها للعلاقات العامة كونها تركز على الحدث وتشظياته اجتماعيا وما يفرزه من ردود أفعال من الآخر، والموقف منه أي الفعل ورد الفعل. بمعنى آخر أنها تهتم بما تراه ذاتها كي تقدمه باسلوب فني وفي حالة تأويله يحفز القارئ على الغوص في النص وقراءة ما بين سطوره. وبفضل التكثيف الذي تحتشده مريم في بعض قصصها، يسري الأثر الجمالي كي تتحقق دلالات الصور التي تنشئها وتنسحب عبر الهواجس والتعاطف والحنين المتولد الى عند المتلقي وكما في قصتها (شمعة):

(على شرفة اللامعلوم أضع آمالي التي صنعتها لأحارب العدم. أشعل شمعتي الفواحة بعطر يقاوم نتانة الواقع المضطرب. يخبرني النور المنبعث منها الصمود بالأمل على شرفة اللامعلوم، التي تحيك لي الأيام على مهل سريع..

على مهل سريع! ما بي؟ عندما أخاطب ذاتي أصوغ اللامفهوم الغامض، هل هي لوحة سريالة؟ أم هي جملة واقعية بصيغة ميتافيزيقية!)

القاصة هنا تستخدم ضمير المتكلّم من أجل إشغال الفضاء السردي للقصة، فهي تضعنا أمام ما يشبه كتابة السيرة، بما يجعل تشكيل العنصر الشخصي في الرواية أكثر حضورا، وأكثر قدرة على توصيف تمثلاتها بدلالة علاقاتها مع الواقع.

ختاما أقول:

القاصة مريم لها ملكة تخيلية مكنتها من الرصد والتقاط بؤرها من اليومي المعاصر وهي تستنبط وتستقرء الحدث الذي تراه وتتلمسه وفق إرهاصات حلمها الذي تراه منتجاً وتزاوجه أحيانا بصور من ماضيها المشرق بدلالاته وصوره بمعالجة رصينة توحي للمتلقي استدراك ما فاته لحظتها.

 انها ترصدُ كلَّ شيءٍ مِنْ زوايا بيتِها تلك التي أفسدتْ الجمال في الانسان.

في مجموعتها هذه تتكشف ذاتها باستمرار من خلال التقاطها لصور تغذي صورتها الكلية والتي تأمل منها لتكون الأنا الكلية بما يجب من التفاعل والتلاقي والتعاطي مع المحيط فما أن تحضر دال ذاتها حتى يحضر مباشرة دال موضوعها ليكون في مواجهة تقليدية جدلية بين الماضي والحاضر، بين الحقيقة والرغبة الجامحة لتزييفها. أنها علاقة تفاعليّة تكشف عن طبيعة الدائرة التي تحيط بها.

في مجموعتها هذه تتقمط ذاتها الأنا العليا المثالية والتي يحوم حولها ذوات متغيّرة، ومن خلال رؤيتها تجعل من الموضوع هو المركز المتغير شكله والثابت جوهره.

وبالإجمال، نقول إن قصص مريم القصيرة والقصيرة جدا حاولت ان تضئ على مشاهد مهمة أو عالجت لحظةً وموقفًا تستشفُّ أغوارهما القاصة، تاركةً أثرًا وانطباعًا في نفس القارئ نظراً لما تمتلكه قصص القاصة مريم من مقومات فنية تتجسد في اعتمادها التصوير الجمالي في تسلسل الأحداث، وتوظيفها جملة من المفارقات والأزمنة السردية في إطار البناء الفني.

***

نزار حنا الديراني

الاحتجاج اعتراض على حالة راهنة والمطالبة بتغييرها.. والاحتياج الافتقار إلى الشيء الضروري الذي نطلبه. تحاول هذه القراءة تسليط الضوء حول هذين البعدين. ولاسيما أن مجموعته الشعرية هذه تحفل بهما. وارتأيت أن اتخذ قصيدته (ما ينقص شاعراً) عتبة لهذه المحاولة. لأنها (القصيدة) يصح أن نسميها قصيدة سيرة عامة جعلها عنواناً لقصائده السيرية الأخرى. وبالتأكيد لا أعني هنا بالمذكرات المؤرخة إنما هي تدوينات سيرية ذات رؤى شعرية في الحياة العراقية الذاتية والموضوعية.. يتخذ العنوان (ما ينقص شاعراً) مخرزاً دامياً لاحتجاج الشاعر واحتياجه بمزج الواقع الراهن بلحظات الماضي الأول البريء (الملاك الذي نبت بين شجيرات تلك البساتين / الأخضر بلون الصفصاف / الذي تحدث للبلابل والحمام / وتنفس مع جذور العنب..) في كثير من قصائد الشاعر نجد التغلغل بين الطبيعة والحيوانات لارتباطه بهما. ضمن كينونته الأولى التي أدركت صفاء الطبيعة ومن هذا المنطلق التأثيري يتجه الشاعر بوعي أو بدون وعي إلى اتخاذ ما يسمى بأنسنة الأشياء (استنطاق الجمادات والحيوانات واتخاذها رمزاً بشرياً) أقول يتجه من خلال ذلك إلى فضاء البوح والإيحاء (رأيت لقالق تصلي له.) (إنه قد أضاع ومنذ استسلام طويل فكرة الهرب وهو ما أتاح لقطعان كلاب كثيرة آخرها كلاب الديمقراطية أن تنهش من سلامه ما تشاء لذلك فهو بلا ضياء فيما ذيول الكثير من الكلاب مضاءة بالأدعية والتهليل وهو ما أسقط آخر يوم كان قد توقع أن يكون صالحا لغرس حلم). فالشاعر مضرج بالخيبات ، وهذه الخيبات عبر عنها بالاحتجاج والتذمر واليأس ، وقد صور هذه الخيبات بأحاسيس مغايرة تختلف عن تلك الأوصاف المألوفة ، فالأشياء التي نراها هي غير الأشياء التي نراها فهو تارة يجعلها مأنوسة وتارة يجعلها مريبة فهو يحمل وجهاً واحداً وهذا الوجه شكل منه صراعا مع الذات والآخر في محيط قد تعددت فيه الوجوه المزيفة (كان يمكن له أن يستعير قناع مديره أو وزيره أو إمام جامع المدينة، ولم يدر إنه إنما كان يركض عارياً فرجمته سماواتهم بالرفض إذ اختلط عليه شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ومن الملاحظ أن الشاعر عمر الدليمي يكتب من خلال الأشياء التي خيبت آماله ويجعل منها قنوات لتمرير احتجاجاته الشعرية بصور شعرية مما يمكن أن أسمي بعض مقاطعه الشعرية في هذه المجموعة بــــ (نص الصورة) الذي اتكأ عليه في البوح والإيحاء غير عابئٍ بالحدود والحواجز. وعلى الرغم من ميل الشاعر إلى البوح إلا أنه يميل إلى الصمت أيضاً وأعني به الصمت الداخلي الهامس.. ومن هنا جاء اهتمام الشاعر بلغته الشعرية ؛ لأنها الفضاء الذي يجسد الصورة ومن المعروف أن اللغة الشعرية هي ليست اللغة الإخبارية المباشرة التقريرية مستعملاً تقنيات مثل آلية التوازي / البؤر الصوتية / التكثيف / هندسة البياض / التناص إلخ. ومن الملاحظ أن الشاعر قد كتب قصائده النثرية على الطريقة الأوربية (كتلة واحدة لأن قصيدة النثر الأوربية لا تقطّع كما الحال في قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، بل تكون على شكل كتلة، تحمل كل ما يحمله النثر من أدوات وشروط في الكتابة). ومن خلال احتجاجات الشاعر على الواقع المربك والمرتبك.. يجعل من الوطن ضمن هذا الواقع يلتف على نفسه ضمن دوران عبثي يبعثرنا نحو التلاشي. وهو ما لا يريده الشاعر. مما حتم عليه الاحتجاج. وضمن هذه البنية تبرز احتياجات الشاعر وهنا أتوقف قليلاً لأقول (ما ينقص شاعراً) هل هذه الــــــ (ما) موصولة بمعنى الذي ينقص شاعراً أو شرطية بمعنى إذا ينقص شاعراً وحذف جواب شرطها أو ما استفهامية (ما ينقص شاعراً) والجواب هو أن ما هنا استفهامية وأجاب عن هذا السؤال الشاعر نفسه في النص.. وبشكل مكرر. (ينقصه الكثير الكثير) توكيداً لخساراتنا الكبرى وأي كثير نحتاجه وينقصنا سوى الوطن.. 

***

د. مثنى كاظم صادق

 

قراءة في قصيدة: الروح البشرية – للشاعر أنور غني الموسوي – العراق .

***

القصيدة: الروح البشرية

النفس البشرية عالم جميل. جميل جدا كم أحببته وآمنت به أليس هو الذي يزرع الريحان؟ أليس كذلك؟ حيث تقول الحقيقة كل الجمال الذي لا يمكن تخيله، ليس وهمًا أبدًا، إنه الجمال الذي ينحدر مبكرًا، يصافح الأولاد في الشوارع.

ألا تراه ينحدر كل يوم؟ ايديها ناعمة تزرع الريحان كيف يريدون قبيح هل يمكن أن يكون الذي يزرع الريحان قبيحًا؟ كيف يمكنهم أن يكذبوا كل هذه الكذب؟ فقط تعال قليلا نحو روحك نحو عالم لا يعرف القبح والكذب

نعم القبح ليس حقيقيا ولن يكون مهما حاولوا الا ترى انهم دائما يختفون سرقوا كل شيء ولم يتركوا زهرة. يا ترى جابوا القلب القاسي ده منين؟ ألم يعلموا أن الأمسيات دافئة، وأن للحقول ترنيمتها الرقيقة؟ كيف يمكن أن يكون هناك كل هذا الظلام في قلوبهم؟ أنا حقا لا أفهم.

بقلم: أنور غني الموسوي – العراق .

....................

توطئة:

التناص بين الجمال والقبح: قراءة سيميائية في بناء الروح البشرية

التفسير: في هذا العنوان، يتم التركيز على العناصر الرمزية التي تبرز في النص، مثل (الجمال والقبح والروح). كلمة /التناص/ تشير إلى التفاعل بين الرموز والمفاهيم المختلفة داخل القصيدة (مثل الريحان، الزهور، الظلام، الكذب)، و/ قراءة سيميائية / تعني تحليل هذه الرموز وفقًا للدلالات التي تحملها ضمن سياق النص.

القراءة:

قصيدة / الروح البشرية / للشاعر العراقي: أنور غني الموسوي تعد نموذجًا شعريًا يحمل في طياته الكثير من الرموز والمعاني التي تحتاج إلى تحليل سيميائي دقيق لفهم العلاقات بين / العلامات/ و/ الرموز/، وكيفية تشكل المعنى في النص. في هذه القصيدة، يقوم الشاعر بتناول الموضوعات الإنسانية الكبرى، مثل (الجمال، والقبح، والحقيقة، والكذب)، من خلال التصورات النفسية، ما يتيح لنا فرصة الغوص في بنية هذه القصيدة وتحليلها من خلال منهج سيميائي عميق.

1. الجمال كعلامة سيميائية محورية:

القصيدة تبدأ بتقديم فكرة / النفس البشرية /على أنها/عالم جميل /، والجمال هنا لا يقتصر على الظواهر الحسية أو الجمالية البسيطة، بل يُحيل إلى مفهوم أعمق: (حيث تقول الحقيقة كل الجمال الذي لا يمكن تخيله). الجمال في هذا السياق لا يُنظر إليه كمجرد مظاهر حسية أو تجريدية، بل كحقيقة كونية غير قابلة للإنكار أو التشويه.

/ الريحان / هو العلامة الرئيسية التي يُستدعى منها هذا الجمال. وفي السيميائيات، يُعتبر الريحان رمزًا للطهارة والنقاء. في النص، يُطرح الريحان كفعل مادي يزرع / يدًا ناعمة /، مما يشير إلى طيبة النفس البشرية التي تُنتج الجمال الطبيعي. لكن الجمال هنا لا يتمكن من الثبات إلا من خلال انحداره / مبكرًا / إلى الأرض، حيث يصافح / الأولاد في الشوارع /، وهي صورة تعكس براءة الطفولة والابتعاد عن التلوث الاجتماعي. هذه الأيادي الناعمة تصبح الرابط بين الجمال المثالي والنفس البشرية الطاهرة.

(السيميائية) هنا تشي بأن الجمال ليس مفهوماً سكونياً، بل هو عملية حيوية مستمرة / تنحدر/ كل يوم، مما يُحيل إلى فكرة تجدد الروح وتدفقها نحو العالم الخارجي. هذا التدفق لا يتوقف عن العطاء، فهو في حركة مستمرة، ينشر الجمال في العالم المحيط.

2. القبح كعلامة مرفوضة:

القصيدة تضع (القبح) في موضع معادٍ للجمال، بل ترفضه بشكل قاطع وتراه دخيلًا على النفس البشرية الطبيعية. في سؤاله / هل يمكن أن يكون الذي يزرع الريحان قبيحًا؟ /، يُظهر الشاعر من خلال التناص بين الفعل والصفة استحالة الجمع بين الطهارة والقبح. القبح لا يتوافق مع اليد التي تزرع الريحان، أي مع الروح الطيبة التي تحمل الخير وتقدس الجمال. هذه العلاقة بين الجمال والقبح يمكن أن تُقرأ في ضوء مفهوم السيميائية الجمالية، حيث يتم تحديد الجمال من خلال نفي القبح، وإظهاره كعلامة كاذبة ومزيفة.

القبح في القصيدة ليس فقط مفهوماً معاديًا للجمال، بل هو أيضًا مفهوم زائف لا يمت إلى الحقيقة بصلة. الشاعر يطرح القبح باعتباره مجرد / كذب /، حيث يُعتبر القبح محض ادعاء لا يمكن أن يتحقق في العالم الذي يسوده الجمال الأصيل. / كيف يمكنهم أن يكذبوا كل هذه الكذب؟ / هو سؤال استنكاري يعكس اليقين في وجود الجمال كحقيقة لا تقبل النقاش. هذا الزيف يتجسد أيضًا في تصوير أولئك الذين / سرقوا كل شيء ولم يتركوا زهرة /، في إشارة إلى هؤلاء الذين يسعون لتدمير الجمال من خلال كذبهم وفسادهم، ويُظهر الشاعر كيف أن العالم قد أصبح موضع تشويه بسبب سيطرة القوى السلبية.

3. التناص بين الجمال والظلام:

أحد الجوانب الأكثر دلالة في القصيدة هو التناص بين الجمال والظلام. في سيميائيات القصيدة، يظهر الظلام كعلامة على البؤس الروحي والفساد الأخلاقي. / كيف يمكن أن يكون هناك كل هذا الظلام في قلوبهم؟ / هو سؤال مفتوح يُوجه مباشرة لأولئك الذين يسعون إلى إخفاء الجمال وتدمير الحقيقة. الظلام هنا لا يقتصر على كونه مجرد حالة طبيعية، بل هو مؤشر على الفساد الداخلي الذي يظلم الرؤية الحقيقية للعالم ويطمس معالم الجمال.

في السيميائية، يُعتبر (الظلام) حالة / نفي/  (للجمال). لا يمكن للجمال أن يوجد في ظل الظلام، بل إن الظلام يمثل غياب الجمال، أو نوعًا من الفوضى الروحية التي تقف ضد النظام الجمالي المتماسك الذي يُعبر عنه الشاعر. هذا الظلام لا يتعلق فقط بالظروف المادية أو الطبيعية، بل يعكس الوضع النفسي للبشر الذين يفتقدون للصفاء الداخلي ويعيشون في تناقض مع الحقيقة.

4. العلاقة بين الجمال والروح:

النفس البشرية هي التي تحكم على الجمال وتنقله إلى العالم من خلال أفعالها. في القصيدة، يُذكر أن الجمال ليس / وهمًا أبدًا /، بل هو تجسد حقيقي للروح البشرية التي تتحرك نحو الجمال والحقيقة. الشاعر يقترح أن الروح البشرية في حالتها الأصلية لا تعرف القبح أو الكذب، وبالتالي لا يستطيع الجمال أن يتواجد إلا حيثما كانت الروح نقية وصافية. إذا كانت الروح قد أُفسدت أو تحولت نحو القسوة، فإن الجمال يتلاشى ويُستبدل به الظلام.

/ القلب القاسي / هو أحد الرموز التي يستخدمها الشاعر لتمثيل هذا التحول في النفس البشرية. في السيميائيات، يشير القلب إلى مركز الإحساس والتجربة الإنسانية، وبالتالي فإن / القلب القاسي / يدل على فقدان الإحساس بالجمال الحقيقي، أي الفساد الروحي الذي يُنتج الظلام. وُضع القلب في موضع المقارنة مع /الحقول/ و/الأمسيات الدافئة/، وهو تلميح إلى الطفولة أو البراءة التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة والعميقة في الحياة.

5. الإغلاق السيميائي:

القصيدة تنتهي بموقف شعوري غارق في الحيرة والاستفهام: /أنا حقًا لا أفهم/. هذه الجملة، على الرغم من كونها تعبيرًا عن العجز البشري في فهم الظواهر الروحية والإنسانية، إلا أنها أيضًا تمثل لحظة الإغلاق السيميائي. فالتساؤل يفتح الباب أمام قضايا وجودية لا يمكن حصرها في إجابة واحدة، وبالتالي تصبح القصيدة بمثابة رحلة تأملية مفتوحة على جميع الاحتمالات. هذا الختام يُظهر أن محاولة فهم العلاقة بين الجمال والقبح، الحقيقة والكذب، ليست عملية سريعة أو سهلة، بل هي عملية عميقة ومستمرة تبحث عن المعنى في بحر من الرموز والعلامات التي تظل بحاجة للتفسير المستمر.

خاتمة:

من خلال هذه القراءة السيميائية العميقة، يمكننا أن نرى أن قصيدة / الروح البشرية / تمثل صراعًا بين الجمال والقبح في الروح الإنسانية، حيث يتم التأكيد على أن الجمال يمثل الحقيقة والطهارة في حين أن القبح هو مجرد وهم وكذب. تعمل الرموز في القصيدة على توجيه القارئ لفهم كيفية بناء الروح الإنسانية بين (النقاء) و(الفساد)، وكيف أن العلاقة بين (الجمال) و(الظلام) تُشكل سمة أساسية في فهم الإنسان لذاته وللعالم من حوله.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

مدخل: بحكم كونه أديبًا، يتلقى زوجي كتبًا مهداة من مؤلفيها، وعادةً ما تكون عناوين بعضها مثيرا لفضولي. أبدأ بالمقدمات، مؤمنة بأنها تكثيف لما في الكتاب من جوهر، ومحددة إياي، ما إذا كنت سأغوص في المتن أم أكتفي بالمقدمة.

كنت أول من يتفقد بريدنا حينها، وإذا به يحمل رواية بعنوان (الخيار الاخر/ سردية عائلية)، استهوتني مقدمتها، باشرت، مستأذنة زوجي بأن أكون السبّاقة إلى مطالعتها. كانت تلك نافذة البداية لاكتشاف مغامرة تأخذني في متاهاتها بشغف.

هنا، أقدّم قراءة تسعى لاستجلاء عمق الموضوع الذي تتناوله، محاولة الإحاطة بما أثاره من تميز وإثارة وجِدّة، مستعرضة أطيافه المستطرفة وأبعاده اللافتة بتمعن.

الأسلوب هو الإنسان:

النص الروائي الذي تتناوله هذه المقالة ليس مجرد حكاية تُسرد، بل هو نسيج حيّ ينبض بالأسئلة لقوة إرادة الإنسان لتوكيد ذاته وتحقيق طموحاته، مسلطة الضوء على التداخل العميق بين الذاتي والجمعي، بين الفرد وموروثه الثقافي والاجتماعي. إنها رحلة مكثفة في أغوار الأسلوب والمواقف، التي تُظهر بوضوح أن الأسلوب ليس مجرد أداة تعبير، بل هو مرآة تعكس شخصية الكاتب بكل ما فيها من أحاسيس وانفعالات. وكما قال أفلاطون،" كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه" فالأسلوب هو الإنسان نفسه بكل ما فيه من احاسيس وانفعالات مرتبطة بالواقع، فكيف إذا كان النص هنا يحمل بصمات واقعية روحية وفكرية تجعله ينبض بحيوية فريدة.

يقول جوته" الأسلوب هو مبدا التركيب النشط والرفيع الذي يتمكن به الكاتب النفاذ الى الشكل الداخلي للغته والكشف عنها" وبالفعل فقد قرأت البواطن الداخلية للغة الكاتب ضمن مواقفه الجريئة والثابتة من جملة تحديات تعكسها ثنايا السردية، من خلال الأسلوب اللغوي السهل المتفرد الذي يحاكي التفاعل والتواصل الشفاهي المدار باللهجة الشعبية اليومية المتداولة. انه خطاب منبعث من ذاته ولذاته المتفاعلة مع الاخر.

ان تعامل النقاد مع النص الروائي باعتباره موضوع لغوي بحت، يجرده من حيويته في تحقيق فاعليته وهدفه، بل يضعه في إطار من السكون القاتل، والأكثر، تجريد الكاتب من حرية الابداع من خلال العلاقة التلقائية مع مفرداته ومصطلحاته الخاصة وبالكيفية التي يراها أكثر كفاءة في ابراز تفاعله وانسجامه مع احداث الرواية، والتوغل في القضايا الشائكة التي يتجنبها الآخرون.

الفضاء السردي والتجربة الشخصية:

تتجلى رواية الخيار الآخر كصوتٍ عالٍ في مواجهة الموروث الثقافي ونمط العلاقات الاجتماعية الجامدة الذي تقيد الإنسان وتجرده من حريته وإنسانيته، انها تتناول قضية (التبني). الكاتب يضع يده على جرح اجتماعي حساس ومعقد، الا وهو (التبني)، المحرم في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، والذي يتحول هنا إلى رمزٍ للمقاومة والتحدي، كاشفًا وفاضحًا هشاشة القيم التي تعاقب الضحية بدلًا من انصافها. الكاتب لا يكتفي بتسليط الضوء على هذه القضية، بل يعريها تمامًا ليكشف عن عمقها الإنساني، مستنطقًا المصائر القيمية للتبني التي تتطلب حلًا من خلال احاطتها بوافر التفهم والرعاية والحب التي ينبغي أن تسمو فوق حدود القيم الاجتماعية والثقافية والدينية.

سردية الخيار الاخر تنسج أجواء مليئة بالصراع المشحون بالأحداث، التي تجعل القارئ يتماهى معها في رحلة آسرة بكل تفاصيلها، حيث ان الرواية كانت ترافقني حتى خلال روتيني اليومي. على الرغم من بعض التكرار في المواقف والتصورات تبقى الرواية ممتعة كمدونة تاريخية وسياسية عميقة تعكس أحداث الماضي القريب بانسجام متناغم، يمزج الواقع بخيوط روائية متقنة، تفيض بالشغف، وتمنح النص حضورًا حيويًا بعيدًا عن الرتابة أو النشاز.

ان الانسجام السردي الواضح للرواية يأتي من محور الشخصيات الحية للرواية مما يوسمها بمصداقية مرجعيتها للواقع وطريقة التفاعل التام في انسجام وتصارع وتضاد بين الفرد ومحيطه.

يأتي النص كانعكاس لتجربة الكاتب الذاتية، لكنه يتجاوز إطارها الفردي إلى رحابة الشأن العام. العلاقة بين الشخصيتين الرئيسيتين تمثل صراعًا وجوديًا عميقًا، حيث يتشابك الحب مع التحديات الاجتماعية والثقافية. هذه الثنائية تجعل السرد أقرب إلى ملحمة إنسانية تتشابك فيها الأحلام والمآسي، مما يمنح الرواية عمقًا يجعل القارئ يشعر وكأنه شريك في الحكاية.

التقاطع بين الزمان والمكان:

تدور احداث السردية في فضاءات مكانية وزمانية متناقضة، بدءًا من العراق وسوريا كبيئتين عربيتين مثقلتين بالحروب والصراعات الثقافية والاجتماعية، وصولًا إلى أوروبا كفضاء يرمز إلى السلم والحرية والاستقرار. هذا الانتقال بين الشرق والغرب يعكس تعقيد التجربة الإنسانية، ويطرح تساؤلات حول الهوية والانتماء، وكيفية التكيف مع تحولات الزمان والمكان. الشخصيات لا تعيش فقط في هذه الفضاءات، بل تتفاعل معها وتعيد تشكيلها، مما يبرز ديناميكية السرد ويجعله مشحونًا بالحركة والصراع.

يقدم الكاتب عبر شخصية البطل "باسم" نموذجًا فريدًا يتجاوز الحدود الذاتية، متغلغلًا في فضاء أوسع من التفاعل مع الواقع بكل تحدياته. يتحرك البطل ضمن صراع وجودي ديناميكي، حيث يشكّل الواقع ويتشكّل به، في شبكة معقدة من التناقضات والعُقد التي يواجهها بحزم وإصرار، فارضًا شخصيته المتفردة دون أن يختزلها في "الأنا" المنعزلة، ساعيًا بحيوية فائقة إلى مزج الخاص بالعام في تناغم متقن لا يشوبه صدع أو تنافر.

المعنى الإنساني في الخيار الجريء:

الخيار الاخر، تُجسد علاقة حب تتأرجح بين التحديات وتعقيدات تخللتها ثلاث عقود زواج وانفصال لنفس الزوجين، حيث يسعى الحبيبان بمحاولات استثنائية لنسج رابط أعمق يعزز علاقتهما: الأبوة والأمومة، ذلك الحلم النبيل الذي يتجاوز كونه غريزة إلى كونه رؤية لإكمال الثنائي الا انه يصطدم بعقبات متكررة اثناء الحمل، تحرمهما من تحقيقه، فيلجآن إلى خيار جريء وشائك في آن!

ان تبني أطفال مجهولي النسب في مجتمعات عربية وإسلامية ترى في التبني قضية معقدة ومحرمة يعاقب عليها الضحية بدل الجلاد، والتي تظهر هذا الخيار كحقل ألغام يخوضانه بشجاعة واصرار. الكاتب يُعرّي هذه القضية، سعيًا منه في توكيد بعدها الإنساني العميق، مُتحديًا المحظورات ومبرزًا في الان ذاته جمال المغامرة التي تكشف جوهر الرحمة الإنسانية رغم صعوبات ومعوقات الواقع.

السردية العائلية هذه تغوص في عمق التحولات الجذرية التي عصفت بالمجتمع العراقي، بدءًا من حروب الطاغية إلى سنوات الحصار القاسي والجوع، وصولاً إلى الاحتلال الذي قوض أسس الدولة وحولها إلى كيان بلا قانون، تديره مؤسسات هشّة تخضع لإرادة المحتل المهيمن على كل مفاصل الحياة. وسط هذا الخراب، نشأت بيئة طائفية ومناطقية تفترس حقوق المواطنين، لتجعلهم أسرى لمنظومة تكرس التبعية وتفرض نمط حياة استهلاكي تحت رحمة قوانين السوق.

في ظل هذه الفوضى، شُكّلت قيم جديدة بنيت على التأقلم القسري مع واقع معقد ألقى بظلاله على هرم العلاقات الاجتماعية والفكرية. بمهارة سردية يتتبع النص انعكاسات هذه الأحداث، مُظهرًا كيف تحول الأفراد إلى أدوات في سياق أكبر، حيث التناقضات تصوغ المصير. ومع ذلك، يبرز النص إرادة مواجهة التحديات، والانغماس في خضم الأحداث لإنجاز ما يبدو مستحيلًا، في صورة نضال إنساني عميق للبحث عن أفق جديد للحياة.

لم يغفل الكاتب في سرده عن إبراز المشاهد السلبية التي تتناقض مع قيم وأعراف المجتمع العراقي، مسلطًا الضوء على ظواهر دخيلة كالرشوة وغيرها، التي لم تكن مألوفة سابقًا لكنها تحولت إلى سلوك اجتماعي شبه طبيعي.

حينما يتحدث الكاتب خلال السطور عن تجربته السياسية بين العراق والمهجر، ثم العودة إلى الوطن، فانه يكشف عن شخصية تتسم بالصبر والإصرار والتحدي التي تظهر روح الكاتب التربوية كمعلم ومربٍّ من خلال ليونة صلبة تستمد قوتها من مرونة الرياضي النابعة من مهنته، ما جعله قادرًا على فرض قناعاته بثبات. في هذا السياق، يبرز نجاحه في إنقاذ مولود بريء. يؤكد الكاتب ببراعة تلاحم الخاص والعام في إطار ملحمي مؤثر وعبر حبكة محكمة تتناول متابعة قضية التبني وتعقيداتها كشأن عام، يجعلك الكاتب تعيش الأحداث وكأنك تتابع فيلمًا سينمائيًا ينبض بالحياة.

شجاعة غير نمطية:

هذه السردية تفيض بإشراقات إنسانية تجسد تجربة شجاعة تتحدى قيود التقليد والنمطية، لتقدم صورة خير نمطية، متفاعلة ومتناغمة مع المحيط الاجتماعي والعائلي، وخاصة الشخصية المحورية التي تبدو كمنارة مضيئة، تتواشج طاقتها في نسيج العلاقات الإنسانية، خصوصًا مع الزوجة، التي نالت عبر اللقاء الأول دفعة حقيقية من قبله لتتحول، من فتاة خجولة، محجبة، نشأت في بيئة دينية محافظة، الى امرأة، مليئة بالثقة والثبات، وذات تأثير محسوس في محيطها. ان ما يميز هذه العلاقة هي العفوية التي تكشف عن معدن الرجل الحقيقي، وتؤكد على انسجامه الداخلي بين قناعاته وسلوكياته، حيث رسخ العلاقة بينهما على مبدأ التكافؤ. إن افتخاره بزوجته ووصفه لصفاتها وجمالها بمودة وفخر يكشف عن حس إنساني عميق واحترام نادر

هذه التجربة الشجاعة ليست مجرد قصة شخصية، بل هي تحدٍ للقيود المجتمعية التي تحاول خنق الحرية الفردية. في وسط نسيج اجتماعي متخلف ومنغلق. تبدو هذه الشخصية كاستثناء، وكأنها نجمة مشعة في ليل حالك. يكاد المثل القائل ان (الجبناء يهربون من الخطر والخطر يفر من وجه الشجعان) ان يصفه. إنها دعوة للشجاعة لمواجهة المستحيل، متجسدا بالحب والاعتزاز بالشريك، وفي بناء العلاقة المتزنة معه والمرتكزة على تعزيز الثقة المتبادلة وتوطيدها.

خاتمة وتأمل

يمكنني ان اختم قراءتي لهذه السردية بما ذهب اليه المؤلف في نهاية مقدمته الى انه يتمنى "... لمن يقرأها ان يعي بان الطفل مهما اختلف المنشأ الذي جاء منه فان البيئة التي يتربى بها هي من ستساعده على النمو بشكل صحيح، وليس طبيعة العلاقة وشكلها بين الشخصين الذين أنجباه قبل التبني/ ص18".

السردية ليس مجرد رواية تُقرأ، بل تجربة تُعاش وتترك القارئ أمام رحلة تأمل طويلة في ذاته وفي العالم من حوله.

***

عنوان الكتاب: الخيار الآخر/ سيرة عائلية

المؤلف: مازن الحسوني

تحتوي على اهداء، شكر خاص ومقدمة

عدد الصفحات:455

تحتوي على اهداء، شكر خاص، مقدمة وعشرين فصلًا

سنة الطباعة: 2024

**

سعاد الراعي

قراءة سيميائية في قصيدة.. أنا والقصيدة – للشاعرة ريما حمزة – سوريا

توطئة: تفكيك الجرح: سيميائية العلاقة بين الذات والقصيدة في منطق الفوضى والوجود

هذا العنوان يتناول البنية السيميائية في القصيدة التي تستعرض العلاقة المعقدة بين الشاعرة وكتابتها، حيث يُمكن ملاحظة تأملات في الذات والشعر على حد سواء، بما في ذلك التوتر بين الفوضى والبحث عن المعنى. كما يعكس كيف تتحول القصيدة إلى أداة للغوص في أغوار الذاكرة والوجع، مع إشارات إلى الحركة المستمرة والتغيير.

القراءة:

أولًا: قراءة سيميائية

القصيدة / أنا والقصيدة / للشاعرة ريما حمزة هي نص يتلاعب بمفاهيم اللغة والوجود، ويمزج بين الرمزية والسريالية لإيصال الحالة الوجدانية للشاعرة في علاقة متوترة مع نفسها ومع فعل الكتابة. يفتح هذا النص بابًا واسعًا للتأمل السيميائي حول كيف ترتبط الذات بالقصيدة، وكيف يتأثر هذا الارتباط بالزمن والمكان والتجربة الشخصية.

في هذه القراءة السيميائية، سنستكشف كيفية تفكيك الرموز والكلمات في القصيدة لفهم علاقة الشاعرة بالقصيدة باعتبارها مساحة من الفوضى والوجود المتقلب.

