أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

يأتي التلوث في مقدمة التهديدات والتحديات التي تواجهها صناعة السياحة والسفر في الوقت الراهن، بغض النظر عن مصدره ونوعه وأوجه انتشاره. وتعتبر القمامة بانواعها (سكنية، صناعية، سياحية، الخ...) من المصادر الرئيسية لهذا التلوث خصوصا في الدول التي تفتقر إلى ادارة فعالة في معالجتها والحد من الآثار السلبية التي تتركها حتما على البيئة والمجتمع، والتي قد تلجأ فيها إلى وسائل وسبل بدائية ومتخلفة في التخلص من هذه القمامة، مثل طمر القمامة في الشواطئ (كما كان يحدث في الارجنتين قبل الانضمام على الاتفاقية الأمريكية لحماية السلاحف البحرية) والجزر (مثلما يحدث في المالديف) وأطراف الغابات (كما يحدث في بعض البلدان الآسيوية) التي قد تكون حساسة وهشة بيئيا، أو احراقها بالقرب من الفنادق والقرى السياحية، كما حدث في خليج مكادي وسهل حشيش ومنطقة مجاويش جنوب الغردقة المصرية عام 2008، الأمر الذي هدد باغلاق هذه الفنادق والقرى السياحية جراء عزوف العديد من السواح عن التوجه إلى هذه المناطق بسبب سحب الدخان السوداء التي صارت تغطي سماء المنطقة كل يوم، وما صاحبها من غازات وأدخنة وأبخرة في غاية الخطورة على الصحة. أما في الجزائر فقد دفعت القمامة ومسببات التلوث الأخرى إلى قيام وزارة السياحة في العام 2012 إلى ادراج (188) شاطئا في (14) ولاية في قامة الشواطئ التي يحظر فيها السباحة فيها من قبل السواح والزوار، منها (13) شاطئا في وهران وحدها و(17) في تلماس و(5) في تيزي ايزو. وذلك لأسباب صحية. الأمر الذي انعكس سلبا على الرياضات المائية والأنشطة السياحية المختلفة التي كانت تزاول على هذه الشواطئ. كذلك فعلت السلطات المعنية في تونس عام 2011 بالنسبة ل (13 %) من الشواطئ المنتشرة في البلاد، مثل شاطئ رواد وشاطئ السواسي وجنوب شاطئ مليان. أما مدينة (ديربان) بجنوب أفريقيا المعروفة كمقصد سياحي ييم شطره السواح من مختلف بلدان العالم فقد تسبب ارتفاع كميات القمامة والفضلات في عام 2008، وسوء إدارة مياه الصرف الصحي في (4) من الشواطئ الموجودة فيها إلى جردها من الرايات الزرقاء الممنوحة إليها من قبل (مؤسسة التعليم البيئي) (رسم) في حينها بحسب التقرير المنشور في صحيفة (صنداي تايمز)، وذلك لتردي مستوى نظافة وجودة المياه وتراجع مستوى الخدمات السياحية المقدمة في هذه الشواطئ، وضعف إجراءات السلامة المطلوبة والمتعلقة بالفعاليات والأنشطة السياحية، وعدم تطبيقها ضوابط وتعليمات الاستدامة البيئية. وهي جوانب حيوية ومهمة على نحو ملح، وتطرح بقوة في موضوع العلاقة التبادلية بين البيئة والسياحة في ظل تنامي الوعي البيئي لدى الناس بصورة عامة، والسواح على وجه الخصوص، وادراك أصحاب القرارات السيادية في قطاع السياحة والسفر لأهمية هذه الجوانب، وضرورة الأخذ بها من أجل الارتقاء بالمنتج السياحي وتنويعه وايصاله إلى هؤلاء في مختلف الأسواق، والدفع باتجاه التنمية السياحية المستدامة المطلوبة اليوم، وبما يحافظ على التوازن البيئي من جهة ومقومات السياحة من جهة ثانية وعلى قاعدة الاستدامة.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.........................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

{دَوامُ الحالِ مِن المُحال} قولٌ مأثور

وَحْدن كلمة عربية باللهجة اللبنانية، تعني (وحدهم) أو (هم وحدهم) وهي صيغة جمع لمجموعة من الأشخاص أو الأشياء معينة ومحددة يتم الحديث عنهم، لا تشمل غيرها؛ بهذا العنوان (وحدن) ظهر لنا الفيلم الوثائقي المتميز، للمخرج وكاتب سيناريو الفيلم (فجر يعقوب).

الفيلم يجمع بين التوثيق للأشخاص والأحداث وتثبيت زمان ومكان حدوثها، ممزوجاً مع القراءات الشعرية وفن التصوير التسجيلي والإخراج في السينما التوثيقية، تم تصوير الفيلم في بيروت عام (2013) فيما كانت أحداث وقصص ووقائع أحداث سيناريو الفيلم تبعد بنا كثيراً بعمق الزمن، أبعد كثيراً من هذا التاريخ بعشرات السنين أنها تعود الى سنين حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تتحدث عن احداث ووقائع جرت معظمها في لبنان).

اسم الفيلم (وَحدن) هو بالحقيقة عنوان أغنية ذائعة الصيت للفانة الكبيرة (فيروز) بلحن أخاذ وصوت ساحر، والتي تقول مقدمة الاغنية (وحدن بيبقو مثل زهر البيلسان) والتي كتبها الشاعر اللبناني (طلال حيدر) وللقصيدة قصة معروفة ومشهورة وموثقة بلسان الشاعر (حيدر طلال) ومنشورة في مختلف وسائل الإعلام، وهي قصة العملية الفدائية الفلسطينية المسمات (عملية الخالصة) والتي نفذت في مستوطنة (كريات شمونة) في (11نيسان 1974).

الفيلم يوثق بالصوت والصورة لنشاطات وأعمال (ثلاث) مخرجين رواد مبدعين (لبنانيين) ولذلك لشاعر لبناني (طلال حيدر) أيضاً.

المخرجون هم:

1-  كريستيان غازي، تنشر المواقع الصحفية سيرته الذاتية وأستل منها: (من مواليد مدينة (أنطاكيا عام 1938)، من أب لبناني وأم فرنسية، نشأ في (سوريا) قبل أن يستقر في (لبنان)، ارتبط انتاجه الفني بالعمل الفدائي الفلسطيني، أخرج فيلم (الفدائيون) في عام (1967). خلال الحرب الأهلية اللبنانية أراد (كريستيان) تصوير الوجه القبيح لها عبر عدة أفلام وثائقية إلا أن ميليشياتها أحرقوا (النيجاتيف) الخاص بجميع أفلامه ولم يتبق له سوى فيلم (مئة وجه ليوم واحد (الفيلم (أسود وابيض) متزوج من الممثلة المسرحية (مادونا غازي) والتي توفيت أثر حادث سيارة مأساوي.)

بالإضافة للإخراج السينمائي فقد عرف عنه انه متعدد المواهب فنان ومسرحي وأجاد الغناء الأوبرالي وَشاعر له العديد من الدواوين الشعرية، توفي في (بيروت) بتاريخ (11/ديسمبر/2013) بعد اكتمال تصوير الفيلم (وحدن) وقبل أن يشاهد عرض الفيلم.

خلال مشاهدتي عند عرض فيلم (وَحدن) كانت اللقاءات التي اجراها الفنان المغفور له (كريستيان) تظهر على صحته وحديثه قساوة الزمان وكرب المحن التي ضغط بعنف عليه وعلى صحته ونفسيته ومنها فقدان ارشيفه الفني الغزير، وفقدان زوجته وأوجاع مرضه وتبخر أحلامه وأماله!

2-  المخرج (جورج نصر) في الصحافة منشور عن حياته وإعماله صفحات كثيرة منها: (من مواليد (15- يونيو-1927) طرابلس شمال لبنان، وأنتقل إلى (الولايات المتحدة الأمريكية) حيث درس الإخراج السينمائي، وتخرج عام (1954) ثم عاد إلى لبنان، أخرج فيلمه الأول بعنوان (إلى أين) عام (1956) والذي شارك به في مهرجان (كان) السينمائي، كأول فيلم سينمائي يعرض في المهرجان، تناول (جورج) في الفيلم حياة المغتربين اللبنانيين في الولايات المتحدة والبرازيل.

للمخرج (جورج) العيديد من الأفلام والدراسات السينمائية، كرم بالعديد من الجوائز، يعد الأب الروحي للسينما اللبنانية، توفي عام (2019) عن عمر يناهز (92) عاماً. وثق لنا فيلم (وحدن) بالصوت والصورة المخرج المبدع (جورج نصر) وهو بعمر متقدم همته العالية وذاكرته المتقدة ونشاطه وحيويته عالية، وهو يتحدث عن مشاريعه وأحلامه التي لأسباب عديدة لم يستطع تحقيقها، دارت كامرة الفيلم بمكتبه الخاص لتوثق لنا أرشيف غني كبير لأعماله ومشاريعه الاكاديمية والسينمائية.  

3-  المخرجة نبيهة  لطفي: مخرجة وممثلة لبنانية، من مواليد مدينة (صيدا/ لبنان عام 1937)  ألتحق بالجامعة الامريكية في بيروت عام (1953) وفصلت منها بسبب نشاطها السياسي عام (1955)، وهي بعر ثمانية عشر عاماً، وذلك لخروجها مع التظاهرين احتجاجاً على إعلان (حلف بغداد 1955)، هاجرت إلى (مصر/ القاهرة) فمنحها الرئيس المصري (جمال عبد الناصر/ ت 1970) منحة دراسية إلى الجامعات المصرية، أكملت من خلالها دراستها وتخرجت من المعهد العالي للسينما، وكانت ضمن الفوج الأول من وجبه خريجي معهد السينما عام (1964)، لها نشاطات وكتابات نقدية سينمائية متنوعة، منحها الرئيس اللبناني (أمين لحود) وسام (الأرز) من رتبة فارس تقديراً لإبداعها في مجال السينما التسجيلية. توفيت في (القاهرة/مصر) عام 2015 عن عمر يناهز (78) عاماً.

خلال عرض فيلم (وَحدن) سلط الضوء فيه عن فيلمها (لأن الجذور لا تموت) والذي يصور الفيلم الحياة الصعبة القاسية المأساوية لسكان مخيم (تل الزعتر) الفلسطيني في بيروت، خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، والذي ركزت فيه المخرجة عن حياة النساء الفلسطينيات واللبنانيات اللواتي يكافحن بالعمل المثابر من اجل العيش والحياة.

