أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

النقد المبني على الشخصية للمجموعة القصصية -أوان الرحيل- للدكتور علي القاسمي

الموت حقيقة حتمية ومآل لا بد منه كما جاء في الآية 30 من سورة الزمر "إنك ميت وإنهم ميتون"

إن استحضار الموت يعتبر محطة مهمة للوقوف والتأمل في ماهية الموت وكيف أن نجعل الموت حدثا للتفكر، للاستخلاص العبر، للقيام بالأعمال الصالحة التي تعود بالنفع على الأفراد والمجتمعات.

كما جعل الله الموت في علم الغيب عنده فلا أحد يعرف متى وكيف وبأي أرض سيموت؟

وقد كرم الله النفس في الإسلام وعظمها "وقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم عما كثير ممن خلقنا تفضيلا"

فما دام الإنسان على قيد الحياة لا بد أن يترك عملا صالحا كيفما كان موقعه، أو منصبه أوعرقه أو ثقافته أو ديانته ، خدمة للإنسانية جمعاء ، أن يقدم العون والمساعدة للمحتاجين والضعفاء، أن يغرس شجرا،  يبني مساجدا أو مدارس أو مستشفيات، أن يساهم كل من موقعه ولو بعمل تطوعي بسيط.

ولقد تعددت الأسباب والموت واحد "كل نفس ذائقة الموت" ، فذكر الموت أو وصول خبر الموت  يبعث على الخوف ، على الرهبة والكل يحب الحياة ويتشبث بها - حب البقاء - ولا يستحضر الإنسان الموت إلا عند وقوعها بين الأهل والأحباب والأصدقاء رغم  أنها أقرب إلينا من حبل الوريد وهذا المشهد يجعلنا في وجل وفي هذه اللحظات نتذكر أننا في هذه الدنيا عابري سبيل ومستخلفون في الأرض للعبادة والقيام بالأعمال النبيلة ولعمارة الأرض لكن الإنسان ينشغل بالحياة، بالمستقبل ويعمل جاهدا بكل الوسائل المتاحة لتحقيق ذاته ، أهدافه ،غاياته أحلامه  وتحسين وضعه الاجتماعي، وفي خضم كل هذا وذاك ،ينسى الموت تماما ،فعندما نحضر إلى مأتم عزاء نحس برهبة المكان، بألم الفراق، بذكر مناقب الفقيد (ة) وصفاته، أخلاقه، مناقبه ومعزته وكيف أن المنية قد أخذته في غفلة منا.

حتى الموت له قدسيته فيقال أين الجثة وفي تشييع الجنازة يحمل النعش إلى متواه الأخير فأيا كان الميت غنيا أو فقيرا مثقفا أو أميا وزيرا أو عالما الكل سواسي أمام الموت ولا يبقى إلا العمل الصالح والأثر الطيب فلنترك أثرا طيبا.

واليوم للأسف نلاحظ بألم وحصرة شديدتين كيف أن الروح استرخصت وكيف يقتل الأبرياء بدم بارد وكيف تصبح الإنسانية بدون معنى ولا طعم وكيف تستباح الأرواح بطريقة همجية وضيعة.

***

بقلم الأستاذة نهلة مهاج

المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط

الثلاثاء 14/05/2024

ما الّلسانُ إلّا راقصةٌ طَروبٌ لَعوب، تتراقصُ في «حانة» فَمٍ مَلوثٍ بلعابٍ غيرِ مَرغوب، وتطهيرُهُ من بغيٍّ ومن بغاءٍ لن يتأتَّى من تملُّقٍ مسكوب، بل من نبضِ قلبٍ بالخيراتِ خَضوب، ومن صِدقِ خَلجاتٍ بسجيَّةِ طرفٍ محبوب. ولئن تَطهَّرَ منهما فذلكَ لسانٌ موهوبٌ أبيٌّ مَهيوب، وإن تَعهَّرَ في حاناتِها وأُنْسِ صخبَ الدَّروب، فذاك لسانٌ مضروب معيوبٌ، وباثنتينِ مثقوبٌ، فثقبٌ يرنو ليَلتقمَ ما في الجُيوب، ثمَّ ليَصُّبَ ما التقمَ في ثقبٍ يَحنو على بغاء طَروب.

ولا ريبَ أنَّ هذي نَظَراتٌ يُحرِّرُها كاتبٌ محدثٌ ورُبَما غيرُ مرغوب، وفي فضاء الأدب ما ظننتُهُ إلّا غيرِ مندوب ولا مطلوب. ثمَّ ما مِن شكٍّ أن صدقَ العَبَراتِ بذرفٍ مكتوب، هي للبيانِ جبينٌ وما سواها إمّا مَرافقٌ أو كُعوب، وأنَّ صفاءَ النظرات من تَنَطُّعٍ كذوب، سوف تهواها النُّفوسُ بترحيبٍ طيبٍ غيرِ مكذوب. وأقولُ بعدما نفيتُ الريبَ المَعصوبَ وشكَّاَ ردفهُ مَصحوب؛

قدِ رأيتُنيَ البارحةَ أتصفحُ ندوةً لقومِي في (الإتحادِ العام للأدباءِ والكتَّابِ في العراق) تَحَلَّقَت بتعابيرَ؛ "تناصٍ إمتصاصي وإنزياحٍ إنزياحي"! فامتَعضتُ بوجهٍ غَضوب، رُغمَ أنّي في سوحِ الأدبِ -أكرِّرُها- جهولٌ ومُحدثٌ وغيرُ مطلوب، وقد دعتِ الندوة الى (عدم اعتماد انزياح الانزياح وتغليبه على الانزياح نفسه)، فأسررتُ القول؛ أفي شمالِ الأرضِ حُبِكَت هذي العبارةِ أم تراها نُسِجَت في الجنوب، ورأيتُني أتَيَقَّنُ ساعتئذٍ أنَّ مِرآةَ كلِّ أمّةٍ بَيانُها، فإنْ كَانَ بَيانُهَا فحلاً تَراهَا تَحْظَى بِصَهلةِ بَيانٍ بَينَ القِمَم وبغرفٍ غيرِ نَضوب، وَإنْ كانَ تِبيانُها ضحلاً، تَراهَا تَرضَى بِوَحلةٍ بَينَ الأمَم وبحرفٍ غيرِ عَذوب.

ثمَّ انهُ لا حاجةَ للقارئ لقلمِ أديبٍ مُتَزَلِّفِ مُتكلِّفِ الأسلوب، نراهُ يدورُ إمَّا في فلكٍ مُتهتِّكِ الصَّرفِ مُتَبَتَّكِ الأسلوب، وإمّا في مسلكٍ أعجميٍّ هو فيهِ جاثمٌ مكبوب، كي يُبيِّنَ لقارئِهِ "أنَّ الإبستمولوجيا سبرت سبيلَ سيكولوجيةِ الأنثروبولوجيا" وما مسَّها من لغوب". وتراهُ ما فتأ يُخَنخِنُ بان لسانَ الضاد عاجزٌ عن مجاراة أسلوبِ فكرهِ الفذِّ المتين المَهيوب، وأنَّ لسانَ قرآنِ ربِّ الشُّروقِ والغُروب، قد ولَّى مُدبراُ ولم يُعقِّب لمّا رأى صَرفَهُ الحَصين الرَّصين. وما كانَ فكرُهُ برَصين ولا ذكرُهُ برزين، وإن هو إلا فكرٌ بئيسٌ وذِكرٍ تعيسٍ بحرفٍ مسكين، وهو في رَنين الفرنجة حبيسٌ مَهين، ولا شفاءَ لذا كاتبٍ مسكينٍ إلا بتقميطٍ لأربعينَ يوماً بشَجرٍ من يَقطين، في أقاصي سَواحلِ نيوزلندا ولا بأسَ قرى الأرجنتين، كي يشفى من رَمدِ شكسبيرَ وأمدِ سبينوزا الحنين، ومن كمدِ نيتشهَ وزبدِ فرويدَ اللعين، فيُغادرَ التنطُّعَ والتزلفَ لفكرِ غربيٍ غريب غير مكين، ثمَّ يبادرَنا حثيثاً لذكرٍ بذرفٍ وصرفٍ عربيٍّ راقٍ مبينٍ أمين. وإنَّما ذاكَ الأديب لمسكين، وما مثلهُ إلا كمثل أنثى فرس نهر إفريقيٍّ في حديقة حيوان برلين، تراها تَتَشَمَّمُ بينَ الحشائش عن فحلٍ المانيٍّ ملطَّخٍ بالطين، ليعرسَ عليها فتُرزقَ بصغارٍ حلوين، لا يشبهوا صغارَ العَربِ العفنين، ولا أطفالَ غينيا بيساو ولا حتى صغارَ سيئولَ أو بكين.

لعلّي قد تجاوزتُ ههنا حدودَ أدبِ الأدب بذا طنين، وبانَ فطَفا على صَدري من لؤمٍ همجيٍّ غاطسٍ تحت الوَتين، ومن سُرورٍ عاطسٍ بغُرورٍ صبيانيٍّ طامسٍ دفين، بأنيَ أنا صناجة العرب المكين المبين، وما أنا على رصيفِ الأدبِ الا حادثة مُحدَثةً بل لبونٌ هجين، غير أنّي لن أترنَّى لأكونَ فرسَ نهرٍ مُزخرفٍ بالطين، ولن أغرمَ بآلاء نيتشة ولا بآياتِ سبينوزا الحنين، بل سأتهنَّى بعُيون المَها بين رصافةٍ وجسرِ على ضفاف الرافدين، وأتمنَّى رحلةً لدروبِ القيروانَ أو للشامِ لشمِّ عبق الياسمين، وأتبَنَّى ما همسَ به عنترةَ لعُبيلةَ من شَجنٍ دفين..

أَتاني طَيفُ عَبلَةَ في المَنامِ * فَقَبَّلَني ثَلاثاً في اللَثامِ

وَوَدَّعَني فَأَودَعَني لَهيباً * أُسَتِّرُهُ وَيَشعُلُ في عِظامي

لانثربولوجيةَ عُبَيلَة كُلَّ * يَومٍ سَلامٌ في سلامٍ في سَلامِ

***

علي الجنابي

لودفيج فان بيتهوفن، الملحن وعازف البيانو الشهير، معروف بموهبته الموسيقية المذهلة ومؤلفاته المبتكرة. ومع ذلك، ما قد لا يعرفه الكثير من الناس هو أن بيتهوفن أيضا عاش الحب والحسرة طوال حياته. كانت علاقات بيتهوفن الرومانسية معقدة ومضطربة في كثير من الأحيان، إلا أنها ألهمت بعضا من أشهر أعماله.

إحدى أشهر مساعي بيتهوفن الرومانسية كانت مع الكونتيسة جولييتا جويتشياردي، وهي امرأة نبيلة شابة استحوذت على قلبه. أهدى بيتهوفن مقطوعته الشهيرة "سوناتا ضوء القمر" لجولييتا، معبرا عن حبه العميق وإخلاصه لها من خلال موسيقاه. ولسوء الحظ، واجهت علاقتهما العديد من العقبات، بما في ذلك الوضع الاجتماعي وعدم رضا الأسرة، مما أدى في النهاية إلى انفصالهما.

وعلى الرغم من تحديات حياته العاطفية، استمر بيتهوفن في كتابة الموسيقى التي تعبر عن مشاعره المعقدة واضطراباته الداخلية. تُظهر إحدى مقطوعاته الأكثر عاطفية، رسالة "الحبيبة الخالدة"، حب بيتهوفن العميق لامرأة مجهولة أشار إليها بـ "حبيبته الأبدية". لقد حيرت هذه الرسالة المؤرخين لسنوات، حيث تكهن الكثيرون بهوية حب بيتهوفن السري.

غالبا ما طغت علاقاته المضطربة وحبه غير المتبادل على حياة بيتهوفن الشخصية. أضاف صممه أيضا طبقة أخرى من التعقيد إلى مساعيه الرومانسية، حيث أصبح التواصل صعبًا بشكل متزايد. على الرغم من هذه التحديات، استمر شغف بيتهوفن بالموسيقى وحب الحياة في إلهام مؤلفاته وعروضه.

اتخذت حياة بيتهوفن العاطفية منحىً مأساويا عندما وقع في حب امرأة متزوجة تدعى أنتوني برينتانو. كانت علاقتهما مليئة بالسرية والعاطفة المحرمة، وبلغت ذروتها في مقطوعة "Diabelli Variations" لبيتهوفن، وهي مجموعة من مقطوعات البيانو التي عكست اضطرابه الداخلي وحبه غير المتبادل. انتهت علاقتهما بحسرة وعزلة بالنسبة لبيتهوفن، مما ساهم في شعوره المتزايد بالوحدة واليأس.

طوال حياته، شكلت علاقات بيتهوفن مع النساء موسيقاه وأثرت على عمليته الإبداعية. ألهمته حياته العاطفية المضطربة لكتابة سمفونيات وسوناتات قوية تعبر عن مشاعره المعقدة وشياطينه الداخلية. لا تزال موسيقى بيتهوفن شهادة على عمق حبه وألم حزنه.

على الرغم من التحديات والعقبات التي واجهها في مساعيه الرومانسية، إلا أن حب بيتهوفن للموسيقى وتفانيه في مهنته لم يتزعزع أبدا. تظل مؤلفاته شهادة على القوة الدائمة للحب والروح الإنسانية، حيث تجسد جوهر حياة الحب العاطفية والمضطربة لبيتهوفن. كان بيتهوفن في الحب رجلا تحركه عواطفه، ويوجه حسرة قلبه وشوقه إلى موسيقاه، مما يخلق إرثا دائما يستمر في إلهام الجماهير وتحريكها في جميع أنحاء العالم.

وفي الختام، لعبت علاقات بيتهوفن الرومانسية دورا مهما في تشكيل موسيقاه والتأثير على عمليته الإبداعية. كانت حياته العاطفية مليئة بالتعقيد والعاطفة، مما دفعه إلى إنشاء بعض من أقوى المقطوعات الموسيقية وأكثرها إثارة في تاريخ الموسيقى. كان بيتهوفن العاشق رجلا حوّل عواطفه وتجاربه إلى فنه، تاركا وراءه إرثا موسيقيا لا يزال يتردد صداه لدى الجماهير حتى اليوم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صبيحة اليوم التالي ولما يزل بعد تحت تأثير فكرتين، أمّا النهوض تماما ومغادرة فراش نومه، أو العودة ثانية ليغفو من جديد ولو لربع ساعة أخرى حتى ينشط، الاّ أنه وعلى ما يبدو قد فشل في ذلك ولم يعد أمامه من خيار سوى حسم تردده، مقررا التوجه نحو مكتبته المتواضعة المقابلة لسرير نومه، ليستل منها أحد الكتب التي كان قد شرع في قراءتها ليلة البارحة وحتى ساعة متأخرة، وذلك نزولا عند طلب ونصيحة أحد أصدقائه المولعين بعالم الفلسفة، رغم عدم رغبته في ذلك وإنقطاعه عن هذا العالم ولم تعد له صلة به ومنذ فترة ليست بالقليلة وياليته لم يفعل. إذن فإختياره لهذا الكتاب، لا يشبه قراءاته التي إستقر عليها. فالرجل في هذه الآونة بل ومنذ سنوات بعيدة، وبشهادة الكثيرين، يُعَدٌ أحد المتابعين المهمين والدؤبين، لحركة الأدب العالمي ومن قبلها المحلي وبكل ألوانه، وبشكل خاص المتعلق منه بفن الرواية وما يحيط بها، راصداً آخر أخبارها  وما بَلغتهُ من تطور.

 يبدو أنَّ قراءته للكتاب إياه وإصراره على الإنتهاء منه وبأي ثمن بما في ذلك دخوله في تَحَدٍّ مع الذات، والذي مداره عالم الفلسفة وأهم مدارسها وأبرز سدنتها ومعلميها بل وحتى صرعاتها، وما صاحبها من مفاهيم وأجواء غريبة، من بينها تلك التي لم ترق له، حيث خرَجَ منها بحصيلة مفادها، بأنها مضيعة للوقت وللجهد، وربما ستؤدي كذلك الى دفع أثمان أشد خطورة.

 اللافت للإنتباه بل والأنكى من ذلك أن بدت تداعيات قراءته للكتاب جلية عليه. فبعد برهة من الوقت ومع عديد المحاولات، نجح أخيرا في إستعادة أهم ما دار من أحاديث ليلة حلم البارحة، كذلك أدَّت الى تحفيز  ذاكرته، لتعود به الى تلك الأيام التي كان فيها فتيا ومع بدايات إنتماءه السياسي والفكري، وما كان يتلقاه من إملاءات وإلتزامات من قبل عليّة الحزب الذي وجد نفسه منخرطاً بين صفوفه ومن حيث لا يدري، وقد تكون لدوافع لا تخرج عن مرحلة الصبينة، يوم كان السير مع  الجميع شَرٌ لابد منه.

 ولأن مجريات حلمه قد حملت الكثير من الطرافة والدعابة، فستجده بين لحظة وأخرى وقد غصَّ في نوبات ضحك متواصلة بينه وبين نفسه، ولو كان أحدهم في تلك الأثناء قريبا منه أو راصدا له، لكان قد أتهمه بما شاء له من التهم وأقذعها. وما كان لها أي لتلك الضحكات أن تتوقف لولا دخول والدته المفاجئ عليه في غرفته بعد طرقها للباب ولعدة مرات، كان آخرها أن وجدت نفسها مضطرة على زيادة الطرق وبقوة، بعد أن إنتابتها نوبة من الحسابات الخاطئة والمقلقة، داعية إياه الى تناول وجبة الصباح، بمعية أخوته. أمّا ما الذي إستذكره صاحبنا وحاول إستعادته قبل أن تُطرق باب غرفته وخشية نسيانه كما حدث معه سابقا ولعديد المرات، فإليكم إياه.....

 وقف صاحب الحلم بكامل قامته، بثبات وثقة، موجها كلامه على ما يبدو لمن كان برفقته في الحلم: قُلتُ لك ألف مرة أترك الأمر لي، فأنا أهلاً لحل مثل هكذا إشكال، وليس في ذلك من منةً أو ما يسبب لي حرجا، فما بيني وبين مَنْ تعنيه عقدٌ مقدّس، كان قد وُقِّعَ برغبتينا، وبموجبه سيبيح لي قول ما أشاء بصراحة وبلا قيود ومن دون مواربة أو مجاملة، ولكن (هنا بدأ صاحبنا يركّز أكثر في الكلام، حرصاً منه على ما يصدر، مصوّبا ناظريه نحو عيني مَنْ يقف أمامه) شرطي الوحيد أن لا يطّلع على ما سأقوله لك أحد، وذلك حفاظا على السرِّ إن كنت بكامل رجولتك، وإذا كنت جديرا به حقاً وأخو خيته (هنا إستخدم مصطلحا عاميا وشعبياً، كثيرا ما يجري تداوله لإثبات مدى الأهلية والرجولة) وأهلاً لتحمل المسؤولية.

 ثم راح مسترسلا: ولا أخفيك قولا، فما بيني وبين طيب الذكر وأعني هنا الفيلسوف العظيم جورج بولتيزر ألفة وصحبة قديمة وحوار مستمر. أمّا ما قاله لك البعض، بأن علاقتنا قد شابها في الفترة الأخيرة بعض جفاء، فهذا عائد الى دخول ما يمكن أن نسميه بالطرف الثالث وما أدراك ما الطرق الثالث.

 عند هذه النقطة اي حين ورود كلمة الطرف الثالث، سيستدرك صاحب الحلم وليتوقف طويلاً عند هذا التعبير. ففي هذه الآونة وعلى حدِّ قوله، كثيرا ما يجري تداول هذا المصطلح بين العديد من الأوساط، وأخطرها ما جرى تحميله من أحداث وجرائم كان قد إرتكبها، وذلك بإتباع أشد الأساليب خسة ونذالة وبوضح النهار، بحق أبناء شعبنا من الوطنيين، التواقين لإحداث التغيير وبالطرق الشرعية والرسمية، والتي كان النظام السياسي الذي ينتمي إليه أبناء هذا الطرف وهو جزء منه بل ويتحكم به قد أقرَّها وتكفَّلَ بها وعززها بجملة من الإجراءات.

 من ثم سيقوم صاحبنا بإستعراض ما مارسه هذا الطرف من الآعيب ودسائس وأساليب ماكرة، (لا تستغربوا هذا القول، فالطرف الثالث، يتواجد أحيانا بين ظهرانينا وفي مختلف الأوساط، وينشط كلما إستدعى الأمر) هادفاً الى إفساد تلك اللحمة الطيبة التي يتقاسمها أبناء البلد الواحد. والأخطر من ذلك هو إندساسه ومحاولة فك عرى الصداقة التي تجمعني بجورج بولتيزر، والتي على أثرها أخذت علاقتي بسيد الفلسفة شكلا متقطعا. غير اننا ورغم كل ما جرى فقد نجحنا وتمكنا أخيراً وبوعينا من تجاوز هذه العقدة والى حد كبير، وذلك بعد أن خضنا حوارا طويلا ومعمقا، سادته روح المكاشفة والصراحة والوضوح، ولنعود بعدها الى ممارسة طقوسنا التي إعتدنا عليها بين فترة وأخرى، كتبادل المعلومات والرؤى وتصويب الأعوج منها وعلى أسس من التفاهم والثقة المتبادلة.

 وبعدما قدَّمه من إيضاحات حول الجهة التي يعنيها والتي وجد نفسه مضطرا الخوض فيها والتحذير منها، فها هو يعود الى أصل الموضوع  الذي إبتدأه وليستمر على النحو التالي: أمّا إن شئت الحديث أكثر والتوسع في عالم الفلسفة والتي لا أنصحك التورط والدخول فيها ما دمت طري العود، فهو كما تعرف أو لا تعرف، رحب واسع، شاسع، متشعب، حاوياً جامعاً لكل أشكال والوان الثقافة والآداب والفنون والأديولوجيات ومدارسها. (هنا بدا كثير الشبه بصديقنا الأستاذ الراحل ناظم متي، في ترديد وتكرار المترادفات من الكلمات).

 ثم راح مواصلا، مستعرضا ملكاته في هذا الجزء من المعرفة: وهو أيضا أي عالم الفلسفة، يُعدٌ البوتقة التي تنصهر فيها كل العلوم الإنسانية الأخرى، ويُعّدٌ القاسم المشترك الأعظم وذلك بإعتراف كبار القوم وكل مَن له صلة به. وبسبب تنوعه وإمتداداته وإستيعابه لمختلف المجالات، فمن الصعوبة بمكان على المرء والمتتبع له بوجه خاص، أن يضع له حدوداً أو سقفاً للتوقف عنده، لا سيما ونحن نعيش على وجه كوكب مترامي اﻷطراف وغير متناهٍ. هذا إن إقتصر اﻷمر على جُرمنا الفضائي الذي نعيش فيه، فكيف سيكون أفق عالم الفلسفة فيما لو تمَّ إكتشاف كواكب أخرى خارج مجرتنا.

 في هذه الأثناء وبينما صاحبنا لا زال متحمساً في حديثه، حريصا في تركيزه على آخر الكلمات، محركها بلغة إعرابية صحيحة، سيحسده كل مَنْ يطلع عليها أو يصغي لها. الاّ أنَّ الطرف المتلقي حاول خلالها غض الطرف وللحظات وبطريقة بدت إستفزازية لمن يطلقها وربما جاءت بعفو خاطر أو لأمر طارئ غير مسؤول عنه، أو لأنه لم يكن على درجة من الإستيعاب ليتقبل هكذا لغة وبهذا الثراء والغنى، غير أنَّ صاحبنا أقدمَ على نهره بسبب تصرفه هذا والذي عدَّه تجاوزا على قدراته اللغوية، وليوجه له كلاما أقرب الى الملامة والتوبيخ منه الى العتاب.

 وفي مشهد آخر من الحلم، ستجد صاحبنا وفي تصرف غير متوقع منه، متناولا أحدهم، مستغيبا إياه. أمّا ما سبب ذلك، فمردَّه وعلى أغلب الظن، يعود الى خلافات قديمة، كانت قد نشبت بينهما على اثر حوار ساخن دار بينهما، وظلَّت آثاره عالقة في ذهنه. ولأنه على أهمية إستثنائية بالنسبة له فقد إمتدت تداعياته لتخترق حتى عالمه الداخلي ولتتجلى على هذا النحو: قلت لك ألف مرة بأنَّ فلان (هنا وكما يبدو لم يأتِ على ذكر إسمه، وربما تعمَّدَ ذلك، بهدف التقليل من شأنه) ورغم جرأته التي يتميز بها عن الكثيرين من أقرانه، وكذلك إستعداده الدائم وفي الكثير من الأحيان والمناسبات على المواجهة وخوض كل أشكال المنازلات الفكرية، الاّ انه وجد نفسه هذه المرة واهناً، إذ لم يستطع التشعب في حواراته على ما عهدناه منه، كذلك لم يكن قادراً على مجاراة خصمه والتنقل معه من موضوع الى آخر. انه الخواء الروحي بعينه، الا تتفق معي، وإن لم يكن كذلك فماذا تسميه!!.

 وإستمرارا لإستعادة حلمه، فسيتذكر صاحبنا شخصية أخرى، لم يكن قد إلتقاه ومنذ ما يزيد على العشر من السنين، أمّا كيف راوده في حلمه فهذا ما لم أجد له تفسيرا، المهم فقد كانت صورته على النحو التالي: على خطى بعض من أولئك الذين سبقوه وربما تقليدا لهم، فهو والليل وفي أيام العطل الرسمية بشكل خاص على صحبة ومسامرة دائمة ولم يكن من السهولة عليه فك آصرتها، فمثلما الندامى وعشاق أغاني أم كلثوم وخاصة محبو أغنية سهران لوحدي، من الذين لا يروق لهم المدام الاّ بعد إنبلاج خيط السَّحَرْ، فصاحبنا وَجُلَّ أفكاره لا تتفتق وتأتي الاّ بالتزامن مع ساعات الليل المتأخرة، أو إن شئت القول مع بزوغ ساعات الفجر اﻷولى. بل حتى تجده أحياناً يشاغل نفسه في تزجية الوقت وتمضيته، بهدف تأجيل البدأ بسهرته وطقوسها لبعض الوقت، منتظراً بلهفة وشوق إشتداد حلكة الظلام. ما حيلتنا فالرجل هذه طباعه، إتفقنا معه أو إختلفنا.

 ومن أبرز اللقطات التي إستقرت في ذهنه والتي سيستعيدها عن ليلة الحلم، هي العودة من جديد الى سيرة عدد من الشخصيات التي لعبت دورا مهماً ومصيرياً في رسم معالم الإنسانية وفي تحقيقها لقفزات نوعية في مسيرتها وعلى مختلف الصعد، إن كان على المستوى الفني أو السياسي أو الفكري بل وحتى العسكري. في لحظات كهذه وبينما هو منهمك في تذكُّر بعض الأسماء التي يجلّها، أراد التوقف عند إحدى الشخصيات التي يكنٌ ويحفظ لها قدر عالٍ من الإحترام، الا وهو رئيس وزراء العراق الأسبق والمعتق نوري باشا السعيد على الأرجح، غير أنَّ صوت أحد الجيران ونزاعاته المستمرة مع زوجته وفي مختلف الأوقات، قد أفسد عليه ما إنتواه، وصعب عليه تذكره وبإسمه الصريح وليكتفي بما كان ينادى به آنذاك من تسمية وهي أبو صباح، رغم ما يمتلكه عن شخصيته من معلومات تفصيلية ثرية، إذا ما استثنينا منها بعض من جوانبه السلبية.

 كذلك ما لديه من سجل غني عن سيرة الرجل كتحمَّله مسؤولية رئاسة الوزراء ولأكثر من عشر دورات، وبما يمتاز به من نزعة مدينية متحضرة، إن كان على مستوى التفكير أو السلوك أو الهوى، وهذا ما سيُسجَّل له ويوضع في خانات حسناته، وهو ما تفتقر اليه أكثر الزعامات ممن قُدِّرَ لها قيادة  البلاد من بعده وعلى مختلف الحُقَب السياسية. ويتذكر أيضا تخرَّجَه من الكلية الحربية في إسطنبول برتبة ضابط. غير أنه وبمجرد إقترابه من الإسم ومحاولة تذكره الاّ انه وللأسف سيفلت من ذاكرته من جديد، لذا قرر طوي هذه الصفحة، والإنتقال الى شخصية أخرى.  