الذات والقصيدة: صراع داخلي في فضاء الكلمات

القصيدة تبدأ بـ / تراوِدُني عند ذاك القوافي/، في إشارة إلى وجود نوع من الإغواء أو الإغراء الشعري الذي يجذب الشاعرة نحو الكلمات. / القوافي/ هنا لا تعني مجرد التكرار الصوتي، بل هي علامة دالة على كل ما هو مرتبط بالشعر والفن؛ إنها ركيزة النص، ولكنها أيضًا مصدر إرباك وتشتت للذات الشاعرة. هذه العلاقة بين الذات والقصيدة تصبح أكثر وضوحًا عندما تقول الشاعرة / أَغُضُّ الزمانَ / وأدلِفُ لي .. / إلى لحظاتِ التهرُّبِ منّي/. هنا، الزمن يبدو كعدوٍ للذات، والشاعرة تسعى إلى التهرب من هذا الزمن الذي يقيدها، وتهرب إلى عالم القصيدة الذي يمثل ملاذًا من المراقبة والتوقيت.

/ أُوَلّي بجرحيَ أجزاءَ روحِي القديمةْ ../ هي جملة تعبّر عن تعمق الذات في آلام الماضي، حيث تتحول الجروح إلى أجزاء من روح الشاعرة التي تأبى الزوال، بل تتشبث بالوجود رغم آلامها. في هذه النقطة، يمكن تفسير الجرح كرمز للتجربة الذاتية المعذبة التي لا تنتهي، ويبدو أن القصيدة هي الوسيلة الوحيدة للحديث عن هذه الجروح.

الفضاء السيميائي: تضييق المكان وتوسع الزمان

تستمر الشاعرة في التعبير عن عجزها عن الهروب من الذات، قائلة: / المكانُ يضيقُ ...يضيقُ / وجدرانُ ظلّيَ أكثرُ منهُ اقترابا /. هنا، يمكن أن نرى تضييق المكان كرمز لصعوبة التفاعل مع الواقع الخارجي، بينما جدران الظل تشير إلى أن الذات محاصرة في داخلها، في دائرة مغلقة من الأفكار والذكريات. يتسع هذا الشعور في المقطع الذي يتحدث عن / أخشابُ تلكَ المقاعدِ أكثرُ منهُ شبابا /، حيث يتحول حتى الأثاث والمكان إلى رموز للزمن المتعفن أو المتآكل الذي يزداد قربًا ولكن لا يؤدي إلى الانفراج.

الصورة السيميائية: التورط في الفوضى والتجديد

القصيدة لا تقتصر على مجرد تأمل في الذات والشعر، بل تتضمن أيضًا صورًا حيوية وفوضوية تبرز من خلال الرموز السيميائية التي تثير الحس الجمالي والوجداني. على سبيل المثال، / أعانقُ في لحظةٍ صوتَها الخشبيَّ وأنشقُ رائحةَ المرتجى/ هي صورة شاعرية معقدة تجمع بين الصوت والرائحة والشكل، مما يشير إلى تداخل الحواس وتداخل اللغة مع التجربة الحسية الداخلية للشاعرة. الصوت الخشبي يشير إلى نوع من التجريد أو الصلابة، بينما رائحة المرتجى ترمز إلى الأمل أو البحث عن شيء بعيد المنال.

/ تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي/ تتعامل مع مفهوم الحماقة كحالة دائمة ترافق الشاعرة، وهي موجودة في / قعر/ الكأس، مما يربط الحماقة بالخمر والمجون، وهو ما يعكس محاولة الشاعرة الهروب من العقلانية إلى عالم العاطفة والتجربة الحسية.

أما في الصورة / كيفَ أُلَمْلِمُ تِبْرَ القوافي / وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ؟ /، فإن / تِبْرَ القوافي / يشير إلى التفكك والفوضى التي تجلبها الكتابة الشعرية. الرّياح تمثل عنصرًا متقلبًا ومتغيرًا، مما يوحي بأن الشعر نفسه يتأرجح بين الثبات والاضطراب. الشاعرة تواجه صعوبة في جمع أجزاء قصيدتها وبلورة أفكارها داخل هيكل ثابت، فكلما حاولت التململ منها، تجد نفسها تائهة في عالمها الشعري.

الانكسار والتجدد: قصيدة تفتح الأفق وتغلقه في آن

القصيدة تواصل رحلتها عبر الصور السيميائية التي تجمع بين الانكسار والتجدد. / ويفتحَ جَفنِي ستارَ الأملْ / تُرَشُّ خدودي بماءِ المللْ / تظهر في هذه الأسطر لحظة التحول أو التغير، حيث يسعى الأمل إلى فتح الأفق أمام الشاعرة، ولكن ملل الحياة يغمر وجهها ويغلق هذا الأفق. نرى هنا كيف تتأرجح القصيدة بين الأمل واليأس، وبين محاولة الخلاص من الماضي وضرورة التمسك بالحالة الشعرية الفوضوية التي تخلقها.

الختام: حلقة مغلقة من القلق والوجد

القصيدة تنتهي بـ / ويُغلِقُ وجدي أواني القلق /، حيث يتم الإغلاق على كل المشاعر المتدفقة في النص. الوجدان هنا يمثل المركز الذي تتجمع فيه كل مشاعر القلق، وكل محاولات الفهم والتحليل، ليغلق النص نفسه في دائرة من التوتر الوجودي. هذه النهاية السيميائية تعكس عدم اكتمال الفهم والقبول، وتؤكد أن العلاقة بين الذات والقصيدة هي علاقة دائمة من البحث دون حل نهائي.

الخلاصة:

من خلال القراءة السيميائية في قصيدة /أنا والقصيدة/، نجد أن الشاعرة تخلق عالماً شعرياً معقداً يترجم صراعها الداخلي بين الذات والشعر. القوافي التي تراودها هي أداة شعرية تحاول الشاعرة من خلالها مواجهة جروحها الذاتية، وتحقيق معانٍ خاصة قد تكون غير قابلة للوصول في أبعاد الحياة اليومية. في هذا النص، يكون الشعر وسيلة لتفكيك الذات، بينما في نفس الوقت هو مصدر للفوضى والوجود.

ثانيًا: سيميائية الموسيقى

الموسيقى في القصيدة هي عنصر حيوي وملهم يضيف بُعدًا شعريًا وجماليًا معقدًا، حيث لا تقتصر على الموسيقى السمعية التقليدية (مثل القوافي أو الإيقاع)، بل تتداخل مع الموسيقى الرمزية التي تولدها الصور الشعرية والأنماط الصوتية. ومن خلال قراءة سيميائية لهذا البُعد الموسيقي، يمكن فهم كيف يتم تمثيل الموسيقى داخل القصيدة ليس فقط من خلال الصوت، ولكن أيضًا عبر الإيقاعات النفسية والعاطفية التي تنبثق عن النص.

1. الموسيقى الداخلية: الصوت والإيقاع في اللغة

الموسيقى في هذه القصيدة ليست مقتصرة فقط على الألحان التقليدية أو النغمات، بل تتعداها لتشمل الإيقاع الداخلي للكلمات والجمل. في المقاطع الأولى، نلاحظ استخدام الشاعرة للأصوات المتوازنة والنغمة الموسيقية التي تدور حول فكرة التوتر بين الذات والشعر:

/ أغضّ الزمانَ / وأدلِفُ لي ../

هنا، نجد أن الصوت يتحكم في تدفق الجمل بشكل يشبه اللحن المتقطع، حيث يخلق استخدام الفعل / أغض/ إيقاعًا حادًا، بينما تأتي جملة / وأدلِفُ لي / لتخفف من هذا التوتر وتدخِل نوعًا من السلاسة. هذه التناقضات الصوتية تخلق موسيقى داخلية تتناسب مع مشاعر التردد والتذبذب بين رغبة الشاعرة في الهروب والتمسك بالشعر كملاذ.

2. السيميائية الموسيقية في التكرار

التكرار هو أداة موسيقية أساسية في القصيدة، ويأتي معبرًا عن الذهول والارتباك الذي تعيشه الذات في صراعها مع نفسها ومع العالم المحيط بها. تكرار الكلمات مثل / تدورُ/ و/ تأمرُ ، تَنْهى/ يتناغم مع فكرة الدوام واللااستقرار:

/ وحَوْلِي تدورُ / تدورُ كواكبْ /

/ تأمرُ ، تَنْهى / تأمرُ تنهى /

هنا، تخلق الشاعرة إيقاعًا دائريًا يلتقط حالة من التكرار التي تكتسح ذهن الشاعرة، حيث تدور الكواكب في دوائر مغلقة غير منتهية، وتظهر الشخصية التي تتحكم بالأشياء وتنهيها ثم تعيد الأمر من جديد. هذه الحركة الدائرية تتوازي مع حالة الاضطراب التي تعيشها الشاعرة، وهو إيقاع موسيقي يكرّر ويعكس الحيرة والتشابك بين الفعل واللا فِعل.

3. الموسيقى البصرية والرمزية: / فلامنكو" و"العصافير/

يعدّ حضور الموسيقى الرمزية في القصيدة من أبرز أبعادها السيميائية. فالشاعرة تستحضر أنواعًا موسيقية ترتبط بأحاسيس محددة، مثل / فلامنكو/ و/ العصافير/ و/ النبيذ/:

وفي قدمَيْها يجِنُّ (فلامنكو)

لأنّ العصافيرَ لا تتقيّدُ بالنغماتِ

الفلامنكو هنا يرمز إلى الاندفاع العاطفي، الرغبة، والتمرّد، وهو يتناسب مع الموقف العاطفي الذي تعيشه الشاعرة، حيث تتداخل العواطف والأفكار في حركة شديدة السرعة والانفعالية. في المقابل، فإن العصافير التي /لا تتقيّدُ بالنغماتِ/ هي رمزية لفوضى الموسيقى الحرة، حيث تعكس الفكرة أن الصوت (أو الشعر) لا يمكن تقييده بالأنماط التقليدية والمحددة، بل هو ينفجر ويتحرر من قيود النغمات الثابتة.

4. التوتر بين الفوضى والتناغم: /النبيذ الأخير/ و/حكايا الرياح/

من خلال التشبيهات الموسيقية المتعلقة بالنبيذ والريح، يتم تمثيل لحظات من الفوضى والتجدد العاطفي:

/ أتورّطُ بالريحِ و الغيث / بين النبيذِ الأخيرِ وأولِ ذاكَ الكلامِ/

/ وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ؟/

النبيذ الأخير هنا يشير إلى اللحظة الحاسمة أو النهائية التي تمثل نهاية دورة أو تحولًا حاسمًا في الوجود. لكن هذه النهاية تتداخل مع /الريح/ و/الغيث/، وهما العنصران اللذان يضيفان إيقاعًا متغيرًا وغير ثابت. الرياح هي موسيقى متبدلة، تجسد التقلبات في الحياة والعواطف، فهي لا تلتزم بنمط ثابت، بل تهب فجأة وتغير كل شيء. الشاعرة تعيش هذا التورط بين التراكمات العاطفية التي قد تكون كالنبيذ (شديدة التركيز والمرارة)، وبين الرياح التي تعصف بالأفكار والشعور.

5. التصعيد الموسيقي: الخمر والعشب والعشق

إن موسيقى القصيدة تتصاعد تدريجيًا لتصل إلى ذروتها عبر رموز العشق والخمر والموسيقى، حيث نرى صورًا من الاحتشاد الجمالي الذي يتداخل فيه الجسد والطبيعة والمشاعر:

/ ويَخْضَرُّ عشبٌ / ويُخْصِبُ عشقٌ وَتِيْهٌ/

/ وخمرٌ تفُكُّ الجَديلةَ/

هذه الصور تخلق تناغمًا موسيقيًا مع مشهد العشق المفعم بالحيوية والانبعاث، حيث العشب يَخضَرُّ كرمز للنمو والتجدّد، والخمر تُفكُّ الجَديلة كدلالة على التحرر والانفتاح على الذات. في هذه اللحظة، يبدو وكأن الشاعرة قد وجدت موسيقى ذاتها في حالة من الانصهار مع المحيط والوجود.

6. التهكم الموسيقي: /الحماقة/ في قعر الكأس

تستحضر الشاعرة عنصر /الحماقة/ في قعر الكأس، مما يُظهِر علاقة ساخرة مع المفاهيم المرتبطة بالموسيقى التقليدية:

/ تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي/

هنا، الحماقة تشير إلى حالة من العدم أو التشتت التي لا يمكن احتواؤها في نسق موسيقي معين. الخمر قد تساهم في التغاضي عن القيود، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن حالة من الفوضى النفسية والعاطفية. وكأن الكأس، رغم محتواه الموسيقي، يصبح أداة لتجسيد العجز عن الوصول إلى تناغم داخلي أو خارجٍ عن النمط.

الخلاصة:

في قصيدة / أنا والقصيدة /، تنسجم الموسيقى السيميائية مع جو النص الشعري بشكل معقد. فهي لا تقتصر على الإيقاع الصوتي أو التكرار، بل تشمل الصور الرمزية التي تنبثق عن الموسيقى الطبيعية أو الثقافة الشعبية مثل /الفلامنكو/ و/العصافير/ و/النبيذ/. إن هذه الموسيقى تمثل التوتر بين الحرية والقيود، بين الانفجار العاطفي والتسامي الفكري، وبين الفوضى والوجود.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

.....................

أنا والقصيدة

تراوِدُني عند ذاك القوافي

أَغُضُّ الزمانَ

وأدلِفُ لي ..

إلى لحظاتِ التهرُّبِ منّي ...

أُوَلّي بجرحيَ أجزاءَ روحِي القديمةْ ..

فتخدشُ أضواؤها  راحتيّْ ..

أخالفُ في مخدعِ الشِّعْرِ كُلَّ الوصايا

فكيفَ أصافِحُها  بالعيونِ

المكانُ يضيقُ ...يضيقُ

وجدرانُ ظلّيَ أكثرُ منهُ اقترابا

وأخشابُ تلكَ المقاعدِ أكثرُ منهُ شبابا

أعانقُ في لحظةٍ صوتَها الخشبيَّ و أنشقُ رائحةَ المرتجى

أتورّطُ بالريحِ و الغيث

بين النبيذِ الأخيرِ وأولِ ذاكَ الكلامِ

تظّلُ الحماقةُ في قعرِ كأسي

لأنّ العصافيرَ لا تتقيّدُ بالنغماتِ

فحين تزقزقُ فجراً بفوضايَ

كيفَ أُلَمْلِمُ تِبْرَ القوافي

وبيتُ قصيدي حكايا الرّياحِ ؟

وكيفَ أُهَدْهِدُ في رقّةٍ كتفَيْها

وفي قدمَيْها يجِنُّ (فلامنكو)

ويَخْضَرُّ عشبٌ

ويُخْصِبُ عشقٌ وَتِيْهٌ

وخمرٌ تفُكُّ الجَديلةَ

تأمرُ، تَنْهى

تأمرُ تنهى

وتُشعِلُ كُلَّ خيوطِ القصبْ

بليلِ العباءةْ

وحَوْلِي تدورُ

تدورُ كواكبْ

وتغمِزُ نجمةْ

ويسقطُ في غفلةٍ نَيْزكٌ ما بحِبْرِ دواتي

وأَنْسى أنايَ وراءَ تخومِ الحياةِ

إلى أنْ يكلَّ التجلّي

ويفتحَ جَفنِي ستارَ الأملْ

تُرَشُّ خدودي بماءِ المللْ

يَضوعُ الختامُ بمسكِ الورقْ

ويُغلِقُ وجدي أواني القلق.

***

بقلم: ريما حمزة – سوريا

بقلم: كارين سيميك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قصصنا تساعدنا في فهم عالم فوضوي، لكنها قد تكون ضارة ومقيدة. هناك بديل تحرري.

***

السرديات موجودة في كل مكان، والحاجة إلى بنائها ومشاركتها تكاد تكون حتمية. كتب جان بول سارتر في روايته "الغثيان" (1938): "الإنسان دائمًا ما يكون راويًا للحكايات، يعيش محاطًا بقصصه وقصص الآخرين، ويرى كل ما يحدث له من خلالها؛ ويحاول أن يعيش حياته كما لو كان يروي قصة".

نحن نعتمد على السرديات لأنها تساعدنا على فهم العالم. إنها تجعل الحياة أكثر معنى. وفقًا لسارتر، لتحويل أبسط سلسلة من الأحداث إلى مغامرة، يكفي أن "تبدأ في سردها". ومع ذلك، فإن سرد القصة ليس مجرد فعل إبداعي قوي. بعض الفلاسفة يعتقدون أن السرديات أساسية لتجاربنا. يعتقد ألسدير ماكنتاير أننا لا يمكن أن نفهم أفعالنا وأفعال الآخرين إلا كجزء من حياة سردية. ويجادل بيتر غولدي بأن حياتنا نفسها "لها بنية سردية" – ولا يمكننا فهم مشاعرنا ومشاعر الآخرين إلا من خلال التفاعل مع هذه البنية. وهذا يشير إلى أن السرديات تلعب أدوارًا مركزية، وربما أساسية، في حياتنا. لكن كما يحذر سارتر في "الغثيان": "كل شيء يتغير عندما تروي عن الحياة".

في بعض الحالات، يمكن أن تعيقنا السرديات عن طريق تقييد تفكيرنا. وفي حالات أخرى، قد تقلل من قدرتنا على العيش بحرية. كما أنها تمنحنا الوهم بأن العالم منظم ومنطقي ويصعب تغييره، مما يقلل من تعقيد الحياة الحقيقي. قد تصبح حتى خطيرة عندما تقنعنا برؤية زائفة وضارة للعالم. ربما لا ينبغي أن نكون متحمسين جدًا للعيش كما لو كنا "نروي قصة". السؤال هو: ما الخيارات الأخرى المتاحة لدينا؟

تعمل السرديات على تنظيم تجاربنا من خلال ربطها في تسلسلات تمنح حياتنا معنى. القدرة على تشكيل هذه التسلسلات شيء نتعلمه في سن مبكرة جدًا. كما اكتشفت المربية كارول فوكس خلال بحثها في التسعينيات، فإن القصص تبدأ في تشكيلنا منذ الطفولة. وجدت فوكس أن القراءة للأطفال في المنزل تمنحهم معرفة ضمنية بالبنية اللغوية والسردية، والتي يدمجونها في قصصهم المنطوقة. وأظهر بحثها أن الأطفال في سن الثالثة يستخدمون القصص لتجربة اللغة أثناء محاولتهم فهم العالم. وكلما تقدمنا في العمر، استمررنا في اللعب – واستمر اعتمادنا على السرديات.

يمكن إعادة صياغة الأحداث العشوائية باعتبارها جزءًا من خطة كبرى

عندما نصبح بالغين، نتبنى أدوارًا مختلفة، مثل الصديق، الحبيب، الموظف، الوالد، المُعيل، وغير ذلك. الطريقة التي نفهم بها هذه الأدوار غالبًا ما تكون مؤطرة بسلوكيات متوقعة. على سبيل المثال، لدينا تصور سردي لما يعنيه "الصديق"، ونحكم على أنفسنا وعلى الآخرين بناءً على مدى توافقهم مع تلك القصة - أحيانًا بشكل إيجابي، وأحيانًا بشكل أقل.

فلماذا يُعد هذا مشكلة؟ إحدى القضايا هي التعقيد. رؤية نفسك كشخصية رئيسية في قصة يمكن أن تبسط الحياة بشكل مفرط. فكر في الطريقة التي يتحدث بها الناس عن "رحلتهم" في الحياة. من خلال هذه السردية، تصبح بعض الأحداث أكثر أهمية بينما يتم تجاهل أخرى، وقد يُعاد تأطير الأحداث العشوائية على أنها جزء من خطة عظيمة. ومع ذلك، فإن النظر إلى حياتنا بهذه الطريقة الضيقة يعيق قدرتنا على فهم السلوك المعقد للآخرين ولأنفسنا. على سبيل المثال، الطفل الذي يقبل السردية التي تصفه بأنه "مشاغب" قد يفسر سلوكه بشكل خاطئ على أنه سيئ، بدلاً من أن يكون تعبيرًا عن احتياجاته غير الملباة. يمكن أن تغيرنا القصص عن طريق حصرنا في طرق معينة من التصرف، التفكير، والشعور.

في السبعينيات، أدى الاعتراف بهذا القيد إلى ظهور العلاج السردي. بدلاً من رؤية الناس كغير منطقيين أو مفرطي العاطفة، ركز هذا النوع الجديد من العلاج النفسي على دور السرديات في حياة الشخص. وكما يوضح المعالج مارتن باين في كتابه العلاج السردي (2000)، فإن النهج يسمح بظهور "سرديات أكثر غنىً ومركبة من أوصاف متنوعة للتجربة". يمكن أن تكون السردية الجديدة قوية للغاية بالنسبة لشخص لا يدرك كيف أن قصصه الراسخة تخفي عنه طرقًا أخرى لفهم حياته.

القصص التي قد تحتاج إلى تغيير ليست فقط الكبيرة، بل أيضًا الصغيرة، مثل "النصوص" التي نعتمد عليها طوال حياتنا. يمكن أن تصبح هذه النصوص أنماطًا تفكيرية معتادة، تؤثر على تفسيرنا لأفراد العائلة، الأصدقاء أو الزملاء. وكما يُظهر العلاج السردي، يمكننا أن نخطئ في هذه النصوص، وقد نحتاج إلى مساعدة لتغييرها.

على الرغم من أن العلاج السردي قد يكون فعالًا، فإنه غير قادر على مساعدة الناس في فهم ما يُنشئ ويشكل سردياتهم. إنه يساعدهم فقط على الاختيار بين سرديات مختلفة أو بناء قصص جديدة عن أنفسهم والعالم. تبديل "نص" بآخر لا يساعد الشخص على رؤية مجموعة الخيارات الكاملة التي أمامه، بما في ذلك ما قد يعنيه رفض السردية تمامًا.

السردية التي يتبعها تمنحه فهمًا محدودًا لنفسه.

إمكانية رفض السردية يمكن العثور عليها في كتاب الوجود والعدم (1943) لجان بول سارتر، حيث يصف نادلًا في مقهى. وفقًا لسارتر، تبنى النادل سردية معينة تشكل هويته وتحدد كيف ينبغي أن يتصرف. الارتباط برؤية سردية للذات قد يؤدي إلى العيش فيما يسميه سارتر "سوء النية" - أي العيش دون وعي بالمسؤولية أو سيطرة على المصير الشخصي:

"كل سلوكه يبدو لنا كأنه لعبة. هو يركز على ربط حركاته وكأنها آليات، واحدة تضبط الأخرى؛ حتى حركاته وصوته يبدو أنها آليات؛ يمنح نفسه السرعة والحدة القاسية للأشياء. إنه يلعب، إنه يتسلى. ولكن ماذا يلعب؟ لا نحتاج إلى مراقبته طويلًا قبل أن نفسر ذلك: إنه يلعب دور النادل في مقهى. لا يوجد شيء يثير الدهشة في ذلك."

بعبارة أخرى، هو يلعب دور النادل بطريقة مماثلة لممثل على خشبة المسرح يتبع نصًا مكتوبًا. نتيجة لتجسيده لسردية النادل، يعيش بشكل غير أصيل لأنه لا يستطيع التصرف إلا بما يتناسب مع هذا الدور. السردية التي يتبعها تمنحه فهمًا محدودًا لنفسه، حيث تحدد أفعاله وتمنعه من امتلاك حياته. ولكن ماذا سيحدث لو رفض النادل تلك الهوية السردية؟ بالنسبة لسارتر، سيكون هذا خطوة نحو الذات الحقيقية، أو الوجود الأصيل – ما سماه "الوجود" – بدلًا من مجرد لعب دور.

إذًا، ماذا يعني رفض السردية؟ العيش بطريقة غير سردية يعني رفض هوية معينة، ورؤية الحياة والمعنى على أنهما مجموعة من الخيارات المفتوحة. بالنسبة للنادل، رفض هويته السردية يعني التصرف بطريقة تعكس خياراته وشعوره بالذات، وليس فقط القصة التي يحكيها عن نفسه.

لفهم ما يتضمنه رفض السردية، من المهم أن نتذكر أن السرديات لا توجد خارج عقول الناس. القصص التي نحكيها لأنفسنا ليست موجودة في العالم. إنها أدوات تساعدنا على التفاعل مع العالم. على الرغم من أنها ترتبط بالحقائق والأحداث الواقعية، إلا أنها ليست حقائق بحد ذاتها. في الواقع، هي ليست صحيحة ولا خاطئة. بدلًا من ذلك، تساعدنا القصص في فهم الأمور. إذًا، إذا رفضنا قوة السرديات في تنظيم الأحداث في حياتنا، كيف يمكننا تنظيم أفكارنا حول العالم بطرق أخرى؟

فكر في الطرق التي تنظم بها المنظورات التجارب بشكل مختلف. بعبارة "المنظور" لا أقصد مجرد "وجهة النظر". بل أشير إلى الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم من موقع أو توجه معين يوجه انتباهنا إلى جوانب معينة من التجربة، مثلما يسمح لنا "المنظور" البصري برؤية الألوان الزاهية بسهولة أكبر من الألوان الباهتة. المنظورات تتشكل من موقعنا في العالم، ومعتقداتنا، وقيمنا، وما نعتقد أنه مهم. كما تشرح الفيلسوفة إليزابيث كامب، فإن المنظور "يساعدنا في استخدام الأفكار التي لدينا: لإصدار أحكام سريعة بناءً على ما هو أكثر أهمية، لفهم الروابط البديهية، وللرد عاطفيًا، من بين أشياء أخرى". من خلال المنظور، تبرز بعض ميزات تجاربنا في أذهاننا بينما تتلاشى أخرى في الخلفية.

الشعر يلتقط طريقة معينة في الرؤية والشعور، وليس مجرد تسلسل للأحداث.

إذن، تحدد المنظورات السرديات التي نتبناها. بعبارة أخرى، تشكل معتقداتنا وقيمنا الأساسية الطريقة التي نرى بها الأشياء وما نعتبره مهمًا في تجاربنا. إنها منظوراتنا التي تولد سردياتنا. كما أن المنظورات تفسر سبب اختلاف سردياتنا بشكل جذري عن سرديات الآخرين، حتى عندما نعيش الأحداث نفسها. ولكن بمجرد أن نفهم هذه المنظورات، يمكننا أن نرى مدى مرونة سردياتنا. فليس للمنظورات بنية خطية أو مرتبة. لا يمكننا التفكير فيها كأنها تسلسلات للأحداث مثل القصص. في بعض النواحي، تُعبّر المنظورات بشكل أفضل عن طريق اللاخطية التي نجدها في الشعر.

فالقصائد، خاصة القصائد الغنائية، تعبر بطبيعتها عن المنظورات؛ حيث توحد الكلمات والصور والأفكار والمشاعر للتعبير عن القيمة. يلتقط الشعر طريقة معينة في الرؤية والشعور، وليس مجرد تسلسل للأحداث.

فكر في قصيدة "ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى طائر أسود" (1917) للشاعر الأمريكي والاس ستيفنز. يركز كل مقطع من القصيدة على طريقة مختلفة للنظر إلى الطائر الأسود وعلاقته بالذات:

تجمدت الأضواء على نافذةٍ طويلة

زجاجها همجيّ وقاسٍ كالشتاء

ظل الطائر الأسود

يمرّ فوقها ذهابًا وإيابًا

والمزاج

يرسم في الظلّ

سببًا غامضًا، عصيًّا على الفهم

في قصيدة ستيفنز، يجمع بين التجارب دون أن يوضح كيف ترتبط ببعضها البعض – فهي متصلة فقط بمنظوره. وبالمثل، فإن فهم أنفسنا بطريقة غير خطية يعني رؤية كيفية ارتباطنا بعالم معقد وفوضوي في اللحظة الحالية. نجد في تلك اللحظة معنى دون الحاجة إلى نمط منظم.

وهكذا، بدلاً من مجرد تغيير سردياتنا، يجب أن نتعلم فهم المنظورات التي تشكلها. عندما نركز على قصصنا الخاصة، نعيش الحياة كما نعرفها بالفعل، ولكن من خلال تخفيف القبضة التي تمتلكها القصص على حياتنا – عبر التركيز على منظوراتنا ومنظورات الآخرين – يمكننا أن نبدأ في فتح أنفسنا أمام إمكانيات أخرى. يمكننا تبني توجهات جديدة، والعثور على معاني جديدة في أماكن غير متوقعة، بل ونتحرك نحو عدم القدرة على التنبؤ المثير الذي توفره المنظورات المشتركة.

كما حذر سارتر، كل شيء يتغير عندما تحكي قصة. تقيّد السرديات إمكاناتنا. على الرغم من أننا كائنات معقدة نعيش في كون فوضوي، فإن قصصنا تخلق الوهم بأن حياتنا منظمة ومنطقية ومكتملة.

ربما لن نتمكن أبدًا من الهروب الكامل من السرديات التي تحيط بنا، لكن يمكننا تعلم تغيير المنظورات التي تقف وراءها. وبهذا، نحن لسنا مقيدين بالقصص، بل بقدرتنا على فهم كيف تشكل معتقداتنا وقيمنا الطريقة التي ندرك بها العالم ونتفاعل معه. نحن لا نحتاج إلى سرديات أفضل؛ بل نحتاج إلى توسيع وصقل منظوراتنا.

***

........................

الكاتبة: كارين سيميك /Karen Simecek أستاذة مشاركة للفلسفة في جامعة وارويك بالمملكة المتحدة. وهي مؤلفة كتاب فلسفة الصوت الغنائي: القيمة المعرفية للشعر الغنائي (بلومزبري، 2023). تقول سيميك عن نفسها: تتمحور اهتماماتي البحثية حول فلسفة الشعر، والجماليات، والتفكير الأخلاقي، والعواطف. أعمل على قضايا تتعلق بقيمة التفاعل مع الشعر من حيث كيف يمكن أن يعزز هذا التجربة فهمنا لذاتنا ويساهم في إحساسنا بالتقدم الأخلاقي. تركيزي الحالي هو على القيمة المحتملة للشعر المؤدى، الذي أرتبطه بفكرة العاطفة المشتركة.

https://psyche.co/ideas/your-life-is-not-a-story-why-narrative-thinking-holds-you-back

 

للقاص (حسن ابراهيم)

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:

القصة القصيرة هي شكل من أشكال الأدب، تتميز بالتركيز على حدث ما أو عدّة أحداث قصيرة في حدودي زمانها ومكانها، وتتميز أيضاً باختصارها وإيحاءاتها العميقة ولغتها المركزة، ولكل قصة صغيرة بنية محكمة وشخصيات قليلة. تحكي عادة عن حياة الناس ومشاكلهم، وتتطرق إلى العلاقات الإنسانيّة والقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير. وقد ازدهرت القصة العربيّة القصيرة في القرن العشرين مع ظهور العديد من الأدباء المشهورين في هذا المجال مثل نجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، و حارس كامل، وحسام فخر، وحسن عبد الموجود، وسحر توفيق، ويوسف أبو رية ويوسف إدريس. ونوال السعداوي، ومنهم كاتب هذه المجموع حسن ابراهيم وغيرهم الكثير.

ومن ميزات القاص المبدع وأسلوبه، امتلاكه الحس الفني الرقيق، والثقافة العالية، ورهافة اللفظ وسهولته، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة، ويبرز أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، ويكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها، أو مع الآخرين. وإذا كانت هذه الشخصيات واعية وعندها ضمير يقظ تستطيع الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف، وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين، والقاص المتمكن من حرفته قادر أن يدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار للخير عبرة للآخرين .. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان، وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس. وأخيرا الكاتب لا يفرض نفسه على شخصياته، وإنما يتركها تفصح عن نفسها، عن أفكارها بشكل طبيعي من خلال الحوار واللغة المناسبة لثقافتها وعقلها، ومن خلال المواقف التي توضع أو تتحرك فيها داخل الحياة الاجتماعية. والكاتب يقدم شخصياته من التجارب التي عاشها بنفسه أو سمعها من الآخرين حيث يتمثلها تماماً ثم يخرجها بعد ذلك عملاً فنيّاً.

في السيرة الذاتيّة للقاص "حسن ابراهيم":

"حسن ابراهيم"، كاتب وأديب وباحث مغربي، عروبي أصيل، صدرت له مجموعة من الكتب، تعبّر عن روحه وثقافته ومواقفِه الوطنيّة والعروبيّة على حدّ سواء، فهو مسكون بالقضيّة الفلسطينيّة وبالهم العربي، ونصير للمظلومين في كل مكان، من مؤلفاته:” كسرة خبز”، وكذلك “جراح وطن”، و"عطر السّرد في المغرب العربي"، وكتاب “القضيّة الفلسطينية" في نماذج أدبيّة لأدباء فلسطينيين "مسار الألم والأمل"، حيث اخذ نماذج أدبية لأدباء كتبوا عن القضيّة والهم الفلسطيني، وأضافوا بكلماتهم الصّادقة، وعملهم الدؤوب الكثير للنّضال من أجل التّحرر، وكتابه الجميل الذي بين أيدينا ” ولع السباحة في عين الأسد”.

كما صدر له العديد من المقالات والنّصوص الإبداعيّة في المجلّات والجرائِد الورقيّة الصّادرة في المغرب وتونس والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين، كما ينشط الابراهيمي في صفحات الحوار المتمدِّن وبمواقع الكترونية في مجالات القصة والشعر والمقال.