في فيلم (وَحدن) يُبرز لنا المخرج المبدع ( فَجر يعقوب) لقطات من (فصل الخريف) يمازجها ويداخلها بشكل فني جميل مؤثر بصورة حية للشاعر (طلال حيدر) وهو ينشد مقاطع من قصائده الشعرية بصوته الرخيم، وكأنها تمثل رحلة (خريف العمر) أظهرها في العديد من اللقطات الإبداعية التي تتماشى مع أجواء الفيلم الذي يشارف فيه جميع من يحاول التوثيق لهم ولنشاطاتهم الإبداعية المهمة على مشارف (رحلة خريف العمر) والتي وثقت خلالها لحقب زمنية طويلة مضت والتي كانت قد انتجت فيها أفلامهم الوثائقية والتسجيلية ونشاطاتهم الفكرية والأدبية الإبداعية والتي ستبقى أرث ثقافي وشاهد حي وأرشيف مهم وضروري للتاريخ ولكل الباحثين والدراسين  ولمختلف التخصصات.

في أمسية ثقافية رائعة متميزة تم عرض فيلم (وَحدن) مساء يوم السبت (2024.12.07) في صالة مقر الجمعية الثقافية العراقية في مالمو، والتي استضافت فيه الصديق المخرج والشاعر والأديب الأستاذ (فجر يعقوب) مخرج وكاتب سيناريو الفيلم للحديث مع الحضور عن فيلمه، في بداية الأمسية رحب مدير الجلسة الأستاذ (عصام ميزر الخميسي) بالضيف الكريم والحضور الأكارم، ثم قدم نبذة عن السيرة الذاتية للضيف الحافلة بالعمل المتواصل والابداع ، ثم تم عرض الفيلم ،بعد انهاء عرض الفيلم كانت هنالك فسحة من الوقت لمشاركة الجمهور الذي حضر العرض بمداخلاتهم واسئلتهم واستفساراتهم والتي رحب بها ضيف الأمسية وأجاب عليها جميعاً، ثم قدمت للضيف الكريم باقة من الورد.

نبذة مختصرة عن المخرج والكاتب والأديب والروائي والشاعر (فجر يعقوب) من مواليد (مخيم اليرموك/ سوريا 1963) مقيم حالياً في السويد، خريج المعهد العالي للسينما من - صوفيا/ بلغاريا- قسم الإخراج السينمائي (عام 1994) له أكثر من (7) أفلام روائية قصيرة، والبرامج التسجيلية، وأصدر العديد من الروايات الأدبية، والمجاميع الشعرية، حائز على العديد من الجوائز الأدبية والفنية والتقديرية.

 في الختام أقول: تحية كبيرة للصديق العزيز الكاتب والروائي والاديب والفنان (فجر يعقوب) على هذا الجهد الإبداعي الذي بذل لإنتاج هذا الفيلم التوثيقي الرائع، ففيه رسالة كبيرة ومهمة وهي الحفاظ على توثيق اعمال المبدعين ولفت الأنظار لجهودهم الفكرية الإبداعية السخية المبذولة، ومن أجل حماية الملكية الفردية للمبدعين بتوثيقها وحفظها وتعميمها، لكونها جزءاً مهماً يبرز الهوية الثقافية لاي مجتمع لتلك الفترة الزمنية التي انتجت فيها، فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الإرث الثقافي والابداعي والإنساني لعموم المعمورة.

  لا شيء ثابت ويدوم للأبد، سريعاً يمضي بنا الزمان وترافقه تغيرات أسرع هائلة في طرق التجديد والتحديث والأبداع والابتكار وَالتفكير وَالتدوين والعمل، والإنتاج، وَالنِضال، وَالكفاح!

***

يَحيَى غَازِي الأَميرِي

كتبت في مالمو/السويد (ديسمبر/ كانون أول 2024)

هو القصر الذي بناه المعتمد على الله (256 - 279) هجرية قبل إنتقال العاصمة إلى بغداد ببضعة سنوات، فعلى الأرجح بناه بعد سنة (270) هجرية، ويُقال بني سنة (264) هجرية.

القصر يبعد عن الملوية حوالي (9) كم، وهو مستطيل الشكل (121 في 96) م، حوله ساحة واسعة مسورة وخلف السور خندق وأمام بوابته بركة، ويتألف من طابقين، وفيه زخارف رائعة وتعبير عن ذروة ما وصل إليه فن العمارة العباسية، ويبلغ عمر القصر أكثر من (1100) سنة.

وتحيط بالقصر الأبراج الدفاعية المتينة وكأنه قلعة.

ويقع في الجانب الغربي من مدينة سامراء، ووصفه بدقة المستشرق الألماني (فون أوبنهايم) الذي زاره في نهاية القرن التاسع عشر، ونشر عنه في سنة (1900)، ويقول: "وتشير جميع المزاهر الخارجية لهذا المكان إلى أننا أمام قصر للهو والإستمتاع"!!

يسمى قصر العاشق أو المعشوق، وتدور حول تسميته حكايات متوارثة كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا.

والقصر تعبير عن ثورة عمرانية بلغت ذروتها في بنائه، فهو آخر القصور التي بنيت في سامراء، التي كان فيها ثلاثين قصرا تضاهي بجمالها قصور غرناطة وقرطبة، وقد أحدث بناء القصور تطورا غير مسبوق في فن العمارة، ومنها إنتشرت الفنون العمرانية إلى مدن عربية وغربية.

ويغفل المؤرخون ثورة سامراء العمرانية، التي ترى تأثيراتها في العديد من البنايات بدول عربية وأوربية.

ويذكر هيرتسفيلد الذي نقب في القصر سنة 1911، أن داخل القصر يتألف من ثلاثة أقسام طولية رئيسة، تتخللها فناءات مفتوحة وأواوين مشرفة عليها وصالات معمدة وقباب، وصولا إلى قاعة العرش المتميزة بعلوها.

والقصر شأنه كغيره من القصور العباسية الأخرى، يحتوي على إحترازات أمنية ومخابئ وسراديب وأنفاق، ففقدان الأمان كان يؤرق الخلفاء، ويوجب عليهم السكن في قصور معقدة البناء، للحفاظ على سلامتهم من الطامعين بالخلافة.

وعندما نتساءل كيف تخرّب آخر قصر بني في سامراء، لا توجد وثائق تشير إلى ما حصل له، وكيف تحول إلى ما هو عليه اليوم، ولا توجد بحوث رصينة تفسر كيف إنتهت قصور سامراء إلى ركام في وقت قصير بعد إنتقال العاصمة إلى بغداد، وهذا أحد الألغاز التأريخية التي يخشى الباحثون دراستها وتفسيرها.

ويبقى قصر العاشق دليل إدانة على عدم إحترامنا لآثارنا، ويؤكد على نزعة الدمار والخراب الكامنة فينا!!

***

د. صادق السامرائي

 

تمثل المحميات الطبيعية بأنواعها مصادر جذب فعالة ومهمة بالنسبة للزوار والسياح من ذوي الأهتمامات المتعلقة بالبيئة، وهذا ما دفع السلطات السياحية والبيئية في الكثير من الدول إلى الترويج إلى المنتوج السياحي الذي يقدم من خلال المحميات على نحو مخطط ومدروس من أجل زبادة معدلات التسوق، ودعم التدفق السياحي، وتقديم خدمات متميزة للسياح مع تحقيق إيرادات مالية مناسبة، تساعد على تطوير وإدارة هذه المحميات بالشكل المطلوب. ووفقا لقواعد الاستدامة المعروفة التي تهدف إلى الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وصونها، للحيلولة دون الاضرار بأوجه التنوع الحيوي (البيولوجي) التي تتمتع به. وذلك من خلال تنظيم حركة الأفواج السياحية إليها عددا وتوقيتا، ونوعية السياح وتوجيههم بضرورة الألتزام الكامل بالتعليمات والضوابط، لتجنب أي شكل من أشكال الاخلال بالنظام الايكولوجي الذي يزخر به، مثل: عدم العبث بالأنواع والأصناف النباتية من أشجار ونباتات والمحتويات الأخرى داخل المحميات هذه، وعدم ازعاج الحيوانات التي تعيش فيها بأي شكل كان، والألتزام بالحدود المقررة عند الحركة واللأقتراب منها لغرض المشاهدة والمراقبة والتصوير، وذلك لدواع أمنية، ولتجنب نقل الفيروسات التي قد يحملونها معهم، فتصيبهم بامراض وأوبئة، يصعب معالجتها والسيطرة عليها، فتهدد حياتها على المدى القريب والبعيد، وتؤثر في أعدادها ونوعيتها، وبما يتعارض مع الأتجاهات الرامية إلى الأستدامة البيئية، مع ضرورة عدم ترك المخلفات لاحتمال تسببها بالتلوث. ففي عام 2009 أصيبت (11) غوريلا جبلية من أصل (12) غوريلا موجودة ضمن إحدى المجموعات ال (8) في واحدة من المحميات الطبيعية في جبال (فيرونجا) على ارتفاع (2500) م فوق مستوى سطح البحر ب (روندا) بسلالة من فيروس بشري مسبب للالتهابات الرئوية، انتقل إليها جراء اقتراب السياح الأجانب منها، وفقا للنتائج البحثية لأحد المراكز الطبية الأمريكية. وهي نوعية نادرة اكتشفت في عام 1909، ولا يوجد منها حاليا سوى (700 – 800) غوريلا، منتشرة في كونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا. الأمر الذي دفع إدارة المحمية إلى اصدار توجيهات قاسية، لا تسمح إلا بزيارة واحدة لكل مجموعة منها في اليوم لقاء (500) دولار، يذهب إلى صندوق المحافظة على حديقة البراكين في الشمال، وعلى وجه الخصوص لحماية الغوريلا الجبلية من الانقراض، بالأضافة إلى الرسوم المفروضة من قبل الحكومة الرواندية على الأنشطة المرتبطة بالغوريلا منذ عام 2008. وهناك تجارب متميزة في هذا المجال، طبقت في استراليا وجمهورية جنوب أفريقيا وإيطاليا وكوستاريكا وكندا وكينيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. وقد نجحت إلى حد بعيد في إزالة التضارب بين تطبيق قوانين المحافظة على البيئة الطبيعية ومستلزمات صناعة السياحة ومتطلباتها، مع وضع المحميات الطبيعية بانواعها كأحد عوامل الجذب والتسوق السياحي الفعالة في استقدام وجذب المزيد والمزيد من السياح والزوار من أصدقاء البيئة الطبيعية من داخل وخارج البلاد.