 هنا سيتوقف مطولا عند إسم آخر، حيث يعدٌّه أكثر لماعاً من تلك التي سبق أن جاء على ذكرها. إذ فرض حضوره عليه بل وعلى غيره كما يجزم. إنه الفيلسوف الكبير جورج بولتيزر، فما بينهما كما سيترشح من الحلم صحبة قديمة، تعود بجذورها الى بدايات تعرفه على عالم الفلسفة، ويجمع بينهما أكثر من عهدٌ ووعد. تعززت وتقوَّت فصولها بالمعرفة وفي خوض صراعات فكرية حامية الوطيس مع الآخرين ومن موقع المعسكر والجبهة الواحدة، كذلك في قدرتهما على قراءة المستقبل وما تخبأه  الأيام، ليأتونك بالتوقعات ومن حيث لا تدري. ثم سيمضي مسترسلا في إستعادة حلمه: صحيح إنَّ ما يفصل بعضنا عن بعض فارق كبير من السنين، قد تمتد عقوداً بل هي حقاً كذلك، الاّ ان ذلك لا ينفي أو يحجب عنا تبادل الأفكار والخواطر بل وحتى البوح بالكثير من الأسرار فيما بيننا.

 وقبل أن يواصل سرد حلمه مع نفسه وما ظل عالقا في ذهنه، فقد راح مرتشفا نصف قدح الشاي المتبقي ومنذ ليلة البارحة والموضوع أمامه على الطاولة وبجانب الكتاب الذي شرع بقراءته وقضى على ما يزيد عن نصفه. أمّا ما قاله فهو الآتي: ولكي نكون منصفين وواقعيين، فما يصلنا من معلومات وما نكتسبه من معارف، ربما تكون قد وصلت غيرنا ومن قبل وصولها الينا، وبالتالي ستظهر العديد من الحقائق التي لم نكن على اطلاع عليها، وفي ضوء ذلك، ستخرج علينا الكثير من التحليلات والإستنتاجات. كذلك ومن غير المستبعد أن تكون أكثر تطوراً أو سابقة لزماننا، وقد نجد أنفسنا مجبرين على التفاعل معها واللحاق بها، وقد يصعب علينا إدراكها أو حلَّ ألغازها.

 (ملاحظة مهمة عن الفقرة أعلاه، فقد راح صاحبنا متناولا قلما ودفترا ليشرع وبعدما أعجبته تلك الكلمات التي خرجت منه قبل لحظات، ليقوم بتدوينها وعلى وجه السرعة ، خشية إنفلاتها من ذاكرته).

 ولابد هنا من التأكيد على أن ما جاء ذكره في العبارة السابقة والموضوعة بين قوسين تحديداً، تمثل جوهر الموضوع الذي لا يريد ولا يرغب بل لا يجرأ صاحبنا الإفصاح عنه. فعدد قليل جدا ربما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، كما يقول، سيستقبل ويستوعب أمراً كهذا. وإذا ما أبحتُ به وكشفت عنه وصار في متناول اليد، فلعلي سأتحول الى موضوع للإتهام والتندر من قِبَل( شعيط ومعيط)، وقد أُرْجَمُ بالغيب وبما يروق لهم، وهذا ما أعتقده بل أكاد أجزم به. فالساحة وللأسف باتت تعجٌ بعقول أقل ما يمكن وصفها بالنتنة، فما حيلتك والغباء الذي بات بالنسبة لهؤلاء يُعَدٌ وجهة نظر، نعم وجهة نظر، إن لم يحسبونها موهبة يتفاخرون بها، بل يظن حاملها بأنه واقع تحت تأثير الحسد والمراقبة، لذا راح معلقا وعلى أحد جدران بيته وفي غرفة الإستقبال تحديداً، تلك التميمة والتي تسميها العامة بأم سبع عيون، درءاً وطردا للمتربصين بـقدراته، كما يتوهم.

 عتبي عليك طويلا يا صاحبي، فما كان قد ضّرَّكَ ( موجهاً كلامه الى بولتيزر والى روحه الطاهرة كما إعتاد أن يطلق عليها) لو تَركتَ وصية بجملة واحدة وليس أكثر، صريحة التعبير مباشرة ولا تقبل اللبس أو التأويل وواضحة الدلالة، لكنت قد قطعت الشك باليقين، ولأكون خليفتك على الأرض من بعدك في عالم المعرفة، ولتضع حداً وتتوقف من بعدها كل تلك التفسيرات والإجتهادات التي ذهبت بآرائها وتحليلاتها الى مذاهب شتى، فمنهم مَن قال أنا الأولى بها من بعد رحيله، وآخر قال بل أنا، وثالثهم يَصرُّ على انه سليل تلك العائلة التي أنجبتك، لذا وأمام هذا الرهط من القطيع، فلي كامل الحق في ولاية عرشك الفلسفي، وأزعم أني الأحرص منهم جميعاً في الدفاع عن تلك المبادئ والأفكار التي كُنتَ قد حملتها بشرف، وجئت مبشرا بها ونذيرا.

 وإستكمالا في محاورة الذات ولكن على نحو مختلف هذه المرة: كي نكون منصفين فلا بد من الإشارة هنا الى أنَّ جورج بولتيزر طيب السيرة والذكر، وحرصاً منه في الحفاظ على جذوة أفكاره، وبهدف تطويعها وتطويرها  وبما ينسجم وتغيرات العصر من بعده، فقد فكَّر ملياً وبمناسبات عديدة في أن يُولّي أمر خلافته الى أية جهة أو شخص، شريطة إمتلاكهما اﻷهلية الكاملة، ليقوما من بعده بحمل تلك الرسالة التي كان قد ابتدأها. آملا أن يجري نشرها وإيصالها لأوسع قاعدة من الناس وعلى محتلف الساحات. الاّ أنّه ربما يكون قد أخطأ أو تردد ولم يستقر على رأي بعينه، وقد يكون مردَّ ذلك ما مرَّ به في حينها من ظروف طارئة صعبة وعصيبة، مَنْ يدري! لذا لم يحدد بشكل واضح وصريح عن طبيعة الشخص أو الجهة التي ستتشرف بهكذا مهمة وتكون أهلاً لتحمل وزرها من بعده.

 ثم راح أبو داود مضيفاً في سرِّه أيضاً رغم جلوسه في عتمة الغرفة وحيداً بعدما أحكم غلق ستائرها عن مصادر الضوء: لا أظن أن الطوفان سيحدث لو ألمَحتَ على اﻷقل يا صاحبي (يقصد هنا بولتيزر)، أو كنت قد أعطيت بعض المؤشرات التي تؤدي باﻵخر ﻷن يتوفر على قناعة قاطعة، يمكنها أن تساعدني في الدفاع عن موقفي وتحملي بالتالي شرف المسؤولية، أنا فلان إبن فلان، الملقب بالعارف، ﻷكون خليفة من بعدك وليس من أحد سواي، وكفى المختلفين شر التنافس والتنابز، ولأغلقت الموضوع برمته وجنَّبتنا القيل والقال، ولكنت قد أسكتَّ كل تلك الأصوات النشاز المدعية بالمعرفة، أمثال ذينك الصبيين، النابتي الزغب والعقل ومَنْ لفَّ لفهما. ولكن لا بأس فقد آليت على نفسي تحمل وزر هذه المسؤولية، متشرفا القيام بها، وها أنا ذا، ناذرا عقلي وقلبي لها( واللي ما يعجبه خلي يطخ راسه بالحايط)، وسأحاول بذل ما أستطيع، من أجل المضي في حمل رسالتك حتى إيقاد كل الشموع وفتح كل ما أمكن من العقول المغلقة المتحجرة، بل سأزيد الطرق على رؤوسها وبكل ما اوتيت من قوة، علَّها تستجيب للغة العصر.

 (في لحظات كهذه، أنا الراصد لما صدر عن هذا الرجل أي من صاحب الحلم فيما يتعلق بجورج بولتيزر ومواضيع أخرى، لا أستبعد أن يكون قد خرج بها تحت تأثير الأرق الذي أصابه ليلتها وأدى الى حرمانه من النوم وما ترتب على ذلك من تعب وإرهاق وضعف تركيز. ولقراءته كذلك لذلك الكتاب اللعين والذي يحمل عنوانا فلسفيا، المعقد جداً في أفكاره ومحتوياته ولغته. أو بسبب تلك الصراعات الفكرية التي كان يخوضها مع الآخرين، أو لتلك العوامل مجتمعة، لذا فلنغفر له زلاّته إن كانت كذلك، فالرجل ورغم القيل والقال، سيبقى طيبا وصادقا في نواياه. وقبل الختام، الا تعتقدون ورغم كل الملاحظات التي سيقت بشأن ما ذُكِرَ، بأنه قد أصاب في بعضها ووضع الأصبع على الجرح!!!.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

 

منذ ليلة أمس، وأبيات إيليا أبي ماضي تلح علي، وتلح معها ذكريات فوق مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية

ترى ما الذي ساقها إلي؟ّ

إنها صوت الرياح التي تنحب، وتنوح خلف نافذتي طوال الليل، وحتى اللحظة نهارا، ومعها تهب المشاعر والشعور الذي لا يمكن تنحيته جانبا دون أن يسلبك رقادك، ويثير فيك قشعريرة تجاه الخالق الذي بيده مقالد هذا الكون.

" السحب تركض في الفضاء الرحب

ركض الخائفين

و الشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين

و البحر ساج صامت فيه خشوع الزاهدين

لكنّما عيناك باهتتان في الأفق البعيد

سلمى ... بماذا تفكّرين؟

سلمى ... بماذا تحلمين؟"

أتراني سلمى التي عرفت التأمل في الوجه المتواري وراء قهقهات الحياة، وضحكاتها العابثة بمصائرنا؟!

"أرأيت أحلام الطفوله تختفي خلف التّخوم

أم أبصرت عيناك أشباح الكهوله في الغيوم

أم خفت أن يأتي الدّجى الجاني

و لا تأتي النجوم"

وأستذكر وقفتي، وغوصي المطول في ذاك العمر الفتي جدا في الكتاب المدرسي الذي حمل قصيدة أبي ماضي الخالدة، وأنا التي ابتليت بهمّ الانصياع مبكرا إلى ما خفي في الكون، ودقّ، ومنه الكِبر والعجز، والرحيل، والفقد، والظلم، والعدالة المسلوبة، غير أني لم أستطع أن أكون سلمى، والشاعر يردد، وهو يحاول سحبها من أفق أظلم، واكتحل بغياب روحها في تلك اللحظات:

"أنا لا أرى ما تلمحين من المشاهد إنّما

أظلالها في ناظريك

تنمّ ، يا سلمى، عليك"

ورأيتني "سلماه" إذ يقول:

"إني أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطّريق

يرجو صديقاً في الفـلاة،

وأين في القفر الصديق

يهوى البروق وضوءها

ويخاف تخدعه البروق

بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام

لا يستطيع الانتصار

ولا يطيق الانكسار"

وأراني "سلماه"  ثانية وهو يرطب قلبها، ويطمئنها ليردها عن الخوف، والشعور المرير الذي اجتاحها إذ يقول:

" هذي الهواجس لم تكن مرسومه في مقلتيك

فلقد رأيتك في الضّحى

ورأيته في وجنتيك

لكن وجدتك في المساء وضعت رأسك في يديك

وجلست في عينيك ألغاز،

وفي النّفس اكتئاب

مثل اكتئاب العاشقين

سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

وكيف بي أرد إلا بالهواجس التي تبدل الحال حين يصرف المساء شمس النهار، ويلوكها في كبده ضاربا بمثلي الحال، فتنوء به وتكسر مجذافا استقوى به في النهار؟!

أما اكتئاب العاشقين يا صديقي الشاعر، فتلك حكاية الحكايات.. ففيها ألق الرومنسية، وصخبها، واستثارتها التي تخلق شجنا منه نرتوي ونتصبر على مرارة العشق، ولكن... ألست معي أنه لم يعد من عشق، ولم يعد من يستحق عناء العشق، والتشرد في أحضانه تلذذا؟!

يا لك من شاعر، وقد بلبلت بمفتاح رؤيتك أسرار حزني، وأنت تفصح عن تفكيري!

" سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

بالأرض كيف هوت عروش النّور عن هضباتها؟

أم بالمروج الخضر ساد الصّمت في جنباتها؟

أم بالعصافير التي تعدو إلى وكناتها

أم بالمسا؟

إنّ المسا يخفي المدائن كالقرى

و الكوخ كالقصر المكين

و الشّوك مثل الياسمين"

ويا لها من دعوة وأنت بها تأخذ راحتي بترفق إلى الجمال في الكون الذي يهب الطمأنينة والسلام، رغم نوح الرياح وعصف صوتها الأجش المخيف:

"مات النهار ابن الصباح فلا تقولي كيف مات

إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة

فدعي الكآبة والأسى

واسترجعي مرح الفتاة

قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى متهلّلا

فيه البشاشة و البهاء

ليكن كذلك في المساء"

ويا لك من عاشق ساحر حين حفظت تفاصيلي، بعد أن أكننت أسراري في وهج نبضك!

إذا لقد فقهت سر توردي ونور الضياء يغمرني، ولكن أتراك دريت أني أقتات على ضجيج النهار، ألوذ به وأسري، فأغفل عن وحشة تقبع في أعماقي تحيلني إلى ليل أود لو أن قمره ونجومه لا تأفل.. ولكن ما بيدي من حيلة يا صديقي سوى أن أحشر نفسي في نقسي، لأفلت بقيودي......

لقد صار الظلام حبيبا بفضلك أيها الشاعر..

سأجمع الآمال كلها باقة ورود أهديها لذاك العويل، فلعله يستكين ويهدأ، فأطمئن، وترتوي وسادتي بأماني سلاما، وسأحارب الخوف بعبير الهدايا، وإن لم أصب، فسألقي اللوم على الشعر وأصحابه..

غير أني أود أن أهمس لك بسر صغير وديع شفاف...

لقد تحولت دعوتك  في ذلك الزمان الذي صار حلما إلى أغنية، وطيف ذكرى، وهناك في ذلك الوطن البعيد الذي غادرني ولم أغادره تركت دفترا صغيرا مخمليا مزخرف الغلاف يخصني، أرجو أنه لا يزال على قيد الحياة، كنا نطلق عليه " دفتر الذكريات" أو

"أوتوغراف" ربما... ولم تخل حقيبة مدرسية لصبية منه وقعّت فيه  بعضا من نداءات قصيدتك:

" ولتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصبا

مثل الكواكب في السما

وكالأزاهير في الربى..."

لكننا جميعنا لم نتجرأ أن نرخي لدعوتك العنان، فنترك للحب يعمل أمره في قلوبنا عالما في ذاته..

"ليكن بأمر الحب قلبك عالما في ذاته

أزهاره لا تذبل

ونجومه لا تأفل"

فالحب كان محرما، محرما في زمننا نتزنّر به بعيدا عن عيون الرقباء، فرسانه أبناء الجيران، أو عابرون بحينا، أو رسم بطل شهير في فيلم بالأبيض والأسود، أو تخيل.... ولعل التخيل كان أقوى السلاطين على قلوب العذارى.

***

أمان السيد

18-5-2024

لم أعد أكتب للجمهور كما نوهت، بل، أمارسها الآن كالرياضة من أجل الصيانة البدنية!.. الدين يا جماعة الخير والتاريخ كلاهما من نوع واحد، أقصد، من صنف الكارثة الإنسانية! هذا ليس إجتهاد مني، بل، الواقع المخبول الذي نعيشه هو الذي صنفهما هكذا! فمن يرغب بمقاضاة أحدهم، عليكم مقاضاة الواقع الذي تعيشونه! اتفقنا؟.. حسناً، لنقل ما نريده..

في يوم لم أحبه، بعثت لي سيدة ملف قالت عنه ديوانها الشعري الأول..

طيب، ما دخلي أنا في كل هذا؟ أجابت بإسترخاء متمكنه منه:

- أرغب بأن تعيد كتابته بأسلوبك!!

مستغرباً من طرحها الشنيع، مجيباً بغباء مفتعل:

- كيف يعني؟.. ثم انتهى الموضوع من طرفي بالرفض طبعاً..

بينما كنت في يوم مغبر في القاهرة عندما طلب مني دكتور يقول عنه نفسه كاتباً روائياً؛ حسناً، رحبت به، فباغثني بطلبه وهو يرمي في حضني ملف قال عنه روايته الجديدة الثمينة:

- أريدك أن تقرأها وتعطيني رأيك فيها..

ما أن فتحت الملف حتى أغلقته! ليس تكبراً، بل تجبرا، نعم، كان الملف يحتوي على سوالف عجائز، لا تستغربوا، هذا ما وجدته في الملف، سوالف كتلك التي كانت العجائز تحكيها للصغار قبل نومهم!!.. وانتهى الموضوع برفض الإبداء بالرأي كيلا يعرف حقيقته المخجلة!

دخلنا مكتبه في مساء من يوم حار أجهل سبب أرتفاع حرارته في شتاء أفريقي لا يستهان ببرودته! حسناً، لأقل ما أنوي التنويه عنه، لم يكن مزحة إطلاقاً، بل كان موقفاً جدياً منه.. دخلنا مكتبه، كان محسوباً على المثقفين العرب، يكتب، وينشر، ويجري المقابلات الإذاعية والصحفية المحلية والدولية، وما أن فتح باب مكتبه حتى تفاجأت من وجود جهاز التلفاز يشتغل على صوت الدين وبصوت جهوري فاستغربت ذلك، سألته ببراءة نادرة:

- هل نسيت جهاز التلفاز يعمل قبل إغلاقك المكتب؟ هذا هدر للطاقة ومكلف في ذات الوقت.. قاطعني متأرجحاً بوقفته كشخص سكران:

- هناك من عمل لي عملاً.. فأردت طرد الشياطين والجن وإبطال العمل السيء المعمول لي لذلك أبقي جهاز التلفاز على هذه القناة صباح مساء وهي تبث صوت الدين!. أكيد عرفتم ما نقصده بصوت الدين؟..

في يوم كان ضبابياً، عند نهاية الخريف، لم تكن الرؤيا فيه واضحة، مثل بخار متصاعد من على قدر ماء يغلي؛ خاطبني أحدهم من دولة بائسة، لا يعرف تاريخها غير القتل والمرض والتراجع، ما علينا، هذا ليس موضوعنا. قال لي بالحرف متباهياً بغرور لا يملكه أجبن ديك:

- سأبعث لك قصة قصيرة كتبتها وأنوي المشاركة فيها بمهرجان للقصة القصيرة..

سألته مستغرباً من حديثه، شعرت بأني لست طرفاً في أمنياته! فأجبته بجدية لعينة يرفضها الناس لصدقها:

- نعم أسمعك!

سمعته يضحك كالشيطان وهو يغرد مبتهجاً بإنجازاته العظيمة، مجيباً:

- هكذا أنت دائماً تبحث عن المتاعب في ردودك! ثم واصل مستهتراً:

- أريدك أن تعيد صياغة القصة كي أفوز بإحدى جوائزها الثمينة! بعدها قتل جملته بقوله: هذا طموحي الذي أتمسك به وأود تحقيقه!..

عجيب أمور بعض الناس، هو يريد تحقيق أحلامه ولا يقدر، طيب، ما ذنب الآخرين بلعناته تلك؟!

أجبته بالرفض القاطع طبعاً، لكنه أستمات، أعاد المحاولة تلو الأخرى، وهو يتوسل حد البكاء.. وقتها لنت، قلت لنفسي، لن أخسر غير الجهد، لأفعل له ذلك وليرحمني الله.. أعدت صياغة قصته الشنيعة بأسلوبي المنكوش، وفاز فعلاً بالجائزة الثالثة لمهرجان القصة القصيرة!.. ثم نسيني ولم يعد يعرفني كالذين كتبت لهم مقدمات لكتبهم، تلك التي لم أتقاض عليها أجراً..

في يوم ولى فيه الصيف الذي لا نعرفه، كتب لي أحدهم طالباً كالعادة، أن أنظر لشيء يقول عنه قصة قصيرة! لبيت طلبه بإحترام خالص، بحثت عن قصته التي يقول عنها قصيرة ولم أجدها! أعني، كلما تمعنت بالنص أبتعد عن مفهوم القصة القصيرة. طيب، ما الذي أفعله تجاه شخص توجه لي شخصياً بالرجاء لمتابعة أو معالجة شيء يقول عنه قصة قصيرة، وما هي بقصة. لا تمت لبرنامج القصة القصيرة بشيء إطلاقاً، كانت مجرد خاطرة طويلة، لعينة لا تريد أن تنتهي، وهو يردد أنها أجمل إبداع ظهر لي في مجال القصة وأحب أن أعرف رأيك فيها؟!..

الحقيقة، لم أرد عليه كيلا أجرح قلمه.. لذت بالصمت، وجدتها أحلى صلاة أمارسها تجاه هكذا أعمال شيطانية، لا تنبعث إلا من جهال..

مما تقدم لدي ما أذكره، هذا لا يعني بأنهم كلهم هكذا، على العكس؛ هناك من هم أهل للثقة، حتى وإن كانت إمكانيتهم على قدر حالهم، يعترفون بذلك، لا يقلل هذا من قوة شخصيتهم، أجده نافعاً جداً، احترمه وأتعامل معه، وللمثال، أذكر إعلامي عراقي، أرسل لي ملف فيه قصة حياته الإبداعية، قال، هذا وما مكنني الله عليه، صغه بإسلوبك، وأضف له ما تجده مناسباً، حرره من القيود والأخطاء، أجعله كتاباً أفتخر به ومن خلالك.. احترمت صراحته، قدرتها حق تقدير، جلست، قرأت ما كتبه، فأعدت صياغته بأسلوبي، أضفت وحذفت ما وجدته لزاماً حتى خرج الكتاب بأحلى جوهر، فنقدني الرجل 500 يورو نقداً وعدا لقاء ما قدمته بجدية صارمة وصلت حد الإيمان، كإيمان الإنسان بالحجر من قبل، ذلك الذي كان يعبد ويسجد له كونه آله لا يضر ولا ينفع، لا يسمع ولا يتكلم، مسالم كان الحجر وطيب!..

***

بقلم: هيثم نافل والي

 

لا أحد يستطيع كتابةَ كينونتهِ إذا ما رامَ الكتابةَ الموصوفةَ بالخلقِ لأن هذه الكتابة بالذّات موكولة لربّ الخلق. وعليه، فكل محاولاتنا في التحبيرو التعبيرعن ذواتِنا إن هي إلا أشكالٌ من التقريبِ للجسد من ظلالِه، أو أضربٌ من الترتيبِ للظلّ في دوائرِ الجسد. وأقصدُ بالظلّ كلّ الهيولى الممكنة ولا أقصد انعكاس الكتلة بفعل مرجعية الضوء.

و كينونتي التي يمكنني أن أصوغَ فيها بعض الاجتهاد هي مساحتي الممكنة. ولكنّها مساحةٌ محدودةٌ بحواسّي. ومن ثمّةَ فعليَّ إن أردتُ أنْ أوسّع دائرتي من قبضة المحيط إلى شساعة الأفق، عليّ أن أغيّر من أدواتي القارئة لكينونتي. ومعناه، أن المباضعَ الّتي استمدّها من حواسّي الخمسة نفقَ أثرُها واستنفدتْ أغراضَها وصارتْ قاصرة عن المعرفة. وهكذا سأتكرّرُ في غيرِي لأنني لم أغيّر وجهةَ نظري من قارئٍ لكينونتي داخل الشّبهِ إلى قارئٍ لها داخل الخصوصيّة والاختلاف والتمرّد على مجموعة من الصور النمطية التي حكمتْ مخيالي وأطّرتْهُ بحكم هذه الأدواتِ الّتي صاغَها التاريخ وقدّمَها لِي أصلاً لا محيد عنه ولا مناص، كلّما رغبتُ في الكشف عن كينونتي.

يكفِيني فقط أن أخرجَ من كينونَتي وأن أضعها مؤقّتاً أمامي، مثل آخرَ يستحقّ الدرسَ بمعزِلٍ عن أهوائي فيها ولها. فهي سلطانٌ قاهِرٌ للموضوعية، ونافٍ للحياد، وحاجزٌ سميكٌ من التمثّلاتِ يحول دونَ ملامسَة بعض الأمر في حقيقته أو أقرب إلى حقيقته إن شئنا القول في أمانة علمية.

ها أنا الآن صانعٌ لبعضِ المسافة بيني وبيني. وها أنا أنظرُ إليَّ ببعض الحياد، متجرّداً من سلطانِ النرجسِ القابعِ فيَّ أبيتُ أم شئت. وأنا الآنَ أقاوِمُ هذا القهر الأنوي عسايَ أظفرُ ببعضِ المعنى خارجَ تاريخِ نرجسيتي الموغلة في كينونتي المسكينة.

 قالتْ لِي رأسي: لن تستطيعَ فكاكاً من أناكَ يا أنا...

قلتُ: لِمَ؟

قالتْ: السببُ أنّ أول ضريبةٍ لهذه المكاشفة هي أن تكونَ ماءً.

قلتُ: لم أستوْعِبْ...

قالتْ: أخْلِصِ العراء.

كانتْ هذه العبارة مثل الضربة القاضية الّتي أسقطتْ، وفي نفسِ الآنِ أيقظتْ.

فهمتُ إذن أن كتابةَ الكينونة معناها كتابةُ العراء. ومن لم يَسْطِعْ أن يتعرّى فلا هو بالكائن ولا هو بالكاتب.

***

نورالدين حنيف أبوشامة - ناقد من المغرب

الخروج عن العلاقة المعهودة بالخزف والطين الى حالة من الابداعية المحيلة الى شعرية ناعمة بينة وظاهرة في الأشكال.. تجربة ومعارض في تونس وخارجها وأعمال بكثير من الاحساس والبعد الانساني حيث التقاء أفكار ورؤية واضحة في مدى اللعبة الفنية وجمالياتها...

الفن.. هذا السفر العميق في الزمان والمكان وفق نظر بعين القلب لا بعين الوجه تماما كالحلم.. انها فكرة الذهاب بكثيرمن شجن الذات وشغف الكينونة تأصيلا للكيان.. و ماذا لوكان هذا التخير الفني مجالا شاسعا للتشكيل واللعب مع المادة وبها في تعدد لأحوال هذا التعاطي مثل الأطفال ببراءة نادرة..

هكذا هي الفكرة الجمالية لفنانتنا التي تخيرة من سنوات في شواسع الفنون البصرية التشكيلية الذهاب في الدروب الصعبة نحتا للقيمة... القيمة الجمالية والرمزية حيث الأشكال في تعدد هيئاتها بحسب التصور والقدرة التخييلية فالفن هنا وعندها هذا التجريب الواعي والحارق بأسئلته وحيرة تفاصيله وشجن عناصره في كون من التعدد والتسارع والتغير.. و اذن كيف للفنان أن يمنح الفكرة أطوارها الجديدة والمختلفة والمعبرة في عمق عن الاعتمالات وما يحف بها حيث المادة المتطلبة لجدلية التعاطي فيما يشبه الحوار.. بل هو عين الحوار المقام بين الذات الفنانة والمادة عنوان وعنصر وموضوع المنجز الفني.. و هكذا...3912 ليندا عبد اللطيف

و هذا ما أخذنا الى تجربة الفنانة التي نعني وهي في سياق هذه الاشتغالات والاعتمالات الفنية وضمن تجربة التعاطي الفني الدلالي والرمزي و... الشاعري مع السيراميك.. تدعك المادة تحاورها وتحاولها استنباطا واستقراء ومحاورة في حميمية نادرة.. تدعك شيئا من روحها طينا وتعيد القول مرات بسؤالها المقيم فيها حول الشكل ومبتكراته خروجا عن العلاقة المعهودة بالخزف والطين والصلصال الى حالة من الابداعية المحيلة الى شعرية ناعمة بينة وظاهرة في الأشكال في مساحات وفضاءات وأطر متعددة كأن يتعدد ذلك بين الاطار المغلق لتكوين وحدة جمالية متعددة العناصر او في اطار تماما كاللوحات حيث يتراءى للمتقبل جمال العمل مثل اللوحة في الجدار ولكن في خروج عن الصورة المسطحة ليبرز العمل بحركته وخروجه عن ما هو مألوف في الاطار على غرار القماشة...