من يقرأ له يشعر بأنه يقف في محراب راهب يؤمن بقضية مقدسة، وبدرب لا يمكن التراجع عنه قيد أنملة.. طريق النضال وطريق العمل من أجل الحريّة والعدل والوقوف الى جانب المظلومين في وطننا العربي، وفي المقدمة قضيّة الشعب الفلسطيني وتحرره من نير الاستعمار والاحتلال الصهيوني الرابض على صدره. وبالتالي إن نشاطه الوطني والنّضالي الدّؤوب جلب عليه الكثير مِن الويلات والملاحقات السّياسيّة والأدبيّة والحرب النّفسيّة الّتي مورست بحقه، مما جعله يلتزم البيت نتيجة المُعاناة والأمراض التي هاجمته، كما لزم العمل الادبي بكتابة الشّعر والقصّة والمقالة الأدبيّة. هذا وتندرج كتابته في مجال القصة القصيرة، ضمن ما يسمى (الأدب الوجيز) كما وصفه  الناقد "مصطفى عبد الفتاح" (1). هذا الأدب الذي عرفه (الدكتور كامل فرحان صالح) المحاضر في الجامعة اللبنانيّة في جريدة البناء اللبنانيّة، على أنه طريقة أو أسلوب بناء قصصي يتحول إلى كائن يأخذ المتلقي معناه من النص وليس من المعنى الحقيقي الذي يريده الكاتب، وبالتالي فالجملة تكون كائن مستقل بذاته يعطي المعنى الذي يريده أو يفهمه القارئ في السياق، مما يتركه في نشوة المعرفة. والأدب الوجيز كما يراه الدكتور "كامل فرحان صالح"” بأنه  نفخ الروح في الكلمة بدايةً، ومن ثمّ النصّ،  وهذا ما يدخل المبدع في لعبة السعي الحثيث إلى امتلاك الكلمة الفاعلة والقادرة على أن ترفع في ذاتها وبذاتها غير معناها المباشر إلى معانٍ كثيرة، وهنا يصبح الكاتب أو القاص واعياً بأن الكلمة في الأدب الوجيز، تتخذ عبر سياقها، حالات من الكشف اللانهائي، ويصبح المرسل والمرسل إليه قد اقتربا من رفع الحجاب عن المعنى، ليجدان أنهما أمام حجاب آخر، في سفر ممتع يتخلله امتحان مستمر لقدرتهما على التخيل، والتفكّر، والفهم، والحفر/الغوص عميقًا في حقل الدلالات، والدوائر اللامتناهية…(2). وهذا الشكل من الأدب يدخل برأيي في مفردات منهجي التفكيك والتلقي حيث يموت المؤلف هنا، ويفكك النص إلى دلالات مفتوحة على المطلق، وكل قراءة تقوم بإلغاء ما قبلها بلا حدود. وهذا التبدل والنفي المستمر في القراءة وفهم الدلالة، يسمى بالقراءة السيئة في منهج التلقي.

البنية السرديّة والفكريّة لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد):

تأتي المجموعة القصصيّة (ولع السباحة في عين الأسد) للقاص المبدع "حسن ابراهيم" من خمس عشرة قصة قصيرة، القاسم المشترك لأفكارها الأساسيّة يقوم على قضية الشعب الفلسطيني ومعاناته، وما تفرع عن هذه المعاناة من تشريد وقهر وظلم وجوع وحرمان وأحلام وطموحات إنسانيّة وسفكك للدماء طالت الكبير والصغير من أبناء الشعب الفلسطيني لسنين طويلة. هذا الشعب الذي لاقى كل أنواع العذاب الذي ساهم فيه العديد من الفلسطينيين أنفسهم، والعديد من الحكام العرب، والقوى الاستعماريّة الغربيّة والولايات المتحدة الأمريكية. والملفت للنظر أن تلك القدرة المعرفيّة الهائلة للقاص " حسن ابراهيم" عن الشعب الفلسطيني ومعاناته، وحالاته الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، وكل ما يتعلق بمأساته، وكأنه واحد من أبناء فلسطين الذين عاشوا ولا زالوا يعيشون مأساة الاحتلال الصهيوني وظلمه وعنصريته وسفكه للدماء دون رادع عربي أو اسلامي أو عالمي.

يقول الكاتب في بداية القصة السابعة من مجموعته "عسس في ذاكرتي" عن الأسباب التي تدفعه للكتابة قائلاً: (دعوني أنقل لكم ما تداولته بعض الكائنات، بشأن هذه القضيّة الغريبة؛ أما الزمان فلم يخرج عن دائرة خدوش، والمكان عبارة عن مرتع لكائنات صعبة التصنيف. وأما الباعث على الكتابة، فكان ما أسند لي من شدائد، حيث أتناوب مع العناء للحفاظ على مساعدي هذا الزمان العصيب. وكما تعلمون، فإنه للقيام بهذه المهمة أعود لذاكرتي للبحث عما اختزنته من انحناء، ينتفض أحيانا ليغازل فجراً، ويعود بجراح هذا الوطن الى صباها.

أثناء الليل، أستعد للزيارة التي يقوم بها الفريق لأوجاعي، حيث أناوله قسطا من دمي، لمعرفة مدى قدرتي على البحث على مخيط أخيط به صبري. أما الفسيلة، فلا تسلم من الاصطدام، مع حاشية الليل، والغاية هي أن يصادر لساني من ممارسة غوايته المفضلة.

أتدرون، أنه بلغة القهر أجرد من صفاء الحياة، ص55. كما تساق ذاكرتي نحو قافلة من المؤامرات، وتحاصر كل لحظة أمل في الطريق، ليرتفع الغموض بالحقيقة مصرا على رفع الوهم ودفعه للانتصار. ص56.).

وفي الأخير أنتصر للقبض على رأس رغيف يرتب رؤوس الحكايات. ص56.

نعم هو يكتب للذين فقدوا معنى الحياة وإنسانيتهم، وتسرب إلى ما تبقى من حياتهم بعد أن تخلى عنهم ذوي القربى جنساً وعقيدةً. مثلما يكتب هو عن نفسه ومعانته وقهره أيضاً.

في (ولع السباحة في عين الأسد) لا يكتفي "حسن ابراهيم" برسم الأحداث بتلك الألوان القاتمة التي تحمل كل دلالات معاناة الشعب الفلسطيني فحسب، بل هو يخوض عميقاً في مواضيع الحريّة، والعدالة ورفع الظلم والقهر والجوع والفرح والأمل. والدفاع عن الوطن، فهو من الذين يؤمنون بأن الناس هم من يصنعون أقدرهم، وهم من يساهمون في حل مشاكل وإشكالات ما يصنعون. ففي قصته (حماة الأرض): نجده يشير إلى رجل الدين المستسلم لقدره والراضي بما يصيبه حتى لو كان على حساب أرضه وكرامته كيف يبرر الاحتلال على أنه قدر من الله حيث يقول: "غضب الأنبياء بين أنامل فقيه القرية الذي قال: إن الله يفعل بعباده ما يشاء.. متحت المعركة من الشباب عزائمهم، استشهد البعض منهم، فيما ما يزال الفقيه يتلو آيات من الذكر الحكيم. ص27.

بينما نراه يسلط الضوء أيضاً على من آمنوا بالحياة واعتبروا العدو مستعمراً مغتصباً للبلاد وعليهم مقاومته، فها هي الأم المناضلة: قد (توجهت إلى الموقد، وضعت سكينا فوق الجمر.. أحمر السكين، وضعته فوق لسانها، طش، وتنبأت بمستقبل سيعصف بالشمس، وسيغيب سكان هذه القرية عن منازلهم. ص25.

أما الرجل العجوز رغم كل المصائب التي حلت به وبأهله ووطنه: " فقد ابتسم، رمق أشجار الزيتون تبلع ريقها، قطرات الندى .. هاجمت الفرح، أما النباتات فإنها أفصحت عن موعد لها بغريب لا تحبذ أن تراه. ص26." . "فتح رسالة الماء، خاطب سكان القرية قائلا: نحن -سكان هذه القرية - تعودنا أن نقتات من زرع هذه الأرض، منها نستمد قوتنا، بها نلهم عزائمنا فكيف لهذا الأجنبي الذي قرر أن يسطو على أرضنا؟ ص27."

ومع كل معاناة هذا الشعب العظيم نجد هناك من يغني للنصر من عمق مأساته، فالغناء هنا لم يكن ترفاً وتسلية كما يصفه" حسن ابراهيم" بل هو رسالة وموقف من الحياة وتعبير عن قهر وظلم الْمُسْتَعْمَرِين والمستعبدين .. وعن الفقراء والمحرومين. لذلك وجد فيه المضطهدون وسيلة من أجل الدفاع عن الوطن والحريّة.

"زغاريد، تزحف إلى وجدان كل أرملة يحتضنها الأمل المبطن في تخوم الاتقاد.

- قال الطفل الوديع لرئيس الفرقة: كيف يمكن لعوسج أن ينهي حفله بدموع الفرح؟... لمن، ولماذا تغنون؟. ص31.

- أجاب رئيس الفرقة: نغني للوطن، ثم أردف قائلاً: نغني لنبعث الأمل في نفوس المقهورين... نغني لنحفز أشجار الصفصاف على أن تتأفف، وترعب أوراقها قبل أن تغادرها في كل فصل خريف.ص32".

ورغم الفقر والجوع والبحث هنا وهناك عن لقمة الخبز وبقايا الطعام المشبع بالقهر، لم يحول ذلك عن بقايا أمل في الانتصار وأحلام الحرية عن المحرومين:

"لقد تعودت أن تتفقد كمية «الثريد» الذي تجمعه كل ليلة، حينما تتحسس الوعاء تجده مملوءً، وحينما تحس بخشخشة بيدها اليمنى تعيد تحسس الوعاء فتجده فارغا، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي من طرق أبواب المنازل وتعود الى بيتها جائعة. ص33.

"في مرتع للقطط، عانقت شمسها بيض أفعى، فقس البيض صارت الشمس تربي أحفادا.ص34.".

"ومع ذلك كانت (الأم) تنتصر لكل قلب يضاجع الفرح، وينثر الرماد في أنامل الغدر، وتلاحق نبض زرقة السماء لتلتف حول لون الليمون، المسيج بأطنان من الموت.ص35.".

"برفق، تبتسم لمنديل مبلل برحيق زمن عصيب، تغطي الخطيئة المنتشرة بكف البرق، تزيل الإزار المثخن بسنين عجاف عن العنف المندلع بثغر البندقيّة.. وبوجه الناقة نقشت وجها متجهما، حيث يمر الصبح مفعما بالأمل كموجة تنط بجوف المرآة. ص35."

"وهي لا تكترث لصوت المعركة الدائرة بثغر لبؤة، أو كصوت صولجان اختار أن يمحو عار الهزيمة، بإنجاب فوهات بنصل رمح لم يتماثل بعد للشفاء. ص36.)."

وفي قصته "تجرع لحظة الموت": هذا هو الموت أصبح عادة عند الفلسطينيين، ففي اليوم الذي يودع به أمّه أو أخاه أو صديقه، تسحبه الذكريات إلى متاهات الموت الذي لم ولن ينقطع ويترك هؤلاء المحرومين يشعرون ولو ليوم واحد دون نحيب على فقدان من أحبوا.

" هناك، بالقرب من هذه الغابة أشلاء الأطفال تنتفض، تتطاير كرائحة الأسفلت.ص41.".

"ما أن تنتهي ذكرى حتى تستيقظ ذكرى أخرى بمخيلتي، سلسلة من المحن عاشتها أمّي تحت يافطة العيش حياة مستورة. ص38."

"بين تفاصيل الحياة والموت وامتداداتهما أجوب أزقة الذكريات، أبحث عن كل ما يخلصني من ألم الفراق. ص39. "

في قصته الرابعة "ضر أصاب الفائقين": يوصف لنا الروائي حالة شموليّة عن القهر والظلم والجوع والموت وأسلحة المستعمر التي تظل موجهة بوجه من استلبت أرضهم وشردوا وجاعوا ليتركوهم في عالم من الخوف لا حدود له. ولكن تظل أغنية الأم تخفي وجه الألم في وجوه الأطفال، الذين يمثلون أمل المستقبل وجند التحرير والخلاص.

"لقد أفرز معضلة الحيوانات التي تلوك الجوع بالزروب، كما ظهر أوجاع الأشقياء من يطعمون أولادهم اللظى المجفف. ص41.".. "خلال اليومين المنصرمين فقد الأب بصره، وليس له من النقود ما يشتري به العكاز الذي يستعين به لتحسس الأماكن.ص42...الجنود يهرولون في كل مكان، حتى مرآب السيارات لم ينج من الخوف، فزع في كل مكان، سيارات احترقت، رجال انبطحوا ينتظرون نزول الأشعة، الشمس أقفلت أبوابها.ص42."

"لقد اعتاد على خوض مثل هذه المعارك، لكن كل شيء هنا معرض للزوال، الأشجار، الأحجار، النباتات، لا شيء ثابت، رائحة البارود تفوح في كل مكان، الدبابات تتجول في القرية، أغنية الأم تخفي وجه الألم في وجوه الأطفال، الإعصار لا يفارق النساء، أسبوع آخر من الموت، نساء يعزفن ألحانا للحريّة. ص43.".

هكذا نجد في المجموعة القصصيّة (ولع الساحل في عين الأسد). موقفاً بل مواقف إنسانيّة تشبع بها الروائي "حسن ابراهيم" لتظهر جليّة واضحة في كل قصة من هذه المجموعة التي كتبت لكشف أهل القاع في هذه الأمّة المفوّته حضارياً، والتي ناخ عليها الجهل والتخلف والظلم والاستبداد ولم تعد تدري أين موقعها في هذا العالم الذي راح القوي فيه يأكل الضعيف. أمّة ساهم أصحاب القرار فيها على بيع الأوطان من أجل مصالحهم الأنانيّة الضيقة وشهوة السلطة. هذا هو الشعب الفلسطيني بكل معاناته وقهره وظلمه من ذوي القربى أولا، تُرك وحيدا يواجه كل قساوة الحياة، وقد ارتهنت حياته لمستعمر سلط أفواه بنادق عساكره على الجميع ممارساً عنصريته  وحقده.

المجموعة القصصيّة في الشكل:

البناء الفني للمجموعة: (ولع السباحة في عين الأسد).

دلالات اسم المجموعة القصصيّة:

يلعب اسم الرواية أو المجموعة القصصيّة دوراً فكريّاً ونفسيّاً لدى المتلقي، وهو من يشدُّ القارئ إلى اقتناء العمل الأدبي وقراءته، كونه يوحي له بمضمون العمل الذي يحمله، إن كان سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو فلسفيّا أو غير ذلك من اهتمامات القارئ. وهو أيضاً  يحقق للنص هويته وجماليته ومصداقيته.

(ولع السباحة في عين الأسد) اسم مجموعة القاص "حسن ابراهيم" موضوع دراستنا. لقد وقفت كثيراً أمام هذا العنوان باحثاً عن دلالة من دلالاته المفتوحة على عديد المعنى، فوجدت دلالتين كوجهين لدلالة واحدة.. الدلالة الأولى وهي الاشتغال أدبيّاً على قضية مَثلَ كل واحد من رجالاتها (أسداً)، لم يركعوا للضيم والاستعمار والقهر والجوع والتشرد، وهم يحملون في قلوبهم وعقولهم همهم الوطني وإيمانهم في قضيتهم وهي تحرير أرضهم. والدلالة الثانية، أن (الأسد) الذي يمثل هنا ذاك المستعمر الصهيوني ومن يقف معه من أسود في عالم الغابة الذي ساد في النظام العالمي الجديد، القوي يأكل الضعيف، هذا الصهيوني الذي اغتصب الأرض وأوجد كل تلك المعاناة للشعب الفلسطيني الذي قرر أن لا يتنازل عن حقوقه، وسيواجه أسد الغابة (الصهيونيّة) في هذا العالم الذي فقد كل قيم العدالة والحرية والإنسانيّة.

معالم المعمار القصصي في المجموعة:

البنية في سياقها العام، هي الحالة التي تبدو فيها المكونات المختلفة لأي مجموعة محسوسة أو مجردة، منتظمة فيما بينها مترابطة ومتكاملة، حيث لا يتحدد لأي مكوّن أي معنى في ذاته إلا في المجموعة التي تنظمه. وهذا ما وجداناه في مجموعة "ولع السباحة في عين الأسد"، فرغم وجود خمس عشرة قصة، إلا أنها كلها تنتظم في هذه المجموعة بقاسم مشترك يجمع مكوناتها القصصيّة، هو الشعب الفلسطيني وكل ما عاناه ويعانيه من قهر وظلم وجوع وتشرد.

مقامات السرد:

القصة تصوير للحياة، يقدمها الروائي بأسلوب فني متخيل قريب إلى الواقع، يلعب السارد فيه دوراً كبيراً في تصوير الأحداث بكل ما تحمله من قضايا إنسانيّة. وفي هذه المجموعة "ولع السباحة في عين الأسد" نجد السرد هنا قد جاء من (الخلف)، بحيث أن السارد عالم بكل شيء، وحاضر في زمان ومكان الحدث. وهو كلي العلم يعرف تفاصيل أحداث القصة وشخصياتها ما خفي منها وما ظهر، وهو يتنقل بحريّة بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ونفسياتهم، ليكشف عن أسرارها وخباياها ورسم ملامحها بألوان وخطوط واضحة ومحددة. وأحياناً ما يدخل السار في السياق المتوالي أو المتسلسل للسرد تعطيلاً أو قطعاً، من خلال إدخال مشهد لحالة حواريّة بين شخصين أو أكثر، أو من خلال وقفة صغيرة كإجراء عمليّة وصف معينة لموقف شخصيّة أو حالة نفسيّة في مشهد، أو ظاهرة طبيعيّة .. إلخ.

لقد اتسم أسلوب سرد المجموعة بالاقتصاد والدقة والرصانة. وبعيدا عن السرد التقريري والانشائي. وجعل الكاتب من مجموعة قصصه لوحات متتابعة مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى. كما كان السرد محكماّ، تم فيه الانتقال من باطن الشخصيات إلى ظاهرها.. وإلى عالمها الخارجي بسلاسة وانسيابية.

لقد استطاع "حسن ابراهيم" تشكيل صوراً إنسانيّة لا تكاد تنسى  في َهذا العمل القصصي، وتجسد ارتباط المكان بالزمان ورؤية العالم  في تشكيلات هذه الصور الإنسانيّة لأحداث المجموعة، مما جعلها كاشفةً عن أعمق المشاعر ومصورة أحداثاً في مقامات عصريّة، أو في مرايا تتغير فيها ملامح الشخصيات ومواقفها بقدر ما تعكسه من هموم ومكابدات حياتهم... مرايا يتجاور فيها الأموات مع أرواح الموتى، وهموم الحاضر مع أشباح الماضي. لقد استطاع الكاتب "حسن ابراهيم" صياغة الكثير من الأحلام في ضوء وإيقاع واقعيين، وزوايا تصوير حشدت الكثير من الطقوس والوقائع أو الأحداث الأقرب إلى الواقعيّة. وهذا ما يجعل المتلقي يقبل على قراءتها بحفاوة وتأمل وتقصي لأبعادها بجديّة واهتمام. وهذا كله يأتي من مخزون ثقافي وأدبي حاز عليه الكاتب وجعل منه قاصاً يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي وإمكانية تغيير موقفه في هذه الحياة.

واقع اللغة في المجموعة:

كان السرد باللغة العربية الفصحى، وهي أداة التقنية المعتمدة والطاغية في السرد، والناقلة للحوار في قصص هذه المجموعة بشكل عام. كما أظهرت قدرة القاص في التصوير بهذه اللغة عمليّة التفاعل أو الربط بين الواقع والأبعاد النفسيّة والاجتماعيّة للشخصيات.

بيد أن الملفت للنظر هنا، أن الأسلوب السردي الذي استخدمه القاص في مجموعاته القصصيّة والذي امتاز بمجموعة جمالياته الفنيّة التي أشرنا عند حديثنا عن (مقام السر) عند "حسن ابراهيم"، إلا أن سرده كان مشبعاً في أحيان كثيرة بالوصف، الأمر الذي جعله يتكئ كثيراً على البلاغة وعلم البديع. لذلك صيغت اللغة هنا بطريقة شاعريّة. الأمر الذي جعل فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، وخاصة الصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكناية وكثرة الانزياحات اللغويّة، وهذا ما جعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل من قبل القاص مع البلاغة جاءت بشكل مدروس، وتحولت إلى حرفة امتهنها كاتب المجموعة القصصيّة بشكل متعمد، تحول فيه استخدام جماليات علم البديع من السهل الممتنع، إلى تصنيع متكلف يرهق دلالات المعنى، وبالتالي جاءت صياغة مفردات البلاغة في أسلوب هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. كما أشرنا قبل قليل.

إن الاغراق في استخدم علم البديع يجعل المتلقي يشعر بأنه أمام نص سردي هو أقرب إلى السرياليّة. وهذا ما تبين لنا في القصة السادسة من المجموعة." علق بجوف القطار"، على سبيل المثال للحصر. حيث يكتب القاص:

( فصل آخر يتراءى من الحائط الذي يبث تباشير مطرح، فصل يزرع فيه الموتى رؤوسهم، ضوء شمعة لكل ميت، دهليز، مغطى بأقفال، أسوار تحملها السنوات، سرطان، يدب في عروق أمتار حفرت في عرق الأسوار. في كل فصل، من فصول الخيانة، يسقي الموتى رؤوسهم بصنبور، ورحى، وجعجعة للهذيان، كما يسقونها بصنبور خيمة متنقلة، وبكل صيغة من صيغ الدماء. . ص51.).

الشخصيات في الرواية:

شخصية الكاتب أو السارد:

من خلال قراءتنا لقصص هذه المجموعة القصصيّة، يتبين لنا بأن شخصيّة الكاتب هي التي كان لها الحضور الأكثر فاعليّة في متن القصص، وبقيّة الشخصيات في المجموعات هي ثانويّة، ومع ذلك استطاع الكاتب ببراعته الفنيّة أن يجعل لكل من شخصيات قصصه الثانوية دوراً فاعلاً في كشف حالات معاناة الشعب الفلسطيني من خلال الحوارات الصغيرة التي تدور بينها في متن كل قصة. هذا وأن الشخصيّة الرئيسة وهي الكاتب أو السارد (العالم) بكل شيء، تنم عن شخصيّة مثقفة وحذقة متفهمة طبيعة الحياة بأنساقها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والأخلاقيّة، وهي صاحبة موقف فكري ملتزم من الحياة وقضايا القاع الاجتماعي ومعاناة أهله .. وهو كما أشرنا سابقاً الشخصيّة العالمة بخفايا وظواهر ودواخل شخصياتها، وهو صندوق ذكرياتها.

الزمان والمكان في مجموعة (ولع السباحة في عين الأسد):

الزمان في المجموعة:

إن الزمان في هذه المجموعة القصصيّة زمن متعاقب. أي هو زمن دائري لا طولي، وهو يدور حول موضوع المجموعة القصصيّة المتعلق بمعاناة الشعب الفلسطيني وقضيته، وهو تعاقبي في حركته المتكرّرة، لأنّ بعضه يعود إلى بعضه الآخر في حركة كأنّها لا تنقطع، مثل زمن الفصول الأربعة التي تجعل الزمن يتكرّر في مظاهر متشابهة أو متّفقة.

المكان في المجموعة:

إن المكان في أي عمل روائي أو قصصي، يتميز بكونه فضاءً لفظيّاً يعتمد على اللغة المطبوعة في الكتب. وهو يتشكل كموضوع للفكر الذي يحمله الكاتب. وبالتالي لا رواية أو قصة بكل مكوناتها بدون مكان، فالمكان يشكل عاملاً أساسيّاً في بنية السرد، فكل حدث يأخذ مكانه في زمان محدٍد ومكانٍ محددٍ. وكل الأشياء في العالم الخارجي (الواقعي) تشكل مكانا، فالمكان في حياة الإنسان له قيمته الكبرى ومزيته التي تشدّه إلى الأرض. ولا غرو، فالمكان يلعب دوراً رئيساً في حياة أي إنسان. أو بتعبير آخر إضافة لكونه مكاناً جغرافيّاً، إلا أنه يظل يشكل أيضاً مكاناً ثقافيّاً واجتماعيّا وسياسيّاً وأخلاقيّاً.. وغير ذلك من القيم والمفاهيم والأفكار والمشاعر التي تستطيع اللغة التعبير عنها. فالمكان (الواقعي) في المجموعة القصصية هو أرض فلسطين، بغض النظر إن كان مدينةً أو قريةً أو مخيّماً.َ والكاتب "حسن ابراهيم" كان مبدعا وبارعاً في تصويره للمكان على الورق وما تعلق به من قهر ظلم وتشرد وضياع، الذي تجلي في البنية النفسيّة والأخلاقيّة والنضاليّة لشخوص المجموعة القصصيّة وموقفهم من الحياة.

طموح المجموعة القصصيّة:

إن كل ما تطمح إليه هذه المجموعة هو الخروج عن عالم زمكان القهر والظلم والاستبداد السائد والشائع والمألوف في عالمنا العربي.. طموح من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإيجابية جديدة تتسم بالحريّة والاستقلال من المستعمر ولحاكم المستبد معا، وإيجاد سماء يتحقق فيها التوازن والسمو والعلو عن كل ما يسود هذه الحياة من كذب ورياء وأنانيّة.. سماء تنطبق فيها الممارية مع الفكر، ويتربع فيها الفكر على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك... سماء يستمر فيها النقد والحوار بين مستويات الذات والآخرين المختلفين معها في وجهات النظر. إن كل فنون الأدب في حاجة ماسة إلى خلق فضاءات تتنفس فيها أصداء الشخصيات، وتتفتح فيها أبعادها ومحاورها وترك تأثير واسع وعميق على المتلقي.. وهذا ما تطمح إليه المجموعة القصصية (ولع السباحة في عين الأسد.).

القاص حسن ابراهيم – "ولع السباحة في عين الأسد- مجموعة قصصية من (15) قصة قصيرة. الطّبعة الأولى 2023- مكتبة كلّ شيء – حيفا.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

..........................

الهوامش:

1- (لأدب الوجيز “وولع السباحة في عين الأسد” للأديب حسن الابراهيمي – مصطفى عبد الفتاح. موقع الكرمل 48.).

2- المرجع نفسه.

بسبب موقف اليوت المضاد للمدينة ورموزها، استعار الشاعر حسام السراي هذا الموقف ليتماهى مع نظرته لمدن بلاده.. يشاهدها وهي تحترق في مدونته الشعرية (لا إليوت آخر لمدينة تفاوض الدخان) الصادرة عن دار درج للنشر عام 2023.

يقدم السرّاي العديد من الرواة والشخصيات عبر مشاهد متغيرة لمدن وأماكن تلخص المفارقة التصويرية.. الإحساس الصادق لدى الشاعر الذي يضعه في اختبار دقيق بين ما هو كائن، وما يجب ان يكون، ولبشاعة الراهن تتشكل المفارقة، كأن الشاعر يفقد توازنه حين ينظر إلى هذا البلد، ليقول ان كل ما يدور في أنحائه غير منطقي. صورة حياة عقيمة، كما هي نهايات لندن، مدن يملؤها الضباب والدخان:

أب/ له الشوارع/ له الارباب/ له كراهيات تعاضدت عليه للنبش في ظهره

ابنة/ ابنة السوق ابنة الخوف/ ابنة فراق الغائبين

ابن/ابن الاشلاء المتناثرة في دهر فاسد

يمضي بنا السراي في قصيدته " هوية أحوال لعائلة تفاوض الدخان "، مستعرضاً أنماط الموت عبر آلاف السنوات من الدخان لأفراد العائلة الستة، وهم يطمرون ماضيهم البعيد، عائلة تفاوض دخان الالاف من السنوات.  لكن هذا الحزن كله وهذا الانكسار المرير الذي يعبر عن فاجعة أم أدركت حكم الزمان، ينتهي بالقصيدة يتبدل فيها الصوت الحزين، صوت الأم ، تتراجع اللغة النادبة المتأوهة، وتترك مكانها الى لغة مقدامة وواثقة :

أم/ لاتحب الشعراء/ ولا تنتظر إليوت آخر/ ليكتب عن يبابها/ لاتطمئن للمؤرخين/ تخشى نسيانهم صدور صبيانها الممزقة/ لاتستمع للخطباء الجهوريين/لاتصفق للسلاطين/ تكره نهاياتهم غير السعيدة/ لا تقرأ الكف/ عيشها الحالي نفس صاعد/ أفزعه هباء العالم.

و" الأرض اليباب " قصيدة إليوت التي نشرها للمرة الأولى عام 1922 في مجلة كان هو مؤسسها ومحررها، القصيدة ولدت في مقبرة،

جاءت معبّرة عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتصوّر عالماً مثقلاً بالمخاوف والذعر، عالماً ينتظر إشارة ما تؤذن بالخلاص.

بينما ولدت قصائد السراي في أرض تحفل بالشهداء عندما تنشر الحرب أثوابها، ويصطلي في مجامرها الفقراء، تطحننا العصبيات والطوائف والأحزاب، وتضرم نار القبائل (هناك من يتهيأ لجمع أحجار العشيرة، كي لا يرجم بحجر من ثأر/ قصيدة ثأرعشائري)

صور عن الرعب والوحشة في المدن العراقية التي تواجه موتاً يكتب عنها السراي بمشاعر موسومة بنوع من الألم والسخرية المريرة، والتساؤل عن معنى هذا الموت:

الحكومة متقشفة/ النفط فيها للشيعة/ الكهرباء للسنة/ المال للأكراد/ أسطورة الخراب الجديد/ الحكومة متقشفة/ في عاصمة الحكومة ساحات/ تطير فيها وجوه الشهداء/ قصيدة الحكومة متقشفة

وضد هذا المشهد الذي يرسم صورة البلاد تبرز المواجهة، المواجهة هنا تقاوم القاتل ولكنها تصغي في الوقت نفسه إلى نداء يسمعه الشاعر :

أتهجى اسم الناصرية على مهل/ ألاحق دمعتها الحارّة على البلاد/ ألاحق نبرتها العالية/ ألاحق أقدام نسائها وهنً يعلنّ: نحن هنا/ وهناك في الساحات.

في نص آخر نقرأ شعراً موسوماً بغنائية مشبعة بحزن تمتزج فيه مشاهد المأتم بالأعراس، مشاهد تصور أبناء الموصل:

(الساكنون في الأيسر والأيمن/ أقفال بيوتهم تتخفى من بنادق الجنود/ وما يتعالى من أنين خلف الجدران/ كلنا أبناء دولة الأخطاء/ في هذا الهلاك تحت قباب الجوامع والكنائس).

المنكبون على ضياء رأس السنة، المتحلقون حوله، يتحسسون اصابعهم، وهم من طال حزنهم حتى صار الغناء:

اشتقنا لمعنى أن نكون أحياء

السراي ينسج شعره بأحلام، فاذا بها تسقط فوق أرض تجتاحها الرايات السود.

وهو يبتعد بلغته عن قاموس القتل، راح يبحث عن جمالية قوامها النسق الملتبس، المتحرر من قيود البلاغة اللغوية، النسق بمواصفاته المقصودة والواعية، نسق هادف، أو مرتبط بفهم للشعر يبتعد فيه عن المباشرة والخطابية والوعظ، شعر يميل إلى ما هو يومي ومعيش، أي الاهتمام بالعنصر، أو ما يسمى بالتفاصيل، شعراء هذا التوجه ينظرون في حركة الأشياء حولهم، يحاورون عالمها. يمكن للقراءة المتأنية أن تلتقط الخيط الداخلي لعالم هذه النصوص، أو أن تصل إلى رؤية ما يوحدها في التفاصيل المحتشدة فيها.

الشاعر يلاحق دمعة الناصرية الحارّة على البلاد كما يرقب في الشطرة والرفاعي وسوق الشيوخ كيف تنفخ الأم المفجوعة في روح أبنائها:

أرقب كيف يودع الشبان ثورتهم من سطوح البيوت

هل كان حسام معنياً بموضوع المدينة في كتابه الشعري، المدينة كفكرة ورمز ذات أبعاد اجتماعية وسياسية؟ في الموصل وتلعفر والحسكة كما في ساحة الطيران.. مدن آفلة يحاول أن يمسك بها السراي، لكن عبثاً هي مدن هاربة حتى الاحلام تبدو كمنازل سيفارقها. المدن كانت هاجس الشاعر ووسيلته، لكنها ماثلة أمامه حين يغيب عنها أو يعود إليها بين ذاكرة الصورة وذاكرة الكلمات، لم تأته هذه المدن وهو مستلق على قفاه، هي بالأصح غرزت في رأسه وجوداً شعرياً متدفقاً، بل هي جدل مع الزمن ومع ساكنيها ليكتب عن يبابها.