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

 

هو، هذه الارض الواسعة، التي نغوص بها كما التماسيح في بقايا وحل الانهر الهاربة، لكثر الجرائم، للجفاف. وسط هذا الوحل نقيم جميعا، من ينام ومن يجذف الريح بيديه، من ينظر حوله صامتًا، ومن يتحسر... نكتب على الوحل اجمل الاشعار والجمل القصيرة، ومضات، نصوص طويلةً. الاغاني، نلحنها على نقيق الضفادع وحفيف الريح بأجزاء اجسادنا الواقفة فوق سطح الوحل وطنين الذباب، يمر النهار، بين شمس ساطعة تكوي الرؤوس وبين مطر يغسلنا، يحررنا قليلا. نحرك اجسادنا بعض الشيء، لكنها راسخة بالوحل. كأنّا ندور بذات الدائرة، يمر الوقت ثقيلا، واجسادنا تعودت على طبيعة المحيط، نشرب من الوحل، يا ويلها الحشرات التي تمر من قربنا او الديدان التي تظهر او الطيور العاشية التي تقف بمتناول اذرعنا، ونتنازل في الحبكة والسرد وقول الزجل، ونختمها بسكرةٍ من ماء الوحل المتجمع …. لننام مرة أخرى! أي احلام لك ستبقى؟ الحلم كالجسد يشيخ ثم يموت، لكن هنا في هذا الوحل، الحلم مات منذ زمن طويل. تحط الطيور على الضفاف، نراها، تبني اعشاشها، وتفقس، تكبر افراخها الناجية، ثم تطير محلقة في السماء حتى تختفي عن النظر، ونحن لا نبارح مكاننا.  منذ ايام مرّ حمار من قربنا، وما إن رآنا حتى فر ناهقا فزعا ... ليس هناك احدًا يمكنه الاستفسار منه، لتأكيد سبب موقفه هذا، ما علينا الا تداول الحدث بيننا، وأن نقتنع بتفسير المحللين!! فهم كثر والحمد لله، ولا تشوبهم شائبةٌ في لبس ربطات العنق المعوجة عند الرقبة، والمائلة بسبب انتفاخ البطون، ولون البدلات البنية او الخاكية … وصبغ الشوارب وبقايا شعيرات الرأس، وحف الحواجب وتهذيب الذقون كما الصخول، وليس هناك براعة اكثر من ترديد عبارات: الحقيقة والواقع، وواقع الارض! ولدينا وثائق تثبت!! وما ان يحتدم النقاش حتى يتحول من محلل بالقضايا الى مدافع عن جهة ما وبحماس!! وحين فُتح النقاش عن موقف الحمار منا، اعتبرها البعض بانه حمار لماذا نجهد انفسنا نحن خير الخلق بمشكلة حمار!! واحالها البعض الى ربما هناك شخص لبس جلد حمار واتى فقط لاستفزازنا!! والبعض اعتبرها تنمر من حيوان غبي! وآخرون وقلة قالت إن حالنا افزع حتى الحمار وهرب فيما نحن لا نحاول شيء… ولم ينتهِ النقاش حتى مطرت السماء غزيرا افاض الوحل وكاد يغرقنا، لم نتحسس حالنا للتخلص من الوحل، كأن اجسادنا واطرافنا السفلى تخدرت في ذلك الوحل…، ربما وصل الوحل الى العقل وهذا هو الشر… ثم نمنا. حين سطعت اشعة الشمس ثانية، مر موكب كبير من البشر يتقدمهم عازفو الطبول والآلات الاخرى، مر الجميع، خوذ بيضاء محاطة بشريط ازرق وستر زرقاء وسمتها عند الصدر زهرة اللوتس وسراويل حمر، آلاتهم تعزف والجمع يسير بانتظام عيونهم مشدودةً، افواههم فاغرة… في لحظة ما التقت عيوننا جميعا، لكن اللحظة لم تثِر اي ارتباك لديهم او سؤال، عدا امرأةٍ عجوز، جلست على ضفة الحوض الموحل واخذت تنظر لنا بحزن ودموعها تتابع على خديها، ربما ليس حزنا علينا، ربما على زوج قتل، او ابن خطف او أسر. المشاهد تذكر الاخرين بأحزانهم وتنسيهم منْ داخل المشهد... ونحن ببلادة اخذنا تقليد المعزوفات التي سمعناها غير ابهين بحالنا، وبعدها جاء انين الذكريات…قل هي بشرى اليأس والموت القريب. هكذا دارت بنا الايام من وحلٍ لوحلٍ… والحلم رماد.

ماذا ينفع الانسان اذا ربح العالم وخسر روحه؟.

سيوران

***

كريم شنشل

 

عاش الكاتب الفرنسي الكبير غي دي موباسان في الفترة الممتدة بين 1850 1893م، وهو واحد من كبار كتاب القصة القصيرة في فرنسا في القرن التاسع عشر، وهو أيضا من أهم رجال الأدب، معروفٌ بروايته صديقي الجيد bel ami، كما  له  إسهامات معتبرة في آدب الرحلات، وأهم كتبه في هذا المجال، كتاب حياة تجوال (1890م) رحلات في شمال إفريقيا : تونس الجزائر والمغرب ...

وهو ينتمي الى المدرسة الواقعية. وقد تمكن موباسان من  تطوير أسلوبه الأدبي متأثرا بفلوبير،  واستطاع نقل قضايا المجتمع الفرنسي وتوجيه انتقادات حيال تناقضات المجتمع البرجوازي في فرنسا وبالأخص في زمن الحرب ...

وفي سنة1881م قصد الجزائر في مهمة صحفية تستقصي أخبار بطل أولاد سيدي الشيخ؛ الشيخ بوعمامة، الذي كان يُنظر إليه كمتمرد من طرف السلطات الاستعمارية! فكتب العديد من المقالات الصحفية حول المنطقة ورجالها ومجتمعها، جُمعت فيما بعد في كتاب صدر سنة 1884م..

وزار الجزائر مرة أخرى سنة 1888م، وكانت رحلته الثانية للاستشفاء...

كتب موباسان حول رحلته الى الجزائر، فكتب عن المساجد التي أثارت انتباهه وإعجابه لبساطتها، وعفوية روادها من المصلين والأئمة، كما لم  يفته  مقارنتها بالكنائس في فرنسا أو أوروبا !..كما تحدث عن الزوايا و المرابطين، والآثار الرومانية القديمة وبالأخص في الجهة الشرقية من البلاد...

تحدث عن الشعب الجزائري والجزائريين، سواء الحضر من سكان المدن أو البدو من سكان الريف، وعن سكان العاصمة و المدن الداخلية... وعدد صفاتهم من كرم وشجاعة وصلابة وبساطة وإخلاص وعاطفة وعفوية... وهي كلها صفات العرب، وهي تنبع من قيمهم الدينية... اعتمد في كل ذلك على ما عاينه مباشرة ولم يعتمد أبدا على أي مصدر آخر أو استشهد به!.. وان لجأ الى أسلوب مقارنة الأوروبي بالجزائري وهي مقارنة لا تخلو أو لا تستطيع أن تخلو من تحيز !...

***

بقلم عبد القادر رالة

النكهات المَلكاتُ تليق بأذواقها الشاعرة

في واسطة عقد المثلث الذهبي للمدينة العتيقة لمراكش البهجة، تنبت شجرة وارفة أخرى، من أشجار خبير المعمار المغربي والأندلسي الأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبدالله.

انبثاق فكرة نادرة، نبعت من ذاكرة العمارة وفن العيش بمراكش، وهو متحف الشاي 1112، الذي انجلت رياحينه أمس الأربعاء 11 دجنبر 2024، في افتتاح فضائه رسميا، بحضور مثقفين وإعلاميين وفنانين، هبوا جميعا للإصغاء لفتنة الشاي وتلاوينه وعباراته السابحة في ذرى الجمال والبهاء.

المتحف إياه، ميسم رياض تقليدي من عبق القرن الثامن عشر، يجاور المدرسة التاريخية العظيمة ابن يوسف، على سعة نابضة بأرواح الآباء والأجداد، تنبري أطيافها الحميمية لتسحبك بكل حنو ورحمة إلى صحن مأسور بسماء واسعة، وسقوف متلألئة وضاءة، تحفر بعيدا في ثقافة مهيبة وهوية بصرية لا مثيل لجمالها ونقائها.

في أتون متحف الشاي ذاك، يصر ايت بنعبدالله على استعارة مناقب الأعشاب والتوابل، بأصنافها ومناجمها العبقة، مكرسا بذلك بلاغة الانتماء لمغرب مراكشي حتى النخاع. فالرقم الذي يحمل هوية متحف الشاي (1112) مسنود على جذور دامغة، نقشت آياتها على سقوف الرياض. حيث التمع وشم الرقم السري، نافذا إلى أعماق الوصف، حاضرا في السياق البصري والثقافي.

ينبش آيت بنعبدالله في مسالك التراث، يحتويه بين الأضلع والقلب، فيدنو إلى الفكر، غير بعيد عن سرد حكاية أو ترميز أو إحالة سخية، سرعان ما تتعرش، وتنمو، فتحقق ما تأمل، من الفورة والإبهار والتمدد في الكينونة. هكذا اتسمت تجربة طلعة المتحف بقبلة الراغبين في تذوق نكهات الشاي المتعددة، بتعدد جهات المملكة، وتربع حضارتها على بهارات ونثارات الأزمنة والأمكنة والأحداث المتعاقبة.

ولأن الحدث غير مسبوق، وتجلوه بعض من مثاقفات كونية متجاورة ومتبادلة، أقلها امتدادات في اختيارات بعض شعوب آسيا، كاليابان والصين، أو أوروبا كفرنسا وإنجلترا، بحسب رأي ايت بنعبد الله، فإن نفائس “شاينا المغربي المتعدد والمبهر”، بأصوله وطرق تحضيره والتقائيته بالطباع والتقاليد والأعراف والدين، يضل الأكثر عبرة واعتبارا، والأبهى توقدا وانجذابا، حيث “ينطق بالذوق ويعبق باللذة”، عبر أطاييب فناجين (كؤوس) لا تأسرها الحدود ولا تعتورها قيود النمطية وأمدائها.

وللنكهات في عشق الشاي بالمتحف 1112، ما يؤصل هذا التماهي ويدنيه من حالات الشعر ونظمه الباذخة. وهي الأقرب إلى النكهات (البحور الشعرية) المتلاطمة، بين جهات مختلفة ومتنوعة، ثقافة وجغرافيا وطقوسا وميادين. ففي قلعة مكونة يغلب حبق الورد ونعناع الأرض وقرنفلها ونافعها. وفي الصحراء علك الرواء ونفائس الشيح وورق النبق. وفي مراكش نظام إعداد الشاي التقيليدي بالنعناع البلدي واللويزة وغيرها. وفي الشمال أنماط أخر.. كذا في الغرب كما الشرق...