ابداعية متعددة في الأشكال وجمالياتها الدالة بتعدد القراءات والتأويل.. انه لعبة الجنون الناعم في تعاطي الفنانة مع المادة قولا بالبحث والذهاب الى الجمال المبثوث في الأرجاء استعارة وحوارا فكأنما الأعمال ترغب في البث... تبث أصواتها وبريق ألقها وجمالها بما هي ترجمان أحوال الفنانة الخزافة المواصلة لنهجها الفني الذي تقصدته من عقود..

والفنانة هنا هي ليندا عبد اللطيف التي أخذت جمهور الفن التشكيلي الى عوالم أخرى من تجربتها حيث السيراميك مجال شاسع لفكرتها اليانعة منذ سنوات والتي تقودها في أطوار مختلفة الى ما ترنو اليه كفنانة حالمة في حوارها مع المادة شكلا وجمالا وموسيقة وكلمات مبثوث مثل قصائد عالية تخرج من طين المعنى.. من صلصال الكلمات..

ليندا عبد اللطيف عبرت عن هذا جيدا وبوعي الفن في نشاطها وتجربتها ومعارضها ومنها هذا المعرض النوعي برواق كاليستي بسكرة الذي انتظم في الفترة من 13 أفريل الى 04 من شهر ماي الجاري ليضم عددا مهما نت أعمالها المميزة جماليا ودلاليا لتعبيريتها الباذخة عن عمق تجربة فنانة جادة مع ذاتها والمادة والمنجز.. هذا المعرض نال اعجاب المتقبل حيث شهد زيارات للفنانين التشكيليين والنقاد والأكاديميين وأحباء الفنون ورواد الفضاء الجميل ونعني رواق كاليستي.

أعمال فنية بها تفاعلات مع المادة بين التطويع والتفاعل والمقاومة والتقبل وما يحيل الى نص من الرغبة والحركة والفعل حيث الأنامل تترك فعلها البريء والمتقصد في الطين ومجمل المواد في نزوع نحو التأليف الجمالي وهكذا كانت المنجزات الفنية متعددة الهيئات والاشكال في تناغم لحظة العمل المضنية مع الذات وأحوالها وتفاعلاتها في تقابل عضوي حي ومن ثمة يكون العمل مكتسبا لسرديته الجمالية ودلالات تفاصيله.. انها أعمال بمثابة نصوص..3913 ليندا عبد اللطيف

تجربة ومعارض وأعمال بكثير من الاحساس والبعد الانساني حيث التقاء أفكار ورؤية واضحة في مدى اللعبة الفنية التي كان من مظاهرها الرائقة هذا المعرض برواق كاليستي ونشير بالمناسبة الى تنوع مشاركات ليندا عبد اللطيف في فعاليات وأنشطة فنية تشكيلية وثقافية بتونس وخارجها حيث المعارض الفردية والجماعية ومنها نشير الى عملها الرائق والجميل في قصر خير الدين ضمن الصالون السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين أفريل 2024 والذي تميز بجمالياته الفائقة وصار بمثابة التنصيبة الخزفية والمعبرة عن قوتها ودلالاتها وعنفوان بوحها الاستيطيقي...

الفنانة لينده عبد اللّطيف حاصلة على الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون في الفنون عن " مشكلات هيمنة السواد في بعض الممارسات التشكيلية الغربية الحديثة والمعاصرة: النهج التشكيلي والجمالي " وقد  كانت مشاركاتها عديدة في المعارض والصالونات الوطنيّة والدوليّة، وهي تدرّس بمعهد الفنون الجميلة بتونس اضافة الى ادارتها لعديد الورشات مع الفنانين والشبان وهي أيضا عضو بلجنة تحكيم دوليّة بالأكاديميّة العالميّة للفنّ.

معرض وأعمال وتجربة تعد بالكثير ضمن مسارات الفن متعددة الأسئلة والدروب والأحلام ومجال شاسع لتشغيل الخيال في التعاطي مع المادة والشكل واللون بما يشي بالتناسق والاختلاف..  والفن هو هذا التمشي وغيره في ذهن الفنانة.. و مسار عملها المضني في جمال وبهاء...  ومتعة.. أليس الفن بالنهاية هو هذا البوح الجميل المبثوث في المنجز من قبل ذات من حلم وعطاء...  وابتكار...

***

شمس الدين العوني

تغنى بقصائده بعض من أبرز المطربين مثل طلال مداح ومحمد عبده وعبادي الجوهر وعبد المجيد عبد الله وخالد عبد الرحمن وعبد الله الرويشد وكاظم الساهر وصابر الرباعي وراشد الماجد، لقب بـ«مهندس الكلمة»، وأيقونة الشعر السعودي، والفنان والفيلسوف الذي لا يكل ولا يمل من إبهار جمهوره المتعطش له دائماً، ليبقى البدر مضيئاً منذ نحو نصف قرن، وكان من أبرز الشعراء في الجزيرة العربية، وساعد على انتشار قصائده تقديمها في أغنيات لحنها أبرز ملحني الخليج من أمثال طلال مداح وعبد الرب إدريس وسامي إحسان، هو أحد أبرز روّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية وله مجهودات كبيرة في وضع نصوص أدبية تجمع بين الغزل والفخر والرثاء والواقع الاجتماعي والسياسي للسعودية خصوصاً والعالم العربي عموماً

وصل شعر عبدالمحسن إلى الغناء العراقي في وقت متأخر نسبيا عن تجربته وعبر الفنان سعدون جابر الذي اختار له الموسيقار السعودي عبدالرب إدريس لحنا معبرا عن طبيعة الغناء الذي يمثله في ثمانينات القرن الماضي “أنا معك” فكانت المفاجأة العراقية مثيرة للاهتمام في لحن ونص سعوديين، واختار الفنان كاظم الساهر خمسة نصوص للشاعر الراحل، في أغنية “أنا معك” لسعدون جابر صنع عبدالمحسن من قصة الحضور والغياب في حضرة الحبيب حكاية “أنا معك/ هذا المهم/لا صرت اشوفك واسمعك” حتى يصل إلى لحظة الفراق، وعندما أراد الشاعر الراحل اكتشاف نصه من جديد في صوت عراقي كان لا بد من أن يكون كاظم الساهر حاضرا، ففي خمس أغان: “ناي”، “صور”، “الجريدة”، “ممكن توصلني” و”تحبني”، اختار الساهر قصائد بمثابة حكايات، وغير مفهوم إلى الآن لماذا وقع اختياره على الملحن السعودي الراحل محمد شفيق، دون أن يقوم هو بتلحينها؟ مع ذلك بقيت تلك الأغاني جزءا مهما من تجربة الفنان كاظم الساهر، من دون أن تأخذ المكانة التي أخذتها بقية ألحانه في الوجدان العربي، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى الأسباب الفنية وحدها

ولد الأمير بدر بن عبد المحسن في الثاني من أبريل (نيسان) 1949، وتوفي في الرابع من مايس الحالي، عن عمر ناهز 75 عاماً، منح وشاح الملك عبد العزيز عام 2019. وفي مارس (آذار) 2021 أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة عزمها على جمع وطباعة الأعمال الأدبية الكاملة للأمير بدر تقديرا لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود من الزمن. كما كُرّم في مارس آذار 2023 في ختام مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت في دورته الثامنة والعشرين باختياره شخصية المهرجان، وتولى سنة 1973 رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعُين رئيسا لتنظيم الشعر بالسعودية، وتم تكليفه لعدة سنوات بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لعدة مهرجانات محلية أبرزها مهرجان الجنادرية. وضمت خمسة دواوين هي: هام السحب، وشهد الحروف، ورسالة من بدوي، وما ينقش العصفور في تمرة العذق، ولوحة.. ربما قصيدة، صدرت أعماله الشعرية الكاملة تزامنا مع معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2022، وهي «هام السحب، شهد الحروف، ما ينقش العصفور في تمرة العذق، لوحة ربما قصيدة، رسالة من بدوي»، بإشراف مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية، وبمبادرة من وزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتنفيذ شركة «المحترف السعودي»، التي تسهم بإشراف الهيئة، على ترجمة هذه الأعمال الشعرية إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، من خلال لجان متخصصة، لنقل تجربة الأمير بدر بن عبد المحسن الشعرية إلى العالمية.

***

نهاد الحديثي

قالَت لي نُميلَتي ذاتَ فجرٍ وهيَ سائِلةٌ باستِعلامٍ واستِخبار؛

- دَعني يا سيدي أستَفهِمُ منكَ أمراً لا يَحتملُهُ قلبيَ الضَّعيف وهوَ فيه مِحتار؛

«ما بالُكَ تُفضِّلُنا على بني جنسِكَ المُكَرَّمِ المُفَضَّلِ المُختار، فتمكُثُ فينا جُلَّ دقائقَ الفَجر وحتّى حينٍ من ساعاتٍ في نهار، ثمَّ أراكَ تعودُ كرَّاً معنا كلَّ يومٍ إن عادَ الفجرُ واستَدار»،

- أجل نُميل، لاشَكَّ أنّي أفَضِلُكُم على بَعضِ بني جنسي ممن هو خوَّانٍ خوَّار، ومنهُم مؤمنٌ ظاهراً لكنَّهُ في سِرِّهِ ظَلومٌ كفَّار. وما مكمنُ سَعْدي إلا في عَوْدي لكم كلَّ آنٍ ويُستَثار، وأرانيَ أعودُ لرُحابِ مجلسِكم إن حاقَ بذِكرِي بلاءٌ واختبار، وتَاقَ فِكري لارتقاءٍ واسْتِبْشار، أو إن عاقَ وجدي هَمٌّ مضَار أو غَمٌّ أغار، وسَاقَ الهَمُّ مَأْزِقَهُ فاضْطَرَمَ تَنُّورُ الغَمِّ وفَار. ولكأنّي بِبَعضِ بني جنسي يا نُميلَ يتنطّطُ وهوَ مِنَ الاعتبارِ عار، ويتَلبَّطُ وهوَ في الاوضارِ صَار، وكأنَّهُ فأرٌ تَدورُ عيناهُ مَن لسعةِ ماءٍ بَقبَقَ القِدْرُ بهِ وفار. بل وكأنّي ببعضٍ منهم قد خُلِقَ من مَارجٍ من نَار.

لا جمالَ يا أيُّها النَّملُ إلّا في أُنسٍ معكم، معَ مَنِ لهُ القلبُ يختارُ وبهِ سَعيد، وإنَّما خيرُ ما يتمناهُ المرءُ من أيامِ عُمُرٍ قصيرٍ أو مديدْ؛ صلةَ رَحِمٍ مِن صَفاءٍ ووَفاءٍ ويُريد؛ خلَّةَ فَهمٍ من بهاءٍ ومن هناءٍ تَزيدُ ويريدُ؛ كَلمَ صِدقِ في صبحٍ من صدوقٍ وعنهُ لا يحيدْ، فما كانَ ابنُ آدمَ إلّا كياناً من قلبٍ خافِقٍ رشيدٍ، ولساناً دافقٍ ودودٍ سديد، وما كانَ ينبغي لابنِ آدمَ أن يكونَ ذا فؤادٍ آبقٍ وكيانٍ لدودٍ عنيدْ.  وَأنا ما أُبَرِّئُ نَفْسِي وإنَّ خافقي لهُوَ بَيْنَ بَيْنَ يتَرنَّحُ ولساني عن فؤادي لا يَميد، فترَينَهُ يَخْفِقُ تارةً برأيٍ حميد، وتارةً يُخفقُ عن شيءٍ رشيد.

أنا يا بني نَملٍ لا أطيقُ مَجلساً أَطَّ بأوحالِه، فَنَطَّ باختيالِه، فَحَطَّ في سَفالَة! وأنتمُ يا بني نّملٍ، قدِ اتخذَكم فؤادي وطناً في حلٍّ وفي ترحاله، ولن يبغيَ عَنْ همسِكُم حِوَلًا ولا بدلاً بدَا له، وإذ أنتُمُ قناديلَ فَجريَ المؤنسِ بجَمالهِ، وإذ تغشاني في شروقٍ أنيسٍ نَفيسٍ بكَمالِه.

- وأنتَ يا سيدي شمسُ فَجرِنا وجماله، يا نبيلَ البيانِ بسحرهِ ومثاله، و..

- أنتمُ يا بني نملُ لا تُقهقِهونَ كما هُمُ يُقهقِهونَ عليَّ بازْدَرَاءٍ ورُبَما بنَذالَة، وأنتم لا تَظنُّونَ بي مِثلما هُمُ يظنُّونَ أنَّيَ بَليدُهُمُ، وأنّي من زمانٍ غابرٍ غَبيٍّ في مثالِهِ، ومن مَكانٍ بَغيٍّ غامِرٍ في خَبالة.

أوَلَمْ تَرَوا يا نملُ، أنَّ النَّملَ مِنكُمُ لا يتَبَجَّحُ ضُحىً فيَزأرُ ذَوْدَاً عن أرضٍ وعِرضٍ وعن جُذورِ من أصَالَة، بينما يتَنَحنَحُ عَشيِّاً ويَجأرُ عَوْدَاً الى خَوضٍ في مَصَالَة، ثمَّ الى خُمورٍ يَتَرَنَّحُ بها حتّى الثَّمَالَة. وَعندَما يرَى الحشدُ منكُمُ المَلِكةَ مُقبِلةُ فلن يُجَلجِلَ بالرُّوحِ يحَميها ويَفَديها بدماءٍ من رِجالِه، وَحينَما يَرَاها مُدبِرةً فلن يُوَلوِلَ بالبوحِ عليها ويرميها باللَّوحِ ورُبَما بِنِعالِه. ولئنِ انقَلَبَت بعضٌ منكم إلى الملكةِ متفاوضاً وثائِراً من أجلِ إنصافٍ وعَدالَة، فلن يَنجَذبَ لها خائِراً من أجلِ مَنصبٍ بَدَا لَهُ، أو دينارٍ بِدَالَه.

- حُقَّ لكَ يا سيِّدي أن تُجالسَنا في صَمتٍ أو في خَبتٍ من مقالة، مادامَ وصفُكَ فيمن لا يَشعرُ من بني جنسِكَ بما فيهِ من نذالة، ولا يعلمُ أنَّ أَنْفَهُ لا يُقيمُ وَزَنَاً عَدَا فَرْجَهُ وما دونُهُ يَكنسُه بالإزَالَة، وإنَّ أَنَفَهُ لا يُديمُ حَزَنَاً خَلا خَرْجَه ولن يبغيَ عنهُ استِقالَة.

- وَلَوْ أَنَّ أولاءِ «فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا»، ولكنَّ فعلَ الوَعظِ فيهُمُ يَبدو بعيدَ المَنالِ بل استِحالة، بعدما خابَ في النُّفوسِ جِدُّها وفَصلُها وتقطَّعت في الجدِّ أوصاله، وذابَ منها ودُّها ووصلُها وتنَطَّعت في الودِّ حثالة. حثالةٌ اضحتِ تُغَيِّرُ رِفْقَ التَّعارفِ الى ثغاءٍ وصديدٍ باستحالة، وتُصَيِّرُ دِفقَ التَّآلفِ الى إغواءٍ بتغريد لإستمالة. وإذاً، فدَعوا فجرَ أيَّامي يا بني نملٍ مَعكم  يَنقضي بدلاله...

ويا لجمالِ فجرِ النَّملِ ويا لكماله!

كانت تلك (صفحة من مخطوطة كتاب لي " حِوَاري مع صَديقتيَ النَّملةِ" تبحث عن ناشر).

***

علي الجنابي

 

التراث المصري المعاصر يبدو كمغارة على بابا الحافلة بالجواهر والأحجار الكريمة.. والذين ينبشون الماضي ويزيحون التراب عن كنوزه المردومة سيكتشفون منجما لا ينضب..

أحد الذين اكتشفوا شيئاً من تلك الكنوز هو الكاتب (أبو الحسن الجمال) الذي أتحف المكتبة المصرية بإعادة اكتشاف أحد رموز الصحافة المصرية وهو الصحفي (طاهر الطناحي)!

الحكاية بدأت بالصدفة.. مقال كتبه الأستاذ أبو الحسن عن طاهر الطناحي بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله، فقرأه الشاعر الساخر ياسر قطامش وتحدث مع المؤلف وأخبره أن الصحفي الراحل له ابن على قيد الحياة يُدعَي ثابت الطناحي، فتواصل معه وإذا به يكتشف أرشيفاً غزيراً تركه الطناحي ولم يظهر للنور!

هكذا قرر أبو الحسن الجمال جمع هذا التراث من كافة مصادره، من مكتبة ابنه ومن دار الهلال التي قضي بها الطناحي أربعين عاماً من عمره، ثم من التراث المنشور للطناحي في دار الكتب. يقول الجمّال عن الطناحي وتراثه الغزير: (حاور الطناحي أعلام العصر من السياسيين وكبار الكتاب ومعظم رموز مصر والعالم العربي، وقد توفر لطاهر الطناحي المنابر والمنافذ للنشر/ فقد كان ينشر في كبري الصحف والمجلات منها مجلات دار الهلال مثل الهلال والمصور وكل شيء والعالم، والدنيا، والمصور، والاثنين والدنيا، ثم في مجلات أخري مثل الرسالة لأحمد حسن الزيات، والثقافة لأحمد أمين، وجريدة دمياط، وجريدة البلاغ، ومجلة العربي الكويتية ومجلات الأديب والآداب التي تصدر في بيروت، ومنبر الإسلام في مصر وغيرها).

معنى ذلك أن التراث المقروء والمسموع والمرئي من صور ولقاءات ومقالات ومؤلفات أدبية لهذا الصحفي الكبير هو تراث غزير ضخم يستحق إعادة عرضه واكتشافه وتقديمه لجمهور القراء.

هكذا جاءت فكرة جمع بعض هذا التراث الصحفي الثري الدسم في كتاب نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان: (من تراث طاهر الطناحي). جاء الكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وتم تقسيمه لأربعة محاور: المحور الأول منه شمل حوارات الطناحي مع أعلام العصر في السياسة والأدب والفن وهي حوارات متعددة ضمت الكثير من الأسرار والمعلومات غير المألوفة. أما المحور الثاني فقد تناول طرفاً من تراجم الطناحي عن أعلام العصر والتي جمعها في كتبه: "ساعات من حياتي"، و" ألحان الغروب"، و"الساعات الأخيرة" و"أطياف من حياة مي"، و"حافظ وشوقي" و"حديقة الأدباء"و"خليل مطران".

ثم المحور الثالث من الكتاب والذي سرد فصولاً أدبية وتاريخية ودراسات نقدية وفكرية للطناحي باعتباره شاهداً على عصره كأديب وصحفي ومحاور وأحد الذين وضعوا نصب أعينهم مهمة تسليط الضوء على معاصريه من الأدباء والسياسيين والفنانين كمحاور وكاتب للسيرة الغيرية وصاحب رأي في هذه الحقبة الثرية الحافلة بالأحداث والمواقف والشخصيات..وقد عاش الطناحي فى النصف الأول من القرن العشرين، بين عامي 1902 وعام 1967.

أما المحور الرابع من الكتاب الدسم فقد اهتم باستعراض الإنتاج الأدبي للطناحي في مجال القصة القصيرة، وهو المجال الذي اقتحمه كثير من صحفيي الجيل الأول والثاني؛ من واقع احتكاكهم بالحياة ووقائعها اليومية، ومن معايشتهم للأجواء الأدبية شديدة الحيوية آنذاك، والتي تحولت في بعض منحنياتها لمعارك أدبية بين مدارس الأدب المختلفة.

الحق أن الذي يراجع صفحات هذا الكتاب وما حواه من إنتاج صحفي واحد من بين عشرات الصحفيين الرائعين القدامي والحاليين لابد أن يتعجب ويندهش ويتساءل: أين كان كل هذا؟ وهل هناك قعر لهذا البئر السحيق الذي توارت فيه مثل هذه الكنوز الصحفية والأدبية؟! ولماذا لا نجد أمثال الكاتب أبو الحسن الجمال الغيور على هذا التراث لإعادة اكتشافه؟

ثم هناك أمر لابد من الإشارة إليه والتأكيد على مغزاه.. أن هيئة الكتاب بات لها اتجاه واضح رائع لمد الخيوط نحو الجذور لوصلها بالحاضر. وأن ثمة رغبة صادقة لإحداث حالة من التغيير النوعي في المحتوي من خلال اكتشاف كنوز التراث في مختلف مجالات الفكر والأدب والثقافة.

وفى ظل ارتفاع أسعار الطباعة والنشر الورقي، وبالرغم من هبوط الخط البياني للقراءة الورقية لا في مصر وحدها بل في كل الدنيا، إلا أن الهيئة ظلت حريصة على إتحاف المكتبة المصرية والعربية بمائدة متنوعة من المؤلفات رخيصة الثمن عالية الجودة ثمينة المحتوي، تلك المؤلفات التي تبرز حجم القوة الناعمة في مصر وضخامة ما تمتلكه من تراث فكري هائل لا ينضب.

البعض قد يصنف كتاب (من تراث طاهر الطناحي) كأحد الكتب المتخصصة في مجال الصحافة، وأن قراء الكتاب هم الأدباء والصحفيون، إلا أنني أؤكد أن مختلف الفئات المثقفة سوف يندهشون من قراءتهم لهذا الكتاب، وسوف يعدونه إضافة مهمة لمكتبتهم الخاصة.

***

د. عبد السلام فاروق

للحديث عن الريف والديرة والموروث الشعبي، مع شاعر البادية محمود حمادي الهندي، نكهة خاصة، وذلك لموهبته، وتمكنه، وبلاغته، وتراكم تجربته. وتجدر الاشارة الى ان المتلقي يتلمس في ثنايا سرده معه،كيف توطنت بعمق، ذكريات الماضي في وجدانه الريفي الزاخر بكل صفحات تلك الذكريات الحالمة . ويتملكه عندئذ،  شعور عارم برهافة حسه الشاعري في الوصف، حيث تتجلى بلاغة توظيفه المفردة الشعبية، باقتدار واضح، في نظمه القصيد، حتى يخال له انه يعيش الحدث، ساعتئذ، بمعيته، بين احضان جداتنا أيام زمان، حيث يقول في قصيدة له:

أشكَد مشتاكلج يادار أهلنه

تعاليل وفرح ورياح حنّه

*

بيادر والحصاد وبيها جدّاح

نسينه رسومها وهن مانسنّه

*

جريبة من الكَلب كَرب الشرايين

ولو حتى الليالي باعدنّه

*

جانون وبرد وبليلج أنخاف

وياجدّاتنا إشكَد خورفنّه

*

أثاريها سوالف للينامون

وكل ظنّه السعالو ياكلنّه...

ويلاحظ المتابع لنظمه، انه نتاج بيئة ريفية النكهة، والتقاليد، يسود أعرافها الفخر، والإعتزاز بمكارم القوم، والتغني بالربع، والربوع، والمكان. ومن ثم فإن نظمه، يأتي في صميم ممارسته شعر الوقوف على الإطلال، في الشعر العربي الأصيل، وما ينطوي عليه من تقليد ظاهرة ابراز المعاني، والدلالات التعبيرية الرفيعة، لعلاقة الإنسان العربي،بالموروث من التقاليد، والمكان.

وبذلك فإن شاعر البادية محمود حمادي الهندي، بجدلية التعبير عن علاقة وجدانيات الحس المرهف بالمكان، في نظمه الابداعي، انما يحاكي، اسلوبية شعرية، وثقافة عربية متجذرة بالأصالة، عصية على المسخ،والتشويه، والضياع،بضحيج تداعيات عصرنة صاخبة، بكل ابعاد جوانبها السلبية.

انه بهذا الإبداع المتميز في النظم، والتمكن المقتدر في تصوير مفردات الموروث،يمثل طاقة إبداعية متوهجة من طاقات الديرة الواعدة،ولعل نعته بشاعر البادية، إنما يأتي تجسيدا حيا، لاقتداره المفرط، في إختيار المفردة الشعبية،ونجاحه في دسها ببلاغة مدهشة، في ثنايا نظمه،دون تكلف.

***

نايف عبوش

بعد منتصف الليل،خلال جولة في داير الناحية بالقرية  توقعت ان الوقت مناسب للمشي بسبب ظروفي الصحية، من تعليمات الطبيب بعد إجراء جراحة  بالمشي ساعه، وبسبب قصر النظر، كان في اعتقادي هذا وقت مناسب

رغم ان الساعه تقارب  الثالثة صباحاً الشوارع تدب بالحياه (موتسكلات وتكاتك اطفال في الشوارع مكبرات صوت تخرج من كل مكان)، فوضي وكأنك في وضح النهار   وجوه العزلة في المساء لا يعرفها هذا الجيل نحن جيل عشنا هذا الزمن ونحن صغار الشوارع فارغه من المارة قبل صلاة العشاء،  .

خلال جولة في الصباح،  الساعة الثامنة والنصف، كانت الشوارع فارغة،أين الناس ...؟

تذكرت صديق للآول مرة يسافر الي اوروبا وكان ضيف عندي في شمال  المانيا،،فقال لي،- أين الناس ..؟

لم أجد غير التمثال في الميدان الذي انتظرتك فيه..!!

كان ردي انها العزله الجماعية  هنا الناس تستيقظ في المانيا الساعه الرابعه صباحاً

وتذهب للعمل،

أما في المساء فتكاد الشوارع فارغة ياصديقي،   خرجنا يوماً للنزهة في المساء والشوارع صامتة فسألني نفس  السؤال :

" أين الناس؟" هنا حياة منظمة وفي المنازل حياة مختلفة.،. هنا شارع وميدان للسهر ليلة الأحد فكان شغوفاً

للخروج، في الميدان وأثناء التقاط بعد الصور التذكارية، وقفت سائحة والتقطت عدة صور للتمثال، لكنها لم تلتفت إلي:

يبدو أنني غير مرئي" أرى ولا أُرى"

على قول محمود درويش:

" كم انت حر ومنسي في المقهى "وكذلك في بلاد الافرنج

لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك،

فلا أحد يهين

مزاجك الصافي،

ولا أحد يفكر باغتيالك

كم أنت منسي وحر في خيالك في بلاد الجن والملائكة.".

يوميات مثقف في الأرياف

**

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

من حسن حظ الروائي انه يستطيع قول وكتابة ما لا يستطيع غيره كتابته، خاصتاً اذا كان محمياً بقانون وعرف وأخلاق وتقاليد صافية ووثاثق.في حادث مقتل" أم فهد" العراقية في بغداد..اعاد الي الذاكرة صديقي الروائي العراقي /حمزة الحسن في مقال له .. عن شخصية" سعيد مهران المصري وسعيد مهران العراقي" ..في بلدان أقدم من التاريخ .. وفي  مجتمعات تنحدر نحو الهاوية على صوت المآذن وأجراس الكنائس ومناحات التاريخ وطقوس الشرف المزيف والرصاصة الخاطئة".

كتب نجيب محفوظ عام 1961 رواية اللص والكلاب عن سفاح الاسكندرية/ محمود أمين سليمان /عام 1960، وكتب حمزة الحسن هذا الاسبوع عن أم فهد وقارن بين مكان مصرعهما .. سعيد مهران قصة حقيقية .وام فهد واقع حقيقي..

براعة الكاتب

قلب الحكاية كلها لأن الأدب رؤية ذاتية وليس مطابقة مع الواقع، وحول الحدث الفردي الى قضية كبرى، وتم تجسيد العمل الي فيلم سينمائي، وغاب عن عالمنا العربي رؤية محفوظ الاستثنائية عن ربع قرن من تاريخ مصر الحالي بعد رحيله، "سعيد مهران في اللص والكلاب" خيره القاتل محمود أمين، عن الاختيار والحرية وحدود المسؤولية والخيانة والقسوة، وصراع الإنسان الأعزل والوحيد أمام الشر والخديعة والنذالة.

تبدأ الرواية من خروج "سعيد مهران" من السجن بعد أن تنكر له الجميع، حتى إبنته "سناء "رفضت تقبيله ولم يقف معه في المحنة غير (الراقصة نور)، وهنا تتجسد عبقرية محفوظ في قلب كسر النمطية الاخلاقية، تقول له بعد أن خانه الجميع:

" أحطك بعيني وأكحل عليك".

الراقصة "نور" حقاً الشمعه التي تضيء الطريق في ظلام سعيد مهران.