هي ابنة الأشلاء المتناثرة في دهر فاسد

مدن تطمر ماضيها البعيد

وتركض نحو حاضر أبعد

البيوت عصفت بها القذائف، تتنفس هواءً مشبعاً

بدخان آلاف السنوات

ألبوم الطوابع آخر قصائد مدونة السراي (من طابع 1 الى طابع 5)، ترى هل يصح أن نرد المعنى إلى الصورة، أم العكس؟ إننا هنا إزاء بعد جديد طالما يشار اليه كجدلية بين الصورة والمعنى. بما تتضمن من حضور تقني وانفعالي وفكري. المقاربة هنا بين طابع الرسالة ومضمونها الذي تحول إلى خطاب للقتل في سنوات الرعب والإرهاب، الضحايا هم أولئك الأطفال الذين توسطوا الطوابع بصور دائرية الشكل تحيلنا إلى فوهة البندقية، في طوابع أخرى صور لجماجم، وجندي احتلال، وصراخ، واستغاثات، وناجون من الموت:

البوم الطوابع/ قبل أن يحفر من ضياعه قبراً/ احتمى بعتاب من يتحضر لميتته.

من التعسف أن نقرأ نصوص الألبومات بمعزل عن النص الكامل، لكن ما يتشكل بين السطور من دلالات، وفق البناء الكولاجي للنص، يأخذ بنا إلى عالم مبعثر، متهاوٍ، كأنه حطام، أو مجموعة صور تمزقت الروابط بينها، هو عالم المدينة التي يحاول النص أن يشير إليها بأقل ما يمكن من الكلام، فيختار عناوينه الأكثر دلالة، ويؤلف بينها في هذا التشكل الممتد بين مكونات الصورة، والمعاني التي يلخصها النص.

***

جمال العتّابي

قدم عرض (من هي والدتي) ضمن مهرجان مسرح الشارع في كركوك/ الدورة الثامنة لعام ٢٠٢٤.

إعداد وإخراج: هه ردي هادي.

انتاج: نقابة فناني كوردستان / فرع حلبجة.

يقول مارك توين (أن الجمهور هو الناقد الوحيد الذي يستحق رأيه شيء من الاعتبار والاهتمام بنقد النخبة من المفكرين والنقاد لا يلغي الاهتمام بنقد العامة فهو يمثل شريحة من المجتمع لهم علاقة بالفن ويتأثرون به ويؤثرون فيه).601 fatin

استند المعد والمخرج (هه ردي هادي) في مسرحيته (من هي والدتي) على نص برشت، في حيث أصل النص الذي تناوله (برشت) مأخوذ عن نص صيني كتبه (لي شنغداو) باسم (دائرة الطباشير) في القرن الرابع عشر. تتلخص حكايته بالاتي: تتخلى الملكة عن طفلها الرضيع وتهرب خوفا ويظل الصغير في رعاية الخادمة حتى تمر الأعوام وتعود الملكة للحكم وتطالب باسترداد ابنها لكن الخادمة تتمسك به، وهذا ما بنص الكاتب برشت في مسرحيته التي جاءت بعنوان (دائرة الطباشير القوقازية) تسلط المسرحية الضوء على (أحقية الملكية لمن يحرص على رعايتها واحتضانها وأن يستثمرها لخدمة المجتمع، ومن يرعى الشيء هو الأحق بملكيته) وهكذا لخص برشت فكرة مسرحيته بصورة تختلف عما جاء في النص الأصلي الصيني وجعل الصغير للأم التي تربيه و تعتني به وترعاه، وليس للأم التي أنجبته.

 تتحدث حكاية مسرحية (من هي والدتي) عن صراع بين الفتاة الغنية - جسدت الدور الممثلة (دينا كاوان) - التي تتخلى عن دميتها وأهملتها ولم تعتني بها ورمتها، والفتاة الفقيرة - جسدت دورها الممثلة (ديما كاوان) - التي وجدت الدمية مرمية وأخذتها واعتنت بهندامها أحببتها وتعلقت بها.

 خاطب المعد/ المخرج الأطفال أوصل فكرة مفادها: (حافظ أيها الطفل على ما تملك واعتني بأشيائك، فإن أهملتها، سوف تفقدها). امتزجت الحكاية مع الأداء التمثيلي والغناء والرقص لتعلم المتلقي الصغير تذوق الحياة بحلوها ومرها وإدراك جمالها والتعرف على ذاته ووجوده ومواهبه، انطلاقا من أن للمسرح دورا في تنمية وتعزيز الثقة في نفوس المتلقين الصغار، ويساعدهم أيضا بالقدرة على الاختيار وتحقيق المتعة والتسلية وزرع القيم التربوية.

 مخرج ومعد مسرحية (من هي والدتي) وظف الدمية واستعاض بها بدلا عن الطفل الصغير كما جاء في نص بريشت. 

 شخصيات المسرحية ليس لهم أبعاد نفسية، وإنما كانت هي المثال (مثال الأم، الأب، القاضي، المالك).

امتلك العرض الموجه للأطفال الجاذبية والمتعة والإثارة والبساطة في إيصال ثيمة المسرحية (من هي والدتي) الدمية لمن تعتني بهندامها ونظافتها وتهتم بها وتحافظ عليها، وليس لمن يمتلكها دون اكتراث لوجودها حيث تهملها وتتركها في العراء. المسرحية أكدت على قيم الخير والجمال والمحبة والبساطة والعدل والحق في حياة الإنسان (الأطفال والكبار)، وجاء العرض مغايرا من حيث الأسلوب فهو سار برحلة جمالية في بحث دائم عن ثيم مجتمعية بأسلوب إبداعي باعتماد التكثيف والاختزال والدهشة الاستجابة الجمالية.

تأرجحت المسرحية ما بين المشاهد الكوميدية والتراجيدية في البحث عن الأجدر والأحق بامتلاك الدمية، فهي لامست الواقع المعاش اليوم المشحون بالطمع والأنانية والتسلط وحب الامتلاك والكراهية، وبالتالي يتناقلها الأجيال.

جاء العرض معبر لكل ما يحصل من أحداث (هنا والآن) فهي تصلح لكل زمان ومكان.

 هدف المسرحية تغيير العالم من خلال نظرة جمالية جديدة، تعتمد النظر إلى الواقع كونه عالما متفاعلا مؤكدا إنسانية الإنسان.602 fatin

أراد (المخرج) أن يقول إن معرفتنا للأحداث والحكايات قابلة للنقاش، ولا يمكننا تقبل الواقع كما هو، فهو نقل دائرة اهتمامه من خلال ما قدم أمامه، جعله الطفل يفكر بما موجود داخل عقله وما تعود عليه من أفكار سلبية، فهو أراد من المتلقي أن يراقب عن كثب ليكشف الواقع المرير الذي نعيشه متمثلا بصراع قطبي المسرحية في إطار من القيم الثابتة نقبلها كمتلقين، وكذا الحال مع بقية الشخصيات المسرحية ليصبح صراع وجهات نظر، وليقول لنا المخرج (هه ردي هادي) أن الدمية تمنح للتي تعتني بها، فالملكية الحقيقية تعمل ما هو مفيد لما تريد امتلاكه.

أراد (هه ردي) أن يحدث تغييرا في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية بفعل إدراك العرض فهو حقق متعة عملت على ازاحة الاغتراب عن كاهل المتلقي ليمارس بتلقائيّته وإدراكه للواقع المعاش، وتغييره بفعل الوعي لما يشاهد ويعرض أمامه في فضاء المسرح، حققت المشاهد ذات الطابع الكوميدي الكثير من المتعة والدهشة بوساطة حركة اللاعبين الممثلين (ديما ودينا كاوان / كاوان علوان / ئه رده لان رمزان) من خلال الحركة المعبرة، والإيماءات الموحية، التي كانت هي اللغة السائدة في العرض المسرحي، يرافقها حوار الشخصيات التي كانت بشكل انسيابي اتّبعت نسق امتاز بإتقان وسلاسة حيث تألق الجميع في العرض بتناغم حواراتهم مع فعل الشخصية المؤداة، فهناك نضج في روئ كادر العرض ابتداء من المخرج وممثليه ومعرفتهم بدورهم وعمقه في التعبير لما يلعبه أثناء أداء للشخصية.

تناول عرض مسرحية (من هي والدتي) وجودنا الاجتماعي بتناقضاته البشرية، في نطاق عالم الطفل اليومي، الشخصيات بأدائهم الممتع كشفوا للمتلقي الصغير المعنى الحقيقي للتضحية والقيم الأخلاقية والنصح والإرشاد والتوجيه والتعليم، باستخدام اللغة المحلية (الكوردية) حيث جسد الممثل الحكاية من خلال حوارات ذات لغة بمفردات محلية متداولة، بعيدة عن المبالغة في اختيار المفردات.603 fatin

لذا علينا الاهتمام وعدم الاستخفاف بالعالم الديناميكي المتغير باستمرار بجعل عقله متيقظا متفتحا، أراد (المخرج) للمتلقي الصغير أن يمارس دوره الحقيقي في التغيير، فهو عكس الواقع الموضوعي بشكل ذاتي من خلال قراءتنا للأحداث والحكاية التي عرضها لنا حيث جغرافية مكان (مجمع أوف كركوك) مكان متحرك غير ساكن، كجزء من جغرافية المدينة عمل على استقطاب المتلقي.

انطلق (المخرج) من الواقع إلى الإنسان وبالعكس، فطبيعة الإنسان متغيرة باستمرار، وكذا الحال مع بقية الأمور والقضايا، عمل على تفعيل دور الإدراك والفهم واليقظة ليؤكد إنسانية الإنسان، فالإدراك قد غيب بفعل حب التسلط والتملك والجبروت والابتعاد عن الحق والعدالة.

تعد عروض مسرح الفضاء المفتوح فقيرة في امكاناتها الفنية من حيث المعدات المادية المستخدمة والمأخوذة من الواقع الحياتي، والاكتفاء بالاكسسوارات واللوازم القليلة المقتضبة والفقيرة في إمكاناتها الفنية، وهي خفيفة سهلة الحمل تمثلت بصندوق بسيط يحتوي أدوات ولوازم خياطة، إضافة إلى عربة بائع البالونات وحلويات ولعب الأطفال، أزياء الشخصيات بسيطة موحية معبرة بشكل سلس وانسيابي ابتعدت عن صيغة المبالغة مما جعلها مصدر جاذبية واستجابة شعورية للمتلقي الصغير، حيث كانت دلالة الألوان في زي الشخصية كانت تحمل قيما نبيلة وسامية، ساهمت في جعل المتلقي قريب إلى تلك الشخصيات، انه مسرح متقشف بسبب إمكاناته الفنية كونه مسرح يبحث عن التجمعات البشرية، ويقدم لهم العرض. كانت لغة الموسيقى والغناء حاضرة في تحريك مشاعر المتلقين، لأن الغناء والموسيقى أقوى تأثيرا، ومن ثم التفاعل معهم بشكل كبير، هذا من ناحية التقنيات المستخدمة في العرض، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الممثل على درجة عالية من التمكن من أدواته (الصوت، والحركة، والانفعال) في بث رسالة العرض المسرحي الموجه للأطفال، فضاء العرض تحلى بالجاذبية والمتعة والإثارة والبساطة في إيصال ثيمة المسرحية، وارسال المعلومة للمتلقي من خلال لعب التمثيل، كون اللعب هو عملية التقليد والمحاكاة، حيث يعتمد الطفل اللهو واللعب بقصد المتعة وبعث السرور في نفسه وحيازة إعجاب من حوله، والذي تشكل جانبا مهما من حياة الصغير.

حقق العرض تفاعلا كبيرا من قبل الأطفال، وما جذب انتباه المتلقين الكبار والأطفال ايضاً طفلة شاركت اللاعبين في مساحة التمثيل حيث كانت تغادر مكان جلوسها مع عائلتها (كون مسرح الفضاء المفتوح هو مسرح عائلة بامتياز) لتدخل فضاء الفعل وتشارك الممثلين، فهي في حركتها وانتقالاتها أصبحت جزءا من العرض، ثم تعود أدراجها إلى مكان جلوسها ثانية، فهي كانت المثال الذي جسد جميع المتلقين الصغار. الجمهور خليط غير متجانس من الناس، والعرض لم يتوجه الى فئة محددة، ولا إلى شريحة عمرية معينة من الأطفال والكبار، وفضاء العرض هو نفسه فضاء المتلقين، ثمة توحد بين المؤدي والمتلقي، واقتلاع تام للفواصل التقليدية مما جعل المتلقي مشارك فعال في العرض الموجه إليه. بناء عليه يمكن الجزم على أن مسرح الشارع أو مسرح الفضاءات المفتوحة، ومسرح الطفل يعد مدخل للعمل على إعداد وصناعة المتلقين.

تسهم مثابرتكم و إخلاصكم وتفانيكم بالعمل اهتمامكم الكبير والمهم لعروض مسرح الشارع الموجهة للأطفال، فقد كانت لكم تجربة سابقة قدمت في مهرجان كركوك لعروض مسرح الشارع / الدورة السابعة لعام ٢٠٢٣ بعرض مسرحية تربوية تعليمية موجهة للأطفال، قدمت النصح للصغار وكيفية تعاملهم مع الأشياء، بعنوان (العمل سحرية كاتي وكالي)، نهنئكم جميعا معد / مخرج / ممثلين وجميع كادر العمل، ونشد على ايديكم، وننتظر منكم التواصل وتقديم الأجمل.

***

أ.د. فاتن جمعة سعدون الربيعي

أحيانًا تحتاج عملية النقد إلى الكلام على لسان الآخر، وهو ما يمكن تسميته بالقناع النقدي، وقد يكون النقد حينئذٍ أبلغ أثرًا وأعمق موقعًا، وهذا يعني أن القناع النقدي ليس دليلًا بالضرورة على الخوف أو ما أشبهه؛ بل هو أمر إيجابي في بعض الحالات، ومن أمثلة القناع النقدي كتاب (كليلة ودمنة) الذي ترجمه إلى العربية ابن المقفع [ت: 142هـ]؛ وتُعَد مسرحية (الرباط الأزلي) للكاتبة الأردنية ميسون حنَّا نموذجًا واضحًا للقناع النقدي المحمود، من خلال الشخوص الرمزية التي أُسنِد إليها الحوار وظهرت في مشاهد المسرحية؛ وهي شخصيات (الحياة، القدر، الإرادة)، وباعتبار حضور هذه الشخصيات الرمزية عتبة من عتبات النص؛ فإنها تكشف عن اتجاه ميسون حنا في هذه المسرحية إلى النقد الاجتماعي تحديدًا، وذلك من حيث مدلول كلٍّ من هذه الشخصيات الرمزية، واستشراف ما يمكن أن يقال على لسانها أو يُنسَب إليها مِن فعلٍ أو أداءٍ حركي أو مظهرٍ بصري أو نحو ذلك؛ ويمكن تناول أمثلة للنقد الوارد بهذا الشكل، على النحو الآتي:

 تتقنَّع الكاتبة خلف الشخصية الرمزية "الحياة" وتصف القدر بالكائن السلبي، ثم تقول له: «إنما البشر ظرفاء، أهكذا يسمُّونك؟!»، وقد جاء وصفُ القدر بالسلبي من قبِيل المجاز؛ نظرًا إلى كثرة (السَّلبيِّين) الذين يتعلَّلون بالقدر وهو من أخطائهم وفشلهم بَرَاءٌ، ثم وصفت الكاتبة البشر بالظرفاء؛ مِن قبِيل السخرية، وهي تقصد تلك الفئة العريضة من البشر، الذين لا يجدون سِتارًا لأخطائهم أو فشلهم إلا القدر، وفي سياق النقد عَبْر ذلك القناع يقول القدر بعد أن رفضت الحياة حبَّه والزواج منه: «تتهمينني بالغرور ولستِ أقل مني تيهًا بنفسك»؛ فالذي تقصده الكاتبة أن تنقل رؤية الناس للحياة كما يرونها، فذكرت هذه الرؤية على لسان القدر، ولما اعترضت الحياة على كلام القدر؛ علَّل كلامه بقوله لها: «أفعالكِ تجبرني على تخطِّي حدودٍ وضعتها التقاليد حولك وليس القوة»، وفي هذه الجملة تسخر الكاتبة على لسان القدر، من الناس؛ إذْ يعظمون شأن الحياة الدنيا وهي لا تستحق، وتأكيدًا لذلك تستطرد الكاتبة على لسان القدر مخاطبًا الحياة: «عجبت لجرأتي وجهارتي منذ لحظات؛ إذْ خرقتُ العادة وطرقتُ بابك الحصين الذي لم يجرؤ أحد أنِ اقترب منه أو حاذاه»، وفي هذا السياق تكشف الكاتبة موقف الحياة ممن يلهثون خلفها، فتقول على لسان الحياة معلِّلة رفضها حب القدر: «أنا لا أستطيع أن أكون حبيبة لِمَملوكٍ لي ولعبدٍ صنعته»؛ فهذه الكلمات تقصد الكاتبة توجيهها إلى عُبَّاد الحياة من البشر، لكن ذكرتها على لسان الحياة ليكون ذلك أبلغ أثرًا في نفوس الناس؛ إذْ علموا موقف الحياة الدنيا التي يتكالبون عليها ويعظمون أمرها.   

وبعد أن بيَّنت الكاتبة من خلال هذا القناع النقدي، الوجه الحقيقي للحياة الدنيا؛ عادت لتكشف أيضًا عن الوحه الحقيقي للقدر، من خلال هذا الحوار:

«القدر: إني أستطيع هدم الحياة في غمضة عينٍ.

الحياة: أيها المغرور؛ لو كنت تستطيع هذا حقًّا فماذا تنتظر؟!.

القدر: التاريخ يشهد عظمتي؛ فكم حربٍ أشعلت، وكم زلزالٍ أحدثت و...؟!!!.

الحياة: بالرغم من كل ما ذكرتَ؛ الحياة في نموٍّ مستمر وازدهار متزايد».

وهذه الجملة الأخيرة على لسان الحياة هي هدف الكاتبة من هذا الحوار بين الحياة وبين القدر، تريد به الكاتبة أن تصحح المفاهيم لدى من يحتج بالقدر وهو في الحقيقة مُستكين مستسلم لا يحاول السعي والاجتهاد؛ وتستطرد الكاتبة في التحاور بين الشخصيتين الرمزيتين:

«القدر: عزائي الوحيد الرهبة التي أحيط بها نفسي؛ فالجميع يهابونني.

الحياة: هل يجب عليَّ أن أهابك كي تستريح؟!!

القدر: إني أحسد لك الحب الذي يحيطونك به.. أقصد البشر»

وحين يتحاور القدر والحياة، ويكشف كلٌّ منهما مكانة الآخر عند الناس؛ فإنَّ ذلك له أثره الكبير في تقبُّل المتلقي لِما يكشفه الطرفان من حقائق، ولا سيَّما أن المتلقي يعلم هذه الحقائق ويدركها جيدًا، فيكون تلقِّيها من طرفَيِ الحوار بمثابة التأكيد، فهذا من فوائد التقنع خلف هذه الشخصيات الرمزية.

وتمضي أحداث المسرحية، ويقوم القدر بتشتيت سكان "الجزيرة المخملية"، ثم يجتمعون مرة أخرى، وعند ذلك يزعم القدر أنه هو الذي جمع شملهم بعد شتاتٍ وأعادهم إلى الجزيرة، ويتصاعد الحوار على هذا النحو:

«القدر (مفاخرًا): لقد أعدت السكان إلى موطنهم.

الحياة: أنت؟!!.

القدر: وها هم يعمرون ما قد تهدَّم.

الحياة: لا أصدق أنك فعلت هذا!!.

القدر: لا بد من التصديق.

(الإرادة تنظر إليه باستنكار شديد)»

إن ظهور "الإرادة" واستماعها إلى هذا الحوار له دلالته الواضحة، تلك الدلالة التي تواجه بها ادعاءات القدر فتقول: «ولكني أنا التي أَعَدْتُهم وليس أنت، وبعد أن باشروا أعمالهم هذا الصباح؛ شعرت بأنني حققت انتصاري، فجئت أحتفل بهذه المناسبة، وفجأة أسمعك تنسب لنفسك ما أنت بعيد عنه كل البعد!!».

إن هدف الكاتبة من وراء هذا الحوار على ألسن الحياة والقدر والإرادة؛ هو إظهار انطباعات البشر نحو هذه الثلاثية؛ فهم يحبون الحياة، ويتعللون بالقدر حين يفشلون في أمرٍ من أمورهم، وينسون أن الله تعالى خلق فيهم الإرادة؛ التي لو وظَّفوها بشكلٍ صحيحٍ لانتصروا على الفشل الذي ينسبونه إلى القدر.

وفي سياق السعي إلى تحقيق هدفها تجعل الكاتبة الاعتراف بالتخاذل الذي يقع فيه البشر؛ يأتي على لسان القدر الذي يتعلَّلون به، كما في هذا الحوار:

«الإرادة: مساكين أهل هذه الجزيرة؛ يحسبونك لا تؤذي أحدًا!!!.

القدر: إني لبق في إيذائي؛ ألدغ كالثعبان وأبتسم كالهرِّ». 

ويدور في المسرحية حوار بين بعض الشخصيات البشرية، حول بعض الأحداث، يحاول القدر من خلالها إثبات قدرته على تنفيذ ما يقول، ويحتدم الجدل بينه وبين الإرادة، وكلاهما يحاول إثبات انتصاره على الآخر، وتعود الحياة لتشترك معهما في الحوار بعد أن تخبرهما أنها كانت تراقب الأمور عن كثبٍ ولم تبتعد عنهما، وتستطرد الكاتبة في الحوار بين الشخصيات الرمزية الثلاثِ، ونلمس المزيد من الحكمة في مثل هذا الجزء من الحوار بين الإرادة وبين الحياة:

«الإرادة: آمل ألَّا يصل بنا الأمر للخصام.

الحياة: أنت لا تستطيعين خصامي؛ لا وجود لك من غيري.

الإرادة (بانكسار): صدقتِ؛ هذه هي الحقيقة».

وفي هذا المقتطف من الحوار حكمة واضحة هدفت الكاتبة إلى إبرازها؛ وهي أن الإرادة مفقودة عند الموتى، وفي ذلك دعوة من الكاتبة إلى التمسك بالإرادة؛ فالإنسان ما دام حيًّا لا بدَّ أن يستحضر إرادته؛ التي يتخطى بها الصعاب والأهوال، ويبرأ من التَّعلُّل الكاذب بالقدر؛ وقد عملت الكاتبة على تأكيد رؤاها التي تدعو إليها في هذه المسرحية، من خلال مواجهات واعترافات الشخوص الرمزية التي جاءت بها لتكون بمثابة قناعٍ يُعِين الكاتبة على إبراز رؤيتها النقدية.

***

حسن الحضري

من الأسئلة المهمة التي واجهت الدراميين العرب وهم بصدد البحث عن صيغة مسرحية عربية سؤال التراث، سواء باعتباره ثقافة عالمة أو أشكالا ثقافية شعبية مختلفة، ومنها الأشكال الماقبل مسرحية. فأية علاقة لمسرح الطفل بالتراث؟ وكيف تعامل المسكيني الصغير مع التراث في كتابة نصه المسرحي الموجه إلى هذه الفئة العمرية ؟ وما هي رؤيته لمسرح الطفل ؟ ولكن قبل ذلك أية علاقة للتراث بالفن المسرحي عموما؟

المسرح والتراث

2- 1إن علاقة التراث بالمسرح ليست علاقة مفترضة بل متحققة إبداعا وتنظيرا، سواء في المسرح اليوناني الذي نشأ في كنف الأساطير الإغريقية، وهي تراث استند عليه أغلب كتاب الدراما الإغريقية لصوغ رؤاهم والتعبير عن الانشغالات الفلسفية والوجودية والسياسية لمجتمعهم، أو في المسرح الكلاسي الذي استند مع كورنيه وراسين وغيرهما على تراث المسرح اليوناني، أو في المسرح الحديث الذي يتعامل مع التراث برؤية تحديثية مغايرة للرؤية الكلاسيةّ، بحيث نجد أن أكثر التيارات المسرحية ثورة على المعايير الفنية الموروثة تحافظ على بعض الصلات مع ذاكرة المسرح الغربي، إذ تسعى إلى تجاوز القوالب المبتذلة والمعيقة للإبداع، من غير أن تقطع أواصر العلاقة مع رحم الإبداع المسرحي، بحيث أنها تحقق مسعاها استنادا إلى قاعدتي التراكم والتجاوز، بمعنى أنها تحرر إبداعها من قيود التنويع على الأصل، لكي تكون أكثر وفاء للأصل، وأكثر انسجاما مع روح الإبداع.

إن "أنتونان أرتو" مثلا، وهو واحد من أكبر دعاة الثورة على المسرح الغربي حاول إرجاع المسرح إلى منابعه الصافية وتطهيره من "الدنس " الذي أصابه فتحول إلى مظهر من مظاهر التسلية. لقد اعتبر المسرح شكلا من أشكال الطقوس الدينية، التي تعبر عن صفاء العاطفة الإنسانية، بعيدا عن مظاهر " الثقافة" التي جعلت المسرح يرتدي أقنعة الزيف، فاختفت ملامحه، لذلك ينبغي أن يعود إلى كينونته الفطرية لأنه كان في بدايته الوسيلة التي عبر الناس من خلالها عن أحاسيسهم المنطق اللاشعورية – عن ماهية وجودهم الغامضة التي لا تخضع للعقل أو المنطق[1] .

2-2 وينبغي الانتباه إلى أن مسرح الطفل هو فرع من أصل الفن المسرحي عموما، ومن هنا فإن علاقته بالتراث لا تخرج عن هذا الإطار. و"كما في المسرح الموجه للكبار فإن مسرح الأطفال جعل من التراث الشعبي أحد المصادر التي استقى منها مؤلفو ومخرجو مسرح الطفل في العالم العربي مادتهم المسرحية[2]"، بل إن كاتب مسرح الطفل يجد في خزائن التراث كنوزا من الحكايات والنوادروالطرائف والسيروالأغاني والأزجال والحكم والعبر التي تلائم خيال الطفل، وتلبي حاجاته المعرفية والوجدانية المختلفة باختلاف المراحل العمرية للطفل . إن مسرح الطفل يتحول إلى ممارسة إبداعية فرجوية ذات أبعاد تربوية وتعليمية، تلتقط بعض اللحظات العابرة من التاريخ، أو القابعة في ذاكرة الشعوب، وتخرجها من دائرة العبورأو الظل، إلى دائرة الديمومة والحضور، بواسطة تعبير فني أدائي يعتمد على الكلمات والألوان والأضواء والأصوات والحركات والإيماءات، اعتمادا مشروطا بالخصائص المحددة لهذا النوع الفني، والمناسبة لنمو الطفل النفسي والجسمي والعقلي.

3- المسكيني الصغير ومسرح الطفل:

1- 3 يعد مفهوم مسرح الطفل من المفاهيم الإشكالية التي تتداخل في بنائه عدة عناصر تتعلق بالمجتمع والطفل والأدب وفنون العرض، فعلاقته بالطفل تتجلى في كونه مسرح يوجهه الأطفال للأطفال، أو للكبار، أو للجميع، أو مسرح يقدمه الكبار لجمهور الأطفال، أو مسرح يحمل مضامين تخص الأطفال بصرف النظر عمن يقدمه[3]. وتتجلى علاقته بالمجتمع في كونه يدخل في البنية العامة لثقافة المجتمع، نظرا لما يتضمنه من قيم ثقافية وحضارية تجعله وسيلة من وسائل التنشئة والإدماج الاجتماعيين [4]. وتتجلى علاقته بالأدب في كونه جنسا أدبيا له مكوناته ومرتكزاته الأدبية كباقي الأجناس الأدبية الأخرى من قصة ورواية وشعر ..أما علاقته بفنون العرض فتتجلى في ارتكازه على التمثيل وتوظيف كل العناصر المرئية والسمعية التي تستخدم في بناء العرض المسرحي.

ومن هنا يفترض أن يستحضر مسرح الطفل كل هذه العناصر المتداخلة دون أن يطغى عنصر على آخر، بمعنى أن التركيز على وظيفة التنشئة الاجتماعية لا ينبغي أن يؤدي إلى إهمال البعد الفني والوظيفة الفرجوية الترفيهية، فالنص المسرحي الموجه للأطفال يلتحم داخل نسيجه رهان الشكل الفني ورهان المحتوى الفكري المناسب للطفل المتلقي، بحيث أن الشكل والمحتوى الملائمين للطفل في الطفولة المبكرة، يختلف عن الشكل والمحتوى المناسبين للطفل في المرحلة المتوسطة أو المتأخرة. ويمكن القول إن مسرح الطفل يختلف باختلاف الفئة العمرية المستهدفة، فلكل مرحلة من مراحل النمو لدى الطفل طبيعتها وسماتها الخاصة، فالطفولة المبكرة تتميز بالتركيز على التقليد، والمرحلة الوسطى تتميز بالبحث عن الذات عاطفيا واجتماعيا، ومرحلة الطفولة المتأخرة بالدقة والتركيز والتسامح والتعبير عن إحساسات الطفل الداخلية، فيما تتميز مرحلة المراهقة بالبطولة والمغامرة[5].

وإجمالا يمكن القول إن مسرح الطفل هو مسرح موجه لجمهور الأطفال يتميز بسلاسة أسلوبه ووضوح حواره، يصور حكاية أو قصة مستمدة من التراث أو التاريخ في نص مسرحي قصير من أجل التسلية والتثقيف، وتربية الذوق الفني، ومساعدة الطفل على تنمية شخصيته وتحفيزه على اكتساب سلوكات نبيلة.

3-2 وإذا انتقلنا إلى المسكيني الصغير فإننا نجده يدرك إدراكا تاما أن الكتابة للطفل مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنها تتطلب امتلاك مهارات تمكن الكاتب من الفهم العميق للوظائف التربوية والفنية لأدب الأطفال.

وينبغي التذكير هنا أن المسكيني الصغير يحدد رؤيته لمسرح الطفل في انسجام مع تصور جماعة " المسرح الثالث " وفق معطيات الواقع الزماينة والمكانية والتاريخية، بحيث أن المسرح الثالث " يرى أن تعامله مع الزمان والمكان والتاريخ، نصا وإخراجا، ينطلق من عملية تحليلية وتركيبه في إطار البحث عن الزمان والمكان والتاريخ، انطلاقا من تصور النص في إطار تعامله مع الواقع الذي يرتبط بالمتفرج، وبالتالي يرتبط بطموحاته، بحريته وجودا، بثورته على القديم السلبي[6]"

إن المسرح في رأيه يفترض وجود حياة حضرية مستقرة وحضور " أشخاص .. جماعة..أمة وليس أفرادا معدودين يكتبون المعلقات"[7]. وبما أن العرب لم ينعموا بمثل هذه الحياة، ولم يعرفوا أساطير محبوكة البناء، ولا آلهة متصارعة، ظلوا مخلصين للتقنية الشعرية، مبهورين بألفاظها وأوصافها، بعيدين عن الحوار الذي يمكن اعتباره ركيزة الفن المسرحي. ومن هنا لا يرى المسكيني الصغير أي عائق يمكن أن يمنع من الاستفادة من المسرح الغربي، ومن شكله الجاهز الذي يمكن أن يكون قابلا للتطوير ومناسبا للتعبير عن وجداننا، فإذا كان " الجهاز التقني العالمي، لا يمكن نفيه، فمن حق المسرح العربي تطويره وتعريبه"[8]. فالأشكال الأدبية الغربية، في رأيه، ومجمل إنتاجات هذه الحضارة إنتاج إنساني، يحق للإنسانية جمعاء أن تستفيد منه، وتغنيه بالمساهمة في منجزاته، والإضافة إلى تراكماته، ليغدو أكثر تطورا ونضجا. وينطبق على الشكل المسرحي ما ينطبق على غيره من إنتاجات الغرب.

وإذا كان المسكيني ينفي وجود شكل مسرحي عربي، فإن ذلك لم يمنعه من الاستفادة من التراث العربي وتضمينه في أعماله المسرحية، ويمكن أن نشير، في هذا الصدد، إلى شخصيات من التراث العربي وظفها الكاتب في نصوصه المسرحية، مثل أبي العلاء المعري والخليفة المنصور بالله في مسرحية " الخروج من معرة النعمان " وشخصية عمر الخيام في مسرحية " عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية ". إن الكاتب وإن كان ينفي وجود تراث مسرحي عربي، فإنه يعي أهمية التراث الروحي والمادي في تشكيل الوجدان الجماعي، ومن هنا فهو يهتم بالفرد في هذه اللحظة التاريخية (الجمهور)، ويبحث عن كل ما يجسر العلاقة معه، خصوصا المادة التراثية التي يراهن عليها لمخاطبة متلقي نصوصه المسرحية(الجمهور)، وهوعنصر أساسي لا يمكن أن تتحقق الفرجة المسرحية بدونه. ولعل هذا الرهان هوالذي دفعه إلى الاستفادة من التراث العالمي (الشكل المسرحي الغربي)، والتراث العربي الإسلامي بشخصياته وحكاياته العربية التي وظفها المسكيني في نصوصه المسرحية، وبذلك انفتح على كل ما يمكن أن يحقق له إبداعا مسرحيا أصيلا، يخاطب عقل الجمهور ويعبر عن وجدانه .

3- 3 وانطلاقا من حرصه الكبير على مخاطبة جمهور خاص هو "جمهورالأطفال"، لجأ المسكيني إلى الكتابة للطفل مسلحا بتجربة غنية في التأليف المسرحي، ومستحضرا الأبعاد التربوية والرهانات المستقبلية والخصوصيات المشهدية لمسرح الطفل، بحيث أنه يعتبر الكتابة للطفل بمثابة رهان على المستقبل، لأن إهمال الدراما الخاصة بهذه الفئة العمرية سيؤدي إلى إهمال الطفل ومستقبل المسرح معا، ويُفقد المسرح المغربي في المستقبل "متلقيا متشبعا بإيواليات المسرح وجمالياته وتواصله كفن راق يختصر الحياة"[9].