لا يخترل المتحف، هذا الطريق المفرد، للتخصيص الذوقي الطعامي فقط، بل ينفتح على استلهام أسس حكيمة، تضع الأدوات المنتجة للشاي، وتاريخها ونظامها الخاص، حيث عمل على إيلاء “متحف الأواني التقليدية” اهتماما جوهريا، تفرد بعرض مجموعة منها، بعضها استقدم من إنجلترا، التي كان التجار المغاربة يترددون عليها، منذ أزمنة بعيدة، تعود بعض المصنوعات إلى سنة 1830 . من بينها أيقونات ثمينة القيمة والنوع، بصمتها أيادي الصانع التقليدي الأسطوري محمد بلعربي.

ولتاريخ الضيافة ومعالمها، سموق لافت في المتحف، حيث تتقاسم أبارق الشاي المختلفة، وكؤوسه المزخرفة وغير المزخرفة، وأوني إعداد الشاي، من البراد إلى أباريق النعناع و”التخالط” و”السكر” و”الأطباق” … نبضات تهمس، متوجسة خيفة أن تمسها ريح الشتاء وجنونها المزدحم بهفهفة الفرح وآثاره الخفيفة على النفس.

وكعادته، ينماز الفضاء عند ايت بنعبد الله، في كل ارتقاء وعبور، بتوشيح ثقافي وكتابي لا ينضب ولا يلين. فقد قدّر واستدق في نور العقل بالوعي والتلقي، ما يؤسس على الدوام مشاريع الاستحقاق وتنمية الإنسان، بما يجعل كل قوانين الوجود قائمة على التزكية النورانية ونشر المحبة والتعلق بأهداب الأصالة. وهي قناعة لا تنفك تستقوي جديدا بمتحف الشاي، الذي يريد له أن يكون بالتجاور مع مدرسة ابن يوسف التاريخية، نجما غير شارد أمام قمر النجوم.

***

د مصطفى غَلــــمان

دهمنا شجو أُمرّت علينا كاسه، وتقطّعت بنا أنفاسنا وأنفاسه. وأرهقنا ذِكرٌ خانه النسيان، وعشقٌ شعّثه السلوان. وقد ضاق بنا عتابٌ لم ينقطع، وقلبٌ مشتعلٌ ليس يرتدع، وفضاءٌ ليس يتّسع. وشخصٌ إن زال لم يزل خياله، وحبيبٌ إن غاب لم يغب مثاله، فالشوقُ على احتدامه مُحرِق، والوجدُ على التهابه مقلق، والزمان على عادته جامعٌ مُفرّق. وما أصنع يا إلهي والقلب مشتعلٌ من شواهدِ غلِقَ رهنها منذ زمان، ويئس من فكاكه كلّ أوان، وما أصنع في سرّي وعلانيّتي، وسكوني وحركتي، وانتباهي ورقدتي، وقراري واضطرابي، وغربتي عن نفسي واغترابي، عن يقيني وارتيابي، وعن عللي وأوصابي، وعن بلائي يا ربّ وعن عذابي، وعن جميع أموري وأسبابي. وغالب ظنّي يا سيّدي أنّك لمؤازرتي على هذا الهمّ تؤثر أثرًا يخفف به ما بنا، ويحطّ عنّا ما أثقلنا، ويهدينا إلى الجادّة التي منها جُرنا وعنها زُلنا، فقد صار النسيان محالًا أو كالمحال، وجهلًا أو كالجهل.

(يا قابس النار من زندٍ تعالجه

اقدح بزندك في همّي وأحزاني

ما النار أسرع إلهابًا لموقدها

في العود من زفرةٍ في قلب حرّانِ)

وإنّما أنا هنا في هذه المقامة أبثّ من حينٍ لآخر بعض عوارض هذه النفس عند الفيض الشديد، والغيظ المديد، وحين يبلغ العجز منّي آخره، ويستغرق اليأس باطنه وظاهره، فإنّما أحاول من ذلك تخفيفًا، فلا أزداد إلا تثقيلًا، كأنّ ذلك من خدائع الحال، ومن تعذّر الآمال. هذا رعاك الله ديدني، في حالي ومعدني، لأمور لي فيها مآرب، ولك في قراءتها مذاهب ومطالب. وإن كنتُ قد كنّيتُ عنها بلساني، فقد غلب عليّ شيني، وإن هممت بشيء منها بيني وبيني، وفيها حياتي وبيني، وفيها امّحق كلّي وبعضي وكيفي وأيني، فإنّ غايتي معك، عند إشكال قصّتي عندك. واعلم يا قارئي أنّ عيني قد جمدت من البكاء، وبدني قد فتر من العناء، وخاطري قد وقف عن السّنوح، ووجهي سمج بالكلوح، وبالي قد كسف بالقُنوط، وحالي قد ثبت من القَنوط، وإن هذا إلا قولٌ قد غلب عليه التكرار، قد صدر عن صدرٍ امتلأ بالوجيب، وإنّه ليس بأمرٍ عجيب.

٢

اللهم يا ربّ الأرواح الهشّة، والأحلام الضائعة والمحطّات المظلمة، وربّ كلّ الضائعين الباحثين عن أنفسهم في عجائب ملكوتك، يا أولى من حُمِد وأجود من سُأل، وأوسع من أعطى. كتبت الآثار، وأحصيت الأعمار، وملكت قلوب الخلائق بين يديك، وقلّبتها بما شئت، أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظاهر فلا شيء يشبهك، وأنت الباطن فلا شيء يراك، أنت الواحد بلا تكثير، وأنت القاهر بلا وزير، وأنت أنت الملك القدير

(احمني من مُبْصري أخطائي أقلّ منّي

ومن مالكي عتماتهم والمتحكّمين بمصابيحهم

وممّن يكذبون على الأولاد

وممّن أحببتُهم وممّن أرادوا أن أحبّهم

واحمهم منّي

من خيري كما من شرّي فلستُ دائمًا أُحسنُ التمييز

ولا تتساهل مع تضخّم أناي

ولفلف نظري بالغيم المشمس

ولا تحرم أعماقي ذلك النغم

الكامن فيها كسِلْك الذهب الخفيّ في طيّات التراب)*

يا الله بك أستعين، فالدموع جفّت، وعلى وجهي ترابٌ منثور، نوّر قلبي، وبدّد وحشته، اجر سواقيه، بدّد صداها، وافرش زهورك على توتّري وحيرتي، تنقّل بين أسماء الألم وامحها، لأنّ هوّة في الرّوح لن تملأ بقطن الذكريات، إذ تجرح، وتصير الحياة شريان دمٍ مقطوع، قدّرني على هذه الحياة، واصهر خشونتها، كي تصبّ في قناديل الحب وتوقّدها، وتضيئ عتمة حواسٍ انغلقت على نفسها، واجعلني استكين مثل خيط الشمعة المنطفئة، فهمومي استحالت وحشًا يأكلني من الداخل، وعيناي تتفتّحان على صندوق من عجائب، فيه أنام فاغرةٌ أفواههم.

فيه صارت لحظاتي مراجلًا تتبخّر منها السعادات ويترسّب في أذيالها الألم. يا دليل المتحيّرين، ويا أمان الخائفين، بدّد وحشتي، وبرّد قلبي، وارحمني فأنت أرحم الراحمين.

٣

ولا تحسبوا بطل القصة الولد المتكبر يعجبه وَجْهُهُ،

إنّما بطل القصة الولد الغارق المشتهي

أن يعود إلى نفسِهِ ولدًا يتنفّسُ.

تميم البرغوثي

٤

يسكن الله قلبي وأنا لا أرض لي، أحلامي ضائعة وتائهة في الظًلام وقربتي مثقوبة وكلّ نجوم الكون قد سقطت منها، لكوني طفلًا يشكو من حبّه بنظرة خبيثة، أقول إنّه لطّخني بالدم، اعتجرني بكل سواد الكون، جعلني أتعثّر بالجماجم والهياكل العظمية والجثث المتفسّخة، دفعني للخوف من أشباحٍ لا أراها، سبّب لي هلعًا مبالغًا، لكوني شخصًا يتذمّر مما كان يعلّق عليه آمالًا صغيرة، كان قناعي يظنّ بأنّه عاشقٌ جيّد يرى نفسه في وجوه لا يعرفها، ولكنّه في الحقيقة عاشقٌ سيء للغاية، لأنّه حجب الشمس وتسلّى مع الأشباح. صوتي درويشٌ خائف يرتعد ويرتجف من نداءات مجهولة خلف الأسوار، يعبر بعض التكايا ويحوم في حلقات الذِكر. والليل طويلٌ حين أكتب أو أغنّي، ووجهي خلف كلّ تلك الأقنعة يشعله البرق.

٥

كنت ألعب في حديقة العمارة مع أولاد الجيران لعبة الختيلان. تركت الجميع وتواريت خلف تمثال بابا صدّام قرب باب الدائرة. تفاجئت أنّ التّمثال تحرّك من مكانه ليمسح بيده على رأسي مبتسمًا. أعطاني دمية كالتي يحتضنها أطفال المقابر الجماعية. وأخذني من يدي ورماني في حفرة، ثم أطلق عليّ النار وواراني في التراب.

٦

أدفع رأس الليل بيديّ في رحم الظلام لأمنعه من الولادة، أصرخ بالموت وآمره بالرجوع صارخًا، أستدرج القمر الهائج في السماء إلى فخّي الآمن في كنف عباءة سوداء، أفكّك العقد المجهولة التي تسّد طريقي. في هالة فانوسي تتأرجح الأشباح وتظهر طيور في مرآة الظلام وتختفي، يرتجف الطفل الصارخ خوفًا من زيارة الشياطين والوحوش، الأبله الذي يجفّ فمه ويرتجف كلّما اكتمل البدر، الولد الذي نجى من اليرقان وأصبحت حياته معجزة، الولد الذي نشأ وهو غير كافٍ لأمّهاته الثلاث، حقيقة هو لم يكن كافيًا حتّى لأمّه الحقيقية ولا لأيٍ شخص دخل حياته. الأبله الذي كفّ عن الارتجاف. الطفل في مهده الواسع نام بهدوء وأنا كنت أحمل الفانوس لأحميه وأنير له الطريق.

٧

أقلب الدور فهذه محنتي من جديد، أسبّح بأمجاد النصل وألقي بهذا الأرث العتيق إلى الرياح، سأربط خيط حتفي بحبل سرّة لحظة تأتي ولا تعود، سأعبر من هذه الأبواب، وأحبس هذه الوحوش وأقيّدها في رأسي، وأجمع كلّ نيران العالم في قلبي، سأقلب الدور وألقي بهذا الإرث إلى الرياح وأسكب من يديّ ذهبًا، سأَبعث عالمًا في أيّ لحظة مضت، وأرحل عندما يحين رحيلي.