نجيب محفوظ دقيق في اختيار الاسماء وأدوارها، وتأتي الأدوار مطابقة أو متناقضة مع الأسماء: إبنته سناء: معناها الشرف والرفعة، لكنها تتنكر بلا شرف للأب الضحية.

نور: راقصة، لكنها تقوم بدور الوفاء المشرف.سعيد مهران: وهو حزين، ومهران تعني الذكي والماهر والحاذق، لكنه مزيج من السذاجة والبراءة.

رؤوف: الرحمة والحنان والرأفة، لكنه إنتهازي ونذل وخائن، والمفارقة أنه من أسماء الله الحسنى.

بتعبير الشاعر السوري: نزار قباني:

"إن أقبح ما فينا هي الأسماء".يقرر سعيد مهران الانتقام من صانعي مأساته ومنهم "رؤوف علوان"

المثقف الانتهازي الذي إستغل سعيد مهران لتحقيق المنصب والجاه والثراء،

وفي الوقت نفسه يكتب خطابات منافقة ضد الفساد والباشوات ويدفع سعيد مهران للسرقة وتبريرها له ثم السجن.

خرج سعيد مهران من السجن ووجد أن جميع صانعي مأساته هم أغنياء، "رؤوف علوان" ورطه في جريمة وصديقه "عليش" يتزوج زوجته وابنته تنكرت له كلص، ورغم محاولات الشيخ" علي الجنيدي" رجل دين وصاحب طريقة في تهدئة قلق سعيد مهران وحثه على الصبر وانتظار انتقام الله، لكن سعيد مهران يعرف ان صبر الله طويل فيقرر قتل رؤوف وعليش.

يطلق النار على "عليش" لكنه يقتل خطأ شريكه في العمل، فيستغرق رؤوف علوان الذي صار رئيس تحرير في وصف الجريمة، مما أثار غضب سعيد مهران وقرر قتله، ويتربص به ويقول له وجهاً لوجه:

"أنا سعيد مهران، خذ".

يطلق عليه الرصاص لكنه للمرة الثانية يقتل شخصاً بريئاً هو الحارس، وبعد مطاردة في المقبرة يُقبض عليه.

عاش سعيد مهران وحيداً كضحية، وعندما إختار محفوظ المقبرة مكان صراعه الأخير، ليجسد أعنف حالات القسوة عندما لم يجد مكانأ يأويه غير المقبرة.

إنتهى سعيد مهران في الرواية، وقد يقوم روائي آخر، ويقدم رؤيا جديدة لسعيد مهران والكلاب: لعصرنا الحالي من ظهور شخصيات غريبة عن مجتمعنا انشغل بهم رواد /شبكات التواصل الاجتماعي والاعلام /امثال صبري نخنوخ/والعرجاني / وابراهيم عيسي ويوسف زيدان وغيرهم واخذوا مساحه كبيرة من حالات السيجال والجدل، والكلاب علي حدود مصر الشرقية يقتحمون اليوم رفح أخر معاقل المقاومة.

إن الضحايا كثر والقتلة كثر وغالباً ما تخطئ الرصاصة. كان خطأ مهران الفادح هذه المرة قناعته أن الرصاصة التي تقتل الانتهازي واللص المثقف رؤوف قد تقتل الفساد لأنه منظومة متكاملة وبنية سياسية واجتماعية، وأنه أطلق النار على الشخص الخطأ والمكان الخطأ، ومرة ثانية يظهر نجيب محفوظ ذكاء وعمق وعبقرية الروائي في جعله يخطيء الهدف مرتين. اشار في نفس السياق الروائي العراقي / حمزة الحسن.

يحضر سعيد مهران في قضية " البلوغر أم فهد" وقتلها باحترافية وسهولة حتى أن القاتل جمع مغلفات الرصاصات القاتلة لاخفاء الرقم وسرق هاتفها.

لكن أم فهد واحدة من منظومة فساد كاملة والرصاصة التي قتلتها لن تقتل الفساد الاخلاقي والسياسي وكانت ترقص مع الذئاب والافاعي بمرح، هي جزء من نسيج عام للفساد لكنها كانت تعمل بعلانية ووضوح دون اخفاء ودون أقنعة، لكن هناك من أخطر منها في الفساد ممن يتنكرن باسماء مستعارة وصفحات.وهمية ومغلقة سرية مخفية..اعتقد .لم تدّع أم فهد انها عاشقة..

بل تصرفت كما تفكر وفعلت كما تقول والرصاصة التي قتلتها لن تقتل نسيج الفساد العام الغاطس في الاسرار والأقنعة. لماذا يراد ان تختفي الأم الشريفة والزوجة المخلصة والفتاة النظيفة والكاتبة الملتزمة، من الواجهات لكي تظهر هذه النماذج الدونية المنحطة؟سعيد مهران قُتل في مقبرة كما قتلت أم فهد في سيارة، لكن سعيد مهران العراقي أخطأ الهدف مرات من قبل وسيخطيء.هذه الحادثة رأس جبل الجليد الغاطس أعظم والصمت تواطؤ صامت ومناخ للجريمة ولا جريمة بلا مناخ ولا لغة تبرره.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

قصتي مع الليل تحمل في فصولها  كما هائلاً من الأحداثِ وتوحي لقارئِها بأن كل شيءٍ قد صُنِعَ من الهمّ والحزَن. يستقبلُني الليلُ دون كلامٍ ولا سلام، يأخذني إلى مقعدي الذي نصبهُ بيديه، ولا محيصَ عن الجلوسِ فيه، دون رغبةٍ مني بالطبع. يبدأ الصديقُ الليليّ الثقيلُ الذي فرضهُ الليلُ عليّ، "الهمّ" محادثتي. وفي كل حديثٍ يتفوّهُ به كنتُ أوحي إلى أذُنَيّ بأن يلتزما الصمم، ويقرعا طبولَ الصمتِ، كي لا يسمَعا حديثهُ الثقيل. لكنّهُ لا يُبالي بما أحدّثُ نفسي وسمعي به. يتحدثُ دون توقّفٍ، لم يتعلم آداب المحادثة مع الآخرين. يتكلمُ والزهو يملأ حديثَه، ويطلبُ كل ما يشتهي دون خطوطٍ حمراء. يقول : كم من العمرِ أمضيتَ؟ وكم من الليالي قضيتَ؟ لم أفارقكَ يا صديقي!!

قلتُ والترقبُ يملأ فكري: يا صديقي، قضيتُ من عمري سنينَ طوال، على يديكَ تلظَّت، وعلى ضفتيكَ تمشَّتْ، وما كلَّت قوايَ، لأنكَ أودعتَ فيَّ جرعاتٍ من الصبرِ والجلَدِ ما لم يتفق لحيوانِ الركوب!!

ضحكَ صديقي من آخر كلامي وقال: هذا ما كنتُ أنتظرهُ منك، وشنفتُ أسماعي كي أسمعَ ما أودّ سماعه. الحياةُ يا صديقي العتيد راكبٌ ومركوب!! اليومَ قد ركبكَ الهمُّ، وغداً تركبني لا تقلقْ!!

قلتُ في نفسي: ومتى اتفقَ لي يوماً أنني ركبتُكَ؟!

ثم قلتُ له: هل لك رفقةٌ مع الشيطان يا صديقي؟

قال وقد بانت أماراتُ التهكم على محياهُ: نعم مع الشيطانِ يا صديقي! وهل تعلم أضرابَ الشياطين التي ترغب بزيارتك كل ليلة؟ وهل لهؤلاءِ نعتٌ مخصوص يعرفونَ به؟ هل لهم أجسادٌ وأرواحٌ يُعرفون بها؟ أم أنه الخاطرُ الذي يلازمكَ حين يُرخي الليلُ سدوله؟

تحيَّرتُ وأصابني نوعٌ من الذهولِ ولم أحرْ جواباً!!

ثم قلتُ: وهل للخاطرِ دخلٌ في هذا؟ !

قال: الخواطرُ يا صديقي تتمثلُ بصورٍ كصورِ الشياطين، وتأتي دون إذنٍ منكَ لأنكَ قد فتحتَ لها أبوابَ روحكَ ونفسك وقلبك. ولا تظننَّ أنها تزورك في أوقاتِ يقظتِك فحسب، لا لا ... إنها تأتيك حتى في أحلامك أو لحظات غفوتك ومنامك.

قلتُ: وكيف أفرقُ بينها وبينكَ؟!

قال: دعكَ مني، فأنا واحدٌ من هذه الخواطرِ التي تسميها أنت "الشياطين". أظنكَ تخلطُ بين شيئين هما "الهمّ" و "الوهم" !! أنا الأول الذي لا يزورك إلا من حيثُ تعلمُ، وتعرفُ حتى وقت زيارتي. الثاني هو الأخطرُ والأجدى أن تحذرَهُ وتهابه. الوهمُ، يا صديقي، أعتى الشياطين، وأخفى الأعداء. يحومُ حول الأفكار، ويحوطُ العقولَ الضعيفة الخائفة. يأتيك من حيثُ لا تدري، ولا ينتظر عند باب الدخول، لأنه ينفذُ عبر جدرانِ الأفكار، ويخترقُ أقوى الأسوار. يعيش على أوضارِ الجهل، ويتغذى على ضَعفِ الهِمَم، ويرمي الجميع بكل أسلحته المتاحة لديه. هذا هو الشيطانُ الأكبرُ يا صديقي!! هو الذي أسقطَ الدول، ومن قبل أسقط الأديان وخرَّب العقول. هو المَطيةُ الذهبيةُ لأهل الخرافة والجهالة، وسلاح ذوي العقد النفسية المستعصية. يأتيك باسم المقدَّس، وينفذ إليك ، إلى عقلك، بعد أن يضرب على أضعف أوتارك، ويسمعك اللحن الذي تودُّ سماعه.

قلت: ما أبلغ حديثكَ يا "همّ"!!!

قال: وأزيدك، هذا الوهمُ الذي لم تتنبَّهْ إليه، هو الذي أوهَمَكَ أنّي من يجلبُ لك التعسَ، والحظَّ النحس، وإذا دققتَ وأصفيتَ ذهنكَ يسيراً، ستدركُ أنك تؤلفُ الأساطيرَ في فِكركَ، وتنسجُ الخيالَ المروعَ في مسرحِ عقلك. دعكَ من كلّ هذا، ودعكَ مني، فليس كل من يكرههُ قلبُك يضمرُ لك الشرَّ، فلربما كان هذا من خواطر الوهم، ومنزلقات سوء الظن. قم يا صديقي، فلي حسنةٌ في إيقاظكَ من غفلةِ الظنون، وقصرِ النظر في العيون، لك أن تتثاقلَ من حضوري إليكَ كلَّ ليلة، ولك أن تدعوَ الله أن يبعدني عنكَ، ولك أن تكتبَ القصائدَ للتنكيلِ بي وتعليقِ أسبابِ تعسكَ على مسامير الظن السيء بي، لكنك لن تجدَ رفيقاً ناصحا مثلي، ولن تصحبَ زميلاً فاضحاً للوهمِ غيري. نم هانئاً على فراشك الوثيرِ، وغطِّ العيونَ بخاطرٍ يبعثُ فيك الخير من جديد، ويكشف عنكَ دياجير الوهم، الذي يطفيء  أنوار الطريق. نم يا صديقي، بين أحضانِ الكلمات الناطقة بتباشير التفاؤلِ ونثيث الأمل. دعكَ مني، فأنا وهمٌ لكنه ليس شيطاناً رجيماً، تتعوذُ منه لرب العالمين، قم وتوضّأ بأقباس الحقيقة وأنوار الواقع مهما كان شديد الوطأة. قم وصلِّ في محراب الأمل، ولا تلتفتْ إلى ورائك كي لا تفسدَ صلاتك بالخوف والقلق من دسائسِ الهم واليأس. قم وادعُ بباطنِ عقلك وبياضِ سريرتك، أن أكونَ رفيقاً دائماً لك، حتى تتخلص مني بي... تصبح على خير يا صديقي...  

***

بقلم د.علي الطائي

 7-5-2024

من العادات التي كانت قريتنا تحتفل بها، ولها مذاق خاص (عيد شم النسيم)، وللأسف لم نتعلم ونعرف سبب المناسبة. وكانت قريتنا  تتزين بأغصان واوراق شجر الصفصاف علي اعتاب بوابات المنازل التي كانت من الطوب البن (الاخضر) وكانت النساء والاطفال تضع الكحل الاسود في العيون يوم السبت قبل يوم  الاحد عيد القيامة للآخوة الأقباط وهو من التراث المسيحي

القبطي المصري (سبت النور) وكانت معظم  العائلات تربي الدجاج البلدي وقبل عيد شم النسيم تخزن بيض الفراخ لهذة المناسبة ونبدأ يومنا بسلق البيض  وبتلوينة  بمادة صبغ  تسمي "اللعله" بجميع الألوان . وكنا صغار نلعب ونفرح  بالبيض ونعاير بعضنا البعض من معه اكثر من الأخر ..وكانت بعض العائلات تذهب لقرية مجاورة لنا بها مقام العارف بالله (عبد الله بن سلام) لشراء السردين والفسيخ وقضاء اليوم هناك في ساحة ابن سلام .والبعض يذهب الي المدينة او الحقول تحت الاشجار لتناول الأسماك المملحة وقضاء اليوم وسط المزارع ،،من طرائف هذا اليوم ..اقترح صديق ان اقضي معهم شم النسيم في الحقل  "الغيط" وركبت معهم عربية الكارو ..وكان معنا اطفال ونساء  من جميع الأعمار وقاد العربية ابن اخية الذي كان لا يتجاوز/عمره عن عشر سنوات وكأنة يقود مركبة فضائية مرة يتجة شمالاً ويميناً..واعتقد نفسه القائد  بيبرس

..وعندما وصلنا الي معدية ترعة التنازيل (ارض العراض) انقلبت بنا العربية الكارو في الترعه وسقطنا جميعاً

في الترعه وخرجنا من الترعه مثل الكتاكيت "ام رقبان "و عندما تقع في ساقية ماء (مسئه الماء) .واثناء فترة دراستي الجامعية كان مقرر علينا كل عام جزء من التاريخ بجانب التخصص في علم الجغرافيا ..عن الأعياد في فترة التاريخ قبل الميلاد في مصر  وكان شم النسيم من ضمن الاعياد التي يحتفل بها المصريين ..،   تذكر بعض البرديات القديمة أن الاحتفال بيوم "شم النسيم" كان في الأصل يُعرف بمهرجان "شمو"، وهو إله البساتين عند قدماء المصريين ويعود إلى الفترة  (ق.م)2700 ، واستمروا في الاحتفال به خلال العصر البطلمي  والروماني والعصور الوسطى وفقًا للسجلات التي كتبها الفيلسوف والمؤرخ اليوناني"لوسيوس بلوتارغوس"

(45-125) أي في خلال القرن الميلادي الأول. كما جاء في دراسة الصديق الدكتور / رشاد عوض دميان ،،وقد اعتاد المصريون القدماء على أكل الأسماك المملحة والخس والبصل خلال الاحتفال بهذا المهرجان في فصل الربيع. وبعد أن انتشرت الديانة المسيحية في البلاد المصرية، أصبح هذا الاحتفال مرتبطاً بعيد الفصح (القيامة)، وبمرور الوقت تحول مهرجان "شمو" إلى ما يُعرف حالياً "شم النسيم"، ويتم تحديده يوم إثنين الفصح أي يوم الإثنين الذي يلي يوم أحد القيامة للأخوة الاقباط . وعن العلاقة الدينية في الربط بين "القيامة" و"شم النسيم"،

كل سنة، بل وكل الأيام والجميع

بكل الخير والسعادة والسرور والفرح والهناء  "

***

يوميات مثقف في الارياف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

من طاقات الديرة الواعدة، بامكاناته الزاخرة .. وموهبة الأدبية الابداعية.. وقدرته على المعارضة والمقابسة في اللحظة دون تكاسل، او تأجيل.. خاصة وان الانثيال الوجداني عنده يتدفق، وينساب من مخيال مرهف.. له عمق تراثي.. باعتباره سليل عوارف في الموروث الشعبي في ريف الديرة.. لهم باع طويل في نظم العتابة والزهيري والكصيد..

وليس غريبا عليه إذن ..أن يحاكي زميله الشاعر المبدع أبو كوثر ..الذي كنت قد نشرت عنه همسه موجزة عن زهيري جميل له ..جاءت وليدة لحظة تفاعل حس مرهف لي.. مع  ذلك الزهيري الجميل..كانت بالصيغة التالية:

ياروحي طيري ومع سراب الكطا هاجري

ليلج إمعسعس ولا شكلو فجر هاجري ..

قاس أنت ايها الليل البهيم ..أرخيت عليه سدولك بظلمة حالكة.. فلا يكاد يرى لك فجر .. فدعه يحلم .. ولا تصادر أحلامه..

لتأتي معارضة الأديب المبدع عبد الكريم أبو احمد الإبداعية في مداخلة له على المنشور.. نظما بليغا.. وتوظيفا مقتدرا ومتمكنا للمفردة حقا يقول فيها :

ياروحي طيري ويه الكطا وارحلي

عن ديرت ن ما شفت بها راحلي

مشؤوم هذا الحال ما ارجا ورا حلي

*

يدار اعذرينا اصبحنا بيج غراب

والحر الكبيدي يطرد وراه غراب

ما لوم عيني لو بجت كل غراب

*

حكها بنوب تعمه ينايف ع الراحلي ..

إنه حقا طاقة إبداعية متوهجة..تستحق الإعجاب والإشادة والمتابعة..

***

نايف عبوش

تعتبر رواية زينب أول رواية عربية، أو من الروايات الأولى حسب بعض النقاد، وكانت رواية متكاملة الأسس من حيث الأسلوب الفني والبناء اللغوي.

وطالما اعتبرها مؤلفها محمد حسين هيكل أجمل ما كتب، ويُكن لها احتراما ولها المكانة الخاصة في مسيرته الفكرية والإبداعية..

كتبها لما كان طالبا في الحقوق بباريس اذ بدأها سنة  1910، وفرغ منها سنة 1911، ونشرت أول مرة سنة  1914، وكان قد كتبها على  مراحل في أوروبا ؛ باريس، لندن وجنيف السويسرية...

كان دائم الافتخار بها و معتزا بها معتقدا انه فتح بها فتحا جديدا في الأدب المصري.

و كان أيضا يعتبر الرواية خير ممثل عن طموح الشباب بل هي تمثل شبابه تمثيلا صحيحا!

كتبها وهو في بلاد أوروبا طالبا متغربا لأجل العلم ،مشتاقا الى الأهل والوطن، وقد كتب عن ذلك قائلا:

" زينب هي ثمرة حنين الوطن وما فيه، صورها قلم مقيم في باريس مع حنين لمصر إعجابا بباريس وبالأدب الفرنسي"

كتبها لأنه وجد في باريس شيئا مختلفا ..كتبها بعد دراسة للغة الفرنسية و  آدابها، فتأثر بالأدب الفرنسي الذي قال بأنه رأى فيه ما لم يراه في الأدب العربي أو الأدب الإنجليزي!..

لكن هيكل سرعان ما ابتعد عن الفن الروائي، وتغير اهتمامه الى التاريخ والسياسة المصرية  والعالمية عموما والحضارة العربية الإسلامية، وكتب في ذلك عدة كتب مهمة وممتعة...

***

عبد القادر رالة

 

ربما هي الكاتبة الوحيدة من سلسلة أسماء من هم في القلب التي بقيت متفرّجا أمام كثافة المعلومات وزخم تصنعه هذه الكاتبة، التي تعرفت عليها من خلال كتاب يؤرخ للرّوح الفلسطينيّة منهجا وتاريخا وإضافات.. كتاب بعنوان:

 " رسائل من القدس وإليها " جمعها بالأديب الفلسطينيّ المعروف جميل السّلحوت، بعثت لي مشكورة نسخة الكترونيّة منه؛ لأجد ذاتي تنغمس في مضمونه، وكلّي فرح أن أطالع محطّات ورؤى وتاريخا ومشاهدا وحكايات ومتابعات، واكبت جيدا هاجس كتاب يرصد مشاهدا وشواهدا، تحيلك على أن تعيش ذكريات وإحالات، تلوّن المشهد الرّائع لهؤلاء الذين تميّزت كتاباتهم بالإضافات الواعية وبتجارب خاصّة، تلازم ذواتهم ونهجهم الواعي في عالم الكتابة ..

كنت أتواصل معها من لحظة عشت مضامين ذلك الكتاب الخالد "رسائل من القدس وإليها"  جمعني التّواصل بكاتبة فلسطينية هي " صباح بشير"،  التي لم يكن تناغمي معها مجرّد رقم إنسانيّ عرفته كي أضمّها لقائمتي الرقميّة، بل كان تواصلا هادفا و مشتركا و إنسانيّا، لمست من خلاله هذا الكمّ الهائل من المحبّة التي تغدقها الكاتبة الرّوائيّة صباح بشير في كلّ ومضة كتبتها.

كانت تتابع مقالاتي وكذا ومضاتي، تتابع حتى ما أكتبه في الشّأن الجزائريّ، خاصّة ما تعلّق بالمناسبات الوطنيّة، كانت تؤشّر لي بالتّعاليق حتى في لقطات تتعلّق بتلك الومضات التي تربطك بالمكان والكينونة. إنسانة راقية رصدها المعنى والقلب، كنت أطالع جديد ما يكتبه النّقاد فيها، سيل من دراسات تضمّن تخمين كلّ كاتب، رصدت إصدارها الذي كان يؤشّر للرّوح الفلسطينيّة وللكينونة الإنسانيّة التي رافقت منهجا جادّا وواعيا ونضاليّا، ارتبط بنا حتّى نحن في الجزائر، الذين كنّا على صلة بالنّضال الوطنيّ.

"صباح بشير" كانت تصنع الجديد الثقافيّ، في كلّ مكان ارتبط سامها بحراك ثقافيّ تصنعه هذه الكبيرة ضمن نشاطاتها الثقافيّة في نادي حيفا الثقافيّ، وهناك يرتسم المشهد جميلا وأنت تعيش أطوار ندوة ثقافيّة فيها كلّ تلك الإضافات من أسماء تصنع الجديد الإبداعيّ والفنيّ، تلازم الشّعر والقصّة والومضة والخاطرة والفكر، و ما الى ذلك من الجديد المتجدّد، مما يصنعه كبار الفكر والإبداع، وأسماء دأبت الحضور للنّادي كي  تصنع الحدث الثقافيّ المميّز  .

صفحة الكاتبة صباح بشير لم تكن مضامينا لعروض الأزياء وجديد صناعات مواد التجميل، بل كانت كلّها لقاءات تجمعك بالجديد المتجدّد وبتجارب من هنا وهناك، وتسهر الكاتبة الراقية بشير على ترسيم ذلك الوعيّ الثقافيّ والقيميّ والحضاريّ؛ لتنسج خلاصة هي عين تخمين من يرافقونها في نادي حيفا الثقافيّ، الذي بقى حتى السّاعة يصنع الجديد ويلازم الشأن الثقافيّ، بروح عصريّة ومتحضّرة، باعثة على الفكر الواعي بعيدا عن الهرطقة الزّائدة، وعلى رؤى لا تليق بالأهداف التي يسطّرها عادة منهج عمل نادي حيفا الثقافيّ.

كتاب الرّسائل التي جمعها بالأديب الرّوائيّ الفلسطينيّ الكبير جميل السّلحوت، ألهمني رؤية كنت أحبّبت قراءتها ومطالعتها من خلال ما هو متعارف عليه ب " أدب الرّسائل" حينما قرأت يوما منبهرا وتعلّمت فعلا وغصت بتاريخ عام 1987، بما كنّا نطالعه أسبوعيّا  بشوق ومن باريس عبر ما كان يهندسه كبار فلسطين، الشّاعر الكبير محمود درويش من المهاجر الأوروبيّة وسميح القاسم من فلسطين، عبر كتاب "الرّسائل".. قرأنا تلك الحلقات التي تؤشّر لرؤية فلسطينيّة خالصة، حيث عشت شخصيا هوسا من احتراق إبداعيّ جميل، تلوّنه الرّسائل المختلفة للرّاحلين معا سميح القاسم، ومحمود درويش.

كذلك كانت رسائل الكاتبة صباح بشير وجميل السّلحوت، نعيش عبرها زخما معلوماتيا كبيرا، ذكّرتي بما كان يصنعه الكبار عبر تاريخ من كانوا يصنعون هاجسا أدبيّا ومعلوماتيّا تصنعه حبكة الرّسائل، وحراكها العجيب في جلب المعلومات وتسويقها للقارئ؛ كي يعيش المعلومة والهاجس وتلك الرّوح النفسيّة التي تلازم رحيقا تصنعه صور من مشاهد الحياة .

وكذلك عبر التّاريخ عايشنا هذه الفصول الجميلة، تصنعها لغة الرّسائل كتلك الرّسائل المتبادلة بين " غسان كنفاني " و" غادة السمان، " وبين " غادة السّمان " و" أنسي الحاج "، ورسائل

 " مي زيادة " إلى "جبران "، ورسائل "الرّافعي" إلى "مي زيادة".

تاريخ حافل بالرّسائل التي واكبت سيلا من تفاصيل تصنعها لغة الرّسائل تمنح الأطراف متعة معلوماتيّة راقية وتحيلنا نحن على سرد من فرح .

كذلك صنعت صباح بشير وجميل السّلحوت هذا الأثر الجميل من معايشات لهما في فلسطين وخارجها في أوروبا وأمريكا ومناطق زارها كلاهما، يمنحان القارئ روحانيّة مشهد يعايشه هؤلاء الذين يصنعون الجديد من خلال معايشاتهم المختلفة .

كتب الأديب جميل السّلحوت في إحدى رسائله الى الكاتبة الرّوائيّة صباح بشير:

" زرت عام 2015 مع وفد من وزارة الثقافة الفلسطينيّة الجزائر الشقيقة، لمست التحام الشّعب الجزائريّ مع الشّعب الفلسطينيّ، وقضيتنا العادلة، فهم فلسطينيّون مثلنا وأكثر.

وينظرون الينا بقداسة، شاهدت لافتات مثبّتة ودائمة في الشّوارع، تحمل شعارا للرّئيس الرّاحل هواري بومدين "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، استقلال الجزائر منقوص مادامت فلسطين محتلة.

وفي رسالة أخرى من صباح بشير إلى جميل السّلحوت:

" كانت ولا تزال في وسط بيتنا زاوية مميّزة تضمّ مكتبة خاصّة لوالدي، تدهشني بكلّ ما تحتويه من الكتب الثّقافيّة والأدبيّة، وغيرها من كتب علم النّفس التي كان والدي شغوفا بها، كان يشرف بنفسه على ترتيبها فيقسّم الكتب إلى مجموعات، يضع الموسوعات والكتب القيّمة في الرّفوف العليا، وفي الرّفوف التي تليها يرتّب ما بقي من الكتب تبعا لحجمها ومحتواها، كانت أمّي تتدخّل أحيانا، فتعيد التّرتيب بلمستها الفنّيّة الجميلة، وتضيف بعض اللّوحات الصّغيرة والتّماثيل المنحوتة، ممّا يضفي على المكتبة سحرا خاصا وبعدا ثقافيّا آخر، فيتحوّل ذلك الرّكن من البيت إلى نقطة جماليّة مبهرة مميزة.

حوّلتني تلك المكتبة لقارئة شرهة، كنت أنظر إلى تلك الزّاوية من المكتبة على أنّها ملكي الخاصّ، فقد كان إخوتي يفضلون اللّعب على القراءة، لذا كنت أشعر بالتّفرد، وأنّ تلك الزّاوية تخصّني وحدي، فهي تنقلني دون حواجز إلى عوالم أخرى أقابل فيها شخصيّات مميّزة، ذات فكر تاريخيّ، إنتاج وأدب.

 كان والدي يعمل معلما في إحدى المدارس الإعداديّة، كنت أفرح بعودته، فهو دائما ما يحمل الجديد من الكتب، كان يتوجّه مباشرة إلى المكتبة، فأشرع في مراقبته وانتظار حصّتي من القصص، ويا لفرحتي فهو لم يخذلني أبدا، كان يفرغ حقيبته الصّغيرة، تلك التي كان يضع فيها دفاتر العلامات الطّلابيّة وكتب المنهاج الدّراسيّ، فيخرج منها ما ابتاعه خصّيصا لنا، يعرضه مبتسما بهيبة وحنان، باسطا محبّته الكبيرة في قلوبنا الصّغيرة".