ومن الواضح أن الأبعاد التربوية حاضرة عنده في مسرح الطفل، ويتجسد احترام هذا البعد في تقديم المضامين التعليمية والتربوية في نصوصه الدرامية بطريقة فنية، تحترم ذكاء الطفل وذائقته الفنية، بعيدا عن الخطابية الفجة والتلقينات الجافة المباشرة.

يقول المسكيني: " لن يتحقق اللقاء المسرحي المتميز إلا إذا ابتعد عن المفردات الكبيرة والجمل المقحمة، والتوجيهات المباشرة، والنصائح الباردة، والحكم المغلقة التي لا تثيراهتمام الطفل ..[i]وهذا ما يتطلب نهج أسلوب كتابة يراعي نمو الطفل من النواحي النفسية واللغوية، باعتماد السلاسة والوضوح والتنوع البعيد عن الرتابة والافتعال"[10].

ولتحقيق هذه الغاية لجأ المسكيني إلى التراث لأنه يدرك تأثيراته البالغة في بناء الشخصية والحفاظ على الذاكرة، بحيث تصبح شخصية الطفل بوثقة تلتقي فيها روافد الماضي (التراث) مع آفاق المستقبل (الطفل)ـ، لأن التراث في إحدى التعريفات هو انتقال الإرث الحضاري أو الثقافي للمجتمع من جيل إلى جيل، وكلمة التراث تعني لغة الميراث، أي كل ما يورث .

4- توظيف التراث في مسرحية "الطبل":

1-4: نجد في نص "الطبل" اهتماما واضحا بالتراث ليس بوصفه أحداثا أو حكايات مشوقة، يستند عليها الكاتب لبناء حكاية النص الدرامي فحسب، ولكن بوصفه رؤية توجه اختياراته الفكرية والجمالية.

إن حبكة هذا النص الدرامي تنسج خيوطها من الصراع بين الأصوات المحافظة على أصالة التراث، والأصوات التي تقع في شباك الاستلاب بالابتعاد عن القيم الإيجابية والنقط المضيئة في التراث الإنساني، وكأن الكاتب من خلال هذا العمل يوجه رسالة إلى الطفولة بطريقة فنية تتوسل إلى تقنيات التعبير المسرحي.

2- 4: يتكون النص من ثلاث لوحات متماسكة في بنائها تقدم حكايتها في صورة محكمة التشكيل، وفق منطق البناء الدرامي المتدرج: بداية ووسط ونهاية. في اللوحة الأولى نتعرف على الشخصية الحيوانية المحورية "ديكان"، وهو يعرض سلعته المستوردة "الطبل" الذي أقلق به راحة سكان "قرية الزيتون"، وأثار غضب زوجته "أم فرخون " المتذمرة من سلوكه بسبب نسيان صوته وإهمال مهمته السامية في مراقبة حركات الأفلاك والنجوم و الكواكب، لمعرفة دورة المواقيت والأزمان. كما نتعرف إلى شخصية "أرنبوط" المتميزة بقوة الإصغاء والانتباه والحذر وهي تؤنب "ديكان" على اهتمامه بالطبل وإهماله للصياح، وتحذره من أن يكون طبله سببا في الحروب، وتعرض القرية للغزو وأطماع الغرباء .

وفي نهاية اللوحة الأولى يتدخل حكيم القرية "ديكون " لتنبيه "ديكان" إلى خطورة الطبل التي تلقاه هدية من "ذئبان " وهي آلة دخيلة تهدد بالقضاء على تراث القرية ونضوب موهبة الصياح ونسيان العلم بالأوقات:

" ديكون: كان عليك أن تعرف بأن كل ثرثار وطنان أجوف لا قيمة له فوق الأرض ..إن سر النجاح في العمل هو الاعتزاز، بتراث القرية.

ديكان " سيدي ديكون .

ديكون: (يقاطعه) أنصحك، يا ديكان بإعادة هذه الهدية المسمومة إلى صاحبها .

ديكان: رحل...

ديكون: أحرقها إذن، قبل انتشار العدوى، وقبلما تفسد آذان القرية وعاداتها الجميلة..وتنسى علمك بالوقت والأيام.

ديكان: لا أستطيع يا معلمنا الكبير.

ديكون: أبلغك قرار أهل القرية، ستبقى وحدك إذا احتفظت به. لا أحد يحترمك ويقدر علمك.[11]"

لكن ديكون رفض قرار القرية وتشبت بالطبل مما أدى إلى تعقد مسار الحكاية وتوتر أحداثها.

وفي اللوحة الثانية نتعرف على شخصية "ذئبان" التاجر المحتال الذي عاد إلى القرية بعدما نجاحه في إخراس صياح "ديكان"، وأفقد الديكة القدرة على التمييز بين الأوقات من أجل السطو على ممتلكات أهل القرية، لكن حذر "أرنبوط" وقوة حاسة السمع لديها ستعمل على إفساد خطته، فتستنجد بسكان القرية الذين اكتشفوا سرقة عقود أرض"حيصون".

وفي اللوحة الثالثة يدرك "ديكان" أنه وقع في شرك "ذئبان" الذي أغراه بالطبل فنسي صوته الجميل ومهمته النبيلة، وعندماعاد "ذئبان" إلى القرية بقناع تاجر استغل "ديكان" فرصة عودته، فاحتال عليه وأعلم سكان القرية بحضوره باستعمال آلة الطبل نفسها:

ديكان: (يداعب طبله) كم كنت مشتاقا إلى رؤيتك حتى أسمعك عزفي، وأريك مهارتي.

ذئبان: لا تحاول .. فالوقت متأخر .. وقد نزعجهم.

ديكان: (للجمهور) هو الآخر يزعجه قرع الطبل، الآن عرفت معنى الطبل (يخاطبه) ولكن مهمتي ياصديقي هي الإخبار بالوقت، وبالضيوف الوافدين، ألست طبالا، حان وقت العمل !؟ (يضرب طبله)

ذئبان: (يوقفه) لا لا تفعل ..

ديكان: (يتابع ضرب الطبل بعشوائية)

(في هذه الأثناء يدخل ديكون، أرنبوط، فرخون أم فرخون، وحيصون .. حاملين هراوات)

جميعا: (بصوت واحد) السيد ذئبان، يلبس قناع تاجر هذه المرة !! "[12]

وهكذا تمت محاصرته، وقام فرخون بإخراج العقود المسروقة من كيسه، فكشفت مؤامرته ضد القرية التي كان يسعى إلى تدجين ديكتها وإخراس صياحهم الجميل. . و نجحت القرية في تحصين معارفها وحماية مواهبها باستثمار حكمة ديكون وحذر أرنبوط وتضامن جميع أهل القرية، واستمر صوت الديكة في الصياح، وبدأ فرخون رمز المستقبل في تعلم الصياح مستلما المشعل من الأصوات التي سبقته .

3-4: إن أحداث المسرحية تكشف عن الصراع بين الدخيل الذي يرمزإليه ب "ذئبان" المحتال وآلة الطبل الجوفاء من جهة، والأصيل الذي يرمز إليه بصياح صوت الديكة وحكمة "ديكون" من جهة أخرى. فإذا كان الأول يرمي إلى إخراس صوت الأصالة والإجهاز على عذوبته، فإن الثاني يرمي إلى الحفاظ على قيم الجمال والعلم والحكمة المتأصلة في قرية " الزيتون". وقد استفاد الكاتب في تشخيص هذه الرموز المجردة في نسيج النص من تقنية أقنعة الحيوانات التي تشرع أمام الطفل عوالم الخيال الممتعة.

إن الكاتب في هذا النص يعلن عن الانتصار لقيم النبل والجمال في التراث بصياغة درامية مشوقة تحفل بالمتعة والفرجة، وتبتعد عن الخطابية والمنبرية التي تجهل أو تتجاهل خصوصية التلقي المسرحي لدى الأطفال.

ويكشف هذا النص عن إخلاص الكاتب لرؤيته في الكتابة المسرحية في إطار جماعة المسرح الثالث التي تسعى إلى التوفيق بين الاستفادة من الشكل المسرحي الغربي واستلهام التراث العربي في صياغة مضمون النص المسرحي. إن الشكل الذي اختاره الكاتب يتوافق مع شكل المسرحي الغربي الخاضع في مجمله للضوابط الأرسطية سواء فيما يتعلق ببناء الشخصية، أو في تصوير الصراع الدرامي بين سكان قرية "الزيتون" و"ذئبان"، وفي اعتماد الفعل المركب القائم على التحول والتعرف، بحيث أن تحول "ديكان" من التشبث بالطبل إلى نقيضه كان نتيجة كشفه لحقيقة المحتال "ذئبان". كما أن مضمون النص جاء متوافقا مع واقع المتفرج " الطفل "، وملائما لما يحتاجه من ترسيخ لقيم التضامن والاجتهاد، وإعمال العقل وتقدير العلم والموهبة، ومن ثم لم تكن الحكاية الخرافية ذات مضمون سلبي شأن الكثير من الحكايات التراثية التي تتضمن قيما سلبية تؤشر على أن التعامل مع المادة التراثية تعاملا محفوفا بالمخاطر، وإلى هذا المعنى تحديدا يشير علاء جابر بكشفه عن المضامين السلبية لبعض الحكايات الشعبية مثل حكاية شهرزاد وشهريارالتي تقوم على عنصري الخيانة الزوجية، والسادية المتمثلة بالقتل اليومي، وحكاية علي بابا والأربعين حرامي التي تقوم على السرقة وخيانة الأخ لأخيه، وحكاية علاء الدين والمصباح السحري: التي تروج للسحر باعتباره الوسيلة المثلى لحل المشاكل والارتقاء الاجتاعي، وحكاية الشاطر حسن التي تعلي من قيمة الفردانية واستبدال الظلم بالسذاجة والغباء .[13]

إن الحكاية التي اختارها المسكيني الصغير لنصه تختلف عن هذه الحكايات، نظرا لتركيزها على مجموعة من القيم المناسبة لمدارك الطفل واحتياجاته، بحيث أنها تنتصر لقيم الجمال (جمال صوت الديك) والتضامن (تضامن أهل القرية لدرء خطر ذئبان) وتقدير العلم والموهبة (" ديكان" الفلكي الخبير بحركة النجوم و"أرنبوط" ذات الموهبة الفذة في اكتشاف الأخطار بواسطة حاسة السمع) وإعمال العقل (شخصية ديكون الحكيم)...

ومن دون شك أن المسكيني يبرهن من خلال هذا النص على إدراكه الواعي لشروط الكتابة للطفل، وما تتطلبه من مجهودات تراعي تفتح الطفل الجسمي والعاطفي والذهني، وتستشعر خطورة المهمة التي تستوجب التقديرالجيد لشروط التعامل مع المادة التراثية، لصياغة نص مسرحي يوفر الفرجة والمتعة والمعرفة، من غير أن يسقط في شباك المنبرية الفجة والخطابية المنفرة.

***

الدكتور محمد الصبان

كاتب وباحث في الصورة

..................

[1] جورج ولورث: مسرح الاحتجاج والتناقض . ترجمة عبد المنعم إسماعيل. المركز العربي للثقافة والعلوم بيروت ب ت ص: 39

[2] علاء الجابر: إشكالية توظيف التراث العربي في مسرح الطفل .انظر موقع ديوان العرب على الرابط:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?article15346l;ru

[3] مبارك ربيع، المسرح والتربية، أعمال الندوة الدولية المنظمة في شهر نونبر 88 كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني، ص:83/84 . نقلا عن بوشعيب لبنين المسرح والتربية مجلة آفاق تربوية العدد10 /1995 ص: 135

[4] سالم اكويندي، مسرح الطفل والثقافة المؤسسية (مسرح الطفل بين التدريس والتلقي)، مجلة آفاق تربوية لعدد10 /1995 ص: 135

[5] العربي بنجلون، مسرح الطفل بالمغرب الجذور والتأسيس / مجلة آفاق تربوية العدد5_6/ 1992. ص:195

[6] حول مفهوم المسرح الثالث.بيان . مجلة المدينة .العدد:6. ص: 82

[7] المسكيني الصغير. المسرح الاحتفالي ميزة المتفرج المغربي.مجلة المدينة .العدد:1 ص: 33

[8] المسكيني الصغير.المسرح الهاوي بالمغرب والخطاب الفكري.مجلة المدينة.عدد:6 .ص:29

[9] المسكيني الصغير . مقدمة ثلاث مسرحيات .منشورات المسرح الثالث للدراسات والأبحاث الدرامية.الطبعة الأولى 2003. ص: 5

[10] نفسه.ص:3

[11] نفسه. ص: 53_54

[12] نفسه .ص: 61

[13] علاء الجابر: إشكالية توظيف التراث العربي في مسرح الطفل .انظر موقع ديوان العرب. مرجع مذكور

تُعدُّ إنخيدوانا أوّل شاعرةٍ في التاريخ، وُلدت قبل 4200 عام، وعاشت حياةً قصيرةً أمدها 35 عاماً، ويعني اسمها باللغة السومرية (الكاهنة العليا حلية السماء). وكان نفوذها السياسي والديني، بوصفها ابنة الملك سرجون الأكدي، لا يقلُّ أهميةً عن كونها شاعرة. إضافةً للتراتيل الدينية، تركت تلك الشاعرة السومرية 42 قصيدة. وفي مقدّمة مجموعة الشاعرة جاكلين سلام (62) عاماً " أشجار إنخيدوانا" الصادرة عام 2024، عن منشورات إنخيدوانا في كندا، بالتعاون مع (الضفدعة المجنّحة)، شرحٌ وافٍ، يفيد القارئ في توضيح نشأة إنخيدوانا، ومكانتها الأدبية، وقوّتها الشعرية، حيث أورد الكاتب والفنان المصري ياسر عبد القوي، مصمّم غلاف المجموعة، وكاتب مقدّمتها، بأنّ إنخيدوانا " إلى جانب جمال وجودة أعمالها، كان لها تأثيرٌ كبير، فقد قرّبت كتاباتها الآلهة من الناس، وصنعت تناغماً ما بين المعتقدات السومرية والأكدية، لخلق فهمٍ أغنى ممّا كان، لأيٍّ من الثقافتين قبلها". وبحسب الألواح القديمة، فإنّ إنخيدوانا، تُعدُّ المؤلف العالمي الأول، الذي خطّ اسمه على كتاباته، حين كتبت؛ (من نظّم هذه الألواح هو أنا إنخيدوانا، يا سيدي، وما أبدعته، لم يبدعه أحدٌ قبلي). إذاً ولّدت لنا إنخيدوانا، المؤلّف، حرفيّاً، للمرة الأولى في تاريخ البشرية. ونوافق عبد القوي القول، بأنّنا لا نعرف اسم مؤلف ملحمة جلجامش، ولا اسم مؤلف كتاب الموتى الفرعوني. إذاَ، إنخيدوانا، وفق ذلك، بالمعنى المجازي، جدّة كتاب وكاتبات العالم جميعاً.

ومن هنا تطلق عليها الشاعرة السورية – الكندية جاكلين سلام، اسم الجدّة أيضاً، ليس وفق النسب الإبداعي فقط، لكونهما شاعرتين، وإنّما تجمعهما السلالة الآشورية الأكدية، التي تنتمي إليها شاعرة العصر القديم إنخيدوانا وشاعرة العصر الحديث جاكلين سلام، والكاتبة والمترجمة، التي وُلدت في سوريا، مدينة ديريك، عام 1964. هاجرت إلى كندا 1997 .وهي عضو اتحاد كتّاب كندا، ولها مقالاتٌ منشورةٌ في مجلة (رايت) الصادرة عن الاتّحاد. صدر لها: تطعم الغيمات برتقالاً 2022، جسدٌ واحدٌ وألف حافّة، دار هماليل، أبو ظبي، 2016، المحبرة أنثى، دار النهضة العربية، لبنان، 2009، رقصٌ مشتبهٌ به، الدار العربية للعلوم، لبنان 2005، كريستال، دار الكنوز الأدبية، لبنان، 2002. وديوانها الأول "خريف يذرف أوراق التوت" نُشر الكترونياً- شبكة المرايا الثقافية، بإشراف الدكتور علي بن تميم، 2001، ومن ثمّ نُشر ورقياً، في طبعةٍ كندية، 2015.

  كواليس الترجمان

أشجار إنخيدوانا هي المجموعة الشعرية السادسة لجاكلين سلام، وتضمّنت ستين نصّاً للفترة 2015 - 2024 . تكمن خصوصية سلام في هذه المجموعة الجديدة، في أنها اشتغلت فيها على بؤرٍ معيّنة، يستطيع القارئ الدقيق رصدها، منها كواليس مهنتها في الترجمة الشفاهية والتحريرية بين العربية والإنكليزية، على سبيل المثال؛ الترجمة للقادمين الجدد إلى كندا كلاجئين. هنا توظيفاتٌ شعريّةٌ لعملها اليومي، إذ يندمج ضميرها الشعري مع عملها الترجمي، ففي محاكاةٍ لحوار بينها وبين ولاجئ جديد، لم يتمّ تقرير مصيره بقبوله كلاجئ، ويحدث، كمونةٍ سرديّةٍ في النص، أن يموت أب اللاجئ، فتتدفّق الترجمة شعراً وإحساساً إنسانياً بالآخر:

" أنا أترجمك، فيصير والدك أبي، وألمك محنتي والدمع في صوتك يبلّل صوتي.../ وأشكرك لأنك أعرتني كل هذا الشجن".

وتبدر في أذهاننا مقولة" الترجمة خيانةٌ للنص" ذلك أنّ النصّ الذي حوى واقعة الترجمة، عنوانه" الخيانات والقسم". وهناك أكثر من نص، يفعّل بؤرة تفاصيل العمل اليومي لسلام كمترجمة، منها نص" ألسنة ما بعد انخيدوانا"، فيه احتفاءٌ بتلك التفاصيل، كما اهتمامٌ شعري بجزئياتٍ صغيرةٍ، وكبيرةٍ، إذا ما نظرنا إليها على نطاقٍ فكري، فتفكّر بأزمة اللغة العربية حين تترجم للمهاجرين الجدد، وكيف يغترب العقل واللسان عن لكنة ولغة البيت الأول، بيت الطفولة والشباب والبلوغ، في بلدتها "ديريك" في سوريا. وكما في النص السابق تفاعلت مع أحزان اللاجئ الذي مات أبوه، هنا تتفاعل مع امرأةٍ مُصابةٍ بانهيار عصبي، تناشد عدم إدخالها في مستشفى المجانين، تنقل كلماتها العامية مُترجمةً إلى الآخر هناك، الشاعرة والمترجمة حزينتان حزناً مضاعفاً على المرأة المنهارة، متفاعلةً معها، كأنّها مصيبتها هي، أي يتآزر الفعل الترجمي والإحساس الشعري في إيصال المعنى، مثلما نقول" الشاعر يترجم أحاسيس الناس في قصائده". وإذا كان الفعل الترجمي مجازيّاً لدى عامة الشعراء، فإنه لدى سلام هو عين التآزر بين الترجمة والشعر.

  إنخيدوانا الشاعرة الأولى في العالم

البؤرة الفاعلة الأخرى في المجموعة، هي إنخيدوانا، التي حملت عنوان المجموعة، وقد أضيفت فيه مفردة أشجار، بما تحمله هذه الكلمة من مجازات، تمثّلها الامتدادات الجذرية لشاعرة الحكمة إنخيدوانا، في التراث الأدبي لحضارة وادي الرافدين. إذ يلحظ القارئ الدقيق للمجموعة، هذه الامتدادات العريقة، زاهرةً في التعشّق الروحي بين الجدّة الشاعرة القديمة وحفيدتها المعاصرة. هو تعشّقٌ يتَّخذ تفصيلاتٍ مضمونيةً مختلفة، منها صناعة حلقةٍ وسطى بين الجدّة والحفيدة عبر" شهرزاد" راوية " ألف ليلة وليلة" المؤلف الشهير في التراث الأدبي العربي، واتّهام الأخيرة بالغواية استعاريّاً، إذ هي من أوائل نساء العرب، التي أصّلت الحكاية بديلاً عن السيف والموت صمتاً. يرد ذكر إنخيدوانا في متون نصوص المجموعة أكثر من خمس عشرة مرة، أما العناوين، ففضلاً عن عنوان المجموعة، الذي يتكرّر على إحد النصوص، هناك عناوين أخرى: ألسنة ما بعد انخيدوانا، ما ذا لو أنني آخر حفيدات لإنخيدوانا . تلتحم في بؤرة إنخيدوانا مفاصلُ عديدة، منها مفصل الوطن – المنفى، بالتفاعل مع المكان، ومع امرأة كندية أو شرقية تتنزّه على شاطئ البحيرة هناك، فتسقط سلام تصورّاتها بأنّ هذه المرأة " إنخيدوانا في عودةٍ أبدية". وإذا كان عنوان النص الذي احتوى هذا التفصيل" جواز سفر إلى العدم" فإنّ الشاعرة المعاصرة مصيرها الأليم من المنفى إلى العدم، أي اليأس المُحتّم من العودة إلى الوطن الأصلي، حيث تكتب تلك المرأة بتمثيلها المعاصر كشاعرة، أو بجذورها القديمة كإنخيدوانا أزلية:" الأوطان تفقد الصلاحية مثل جوازات السفر"، ومن ثمَّ فإنّ ثنائية الوطن – المنفى، تمتدّ في نصوص المجموعة، بتمظهراتٍ متجدّدة، تعكس عمق الجراح التي أنزفتها الهجرة في روح سلام، مثل قولها في نص" أبجدية الهجرة ثانية":

" حين تهاجر ثانية لا تأخذ معك كتاباً/ دعِ المقدّسات تعيد النظر في الجدران/ لا تأخذ مفتاح البيت/ دع باب البيت مفتوحاً للغرباء والكلاب".

فضلاً عن شعرنة السيرة الذاتية كمترجمة، هناك نصوصٌ سيريّة، عن يومياتها من الوطن إلى المنفى، بالإضافة إلى ثنائيّاتِ عدّة، اغتنت بها المجموعة، مثل الموت والحياة، والكلام والصمت، فضلاً عن موضوعاتٍ كبرىٍ مثل الحب والحرب، وهي بحاجةٍ إلى المزيد من الإغناء النقدي.

أشجار إنخيدوانا، هي تراتيلها ونصوصها الحكمية، المتوغّلة في القدم إلى الآن، تتمثلها وتتماهى بها شاعرةٌ معاصرةٌ جاكلين سلام، في التقاطاتٍ باهرة، مستثمرةً امتداد الإرث الآشوري الرافديني إلى حواضر العصر الحديث في الشرق الأصل والغرب المنفى، بأساليب شعريةٍ صافيةٍ متوحّدةٍ مع نثريات السيرة اليومية.

***

باقر صاحب – أديب وناقد عراقي

 

تقاطعات الدال الحروفي في فرادة قصيدة الرؤية المتأرجحة

توطئة: يشتغل النص الشعري في أحياز مشغل مجموعة (ومضات...ك) للشاعر الكبير (عدنان الصائغ) ضمن محققات أوضاعية خاصة من الأداة الفعلية والصفاتية والنعوتية التي تتأرجح من خلالها شكلية الوحدة الكتابية بموجب حاﻻت مخصوصة من تقانة (تقاطعات الحروف ؟) توكيدا لتلك الدﻻﻻت التحديثية المغايرة في امتلاك اللغة الدالة في خروجها ودخولها ضمن مواطن مركزة من الخطاب الشعري، لذا بدت لنا قصيدة المجموعة تحفيزا حروفيا دواليا باتجاه دﻻﻻت متأرجحة ما بين فعاليتها التنضيدية ومرمى رسوخاتها في المسميات والحوادث الظرفية والاحوالية والوضفية، امتدادا لها - القصيدة - نحو ذلك الفيض من الصياغة الحسية للصور وتفاصيلها ذات العلاقات المنصوصة ما بين (الما بعد - الما تعاقب) في تصورات البنية الأثارية في شواغل الاستجابة البياضية الما بعدية والفراغية من زمن مرجحات واعتبارات الانموذج الشعري.

الموقف الصياغي وعلامات الحروف المستترة

لأجل أن يكون اعتقادنا بمعقولية هذا التأرجح الحسي في بناء القصيدة واضحا، كان علينا ومنذ الوهلة الأولى من قراءة العنونة المركزية للمجموعة الشعرية أن نستعد لقراءة مجموعة شعرية خارج نمطية تصوراتنا التقديرية، لذا فعلينا تعقب مبررات الانموذج في صنعة الأداة الشعرية، ثم إلى محاولة فهم عوالم تقاطعات الحسي في مقتضيات النشوء الترتيبي للنص، اختيارا لذلك التحصيل الحاصل من تساؤلات ومرسلات وإشارات أحوال القصيدة:

الصوتُ مستقيمٌ. والصدى متكسّرٌ

أين أنتِ بينهما أيَّتُها اللغةُ الساكنةُ في

حنجرةِ الأبدية؟

حَيرةٌ تتقدَّمُني دائماً إلى معناكَ أيُّها

الحرفُ. / ص١٠ - كتاب اللغة - ش.

لعل معطى النظر إلى أبعاد الفكرة المثالية في أواصر ارتباطات الحرف القصدي الواصل، تمنحنا ذلك النوع من الاستنطاق الانشطاري المفضي بين ناحية الميل القولي الآني وذلك الاقتناء للمعنى التخصيصي المجمل. فجملة (الصوت المستقيم - الصدى المتكسر) تعطينا ذلك المتأتي من منظومة الحرف التقاطعية أو الفراغية انتقاﻻ مؤشرا نحو حقيقة الارتباط في جملة (الصدى متكسر = أين أنت) تشاكلا تعادليا بالبحث الدال والتصور نحو مخاطبة (أيتها اللغة الساكنة في حنجرة الأبدية ؟) فالخط الواصل ما بين (السكون - الأبدية) عبارة عن ذرائعية وسائلية في شد الاستقراء والغرض نحو حصولية أبعادا تشكيلية زمنية متحولة في الممارسة والتعاقب المستوياتي، لذا فالبنية في الجمل تعني المسافة في معطى المستنطق وليس التحقيق في أوجه المعروض القصدي. كما الحال عليه في القصيدة الومضية (.. ر):

كثيراً ما قَلَبْتَ المصائرَ

والعساكرَ

البلدانَ

أيُّها الحرفُ المتأرجحُ

بين حرفين

أو

 عالمَين

ح.. ب... /ص١١

لو تفحصنا الجمل التوالدية من جهة تمحيصية ما، لوجدنا قيمة التحوﻻت حادثة في (المابين ؟) أي في ذلك المتعلق الحرفي المضمر ما بين (ح.. ب) وهذا المبعث في الجمل الأولى (المصائر -العساكر - البلدان) هي كفاءات وصفية عائدة للمكون الحروفي المتمحور في (الما بين) لذا فعملية الخطاب حلت في الأثر المتفاوت وفي سلسلة علاقات متصاعدة ومعقدة، ولكن من ناحية المركب الحرفي المضمر في الدليل المسكوت عنه، غدا ترجيحا في وحدة التماثل ووظيفة الافتراض النسقية، التي توفر لنا أوضاعاً فضائية أفقية وعامودية من زمن التقاطع الحروفي.

١- كتاب القصيدة: التجوال في ملاعبات التشكيل الحروفي:

لعل القيمة الجمالية التي تتوافر في أدلة قصيدة مجموعة الصائغ الحروفية، تلك النوعية العاطفية المستفهمة والادهاشية بأنفتاح الصور الشعرية في حدود تجاورات حوادثية - مشهدية، تحدد مواطن حدودها بذلك الجوهر الإدراكي للغرض الجمالي في الاصوات الحروفية:

وكثيراً

ما تتأخَّرُ القصيدةُ !

و تتأخَّرين !

الجمالُ

يبتكرُ اعذارَهُ -

إذن الاصل في العلاقة بين (المرسل - المرسل إليه) هي انعطافة حروفية مجازية في سياق المضاف والإضافة الانفعالية من حيز المكون العلائقي، لذا فالقيمة الجمالية تتشكل في أداة المؤثر الحروفي وتحتكم وظيفتها في الطابع التأثيري في مجمل قصديات الوقائع اللفظوية في مناخ القصيدة.

- البناء الصوتي في تجليات المنظومة النواتية

بهذا الصدد، تجدر بنا الإشارة إلى الجانب الصوتي في البناء التقاطعي للقصيدة، إذ تتجول دﻻﻻت الاصوات الحروفية إلى مواضع تركيبية واشكالا تتكشف من خلالها افعالية الصورة الصوتية، كما سنلاحظ في مواطن هذه المقطوعة الشعرية:

يتجلَّى الربُّ، بعينيكِ،

ويَنْبَلِجُ الملكوتْ

فأراني وأنا التداني، أسرحُ...

أو أشطحُ...

بين اللاهوتِ

وبين الناسوتْ.

يكشف لنا وميض الصوت الحروفي ذلك (المعراج التصوفي؟) الممتدد من ناحية صوتية متنامية في الرؤية والإيقاع بطرائق مؤدية إلى علاقات تصورية في المقترح الاتصالي (بتجلي الرب، بعينيك) لعل مستوى الانعكاس الصوري في الدﻻلة، هو ذلك الايحاء بالمعنى المرآتي وتضمينا فاعلاً في متحكم سلطة البوح، لذا فإن نقطة الإنطلاق الصوتي بدت مستوقفة في حدود نغمية الفاتحة التصديرية، لتعلن حضورها في مرمى (وينبلج الملكوت) مما راح يسمح للبوح الآنوي أن يمتد بذاته كفاعلا في الصورة النصية (فأراني وأنا اتداني، اسرح..) وتتمتع العضوية الصوتية في تلفظات النص، بإحالات تتمثل كعلامات كامنة أو افاقية من متصلات الاحوال (أو أشطح.. بين اللاهوت.. وبين الناسوت)و تتوالد اللذة القرائية للنص، نظرا لذلك المحسوس المفترض بين الصورة الصوتية المولدة أو الشيء المتجسد تواصلا بين الاصوات وصور الاحوال.

1 - شعرية الحرف العتباتي وأفق محورية الفواتح الشعرية:

لقد بدت النظرة الى (فضاء القصيدة؟) في مجمل مشغل مجموعة الشاعر موضع بحثنا، كموقفا ابداعيا تحديثيا تشكله تعينات كائنية الحروف الابجدية المحفزة نحو خلق استدﻻﻻت تحويرية منبثقة من استثنائية استبصارات الشاعر، تأكيدا على فسحة الحساسية في ذاتية الحروف وصنيعها الاشاراتي في مواقع المفروض موضوعيا في الواقعة الشعرية، أي إننا نفهم ما يود إيصاله الصائغ في موضع بنيات والقدرة في قصيدته من واصلات متميزة بالاحاطة والطابع على تسخير عناصر الحروف داخل تمثيلات متداعية في محمولات نقطة الالتقاء المتهيئة في مقاصد وحالات تحصيلات اللحظة الشعرية المحتفية بسرعة الاستجابة وتعاقب فروقات الوعي الشعري من خلالها. نقرأ ما جاءت به هذه الحالة الموقفية من ضمانات الانطباعية القصوى:

فتحتُ دولابي القديم فوجدتُ قصيدةً

تنظرُ لي بحنقٍ لانني تركتُها منذُ زمنٍ

محشورةً بين المسوَّداتِ، ولمْ أعدْ

إليها..

يحيل الشاعر في بعض رسومات وقائعه اليومية، إلى معاودة ظهور ذاته الآنوية، كما هو دأبه في حال استطاعته على الإفادة من تقانة الفراغ الكتابي بتحرك البياضات أو الاستعاضة عن الكلمات بآلية التنقيط التنضيدي. فالشاعر الصائغ ربما يختلف عن تجارب شعرية عديدة لشعراء تعاملوا مع القصيدة كحدود لغوية مفخخة أو مفخورة، لذا ترى علاقتهم بذاتية النص خالية من الحيوية والدﻻلة الحسية، فهو من الشعراء - أي الصائغ - من تتأكد لديك عنه، كونه يتعامل مع النص بطرائق ذا أبعاد عاطفية فاعلة في توطيد تراكز العلاقة بين (الذات - الموضوع) امتداد نحو مقاييس إطالة البعد الشعري في علائقية ترتيب وتضمين في مساحة خطابية تملأ حيز التلقي بانطباعات سلطة المؤثر الشعري.

- تعليق القراءة:

نعود من هنا مجددا الى حالات قصيدة النص لدى الشاعر موضع بحثنا لنجد فيها مكونات الشكل المكاني العضوي، وصولا بالنص إلى متباينات حاوية لأجلى العلاقات الدﻻلية بين اللغة ومواطن تموجات الذات الواصفة في حالات ومقامات جمالية السر الحروفي الكامن في حجب بلاغة القول الشعري.. وعلى هذا النحو قرأنا نماذج من قصائد الشاعر العذب (عدنان الصائغ) عبر آليات مجموعته (ومضات... ك) لنعاين من خلالها تلك الحبيبة المتنكرة بالزمن الحروفي، إذ أراد لها الصائغ سكونية في الاداء الإيحائي وفردوسا يملأ ذاته بالحلم والأمكنة واللحظات توغلا في فواصل وتقاطعات الأبجديات الحروفية التي هي غياب المفاتيح وحضورها عبر المسافات القصوى من حساسية وقابلية ملاذات اللعبة الحروفية الواصلة في ديمومة الزمن الشعري.