٨

كان يحلم بأكذوبة جميلة، ووجد كلّ شيء حقيقيًا يصرّ على التعرّي أمامه، هجمت الكوابيس من لا مكان كتيبة من المحاربين حطّمت جدرانه، كلّما ركله الزمان إلى قاع الهاوية، قام منها، كلّ ما ظنّوا أنّه انتهى بدأ. مجبولٌ على أن يطارد كلّ شيء من منابعه، حتّى تجمّعت النجوم بين طيّات مقاماته وتحت شرفة انتظاره. يقف في الظلام ويأمل أن يخلّص نفسه منه، فتبتلعه ثقوبٌ سوداء تعيده إلى الماضي ويلمح طابورًا هزيلًا يقف فيه الأنبياء والعلماء، تبعثرت على أطرافه عظامهم وأجسادهم المقطّعة، يهتزّ أمامه الطابور حبلًا أبديًا للغسيل كلّما تكوّم عليه قتيل آخر. ينتابه قبل الفجر ألمٌ ثنائي الوجه يهجم بغاراته ويدكّ حصونه بعد حصار طويل. يقولون أنّ الأرض حبلى بالجرحى وذابلة من الحرارة، وحوشها السائبة تتدلّى ألسنتها إلى المستقبل، يلهث الزمان في بريق البدل والأزرار العسكرية، يقولون إنّ نهرًا من دماء الأبرياء ينبع منه، يحلم هو أن يرمي حجرًا فيسقط عبر عدّة بحار على سقف بيته الذي لم يعد هناك، يقول لنفسه لا تقلق يا أمين، سيولد الكثيرون بضربة منجلٍ من الهواء، سترى النبع في أرضٍ خضراء يقودك نحوها جمع من الرهبان والكهنة والسحرة على ضوء الفوانيس، هناك ستغسل وجهك المدمّى امرأة أردتها، في أرضٍ طردت منها الليل قليلًا بضوء شمعة، وطالبت بك معاولنا أن تضرب بثبات على ذلك الحجر الراكد في صدرك، فنحن رأيناك ترقص على حافة المنحدر وتحت رجليك الهاوية.

٩

أسير واحدًا من العباد في الزحام الذي يملأ الطرقات، وجهي جريحٌ يأتي لينام، وحياتي أنهار من طين ودم تجري تحت عجلات السيارات، بينما ينصب الموت شاراته في قاع جسدي كان الظلام يقدح أحجاره لينير أكوانًا كسيرة، كلّما أغمضتُ عينيّ أراها. كلّ حياتي تبدو واضحة، العالم يفقد سطوته، والليل يمرّ ولا أحد يأبه به، العالم بين يديّ يستسلم كالأبله برضاه، فأترك لرغبتي الجامحة أن تشطره إلى نصفين وتجعل بينهما نهرًا يجري. حين تكونين معي وتكون لي امرأة مثلك، تجيد السفر عبر الزمن، وتعرف كيف تناجي الليل بأسماء نجومه، وتمسح لي ذاهلة دمي وعرقي وغبار السنوات التي مرّت عليّ، وتخبرني بأنّ كلّ شيء على ما يرام من دون أن أنطق حرفًا واحدًا، أنا الرجل الذي سيكتب لكِ مقامة يصف فيها وحدته في أواخر كانون، أنا الذي سأظلّ وحيدًا مهما طالت قائمة معارفي وأهلي وأصدقائي، أنا الذي سيتغزّل بجمالكِ حتّى عندما يزول، أنا المفتون الذي سينشّف لكِ عرق الطريق (أنا فاقد الشيء الذي يعطيه، أنا بائع الوهم وتاجر الأمنيات وأنا.... أنا زبوني الوحيد).

بيدين مكتوفتين أراقب حياتي تتهاوى، لم أعد أطمح بأن أكون شخصًا جيدًا ومثاليًا أمام الآخرين، تعبت من تمثيل هذا الدور، لقد استنزفت الحياة كلّ مخزوني من الأقنعة وفلاتر التزويق. فالأقنعة لا تشفي الغرز والجروح وإنّما تخفيها، أريد أن أوقف الزمن أو أبطّئه لأركن حياتي على الطريق، أريد أن أخرج منها لبعض الوقت، أريد أن أستنشق هواءً نقيًا وأتفقّد أخطاء قصّتها الإملائيّة، أن أركّز في تفاصيلها وألوم كاتبها على هذه الحبكة السيئة. أعيش كأنّ جيشًا من الأشباح يطاردني من مكان إلى مكان، استطال الظل وظلّ يهزّني، رجّني وأدركت فجأة أنّه لم يكن ظلًا، كان إنسانًا مثلي من لحم ودم، رجلًا حقيقيًا أمسكني من ياقتي، وسحبني إلى الباب من تلابيبي ثم ركلني ركلة أطاحت بي في الفضاء، وأخذت أتدحرج بين النجوم، واتعثّر بالكواكب، وعدت طفلًا يعبث في أوتار جيتار عمّه خلسة ويتتبّع الموسيقى في غرف مظلمة (أفتش في كومة الألعاب

عن حلم قديم ودهشة بعيدة..

طفل حانق

يتحسس رضوض حياته في ساعة متأخرة من العمر..

أنا لم أكبر يا الله

أحدهم دفعني).

١٠

همتُ بأرضٍ ذات خضار، وأرحت ركابي بعد ترحال وتسيار. وقد كنت قبل هيامي غريب الدار، كثير الأسفار، وكنتُ أتردّدُ فيها سحابة النّهار، وأتفقّد ما بها من المشاهد والآثار، وسلّمت عليها تسليم المشنوق، وابتهجت بها ابتهاج العاشق بالمعشوق. ورحتُ أقلّب وجهي في السماء، وأقول سبحان من علّم آدم الأسماء، وسلّم إبراهيم من النار الرمضاء، وصلّ يا ربّ على صاحب القبة الخضراء، المرتجف حبًا في غار حِراء، وعلى آله وصحبه النجباء، بعدد من في الأرض والسماء.

أمّا بعد فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، وهذه حكايتي بين أيديكم، وتحت أعينكم، العقول في خفيّاتها أسرى مقيّدة، والأحاسيس في جَليّاتها فوضى مبدّدة، والأقوال في وصف تشاكلها وتباينها مختلفة، وهذا خبرٌ والله طريف، الفكر فيه يورث الوسواس في الصدور، والسكون عنه يصدّ عن الجواز والعبور، والسؤال عنه يحمِل التُهمة، والجواب يزيد في الحيرة، فهل رأيتم قولًا كلّما بان غمض؟ وهل رأيتم عرقًا كلّما سكن نَبَض؟ وهل رأيتم نارًا كلّما أُطفئت شبّت؟ وهل رأيتم بيانًا كلّما وضح أشكل؟ فوحقّ الحق إن السرّ في مقاماتي هذه لمكتوم، وإن الغيب فيها لمعلوم، وإن الظاهر منها لمفهوم، وإن الباطن لموهوم، وهكذا زال الخداع، وعليه تحيُّر الطباع، وعلى أثر حديثنا سقط القناع. ولو ساعدتني اللغات على اختلافها، واستجابت لي الخواطر على ائتلافها والتفافها، لأن أدنو مما أنا ممنوٌّ به، ومحطوطٌ فيه ومراد به، ومعكوس معه قولهم:

(فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ

وصبابةٌ ليس البلاء بواحدِ)

وهذا وهمي الذي لم تمزّقه الرزايا، وسرّي الذي لم تكتنفه البلايا، وعلى علّاتي التي وصفتها، وخلّاتي التي رصفتها، وأقنعتي التي رميتها، أختتم حديثي بمقدّمته وأقول: سحرتنا أرضٌ فحللناها، وملكتنا وملكناها، وعمدنا لقداح الوجد فأجلناها، وقلنا عمّر الله بغداد، ورحم العباد، وأجارنا من الهجر والبِعاد.

فأقبلت تخطو بجفلة ووجلة، وضحكت على ما بحت كأنّها طفلة.

***

أمين صباح كُبّة

كاتب من العراق صدر له عن دار الرافدين (مقامات إيلاف)

 

تُعتبر موراساكي شيكيبو من أشهر الشخصيات الأدبية في تاريخ اليابان، كما تُعتبر قصتها الأمير جنجي من روائع الأدب الياباني.

قصة الأمير جنجي تعبر عن العلاقات العاطفية المرتبطة بالسياسة، لأن البطل الرئيسي في الرواية، أمير، والشخصيات الثانوية أيضا من البلاط الإمبراطوري في اليابان في ظل حكم أسرة هييان(794ــــــ1185م).

و موراساكي" ابنة رجل سياسي كبير، وخدَمتْ في بلاط الإمبراطور سيوزي، لذلك خبرتْ عن قرب البلاط الإمبراطوري، وكتبتْ عن ذلك بتفصيل وحميمية في روايتها حكاية جنجي "( قصة الحضارة،اليابان، ص 103)..

توفيتْ والدتها وهي تزال صغيرة، فتزوج أبوها للمرة الثانية! تزوجت موراساكي من فوجيوارا نوبوتاكا عام 998م وهو مسئول سياسي كبير، لكنه كان يكبرها سنا، وبعد عامين من ذلك الزواج توفي زوجها فترملت وهي لا تزال في ربيع الشباب !.. وبسبب مواهبها دخلتْ موراساكي القصر الإمبراطوري وهي أرملة لخدمة إحدى بنات البلاط..

كانت تكتب الشعر، وتقرأ في الكتب الكلاسيكية الصينية (باللغة الصينية) وتلتزمُ بالبوذية وقيمها في حياتها اليومية! وفي البلاط الإمبراطوري اقتربت أكثر من الصراع السياسي حول توريث العروش الذي يتقاطع مع العلاقات الغرامية ورغبات الأباطرة والسياسيين وزوجاتهم !..

ورواية جنجي ضخمة تتجاوز صفحتها ألف صفحة كُتبتْ باللغة اليابانية القديمة، وتُرجمت فيما بعد الى اليابانية المعاصرة كما عرفت طريقها الى اللغات العالمية منذ سنة 1925 كالانجليزية والروسية والفرنسية والعربية والاسبانية ...

ويعتبرها الكثير من النقاد المعاصرين في اليابان وفي العالم أول رواية في العالم (وفق المعايير الغربية) إذ سبقت رواية دون كيخوت بأكثر من خمسه قرون!..