***

سيرة ذاتية: 

الكاتبة صباح بَشير:

بكالوريوس علوم اجتماعيّة وإنسانيّة.

ماجستير دراسات ثقافيّة.

طالبة دكتوراة في موضوع علم الإجتماع التطبيقي.

صدر للكاتبة: "رسائل من القدس وإليها" وهو كتاب مشترك مع الأديب جميل السّلحوت.

* رواية بعنوان: "رحلة إلى ذات امرأة" وهي رواية تغوص في أعماق النّفس الأنثويّة، وتسلّط الضّوء على رحلتها في الحياة.

كتاب نقدي بعنوان: "شذرات نقديّة"...صادر مؤخرا عن دار الشّامل للنّشر والتّوزيع في نابلس، وبالتّعاون مع نادي حيفا الثقافيّ، يقع في (327) صفحة من القطع الكبير، وقد أهدته بشير إلى والدتها، وإلى روح والدها، تقديرا لفضلهما ودعمهما لها في مسيرتها الثقافيّة.

يضمّ الكتاب مجموعة من المقالات النّقديّة التي تناولت بعض الأعمال الأدبيّة العربيّة والمحلّيّة، وتتنوَّع بين تحليلات نقديّة لأعمال روائيّة وقصصيّة وشعريّة، ودراسات أدبيّة، قسم منها تمّت كتابتها بهدف إلقائها في نادي حيفا الثقافيّ، كمحاضرات قصيرة ومداخلات مختصرة.

 اشتمل كتاب "شذرات نقديّة" على قراءات لأعمال عدد من الأدباء المرموقين محليّا وعربيّا، من بينهم: الكويتيّ إسماعيل فهد إسماعيل، الجزائريّ واسيني الأعرج، الأردنيّ يحيى القيسي، والأردنيّة أمل المشايخ.

وهي ناشطة ثقافيّة واجتماعيّة، وعملت في مؤسّسات إنسانيّة واجتماعيّة، وشاركت الكاتبة صباح بشير في إعداد سلسة من الكتب التوثيقيّة لنادي حيفا الثّقافيّ.

عملت مديرة تنفيذية لمؤسسة المنار المقدسيّة، التي تسلّط الضوء إعلاميّا على قضايا المرأة الفلسطينيّة ..

قامت بتمثيل هذه المؤسسة محليّا ودوليّا وكان يصدر عنها مجلة بعنوان "منارة القدس" التي كانت تكتب فيها تحرّرها، كما شاركت في العديد من المؤتمرات وورشات عمل والنّدوات في البلاد وخارجها..

 عَمِلت في التّحرير وكتابة المحتوى، وتكتب في الصّحف العربيّة والمحليّة.

عَمِلت محاضرة لفترة في كلّية إعداد المعلمين "بيت بيرل".

مديرة تحرير موقع نادي حيفا الثّقافيّ.

وعن هاجس الكتابة تقول الكاتبة صباح بشير:

" لطالما سكنني هاجس الكتابة، وأشعرني بارتباطي الإنسانيّ مع الحياة، فالكتابة نور يتسلّل إلى شغاف القلب ليبدّد ظلمته، تخلق لي جناحين من شغف، أطير بهما، فأرى نفسي ومواقفي وشخصيّتي بشفافيّة ووضوح، ويا لقوّتها وجمالها فهي الشّاهد الصّامت الحيّ على الحياة، عالم خلق وعطاء، ومتعة تولد في حياة الكاتب وتكبر معه، كفعل حريّة وحبّ عظيم".

وكتبت أيضا رؤية جادّة، لها ذلك البعد القيميّ المتميّز:

" كم أنا آسفة حين تحكمنا المناطقيّة والجِهَوِيّة، وتقيّدنا حدود الجغرافيا. أؤمن أنّ الإنسانيّة هي هُوِيّتي الحقيقيّة، وأنّ حدود الجغرافيا لا تقاس بالكيلومترات، بل بمدى اتّساع آفاقنا ونبل مشاعرنا، من العيب أن تكون النّخبة من مثقّفينا مناطقيين! فالمثقّف الحقيقيّ هو الذي يؤمن بوحدة الإنسانيّة، وأنّنا جميعا ننتمي إلى عائلة واحدة، هي عائلة الإنسانيّة".

كذلك عايشتُ حرف الكاتبة صباح بشير التي وضعتها مذ عرفتها في قائمة من رصدهم القلب واحدة من عشيرتي ومن قبيلتي، واحدة هي من عائلتي، واحدة و كما ترون، هي فعلا في القلب.

***

بقلم: المهدي ضربان

 

حاضرا الاثنان، العملاقان المفكر، الروائي الكبير امين االزاوي. والروائي، الاعلامي والمسرحي أحميدة عياشي بعمق وبتوطين ماهية الهوية وانعكاسها على الاجيال كحتمية رؤيوية للنهوض بالفعل التثقيقي في "ماعون ومعين" الاعلامي الثقافي - راهنا-.

سرديات الاثنين كانت ترشح وعيها التوطيني من مزارب وعي اللحظة والراهن واستدراك ذات الراهن السقيم.. في مقاربة مع منجزات الإعلام الثقافي ما قبل التعددية الإعلامية. كمقاربة ".

وهون الثانية امام المد الكوني في مسارات المثاقفة

L'acculturation

 في السبعينات بغض الطرف وصرف النظر عن خطابها الاديولوجي هو أيضا كمعطى، تنوير الوعي لم ينطلق لديهما من حسين مروة أو انطونيو غرامشي ولا حتى سلامة موسى أو المفكر الكبير : الطيب تيزيني أو حتى لفائف ادونيس في " في لف " الثراث " لنزع قشرة الممول له حيال " التشيؤ " والراهن أو الاصرار على التعاطي مع الموروث العام الذي استنهضه ادونيس في " خبايا. ومسارات التراث كمهوم وفهوم ورؤى. بل كان في ندوة الأمس لدى المحاضرين امين الزاوي واحميدة عياشي. لفائف اطاريح وعيي الراهن بوعي الاثنين معا، الدكتور أمين الزاوي كان موزارا) نسبة إلى موزار العبقري) ومزارا في ذات الأوان في سردياته المدججة بشواهد من ذات "البونين" بون الماضي المزدهر المعرفي، الانتلجينسي ثقافيا وبين الراهن السقيم حاليا مثلما أشار ونعته السيد وزير الاتصال محمد لعقاب لدى افتتاحه لهذه الندوة. حيالهما استعرض الروائي والمفكر امين الزاوي باقتضاب معارجه عبر سجل إنجازاته في حقل الإعلام انطلاقا من برنامجه الكبير " اقواس (بالتلفزيون الجزائري من وهران ومكانته- انذاك في الحقل المعرفي الجاد. لا التلقيني "الإخباري "، هذا البرنامج الذي كان يبث من تلفزيون وهران، كما أشار الدكتور أمين الزاوي، الذي استضاف في كبار المفكرين والادباء والفلسفة والمنظرين ليعرج في هذه العجالة " على برنامجه الاذاعي " الجاد " جواهر " الذي كان يبث بالإذاعة الجزائرية كل صباح (القناة الأولى. فكان عصارة فكر وانتلجينسيا كل صبح) لايتعدى وقته 5 دقائق، ليمر على منجزات أخرى في سجل مسار تعاطيه مع حقل الإعلام الثقافي، لعله سهوا من الدكتور أمين الزاوي لم يسرد برنامجه الناجح " حبر وأوراق " الذي كان من ضمن أوثق البرامج الثقافية بالإذاعة الجزائرية. فيما اسدى (الكبر (بكسر الكاف) الاعلامي القدير، والروائي احميدة عياشي لضرورة استحضار لحظة الوعي القصوى في في التعاطي مع المراس الاعلامي الثقافي " خدمة لصالح الامة وتلميع - بالجد والجاد - صورة الجدية والاحترافية والمهنية والحمولة. المعرفية مشفوعة بخلفية فكرية تصب - ايجابا - في تكريس التعاطي - وعيا ومراسا - مع الهوية. ومكانة الوطن

Patrie

كنبراس وحضور فعلي لصورة البلد وكذا لصالح المثاقفة ووعيها اللحظوي.

حضرا الاثنين بهذا الوعي - جملة وتفصيلا في تفاصيل غور مشهد المثاقفة كمعطى دلالي، لم يحذ قيد انملة عما بدا - على العموم : سياقات وأنساقا من منطلق التشيؤ وتبيى الاعلامي الثقافي كسردية عاكسه لعمق الهوية، وصورة البلد الابية.

على العموم كانت الندوة ظافرة وإن تخللتها بعض التدخلات الجانبية من القاعة.

فيما كانت أغلبها تصب في عمق " محورها " الميديا والثقافة. اي مقاربات واي استراتيجيات وذلك من قبل نظراء لهما بالقاعة (في الطرح الواعي والمنهجي والذي كان يصب في معين محور الندوة) مثل تدخل سعادة السفير الدكتور مصطفى شريف، الاعلامي، والاعلامي " الكاتب كمال قرور على سبيل المثال وليس الحصر، وغيرهما كثر.

سأفر لهم (اي متدخلو القاعة) ورقة لاحقة

***

عائد من الندوة، وكتب: أحمد ختاوي

 

كلما سنحت لي الفرصة في الحديث مع استاذتي الكبيرة عبر أثير الهاتف ناشئة بهجت كوتاني المقيمة منذ مطلع الثمانينات مع عائلتها في عاصمة الضباب ” لندن ”. جرنا الحديث نريد أو لا نريد وغصبن علينا الى ذكريات الماضي البعيد في أروقة كلية الأداب / جامعة بغداد أساتذة وطلبة ومواقف وتداعيات وقاعات محاضرات، واجواء سياسية مشحونة. في مهاتفتي الأخيرة لها لكي أطمئن على صحة البرفيسور ضياء نافع، الذي يعاني في وضع صحي صعب في ضيعة فلاديمير الروسية، والحديث لا يخلو عن السؤال أيضاً : عن صحة زوجها الاستاذ حسن العيدي، متمنينا لهما تجاوز أزمتهم الصحية والعودة الى حياتهم الطبيعية رغم حوبة العمر اللعينة وقساوة المنفى والبعد عن أرض الوطن. في فترات ماضية ومن منطلق الوفاء والشكر وما تركوه في مسيرة حياتي من أثر حب للمعرفة والبحث في جدلية الحياة والموقف. كتبت عنهم واحداً واحداً الاستاذة الراحلة حياة شرارة، الاستاذ الراحل جليل كمال الدين، وعلى ضوء ذلك الجهد حول حياة ومسيرة الاستاذ جليل. قدم الاستاذ كمال يلدو في برنامجه ”اضواء العراق ”. حلقة كاملة، كانت حلقة متميزة وغنية بحق الاستاذ جليل كمال الدين. وكتبت حول البرفيسور ضياء نافع، وتشرفت بمقدمة كتابه ” أربعون مقالة في الأدب الروسي. ولم يغب عن بالي شخصية استاذتي الكبيرة ناشئة بهجت كوتاني !.

ولم يهدأ بالي يوماً، وتتزاحم في ذاكرتي تداعيات مؤلمة عن استاذي محمد يونس، كلما مررت على ذكريات الماضي الثري، وفي زحمة أعدادي لكتابي القادم ” مأساة الأدباء الروس في الحقبتين القيصرية والاشتراكية ” وسيحظى بمقدمة الدكتورة ناشئة كوتاني. كان الاستاذ المرحوم محمد يونس الساعدي حاضراً بقوة وبتنوع مؤلفاته حول الأدب الروسي، نيكولاي غوغول ورائعته ” النفوس الميته ”. إيفان تورغينيف ورائعته ” الأباء والبنون ”. ومن ضمن كتبه وبحوثه القيمة ” مدخل الى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر  ”. وكتابه النقدي في حقل الأدب المقارن ” الكلاسيكيون الروس والأدب العربي ”. فضلا عن مئات المقالات النقدية والأدبية حول الأدباء الروس. تعود معرفتي بالراحل محمد يونس الى عام ١٩٨٠ في كلية الأداب / جامعة بغداد. كان أحد أساتذة القسم الروسي في مادة النقد الادبي والأدب المقارن بأسلوبه السلس وطريقته المشوقة في طرح المادة واغنائها المعرفي، مما ترك أثر واضح وحب في لهفتنا لمتابعة المادة والنقاش حولها. كان الاستاذ محمد يونس شديد الحرص في طرح مادته الادبية علينا، وحرصه على إستيعابها في تفكيرنا من خلال سماع أراؤنا ومشاركته حول محاضراته وتقييمها، وكان غالباً ما يحثنا على القراءة والمتابعة، ويرغبنا بقراءة كتاب معين حول الادب الروسي في العطل الرسمية، وعندما نعود الى قاعة المحاضرات يسألنا : من قرأ كتاب ؟. طبعا، كان أغلبنا قد قرأ كتاب ما، لكن في الغالب كنا مترددين عن الاعلان عن قراءة الكتاب، لإنه في الخطوة القادمة، يتوجب علينا أن نستقرأ محتويات الكتاب ومناقشة أفكاره وأبداء رأينا الشخصي حوله، مما كان يشكل أحراجاً لنا في البداية من منطلق الخجل والتردد والرهبة، لكن استاذ محمد يونس أستطاع بهدوءه وأسلوبه الشيق أن يساعدنا في تجاوز هذا الموقف الحرج في أستقراء محتويات الكتاب، وبمرور السنوات أصبح دافعنا في الحديث عن الكتاب أمر مشوق وفيه متعة ومعرفة. وهذه تحسب الى عبقرية الاستاذ محمد يونس وتضاف الى سجله الثر. وأنا شخصياً من ذلك الوقت الى يومنا هذا، أمتدت الى أكثر من أربعة عقود مواظب على هذا الاسلوب في القراءة، حيثما أي كتاب يقع بين يدي أسجل ملاحظاتي حوله ورأي الشخصي به أحيانا للحفظ وتارة النشر في المواقع والصحف. 

ولد الفقيد محمد يونس الساعدي بمدينة الكاظمية عام ١٩٣٧، وفيها أكمل الإبتدائية والإعدادية، وتعود جذوره الى الجنوب العراقي مدينة ” العمارة ”. سافر إلى موسكو عام ١٩٥٨، لدراسة اللغة الروسية وأدابها، وحصل على شهادة الماجستير  من جامعة موسكو عام ١٩٦٥، في رسالته الموسومة حول أدب ” إيفان تورغينيف ”. عاد للعراق للتدريس في معهد اللغات، وكان يومها عميد المعهد الدكتور باقر عبد الغني، وأصبح محاضراً في المعهد، لحين تولي لجنة تقوم بمعادلة الشهادات، وبعد شهر عادت الاستاذة ناشئة كوتاني من موسكو متخصصة بأدب الاطفال وقدمت الى نفس المعهد لوظيفة التدريس، وتم أيضاً اعطائها محاضرات لحين تعادل الشهادة، ولكن الغريب في الأمر، إن عمادة المعهد منحوهم  لقب لم يسبق له مثيل في الجامعة، وهو لقب معلم وليس كمعيدين خريجيين كأي تقليد جامعي في العالم، وبهذا يكون الاستاذين محمد وناشئة أول شخصين تم تعينهما في فرع اللغة الروسية في معهد اللغات. وفي سنوات لاحقة، وعندما فرض الحصار الدولي على العراق وتعرضه الى هدم مؤسساته وتحطيم بنيته بحجج واهية وقرارات ظالمة. ترك الاستاذ محمد العراق عام ١٩٩٧، بألم وحسرة على ما أصابه من أذى بإتجاه دولة اليمن السعيد، وعمل في جامعة ” تعز ” الى عام ٢٠٠٧، وبعدها عاد الى العراق، وعمل كأستاذ في جامعة القادسية. قدم عدة بحوث مشتركة حول الأدب الروسي مع الراحلة الاستاذة حياة شرارة، وقد أغنى المكتبة العربية ببحوثه ودراساته، واعتمدت كمصادر للتدريس في أكاديميات عدة. وافاه الأجل بعيداً عن تربة بلاده، الذي أفنى حياته من أجله في دولة ماليزيا عام ٢٠٠٩، خلال زيارته لابنه بشار المقييم في ماليزيا. وفي رحيله المؤلم، كتب عنه العديد من النقاد وطلبته وزملائه استاذ ضياء نافع مثالا.

يقول سعيد عدنان في مقالة سابقة له في الحوار المتمدن:

(.. كان محمّد يونس ممّن نشأ على أن الأدب ذو رسالة اجتماعيّة، وأنّ ممّا يرمي إليه ؛ أن يزيد من وعي الناس، ويرتقي بهم فكراً وذوقاً، وأنّ الجمال غير مفصول عن الخير ؛ فلمّا أُتيحت له دراسة الأدب الروسيّ في موسكو ؛ زاد الأمر وضوحاً لديه، وأخذ ينظر في الأدب والأدباء بمنظار منه.  وقد كان ذلك ممّا بنى كيانه بناء رصيناً، وجعل معنى الأدب والفكر عنده موصولاً بمعاني العدالة الاجتماعيّة، وسلامة الموقف منها.  ولم يتردد الدكتور محمد يونس بالاتصال بمن سبقوه من الكتاب العراقيين من أمثال غائب طعمة فرمان للوقوف على آرائهم في الأدب الروسي وقد أكّد غائب طعمة فرمان في رده على رسالة محمد يونس بأنه من أشد المتأثرين بأدب تولستوي – فهو- تولستوي- من علمّه كيف يخطط للرواية قبل أن يكتبها، وهو من اؤلئك الذين يصف ادبهم – بحسب فرمان، بالسحر الحلال).. أنتهى الاقتباس.

في مهنته الوظيفية الاكاديمية كاستاذ للادب الروسي في جامعة بغداد، تعرض الى مضايقات أمنية لإجباره على الانتماء الى صفوف حزب البعث، وحاول بكل قناعة أن يرفض الخضوع لهذا الاكراه، وهو في عز عطائه الفكري والادبي وقوة عنفوانه، وفي فترة الانفراج السياسي بعقد الميثاق الوطني بين الشيوعيين والبعثيين عام ١٩٧٣، شعر بالهدوء وفسحة الأمل مما دفعه الى النشاط في التأليف والكتابة. في عام ١٩٨١، تعرض الى وعكة صحية ألزمته البيت وغاب عن الحضور الى الحرم الجامعي، وبادرنا بتشكيل  وفد من الطلبة والطالبات رفيع المستوى على حد وصف الاستاذ طارق الكاظمي، في اليوم الثاني لزيارته في بيته الكائن في منطقة الاعظمية في العاصمة بغداد للاطمئنان على صحته ولقينا حسن الترحاب والاستقبال من عائلته، وبعد رحيله نقل جثمانه الى وطنه ليتوارى تحت ترابه، وفي غيابه ترك ذرية صالحة من الأولاد حفظوا أسمه !.

***

محمد السعدي

مالمو /٢٠٢٤

من أساسيات ترتيبات المنهج التاريخي، أنه يُقرأ التاريخ كوحدة نسقية. من تم فالتاريخ الزمني للعمر يشابه لحظة الولادة والموت، والتي من الصعب من أن تُعاد مرتين. ساعتها بدأت أحتسب النقاط في بصمة خط كفي، بغاية سلك أقصر طريق آمن يُؤدي نحو أقساط وفيرة من النعيم. هنا أذكركم، بأنِّي لا أقصد بالنعيم، النعيم الدنيوي، وإنما النعيم بِكلتَا الحالتين. نعم، لم أكن أتوقع من هذا السرد أن أُصدم بأن النعيم يبدأ من الحضيض. ولهذا لن أُعين تعريفا لمعنى الحضيض بأنه من المستويات المتدنية، ولكن أقصد به البدايات الجدية ومعاودة المثابرة، مثل نملة إسكندر المقدوني.

حين تم تشقيق الكلام بشيء من بداهة حذلقة المتكلمين، يُمكنني التساؤل الغبي عن كيفية العبور نحو النعيم، وكيف يمكنني سحق الجبال الشاهقات، وهو نوع من عمل حضيض المناجم؟ هنا بحق تجعد شعري الباقي على هامة رأسي بالشيب، وبدا أثر أحداث نسقية وحدة التاريخ، وبتت أفكر في سبب موت الناس، أكثر مما أثير نقاشات عادلة في أسباب عيشهم من الولادة نحو الموت. وفي مدى الرضا!! نعم، من سؤال لآخر، بات تفكيري في ارتباك من أمره اليومي، فقد تعلمت منذ السنين القديمة أن الأمور التي كنت أتوقعها، لن تحدث، ولن تتحقق البتة. وهذه المعادلة الفضفاضة تُوحي بأنِّي لا أمتلك حدس تنبؤات الزمن، وقراءة كف المستقبل!! فكم من غاية تمنيت حُدوثها، لكن ضدها الصادم كان معترضا على مستويات تكهناتي حظي العاثر وحتى السعيد منه.

منذ الولادة وعقلي المغامر والمتحرر ينمو بدواخل تفكيري الفقير بالقدرة على بناء التغيير عند كل محطة، لكني كنت أؤمن أن صوت الواجب يجب أن يكون أكثر مما كان عليه صوت الواقع المتدفق بين أرجلي الحافية في قطع مسافات الحضيض، والبحث عن نعيم حرير الجبل.

اليوم، أحسست أنِّي في زيادة من لغة حذلقة التلاعب بالكلام، أحسست أن السذاجة البينة عندي، تُنقدني من لسعة الانتقادات، ومن مزالق حسابات الفرق بين الطبع والتطبع. فكيف يُمكن تَمكينَ تأميني الخروج من الظلام نحو النور؟ هي ذي الولادة الأولى، والنهاية التي لن تتكرر عند أحد منَّا، فمن له بداية له نهاية.

اليوم، كنت أُراهن على الحظ ولو لمرة يتيمة ومنفردة في حياتي الباقية. فمن منطق الحمق تغيير الحصان الرابح، أو المجازفة بالسباحة ضد التيار، فرأس الحكمة يقول: لا يمكن أن تسبح في النهر مرتين. ولا أنصح أن يعاود أحد السباحة في ذات النهر مرات ومرات، فعند أول محطة قطار، توقف وترجلِ المشي آمنا.

قبل كتابة هذه السطور، كان لساني يَلُوك الكلام المليح، ولا يَبْحث أن يثير كثيرا من الحساسين والخلافات الثانوية. اعتكفت صياما عن الكلام المباح، ورقن الكتابة على لوح حاسوبي. والله، كانت النتيجة بذات كلمات الهلوسة المضنية تختمر طوعا بالبداية، وبهذه الكلمات المتنافرة التي يصعب تشذيبها، وترتيبها للفهم والدلالة بالتناسق بين طبعي وتطبعي، وفهمي وفهم غيري. جلست لمدة أسبوع أنظر من ذات الصندوق الصغير العجيب، والشك يَأكل قلبي باتساع مساحات الانتظار، وكدت مرات عديدة أن أخرج عن السطر سقوطا، فأبيت مثل الأحمق الذي يريد تغيير العالم ليتلاءم مع ما تبقى من عقله المُنهك في المتاعب. مرات عديدة، كنت أستمع لنصائح غيري، وأنظر في العيون، ثم أحتسب أن الأمر فيه خير دائم.

من صدق العلاقة بين الموت والولادة، تيقنت أن أبحث عن الايجابيات والتي يجب تعزيزها، وألاَّ أُنقلب نحو السلبيات، والتي يجب علي قطع الصلة معها تماما. هي الانتصارات التي رتبتها حين ترجلت اليوم مشيا على رصيف الحياة الأنيقة من ذات الصندوق الأعرج. هي التطلعات التي لم أقدر يوما تخمين تكهنات لنهاياتها الحتمية، ولن أفكر بعد اليوم في إنتاج خلطة مُفبركة بين السعادة والتعاسة.

***

محسن الأكرمين

(خاطرةٌ مردودٌ متنُها على قائِلها إن كانت مجانفةً للصَّواب)

هرولتُ حينَ الْعَشِيِّ كي أتسامرَ مع أصحابِي، فتَقرفصتُ جَنبَهم مُرَفرِفاً بيديَّ لهمُ، ومُكفكِفاً بهما عن جلبابي. وكنتُ قد ألزمتُ نفسي حينَ أبدأُ المُحادثةَ معَهم بوصايا هدايةٍ لخطابي. قبسُ وصايا تُنجيني من خَسارةِ صديقٍ منهم فأفقدَ بذلكَ منهمُ الودَّ والترحاب. وصايا تَمنعُ الخوضَ بقضايا ملتهبَةٍ، سواءٌ أكانَ الخوضُ باقتضابٍ أم بإطناب، وتحتَ ايةِ انفعالاتٍ أو دوافعٍ أو أسباب، وخيرٌ ليَ الإنصاتُ بصَمتٍ لهم، وخيرٌ لي حَوْكُ الهوى ولَوْكُ لعابي. كانتِ الوصايا صارمةً تحظرُ الكلامَ ولو هَمساً تحتَ ثيابي. وهاكَها يا ذا عزٍّ  بوجيزِ حرفٍ بلا اسهاب..

يُمنَعُ الحديثُ عن (النفاقِ)، وعن بَسَمَاتِ الكذبِ وعن رذائلِ الكَذَّابِ، فقليلٌ من أصحابي ماهرونَ بصناعةِ البَسَماتِ عند كلِّ جواب.

ثمَّ كذلكَ عنِ (الإسلام)، وخاصةً عن قضيةِ دَوَّارةٍ في فلكِ (الحجاب)، وويلكَ إن رَميتَهم بشهابٍ أسودٍ من (النقاب)، فبعضُ أحبابي نساؤهم سافراتٌ، وسيعبَسُونَ منكَ باكتئابٍ وربَما بارتعاب، وقد يظنونك مُتَطرِّفاً من جماعة الإرهاب.

ثمَّ عن فلسطين، فثلَّةٌ من الأحباب لا يعرفُ ما اسمُ عاصمةُ بلدهِ، ونراهُ ما برحَ منهمكاً بِعَدِّ دراهم السُّحت في صَحوٍ وفي ضباب، وتراهُ يَحسَبُ أن (أزأزَةَ) اللُّبِ بانكِباب، هي العلامةُ الفارقةُ لأولي الألباب، ويظنُّ أنَّ سيماهُم ظاهرةٌ في أفواهِهم لا في وجوهِهم وبلا احتجاب.

ثمَّ كذلكَ عنِ (العلمانية)، فبعضٌ مِنهم تراهُ مُتديِّناً مِن هامةِ رأسهِ حتى الكِعاب، ومُلتَزماً بعُرى دينٍ مُفصلٍ وفقَ شهواته تفصيلاً بانسياب، ومسطورٍ عندَهُ في قراطيسٍ وأمِّ كتابِ. ولو ترى على عقيقِ خاتمِهِ منقوشاً" إنِّي أنا الوليُّ المغيثُ وما سوايَ من وهَّاب".

ثمَّ تَجَنَّبِ الحديثَ عنِ (الشيوعية)، فإنَّ منهم الدّرويشُ "الماركسيٌّ" بالفطرةِ وليس باكتسابِ، وتراهُ ما إنفكَّ يُحبُّ العامِلَ والفلاحَ ويَكرهُ لوحةَ "الكافيارَ" ودَوحةَ الكباب. وترى خاتمَهُ أحمراً قانٍ، رمزَ الحزمِ وسيادةَ المبادئِ وقطعِ الرِّقاب.

ثمَّ خِتامَ الوصايا مِسكٌ؛ إيَّاك أن تَذكرَ (الرأسمالية) بسوء، فأكثرُ أصحابي متيمٌ بالغربِ أكثرُ من "مارلين مونرو" الحاضرةِ بخُصرِها رُغمَ طولِ الغياب، وأشدُّ من شقراء السُّويد الأميرةِ "مادلين" وإذ تُصيِّرُ الفكرَ في سراب، بل وتراهُ هائماً بالغربِ أكثرُ من ملكِ إنجلترا "تشارلز" ذي العينينِ بلا أهداب.

تقرفصتُ حذوَ أصحابيَ أحبابي هُنيهَةً قابضاً على جَمَراتِ أعصابي، ثمَّ رأيتُني أنهضُ وأعضُّ شفتيَّ وأجرُّ أذيالَ جلبابي، فما من حديثٍ بينَ يديَّ إلا ورأيتُ الوصايا تزجُرُهُ برهاب، فخرجتُ من مجلسِهم رُغمَ أنهم أصحابي، وأنهم في الحيِّ هم ملاذي، وإنَّهمُ ما فَتِئُوا يُمطِروني بأندى القُبَلِ وأنبلِ الألقاب.