***

حيدر عبد الرضا - كاتب وناقد عراقي

قبلَ الحديثِ عن مراحلَ تطورِ التجربةِ النقديةِ في المشهدِ الثقافيِّ الأردني، منذ بداياتِه، وصولاً إلى وقتِنا الراهن، لا بدَّ من التطرُّقِ إلى مفهومِ النقدِ الأدبيّ، من خلالِ المقارنةِ بين نوعين من النقادِ قد تصادفهما في المشهدِ الثقافيِّ الأردني، بعد أن تحرَّرَ الفضاءُ الرقميُّ من الضوابطِ والقيود، وتحوّل المتلقي بفعل مهاراته في استخدام التقنيات الحديثة إلى عنصر مؤثر بغض النظر عن قيمةِ المحتوى الذي يقدمه أو يتفاعلُ معه، وتعددت لديه خياراتُ التواصلِ مع الآخرِ والوصولِ إلى المعلومة، وصار بوسعة من خلال استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيِّ بناءِ مفاهيمَ مزيفة، من خلال التفاعلِ مَعَ المعلوماتِ غيرِ المنضبطة، والاستخفافِ بالمعرفةِ الجادة.
إذن.. فالنقدُ الأدبيِّ هو التقييمُ للأعمال الأدبيةِ من خلال إخضاعِها للمقارنة والتحليلِ والتفسيرِ وفق منهجٍ علميٍّ يتعامل مع النص من خلال جنسهِ الأدبيِّ وشروطِهِ الفنية.. ثم وبالتالي تفسير دلالاتِ المعنى الكامنِ في الفكرة ومآلاتها.
ويمكن القول بأن النقد منهج يرتقي إلى درجةِ الحكمةِ الخلاقةِ في التقييمِ البنّاء، من خلال التعاملِ مَعَ النصِّ ككائنٍ حيٍّ لديه روحٌ ومشاعر، وذلك وفق رؤيةٍ تقومُ على مبادئٍ أخلاقية، وأسُسٍ فنية، تراعي عدة عناصر أهمها:
الكاتب، والمتلقي، والفكرة، والمناسبة، والأسلوب، واللغة، الجنس الأدبي للنصِّ وخصائصه، مع وجودِ هامشٍ للمناورةِ يمثلُ بصمةَ الكاتبِ الخاصة، التي تجيزُ له التمردَ النسبيَّ على القواعدِ الصارمةِ في حدود الممكن.. بعيداً عن محاكمةِ النصِّ على اعتبار أنَّ العملَ الإبداعيَّ برمتِهِ يمثلُ موقفَ الكاتبِ الثقافيّ.
أنا أتحدثُ هنا عن النقادِ الذين يمتلكون أدواتِهِمِ الفنية، باقتدارٍ دون تكلفٍ أو حذلقة، سواء كانوا نقاداً أكاديميين، أو يتمتعون بخبراتٍ فنيةٍ مشهودٍ لها.
والمشهدُ الثقافيُّ الأردنيُّ غنيٌّ بأمثالِ هذه القاماتِ الخلاقة.. وقد تفاعلتْ خبراتُهم مَعَ أهمِ المدارسِ النقديةِ التقليديةِ والحداثيةِ التي عرفها تاريخُ الأدبِ العالمي.
فالناقد ليس قاضياً يحاكمُ النصَّ بلْ صديقاً موضوعياً يضعُ في طريق الكاتبِ أفضلَ الخياراتِ نحوَ مُعالجةِ الفكرة، دون أن يُطْلِقَ رصاصةَ الرحمةِ على أيِّ عملٍ يراه عقيماً؛ لأنه في نظرِ غيرِهِ قد يكونُ متميزاً ومقبولاَ.
فالنصُّ في نظرِ الناقد المتمكن يشبهُ نافورةً جميلةً بتماثلاتِها الهندسية، وموسيقها الرتيبة؛ لكنَّ الشلالَ أيضاً في نظره جميلٌ بتكويناتِهِ المستقرةِ ومنحنياتِهِ المتقاطعة، وانصباب مياهِهِ غيرِ المنتظم، إلى جانبِ صوتِهِ المتحررِ من القيود. فالجمال نسبيّ.
ولعلّ من أشهرِ النقادِ عبر تاريخِ الأدبِ الأردني.. الأساتذة الأفاضل، الدكاترة: إحسان عباس.. هشام وعبد الرحمن ياغي.. إلى جانبِ أعضاءِ جمعيةِ النقادِ الأردنيين التي تأسست عام 1998، وبلغَ عددُ أعضائِها تسعةً وخمسين عضوا، وقد ترأس الجمعية في دورات سابقة الدكتور إبراهيم السعافين والناقد فخري صالح، والدكتور غسان عبد الخالق، والدكتور زياد أبو لبن، ، والدكتور زهير توفيق.
ومن أعضاء الجمعية الدكاترة: حسين جمعة.. وإبراهيم خليل.. وخالد الكركي، وعمر ربيحات.. والقائمة تطول من الأسماء اللامعة التي لا يتسع الوقت لذكرها.
ولعل من أهم التجاربِ السلبيةِ التي يتعرضُ لها النقدُ الأدبيُّ في المشهدِ الثقافيِّ الأردنيّ، إلى جانب التجارب النقدية الجادة، النقدُ القائمُ على المجاملاتِ من باب العلاقات العامة، والتعامل مع النصوص وفق ما يرضي صاحب النص.. وهذا شائعٌ جداً على نطاقٍ عالميّ.
أيضاً هناك تجارب نقدية سلبية تخضعُ لمعاييرَ " متلازمة التخذلق اللغوي"، التي تصيبُ بعضَ النقادِ الذين يتعاملون مع النصِّ كفرصةٍ لإثباتِ من باب مرتبِ النقص، فينحصر عملُ الناقدِ على التنقيبِ عن الأخطاءِ بروحِ انتقامية، دونَ ربطِها برؤيتِهِ النقديَّةِ المتكاملةِ للنص، وكأن رأيَهُ قطعياً وليس وجهةُ نظرٍ قد يخالفُها آخرون، ودون مراعاةِ لقيمةِ النصِّ لدى صاحبِه، الذي أفنى وقتاً ثميناً في بناءِ مداميكه؛ ليأتيَ من يهدِمَهُ بكل بساطة، من باب التعالي الأجوف.
وهذا يقودُنا باختصارٍ شديد إلى الحديثِ عن تاريخِ النقدِ الأدبيِّ في الأردن.. والذي مرَّ بمراحلَ متعددةٍ تأثرت بالظروفِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ التي مرت بها المملكة.. حيث بدأتْ تظهرُ بوادرُ تطورِهِ في سياقِ الأدبِ العربيِّ الحديث، متأثراً بالحركاتِ الأدبيةِ العربيةِ التي بدأت في مصرَ والشام، بداية القرن العشرين.
وبدأ الاهتمامُ أكثرَ بالتجاربِ الإبداعيةِ في الأردن، بالإضافة إلى المواكبةِ النقديةِ للأدبِ العربيِّ المعاصر.
وازدادت هذه المرحلةُ نضوجاً أكاديمياً بتأسيسِ أقسامِ الأدبِ العربيِّ في الجامعاتِ الأردنية.
وصولاً إلى الربعِ الأخيرِ من القرن العشرين، حيث تبلورتِ التجربةِ النقديةِ في المشهدِ الثقافيِّ الأردني، من خلالِ التفاعلِ الإيجابي، مع المدارسِ النقديةِ الحديثة، التي كانت تروجُ لها مدارسُ النقدِ الغربي، مثل النقد البنيوي، والنقد التفكيكي، والنقد الماركسي. وكان من شأنِ ذلك ظهورِ اتجاهاتٍ جديدةٍ في تفسير النصوص الأدبية، مع مراعاةِ البُعْدَيْن الاجتماعي والسياسي في فهم الأدب، وإنضاجِ حالةِ التلقي والقبولِ للاختلافِ في الرؤى، والتحررِ من التقاليد الصارمة.
فظهرت أصواتُ نقديةً جديدة، أخذت تسعى إلى تحليلِ النصوصِ الأدبيةِ بطرقٍ غيرِ تقليدية، مع التركيز على دراسة البنيةِ السردية، والرمزية، واللغة.. وتبادلِ الأدوارِ في السرد ما بين تيارِ الوعيِ والحوارِ المباشر.
وبدايةُ القرنِ الجاري، شهدَ النقدُ الأدبيُّ تنوعاً لافتاً، حيث ظهرت دراساتٌ نقدية، تتناولُ الأدبَ الأردنيَّ في سياقِ أدبِ ما بعد الحداثة، وزاد الاهتمامُ بالعلاقةِ بين الأدبِ والحياةِ السياسيةِ والاجتماعية.. مما أدى إلى ظهور قضايا معاصرة، ذاتِ أبعادٍ سياسيةٍ واجتماعية، تتصارعُ فيها المفاهيمُ مع الثوابتِ التقليديةِ فيما يتعلقُ: بالأديان، والسياسة، والهوية، والعولمة، والمرأة.
وانعكاس كل ذلك على الأدبِ المحلي، فازدادَ الاهتمامُ بالأدبِ النسويِّ والشبابي في السياقين الخاص والعام.
في المحصلة، يبقى مستقبلُ النقدِ في الأردنِّ مبشراً بالخير، بوجود الفضاءِ الرقميِّ كمنصة بديلة، أتاحَتِ الفرصةَ لكلِّ من يمتلكَ أدواتِه، أن ينتشرَ وفق قدرتِهِ على العطاء.. فالنقد من أهمِ وسائلِ البناءِ للمشهدِ الثقافيِّ الأردني.
***
بكر السباتين
......................
*محاضرة لبكر السباتين في ندوة مشتركة أقيمت السبت 16 نوفمبر 2024 في رابطة الكتاب الأردنيين حول النقد في الأردن أدارها الشاعر جميل أبو صبيح بمشاركة الدكتور أحمد النعيمي والناقد بكر السباتين والناقدة حنان باشا يوم: 16 نوفمبر 2024

ليس شابا في شرخ الشباب ولا كهلا في منتصف العمر، بل هو شيخ خبر الحياة وخبرته، فتماهى معها وتماهت معه، كما هو تماهي سرب الطيور المهاجرة في تحليقها في فضاء لا حدود له. نهل بكل أبعاد الظمأ الأنطولوجي من معارفها حتى ارتوى، ومن همومها حتى أحاطت اللوعة كيانه، ومن واقعها حتى تخيل البحر سرابا. ذلك هو الأديب العراقي السومري الكبير شوقي كريم حسن، الذي عاصر مراحل كولونيالية داخلية وخارجية متعددة، من مرحلة الحكم الطائفي إلى مرحلة الحكم المطلق، وهما تمثلان استعمارا داخليا (محليا) غير عابر للقارات، إلى مرحلة الكولونيالية الأمريكية التي أنجبت الكولونيالية الديمقراطية المحلية الزائفة، وهي بمجموعها محطات شرسة لها ثقافتها التي تدل أنها لا تُسعَد ولا تفرح برؤية عالَم قائم على التفاعل والتعايش الثقافي، لأنها تؤمن بمسار فكري مؤدلج يسعى لترسيخ دكتاتورية الكلمة، ولا يسعى إلى فهم باقي الثقافات أو التفاعل الإيجابي معها، لأنه أصلا لا يرغب بتحقيق عدالة مجتمعية أو مساواة إنسانية تُحترم فيها إنسانية الإنسان.
تركت إرهاصات هذا الواقع المضطرب المشحون بالتناقض الأخلاقي بصْمَتها بضجيجها وصمتها على جيلين كاملين من أجيال الشعب العراقي، ولونتهم بمشتهاها، وغيرت أنماط تعاملهما مع الواقع، فانحرف مع مسارات ريحها عدد كبير، اظهرها تفاعلهم وكأنها حققت أبهر نجاح في التاريخ، لكنها في الواقع كانت واهمة جدا فهي لم تنجح في قلع الموروث الجيني من أعماق نفوس العراقيين المدكوكة في محليتها، ذاك الموروث الذي استمده ابن سومر عبر تاريخه من نسغ جهاد غائر في القِدم، تكاد لا ترى قعره مهما جهدت نفسك، وسامٍ في الاتقاء تكاد لا تعرف أين سيستقر، بعدٌ ليس ككل الأبعاد النمطية التي يألفها الإنسان، لأنه بعد بؤري لا يمثل المسافة المرئية بين مستشعر الروح ونقطة اندماج أشعة الضوء الساطع الذي يتصل بتكوين الصورة فحسب، بل ويمثل مسافة الحياة نفسها بكل صورها الأثيرية التي تتلفع بثياب ملائكية شفافة تكاد لا تُرى، ولا يشعر بوجودها إلا الأديب الخارق؛ الذي يحمل بين جوانحه روحا بوهيمية تميل إلى اتباع سلوكيات انتاجٍ وفق نمط حياتي غير مألوف، سلوك انتاجي مغرق بالغرابة، يراه بعضهم مجرد ابتذال سوقي لا قيمة له، ويراه غيرهم أرقى مرحلة من مراحل الوعي الفكري التي تجرد الإنسان من تفاهات ما يحيط به ليؤسس وفق منهج التفاهة لخلق حياة أخرى، أعلى قيمة من غيرها، يقدمها بنهم بدوي للضيوف عسى أن يستمتعوا بلحظاتها المارقة، وهي التي تشعره أنه مسؤول عن كل لحظة من لحظاتها التي تمرق كالسهم فيستعصي على الغافلين الإمساك ولو بطرف أذيالها.
في تجربته الثرة ذات الوجوه المتنوعة المعبرة والقاسية والمتجهمة والفرحة والسعيدة والحزينة والمتأملة والقانعة والمتحركة والساكنة والسامقة والتافهة والسامية والمنحطة ذات البعد الشعبوي المغرق بالمحلية، أسس شوقي كريم حسن لمنهج سردي فلسفي له مبرراته التي ترسم لوحة لتطلعاته الأفقية، تلك التطلعات التي تمتد مع امتداد أفق الحياة نفسها، لم يداري ولم يخاتل ولم يموه ولم يجامل ولم يخف أو يرتعب من أحدٍ، وإنما دخل إلى عمق ميدان الحدث مباشرة بصدر عارٍ وقلم وممحاة وكثير من الصبر والشجاعة دون أي سلاح آخر في تظاهرة قد تبدو لبعضهم وكأنها "دون كيخوتية"، ليواجه الأسود المفترسة التي أطلها الجهلة في حلبة صراعه لتفترسه، تلك الأسود التي كانوا يأملون أنها ستعرقل وتعيق مسيرته.
وفق رؤية وبؤرة هذا البعد الفلسفي صدرت لشوقي مجموعة عنوانات ناتئة بارزة مستفزة وقد تكون وقحة ومشاكسة غير مألوفة، امتدت من قنزه ونزه، إلى شروكية، إلى خوشية، إلى هباشون، إلى هتلية، إلى ثغيب، وصولا إلى سيبندية.! وهي محاولات منكشفة الوجه تبدو معربدة تمردت على سياقات واقع يعيش خمولا حد العجز، وهو البعد الفلسفي في ثقافة شوقي، بعدٌ رسم مساراته الإيحائية بريشة فناني عصر النهضة، ليضعها في متحف الحياة.
وأنا واقعا أرى أن الفلسفة تقف أحيانا عاجزة عن التماهي مع تطلعاتٍ منكشفة الوجه لا تهتم بسياقات السرد المتداول، سياقات تنعطف بشكل مفاجئ خارج سياقات الواقع في كل حركة منها، فتبدو نافرة في وجه عالم مسطح اعتاد على نمط تماهي الكل مع الكل دون احراج، سياقات مراهنة على تحرير الخطاب الأدبي والفكري الجمالي من وهم الكونية السوقية التي تتلفع بعباءة الحداثة وما تطرحه من القيم المعرفية والأنطولوجية التي تنماز بالتأويلية المحضة بعيدا عن الواقع وإكراهاته الهشة، وهي محاولة جريئة تنطوي على تحدٍ مصيري يراه بعضهم تهديدا لصرح المجد العالي الذي بناه شوقي بتضحيات لا تقدر بثمن عبر تاريخه الأدبي الطويل، ويراه آخرون تجربة تجديدة تسعى لإخراج النص من نمطية السائد الموروث، وكأنها تأثرت بالثقافة الديكولونيالية.
يذكر أنه رغم الجانب السيء في الديكولونيالية كفكر هوياتي عابر للقارات، يعمل على خلق أنموذج جديد للكونية الإنسانية وفق صياغات متعددة الهويات، تنزع عن الهوية المحلية وجهها الداخلي الجمالي المرتبط بنشأة وتاريخ وموروث خاص، والانتقال بها إلى بعد عالمي واسع، تجد هناك من يؤمن بأن جمالياتها تمثل منعطفا تجديديا فلسفيا يسعى وراء تفكيك فلسفة الأدب والفن المعاصرين لتنقيتهما من المحلية والانطلاق بهما نحو العالمية، وأنها لم تأت لتصادر (المحلي) وإنما جاءت كمحاولة جريئة لبناء عالم (عالمي) متنوع الجمال الثقافي، وأكثر شمولية من البعد المحلي الضيق.
ولأن الديكولونيالية تدعو إلى الانفتاح على أنماط هوياتية مغايرة، فهي تخلق كينونات إبداعية مغايرة تختلف كثيرا عن غيرها، وتملك فضاءً جماليا له قدرة القضاء التام على الاختلافات الهوياتية من أجل تنسيق الرؤى العولمية باتجاهات عابرة للحداثات وللجغرافيات والموروث والتاريخ، ومحددة بعيدا عن شخصانية الهوية المحلية، لهذه الأسباب يرى آخرون أن مجرد الوقوف بوجهها، وهو ما يمكن وصفه بالعصيان المدني الجمالي، يمثل محاولة جريئة لاستعادة الإنسان المحلي إنسانيته المصادرة، لأنه ليس بحاجة إلى اختراع نمط إنساني عالمي جديد ومبتكر وفيه الكثير من الغرابة عن الواقع المحلي، يعيق ممارسته التاريخية بكل موروثها العميق.
والذي أراه أن التنوع الثقافي الأدبي والفني العالمي بمجمله كان محصلة حتمية لأثر الديكولونيالية على ثقافة وأدب الشعوب بشكل عام، والأدباء منهم بشكل خاص. ومع أن النظرية الديكولونيالية نشأت في أواخر القرن الماضي لتعنى بدراسة الأدب في بلدان رزحت تحت نير الاستعمار الغربي وسطوة الفكر الكولونيالي الذي مارس الفرنسة والأمركة وغيرها بالقسر والإكراه؛ وبوعي كامل لتحقيق مكاسب على حساب الثقافة الجمعية المحلية العامة، إلا أن ذاك لا يعني أن الجميع خضعوا لسطوتها، وإن كان الأغلبية قد انساقوا خلف هذا الوهم المؤدلج وتأثروا به.
ويبدو من معطيات الواقع أن الديكولونيالية رغم أهميتها لم يكن لها كثير الأثر الذي حقق نجاحا في تحديد مسارات شوقي كريم الإبداعية لينتج كل تلك الروايات والقصص، لأني على يقين أن أفق شوقي أوسع من أن تحتويه تلك الثقافة. وأن ما جاء به شوقي في كتاباته الأخيرة ولاسيما منها تلك التي أنجزها منذ سيطرة المحتل الأمريكي على العراق ولحد الآن كان سعيا كبيرا منه لتحرير الحواس المعتقلة وإطلاقها في دنيا تفاعلية مثمرة، وهو في استخدامه المفرط للتسميات الشعبوية المحلية إنما حاول خلق نوع من التواصل الروحي مع المتلقي، وهذا ما تراه واضحا في فلسفات النص الذي يكتبه وفي حوارياته وباقي نتاجه الأدبي. ويعني هذا بكل تأكيد أن شوقي كريم حسن نجح في اختراع مقاييس جمالية بعيدا عن التوجه الديوكولونيالي، ولكنها لا تتعارض معه.
***
الدكتور صالح الطائي/ العراق ـ واسط

إنّ قصيدة الومضة شكل تعبيريّ في المدوّنة الشّعريّة المعاصرة وهي من أنماط الكتابة الوجيزة التي تلوح مظهرا من مظاهر التّجديد متلائما مع العصر وله خصائصه النّوعيّة إنشاء وتقبّلا باعتبار انّ كلّ جنس أدبي كما يشير تودوروف هو مجموعة خصائص تتّصل بكيانه البنيويّ...

وتُعدّ قصيدة الومضة النّمط الخامس من أنماط الكتابة الشّعريّة بعد قصيدة الشّطرين والموشّح وقصيدة التّفعيلة والأنثورة أو قصيدة النّثر..

من الصّفات النّوعيّة في الومضة القصر والتّكثيف والإدهاش.. وهي خصائص مشتركة مع القصص الوجيز ممثّلا في الومضة القصصيّة أو القصّة القصيرة جدّا، والهايكو، لذلك كانت الخصائص الشّعرية هي الأشكال المفارقة، معايير مميّزة لقصيدة الومضة وتتجلّى في خاصيّتين هما الصّورة والإيقاع إلى جانب القصر إجازا مكثّفا ،بذا يمكن حدّ الومضة الشّعرية بمقوّماتها الأجناسيّة إنشاء وتقبّلا بكونها قصيدة قصيرة جدّا تتراوح حجما بين 3 و 21 كلمة تصوغ لحظة شعوريّة خاطفة وإحساسا عابرا بألفاظ قليلة مكثّفة الدّلالة.. كثافة مولّدة للغموض قائمة على قوّة الصّورة والمفارقة بما يحدث الإدهاش.

وفي المنجز الشّعريّ اليوم عديدة الأعمال الممحضة للومضة أو المتضمّنة لنصيب منها ضمن سائر النّصوص وهي بما لها من صفات دلاليّة وجماليّة اتّخذها الشّعراء وسيلة للتّعبير عن الواقع المضغوط بإيقاع العصر في تفاصيله..

ومن هذه الأعمال مجموعة الشّاعرة سونيا عبد اللطيف والموسومة ب "بجناح واحد أطير" عنوانا مردفا بعنوان فرعيّ على الغلاف "ومضات شعرية" وقد صدرت سنة 2018.. تضمّ 185نصّا، وزّعت إلى أبواب في المجموعة سمّت الشّاعرة كلّ باب، وهي ثلاثة عشر بابا ب "جناح" من الأمثلة على ذلك: *جناح الأحلام، *جناح الهوى، *جناح السفر،... وكلّ جناح يحوي مجموعة ومضات مثال ذلك: جناح العيون وهو يعدّ الباب السّادس يضمّ ثمانية عشر نصا.

جناح السّكينة يضمّ خمسة نصوص: طمانينة، جرح، اغترار، عجب، حمالة الحطب،.. ومدار هذه الومضات أحوال للذّات الشّاعرة يشي بها العنوان بما إنه علامة مكثفّة وبوّابة مشرّعة على المتون تنتشر دلالاتها في أركان النّص صورا من واقع الوجع والألم من جهة والتّمرّد والتّحرّر من جهة ثانية.

فالجناح الواحد يرمز إلى حال عجز ووهن تعيق التّحليق على أنّ هذا الوضع يوحي بالتّحدي والتّمرّد ومغالبة العوائق طيرانا بجناح واحد، فالعنوان يتضمّن المفارقة أو ثنائيّة تقابليّة هي الوجع والألم لأنّ الجناح الثّاني منكسر والتمرّد والانتصار إذ استطاعت تجاوز العطالة اعتمادا على مخزونها النّفسي ولم تبق لها حاجة بهذا الجناح الثّاني الذي خذلها وأحبطها.. كائنا من كان رجلا، قصّر في معاملتها أو مجموعة تعيق بما ران على واقعها من انهيار قيم على التّحليق عالياً في سماء الحبّ والخير والجمال. .

كل قسم من أقسام المجموعة مصدّر بقولة من مأثور الفكر والأدب لشخصيّات عالميّة... قولة مناسبة لمقتضى الحال موجّهة للقراءة إيحاء.. وفي المجمل هي أقوال منتخبة لارنست همتفواي وهيلين كيلر ودستيوفسكي.. تناسب المقام وتشوق.. تمثيلا لذلك تذكر تصديرا ل*جناح الأحلام قولا لهمنغواي ص 23 : "لست شخصا صعب الفهم لكنّ الذين أشعر معهم بالرّاحة نادرون"

و تصديرا ل*جناح التيه ص 85 بقوللة دوستويفسكي: "لا حريّة صادقة حيث تشترى الطّاعة بالخبز، لقد أعجبت بقولك، ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"

إنّ كلّ ومضة من المائة والخمس والثّمانين تحمل عنوانا مثال ذلك ومضات في جناح الشّذى: أشواك، الوردة، بائعة الياسمين، الشّحرور، سنبلة..

وبالنّظر إلى عناوين الإجنحة أو الأبواب وعناوين الومضات نلفي نظاما دلاليّا ورمزيّا يؤشّر على بعد من أبعاد الشّعريّة في الومضة وهو الصّورة والمجاز والرمز، وكمثال على ذلك نذكر ومضة "فدية الجمال" ص 28:

صاحت اليمامة:

فكّوا عنّي الشّرك

لم أوقعتمْ بي في الفخّ؟

أجاب الصّياد:

كوني بوما أو غرابا

أطلقناك سرابا

هي دلالات بالمحمول الاستعاري والرّمزي مفارقة بين الجمال: يمامة - القبح: غراب.. الأمل والشؤم - الأسر والحريّة

على أن هذا المنحى الاستعاري الرمزي تحفل به العبارة في الومضات من خلال حقول معجميّة مهيمنة، خاصّة حقلي الطّير والورد، ونذكر أمثلة لذلك،

ومضة "الوردة"

داخل كلّ امراة

وردة

هي لا تعلم مكانها

حتى يأتي قاطفها

الذي يدرك أهميّة عطرها

*

ومضة "سنبلة"

حين يُسلب من الوردة

عطرُها.. سحرُها.. حسنُها

السّنبلة

تضيع في المُفترق

*

ومضة "نوارس"

وعدها بحب كبير

توّجته على عرشها

أميرْ

النّورس النّزق بعيدا بعيدا

يطيرْ

*

ومضة "حمامتان"

أحمر شفاه

شفتان

حمامتان ذات قمر

وسمر

وشوشات قُبل

وفي هذه النماذج من الشّعر الوامض استعارات في مدارات معيّنة في المدوّنة هي تيمات التّحليق.. الحب.. الجمال.. المرأة.. الحلم...

وتحضر صور شعريّة دالّة برمزيّة أُنثويّة وتضمين هو من مكوّنات الومضات تأثيرا تطريبا

ومضة "شهريار" ص 114

نسي في الحفل مراقصة

شهرزاد

عند الفجر

وجدها تتأبّط الجناح....

ففي هذه الصّورة إيحاء بحرمان وتوظيف برمزية الجناح... إذ المرأة وقد ضاقت بتجاهل الحبيب تلجأ إلى أحضان غيره شحرورا مؤنسا.. معه تصعد إلى ذرى غبطة ووصال.. وان الدّوال ومحدوديّتها عدّة أمارات التّكثيف تدلالا، تتأبّط.. جناح.. أمّا صورة نسي في الحفل مراقصة... فهي أمارات المجاز والبدائل الاستعاريّة التي تؤكّد انخراط القول في الشّعريّة كونا نوعيّا جوهريّا في الومضة جنسا وجيزا في الخطاب الشعري، على أنّ الإدهاش مأتاه اختيار العبارة المكثّفة وتوظيفها في سياق من الانزياح المجازيّ المخيّب للانتظار تلقّيا....

ومن الانزياحات الخروج بالعبارة في ومضة "بريق" ص67 بشكل يقيم المفارقة.

إذا أبصرت وميض العيون

لا تحسبنّه بريق النّجوم

إنّما هي قطط تتسكّع في الأزقة عندما الظلام

يسود

المفارقة مقوّما نوعيّا في الومضة.

.إلى جانب التّكثيف الدّلالي ترميزا وتكثيفا وإلى جانب الصّمت... والمجاز المغمض والمعمى تجد المفارقة أسلوبا في الومضة يعبّر ويحيل إلى مقروئيّة جمالية... وتجد هذه المفارقة بما هي مبدأ مناقضة في الكلام ظاهرة أسلوبيّة وشكلا مخاتلاغامضا لوجود ما.. وإذ تتعدّد المفارقات وتهيمن موجّهة النّص متحكّمة في حركاته انزياحا وغموضا فإنّها تظلّ رؤى تفاجئ المتلقّي وتخيب منه الانتظار... مثال ذلك ص65 ومضة "سماء"

كلما رآها

أغمض عينيه

وفي أروقة القلب

رآها

هي جملة مفارقات مدارها ثنائيّة الرّؤية والإغفال... هو الحبّ هنا يتجاوز كلّ حسّ وينحو منحى الروحانيّة المغرية...

وايضا نذكر ومضة "متاهة" ص113 عن الجحود والغدر:

أدخلته من فتحة الباب

من فوهة المدفأة

أخرجها

تتعدد الأمثلة وتتنوّع القصيدة الومضة في مجموعة "بجناح واحد أطير" بديلا نصيا بشعريتها لفظا وأسلوبا يراوح بين التّكثيف إجاعة للفظ وإشباعا للمعنى، كما يقال قديما وإجراء أسلوب يراوح بين التّكثيف والإغماض إنشاء، والإثارة والإمتاع تأثيرا... في تلاعب بالصّوت والصّمت ... السّواد والبياض بصريّا وكذلك في تشكيل الصّورة وترميز العبارة..

تتوفّر هذه المجموعة على منجز شعريّ تناغمت فيه الأشكال الوجيزة وميضا في تيمات يشي بها العنوان الأكبر والعناوين الفرعيّة وما كان من تصدير لها... إيحاءات بمنزلة المرأة وشواغلها خاصّة ضيقا بالموجود وطموحا توّاقا إلى القيم الأصيلة وحلما بها..

وفي المحصلة فإنّ هذه المجموعة الشعرية "بجناح واحد أطير" لسونيا عبد اللطيف وقد تضمّنت عشرات القصائد الوجيزة كانت دليلا على أن خصائص الومضة الشّعرية لا تتحدّد بالتّنظير المسبق وإنّما ضرورة الاستقراء الذي يتابع... تنويعا للمدوّنات كميا وفنيا حتى تكون التّجارب الإبداعية مجالا بحثيّا لاستنباط الضّوابط وما يشبه معايير النّوع...

***

الناقد الأستاذ حمادي الحلاوي - تونس

بداية لا بد لنا من التمييز ما بين الرواية والتاريخ: 

الرواية: هي شكل من أشكال التعبير الأدبي، تستخدم لتوثيق الأحداث وتصوير الواقع والشخصيات وإيصال الأفكار والمشاعر بطريقة فنيّة وجماليّة تجذب انتباه القارئ وتثير تفاعله. هذا ويكون المعيار الأول الذي يُحكم به على الرواية أو لها، هو مدى قدرتها على خلق شخصيات إنسانيّة واقعيّة، تتحرك في إطار اجتماعي بعينه، بحيث تعكس خصوصية هذا الاطار الاجتماعي في الزمان والمكان، بكل ما تطرحه شخصيات الرواية من علاقات وصراعات  وما تعيشه من تناقضات وطموحات.

أما التاريخ: فهو علم من العلوم الاجتماعيّة التي تهتم بدراسة ماضي المجتمعات البشريّة، يدرسه علماء مؤرخون مختصون وفقاً لما يتوفر لديهم من الوثائق التي يعدّونها عند دراستهم للأحداث الماضية. أو بشكل أكثر دقة نقول: هو دراسة الماضي كما هو موصوفاً في الوثائق المكتوبة. أي دراسة الأحداث التي حدثت إن كانت قبل السجلات المكتوبة وتسمى أحداث ما قبل التاريخ، أو دراسة الأحداث التاريخيّة المدونة أو القائمة على الذاكرة، أو المتعلقة في الأوابد التاريخيّة القائمة والشاهدة على تاريخ أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب. ودراسة التاريخ تهدف إلى اكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات المشتغل عليها وضبطها أكاديميّا لتحديد موضوعي السبب والنتيجة لهذه الأحداث المراد دراستها.

إذا من خلال تحديد مفهومي الرواية والتاريخ يتبين لنا أن الرواية غير التاريخيّة تقوم على تصوير أحداث متخيلة تمثلها شخصيات يصنعها الروائي، هي أقرب إلى الواقع في دلالاتها وأهداف سردها الرامية إلى التأثير الذي يريد الروي تركه عند المتلقي.

ولكون الرواية جنساً أدبيّاً كما يقول بعض النقاد لا قواعد له ولا وازع، ومفتوحا على كل الممكنات. فالرواية التاريخيّة تأتي في هذا السياق، واحدة من هذه الممكنات التي ترتكز على تصوير الأحداث والشخصيات التاريخيّة، وتقدم نظرة عميقة في دراسة أحداث الماضي، لنقل القرّاء إلى فترات زمنيّة مختلفة. وبالتالي فمن خلال الرواية التاريخيّة، يمكن للقرّاء التواصل مع التاريخ وفهمه بشكل أفضل عبر الشخصيات الواقعيّة والأحداث الملحميّة التي تروى بأسلوب روائي مشوق.