وجنجي بطل الرواية تتقاطع حياته مع الكاتبة موراساكي اذ توفتْ والدته، وهو لا يزال طفل صغير!.. "ونرى الكاتبة السيدة موراساكي تقص لنا مغامراته بالتفصيل على نحو تحس فيه بفرحها برواية قصته، ملتمسه له ولنفسها العذر التماسا رقيقا" (قصة الحضارة، اليابان، ص103)..

وكان للرواية تأثير كبير وعميق في تطور النثر الياباني وما زالت حتى اليوم تُستلهم من طرف الكتاب والفنانين والمخرجين في اليابان...

ويرى مؤرخ الحضارات الكبير ويل دويرانت أنه "لم يُنتج في القصة ما يوازي بروعته قصه جنجي آو ما يساوي هذه القصة في مبلغ تأثيرها على تطور اللغة تطورا أدبيا"(قصة الحضارة، اليابان، ص103).

***

عبد القادر رالة

افتتح رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الأربعاء الماضي، معرض العراق الدولي للكتاب، الذي يُقام بنسخته الخامسة على أرض معرض بغداد الدولي، وتجول السوداني في أرجاء وأجنحة المعرض، واطلع على مشاركات دور النشر والمؤسسات الثقافية العراقية والعربية والأجنبية، حيث أكد دعم الحكومة للحراك الثقافي، ونتاجات المثقفين العراقيين، وكل ما يصبّ في تعزيز مناهل المعرفة والاطلاع لدى الجمهور العراقي، المعرض يستمر لغاية 14 كانون الأول الجاري، وبمشاركة واسعة ضمت أكثر من 350 دار نشر عربية وأجنبية، إلى جانب دور النشر العراقية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ومنهاج المعض سيضم فعاليات واسعا ومتنوعا يضم نقاشات وحوارات فكرية واجتماعية وثقافية إضافة إلى مجموعة فعاليات فنية وقراءات شعرية خلال أيام المعرض ما يعكس اجواء ثقافية مبهجة،

لا تزال العلاقة بين الكاتب والقارئ معقدة وشائكة، وتحتاج للكثير من الدراسات والمقاربات، وذلك من أجل معرفة مكامنها ومخزوناتها الدلالية والبنيوية التي تشكلت وتمظهرت خلال كل تلك القرون الطويلة من مسيرة الكتابة الإبداعية، العلاقة الجدلية والمدهشة بين الكاتب والقارئ، بعد التخلّص طبعاً من مخاتلات وتأثيرات النص، مسألة قديمة - حديثة وقضية عميقة متجددة.

الكتابة والقراءة، علاقة ثنائية تلازمية، تتشكّل وتتكوّن من عدة ألوان ومستويات وتمر بمراحل مختلفة ومتعددة، الكاتب هو من ينسج النص ويُدحرجه لعقل القارئ، لتبدأ تلك العلاقة التشاركية التكاملية بين طرفين لا يمكن التنبؤ بشكل ومستوى التواصل المعرفي والكيميائي بينهما.

وكما هو معروف فإن لكل كاتب قارئه المتخيل، تماماً كما لكل قارئ كاتبه المتمثل، وبعيداً عن النص والحالة، والزمان والمكان، والرقيب والظرف، وكل أدوات ومعدات الفعل الكتابي التي تؤثر كثيراً على قواعد "اللعبة الكتابية"، يستمر التنافس على أشده بين الطرفين الشريكين: الكاتب والقارئ ، وهل يبحث القارئ عن كاتب يُجيب عن أسئلته أم عن كاتب يولّد الأسئلة ليُجيب عنها هو؟، وهل يخاف الكاتب من قارئه الشبح أم يعتبره الشريك المعين الذي يحمل معه طموحاته ومعاناته؟، وهل يُمارس الكاتب حرفته بحثاً عن كسب إعجاب واستحسان القارئ أم يكتب من أجل إرضاء غروره ونرجسيته؟، وهل علاقة الكاتب بالقارئ ممتدة ومتصلة، أم هي مرتبطة ومعلّقة باكتمال النص؟ تساؤلات تنتظر من يجيب عليها؟

يقول الكاتب والأديب المصري الشهير توفيق الحكيم "1898 - 1987 "أريد من قارئي أن يكون مكملاً لي، لا مؤمناً بي، لقد مرت العلاقة بين الكاتب والقارئ بمراحل وتطورات كثيرة وكبيرة، ولكنها لم تفقد رغبتها الملحة بالشراكة والتكامل. نعم، هي تتعرض الآن لتحولات وتحديات مثيرة بسبب سيطرة وهيمنة وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها رغم كل ذلك أثبتت دائماً أنها علاقة وطيدة وعضوية، وقادرة على التشكّل والتلوّن، لأنها علاقة أزلية وحتمية

***

نهاد الحديثي

 

يمثل الابداع الفني والتشكيلي منه بالخصوص مجالا من مجالات التعبيرية البينة والعالية عن تلك الأحلام والهواجس والرغبات الكامنة في الذات الانسانية حيث القول بالذاكرة الدفينة والمستبطنة لاعتمالات الفنان لكونه الرائي تجاه ما يغفل عنه الآخرون أو لا ينتبهون له وفق ايقاع مجتر ساحق للتفاصيل الدالة والأشياء العميقة والعناصر الحية المقيمة في الذوات ..

ومن هنا نلمس هذا الذهاب الفني الجمالي تجاه ما يستنهض الانتباه الى ما به يقوى الانسان حين تختلط عليه وأمامه الأحوال والمشاهد والأصوات والحركات.. انها لعبة الفن الجميلة الواعية والأنيقة في دلالات سياقاتها ومساراتها في عالم معولم يستوجب النظر الى الذات في صفائها وبهائها .. وهنا ليس ثمة أفضل من تلك النظرات القائلة بالبراءة والحلم والبهجة والحب والجمال ..لأجل التحليق...و الطيران ..سموا وعلوا وتخففا من أدران الواقع وملابساته وضجيجه وهيجانه الرجيم قتلا للجميل والنبيل والحالم في ذات هذا الانسان...انسان اليوم..684 sabra faraj

وهكذا ولهذا.. تأخذنا الفنانة التشكيلية صابرة بن فرج في ابداعها الفني ضمن رسوماتها ولوحاتها التشكيلية قولا بهذه الطفولة والحلم وما هو سحر وفاتن من عوالم أخرى ..الى عبارة تشكيلية فيها ذاكرة عالقة بدواخلها حيث الطفلة التي كانت تخط وترسم وتلون على الحائط في خربشات بها ذلك الحلم القديم الذي يقود الى عوالم بها الجمال والسلام والجنان والفرحة العارمة.. بل والطيران في تحليق ملون بين عناصر شتى من أدوات الأطفال ولعبهم ورغباتهم الجمة...صابرة في لوحاتها الفنية على غرار لوحة " الربيع " ولوحة " الأرجوحة " ولوحة " الطاحونة الهوائية " مختلفة الأحجام وبتقنية مختلطة وعلى القماش...تأخذنا الى شواسع فيها بهجة النفس ومتعة النظر وروح الطفولة التي تختزل العالم وما الى ذلك في كثير من جمالية التعاطي الفني رسما وتلوينا ..هي حالة من شاعرية الفن الذي تعمل عليه وضمنه الفنانة صابرة من سنوات وضمن مشاركاتها الفنية في المعارض بل وفي سياق بحثها الابداعي تشكيليا ووجدانيا وانسانيا وفنيا وهنا تدعو الفنانة بن فرج جمهور الفن وأحباء التشكيل الجمالي الى معرضها الفني الشخصي الذي تم افتتاحه عشية يوم السبت 30 من شهر نوفمبر 2024 بحضور جمع من الفنانين التشكيليين والنقاد وأحباء الفنون.. ليتواصل الى غاية يوم 30 من شهر ديسمبر ب" أرشيفارت " بجهة المرسى..

عنوان المعرض لافت ودال وهو جوهر فكرة هذه الأعمال الفنية المقدمة ضمن هذا المعرض وهو "... وسلالم للطيران "..هي بمثابة رحلة جوية تشوفا وعناقا وانصهارا

في شواسع هذا العالم الحالم الذي يستعيد طفولة الأشياء وجنانها وفراديس تفاصيلها الملونة .

و هنا تبرز الفكرة الجمالية وما تحيل اليه هذه التجربة عند الفنانة صابرة من توق لعالم فيه قوة الفن اذ تطغى على السيء والرديء والقبيح انتصارا للفن في أبعاده المختلفة وللانسان في طفولته الباذخة فالخربشات الأولى على جدران المنازل هي خربشات الروح التي تكبر وتفشي أسرار بهائها في الأرجاء نحتا للقيمة وقولا بالسحر والجمال في عنفوان من الشعور والخيال والموسيقى الطالعة في العمل الفني بين الرسومات وتلويناتها في هرمنة وتناسق أنيقين أناقة فن صابرة وفق سفر نحو آفاق بها الخضرة والطيور والسمكات الطائرة وما هو مجال فاتن لكي يسرد الأطفال حكاياتهم اليانعة حيث الطفلة في هذه الحالات من الجمال بين الأرجوحة والنواعير واللعب ترقب هذه العوالم بعينين من أمل وجمال وحلم ... حلم مزركش وفضاء ملون بما فوق واقع الحال..

فن بما هو عالم بأسره حيث الذات الفنانة في حوارها المخصوص تجاه الذات والآخرين والعالم في ضروب من التقصد والتشوف والحلم أمام عالم بتبدلاته القديمة والحديثة اذ تبرز العناصر والأشياء كينابيع لتوليد الرؤى والأفكار وما به تسعد الذات وهي في جوهر اشتغالاتها الانسانية والوجدانية والجمالية بكثير من حرقة النظر والسؤال ... والقلق المبين.

انها لعبة الفن الدالة الى الدواخل وهي تزخر بالرغبات الجامحة حبا في القول والافصاح وفق تعبيرية تنحت من ظاهر التفاصيل حوارا ملونا بممكنات الفن من تلوين ورسم مثلما تملي علينا هذه التجربة التي نحن بصددها والقائلة بالابداع الفني في رصد الأحوال على هيئاتها الشتى حيث الفكرة وتقاطعات التعاطي معها لينتهي الأمر الى ما يشبه سحرا سرديا ديدن الذات المنتجة له الذهاب بعيدا في دروب الفن وبخصوصية وتفرد هما العنوان المشتغل ضمنه والمبحوث عنه ليصار الى حلم مفتوح...