ثم سرتُ والشارعَ الطويل مُتَقَلِّباً باضطراب، أفركُ بينَ سبابتي وإبهامي نصفَ عُودٍ من ثقاب، سَرَيْتُ الى حيثُ لا أدري أين يكونُ ذهابي، سرتُ وأثداءُ لساني تعصرُ باحتلاب؛ أمِن أحدٍ يَدُلُّني على مَجلسِ سَمَرٍ، اللسانُ فيهِ يَنطلقُ بذرفٍ سلسٍ خَلَاب، وبسجيَّةٍ غيرِ مُتزلِّفةٍ لوجوهٍ مزدحمةٍ بأنياب، وبعفويةٍ غيرِ مُتكلِّفةٍ يَتَغَنَّمُ بها لُبابي ويَتَنَغَّمُ معها جلبابي. أوَمِن مجلسٍ على ظَهرِها مَوجود، هوَ خالٍ مِن كلِّ ارتياب.

ثم بَصُرتُ هِرَّةً مُتقرفصةً، لعلَّها حاملٌ في شهرها الأخير بلا احتساب، فتبسَّمَتْ ليَ الهِرَّةُ بسمةَ "ميوٍ" واحدةٍ بانشراحٍ وبإعجاب، فتَقرفصتُ من فوري حذوَها وسطَ الطريقِ بلا ترددٍ وبلا وصايا ملزمةٍ في الخطاب، فتسامرنا معاً سَمَرَ عاشِقينِ بَعدَ بُعْدٍ واغترابِ، حتى إشراقة الفجرِ ونحن مُتَقرفصون على كومةٍ من تراب، وكانَ مِن بينِ أيدينا ومِن خلفِنا أخوةٌ لنا منصتونَ بلا طنينٍ ولا وَنينٍ ولا سِباب. كان الأخوةُ حشداً أنيقاً مِن بَقٍّ وحشداً وثيقاً من ذُباب.

لقد تَسامرنا بهمسٍ آسرٍ ساحرٍ يعدلُ دُررَ الجبالِ والهضاب.

- ميو؟

- إمممم، ميو حبيبتي، ميو...

***

علي الجنابي

اهوى صعدائك في القوريات*

برحيل الأديب نصرت مردان تفقد مدينة كركوك احد ادبائها من جيل ما بعد جماعة كركوك الادبية عاصر معظم اعضاء الجماعة وكان صديقهم ولكونه ينتمي الى عائلة معظم ابنائها من الادباء والشعراء والفنانين اخيه المرحوم محمد مردان كان احد شعراء المدينة وكذلك اخته المرحومة ليلى مردان وزوجته السيدة سلمى مردان كما ان اخيهم المرحوم بهجة غمكين كان موسيقارا. العائلة تركت ميراثا ادبيا تفوح منها طعم المدينة واحيائها. الكتابة عند الأديب والشاعر والمترجم نصرت مردان يوازي أهمية الماء للأسماك. البحر ها هنا، وطن يسمى مدينة النار والنور والقصيدة الضوئية "كركوك " المدينة التي ولد فيها عام ١٩٤٨.

 ان تكتب في تأبين صديق رافق جزء من سنوات حياتك يعيد  ذكريات نصف قرن من الزمان. حين بدا المرحوم بفك أسرار الكتابة كتب قصة قصيرة ترجم فيه شعوره نحو فدائيي فلسطين وهو يرى تجمعهم تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية أوائل الستينيات. وعلى عادة ادباء ذلك الزمان قرر إرسال قصته للنشر في بيروت. طبعا كان عيون الرقيب حاذقا فمسك بالرسالة بمهارته المعهودة في الشرق واقتاد بكاتبنا الى الغرف الأمن السرية والمظلمة ليسأله ويستفسر عن سر تلك الشفرات السرية المرسلة من قبل الفدائيين في القصة التي كتبها والتي كان الفدائيين يتواصلون ويتخاطبون بها بينهم. طبعا كل تلك الشفرات كانت من وحي خيال الكاتب. أين الأدب الرفيع من رجال الأمن الجهلة حتى النخاع. طبعا بعد التحقيق الممل وتدخل الطيبين بالواسطة اخلي سبيل المراهق نصرت وعاد الى بيته تائبا على ان لا يعاود الكتابة ب "الشفرة ". ليس هذا مجرد قصة رواه لي صديق دراستي الجامعية والذي سكنا معا في نفس البيت لسنوات، بل احداها فقط منبين  سلسلة من المحطات في حياة الشاعر الرهيف الذي احب الحياة لان فيها "سلمى" وأحب العراق لان فيها سومر وفرات وبقى على سجيته الرومانتيكية يكتب على قطرات المطر اماله شعرا . كتب لي يوما يقول:

انا ضال والقلب ثمل

 اتكسح في الحانات

لأني افتقدك

بعد ان اكمل دراسته الجامعية في مدينة ازمير الساحلية عمل مترجما في الملحقية الثقافية العراقية في انقرة والتي كانت فارغة من الثقافة بدونه.بعد دراسة الماجستير عاد الى العراق ليعمل في جامعة صلاح الدين وهنا مرة اخرى احبه الدارسين والتدريسيين وساهم في الحياة الثقافية مع زوجته النبيلة. ثم جائت الأحداث فسقطت أربيل عاصمة الإقليم وسارت الدبابات في شوارعها.3827 نصرت مردان

فكتب:

سودا بالغ يان گيدر*

وإشعار كثيرة في مجموعة " شفق" مع عدد من الشعراء المحدثين امثال    محمد عمر قازانچي و الشاعر عصمت اوزجان وذلك لكسر الجمود الذي بقى يلازم الشعر التوركماني منذ عصور. لكنه بقى حالما بمعبودته فكتب امنيته التي لم تتحقق؛

إلهي

أنا

لا

أبغي الجنة ولا النار

الموت في كركوك

جل مبتغاي

ترك الوطن الكبير والصغير واللجوء الى المنفى الى الجار القريب تركيا وبقى لسنوات في معسكر سلوبي للاجئين قبل ان يلحئ الى سويسرا.  وذاق المر في ذلك المخيم  الحدودي وكانت تلك السنين  " عجاف" وكتب عن تلك الأيام والشخصيات التي عاشرهم عن قرب وذاق هو وعائلته الأمرين من القريب والصديق والرفيق في وداعا سيلوپي.

كتب فيه راويا ايام ذلك المعسكر قائلا:

"أقسم بالله لو كنت في الجبل كما كنت قبل أعوام، لما منحته فرصة كي يتنفس. كنت سأسكت فيه صوت الشر والشيطان برصاصة واحدة لا يزيد ثمنها عن مائة فلس!.. لعن الله الأمم المتحدة وحياة اللجوء التي حولتنا إلى أن نكون خرافا أمام المعاصي والمنكرات في هذا المعسكر اللعين."

انتهى به المطاف على ضفاف بحيرة "جنيڤ " الخالدة. وبدات رحلة جديدة من حياة المنفى. كتب موسوعة توركمان العراق ونشر فيها كتاباته. كما نشر في المواقع العراقية على الإنترنت وفي الجرائد العراقية وجل المطبوعات في الخارج ونشر ذكرياته عن احدى شوارع وطنه الصغير وأبدع في الحوار والسرد الذي يصل الى درجة القصيدة النثرية. كما ابدع في الكتابة المسرحية وترجم الى العربية معرفا قارئ العربية بالموروث الثقافي والأدبي للشعب التوركماني في العراق.

***

د. توفيق رفيق التونچي

.....................

* القوريات من الانماط الشعرية الخاصة ب تركمان العراق  شعر رباعي موزون. البيت من اشعار المجموعة الشعرية ” شفق ” طبع الكتاب في مكتب المنصور للطباعة في كركوك والديوان لمجموعة من الشعراء الشباب حاولوا فيها كسر طوق هيمنة الشعر الكلاسيكي الذي لا يزال يهيمن على مجمل الابداع الشعري للشعراء التوركمان ، وقد صدر الديوان عام ١٩٨٨ ويشمل ابداعات الشعراء؛ نصرت مردان ، الاستاذ عمر قزانجي و عصمت اورجان.

* تجنح السمكة في مسيرها. عنوان أغنية تركية تراثية.

سعدت باستضافتي بالندوة التي أقيمت بمركز الحضارات المعاصرة بكلية الآداب جامعة عين شمس لمناقشة كتابي: (مصر في عالم مضطرب)..

 وبرغم أن الكتاب قد تم نشره في الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ نحو عام ونصف، إلا أنه كما يبدو ما زال يحظى باهتمام المثقفين والقراء، وهُم مَن هم؟ إنه جمعٌ من أرقي العقول الأكاديمية البارزة ذات التأثير على جيل قادم من المواهب الشابة. لهذا كانت سعادتي عظيمة بهذه الندوة وما حفها من تقدير وحفاوة فاقت التوقعات. ولعل أشد ما أعجبني فيها حجم التفاعل بالأسئلة والمداخلات والاستفسارات؛ والتي تنم عن مدي الاهتمام وعمق استدلال قراء ومناقشو الكتاب.

نضح الصدور

 في اعتقادي أن أهم وأجل ما يمكن أن يحظى به أي كتاب هو التفاعل.. أي النقد والأخذ والرد والسؤال؛ لأنه دليل على أنه حرك راكداً في الآراء والأفكار..

 الندوة في ذاتها نوع من التفاعل الراقي، والنقد الفكري نوع آخر، ثم الأسئلة التي تأتي في أعقابها بمثابة مؤشر حساس جداً عن مدي عمق فهم ما تطرحه من أفكار في الكتاب. وكثرة الأسئلة في هذا القسم من الندوة معناه أن هناك شواغل في الصدور والعقول تريد أن تفصح عن مكنون ما بها من ضجيج وزحام أفكار ورؤى..

 إنني أحب انتهاز فرصة أي ندوة لأستمع أكثر مما أتكلم؛ لأني أعلم أن الناس، لاسيما المثقفين وأصحاب الفكر الأكاديمي المنضبط، يريدون أن يتكلموا ويعرضوا وجهات نظرهم فيما يجري حولهم من أحداث تستفز الاهتمام لأقصي درجة.

 الأحداث في مصر والمنطقة العربية ثم في هذا العالم الواسع الممتد أحداث متقدة متلاحقة لا تترك فرصة للتأمل في مآلات الأمور. والعمل الصحفي يكتفي في صورته الإخبارية بنقل الأنباء من هنا وهناك، لكن ماذا عن التحليل والاستشراف واستشفاف ما بين السطور للخروج باستنتاجات قد يكون لها دور تنبؤي مصيري؟ هذا الدور قد يكون في أوقات سابقة فرض كفاية، أما في ظل ما يخيم على منطقتنا من تهديدات ومخاطر وأحداث ملتهبة يصبح التفكير في مستقبلنا شعوباً وقيادات فرض عين.

عصر مضطرب

 نعم هو عالم مضطرب يضج بالأحداث والتحولات المحورية. ومصر دولة مركزية ذات دور عظيم، ثم إنها تتأثر بكل ما يجري حول العالم، لا أقول حولها. فكيف يمكن أن تحقق التوازن في خضم مثل ما يعج به العالم من اضطراب؟ سؤال سيظل يشغل عقول المنظرين والمفكرين في مصر وخارجها لسنوات طويلة قادمة. وإذا كنت طرحت السؤال في كتابي فإنها مجرد بداية لأمر سوف يطول ويمتد. لهذا تراني في مقالاتي أعيد طرح نفس الأفكار أحياناً لا من باب التكرار بل من باب التذكير والتأكيد..

 تحدثت في كتابي مثلاً عن الإعلام ودوره العظيم في تشكيل الوعي الجمعي، وهو الأمر الذي نشاهد اليوم آثاره في أحداث كأحداث غزة. وتابع إن شئت ما يجري من تحولات هائلة في الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية لدرجة أن جامعات الولايات المتحدة الأمريكية انتفضت ضد العدوان الإسرائيلي الغاشم في مشهد لا يتوقعه أكثر المتشائمين من صفوف الكيان المحتل أو المتفائلين من صفوف مناهضي الظلم وكارهي الحرب. الإعلام العالمي والذي برعت المقاومة في استغلاله لصالحها رغم نقص إمكانياتها لعب الدور الرئيسي في هذا التحول الهائل في العقل الجمعي العالمي!

 وإذا كان نقص الإمكانيات لا يحول دون التميز الإعلامي، فإن هذا معناه أن النجاح إعلامياً له مقومات أهم بكثير من مجرد الإنفاق المادي والتفوق الشكلي، بل المضمون هو الضامن الأكبر للنجاح. لقد تحدثت كثيراً في هذا الجانب سواء في مقالاتي القديمة أو الحالية، والتكرار هنا للاهتمام والضغط على المعني المراد.

 الكتاب في معظمه ضم عدداً من أهم مقالاتي التي نُشرت على صفحات عدة جرائد ومجلات ومواقع إليكترونية صحفية متخصصة. فآثرت أن أجمعها في إطار واحد يضمها معاً هو اهتمامي بمصر وحبي لها وخوفي على مستقبلها ومستقبل أهلها.. إن الفارق بين المقال الصحفي وبين الكتاب كالفارق بين هطول المطر وبين جريان النهر، الأول يغيب في بطن الأرض والثاني يبقي على السطح لينتفع به الناس الآن وغداً..

أفكار ومفكرون

 الدكتور سامر قنديل أستاذ التاريخ الحديث يعود إليه الفضل في دعوتي للندوة. وأنتهز الفرصة في هذا المقام لشكره على هذه الدعوة الكريمة. غير أن دعوته تلك هي دليل اهتمام وانشغال بقضايا الوطن على كل مستويات المثقفين بدءاً من قمة الهرم، أي المستوى الأكاديمي، نزولاً إلى سائر مستويات الثقافة والعلم. الجميع مشغول مهموم بقضايا الوطن ويريد أن يكون له دور في حلها بما يستطيع.

 وإذا كان الكتاب قد عرض طرفاً من قضايانا اليومية الشاغلة، فإن مثل هذه الندوات تفتح المجال واسعاً لمناقشة أكثر عمقاً واتساعاً. الدليل على هذا ما كنا نقرأ عنه في العصر الذهبي للأدب والفكر أيام طه حسين والعقاد والمازني ومحمد مندور وسلامة موسي من ساحات الصراع الفكري والتلاقح الثقافي بين رموز الفكر والأدب آنذاك. وأغلبهم كانوا من أساتذة الجامعات. التلاقح الذي كان ينتج عنه زخم وتفاعل ونشاط عقلي واسع النطاق امتد أثره حتى وصل إلينا الآن فبات مضرباً للأمثال!

 إن أفكار كتابي هي أفكار بسيطة متداوَلة يقولها رجل الشارع البسيط لكن بطريقته وأسلوبه. الفارق بيننا أنني أطرحها وأنشرها وأضعها في متناول التداول الفكري، كأنني حكم لمباراة أضع الكرة بين الأقدام تتقاذفها وتتناوب على تقليبها ودحرجتها. الأفكار عندما تتدحرج وتندفع للأمام قد تأتيها الفرصة مرة للتهديف!

 لا يهمني كثيراً إن اقتنع أحد بما أطرحه من أفكار، لكن يهمني أن يناقشني ويتفاعل معي فيضيف لأفكاري ووجهة نظري الضيقة نوافذ جديدة أري منها بصيصاً من نور.

 أقول إني قد سعدت سعادة جمة بالندوة، وأكثر بهذه الكوكبة المشرقة من المفكرين والمثقفين من أساتذة كلية آداب عين شمس. كيف لا وقد أضافوا لي أفكاراً جديدة بما طرحوه من رؤي وما عرضوه من محاور لمناقشات عميقة تشير بالتأكيد لمدي اهتمامهم بما جاء في الكتاب من قضايا وطنية وثقافية مؤثرة في تشكيل الوعي والوجدان. وقد أعجبتني المداخلة الذكية للدكتورة هدي أباظة رئيس قسم اللغة الفرنسية بالكلية.

  كما أخص بالذكر الدكتورة حنان سالم وكيل كلية الآداب لشئون المجتمع وخدمة البيئة، والمؤرخ الكبير الدكتور محمد عبد الوهاب مدير الندوة. ويتصل الشكر لكل من الدكتور خالد حسين رئيس قسم التاريخ والدكتور محمود عبد الله رئيس مركز الحضارات المعاصرة والدكتور وليد محمد مصطفي والدكتور أحمد فاروق والدكتورة راندا جمعة .

حياة الأفكار

 أتمنى لمثل هذا التفاعل الطيب والنشاط المثمر أن يستمر..

الندوات والجلسات والمؤتمرات في حقيقتها فرصة للنقاش والحوار وتبادل الرؤي ووجهات النظر. ولابد أن تكون الأفكار متعارضة ومتباينة ليكون جو المناقشات صحياً مثمراً. هكذا نتغير ونتطور إلى الأفضل عندما نكتشف أن بعض أفكارنا في حاجة إلى إعادة هيكلة وتشكيل.

 ولا أفضل من أن يناقش أفكارك علماء ومفكرون وأساتذة جامعات، هؤلاء هم قمة الهرم الثقافي في أي مجتمع، وأفكارهم هي خلاصة ما تنتجه القرائح والعقول، ولابد أن تستفيد كثيراً عندما تناقشهم وتنصت إليهم وتتعلم منهم.

 لا ينبغي لأي مجتمع أن يكتم أفكاره في العقول، ولا همومه ومشاغله في الصدور فينطوي عليها ويكابد ألمها وحده، بل إن مشاركتها واستعراضها ومناقشتها مع الحكماء والعقلاء والمفكرين أمر ضروري وحيوي. وما لمسته في ندوة جامعة عين شمس كان شيئاً قليلاً من فيض ما تنطوي عليه الصدور والعقول من رؤي.

***

عبد السلام فاروق

أوراق من الذاكرة للأديب الفلسطيني: عبد السلام أحمد عابد، من منشورات الوسام للثقافة والإعلام عام 2022 م، صورة الغلاف بعدسة نسيبة سعيد

تتسم هذه الأوراق بحالة خاصة مشبعة بجمال الطبيعة، وتتخذ لها هدوءا خاصا منسجما مع زقزقة العصافير، وتمايل حقول القمح في بداية الصيف، وصهد موسم الزيتون، هي مذكرات أو يوميات كما ذكرها الكاتب، بوح ممزوج بعطر الأزهار البرية، التي تنبت بين ضلوع الأرض، لا ندري هل أثرت به الطبيعة أم هو من آثر أن يتأثر بها، فغمر مفرداته بماء طهرها، وسحر خلقها، على الحالتين نحن أمام كيان أخاذ يظهر عظمة الخالق، وجمال الطبيعة وصدقها وعطائها.

ملامح لغة الكاتب رسمت صور نثرية لها إيقاعا يسامر الهضاب والسهول والجبال والوديان، حظه الوفير أنه ولد على أطراف مرج ابن عامر، خصوبة الأراضي فاضت على لغته، وعذوبة الوديان في مواسم الشتاء الفياضة منحت لغته عذوبة وغزارة.

لم يذكر الكاتب صعوبة حياة الفلاح وحالته الاقتصادية المتذبذة حسب المواسم، وكأنها لا تعنيه، ولا تستحق الذكر، مطبقا مقولة الشاعر. - إيليا أبو ماضي

أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيراً

وابغض فيمسي الكون سجناً مظلماً

انعكاس الكاتب من الداخل إلى الخارج يبعث الهدوء والمحبة للأرض والإنسان.

أدواته الكتابية ارتقت مع الزمن، لقد سعى وراء هدفه وحرص على تطوير ذاته، بالقراءة أولا حيث قرأ لعدد من كتاب فلسطين وتعلم النقد من خلال المطالعة، وبين أهمية وجود مكتبة منزلية في البيت، وأثرها في اهتمام الأسرة بالمطالعة، ثم الكتابة وقد عرض كتاباته على الصحف المحلية وشاركها، وتقبل النقد في ذلك درس للكاتب الناشئ، ولم ينس البدايات، أول كتاب حصل عليه، وأول قصيدة كتبها، وأول مقال، وكيف أنه اختار بعد ذلك النثر بعد أن اطلع على المدارس الشعرية القديمة والحديثة ودرسها جميعا.

هذا درس ضمني في نصوص يومياته ، وهناك دروس مباشرة، حيث استخدم الكاتب أسلوب المعلم "سؤال وجواب" ليرسخ في عقول أبنائه وذاكرتهم هزيمة حزيران، واحتلال ما تبقى من فلسطين وأجزاء من بعض البلاد العربية.

وأعظم الدروس التي فاض علينا الكاتب من ذكرياته، الجو الأسري والعائلة المتحابة المتعاونة، حيث يتقاسمون رغيف الخبز الساخن، من على الموقد، وتجمعهم مائدة بسيطة، أو كانون نار في ليالي الشتاء الباردة.

الكاتب إنسان عادي يمضي يومياته كما الآلاف الأشخاص، ينام احياننا في الحقل، ويشرب من ماء البئر، في ذلك رسالة عندما تخلد الروح للبساطة تكون أجمل، ويبقى لها أثر كالمطر يحل الخير بقدومه، يحفر الصخر ليس بالقوة بل بالصبر والمثابرة وطول العطاء.

أجاد تصميم الغلاف بحرفية وإتقان، ليعبر عن مضمون الكتاب، يضفي عليه لون الأشجار والنباتات الخضراء، ولون وزهر اللوز الأبيض، لتمزج لون المروج ولون روح الكاتب معا، وصورته وهو يجلس على الغلاف الخلفي بكامل طاقته التأملية، ينحني قليلا لعظيم صنع الله في الكون...

***

بقلم الأديبة: إسراء عبوشي

من خلف غلاف قريتنا يراجعون علاقتك بالله، ويفتشون في حياتك الشخصية.. ويبحثون في أغراضك (هل لديَ سيارة هل لديَ حسابات بنكية ماذا يملك، ويبحثون عن عتاد لبناء جسر للعبور والبحث عن شخصيتك، يلبسون على بشرتهم وجوهاً شتى من الأقنعة، يبتسمون لك، فتكشر الأنياب.

من خلف الحروف تنبثق المعاني كاشفات وتمتد أياد تصافح قلبك.. نوع من النفاق الاجتماعي والبعض من ورود نثرتها خارج الغلاف يلتقطها الريح العذري، في ابتسامة المغوار.

من داخل سياج قريتك، وبعد أن حاولوا هدم الجدار يبتسمون لك وفي القلب هزيمة وفي العقل حقد دفين، عود على بدء لإقتحام الجدار من داخل قريتك تتلقف الوشوشات فتبتسم وتبارك العتاد المسروق وتمر حذوهم....ترقب عبورهم الهش والمعتاد للجسور من داخل قريتك تعيد غلق الأبواب، ومن علو تطل مبتسماً، علهم ينفذون من بعض فجوات السماء.

انها لحظة المنعطف الاخير، للآقنعة المزيفة التي تصنع شخصية يلتفتون حولها وعندما ينتهي دورها يبحثون عن اخر، تحديداً في زمن المنعطف الأخير في أن القديم يحتضر ولا يموت، والجديد لم يولد بعد وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية من الأمراض السيكوباتية غاية في التنوع، قديم ينهار ولا يموت، وعن جديد أفضل لا يولد، لكن لحظة منعطفنا في أن القديم يحتضر والجديد ولد متفسخاً، أي بين متفسخين وخلال هذه المسافة تظهر تشوهات كثيرة غير متوقعة من مجموعات اختارت لنفسها أن تلعب ادوار داخل المجتمع المدني، يقنعون الناس انهم قدوة، وهم رعاع وسفلة كما قال عنهم (سقراط) وتصادم قواعد وأعراف وتقاليد غريبة في محيطك الجغرافي.

نحن في لحظة منعطف وانهيار قيم أخلاقية وظهور اخرى معاكسة في زمن قصير بلا تسلسل ونظام، لا القديم يموت ولا الجديد يولد، وفي مرحلة من هذا النوع تكثر التشوهات الآخلاقية وخاصية النرجسية الخفية وحسب تتميز النرجسية الخفية عند البالغين بالتمركز المفرط حول الذات، والشعور المبالغ فيه بالتفوق الذي يخفي مشاعر عميقة بالدونية التي تخفى تحت أقنعة مزيفة والنقص المستمر في التعاطف مع الآخرين" وفي مجتمع مغلق بلا مؤسسات علمية وتربية وبلا ثقاقة من الجهل المقدس، وجدوا هؤلاء ارض خصبة سوية تزدهر هذه النماذج الخطرة وقد تصل الى أعلى المناصب في داخل مجتمعها وللأسف يحملون أرفع الشهادات العلمية دون أن تكتشف لقدرتها التنكرية وتجارب حياة في صناعة شخصيات مزيفة ومشاعر مزيفة وخراب بيوت دون معرفة الداء الحقيقي ومع النرجسية وجنون العظمة والبحث عن هوية داخل مجتمع، ومع مجموعات تشكل نفسها بنفسها وتصبح وصية علي مجتمع قرية او مدينة وهي النرجسية الجماعية حيث كل جماعة تعتقد انها الأحق بالمسيرة والقيادة من القاعدة الي القمة فينصبون انفسهم علي مجتمع يسودة الجهل، بالإدعاء بالتفوق الفكري والعقائدي والسياسي لينتهي هذا التناقض الحاد والعدائي والفوضى يوماً الي كارثة، إن التحولات العاصفة في داخل المجتمع وخاصتاً الريفي، تأخذنا الى كارثة تطيح بالجميع لا مفر منها أبداً. عندما نولي جهلنا فينا وننتظر من الغبي مخرج...فالأخطر من الجهل هو إدعاء الجاهل بالمعرفة،، !!

يوميات مثقف في الريف

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

الحديث عن متعة الكتابة صحيح، بشرط في حدود معينة، مسموح بها، لكنك إذا اقتربت من المنطقة الرمادية فأنت اقتربت من [وقر الأفاعي] ولا تستغرب اذا كنت مصمماً المشي علي حافة وقر الأفاعي، ان تلدغ من افعي  لم يقرأ كتاباً في حياته واذا قرأ لم يفهم واذا فهم يقلص النص الى مستواه كما لو انه حفيد سقراط مع ان زبال الشارع لا يعرفه وهو نفسه بلا صورة ذاتية ومجمع شخصيات مقموعة.

عندما تصبح الكتابة في عصر " الفرجة والتفاهات" ومناخ سياسي واجتماعي متشظي وموزع الولاءات، وفي زمن الدوامة والتيه، وغاية الناس الحفاظ علي الأقل البقاء علي قيد الحياة، وفي مناخ تصلبت فيه الآكاذيب وصارت حقائق وبديهات ومؤسسات تكذب اطراف النهار وانا الليل، معنى ذلك أنك ترمي نفسك في وقر الافاعي عارياً، وليست افاعيينا  العادية، بل لها قدرة بلع كل شيء الحديد والزجاج والحجر، وكيف تقنع من تحاول اقناعه ان حياته تأسست على أكاذيب، وان مفهوم" العقل" ليس المادة العضوية بل محتواه، وان الذاكرة الحية ليست ما تتذكره بل محتوى ما تتذكره، وهذا المحتوى محشو بكل ما في التاريخ من أكاذيب وسرديات ملفقة، وبعضها صارت مقدسات ..!!