وعلى هذا الأساس نقول: إن أية رواية تتعامل مع التاريخ يجب على الروائي أن يكون أكثر عقلانيّة ومنطقيّة وواقعيّة وحياديّة مع الأحداث التاريخيّة التي يريد تصويرها حتى لا يفقد الحدث التاريخي مصداقيته، ويتحول مضمون السرد الروائي للحدث التاريخي هنا  إلى ما يألفه أو يريده الروائي، وبما يناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والدينيّة والفكريّة والوجدانيّة.

إن الرواية التاريخيّة ستقوم بالضرورة على التداخل والمناورة والمجاوزة والاستضلال والتحويل، الأمر الذي يُخرج كل من الواقع والتخييل عن خصوصيتهما، لذلك  سيطغى على السرد الروائي وأحداثه إضافة للتداخل، الغموض والأوهام والتخيل والأساطير والخرافة والمواقف الأيديولوجيّة أو الرغبويّة في تحويل المعطيات المتعلقة بالنص التاريخي إلى مواقف فكريّة تخدم أجندات أو مواقف دينيّة أو سياسيّة معاصرة لا تنتمي للحقيقة بصلة بقدر ما تنتمي للوهم. وهذا ما يجعلنا نؤكد حقيقة تتعلق في علاقة الفن الروائي وعلم التاريخ وهي: (إن أيّة محاولة لخلق موازنة بسيطة بين مفاتيح التاريخ والرواية يجعل الجمع بينهما مستحيلاً، فالتاريخ في معطياته العلميّة يظل بالضرورة نفعيّاً يبحث عن الحقيقة ويسعى لها سعيهاً بكل أدوات العلم المتاحة، بينما الرواية هي خطاب جمالي ترتاد الخيال، وتحلق في عوالمه التي لا نهاية لها. فالرواية التاريخيّة إذن يتجاذبها هاجسان، أحدهما الأمانة العلميّة، والآخر مقتضيات الفن الروائي، مما يجعل الجمع بينهما إجرائيّا كالجمع بين الماء والنار،(1).

يقول لوكاش: “إن كاتب الرواية التاريخيّة لا يلتفت إلى الماضي إلا من خلال قضايا حاضره، وهذا يقتضي أن يعتمد هذا النوع من الروايات على حقبة تاريخيّة موثقة تكون مادة للحكي، يملأ الأديب تجاويفها بما أوتي من ملكة التخييل، ويضفي عليها لمساته الفنيّة والجماليّة ليعيد تشكيل هذه المادة تشكيلاً فنيّاً جماليّاً، شرط أن يمتلك قدرة كبيرة على الحفر بالمرحلة بكل أبعادها الاجتماعيّة والأنثربولوجيّة.". (2).

وانطلاقا من هذا الموقف المنهجي في رؤيتنا لمفهوم الرواية والتاريخ، وإلى أي مدى يستطيع الروائي امتلاك القدرة على الربط بين المتخيل (الرواية) مع العلم (التاريخ)؟، وما الأدوات الفنيّة التي يمكن أن يستعملها في هذه المهمة، والأهم إلى أي مدى يكون حياديّاً، لا تطغى عليه عواطفه وانتماءاته ورغباته  الأيديولوجيّة. وهذا ما سنسلط الضوء عليه في رواية (رأس الحسين)، للروائي عبدالله خليفة.

وقبل الدخول في عالم الرواية لا بد لنا من وقفة أوليّة للتعريف به: هو، "عبد الله خليفة" خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1975. اعتقل من سنة 1975 إلى 1981. عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعيّة والثـقافيّة في الصحف البحرينيّة والخليجيّة، ونشر في العديد من الدوريات العربيّة. عضو في اتحاد الكتاب العربي في سوريا. وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «التضامن الكفاحي بين المسلمين»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، ببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والرغبة» من خلال اتحاد الكتاب المصريين. كتب منذ نهاية الستينيات في عدة أنواع أدبيّة وفكريّة، خاصة في إنتاج القصة القصيرة والرواية والنقد والدراسة. من أعماله الروائية: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، ساعة ظهور الأرواح، رأس الحسين، علي بن أبي طالب شهيدا، التماثيل، عثمان بن عفان شهيدا، عمر بن الخطاب شهيدا، عنترة يعود إلى الجزيرة، محمد ثائرا، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، الينابيع في ثلاثة أجزاء. ومن بحوثه النقدية والفكرية: :الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي"، "لاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية"، "نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية"، و"صراع الطاقات والطبقات في المشرق العربي وإيران". وله العديد من المجموعات القصصيّة. “إنهم ساهمون الأرض”.  “ضـوء المعتـزلة”. “الكسيح ينهض”. "أنطولوجيا الحمير". توفي في أكتوبر 2014 عن عمر يناهز 66 عامًا بعد معاناة مع المرض.

وفي روايته (رأس الحسين)، اشتغل في الحقيقة على حدث تاريخي إشكالي في أبعاده الدينيّة والسياسيّة. فعلى المستوى الديني، كان هناك سؤال مشروع يطرح نفسه على المتابعين لقضية الحسين وهو: لماذا كل هذا الزخم الديني والتقديسي الذي حظيت به شخصيّة "الحسين" أمام غيره من آل البيت وخاصة والده "علي بن أبي طالب"، حيث فاق حضورالحسين حضور والده، وهو ابن عم الرسول، وزوج ابنته فاطمة، وهو (بوابة العلم) كما وصفه الرسول، وهو من قال عنه عمر : (لو لا عليّ لهلك عمر)، وهو من شارك الرسول في قتاله كفار قريش في كل حروبه وغزواته نصرة لدين الإسلام، وهو أخيراً وليس آخراً من قال فيه الرسول ما قال في حديث الغدير: (اللهم والي من والاه وعادي من عاداه.).

أما على المستوى السياسي، فأين موقعه من موقع والده أيضاً، وهو الذي نام في فراش الرسول عندما قررت قريش قتله، وهو الخليفة الرابع الذي ولاه الجمهور لعدله وتمسكه في الحق ودفاعه عن المظلومين، وهو القائل: (لم يترك لي الحق صاحباً). وهو من نازعه معاوية على الخلافة وآلت إليه بتحكيم فاقد للشرعيّة، وبقتال أدى إلى انقسام المسلمين وظهور الخوارج ومقتله على يد الفرقة الباغية.

هذه إشكاليات تاريخيّة، لم تحسم فيها كتب التاريخ الأمر بعد، كون التاريخ أقلام السلطة من جهة، وأنه ظل شفاهيّا سائباً حتى جاء عصر التدوين 145 للهجرة، ولعبت في تدوينه الأهواء والمصالح بعد أن تفرق المسلمون إلى فرق وشيع دينيّة سادها صراع سياسي وعقيدي، كان ولم يزل أهم صراع فيها هو صراع شيعة عليّ مع البيت الأموي والعباسي لا حقاً حيث اعتبروا أن الأمويين بالذات ظلموا عليّاً وسلبوا حقه الشرعي في الخلافة، وامتد الصراع دائراً بين السنة والشيعة حتى تاريخه.

أما هذه المعطيات التاريخيّة حول قضية الحسين المبهمة في دلالاتها، يأتي المفكر الإيران الإسلامي الشيعي في انتمائه، وهو "عليّ شريعتي" ليبن لنا حقائق الصراع السني الشيعي، وخاصة في مرحلة الصراع العثماني الصفوي، في كتابه: (التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، ليقول : إن هذا الصراع بين العثمانيين والصفوين، ساهم في جعل الصفويين يركزون على شخصيّة (الحسين بن عليّ) ومنحه كل هذا الزخم العقيدي والسياسي والتقديسي، وهو الرجل صاحب العدل والمتمسك بالحق والفضيلة، حتى لو دفع روحه ثمناُ لذلك، متخذين من مسألة زواجه من أبنة يزدجرد (شهربانويه بنت يزدجرد الثالث). موقفاً سياسيّاً وعقيديّا عملوا من خلاله على مصادرة الإسلام وجعل أأمته في ذرية الحسين، وهم الأئمة الاثني عشر، وعلى هذا الأساس لم يزل هذا المذهب بقيادة ايران وهي الحامية له، والعاملة على نشره في العالم الإسلامي.

المعمار السردي والفكري للرواية:

إن الروائي "عبد الله خليفة" في روايته (رأس الحسين)،  يشتغل على مسألة مقتل "الحسين" انطلاقا من الموقف الصفوي الشيعي، وبالتالي منحه في هذه الرواية مكانة لا تعلوها مكانة من الشخصيات الإسلاميّة وفي مقدمتها الرسول نفسه ووالده علي بن أبي طالب. كما بينا قبل قليل، وما سنبينه في عرضنا التالي:

تقوم الرواية على مسألتين أساسيتين هما:

المسألة الأولى: اغتصاب الأمويين الخلافة من "علي بن أبي طالب" بقوة السلاح، فجاء "الحسين بن علي" ليطالب في الخلافة من "يزيد بن معاوية" معتبرها حقاً مشروعا له، رغم أن "الحسن بن علي" أخاه الأكبر قد تنازل عنها لمعاوية وفقاً لاتفاق بينهما. لقد حاول " يزيد" إرضاء " الحسين"، مقابل تنازله عن موقفه، إلا أنه رفض، وكان هناك من يحرضه على الثورة ضد " يزيد" من أهل المدينة المنورة والعراق وخاصة في الكوفة، وعندما جاء من المدينة المنورة إلى الكوفة لتجهيز جيش لقتال يزيد، لم تجر الأمور كما يشتهي حيث تخلي عنه الكثير ممن شجعه على الثورة من أهل الكوفة خوفاً من واليها "عبيد الله بن يزيد"، ولم يبق معه إلا أهله وأخته زينب وبعض المقاتلين، ومع ذلك قرر قتال جيش يزيد فكانت معركة "كربلاء" التي قتل فيها ومن معه من الرجال، وقطع رأسه الذي شكل العمود الفقري لعمارة هذه الرواية وسردها.

أما المسألة الثانية: فهي نمط شخصية الخليفة "يزيد بن معاوية" التي اشتهرت بالفساد، كشرب الخمر واقتناء الجواري وقضاء ليالي الغناء والطرب، من جهة، وإهمال الرعيّة وشؤون البلاد وجمع الأموال والثروات الطائلة على حساب جوع الرعية وقهرها وظلمها وتسليط الفاسدين على رقابها من جهة ثانية. وهنا يأتي موقف "الحسين بن علي" المعارض لسياسة "يزيد" ومطالبته بترك الخلافة لأهلها الشرعيين كي يقوم بإعادة أمور البلاد إلى وضعها الصحيح الذي يرضي شرع الله.

إن أهم حدث في الرواية والذي ابتدأت به الرواية هو مقتل " الحسين" وقطع رأسه في معركة غير متكافئة.

وأهم شخصيات الرواية بعد "الحسين" الخليفة "يزيد بن معاوية"، ويأتي بعدها شخصيات ثانوية ومنهم (ابنه معاوية وزينب بنت علي، وزوجة الحسين وهند زوجة يزيد)، وهناك شخصيات أخرى من عساكره الذي خاضوا معركة كربلاء وهي من شكل الحيز الأكثر في أحداث البناء المعماري للرواية الدرامي والسردي. وهم (الشمر بن جوشن" الذي قطع رأس الحسين في معركة كربلاء. وحمزة المهرج المسيحي الذي أسلم، وقد عرف بعدّة أسماء أخرى مثل (جعدة وصموئيل). وهناك "عمر بن سعد" قائد حملة كربلاء. و"عامر التميمي وابن عمه عمران". وشخصيات هامشية من العساكر كـ"مجبل وبكار وهشام" وهناك والي الكوفة" عبيد الله بن زياد).

أهم دلالات الرواية كما جاءت في سياقها التاريخي على لسان شخصياتها:

ظهور الدلالات النرجسيّة والفوقيّة وامتلاك شهوة السلطة للخليفة "يزيد بن معاوية"، عندما أخبره قائد الحرس بمقتل "الحسين بن علي" قائلاً: (هزم جيش الحسين يا مولاي وقطعت رأسه وسحق وجنده كما يسحق القمح). ص30. فرد عليه يزيد : (هذه بشارة .. لم يعد الرجل المغرور يهدد ملكي .. انتهى الحسين ..الآن سوف أنام مستريحاً، سوف أهدأ ... وزعوا الحلوة على الأطفال. ) ص30. ثم اتجه إلى القائد قائلاً: (قل لي .. كيف تضرع لي لأسامحه؟.. كيف بكلا من أجل أن لا يموت ؟.. ألم يكن اسمي آخر ما تفوه به؟.. ألم ينحني ليطلب الرأفة مني ؟.. الم يزلزل اسمي الهائل العظيم؟.. فيردّ عليه قائد الحرس: (لا يا مولاي لم يتذلل .. لم يقل ذلك يا سيدي.) ص30.

وفي الرواية أيضاً موقف "معاوية بن يزيد" من الخلافة وانعزاله وزهده بالدنيا والسلطة وخاصة بعد مقتل الحسين..  يقول له والده بعد فشل حواره معه حول عودته إلى عالم الخمر والسهر والجواري والضحك: (دعك من هذا التألم والتحسر على رثاء البشر ومسايرة القوم، وكن قوياً جباراً تسحق الناس العصاة بقبضة يديك العنيفة .. كفى لا تتخاذل ليس نحن الذين نسكب دمعة أو ترتجف أيدينا وقت الذبح.) ص44. يرد عليه معاوية: (اتركني يا أبي، دعني أقرأ القرآن وأصلي .. إني لم أر المجزة وقلبي مثل طائر مذبوح.) ص 44.

وهناك ايضاً بدء تبدل موقف حمزة المهرج من جند الخليفة "يزيد" بعد مقتل الحسين وما تركه هذا الفعل من تأثير نفسي وأخلاقي عليه، وهو الذي اختطف رأس الحسين من الشمر  كي يقدمه للخليفة يزيد طمعاً في الجائزة أو المكافأة لعله يحسن وضعه الاجتماعي والمادي، وهذا كان موقف كل من العساكر الشمر وهشام أيضا، حول من سيحتفظ برأس الحسين للفوز بالمكافأة. هنا يبدأ يتخيل أن رأس الحسين يخاطبه فيتحدث معه عن العاصفة الترابية التي نزلت انتقاماً على عساكر الخليفة يزيد، وهم يحملون رأس الحسين على سن الرمح عالياً تباهياً بنصرهم. يقول حمزة مخاطباً نفسه متحسرا على تركه قصر الخليفة والتحاقه بعسكر الخليفة لقتل الحسين: (كيف يا حمار تركت القصر بجواريه وملاهيه لتلتحق بهؤلاء الذئاب البدو القساة الحفاة الذين يبيعون دينهم بدنياهم.). ص36. وهنا يأخذ شعوره بالذنب يتصاعد حتى يجد نفسه يتحدث مع رأس الحسين. فمع هبوب العاصفة الرمليّة الشديدة يخاطب حمزة رأس الحسين قائلا: (متى تخف هذه العاصفة؟.). فيرد عليه رأس الحسين الذي يحمله ويلفه في خرقة: (سوف تخف هذه الرمال الثائرة بعد ساعة أو ساعتين، فلا تخف، ولكن كيف ستخرجون من متاهة الحساب وعذاب الضمر وأسئلة أخرى). ص47. فيرد حمزة مخاطباً الحسين: (هذه تتكفل بها أنت يا سيد الشهداء.)ص47. ثم يتابع الحور بين حمزة ورأس الحسين منتقدين سلوكيات عساكر المسلمين وقيمهم: (تقتلون وتشربون الخمر، وتمارسون الفساد ثم تذهبون إلى الحج وتبدؤون الصلاة وممارسة الطقوس وكأن كل شيء قد ذهب وعفا الله عنه.) ص47. وهم بهذا الحوار ينتقدون أيضاً يزيد وولده معاوية وفساد الخلافة الأموية ص49.

إن موقف حمزة المستاء يظهر أكثر وضوحاً عند اقتراب القافلة من دمشق بساقه التي طعنها أحد العساكر الطامعين برأس الحسين لأخذ الجائزة، وقد أردفه عامر خلفه على حصانه كي يعالج ساقه في دمشق يقول مخاطباً نفسه: (إنني أتتبع عبر الأخبار موكب رأس الحسين.. هل يمكن أن يحمل رأسه إلى الخليفة؟.. أهذه هي الخلافة التي نريدها؟.. بعد أن انتشرت الجثث في الصحراء وسال خيط من الدم طويلاً إلى الحقول والمدن). ص 98.

كما نجد في متن الرواية موقف "زينب بنت عليّ بن أبي طالب" شقيقة الحسين وحوارها مع الخليفة يزيد عند وصوله إلى قصر الخليفة مع من تبقى من آل البيت. تحدث نفسها مقارنة بين هذا الملجأ (القصر) الذي يقطنه يزيد.. كيف كان زمن والدها ملجأً للفقراء والمساكين وكيف تحول الآن إلى وكراً للسرقة ومقر للقتل والبغاء.) ص 52.

دخلت زينب قاعة القصر لتجد أمامها "عبد الله بن زياد" والي الكوفة جالساً على كرسيه، فتهمس لنفسها: (يا لله هذا النجس هو من أباد سلالة المصطفى). ص52. وهنا يدور حديث بينها وبين والي الكوفة الذي بادرها بالقول: (ما حل بكم نتيجة لعصيانكم طاعة الخليفة، وهذه نتيجة العصيان، لقد أذلكم الله.) .. فردت زينب عليه: (كيف يذل الله من أطاعه وعمل للناس خيراً ويقف مع من قتل خير البشر. كيف يقف مع من هو اتفه من ذيل بعير أجرب، وسيف مأجور عند قاتل نهم للمال والنساء .. بل قل هي السياسة والقوة، وهي اليوم لكم وغداً عليكم، فلا تستعجلون قطع رقابكم ونهب خزائنكم.). ص53. وهنا نقف قليلاً عند قولها واصفة الحسين بأنه: ( خير البشر). وهي في وصفها هذا  تتجاوز والدها عليّ والرسول نفسه في الخيرية!!!!.

كما نجد في المتن موقف "الشمر بن جوشن" الانتهازي وندمه أخيراً على قطع رأس الحسين وهو يخاطب حمزة قائلاً: (لستُ خائفاً، ولكنني حزين.. ذلك القطع للرقبة لا يزال مرئيّاً أمامي وكل الكؤوس لا تستطيع أن تزيله .. النوم لا يأتي فمنذ قتلته لم أنم، وجوه كثيرة تظهر لي .. وجوه لم أرها من قبل تتجسد أمام عيني.. ثمة بكاء مرير مثل نشر العظام.) ص61.

أما عن حالة الرعيّة في هذه الرواية فَيُسَلّطُ الضوء على تغير مواقف الرعيّة وسخطهم على خلافة يزيد بعد انتشار مقتل الحسين وقطع رأسه. فهذه إحدى بنات الحسين تقول لرباب: (نحن النسل الذي يريدون أن يجتثوه). ص66. ثم تتابع واصفة حال الرعية : تأملي هذه الوجوه الشائخة من الحمالين ومقدمي العلف والحرس المساكين المرتعشين خوفاً من أية نأمة سوط .. هؤلاء الأهالي المتجمهرين وراء السيوف.. المدمنون على الصمت والخوف.. وهذه السطوح المرتجفة والمقاهي الثرثارة). ص68. ها هو رأس الحسين يظهر أمام الرعيّة مرفوعا على رأس رمح وكأنه راية للحريّة.) ص68. ويهتف صوت: (أيها الناس أن الزور الذي يقولونه لكم لكي لا تستقبلوا الحسين، هو كذب محض .. الحسين هنا .. الحسين لم يتوار.. الشهداء أحياء.) ص69. وصوت آخر يصرخ: (أي الناس .. إن الموت ما أخطأ الفتى جاء إليه بإرادته لأنكم دعوتموه للقتال وتخليتم عنه.). ص 70. وهذا الموقف المستاء ذاته ظهر عند المسحيين في موقف الأب "يوحنا" عندما اقتربت القافلة التي حاربت الحسين من الدير في الصحراء قرب دمشق طالبين الماء والطعام ورفضه تقديم مطالبهم.

ونجد في متن الرواية موقف "الخليفة يزيد" من "زينب" وما تبقى من آل البيت، حيث بدأ يتغير موقفه مع بدء تغير مواقف الرعيّة وتعاطفها مع آل البيت .. شعور بالندم والذنب راح يجتاح يزيد ليطلب السماح من زينب وانهاء المسألة كلها كي تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.

قال يزيد لزينب وعائلة الحسين مبرراً قتله للحسين: (بأن الحسين شق عصا الطاعة على حكمه رغم أنه حاول إرضائه بما يريد.) ص120. فترد عليه زينب: (كان لا بد أن يقاتلك يا يزيد وأنت أسوأ من يمكن ان يحكم .. أنظر ماذا فعلت .. سفكت دماءً كأنها بحيرة من الماء.. فمن العار إن لم يتجرأ عليك الحسين وهو زهرة رجال العرب. ). ص 120.

اما آل مروان بن الحكم الطامحون بالحكم وعدم ضياعه من البيت الأموي وتذمرهم مما جرى من سوء خلافة يزيد، الأمر الذي دفع مروان وبعض أهله يأتون إلى قصر يزيد متذمرين فيقول مرون للخليف يزيد: ( يا خليفتنا ورأس دولتنا، لقد تماديت كثيراً في سطوتك، فهذه المدينة التي لم تعرف سوى الهدوء والحلم، تعيش الآن في خوف دائم لا أحد يأمن على نفسه في الليل، وعبيدنا وموالينا راحوا يتذمرون ويهربون.. والغزوات توقفت، والعسكر في الثغور صار نائماً.. وما هذه الرأس التي علقتها وأردت الشكيمة منها فصارت سبباً للفزع والخوف والشكوك. ). ص 149.

في نهاية الرواية يتخلى الجميع عن يزيد بعد أن سمعوا تخلي الشمر بن الجوشن وحمزة وغيرهم من عساكر يزيد الذين شاركوا في حملة كربلاء عنه .. وهنا يقول يزيد: (صارت مملكتي كلها مخاوف.). ص171. اما حمزة فيقود ثورة شعبية ضد الخليفة مع بعض الرجال المتذمرين من مواقف يزيد يُقتل فيها الكثير من الناس ويختفي رأس الحسين: ص.147.

من خلال كل ما جئنا إليه في هذه المواقف، أجد أن الرواية تقوم في فضائها الأساس على موقف أيديولوجي للكاتب يؤمن إيمانا مطلقا بموقف الحسين وشخصيته وقدسيته، الأمر الذي أشعرنا بعدم الحياديّة في طرحه لقضية الحسين وانحيازه المطلق لمواقف الحسين ومن يمثلها في تاريخنا المعاصر، وهذا ما يفقد الرواية مصداقيتها، وربما ستجد صداها عند من يتمسك اليوم بموقف الحسين من الشيعة الجعفريّة بشكل خاص، على اعتباره يشكل وسيلة لإحياء مشروع سياسي ناضل الشيعة عبر تاريخهم الطويل من أجل تحقيقه، وهو عودة الخلافة لمستحقيها كما أشارت الرواية بأكثر من موقف في متنها.

الرواية في الشكل:

دلالات اسم الرواية:

اسم الرواية هو الاسم أو الرمز الذي يوضّح مضمون الرواية، فهو يمثل الخطوط المميزة والهامة في بنيتها، وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنوية لها. فالاسم هو الدعامة التي يرتكز عليها هذا البناء، في حالة ثباته وتفاعله وتواتره، وعاملا ً أساسيّا من عوامل وضوحه. ويأتي هنا اسم (رأس الحسين) بكل دلالاته ليمثل ظاهرة تاريخيّة لها حضورها في التاريخ الإسلامي ماضيّاً وحاضرا. فالحسين ومأساة كرباء أخذتا تشكلان اليوم وبشكل خاص عند كتلة كبيرة من المسلمين الشيعة (الجعفريّة) موقفاً إنسانيّاً وسياسيّاً وعقيديّاً (مذهبيّاّ)، راحت هذه الكتلة تشتغل عليه بمفردات أيديولوجيّة وأسطوريّة مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة وثبات الموقف ومناصرة الحق ومواجهة الظلم. وهذا هو مضمون الرواية في الأساس وأهدافها.

أما صورة الغلاف فقد حملت دلالات الحدث لواقعة كربلاء التاريخيّة من جهة، مثلما عبرت في ألوانها الحارة المشبعة بالسواد، لتدل على عمق المأساة ودرجة الحزن الكامنة في هذا الحدث التاريخي كما يراها الكاتب، والكثير من محبي الحسين، مع وجود بقعة لون أقرب إلى الصفار أو الضوء في صورة الغلاف، تشير إلى فسحة من الأمل في خلاص هذه الأمّة من قهرها وظلمها واستلابها وتشيئها واغترابها الذي عاشته منذ قرون عديد ولم تزل فيه.

الشكل العجائبي للرواية كنمط حداثي:

تعتبر رواية (رأس الحسين) من الروايات التي تدخل في فضاء أو عالم الرواية العجائبيّة. والمقصود بالرّواية العجائبيّة، تلك الرواية التي ينقطع التشخيص فيها عمّا يمت للحقيقة أو المشاكلة، وهذا ما يساهم في إضعاف صلتها بالواقع، لتصبح هي مرجع ذاتها، وفق قوانين الفوق- طبيعي أو الواقعي، فيصبح من أهم خصائصها تداخل الواقع مع الخيال، وترك القارئ أو المتلقي على حيرة بين عالمين متناقضين، عالم الحقيقة الحسيّة وعالم الوهم والتخييل، وحضور اللاسببيّة في أحداث الرواية وشخوصها وسردها. ولذلك فإن العجائبيّة تحتضن مختلف البنيات النفسيّة المتعبة والتواصلات الاجتماعية الهشّة الهلاميّة التي تكرس السلبيّة وزيادة هدر قدرات العقل وتعطيل المنطق. إن العجائبي في المحصلة يفسح المجال واسعا أمام حضور وفاعليّة الخيال والقلب والحُلم والرغبة في اليقظة واللامعقول، لتحقيق ما عَجز عنه العقل في الواقع، فالخيال والحلم والوهم يقدمون حلولاّ ملتبسة لواقع حقيقي ملموس، وبالتالي  يتحوّل الواقع بفعل آليّة عمل هذا المنطق اللاعقلاني العجائبي، إلى شلالٍ لتحقيق كل الأمنيات، وتبرير استمرار تأثير ما فوق الطبيعي في الطبيعي، وغير العقلي في العقلي، ليزداد الغموض في رؤية الإنسان وتصوّره لنفسه ولرغباته. في الوقت الذي يُنتظر من إنسان اليوم الحصول على المعرفة العقلانيّة القائمة على السببيّة، والتشبع بروح الحداثة والتحلي بالمنطق وسلامة التفكير وقوة الخلق والابتكار وروح التجديد والإبداع، وأن العمل دليل الحياة، مع امتلاك أخلاق التسامح والصبر والاستمرار في هذه الحياة والتمتع بها. ففي مثل هذا التوجه نحو المعرفة العقلانيّة التنويريّة، ستسعفهم هذه المعرفة العقلانيّة وتطاوعهم المادة لفهم قوة “الشيء” مهما كان صغيراً. (3).

ففي رواية (رأس الحسين) يركز الروائي " عبد الله خليفة). أساساً على شخصيّة الحسين، بل على رأسه بالذات الذي ينقله من الواقع إلا عالم العجائب لدرجة أسطرته، فالرأس ينظر ويبتسم ويتكلم ويؤثر في واقع الطبيعة والأشخاص وأخلاقهم ونفسياتهم، ومع اختفاء الجثة، يبقى رأسه معلقاً على الرمح في موكب جند الخليفة "يزيد" ليشكل طاقة ثوريّة خلاقة داخل نفوسهم. كل ذلك يأتي منطلقاً من تيمة المقدس والمتعالي في شخصيته، حيث أرد الراوي له - وكما يريد محبيه اليوم - أن يشكل عالم الحلم في مقارعة الظلم والفساد داخل عالم الحقيقة.. عالم خلافة يزيد والبيت الأموي وحكام الحاضر أيضاً.

لا شك أن رأس الحسين قد شكل مهماز التحولات الطارئة على المكان والزمن في بنية أحداث الرواية، وهذه الطاقة ما كان لها أن تحدث لولا انتقال الكاتب من عالم الواقع إلى عالم الغرابة المدهش، أو المعروف في ثقافتنا الدينيّة بعالم المعجزات والكرامات، التي تبلغ أقصاها في العجائبي.

إن "عبدالله خليفة" لم يحرص على الحقيقة التاريخيّة التي أشرنا إليها عند تفريقنا بين التاريخ كعلم والرواية كمتخيل، لذلك هو انتقل من الحقيقة التاريخيّة التي لها مقومتها الموضوعيّة والذاتيّة إلى عالم تخييلي صارخ، هو العالم العجائبي. لقد استحضر الروائي عبد الله الخليفة معظم عوالم عجائبيّة روايته من خلال رحلة رأس الحسين من كربلاء إلى دمشق، وكأن الحسين أبى إلا أن يمضي في طريقه حتى يهدد عروش الظلمة. فالحسين عدّه الروائي  حقاً لا يمكن أن يقهره قتل، ففكره المشبع بالعدل وعدم التنازل عن الحق ورفض الذلّة والهوان، استطاع أن يتمرد على جسده المادي المختفي، وأن روحه ستظل تسري في النفوس عزة وكبرياء.

إن عبدالله خليفة بهذا النزوع نحو العجائبيّة لا يقصدها بحد ذاتها ولا يرمي للتسليّة والمتعة، بقدر ما تنبع من إيمان حقيقي يرمي إلى جعل قضية الحسين ورأسه رمزاً كبيراً يستمر في واقع الناس اليوم ليتحدوا به القهر والظلم والهزيمة، وهو الأمر الذي فعله داخل النص ذاته، حين حول حمزة وبعض المسحوقين من صحبه العساكر في واقع الناس إلى ثوار.

إن هذا الإصرار على المنحى العجائبي داخل النص الروائي من قبل " عبد الله خليفة" بوظيفته الرمزيّة، هو محاولة يشتغل عليها "الشيعة الجعفريّة" في تاريخنا المعاصر لنقل قضيّة صراع حسين على السلطة ومأساته في الماضي، إلى حاضر الناس وواقعهم، بل وإلى مستقبلهم وتطلعاتهم أيضا، وليس الأمر غريباً على كاتب مثقف في حجم "عبدالله خليفة" الذي ظل في كل ما خط يقف إلى جانب المحرومين والمسحوقين الذين سجن من أجلهم، يبحث لهم عن شعاع من أمل، وعن حلم يتشبثون به بحثاً عن كرامتهم وشرفهم، ولكن بطريقة تحرك العواطف والأرواح والحلم أكثر من تحريكها للعقل والمنطق والفعل الثوري القائم على العلم ومعرفة الواقع والشروط الموضوعيّة والذاتيّة الحاضنة لأية ثورة أو رغبة في التغيير. وعلى هذه المعطيات لا يمكن  للحكايات العجائبيّة في أوساط اجتماعيّة كثيرة ومتعددة الانتماءات والمرجعيات الدينيّة بكل تفريعاتها، وفئاتها العريضة التي تشتغل على الخرافة والأسطورة وبما لديها من أدوات السخريّة والمسخ والإهمال والنسيان وإلقاء اللوم على الآخرين، أن تصبح جيشا يحارب من أجل خلق عوالم من التجديد والتطوير والحداثة والدعوة لتطبيق القانون.

هكذا، يظهر وجه رواية "رأس الحسين" العجائبيّة التي تقدم نفسها لإنساننا العربي المعاصر حلماً لتحقيق العدالة والمساوة ونفي الظلم والاستبداد في سردها العجائبي، نراها تدفعه للحيرة بفعل ما تخلقه من مفارقات وتناقضات وأوهام وتخيلات عجائبية. فالعجائبي لا يستقر في بؤرة أمنةٍ أبداً، وإنما يزرع الشك والريبة حيثما حلَّ وانتقل، كونه بعيداً عن العقل والمنطق كما بينا في موقع سابق، فالعجائبي عندما يحاول أن يحوز على قدرات العقل، لن ينجح في إيجاد حلول يحقق من خلالها التوازن بين العقل والخيال وبالتالي الحلول المنطقيّة، فالمتخيل والوهم  يكفي أن يغمض المرء عينيه، حتى يتخلص من واقعه الحسي وأحلام يقظته في الخلاص، فالحُلمُ هنا مفتوح على مصراعيه، لا يقف أمامه حاجزٌ ولا حتى مراقب، وقد يطول الغياب أو يقصر، تبعاً لمستوى الاستسلام لليأس ومدى الابتعاد عن العقل الذي يصبح في هذه الحالة مصدر توتر وقلق وصداع، ومن ثم ندرك كيف سيتحول عشق العجيب إلى إدمان.