هكذا هي الممارسة الفنية التي نظرت الى بعد من أبعادها وفي زاوية من زواياها المتعددة فنانة عملت من سنوات وضمن شغفها الفني المأخوذ بالرغبة في الابتكار والبحث الدائم ليصير العمل الفني عبارة الذات .. ذات الفنانة وهي في عنفوان اشتغالها على بهائها التشكيلي المتقصد والموزع على أعمالها الفنية المنجزة من

ولع فني وذهاب ضمن الآفاق الجمالية تجاه الطفلة حيث المسافات الملونة بين الذكرى والاستعادة والحلم في كون يمضي من الذات ليعود اليها في تجواله مع الآخرين..

"...و سلالم للطيران " رحلة فسيحة النظر الجمالي والأحلام اليانعة والطفولة الباذخة وغيرها من تعبيرات الفن في مواجهة السقوط والتنميط والفراغ..انه الفن يحلق عاليا وبعيدا وفق بوصلة الذات الضاجة بالحياة في عالم الحروب والدمار والتداعيات المريبة..هكذا تخيرت صابرة الفنانة المجتهدة نهجها الفني وخلال هذا المعرض الشخصي قولا بالقيمة وتأصيلا لكيان مبعثر يحتاج طفولة وحلما لترميمه .

معرض وتجربة متميزة للفنانة صابرة بن فرج وفق عوالم بروح فنية فيها من عالي التقنية والتعبيرية والاحساس الكثير.. ويتواصل هذا النشاط الفني التشكيلي الى غاية يوم 30 من شهر ديسمبر 2024 وذلك ب" أرشيفارت " بجهة المرسى..

***

شمس الدين العوني

 

عندما يُذكر امامنا الشعر الحر في بلدان العرب، تطوف في اذهاننا صور نازك الملائكة والسياب والبياتي. ونعرف جيدا ان السياب مات على سرير المرض في الكويت، والبياتي دفن في سوريا، ومصر احتضنت قبر نازك الملائكة، واذا أردت المزيد ستجد الجواهري الكبير بعيدا عن دجلة الخير في مقبرة الغرباء في دمشق. وقريبا منه مصطفى جمال الدين عاشق بغداد الذي تمنى لها عمرا اخضر تواجه به الاعاصير، فيما يرقد بلند الحيدري وسعدي يوسف في احدى مقابر لندن، وهناك قبور في الغربة لفوزي كريم ومؤيد الراوي، وسركون بولص ولميعة عباس عمارة وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، وتحتضن مقبرة الشهداء الفلسطينيين في بيروت قبر عراب الكتابة الصحفية شمران الياسري .

في السنوات الاخيرة تحاول بغداد ترميم ذاكرتها الثقافية مدينة سكنية باسم الجواهري، شارع باسم ابو كاطع، ومجسر فائق حسن ونصب في شارع السراي لأبرز اعلامها " نازك الملائكة " الشاعرة التي عاشت وماتت وهي تنتمي إلى فكر وثقافة مضادة لاثنين، التخلّف ودعاة الوطنية الزائفة . لم يسهم احد مثلما فعلت نازك الملائكة في فرض التجريب الشعري الذي عرف بالشعر الحر على خارطة الادب العربي. فقد كانت اول من كتب ونظر له، فارتبط باسمها لانها ابدعت ودافعت عنه. كانت حجر الاساس في تشكيل ظاهرة ادبية. وكان لها شرف الريادة ببلورتها لنظرية شعرية حديثة وايضا ثورة اجتماعية لم يكن بامكان امرأة غيرها ان تكتب في منتصف الاربعينيات قصيدة تندد فيها بازدواجية المعايير بالنسبة للمرأة في مجتماعاتنا، فكانت قصيدتها " غسلا للعار " نص من نصوص المقاومة في سبيل تحرير المجتمع كاملاً :

ياجارات الحارة .. يا فتيات القرية

الخبز سنعجنه بدموع مآقينا

سنقص جدائلنا وسنسلخ ايدينا

لتظل ثيابهم بيض اللون نقية

لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة. فالمدينة

ترقبنا في قبضة والدنا واخينا

وغدا من يدري أي قفار

ستوارينا غسلا للعار

عاشت نازك الملائكة حياتها مثل دون كيشوت تحارب طواحين الجهل والموت، لكنها في النهاية مثل بطل سيرفانتس استسلمت بعد أن وجدت نفسها وحيدة، يحيط بها صمت دائم .. المرأة التي فتحت أبواب الحداثة الشعرية، أمضت سنواتها الاخيرة منزوية، توغل في الصمت، وسيتآمر عليها العمر والمرض لتسقط في العشرين من حزيران عام 2007 بعيدة عن بلادها التي احبتها وتمنت ان تستند في ايامها الاخيرة على اسوارها .

تنتبه بغداد اخيرا لنازك الملائكة، نصب في السراي ومكتبه في القشلة، ينبهان الاجيال القادمة أن في هذه البلاد عاشت امرأة عراقية كانت جريئة ومحبة سيكتب لها ولذكراها البقاء.

***

علي حسين

كلما حلت بالأمة العربية كارثة او مرت عليها ذكرى كارثة وقرأت او سمعت او شاهدت بهذه المناسبة مظاهرة او مسيرة محروسة من جميع الجهات لأنها عفوية يتقدمها صف من وجهاء واعيان القضية يسيرون معبرين بوجوههم المقطبة المتجهمة عن ذكرى العار القومي او يوم الحداد العالمي دون ان تنزل من عين أي منهم دمعة واحدة سرعان ما اتلمس ما تبقى من شعري وانا أتسائل عما اذا كانت هناك علاقة بالفعل بين الرعب والاهوال والمفاجئات وبين نمو الشعر؟ لأنه اذا كانت مثل هذه العلاقة موجودة فعلاً فمعنى ذلك انه لن ينقضي العام الأول من الثمانينات الا وأكون مثل "بول بريمر" تماماً وفيما كنت اشير تحت المطر لأي سيارة تاكسي لكي تنقلني الى أي مكان في هذا الليل البهيم واذا بشاعر تقدمي يبرز لي من الضباب ويبادرني بلهفة... أين انت يا رجل؟ عندي حفلة تعارف صغيرة في البيت وحبذا لو تقبل دعوتي.

قلت مستغرباً ...من الحضور؟

قال: وفد صداقة من الدول الاشتراكية ويسعدني ان تتعرف اليهم.

قلت: آسف.

قال: ولكن هناك الكثير من الفودكا والعشاء "فيليه" من فخذ الغزال جئت به خصيصاً من أعماق السهول الروسية.

قلت: تقصد انه غزال تقدمي؟

قال ضاحكاً، تقريباً.

قلتُ: حسناً لن اذهب ولو كان العشاء فيليه من فخذ بريجنيف.

قال: اهو موقف؟

قلتُ: ابداً كل ما هنالك اني لبيت دعوة من هذا النوع من قبل واقسمت ان لا اعيدها اذ شربنا نخب كل الأحزاب والقوى والتجمعات التقدمية في اوروبا وأمريكا.

حتى جاء الخبز والملاعق ونخب كل الثورات في اسيا وافريقيا وحتى جاءت السلطة وهذا كان منذ سنتين فما بالك الان والعالم يبيض ثورات؟

قال: لا...لا انت غاضب لسبب اخر، رفع العلم الإسرائيلي في سماء مصر، لا تحزن يا صديقي ولا تتشاءم، اتفاقيات كامب ديفيد ونظام السادات والحلف الامبريالي كله سيسقط.

قلت بلهفة: كيف؟

قال بإرادة الشعوب وقواها التقدمية وسوف تعود فلسطين الى أهلها

قلت: اليس هو الشعار المطروح منذ عام 1948 قبل الميلاد؟

قال: نعم

قلتُ: في هذه الحالة ارجو ان تبلغ صديقي الشاعر يوسف الخطيب ان لا يوجه لي الدعوة لتناول الغداء في يافا او حيفا كما فعل صبيحة حرب حزيران

قال: بل ستحضر وتكون في طليعة المدعوين

قلتُ: لا احب الظهور واذا كان لا بد فسأجلس على طرف المائدة

قال منشرحاُ: والان ما علينا الا دعم وتأييد التدخل السوفييتي في شؤون أفغانستان بناء على طلب حكومتها لان القضية العربية مربوطة جدلا بما يجري في أفغانستان وهذا تعليق لكاتب تقدمي إنكليزي مصداقا لما تقول وبعد ان القيت التعليق دون ان انظر اليه، تقدم ومن خلال الضباب أيضا طليعي اخر وبادرني معاتبا" رأيتك تتحدث مع واحد من جماعة موسكو وهم مشبوهون ومرتهنون لاي نظام والماركسية اللينينية منهم براء فللوقوف في وجه الامبريالية أعدموا ملايين الفلاحين في بداية الثورة لياكلوا خبزهم في نهايتها من حقول الامبريالية وبالرجاء والتوسل وهذا كتاب لريجيس دوبريه يؤيد هذه المقولة من اول سطر، وما ان اتبعت الكتاب بالتعليق الذي سبقه حتى برز لي من الضباب أيضا ناقد متطرف وقال: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة "ماو" انهم منحرفون مزيفون للعقيدة الماركسية اللينينية. لقد ابادوا العصافير في بلادهم ليتحولوا هم الى عصافير على اغصان الامبريالية وكل ما يفعلونه الان هو الزقزقة عن الاشتراكية وهذه مقابلة مع رودنسون تفضح اكاذيبهم وعمالتهم.

 وما كاد ينصرف حتى كنت وجها لوجه مع من اقصى أقصى اليسار وقد بادرني مزبدا مرغيا: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة تروتسكي وهي جماعة منقرضة ومشكوك بأمرها منذ زمن بعيد وعليك ان تنتظر نهايتهم جميعا

قلت: لم يعد عندي جلد حتى لانتظار باص

قال: ان ما يحتاجه العالم الان هو يسار يكتسح الأخضر واليابس وهو في طور التكوين فكل الشارع العربي يساري

قلت: نعم الشارع يساري والازمة يمينية

قال: انت مضلل ومسكين وبحاجة الى من يرشدك ويحميك . هل تنظم الينا؟

قلت: ابعدني عن السياسة ارجوك

قال: حسنا هناك لجنة أدبية وليست سياسية للدفاع عن حرية الكاتب العربي وهي يسارية. ما رأيك؟

قلت: لجنة يسارية تنبت هكذا فجأة للدفاع عن الكاتب العربي، عن الفلاح العربي، عن الكندرجي العربي لن انتسب اليها قبل ان اعرف بالضبط كم عدد أعضائها وكم دولارا رأسمالها

فصرخ مزمجرا. أمريكا. أمريكا..اللعنة على أمريكا انها وهم. انظر ما جرى ويجري لها في ايران وأفغانستان والسلفادور وبوغوتا على ايدي شعوبها ونحن جزء من هذا العالم المتفجر وعليك " شئت ام ابيت" ان تنتظر الثورة العربية الشاملة.