كيف تقنعه انه لا يفكر بالمعنى العلمي للتفكير وهو انتاج معرفة تحولت مع الوقت الى تقاليد وعادات وقوانين،،،

في وادي الأفاعي لا تستطيع ان تكتب سرديات مضادة للمرويات الرسمية خلال فترة زمنية، لقد تحولت  السرديات الشفوية الى حقائق بالتكرار والتلقين والقوة في "السلطة الاجتماعية"، كثير من الحكام ما يكدحون لنيل أطماعهم، متوسلين إلى مأربهم بالعقائد والدين،، في دول عربية ودول اسلامية ولطالما تأملتُ منذ صباي المبكر، في تلك الفظائع والويلات التي جرت في التاريخ منذ قرون، وما عاصرته بعدها من مثلها. وبعد أن أطلت النظر فيها، مرات، رأيت أن معظمها منبعه الطمع. فالحكام يطمعون فيما بيد بعضهم البعض من جاه ومجد ومال، فيسعون إلى امتلاكه. وكلما ملكوا ومهما جمعوا طمعوا في المزيد، ولو بالحروب وتدمير البلاد وشقاء الأبرياء من البشر. وهؤلاء الحكام كثيرًا ما يكدحون لنيل أطماعهم ومتوسلين إلى مأربهم بالعقائد والدين، أو بالدعاوى الدنيوية المخادعة...،، الكتابة من المنطقة الرمادية تحولك الي مجنون في المجتمع او وراء الشمس، كبار الكتاب  في قارة امريكا اللاتينية استطاعوا اعادة صياغة تاريخ القارة من جديد (غبرائييل ماركيز الكولومبي، كتابة (خريف البطريرك ) من اعظم الروايات التي قرأتها وكأنه كتبها لشعوب الشرق الأوسط.

وجورج أمادو البرازيلي، وماريا فارجاس يوسا البروفي، البيرو، ميجيل انجل اوسترياس الجواتمالي، كارلوس فوينتس المكسيكي الملقب بصانع الذاكرة المضادة "" انهم اعادوا كتابة تاريخ القارة من جديد، وثلاثة من هؤلاء عدا "كارلوس" لمواقفه السياسية الحادة من الهيمنة الاستعمارية للقارة، حصلوا على (جائزة نوبل) وخلقوا جيلاً تمردياً وساهموا في اسقاط ديكتاتوريات متوحشة ومأجورة، لكن هؤلاء عملوا في أرض خصبة تنتظر المطر، وليست أرضاً ميتة مثل بلدان العرب لا ينبت فيها غير الصخر والشوك والفراغ.،، كتابة تاريخ مضاد معناه الجلوس خلال الكتابة فوق كرسي طبيب الاسنان ليقلع أسنانك بلا مخدر، أو الجلوس قرب وكر الأفاعي والثعالب، أي أنك تعيش كوارث وأكاذيب التاريخ مرتين:

مرة عشتها في الحياة بمكرهاً، وثانية خلال الكتابة مكرها ذاتياً بحكم دور وشرف الكاتب والكتابة وحب الناس.حين تقرأ...يقول :- (دوستويفسكي) ستنسى كل من كنت قرأت لهم من قبل، وستندم وتسرف في الندم أنك أخرتَ قراءته كل هذه المدة هذا ليس روائياً عابثًا، أو أديبًا يتلاعب بالكلمات، وليس كاتبًا يلهو ويلعب بعقول القراء من أجل دريهمات معدودة.. هذا رجل يحمل هم المقهورين والمنبوذين والفقراء..إنه عالم نفسي ومؤرخ صادق وشاعر الشعور كله بما يعتري النفس البشرية من أمراض واضطرابات وقلق وألم ولوعة ..إنه باختصار المتكلم الصادق والمثقف العظيم الذي بقلمه قد يطيح بألف طاغية..،،

ولإننا لا نقرأ ولا نقترب من وكر الأفاعي من الكتابة  ونتمتع بها ونقبل او نرفض ما فيها، لكننا لا نعرف كمية الوجع خلف كل حرف، وكمية النزيف خلف كل عبارة، رغم أن يعض هؤلاء كان يعاني من ضيق الحال مثل الأديب{ ماركيز} الذي يعترف في سيرته الرسمية انه ينزل للشارع للبحث في القمامة لطفله الرضيع الباكي،، .الحديث عن متعة الكتابة صحيح لكنها تشبه متعة وفرحة الخروج من وكر الثعالب بالطبع لن تخرج، اذا خرجت، سالما بلا مخالب وآثار مخالب وأنياب، ومن غير المعقول أن تدخل في منجم فحم وتخرج ناصع البياض،  ولا في وحل وتخرج معطراً ولا تدخل في صراع الثيران دون أن تعلق بك مخالبه أو يزرع فيك بعض صفاته، الخروج سالماً من محنة كتابة تاريخ مضاد مستحيلة، لكن هذه الاستحالة،، تصبح المخالب أوسمة شرف مضيئة وعلامات صلبة على أنك لم تكن ماراً عابراً في هذه الحياة، ولست غباراً عابراً، بل تستحق هذه الحياة بشرف كما تستحق الموت بشرف.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

اشتهرت قريتنا بالشارع الذي ولدت وعشت فيه حارة (الطباله) نسبتاً الي عائله تملك فرقه موسيقية.. كل يوم خميس تخرج الفرقة من منزل صاحب الفرقة الحاج صادق ابو عوض بالزي الرسمي ويحملون الآلات الموسيقية. لإحياء حفل زفاف لحفله عرس في قريتنا او القري المجاورة.. كنا نشعر بالفرح والسرور والبهجة.. يتقدم طابور الفرقه/ الحاج صادق عوض بالزي الرسمي. بدله كامله. تختلف عن ملابس الفرقه التي كانت تشبة ملابس الكليات العسكرية.. كان صاحب الفرقه يحمل كريزما وشخصية قوية.. رغم الحياه كانت بسيطة وكانت عائلات تعيش الفقر المدقع.. إلا انهم كانوا يتكيفون مع الواقع ويصنعوا السعادة والفرح في المساء.. كما كان يفعل عمنا/ السيد الحنفي.. يجلس علي مصطبة عريضة وبجوارة عائلتة ويعزف ابنائه الطبل والزمر.. وكأنك في فرح فيتجمع جيرانة للجلوس والمرح والسمر علي ضوء القمر.. يمكنك الذهاب الى شاطىء الترعه أو الحقل وجلب عود من الغاب او باقة عشب او زهور برية، ثم بمهارة تحول عود الغاب الى مزمار، بعد ذلك تقيم حفلة، أي حفلة، وتعزف بالمزمار، لا يكلف شيئاً. عندما سيرقص الأطفال والشيوخ وبعض العجائز في جو من الفرح العائلي. أمر سهل تحقيقه. يتحول الحفل الى عيد والمكان الى حلبة رقص. كما كان يفعل عمنا الحاج السيد الحنفي واولادة، ويمكنك الذهاب لشراء سلاح واطلاق النار على من تريد لسبب ما، وان تحول الناس الى مشيعين والمكان الى مقبرة. أمر سهل أيضاً. حدث علي بعد امتار من مزمار وحفلة عمنا السيد وسقط في خناقة 3 /افراد قتلا.

لا شيء اسمه الهزيمة الا اذا استسلمنا لان في كل هزيمة نصر مخفي وهناك هزيمة مشرفة افضل من الف انتصار قذر. حتى النصر الحقيقي هو هزيمة تم عبورها. نخسر معركة مع وحوش لكننا نربح فرصة جديدة ونكسب رهاناً رائعاً وتعيش حياة جديدة من النضج ونتمتع بالحياة أعمق ونصبح أكثر حكمة. لكن يمكنك الذهاب الى محل بيع الشموع وتشعل شمعة. لا يكلفك شيئاً. أمام الشمعة تحلم أكثر مما تفكر لأن علاقة الانسان بالنار قديمة ومنذ الآزل. لن تخسر شيئاً. ويمكنك، بلا مشقة، اشعال حريق بشمعة في أي منزل آمن لسبب ما، وتحويله الى رماد وجثث متفحمة. الأمر سهل اذا كنت تجد سعادتك المريضة في خراب بيوت آمنة والناس.

يمكنك الذهاب الى الحقل وقطع الأشجار التي يستظل بها المزارعيين اثناء الظهيرة.. وممكن ان تزرع الزهور وتنتظر، حتى لو طال الانتظار، مهما طال،سوف تشم رائحة الورد، في يوم ما، بلا توقع، ستهرع فرحاً وتعطي وردتك الحمراء لمن يستحق، لكن كن حذراً لأننا نضع ورودنا من الفرح الطفولي وطول الانتظار على رقاب الخنازير مثل من يضع باقة زهور في مجاري الصرف الصحي.

الحياة ليست نزهة في حديقه

ويمكنك الذهاب الى محل مجوهرات وشراء سبائك وأقراط من الذهب والفضة وتعيش. داخل قصر على شكل فراشات ذهبية، ولكن حياتك جحيم... ولكن كل ذلك تعاني من الحرمان من النشوة والفرح. الأمر ممكن أيضاً.

في شهر أغسطس الماضي تعرضت لأزمة صحية خطيرة ظلت حتي الشهر الماضي واجريت لي عملية جراحية وكنت مربوطاً على الأجهزة في غرفة العناية المركزة وتحت المراقبة طوال اليوم، لكن لاح لي بصيص من أمل. كنت واثقاً أن قلبي لن يخون وكنت معنياً بكل ما يجري. من احداث من حرب غزة عقولنا تستجيب لكل ما نفكر به سلباً أم ايجاباً. تلك الصور في غرفة العناية المركزة من شريط ذكريات من الطفوله..

وماذا يحدث لو مت...؟ نحن كلنا كنا موتى قبل ان نولد ولم نشعر بالآلم. لا تتحدث بعد ذلك عن الفشل والخيبة والهزيمة:

النجاح فشل تم تجاوزه، في كل خيبة بذور أمل، والانتصار الفردي هزيمة تم عبورها، ثم اعزف بالمزمار مع كل لحظة فرح لا تكلفك شئ مع الشمعة التي ترتعش،مع ظلين نحيلين متعانقين راقصين على الجدار دون ان يكلفك الحفل شيئاً عدا عود ثقاب للشموع: وعود غاب. ما الذي تخسره لو جهزت أفراحك بأدوات بسيطة: مزمار وشمعة.. وغرفة دافئة؟

الفرح النقي صناعة أشياء بسيطة وهو كالأمل لا يحب الانتظار....

***

يوميات مثقف في الريف.. محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث مصري ومتخصص في علم الجغرافيا السياسية

 

اختيار نجيب محفوظ كشخصية رئيسية لمعرض أبو ظبي للكتاب لعام 2024 كان اختياراً موفقاً وذكياً.. فمن ناحية أنه يتناسب مع اختيار مصر كضيفة شرف له. ومن ناحية أخرى أن أديب نوبل إنما يعبر في الأساس عن العرب جميعهم، وأن الأدب العربي قادر على المنافسة عالمياً..

 الروائي المصري نجيب محفوظ ربيب حي الجمالية والذي عاش عمراً مديداً قارب المائة عام فعاصر عمالقة الأدب والرواية بدأ الكتابة منذ ثلاثينيات القرن الماضي ولم يتوقف عن العطاء في هذا المجال حتى قرب وفاته عام 2006 عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاماً..

 وخلال تلك الفترة الطويلة التي امتدت عبر أجيال متعاقبة من الإبداع كتب ونشر عدداً كبيراً من الروايات والقصص تحول أغلبها لسيناريوهات سينمائية ودرامية تُعرض على الشاشتين الذهبية والفضية. بل وتحولت شخصيات تلك الروايات إلى رموز في تاريخ الرواية العربية يعرفها القاصي والداني من المثقفين وعشاق الرواية..

 إن مسيرة نجيب محفوظ هي جزء أصيل من تاريخ الرواية الحديثة في مصر والعالم العربي. لقد بدأ نجيب في نشر قصصه في مجلة "الرسالة" عام 1939 ونشر روايته الأولي "عبث الأقدار" ثم نشر "كفاح طيبة" التي تحولت إلى مقرر دراسي لطلاب المرحلة الثانوية فيما بعد، ثم تتابعت رواياته المنتمية لتيار الواقعية التاريخية، قبل أن ينفرد بالكتابة عن الحارة المصرية من منطلق ما يُدعي رواية الأجيال، فصاغ ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، قصر الشوق، وزقاق المدق. معبراً عن عوالم تراثية سحرية تموج بالصراع الاجتماعي بين مكونات الحارة الصغيرة من طبقات اجتماعية متفاوتة بين تجار أثرياء وفتوات وحرفيين، ومن خلال هذه الصراعات الصغيرة تتضح حالة المجتمع بأكمله في فترات تاريخية سابقة. فكأن الحرافيش الذين عبر عنهم نجيب محفوظ في رواياته يمثلون في مجملهم نسيجاً حياً يعكس روح الشخصية المصرية القوية ذات القيم الأخلاقية الراسخة كالشهامة والنجدة ونصرة المظلوم..

 تنوعت روايات محفوظ التالية بين الرمزية كما في رواية الشحاذ، والتيار النفسي كرواية السراب، وروايات أخري اتخذت اتجاهاً صوفياً أو انحرفت نحو الفانتازيا، فكأنه جرَّب قلمه البارع في شتي اتجاهات الرواية الحديثة ابتعاداً عن الجمود والنمطية.

 بدأ نجيب محفوظ في أواخر الأربعينيات بكتابة السيناريوهات السينمائية واستمر يكتبها حتى نهاية الخمسينيات، ليبلغ عدد النصوص السينمائية التي كتبها نحو 25 سيناريو. هذا بخلاف القصص القصيرة التي زادت عن مائتي قصة، والمسرحيات القليلة وسيرته الذاتية التي تناولها في كتبه. ولعل ما كتب عن نجيب محفوظ في حياته وبعد وفاته من سير غيرية وكتابات نقدية أكثر بكثير مما كتبه.

 وبخلاف جائزة نوبل حصل نجيب على عدد كبير من جوائز الدولة والجوائز العربية والعالمية كان آخرها جائزة كفافيس عام 2004. وتم تخصيص عدة جوائز أدبية باسمه بالجامعة الأمريكية والمجلس الأعلى للثقافة. وكثير من الشوارع والمدارس حملت اسمه، وأقيم له تمثال برونزي بميدان سفينكس، كما أقيم له متحف تم افتتاحه جزئياً عام 2017. وما زال اسم نجيب محفوظ يحظى باحترام وتقدير كبيرين في مصر والعالم العربي.

برنامج حافل للاحتفاء بأديب نوبل

 أعلن القائمون على معرض أبو ظبي عن برنامج حاشد متكامل حول شخصية نجيب محفوظ. لا يكتفي بعرض كل أعماله المطبوعة، ولا بالندوات والمحاضرات عنه وعن أعماله، وإنما يتوزع البرنامج على كافة فعاليات المعرض ليغطي أبرز جوانب حياة نجيب محفوظ ومسيرته الأدبية. وهناك ركن ثابت تم تخصيصه لعرض منجزات محفوظ وأعماله بطريقة جذابة، وجلسات يومية تتناول مختلف جوانب تلك المسيرة الثرية..

 تتوزع محاور البرنامج الحافل على العديد من الفعاليات: منها جلسة بعنوان: "نجيب محفوظ مرآة التاريخ والمجتمع" تناقش أعماله الروائية من منظور نقدي، وندوة "البدايات والخواتيم" تناقش الفارق بين أعماله الأولي والأخيرة.

 وبعنوان: "جلسة الحرافيش" تمت استضافة عدد من الشخصيات المقربة من نجيب محفوظ تتناول ذكرياته معهم. وسوف تقام محاضرة نقدية مهمة بعنوان: "نجيب محفوظ والنقد" لإثارة الموضوعات النقدية والجدلية التي أثيرت حول أعماله.

 كما يتضمن البرنامج الثقافي عن الشخصية الرئيسية لمعرض أبوظبي جلسات نوعية مثل: "نجيب محفوظ، ويبقى الأثر"، "نجيب محفوظ في عيون العالم"، “أحفاد نجيب محفوظ" وجلسة "عوالم نجيب محفوظ، في حين تطلق جلسة "روايات نجيب محفوظ بشكل جديد" الروايات المصوّرة للراحل، والتي تصدر لأول مرة من معرض أبوظبي الدولي للكتاب وغيرها من الفعاليات القيّمة. 

 هذا ويقدم المعرض تجربة غامرة واستثنائية للتعرّف على الشخصية المحورية لهذا العام من خلال جناح متميز سيأخذ الجمهور في رحلة استثنائية صوب أعمال محفوظ التاريخية، وحياته، وأسرارها والكثير، ضمن تصميم مستوحى من روح الحارة المصرية التي اهتم الأديب الراحل بتجسيدها في أعماله الخالدة.

 التكريم الاستثنائي الرائع شكلاً ومضموناً لنجيب محفوظ أديب نوبل في معرض أبوظبي يأتي في إطار العلاقات الطيبة بين مصر والإمارات، والتلاقي الثقافي المثمر بين البلدين الشقيقين.

***

د. عبد السلام فاروق

في الثّالث والعشرين من نيسان، يضيء العالم شمعاته احتفالا بيوم الكتاب، ذلك الرّمز الحضاريّ العريق الذي يمثّل نافذة على المعرفة والإبداع.

لكنّ حكاية الكتاب في عالمنا العربيّ حكاية مظلمة، تُغلّفها سحب الإهمال وعزوف النّاس عن القراءة! فبينما تُزهر المكتبات في الغرب، وتزخر بعشّاق الكتب، تغلق أبواب مكتباتنا، ويُقابَلُ حبّ القراءة بنظرات الاستغراب واللامبالاة!

أين ذهبت ثقافتنا العريقة؟ أين ذهبت حكايات أجدادنا وأشعار شعرائنا حين تغنّوا بالكتاب؟

لقد غدونا أسرى لشاشات الهواتف وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونيّة السّخيفة، نضيّع أوقاتنا في متابعة التّفاهات، وننسى لذة الغوص في بحر المعرفة والكلمات، نهرب من الواقع بدلا من مواجهته، ونبحث عن التّسلية الفارغة بدلا من المعرفة الهادفة.

أين نحن من قول الجاحظ: "الكتابُ جليسٌ لا يُملّ، وصديقٌ لا يَغدرُ، ومُعلّمٌ لا يُخطئُ"؟

لماذا لا نوقظ أنفسنا من هذا السبات العميق؟ لماذا لا ننفض غبار الإهمال عن كتبنا، ونشجع على القراءة ونُحبّبها إلى أطفالنا؟ ولماذا لا نجعل من الكتاب رفيق دروبنا وهادينا في طريق الحياة؟

القراءة هي مفتاح المعرفة والتقدّم، والكتاب هو خير صديق للإنسان، لكن، لا يكفي أن نردّد هذه الكلمات كمواعظ تلقى على الصمّ بالبلادة، بل يجب أن نحوّلها إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع. فما هي أسباب هذا التقصير الفادح؟

هل هو غياب ثقافة القراءة المُجتمعية؟ فإن لم تصبح القراءة عادة راسخة في بيوتنا، ولم تشجّع الأسر أطفالها على حبّ الكتب وقضاء أوقاتهم معها فماذا ننتظر!  وفي الحقيقة، تفتقرُ العديد من مدننا وبلداتنا العربيّة إلى مكتبات عامّة، ذات إمكانيات جيّدة، وهذا ما يعيق وصول الكتاب إلى القارئ بسهولة.

كما أنّ ارتفاع أسعار الكتب يثقل كاهل القارئ، ويعيق رغبته في الشّراء. ولا ننسى انتشار وسائل التّرفيه الإلكترونيّ- ولست ضدّ المفيد منها- لكنّها سيطرت على أوقات النّاس، خاصّة الشّباب، ممّا أضعف رغبتهم في القراءة وأبعدهم عنها.

كذلك ضعف المناهج الدراسيّة المتقاعسة عن تعزيز حبّ القراءة، فهي لا توليّ اهتماما كافيا بتعزيز القراءة وأهميّة الكتاب لدى الطلّاب، ممّا يؤثّر سلبا على سلوكهم في المستقبل.

كيف إذن، نواجه هذا التحدّي؟

إنّ إنقاذ ثقافتنا العربيّة يبدأ من إنقاذ الكتاب، فمن خلال القراءة نستطيع أن ننير عقولنا، ونثري أفكارنا ونصبح مجتمعا مثقّفا.

 لنعيد للكتاب بريقه وسحره ومكانته، ونصبح أمّة تقرأ وتفكّر وتبدع وتنتج، تشعل جذوة حبّ القراءة في قلوب أجيالها، وتلهم العالم بإبداعها.

***

صباح بشير

 

كان غراهام غرين كاتبا بريطانيا غزير الإنتاج ومؤثرا، معروف برواياته التي غالبا ما تستكشف موضوعات الأخلاق والسياسة والدين. ولد في الثاني من تشرين أول عام ١٩٠٤ في بيرخامستيد، هيرتفوردشاير، إنجلترا. ينحدر غرين من عائلة لها جذور في عالم النشر، وتلقى تعليمه في مدارس مرموقة، بما في ذلك كلية باليول في أكسفورد. بعد الجامعة، عمل جرين كصحفي، وسافر كثيرا وكتب في العديد من الصحف.

نشر غرين روايته الأولى "الرجل في الداخل" عام 1929، وأعقبتها سلسلة من الأعمال الناجحة التي عززت سمعته كمؤلف موهوب. ومن أشهر رواياته "برايتون روك"، و"القوة والمجد"، و"الأميركي الهادئ". تتميز كتابات غرين بشخصياتها الاستبطانية والمعقدة أخلاقيا، فضلا عن استكشافها للقضايا السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت.

طوال حياته المهنية، تلقى غرين إشادة من النقاد لعمله، وفاز بالعديد من الجوائز المرموقة، بما في ذلك جائزة جيمس تيت بلاك التذكارية وجائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع. بالإضافة إلى رواياته، كتب غرين أيضا العديد من القصص القصيرة والمسرحيات والسيناريوهات. تم تحويل أعماله إلى العديد من الأفلام الناجحة، بما في ذلك "الرجل الثالث" و"نهاية القضية".

على الرغم من نجاحه ككاتب، إلا أن غرين عاش أيضا حياة شخصية مضطربة. كان يعاني من الاكتئاب وإدمان الكحول، وكانت علاقاته في كثير من الأحيان محفوفة بالصعوبات. غالبا ما وجدت تجارب غرين الخاصة مع المرض العقلي والإدمان طريقها إلى كتاباته، مما أضاف عمقًا وأصالة إلى شخصياته وقصصه.

بالإضافة إلى إنجازاته الأدبية، كان غرين معروفا أيضًا بنشاطه السياسي. لقد كان من أشد المنتقدين للإمبريالية والاستعمار، وبعض رواياته، مثل "الأميركي الهادئ"، تشكل اتهامات لاذعة للتدخل الغربي في البلدان النامية. كانت معتقدات غرين السياسية مثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لكنه ظل ثابتا في التزامه بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

لا يزال عمل غرين يحظى بالدراسة والإعجاب من قبل القراء والعلماء على حد سواء. تعتبر رواياته من كلاسيكيات أدب القرن العشرين، وقد ألهم مزيجه الفريد من التشويق والبصيرة النفسية والتعليقات الاجتماعية أجيالا من الكتاب. يمكن رؤية تأثير غرين في أعمال مؤلفين مثل جون لو كاريه وإيان ماك إيوان، الذين استشهدوا به باعتباره تأثيرا كبيرا على كتاباتهم.

في سنواته الأخيرة، قسم غرين وقته بين الكتابة والسفر، وقضى معظم وقته في جنوب فرنسا وسويسرا. استمر في إنتاج أعمال جديدة حتى وفاته في الثالث من نيسان عام ١٩٩١، عن عمر يناهز ست وثمانين عاما. ويعيش إرث غرين من خلال رواياته، التي لا تزال تأسر القراء بموضوعاتها المثيرة للتفكير وتوصيفاتها الغنية.

وفي الختام، كان غراهام غرين كاتبا موهوبا ومؤثرا، ولا تزال أعماله تلقى صدى لدى القراء حول العالم. تستكشف رواياته معضلات أخلاقية معقدة، ومؤامرات سياسية، وصراعات شخصية، وقد أكسبته رؤيته الثاقبة للحالة الإنسانية مكانا بين عظماء الأدب في القرن العشرين. إن إرث غرين ككاتب وناشط مستمر، ويلهم الأجيال الجديدة للتفاعل مع عمله والقضايا المهمة التي تناولها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ليس بغريب على مهني متخصص، وأكاديمي متمكن، مثل الأستاذ المساعد، دكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، وهو من أعلام الأدب والثقافة، وقامة من قامات التنوير والتأثير، في الساحة الأدبية والثقافية، والأكاديمية والمعرفية، اضافة الى عمله مدرسا لمادة اللغةالعربية في (معهد الرواد في مدينة الموصل)، ان يفاجئنا باصداره (ملزمة قواعد اللغة العربية) لمرحلة الدراسة المتوسطة، لترى النور، بعد جهد مكثف، ومثابرة جادة، لكي تأتي على نحو متكامل، وسهل التناول، لمنفعة إلمام الطالب، بقواعد اللغة العربية، في مرحلة الدراسة المتوسطة .

ولعل اطروحته للدكتوراه، التي كانت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية (لغويات)، وفي تخصص (الدراسة الدلالية في السياق القرآني)، والتي تلاها كتابه ( الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني) الذي تم طبعه ونشره بواسطة (دار الخليج) للطبع والنشر) في عمان، يعدان رؤية جديدة، ونسق معرفي متميز، في مجال الدراسات القرآنية المعاصرة، ناهيك عن نتاجاته، ومقالاته، في مختلف المجالات الثقافية والعلمية واللغوية والاجتماعية، التي تحتل مكانتها المتميزة في أشهر المواقع على الإنترنت.

وتجدر الإشارة إلى ان (اتحاد مكتبات الجامعات المصرية) قد ضم كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني)، إلى قائمة مجموعة مقتنياته من الكتب الرصينة، والمصادر الموثقة، المحفوظة في خزانته. ليكون مرجعا للقراء والباحثين والمهتمين بالدراسات اللغوية والدلالية مستقبلا .

ولعل كون الدكتور عبدالعزيز عيادة الوكاع، حافظا للقرآن الكريم، وواعظا دينيا، ومدرسا لمادة اللغة العربية، في نفس الوقت، كانت كلها عوامل مؤازرة، منحته خبرة زاخرة بالعطاء، اضافة إلى موهبته الشهصية، مما جعله طاقة إبداعية متوقدة، وكفاءة عالية، تضاف إلى كفاءات الساحة الأدبية والثقافية، ليكون بهذه المعيارية العلمية، والمهنية الرفيعة، مشروع توهج علمي واعد، لخدمة لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، من المسخ والتشويه، بما بات يعرف اليوم (بالعربيزية) الطارئة، التي افرزتها تداعيات العصرنة الصاخبة. بجوانبها السلبية، المعروفة للجميع .

وهكذا يظل الكاتب الموهوب الدكتور عبدالعزيز عيادة الوكاع، نموذجاً متميزا، للتحدي والتطلع، وعنوانا للإبداع، ورمزا للإعتزاز، في خدمة اللغة العربية، وعلومها النبيلة .

***

نايف عبوش

وأنا أقرأ خبر رحيل صلاح السعدني تذكرت المرة الأولى التي شاهدته فيها شاب نحيف يمثل بالإشارة من دون صوت وسط كبار نجوم التمثيل حمدي غيث، عبد الغني قمر، شفيق نور الدين، سميحة أيوب ليؤدي دور أبو المكارم في أجزاء من خماسية الساقية التي كتبها عبد المنعم الصاوي وأخرجها نور الدمرداش، بعدها سيظهر لنا صلاح السعدني بثوب جديد في مسلسل "لا تطفئ الشمس" المأخوذ من رواية إحسان عبد القدوس ، يؤدي شخصية ممدوح الشاب المنطلق الذي يمثل جيل الستينيات  بشخصيته وأفكاره الخاصة، مشاريعه التي لا تنتهي وأحلامه التي تنطفئ فجأة، تتوالى الأدوار في الأرض مع يوسف شاهين، وخان الخليلي رائعة  نجيب محفوظ، وفجأة يختفي صلاح السعدني بسبب مشاغبات شقيقه الصحفي الشهير محمود السعدني والذي سيكتب في كتابه " المضحكون":  لقد ورث صلاح السعدني عداء كل السينمائيين بسببي، وأسدلوا عليه ستاراً من الإهمال والنسيان انتقاماً مني، ثم حالة الصياعة والضياعة التي يعيش فيها باختياره"  حالة الضياعة دفعت صلاح السعدني لأن يتجه إلى المسرح ليمثل في رائعة نعمان عاشور " الجيل الطالع"، ويؤدي البطولة في مسرحية ميخائيل رومان " الدخان " التي أثارت ضجيجاً بين نقاد المسرح في السبعينيات، ويتألق مع سعد الله ونوس في الملك هو الملك. 