شكل السرد في الرواية:

صيغة الرواية في سرد امتاز بالتدفق والسلاسة والانسيابيّة والبساطة والتنوع وتسارع إيقاع.. سرد جاء حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات، تتم فيه عملية انتقال السرد البسيط والسهل للشخصيات من الظاهر إلى الباطن في الغالب وعبر منولوج تتحدث فيه الشخصيات مع ذاتها لتعبر عن قلقها وخوفها وحلمها.

لقد افتقدت الرواية إلى السرد المتتالي أو التسلسلي فكان هناك في السرد القطع والوصل داخل البنية السردية للرواية، مما جعلها لا تسير باتجاه واحد. حيث وجدنا بَالبنية السردية التي ينقلها الراوي مجموعة من السرديات غلب عليها الشكل التناوبي منه حيث  يسرد الراوي قصة أولى ثم يذهب للثانية ثم يعود للأولى ثم يذهب لثالثة فيعود للثانية وهكذا، وما يجعل هذا النوع من السرد متاحًا وجود قواسم مشتركة ما بين شخصيات وأحداث تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم.

إن السرديات المختلفة تتوزع على الفصول العديدة التي وصلت إلى (41) عتبة أو محطة، وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، فالمتلقي لا ينتهي من السردية الواحدة مرة واحدة ، وإنما  يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى، بالرغم من أن العمود الفقري لكل هذه العتبات أو المحطات واحداً، هو رأس الحسين وظلم يزيد.

الزمان والمكان في الرواية:

لقد ارتبط المكان والزمان هنا، وهو زمن ومكان كربلاء في هذه الرواية برؤية عالم النص وتشكيلاته من الصور والأحداث والشخوص، مما جعل الرواية كاشفة عن أعمق المشاعر الإنسانيّة عبر شخوصها.

لغة الرواية:

لقد جاءت اللغة المتداولة في النص الروائي بسيطة عند شخصيات الرواية بكل انفعالاتها، وبمفردات، وهي تناسب وعي الشخوص وثقافتها، ومن زوايا أخرى تتناسب ومصالحها وهمومها وعواطفها. كما تجلت عبقريّة الروائي في استخدم هذه اللغة بسماتها وخصائصها التي جئنا عليها أعلاه لتشكيل صور إنسانيّة لدوائر تتسع لهموم البشر الصغار وظلم الكبار وفسادهم، داخل فضاء كوني واسع مشبع بالتناقضات والصراعات والمصالح المتناقضة. أي لم ينس العمل الروائي توصيف حكاماً ظلمة قساة الهاهم التكاثر وعم حياتهم الفساد، يقابلها صور أخرى لرعيّة محرومة ومضطهدة ومفقرة تبحث عن الحرية والعدالة ولقمة العيش.

طموح الرواية:

إن كل ما تطمح إليه الرواية هو الخروج عن السائد والشائع والمألوف في عالم عربي متخلف فقدت علاقاته منطقيتها وساد فيها طغاة امتلكتهم شهوة السلطة،  فـ :"عبد الله خليفة" يطمح في روايته بكل عجائبيتها بناء علاقة إنسانية أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالحريّة والتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة وفقر وجوع للمحرومين، وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر، وتتربع فيها العدالة على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك... هو يبحث عن فضاء في عالمنا العربي يكون فيه النقد بيّن والحوار مع الآخر المختلف واحترامه بيّن، وخاص على مستويات الذات والآخر في وجهات النظر. دون أن نغفل الموقف الأيديولوجي بأبعاده الدينيّة الذي يتبناه الروائي. هذا ويظل الأدب ومنه الروائي يشكل الفضاء الذي تتنفس فيه أصداء الشخصيات وتتفتح فيه أبعادها ومحاورها.

الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم – ناشرون – منشورات الاختلاف.  الجزائر – العاصمة الجزائر - دون تاريخ نشر – تقع في 174 صفحة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية.

.........................

الهوامش:

1- (جريدة وطن برس العراقية العربية في أستراليا  عربية مستقلة . الدكتور: عزالدين جلاوجي – الجزائر). بتصرف.

2- (في رواية “رأس الحسين ” للروائي البحريني عبدالله خليفة - جريدة وطن برس العراقية العربية في أستراليا  عربية مستقلة - الدكتور: عزالدين جلاوجي – الجزائر.).

3- ( الرواية العجائبية في الأدب المغربي الحديث: دراسة نفسية اجتماعية كتاب للدكتور خالد التوزاني – موقع إيطاليا تلغراف.). بتصرف.

بقلم : دوي جورج
ترجمة: د. محمد غنيم
***
يتذكر دوي جورج لعب الكلمات المبدع والحياة الحرة لهذا العملاق الأدبي الويلزي
***

هذه المسألة شخصية. ديلان توماس يهيمن على الشعر الويلزي الحديث كعملاق ذي وجنتين سمينتين وبدلة رثة. لذا، يجب على أي شاعر ويلزي يحاول أن يكون عصريًا أن يمر من خلاله أولًا، سواء أراد ذلك أم لا — وأنا منهم. ومن الصعب حتى أن نتعامل معه بألفاظ بسيطة، لذا أخشى أن يكون هذا هو ما سنعلق به هنا.. لقد كان ديلان هو الذي صنع الطقس، والآن أصبح بوسعنا نحن الباقين أن نختار بين أن نغرق في المطر، أو أن نحمل معنا مظلة، أو أن نتوجه إلى مكان آخر تماماً.
قبل خمسين عامًا، طرح الناقد هارولد بلوم نظرية شهيرة بعنوان "قلق التأثير". كانت الفكرة الأساسية التي طرحها بلوم هي أن الشعراء منذ عصر التنوير كانوا يكتبون دائمًا في ظل أسلافهم — هوميروس، دانتي، شكسبير. أما أفضل الشعراء المعاصرين أو "الأقوى"، فيحولون عقدة النقص هذه إلى ميزة. يتخذون زمام المبادرة في مواجهة ديناميكية تنتج أعمالًا جديدة. لكن، مهما كانت نجاحاتهم في هذا الصراع، تظل عملية الكتابة مليئة بالقلق:
لأن الشاعر محكوم عليه أن يتعلم أعمق رغباته من خلال الوعي بذوات أخرى. القصيدة في داخله، ومع ذلك، فإنه يختبر العار والعظمة حين يجد نفسه في قصائد—قصائد عظيمة—تتجاوز حدود ذاته.
إن ديلان توماس هو ذلك الكائن العملاق، الذي يتجول في خلفية الأدب الويلزي. ومن خلال قراءته على مر السنين، اكتشفت العديد من الرؤى المألوفة والموسيقى الغريبة التي تتعلق ببلدي، المكان الذي وصفه ديلن بشكل لا يُنسى بـ "التل الصاخب في ويلز". وغالباً ما أرى الآن، عندما ألتقط قلمًا أو أجلس أمام حاسبي المحمول، وجهه غير المبالي والمندهش قليلاً يحدق بي. ها هو هناك، مستندًا على مرفقه في العشب، ورباط عنقه مجمّع بشكل عشوائي تحت سترته الصوفية. ها هو هناك، يحتسي البيرة في زاوية من حانة فيتزروفيا، متقمصًا دوره كمغني البلاط ـ أو مهرج البلاط ـ في المشهد البوهيمي اللندني.
*
في العديد من أعظم قصائده، يجعل ديلن توماس الطليعة الفنية جذابة وغامرة كما لم يفعل أحد سواه.
أو ها هو ذا، في رسالة عام 1950 إلى الشاعر الأمريكي جون ف. نيمس وزوجته، يرسم صورة ذاتية أفضل وأكثر حيوية من أي شيء يمكنني أن أبتكره:
هل تذكرني؟ مستدير، أحمر، مكتنز، مثل تفاحة منتفخة بين الشعراء، صلب كالمسامير المصنوعة من جبن الكريما، أسناني متباعدة، أصلع، فاسد الرائحة، جامع عظيم للغبار ومغناطيس للعث، مولع بالبيرة، خائف من الكهنة، والنساء، وشيكاغو والكتاب والمسافة والوقت والأطفال والأوز والموت، عاشق، خائف من الحب، عرضة للتنقيط.
ولن أتردد في القول إن ديلان لم يكن مواطناً في جمهورية الشعر أكثر مرحاً من هذا المواطن. وتتضمن هذه القائمة العديد من تصرفاته الكوميدية المميزة: التلاعب بالأصوات، والارتجالات في اللغة العامية والعبارات المأثورة، والتبديلات الدلالية. إن عبارة "صلب كالمسامير" بحد ذاتها قد تكون نكتة ساخرة، ولكن إذا أضفنا إليها عبارة "مصنوع من الجبن الكريمي" فإن التعبير يفتح الباب أمام طبقات من التعقيد. ربما هذا شخص يظهر بطريقة ما— أنه صلب، متحفز، غير قابل للاهتزاز—ليخفي حقيقة أنه في الواقع ليس كذلك على الإطلاق. إذا اقتربت كثيراً، قد يتحول إلى كتلة لينة في يديك. صورته العامة "عرضة لأن تتقطر".
ولكن هناك كلمات أخرى حقيقية تُقال على سبيل المزاح. فهناك صورة خاطفة لجسد الشاعر الذي تقدم به العمر قبل الأوان، وقد تم تضخيمها من أجل التأثير، ولكن فقط بالطريقة التي يبالغ بها رسام الكاريكاتير الجيد في ملامح موضوعه لإثبات التشابه . في تلك المرحلة من حياته—كان في السادسة والثلاثين—بدأ سحره الشاب ذو الشعر المبعثر يبهت، تمامًا كما بدأت الأوعية الدموية في أنفه بالتوسع. كان يحقق شهرة عالمية ككاتب ومذيع ومتحدث، لكنه كان يكتسب سمعة أيضًا كـ"عاشق للمتع الحياتية". اسأل أي شخص عرفه قليلًا، وستجدهم يقولون إنه كان روح الحفل، "مجنونًا بالبيرة"، ولا يُعتمد عليه إذا أقرضته عشرة جنيهات. أما أولئك الذين عرفوه عن كثب فقد يذكرون سخاءه المتقطع، واجتهاده الذي كان يُخفيه خلف مظهره المتهور، أو خجله الذي كان يظهر بين فترات التفاخر المدعوم بالكحول—لكنهم كانوا بنفس القدر من الاحتمال أن يُتركوا دون موعد أو يخسروا أموالهم.
من حسن الحظ إذن أن كلماته كانت جميلة. فالمقطع الافتتاحي لأغنية "فيرن هيل" يمثل إعلانًا جيدًا عن متعة قراءة ديلان في أفضل حالاته:
الآن وأنا شاب وسعيد تحت فروع التفاح
حول البيت المتمايل وسعيد كما كانت العشب أخضر،
الليل فوق الوادي نجمي،
سمح لي الزمان بالتحية والصعود
ذهبيًا في أيام عينيه اللامعة،
ومكرمًا بين العربات كنت أمير المدن التفاحية،
ومرة تحت الزمان كنت أتمتع بسلطة الأشجار والأوراق
تتبعها الزهور البرية والشعير
أسفل أنهار ضوء الثمر المتساقط.
تخلد قصيدة "فيرن هيل" مزرعة كارمارثنشير حيث قضى ديلان صيف طفولته، على بعد 30 ميلاً من سوانزي، مسقط رأسه الصناعي. كتبت القصيدة في أعماق الحرب العالمية الثانية وتغمرها ألوان وردية مشبعة بتقنية الألوان الساطعة. كانت المزرعة الحقيقية خشنة كالأحذية القديمة - في قصة أكثر واقعية، كتب ديلان أنها "كانت تفوح برائحة الخشب الفاسد والرطوبة والحيوانات" - لكن هنا تتحول إلى جنة في الهواء الطلق. لا أستطيع التفكير في عمل يلتقط الوهم الكبير الذي يجلبه الطفولة السعيدة أفضل من هذا: كيف يصبح الصبي المحبوب والمرح "أمير المدن التفاحية"، يمرح في مملكته. لا يتعين عليك أن تكون قد نشأت بالقرب من مزرعة تمتد على 15 فدانًا وبهما بستان لتعرف كيف يكون الشعور بذلك.
الصوت لا يقل أهمية عن المعنى. بل يمكن القول إن الصوت جزء أساسي من المعنى مثل تعريف أي كلمة أو عبارة. إيقاعات القصيدة تتنقل وتتمايل بينما يسير الآخرون ببطء. هناك كثافة من المقاطع المخففة، مما يضفي على النص حركة مرحة تشبه خُطا الحمل الصغير. على سبيل المثال، في عبارة "سعيد كما كان العشب أخضر"، تركز في الغالب على كلمات "سعيد"، "العشب" و"أخضر"، بينما تتسارع المقاطع الأربعة الأخرى، ممتلئة بالحيوية لملء الفراغات. كل سطر في القصيدة يختلف في إيقاعه عن الآخر.
في الوقت نفسه، وبجانب هذه التغييرات البسيطة، يُنشئ ديلان تصميمًا صارمًا للقصيدة. كل مقطع من مقاطعها الستة ذات التسعة أسطر يتبع نمطًا محددًا لعدد المقاطع في كل سطر. (النمط، لمن يرغب في العد، يكون: 14، 14، 9، 6، 9، 14، 14، 7، 9 في المقاطع الأولى والثانية والسادسة، و14، 14، 9، 6، 9، 14، 14، 9، 6 في المقاطع الثالثة والرابعة والخامسة). هذا الترتيب يبدو وكأنه استهزاء بالتقاليد الشعرية العريقة التي ورثها. إذا نظرنا إلى تاريخ الشعر الإنجليزي ككل، في جوهره تاريخ الوزن الإيامبي الخماسي — الوزن المكون من عشرة مقاطع، الذي نتلمسه في أعمال تشوسر وشكسبير وميلتون ووردزوورث — فإن هذا الأسلوب يمثل طريقة رائعة للابتعاد عن الوزن الإيامبي الخماسي. خطوط ذات الـ14 مقطعًا تتوسع بغنى متجاوزة هذا الحد، بينما تنتهي الخطوط ذات الـ6 و7 مقاطع بشكل مرح مختصر. أما الخطوط ذات الـ9 مقاطع، فتداعب الوزن الإيامبي الخماسي لكنها تتملص منه دائمًا؛ إذ تزيح تلك المقطع الناقص حرفيًا هذا الوزن عن استقراره المعتاد.
أرى في كل هذا نوعًا من موسيقى الجاز الويلزية. تحمل قصيدة "تل السرخس" نفس المهارة الفنية والتلقائية التي تميز موسيقى ديوك إلينغتون وجون كولترين. فالبنية الثابتة توفر للفنان مسارًا يسمح له بالتنويع دون الابتعاد كثيرًا عن الأساس. إلى جانب الإيقاع، نجد النغمات الفردية التي تشكل اللحن، ويمنح ديلان هذه التفاصيل نفس الاهتمام. في أرجاء القصيدة، يتناغم الصوت مع الصوت—مثل "أغصان" مع "بلدان"، و"شعير" مع "نجوم"—في عرض صوتي نابض. (يُعرف هذا التناغم في الشعر بـ "التوافق الصوتي" أو التناسق بين حروف العلة). تتكرر الكلمات المفتاحية من مقطع إلى آخر، مثل "أخضر" و"زمن"، اللتين تندمجان في النهاية في العبارة البديعة "الزمن احتواني أخضر ومائلاً نحو الفناء". أمام هذه البراعة، لا يُدهش المرء حين يعلم أن توماس عمل على أكثر من مئتي مسودة للقصيدة، مصقّلاً عملاً أدرك أنه سيكون قمّة أعماله.
نُشرت قصيدة "تل السرخس" أول مرة في المجلة الأدبية هورايزون، ثم وصلت لجمهور أوسع عندما ظهرت في مجموعة ديلان بعد الحرب، وفيات ومداخل عام 1946. جذب القراء إليها بسرعة، معتبرين إياها مرثية لبراءة الطفولة وسط الدمار والرماد. كان تناغم ديلان مع المزاج العام ثمرة تجارب مؤلمة؛ فبعد أن رُفض في الفحص الطبي للجيش عام 1940، التحق بنوع من الخدمة الحربية، حيث كتب نصوصًا دعائية لوزارة الإعلام. وشهد مباشرةً، أولاً في لندن ثم في سوانزي، آثار القصف الجوي، حيث دفعته تلك التجارب إلى تخليد الحياة والموت على الجبهة الداخلية في عدة قصائد من تلك الحقبة. وتُعدّ قصيدة "رفض الرثاء لموت طفلة محترقة في لندن" الأكثر غموضًا وجمالًا من بين تلك الأعمال، حيث يرفض المتحدث فيها أي عزاء سهل، ويعاهد نفسه على ألا "ينطق بالتجديف خلال محطات الأنفاس / بأي رثاء آخر / للبراءة والشباب."
ربما كان التطور الأكثر أهمية في حياة ديلان خلال سنوات الحرب هو نوع آخر من الخدمة التي استطاع تقديمها. فبدءًا من عام 1937، وخصوصًا في أوائل الأربعينيات، أصبح حضورًا ثابتًا في محطات الإذاعة التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC). ساهم ديلان في برامج الهيئة بإلقاء محاضرات حول موضوعات أدبية وسير ذاتية متنوعة، من "الحياة والشاعر الحديث" إلى "النفط الفارسي". وقد وُصفت الأربعينيات بأنها "العصر الذهبي للإذاعة"، حسب ويليام كريستي، حيث أصبح ديلان "ملكًا من ملوك القلعة الافتراضية." وإلى جانب كونها مصدرًا موثوقًا للمعلومات خلال الحرب، ساعدت الإذاعة البريطانية في الحفاظ على استمرارية الحياة الفكرية للأمة. وكما حدث مع ازدهار السينما في أوائل القرن العشرين، منحت الهيئة الكتاب حرية واسعة لابتكار وسائل جديدة لجمهور واسع، واستطاع ديلان أن يستثمر موهبته في هذا المجال. في يديه، أصبحت الإذاعة ملعبًا رائعًا للغة – فضاءً يمكن أن يكون شعبيًا، غير تقليدي، وشاعريًا، دون أن يشعر المستمع بالضياع.
ستؤدي هذه العلاقة السعيدة في النهاية إلى ولادة تحت حليب الخشب، وهي ربما تكون أكثر الأعمال الدرامية الإذاعية أصالة في تاريخ الإذاعة، وقمة كتابة ديلان عن ويلز. فما إن تُسمع الأحداث التي تجري في لاريغوب - المدينة الويلزية الخيالية التي اختير اسمها من قلب عبارة "Bugger all" (التي تعني "لا شيء" باللغة العامية) - حتى تصبح مستحيلة النسيان. كما أن التلاعب الغريب لديلان بالحميمية عبر الأثير يُعد أيضًا أمرًا لا يُنسى.
اقترب الآن.
فقط أنت من يستطيع سماع البيوت نائمة في الشوارع، في الليل العميق البطيء المملوء بالملح والصمت، ملفوفًا بالضمادات. فقط أنت من يستطيع أن يرى، في الغرف المظلمة، الأمشاط والملابس الداخلية على الكراسي، والقدور والمغاسل، وكؤوس الأسنان، و"لا تقتل" على الجدران، والصور الصفراء للطيور الصغيرة التي تراقب الموتى. فقط أنت من يستطيع أن يسمع ويرى، خلف عيون النائمين، الحركات والبلدان والمتاهات والألوان والانزعاجات وألوان قوس قزح والألحان والأماني والطيران والسقوط واليأس وبحار كبيرة من أحلامهم.
من حيث أنت، يمكنك أن تسمع أحلامهم.
على الصفحة، عبارة مثل "الليل البطيء العميق المملوء بالملح والصمت، المغطى بالضمادات" تبدو غير متناسقة، كأنها عبء لفظي سخيف؛ لكن على الراديو، يصبح نسج تلك الصفات الستة المتناثرة سحريًا. هنا وفي العديد من أعظم قصائده، يجعل ديلان الطليعية جذابة وغامرة كما لم يفعل أحد من قبل.
قبل أن يصل إلى "لولاريجوب"، حصل ديلان على سمعته كراوي لمنطقته الحقيقية. ظهرت سوانزي كموضوع رئيسي لأربع محاضرات إذاعية على الأقل، وهو عدد يزداد إذا أضفنا المناطق الأوسع في غرب ويلز مثل غاوير، وكارمارثنشاير، ووادي آيرون. من بين هذه البثوث التي تتجه نحو الوطن، أصبحت "ذكريات الطفولة" بلا شك الأكثر شهرة، وذلك بشكل رئيسي بسبب الجملة التالية:
لقد ولدت في بلدة صناعية ويلزية كبيرة في بداية الحرب العظمى: بلدة قبيحة وجميلة (أو هكذا كانت، ولا تزال، بالنسبة لي)، زاحفة، مترامية الأطراف، فقيرة، غير مخططة، متهالكة، ومكتظة بالسكان، ومكتظة بالضواحي المتغطرسة على جانب شاطئ طويل رائع منحني حيث كان الصبية المتغيبون وأولاد الحقول الرملية والرجال العجائز المجهولون، في حالة يرثى لها من جراء مائة بدلة خيرية، يمشون على الشاطئ، ويتسكعون، ويتجذفون، يراقبون القوارب المركونة على الرصيف، ويلقون الحجارة في البحر للكلاب النابحة المنبوذة، وفي فترة ما بعد الظهيرة من أيام السبت في الصيف، يستمعون إلى الموسيقى النضالية للخلاص ونار الجحيم التي يُوعظ بها من صندوق الصابون.
يا لها من بانوراما، يا لها من صوت. "المدينة القبيحة الجميلة" هي العبارة البطولية، شعار عكسي للفخر الذي ستجده الآن متجليًا على معالم سوانزي. على المستوى الحرفي، تلتقط هذه العبارة جمالية وقسوة المكان، لكن أكثر من ذلك، هي قطعة عبقرية من اللعب الصوتي. ثق في ديلان ليتنبه إلى الرابط الخفي بين كلمتين ظاهريًا متناقضتين. الأصوات المتشابهة للحروف المتحركة تدفعنا نحو إدراك مهم. في كثير من الأحيان في ويلز، القبح والجمال يسيران جنبًا إلى جنب؛ حيث تتلطخ رمادية أكوام الخبث ضد الخضرة المتدحرجة و"الشواطئ المنحنية الرائعة". هذه هي الأسونانس التي ترتقي إلى مستوى التعليق الاجتماعي، مما يثبت مرة واحدة وإلى الأبد أن موسيقى اللغة لم تزين فقط أبيات ديلان—بل شكلت أيضًا ملامح تفكيره نفسها.
كما هو الحال مع جميع القلق الجيد من التأثيرات الأدبية، فإن مشاعري تجاه ديلان متباينة. فعدد غير قليل من قصائده تترك لدي شعورًا بالفتور أو البرود. رغم كونها مليئة بالألعاب البصرية والرمزية، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى شيء جاف ومكتوم. الرموز المتكررة التي تتناول الحياة والموت—الأرحام، الديدان، الحليب، القلوب، القبور، العشب—تنبض بحركة لا تتوقف، كأنها نبضات ثلاجة. شدة موسيقاه تصبح محمومة إلى درجة كبيرة: ليس التناغم والتأرجح الذي تتسم به موسيقى الجاز، بل هو الإيقاع القاسي لموسيقى التكنو الصناعية. خذ مثلًا قصيدته "Altarwise by Owl-Light":
الموتُ كلُّه استعارات، شكلٌ في تاريخٍ واحد؛
والطفلُ الذي يرضعُ طويلًا ينمو،
طائرٌ بيلُكينيٌّ من الكواكبِ
يفطمُ على شريانٍ يعبرُ من خلالهِ جنسُهُ...
وهكذا تستمر القصيدة، حيث يتدفق كل سطر أكثر فأكثر إلى اللون الأحمر، عبر عشرة أقسام بطول السوناتة. ديلان يدرك تمامًا مخاطر اختياره الأسلوبي. "الموت كله استعارات" يفتح لنا الباب لفهم الطابع المجرد للقصيدة—كيف أن كل اسم ملموس يرمز إلى شيء أكبر من نفسه—لكن هذا لا يخفف من المخاطر أو يعقد فهم النتيجة النهائية. (إذا كان أحدكم قادراً على تفسير "طائر البجع المدعوم بالكواكب" فليُرسل الإجابة عبر بطاقة بريدية إلى العنوان المعتاد). المخاطرة قد تكون عظيمة إذا نجحت، لكنني لست متأكداً أن ديلان يحقق النجاح دائمًا.
*
قصة ديلان هي قصة موهبة عظيمة، وإشاعات لاذعة، وعبث، وتحايل، وتغيرات تكنولوجية واجتماعية، وتميز يزدهر بهدوء على مرأى من الجميع.
أشعر بالحرج من هذه المشاعر، إذ إنها تجعلني أشعر بأني جزء من صف طويل من المتعجرفين والمتحذلقين. كما يشير جون غودبي، "كان العديدون يشعرون بالاستياء من توماس خلال حياته، بسبب مزيجه من الازدهار الأسلوبي، وسمعته كفوضوي، ولمسته الشعبية." ويستشهد غودبي كمثال على هذا الترفع بوصف جورج ستاينر له على أنه "محتال يروّج للمبالغات البارديّة بمهارة استعراضية لجمهور واسع، غالبًا ما يكون غير مؤهل بما يكفي [للشعور بالإطراء بمنحه نافذة على شعر يبدو عميقاً]." ويُعتبر وصف "جمهور غير مؤهل" إهانة خاصة بغيضة. لقد كان ديلان طالباً في مدرسة ثانوية تقليدية، شغفه بالتنوع وموهبته ككاتب تعلّمها بنفسه في الغالب. إضافة إلى ذلك، كان ويلزيًا—وهو ما أضفى عليه لمسة مزدوجة من التميز—وبدا أن شعره يلبي رغبة في شيء بدائي وغامض في الأجواء بين الحربين. وبالرغم من أن شعره كان موزوناً بعناية، متأثراً بكل شيء من فرويد إلى الرمزية الفرنسية إلى توماس هاردي، إلا أن ذلك بالكاد كان يلفت الانتباه. أصبح ديلان المفضّل كـ"همجي نبيل" لدى الجميع، حتى تبدلت الأذواق ووجد نفسه يُوصَف بـ"المحتال."
جاء الموت مبكراً في عام 1953، وقد تحولت ظروف وفاته إلى أسطورة من أساطير الروك آند رول. ما نعرفه بالتأكيد هو أن وفاته حدثت في نيويورك، في ختام واحدة من جولات متعددة قام بها في أمريكا منذ عام 1950، بحثاً عن المال والمغامرة. كان يدّعي كرهه لأمريكا واشتياقه العميق لزوجته وأطفاله في كل مرة يغيب عنهم. ولكن إن كان قد سافر إلى الولايات المتحدة مكرهاً، فقد أجاد خداع المعجبين والعاشقات ورواد الحانات الذين كان يصادقهم هناك. انغمس في الأوساط الأدبية المليئة بالشرب على الساحل الشرقي بحماسة متوترة، محاولاً التهرب من هموم المال، ومشاكل زواجه، وحزنه العميق على وفاة والده عام 1952.
أكثر جوانب أسطورة موت ديلان إصرارًا يتعلق بكلماته الأخيرة. ففي يوم الأحد، 8 نوفمبر، كان ديلان في جلسة شرب مكثفة في حانة "وايت هورس" في قرية غرينيتش. (لا تزال الحانة موجودة حتى اليوم وتزدهر بفضل اسمه). وبعد أن تم نقله إلى غرفة الطوارئ في مستشفى سانت فنسنت في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين، يُقال إنه قال: "لقد تناولتُ ثمانية عشر كأسًا من الويسكي على التوالي — أعتقد أن هذا رقم قياسي!" ثم فارق الحياة. (في بعض روايات القصة، كان يتلقى حماماً تنظيفياً عند وفاته، تحت أنظار الشاعر جون بيريمان). وكما تقول حفيدته هانا إليس، من "المرجح جدًا" أنه قال هذه الكلمات، ولكن من "المستبعد جدًا" أن تكون كمية الكحول قد بلغت ذلك الرقم. (الأشخاص الذين بحثوا في الأمر يقدرون عدد الكؤوس بين ستة إلى ثمانية). وبنظرة سريعة على ملاحظاته الطبية، يتضح أن ديلان كان رجلاً مريضاً جدًا في خريف عام 1953، إذ كان يعاني من مجموعة من مشاكل التنفس غير المشخَّصة. جعل الشرب الأمور أسوأ، لكنه لم يكن سبب وفاته بالسم.
لقد أثبت هذا الإرث المشكوك فيه، على نحو متناقض، أنه ضمانة لشهرة ديلان المستمرة. فهو يظل حتى يومنا هذا واحداً من الشعراء القلائل الذين حققوا نجاحاً باهراً، حيث تُطبع أعماله إلى الأبد، ويصوره على الشاشة وعلى خشبة المسرح عدد كبير من الممثلين بما في ذلك أليك جينيس، وأنتوني هوبكنز، وماثيو رايس. وفي الوقت نفسه، انهارت مكانته ككاتب جاد في أرض الشعر إلى حد كبير. ويبدو شعره ثرياً ومتكلفاً إلى حد مبالغ فيه مقارنة بالواقعية الاجتماعية المبتذلة التي هيمنت على الشعر البريطاني لسنوات عديدة. وعلى حد تعبير جودباي، "يشكل توماس نوعاً من الإحراج على كل مستوى تقريباً من مستويات عالم الشعر السائد. إن عمله قوي ولن يتلاشى، ويبدو أن هناك شيئاً يجب أن يقال عنه؛ ولكن لسبب ما، لا يمكن جعله يتناسب مع السرديات القياسية وبالتالي لا يتم إنجاز أي شيء". قد يتغير هذا الوضع، لكن سمعة ديلان المتقلبة ووفاته الأسطورية تظل عقبة أمام أي تقدير مناسب لكتاباته.
ترتبط أعبائي الخاصة بالقلق بكل هذا. قلت إن الشاعر الويلزي الذي يحاول أن يكون عصريًا يجب عليه أن يمر من خلاله، وأعتقد أن ذلك صحيح. لا يزال ديلان يمثل ذروة نوع معين من الضوضاء الكلتية. صوتٌ عذب وقوي، مشحون بالكتب السماوية والحديث على النار، إنه صوت مذهل. أستمع إلى موسيقاه من وقت لآخر وأجد من الصعب الهروب منه. (إذا كان هذا الفصل يتعلق بي أو بشعري، لَكنتُ قد سَردتُ أمثلة). دفع تلك الموسيقى إلى أبعد من ذلك سيؤدي إلى الفوضى؛ أما التراجع، كما فعل العديد من الشعراء الويلزيين في العقود التي تلت وفاته، فيؤدي غالبًا إلى منطقة خالية من الموسيقى على أطراف النثر. من الصعب العثور على وسيلة وسط.
ولكن لماذا ينبغي لهذه الدراما النفسية الوطنية أن تثير اهتمام أي شخص خارج ويلز؟ ربما لا، ولكنني أغرم بنفسي عندما أعتقد أنها قد تكون كذلك. إن قصة ديلان هي قصة موهبة كبيرة، وثرثرة بذيئة، وحماقة، واحتيال، وتغير تكنولوجي واجتماعي، وتميز يزدهر بهدوء أمام أعين الجميع بينما يتجه بقية العالم نحو الأسطورة. إنها تخبرنا بالكثير عن ثقافة المشاهير ورمال الذوق الثقافي المتغيرة. لا شيء من هذا يعني أي شيء، بالطبع، إلى جانب وهج التقدير الذي أحصل عليه من السير على طول ساحل ويلز والالتفات لتحية "الشاطئ المسكون" ("قصيدة في أكتوبر"). كان الشاطئ موجودًا قبل فترة طويلة من تسمية ديلان له بهذا الاسم - لكن ديلان أعطاني الكلمات التي تجعله ملكي.
***
.......................
* مقتطف من كتاب "كيف نفكر مثل الشاعر: الشعراء الذين صنعوا عالمنا ولماذا نحتاج إليهم" للكاتب داي جورج. نُشر بإذن من المؤلف، بإذن من دار بلومزبري كونتينيوم، إحدى شركات بلومزبري للنشر. حقوق النشر © داي جورج، 2024.
* المؤلف: دَي جورج / شاعر وروائي وناقد أكاديمي. كانت مجموعته الشعرية الأولى، The Claims Office (مكتب المطالبات)، من بين كتب العام حسب صحيفة إيفينينج ستاندرد، ونُشرت مجموعته الشعرية الثانية بعنوان Karaoke King (ملك الكاريوكي) بواسطة دار سيرين في يونيو 2021. نُشرت روايته الأولى The Counterplot (المؤامرة المضادة) كأصل صوتي (أوديبل) في عام 2019، وهو يعمل حاليًا على روايته الثانية. كان جورج محرر المراجعات في Poetry London في وقت سابق، وقام بتدريس الشعر والكتابة الإبداعية لسنوات طويلة في عدة جامعات. وهو حاليًا محاضر في الفنون الإبداعية والعلوم الإنسانية في جامعة كوليدج لندن (UCL).
وُلِد داي جورج في كارديف عام 1986 ودرس في بريستول ونيويورك، حيث حصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من برنامج الكتابة بجامعة كولومبيا. ظهرت قصائده في العديد من المختارات، بما في ذلك كتاب الملح للشعراء الشباب وأفضل الشعر البريطاني. أحدث مجموعة له هي The Claims Office (سيرين، 2013).

 

في المثقف اليوم