لم يكن صلاح السعدني يحلم في أن يصبح النجم الأول، فقد كانت النجومية تعني وسامة مفرطة، لكن صاحبنا الذي جاء إلى التمثيل من كلية  الزراعة ، حلم ذات يوم أن يصبح مثل محمود المليجي، ممثل الأدوار الصعبة ، كانت ملامحه  أقرب إلى وجوه الناس البسطاء، لكنه استطاع أن يذهل المشاهد بتلقائيته التي كانت تُخفي وراءها طاقة تمثيلية هائلة، فقد قرر أن ينسينا نحن المتفرجين أننا نجلس أمام التلفزيون، نتابع تقلبات العمدة سليمان غانم في ليالي الحلمية  وصراعه الذي لا ينتهي مع سليم البدري، لياخذنا الى عالمه ، يتحدث فننصت إليه، يُحرك يده فتذهب الأنظار باتجاهه، يضحك فتنطلق الضحكات  مجلجلة . وكان كلما حاول ابطال المسلسل  منافسته، ازداد تفرداً وتألقاً.

يعترف أن الكتب والسياسة كانت بوابته إلى الفن: " السياسة الآن دخلت في كل شيء، زمان كانت تمارس داخل القصور فقط، الآن الزمن اختلف والسياسة أصبحت في رغيف العيش وعلى المقهى وفى مباراة كرة القدم، والفن ما هو إلا انعكاس للواقع ".

يغيب صلاح السعدني  وتطوى معه صفحة من زمن جميل مضى، كان قد حذرنا من تسربه  بغفلة منا: "

وينفِلِت من بين إيدينا الزمان  

 كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان 

 وتنفرط الأيام عقود كهرمان 

يتفرفط النور والحنان والأمان.

***

علي حسين

 

جلسنا تحت شجر الجميز وشجر الكافور علي ضفاف شاطىء ترعه الجبادة امام قريتنا، في ليلة صيف قمرية نفكر في في أسفل المنحدر وعلى أطراف قريتنا الجميلة، كان هناك بيت قديم جدًا أشبه بالخربة، سقفه من الطين المختلط بالقش وجدرانه مختلطة من الطوب الاحمر والطين، لا اعلم وقتها كيف اقيمت، ويحيط به سياج من أشجار الكافور والخروع، كنت أنا وكلّ أطفال القرية ننسج قصصاً مرعبة مخيفة عن العجوزة التي تسكن البيت القديم، نتخيلها مرة ساحرة شريرة، وأحيانًا نتخيلها ستنا الغولة التي تأكل الأطفال، ومرة مجنونة لمسها الجن،  سمعتهم يقولون إنّ في حقلها خلف سياج الأشجار يوجد عش لليمام يعشش فوق شجرة الجميز الكبيرة، تلك اليمام والحمام والعصافير التي يتحدثون عنها كثيرًا، أثارت رغبتي الطفولية في الحصول على بيضها، كنت في تلك المرحلة من عمري احب المجازفة، فأقنعت ثلة من أصدقائي في التوجه نحو بيت العجوزة الشريرة، متسللين على أطراف أقدامنا خلسة إلى حقلها مثل اللصوص، كان أحد أصدقائي اصغر مني مترددًا في قراره، لكنّني كعادتي اقنعته واخبرته أننا نضع في  جيوبنا الصغيرة بالحجارة ونحمل العصا الخشبية كحماية لنا.. اقتربنا من البيت المهجور بالقرب من الحقل وكان المكان يبدو مهجورًا لا يقطنه أحد، تسللنا بمنتهى الخفة إلى الداخل مقتربين من شجرة الجميز الكبيرة بحثًا عن اليمام والحمام، وفجأة سمعنا حركة بخطوات غير اعتيادية؛ ما جعلنا نركض باطراف انامل اقدامنا لنتوارى خلف كومة من الزبالة والسبخ حاولنا قدر المستطاع التستر ببعض من الكرتون على رؤوسنا كانت لحظات حاسمة جداً ومرعبة احتبسنا فيها الآنفاس، وانا اشير لهم بالثبات وعدم ابداء أي تحركات، ورغم شدة الإرتجاف التي أصابتنا، إلا أنّ صديقي الخواف كعادته بدأ يتنهد بالبكاء شيئاً فشيئًا مع اقتراب خطوات تلك العجوز الشريرة، فهو نفسه الذي بكى عندما اخبرتهم أن الأرانب في هذا البيت المهجور تبيض وعلينا البحث عن بيضها...بدأ يشتدّ ارتعابه ويبكي وأنا أحاول اسكاته واقناعه ان بيض الارانب غالي الثمن، وفي محاولة طلبت منه أن لا يخاف ولا يجزع، فحتى أن امسكتنا العجوز الشريرة وحاولت طبخنا في القدر الكبير، فسنضربها جميعاً ونعتلي البساط الطائر لنحلق بعيداً، وسأجعله يقود ذلك البساط، لكن يبدو أن محاولة اقناعي له بعدم الخوف كانت فاشله، حيث تعالى صوت بكاءه عندما سمع أنَّ العجوزة ستطبخنا في قدر كبير.. حاولت طمأنته للمرة الثانية فأخبرته أن العجوزة لا تمتلك أسنانًا بل تمتلك ناباً واحداً، تمتص فقط دمنا اللذيذ، فتعالى صوت صراخه ورجفته اكثر، وما كدت افزع  من نوبات صراخه حتى يزداد ببكاءه، فهددته أن المكان مسكون من الجن والعفاريت وهي تحضر في الليل مع صرخات البكاء  بعد أن نخرج من هنا استمر ببكاءه ولكن دون جدوى، وفجأة. سمعنا صرخاتها امسك حرامي.

واسرعنا بالجري حتي وقعنا في خرارة مجاري وانتهي حلمنا وحكايتنا في مستنقع من المجاري .انها حكايات من طفولتنا البريئه .!!

***

يوميات مثقف في الريف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

"الدكتاتور" هي مسرحية كتبها الكاتب المسرحي والشاعر الفرنسي جول رومان. تم نشرها لأول مرة في عام ١٩٢٨  وهي بمثابة تعليق على الصعود إلى السلطة وعهد الديكتاتوريين.

 يستكشف رومان في المسرحية العديد من الموضوعات الرئيسية التي تعتبر أساسية في السرد والشخصيات. بعض المواضيع الرئيسية في "الديكتاتور" تشمل السلطة والفساد والتلاعب والهوية والعزلة والولاء والمقاومة والأخلاق والحرية والتجربة الإنسانية.

قد تكون أولى المواضيع المركزية في "الديكتاتور" هو السلطة. تصور المسرحية مدى سهولة إفساد السلطة للأفراد ودفعهم إلى إساءة استخدام سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية. الشخصية الرئيسية، الجنرال فيليكس باريو، يستولي على السلطة ويصبح دكتاتورا، مما يسبب الفوضى والدمار في سعيه للهيمنة. وتظهر المسرحية مخاطر السلطة غير المقيدة وأهمية محاسبة من هم في السلطة على أفعالهم في ضوء الأحداث التي تجري في المسرحية.

الفساد هو موضوع بارز آخر في "الدكتاتور". ومع ازدياد استبداد حكم باريو، أصبحت حكومته فاسدة على نحو متزايد، حيث يستغل المسؤولون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. وتذهب المسرحية في تسليط الضوء على تأثير الفساد على المجتمع والانحلال الأخلاقي الذي يمكن أن ينجم عن السلوك غير الأخلاقي.

يعد التلاعب أيضا موضوعا رئيسيا في المسرحية. يستخدم باريو التلاعب والخداع للحفاظ على سيطرته على رعاياه وخداعهم لتصديق دعايته. ويفند الطرق التي يمكن من خلالها للأفراد الموجودين في السلطة التلاعب بالآخرين لتحقيق أهدافهم الخاصة، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الحقيقة ورفاهية المجتمع.

الهوية هاجس أساسي في شخصية باريو في "الديكتاتور". عندما يصبح مستغرقا في دوره كديكتاتور، يفقد باريو الاتصال بشخصيته الحقيقية و يضحي بقيمه الشخصية باسم السلطة. ويلقي الضوء على الطبيعة المدمرة للاستبداد على إحساس الفرد بذاته وأهمية البقاء صادقا مع معتقداته ومبادئه.

العزلة  موضوع رئيسي آخر في المسرحية. عندما يصبح حكم باريو أكثر قمعا، يصبح معزولا بشكل متزايد عن من حوله، بما في ذلك أقرب حلفائه ومؤيديه. ثم يشرح  الشعور بالوحدة والعزلة التي غالبا ما تصاحب الحكم الاستبدادي والأثر الذي يلحقه بالصحة العقلية والعاطفية لمن هم في السلطة.

الولاء موضوع تم استكشافه في جميع أنحاء "الدكتاتور". يطالب باريو بالولاء الثابت من أتباعه، مستخدما الخوف والترهيب للحفاظ على ولائهم. كما يسلط  الضوء على الديناميكيات المعقدة للولاء في مواجهة الاستبداد والتضحيات التي قد يقدمها الأفراد من أجل البقاء في ظل الحكم الاستبدادي.

المقاومة هي موضوع بارز آخر في المسرحية. عندما يصبح حكم باريو أكثر قمعا، تتشكل حركة مقاومة لتحدي سلطته والنضال من أجل الحرية والعدالة. ويؤكد هذا الموضوع على قوة العمل الجماعي في مواجهة الاستبداد وأهمية الوقوف في وجه الظلم، حتى في أحلك الظروف.

الأخلاق  موضوع أساسي لشخصيات "الديكتاتور". عندما يصبح حكم باريو أكثر استبدادا، يضطر رعاياه إلى مواجهة خيارات أخلاقية صعبة والتعامل مع قيمهم الأخلاقية. تستكشف المسرحية التعقيدات الأخلاقية للعيش في ظل الديكتاتورية والطرق التي قد يتنازل بها الأفراد عن مبادئهم من أجل البقاء.

الحرية هي الموضوع الذي يكمن وراء مسرحية "الدكتاتور" بأكملها. وبينما يشدد باريو قبضته على السلطة، فإنه يقيد حرية رعاياه ويؤدي إلى تآكل حقوقهم وحرياتهم الأساسية. ويؤكد هذا الجانب أهمية الحرية في المجتمع العادل والمدى الذي سيبذله الأفراد من أجل تأمين حريتهم من الاضطهاد.

التجربة الإنسانية هي الموضوع الذي يتخلل "الديكتاتور". ومن خلال الشخصيات وصراعاتهم، تستكشف المسرحية أعماق النفس البشرية وتعقيدات الطبيعة البشرية في مواجهة السلطة والفساد. يسلط هذا الموضوع الضوء على المرونة والشجاعة والقدرة على الخير والشر الموجودة داخل كل فرد، ويقدم تعليقا قويا على الحالة الإنسانية.

وفي الختام، إن مسرحية "الدكتاتور" لجول رومان  دراما مثيرة للفكر تتعمق في تعقيدات السلطة والفساد والتلاعب والهوية والعزلة والولاء والمقاومة والأخلاق والحرية والتجربة الإنسانية. ومن خلال استكشافها لهذه المواضيع، تقدم المسرحية نقدا مقنعا للسلطوية وتأثيرها المدمر على الأفراد والمجتمع ككل. إن رواية رومان البارعة للقصص وتطوير الشخصية الغنية تجعل هذه المواضيع تنبض بالحياة، مما يتحدى الجماهير للتفكير في الأمور الأخلاقية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

........................

المرجع

مسرحية الدكتاتور، جول رومان، سلسلة المسرح العالمي، الكويت

الله قريب منك فلتعانق روحك روحه

رسالة إلى الله...، كانت عنوان فيلم "إيراني" مدبلج إلى اللغة العربية يعالج قضايا اجتماعية، القصة تدور حول عائلة فقيرة جدا، يكاد رب الأسرة أن يضمن قوت يوم زوجته وولديه (بنت وشقيقها)، وفجأة تسقط الأم أسيرة المرض ويقول الطبيب انه لابد من إخضاعها لعملية جراحية في اسرع وقت، وهي مكلفة جدا، و لا تجرى سوى عند الخواص لتوفر العتاد الطبي اللازم، لم يجد الأب من وسيلة لتوفير تكلفة العملية الجراحية فيضطر الى مغادرة البيت والبحث عن وسيلة يجمع بها ثمن العملية من عند الأقارب والأصدقاء، يترك الأب البيت ويوصي ابنه وابنته برعاية أمهما في غيابه ويحصلا على الحليب والخبز من عند البقال المقابل لهما إلى حين عودته إلى المنزل وأثناء غيابه تحدث للأم المريضة مضاعفات، فيتم نقلها من جديد إلى المستشفى

لابد من إجراء العملية، ما الحل؟

لم يجد الولد من وسيلة، ومن فرط إيمانه بالله، أخبر الولد شقيقته: بأنه سنكتب رسالة، سالته أخته لمن نكتبها؟، قال الإبن بعفوية الطفل البريئ: ساكتبها إلى الله ربّ العباد، أخرج الولد ورقة وقلم وقام بكتابة رسالة إلى الله يستنجد به فيها بعبارة تحرك المشاعر والوجدان والضمير، ووضع الرسالة في غلاف وملأه بزهور تعبر عن ريح الحسن والحسين ابنا سيدنا علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما، واصفا في الرسالة وضع الأسرة البائس، وأن الله يرعى الفقراء والمساكين وكتب اسمه واسم شقيقته والقرية التي يقيمان فيها دون تحديد العنوان ورقم الباب.

يا للبراءة في كل تجلياتها

وضع الطفل وشقيقته الرسالة في صندوق البريد، وعادا مسرعين الى البيت، ولما جاء أعوان البريد لفرز الرسائل سقطت تلك الزهور وأطلقت رائحة طيبة عمّت مكتب البريد، فإذا بالرسالة تقع في يد سيدة ملتزمة، ولما كانت الرسالة بلا عنوان وكان غلاف الرسالة مفتوحا أخرجت تلك السيدة الرسالة وقرأتها، فإذا دموعها تنهمر، وصارت تبكي بصوت عالٍ جدا: يا للقلوب القاسية يا للقلوب المتحجرة.

التف حولها زملاؤها وسلمتهم الرسالة ليقراوها، أخذوا الرسالة الى رئيس مكتب البريد ولما قرأها ذرفت عيناه، والتف إلى الموظفين ليتفق معهم على مساعدة هذه الأسرة، على أن يجمعوا ثمن العملية ويقتطع كل واحد من راتبه الشهري مبلغا معينا، وراحوا يبحثوا عن مكان إقامة الطفل وشقيقته وانتقلوا إلى عين المكان بسيارة إسعاف ونقلوا الأم الى المستشفى وأجريت عليها العملية، كان فضل الله أن امتثلت تلك الأم إلى الشفاء قبل عودة الزوج إلى البيت، في اليوم الذي عادت فيه الأم من المستشفى إلى بيتها عاد الزوج فإذا بسكان القرية يجتمعون حول بيته يهنئون الأم على نجاح العملية وخروجها من المستشفى بسلام.

الفيلم طبعا يبين أن الله قريب منّا، يكفي أن نثق به ونعتصم بحبله وأن نوجه إليه دعواتنا بأن يفرج عنا همومنا ويحل مشاكلنا وحتى في حالة مرضنا وضعفنا (وإن سألك عبادي فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني)، هي براءة طفلين استنجدا بالله تعالى فاستجاب لدعائهما والحمد لله على كل شيئ .

الخلاصة/ بعيدا عن المسائل الفقهية والمذهبية، السينما الإيرانية استطاعت أن تحتل مكانة في الفن السابع من خلال معالجة القضايا الإجتماعية وباحترافية تجعلك تتفاعل وتتجاوب مع أحداث القصة وكأنك عشتها في حياتك ولو أنها من الواقع.

***

علجية عيش

 

تستكشف مسرحية "قلب شجاع"، التي كتبها أوستروفيسكي، مجموعة متنوعة من المواضيع التي تعتبر أساسية للتجربة الإنسانية. أحد الموضوعات الرئيسية في المسرحية هو الصراع بين الواجب والرغبة.  ونجد بطلة الرواية، آنا، ممزقة بين التزامها بالزواج من خاطب ثري اختاره والدها ورغبتها في أن تكون مع الرجل الذي تحبه حقا. يقود هذا الصراع الداخلي السرد ويجبر آنا على اتخاذ قرارات صعبة ستحدد مصيرها في النهاية.

هناك موضوع بارز آخر في كتاب القلب المتحمس هو دور المجتمع في تشكيل الخيارات والأفعال الفردية. طوال المسرحية، تتنقل الشخصيات باستمرار بين توقعات ومعايير بيئتهم الاجتماعية، والتي تملي عليهم كيف يجب أن يتصرفوا ومن يجب أن يتزوجوا. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن أن يحد بها الضغط المجتمعي من الحرية الشخصية والاستقلالية.

بالإضافة إلى ذلك، يستكشف أوستروفيسكي موضوع الحب وقدرته على تجاوز الحواجز الاجتماعية. على الرغم من العقبات التي تقف في طريقهم، إلا أن آنا وحبها الحقيقي، إيفان، يظلان ثابتين في عاطفتهما تجاه بعضهما البعض. إن حبهما بمثابة منارة للأمل في عالم غالبا ما يكون قاسيا ولا يرحم، مما يدل على قوة الحب التحويلية في مواجهة الشدائد.

يعد موضوع الهوية أيضا محوريا في مسرحية قلب شجاع بينما تكافح آنا للتوفيق بين التزاماتها تجاه عائلتها ورغباتها وتطلعاتها الخاصة، فإنها تتصارع مع أسئلة حول من هي حقا وماذا تريد من الحياة. يسلط هذا الموضوع الضوء على مدى تعقيد الهوية الفردية والطرق التي يمكن من خلالها للضغوط الخارجية أن تشكل إحساسنا بالذات.

الموضوع الرئيسي الآخر في المسرحية هو طبيعة القوة والسيطرة. طوال القصة، تتنافس الشخصيات على السلطة والنفوذ، باستخدام التلاعب والخداع لتحقيق أهدافهم. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن بها لديناميكيات السلطة أن تفسد الأفراد وتدفعهم إلى التصرف بطرق مشكوك فيها من الناحية الأخلاقية.

يستكشف أوستروفسكي أيضا موضوع القدر والمصير في قلب شجاع. بينما تتنقل الشخصيات في تقلبات حياتهم، يضطرون إلى مواجهة فكرة أن مصائرهم قد تكون محددة مسبقا، بغض النظر عن اختياراتهم أو أفعالهم. يثير هذا الموضوع تساؤلات حول الإرادة الحرة والقوة، ومدى قدرة الأفراد على تشكيل مصائرهم.

موضوع التضحية سائد أيضا في المسرحية. يجب على آنا تقديم التضحيات من أجل تأمين سعادتها الخاصة، والتخلي عن ثروتها ومكانتها الاجتماعية لتكون مع الرجل الذي تحبه. يسلط هذا الموضوع الضوء على الطرق التي يمكن أن تؤدي بها التضحية الشخصية إلى النمو الشخصي وتحقيق الذات، حتى في مواجهة الشدائد.

 هناك موضوع آخر مهم في قلب شجاع هو فكرة الفداء والغفران. طوال المسرحية، يجب على الشخصيات مواجهة أخطائهم الماضية والسعي لإصلاح الضرر الذي سببوه. يؤكد هذا الموضوع على أهمية التسامح والفرص الثانية في مواجهة الصراع الشخصي والمجتمعي.

في نهاية المطاف، مسرحية قلب شجاع  عمل معقد وفلسفي عميق يتعمق في تعقيدات العلاقات الإنسانية والمعضلات الأخلاقية التي نواجهها جميعا. من خلال استكشافها لموضوعات مثل الحب والهوية والقوة والتضحية والقدر والفداء، تقدم مسرحية أوستروفيسكي تأملا مقنعا ومثيرًا للتفكير حول التجربة الإنسانية والخيارات التي نتخذها والتي تشكل حياتنا في مختلف أبعادها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يوم المغيب العراقي تسمية، تحمل معان عميقة في وجدان الفكر الانساني، حددها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في الخامس عشر من نيسان من كل عام، لاستذكارا لتغييب الكاتب والمفكر العراقي عزيز السيد جاسم.

ومن جديد تطل علينا اليوم، ذكرى التغييب، مثل غيمة سوداء، فانا شخصيا، لم اشعر يوماً ان عزيزا، غائب، فهو يسكن الوجدان الوطني والشعبي، فهل سمعتم يوما ان مفكرا كبيرا، غاب فيما كتبه وافكاره، مثل ضوع الزهور تملأ الضمائر النقية في كل مكان وزمان..

انطلقت مسيرة ” ابو خولة ” النضالية منذ يفاعته.. ناضل في سبيل كرامة الإنسان وحرية الوطن وتقدمه، ولقي بسبب ذلك صعوبات جمة. عرفته السجون، وذاق مرارة التشرد والملاحقات…لذلك، اجد صعوبة في الكتابة عنه ضمن هذه المساحة من الجريدة، فهو، مثقف وكاتب موسوعي، وانسان كبير، وشخصية تركت بصماتها على مساحة الوطن، واسمه بات رمزا في الضمائر، لاسيما عند من عرفوه، وعايشوه.. مع قناعتي بأنه لا يمكن اعطاء صورة شاملة عن هذا الرمز، لكن في الإطار الشمولي والرؤية العميقة يمكنني تحديد انطباع عام عنه، لقربي منه لسنوات طويلة، وهي بالمحصلة النهائية تبقى انطباعات يحملها عقلي الباطن في سجله السري … الخاص!

عرفتُ الأستاذ عزيز، كاتباً لامعاً، سهل الكلمة، عميق التحليل، له طريقة خاصة في تناول الأحداث، عُرف بها وحاول كثيرون الكتابة على طريقته فلم يفلحوا، فالمشترك الجمالي والموضوعي في كتاباته هو انها كتابات استثنائية مختلفة عن سواها بعزائمها الصلدة، وعطائها الوطني، ودورها التاريخي وملامحها الإبداعية، وهو لم يكن كاتباً ومثقفاً و صحفياً ومفكرا متميزا، إنما هو وجه من وجوه اسطورة الرجولة العراقية، وشريكاً في صنعها، كونه يمتلك حساً يقظاً لا يرضى بهوان، ولم يقبل بظلم يقع عليه او على غيره، وبذلك اكد ” ابو خولة ” ان الشجاعة هي مظهر من مظاهر الثقة بالنفس.. وبالشجاعة يمكن تقليص مساحة الشر، ووعي الانسان هو شرارة الخير.. ورغم أن ظاهرة النسيان عند مسؤولي (بلادنا) بقيت قوة غير منظورة، مع الاسف الشديد، حيث مسحت هذه الظاهرة الكثير من اسماء المبدعين، وجعلتهم دخانا مبثوثاً في فضاء النسيان إلا ما ندر، ومن هذه الندرة، كان اسم الكبير عزيز السيد جاسم، ساطعا في سماء العطاء الفكري، والفضل هنا، لجذور العطاء الفكري له، ولإصرار عائلته على احياء ذكرى تغييبه في كل سنة، بعيدا عن الدولة التي لم تنتبه الى مبدعيها.

في كل عطاءات عزيز السيد جاسم، سعى ان تكون الثقافة الانسانية، مستوعبة للكيان البشري بكل تفرعاته، في ماضيه وحاضره، وتعبيرا عن مدلولات المستقبل، على مستوى حي لا يتجرد ولا ينعزل، انما بمشاركة حقيقية في غمار الحياة في شتى ارهاصاتها.. وتسهم في تدوين التاريخ دون ان تطوف في فضاء المخيلة، وهي خيال بملمس حرير يقتفي أثر الحقيقة ويلتصق بها.. ورغم الألم الذي تشيء فيه روحية مقالاته، وجدت الأمل يملأ قلب كاتبها، وهو أمل بمثابة نور أقوى من كل الجراح والمصاعب وضربات الزمن، وهذا ما يؤكد، ان السطور التي يكتبها ابو خولة، تمر بميلاد صعب دائم، لا يصيبها العجز ولا تهزمها الأيام والسنين، لان الابداع هوما يهدف اليه ويبتغيه، وهي أفق حياته التي غُيبت!

لروحك السكينة الغالي ابدا عزيز السيد جاسم..استاذا ورمزا.

***

زيد الحلي – كاتب وصحفي عراقي

صديقتنا سبيستون، كبر أصدقاؤك ولم نعد صغارا كما كنا في الماضي تحتضنينا بين برامجك، تسقينا من افكارك، تلملمين طفولتنا وترسمين احلامنا التي كنا نتجول بها بين عوالمك ومجراتك في اقاصي الفضاء، نحمل روح القناص المثابر وشجاعة فرقة العدالة وحماسة حسان الفتى الساذج بقلبه الطيب، نعيش براءة حب انجلينا وروميو، فروح مثابرة وتعاون عدنان مع عبسي نرتديهما مثل معطف في شتاء قارس

عشنا تلك الايام بكل قوانا وغرقنا في بحار السعادة متشبثين باحلامها الوردية، تنقلنا مع سندباد وعلي بابا والفريدو وروميو والجاسوسات وماوكلي وتسلقنا الاشجار مع طرزان، كم فرحنا عندما قتل طرزان سابور النمر الشرير وتخلصت من شره حيوانات الغابة، عشنا كل لحظات عدنان ولينا في البحر والبر ومشاكساته مع جنود القلعة في كل مرة، ساعدنا روميو والفريدو في تنظيف مداخن المنازل وارتدينا براءة عهد الأصدقاء ليلا ونهارا، تكاتفنا معهم في الصعوبات والرزايا، ساعدنا سندريلا في اعمال البيت والتنظيف وحزنا وبكينا لما كانت تلاقي من ظلم واجحاف من زوجة ابيها والفتاتين، فكم فرحنا عندما تزوجها الامير بمساعدة صديقتها الساحرة، كم من المرات غلبنا النعاس ومشاعرنا تبكي، تمزقها قسوة الآنسة منشن لسالي الثرية وهي تعاني وتبكي كل يوم على فقدان والدها، نُمسي ونُصبِح نردد اغنية القناص ونقول بشغف مقدمتها الراسخة في افئدتنا قبل السنتنا ..

قد لمعت عيناه .. بالعزم انتفضت يمناه .. في هدوء الليل وبتلهف نشاهد كونان كيف يحل الغاز الجرائم ويحطم شيفراتها بذكائه وكم تمنينا ان نأخذ جرعة المحقق الصغير لنعيش لحظاته وتكبر احجامنا لنزداد فطنة ودهاء، نسدد الكرة كما كان يفعل كابتن ماجد محاولين ان نحلق معها في الهواء يتملكانا الحماس والإثارة يربوان في داخلنا يوما بعد يوم .. آه أيام مهما بكينا لن تعود !!

نعم كبرنا لكن لا زالت دواخلنا تعيش في ذلك الزمن رغم قسوة الحياة وعثراتها.

فجأة أستيقضنا في أحد الأيام نرتدي زياً لا يناسبنا في واقع رمادي قاسي يطوقنا من كل صوب لم نر الأمل في آخر النفق كما كانت توعدنا سبيستون، فالحياة انهارت علينا بكل قسوتها، خنقت طفولتنا مزقت احلامنا، آمالنا تكسرت على طول الطريق، بينما الفريدو وروميو ضاعا في دهاليز الأيام بعد أن ماتت انجلينا التي احبها روميو ببراءة، وكذلك ران واعجابها بكونان الكبير طُويَّ حبهما في دفاتر النسيان، كم كنا سذج حينما علمنا أن عهد الأصدقاء محصوراً خلف شاشات التلفاز وأن أرض الوطن مكان حقير إذا ما حكمه طغاة ولصوص يرتدون بذلات فخمة وحمايات وقصور ورايات تسد أفق الشمس إذا ما طلعت ..

نعم كبرنا لكن ما زال داخلنا طفوليا رغم مرارة الحياة وخيبات الأيام، كبرنا وكبرت شاشات التلفزة لتواكب عصر التكنولوجيا الحديثة لكنها تحطمت وتعطرت برائحة البارود وصيحات البسطاء وامتلأت باعداد المفقودين والضحايا الابرياء

نعم، تنتهي الطفولة عندما تتوقف الأشياء عن ادهاشنا وتضيع ذكريات صبانا مثل مركب يتيه في عرض البحر ويبقى السؤال الذي يثقب قلوبنا كل مرة.

أين السلام والمستقبل اللذينِ وعدتنا بهما سبيستون؟!

***

حسين علي/ العراق

في المثقف اليوم