قلت مذعوراً: تقصد ان الثورات التي مرت علينا كانت " أكل هواء" مقدمات وان الضربة الكبرى لم تأتي بعد؟

 قال : طبعاً ان الماركسية اللينينية ستنتصر وسوف تحقق الرفاه المبرمج والتوازن بين الدخل والانفاق والانفاق الإنتاج لان راس المال...

قاطعته متوسلاً... وانا اهم بالانصراف.." اخي امنوا لي خبزاتي ودخاناتي كل يوم وصندلين لولدي كل سنتين وانا ممنون شوارب ماركس ولينين وانغلز واسبارتاكوس".

...................................

عبد الرضا حمد جاسم

من كتاب سأخون وطني لمحمد الماغوط

 

اسمي "أكسيل" وُلدتُ لعائلة أمازيغية أباً عن جَدْ، نعيش شمال ِإفريقيّة منذ سالف الزمان أنا وعشيرتي. كنّا نعيش في سلام ووئام إلى أن أتى سكان الضفة الأخرى للبحر المتوسط، عندها قُلبت حياتُنا رأسا على عقب، تغيرت عاداتنا وأساليب حياتنا طُمست هويتُنا وأصبحنا نسخة مصغرة عن سكان الضفة الأخرى.

بعد سنوات من الترحال والتنقل الدائم قررنا أخيرا الاستقرار في مكان يسمى شمال إفريقيا إنها منطقة تقع في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط أطلق عليها فيما بعد قارة إفريقيا. في البداية واجهنا صعوبات عدة في الاندماج مع المحيط الخارجي لذلك حرصنا على إيجاد حلول للصمود أمام وحشية الطبيعة فتعلم الرجال صيد مخلوقات الغابة لنأكلها وطوروا من طرق الصيد حتى نكون في مأمن من تلك الكائنات ففي أول لقاء بها أصابت العديد من الرجال بجروح وقَتلت البعض الأخر لذلك قررنا استعمال طرق أخرى للصيد تكون ناجعة أكثر فاستغنينا عن القتال المباشر معها وأصبحنا نستعمل نوع من الحجارة المصقولة وجدناها مصادفة على شاطئ البحر كنا نربط هذه الحجارة على الأعواد ونستعملها كسلاح أطلق عليها فيما بعد بالرمح في حين تعلمت النساء صنع ملابس لِتقينَا برد الشتاء، حسنا ليست الملابس التي ستكون في عصركم عندما تقرؤون المخطوط بل ملابس بدائية لشعب يعيش في تجاويف جبلية بقينا على هذا الحال مدة لا أعلمها ثم قررنا أخيرا الخروج من الكهوف والانتقال للعيش على ضفاف المتوسط وبعد عدة محاولات اكتشفنا أخيرا طريقة لصنع أكواخ صغيرة باستخدام سيقان النباتات والقش لكن سرعان ما أدركنا أنها لن تصمد طويلا أمام وحشية الشتاء لذلك عملنا على تطويرها فاستعملنا مادة أخرى تشبه التربة ولكنها إذا مزجت بماء البحر تصبح طرية بعض الشيء وتستطيع التحكم فيها وإذا جفت تصبح صلبة كجدران الكهف لذلك اعتمدناها في بناء أكواخنا فتلك الكهوف التي كنا نعيشها، سكن فيها أجدادنا القدامى منذ غابر الزمان ولزالت صامدة حتى الآن.

حقا إنه لعجيب أمر هذا الكون، أحيانا تشعر وكأن كل موجوداته مسخرة لخدمتنا نحن بنوا البشر، كانت إفريقية تحبنا ونحبها نحرثها ونزرعها وتدر علينا من خيراتها وفواكهها دون توقف طالما اعتبرناها مكانا مقدسا ومباركا من الآلهة.

مع مرور الزمن اصبح بنوا جنسي مبدعين في صناعة الأواني والتماثيل الطينية فقد تعلمنا جيدا كيفية تشكيله فصنعنا منه العجبَ حتى أننا كنا نصنع آلهتنا منه أي أننا كنا نصنع تماثيل مختلفة منها ما هو على شكل إنسان ومنها ما هو مزيج بين الإنسان وبقية المخلوقات الأخرى ثم تتم عبادتها، لكنني حقيقة لم أكن مثلهم فأنا لا أسطيع الركوع لمخلوق أنا بخالقه، كنت أؤمن في قرارة نفسي بأن هناك قوة خفية أو شيئا ما لا اعلم ماهيته هو خالق الكون وكل الموجودات. كنت في بداية الأمر أعتقد أن الآلهة تجسدت في هيئة النار فمنذ اكتشافنا لها وأنا منبهر بقدراتها فهي في نظري التي بيدها مفاتيح الحياة، لقد رأيت بنفسي قدرتها على إحياء من تريد وقتل من تريد، إن فصل الشتاء بالنسبة لنا فصل الموت، ففيه يموت العديد من الناس إما بسبب المرض أو البرد ومع ظهور النار أصبحت هي من تقينا برد الشتاء، ولكنها حين تغضب علينا تحرقنا بلهبها، لذلك كنت اعتقد أنها جديرة بالعبادة لكن بمرور الوقت اكتشفت أنها مائلة للزوال، فذات يوم غضبت علينا غضبا شديدا أحرقت فيه معظم منازلنا التي صنعناها من القش قبل اكتشافنا للطين واحرقت الأشجار وكل الموجودات لقد حاصرتنا من كل مكان لم يبق شيء إلا وطاله لهيب النار كان ذلك اليوم الجحيم بعينه صراخ يسمع من كل الجهات الكل يحمل اغراضه ويركض، تشعر وكأن قوة خارقة تحاصرك من كل مكان وتبتلع كل ما يعترضها، عندما وصلنا ضفة البحر كان المنظر خلفنا مخيف كيان ضخم من النار يلتهم كل ما يعترضه حتى وصل للبحر كنا نظن أنها النهاية وسنلقى مصيرنا المحتوم هنا لكن فجأة نزلت مطر من السماء بغزارة أطفئت النار ! نعم لقد انهزمت النار أمام المطر فأيقنت حينها انها غير جديرة بالعبادة فهي فانية فرفعت رأسي يومها للسماء وقلت أن المطر هي احق بالعبادة فهي من حماني من لهيب النار انا وقبيلتي ولكن لم تمر مدة من الزمن آلا وتوقفت المطر عن النزول فأيقنت انها هي الأخرى زائلة وتخضع لقانون موضوع من قبل طرف قوي بيده كل شيء، لذلك قررت عبادة خالق الأكوان خالق النار والماء الشمس والقمر.

***

آمنة المسلمي - تونس

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في خطاب قبوله لجائزة نوبل، أكد سول بيلو أن "الفن وحده هو القادر على اختراق الحقائق الظاهرية لهذا العالم. وهناك حقيقة أخرى، الحقيقة الحقيقية، التي نغفل عنها. وهذه الحقيقة الأخرى ترسل إلينا دوماً تلميحات، والتي لا نستطيع أن نستقبلها من دون الفن". وقد ألقى بابلو نيرودا الضوء على هذه الفكرة من زاوية أخرى في استعارته الرائعة عن السبب الذي يجعلنا نبدع الفن، لكن الأسئلة حول ما يدفع الفنانين للوصول إلى ذلك الواقع الآخر وكيف يقومون بذلك تظل واحدة من أعظم الألغاز في التجربة البشرية.

لم يتناول أحد هذا اللغز الثابت برؤية أكثر عمقًا من فرجينيا وولف (25 يناير 1882 – 28 مارس 1941). في إحدى الفقرات الأكثر إثارة للإعجاب التي كُتبت على الإطلاق، والتي توجد في كتابها لحظات الوجود (مكتبة العامة) — المجموعة الرائعة التي نُشرت بعد وفاتها والتي تضم الكتابات الذاتية الوحيدة لوولف — تتأمل في ما جعلها كاتبة وتلقي نظرة على جوهر الآلية التي نطلق عليها الفن.650 virginiawoolf

تكتب وولف:

كطفلة، كانت أيامي، تمامًا كما هي الآن، تحتوي على نسبة كبيرة من هذا القطن الوهمي، هذا الوجود غير الحقيقي. كان الأسابيع تمر في سانت آيفز دون أن تترك أي أثر عليّ. ثم، بدون سبب أعلمه، حدثت صدمة مفاجئة وعنيفة؛ كان هناك شيء حدث بعنف لدرجة أنني تذكرتها طوال حياتي. سأقدم بعض الأمثلة. الأول: كنت أتشاجر مع ثوبي [أخ وولف الأكبر] في الحديقة. كنا نتبادل اللكمات بأيدينا. في اللحظة التي رفعت فيها يدي لضربه، شعرت: لماذا أؤذي شخصًا آخر؟ خفضت يدي على الفور، ووقفت هناك، وتركته يضربني. أتذكر الشعور. كان شعورًا بالحزن اليائس. كأنني أصبحت واعية لشيء مروع؛ ولقوة عجزى الخاصة. انسحبت وحدي، أشعر بالكآبة الشديدة. المثال الثاني كان أيضًا في حديقة سانت آيفز. كنت أنظر إلى سرير الزهور بجانب الباب الأمامي؛ قلت: "هذا هو الكل". كنت أنظر إلى نبات بأوراق منتشرة؛ وفجأة بدا واضحًا أن الزهرة نفسها كانت جزءًا من الأرض؛ أن حلقة تحيط بما كان الزهرة؛ وأن ذلك كان الزهرة الحقيقية؛ جزء من الأرض؛ جزء من الزهرة. كانت فكرة وضعتها جانبًا باعتبارها ستكون مفيدة لي لاحقًا. الحالة الثالثة كانت أيضًا في سانت آيفز. كان بعض الأشخاص الذين يُدعون فالبى قد أقاموا في سانت آيفز، وغادروا. كنا ننتظر على العشاء ذات ليلة، وعرفت بطريقة ما أن والدي أو والدتي قالا إن السيد فالبى قد انتحر. التالي الذي أتذكره هو أنني كنت في الحديقة ليلاً وأسير على الممر بجانب شجرة التفاح. بدا لي أن شجرة التفاح مرتبطة برعب انتحار السيد فالبى. لم أستطع المرور بجانبها. وقفت هناك أنظر إلى تجاعيد اللحاء الرمادي-الأخضر — كان ذلك في ليلة مضيئة بالقمر — في حالة من الرعب. بدا لي أنني أُسحب إلى أسفل، بلا أمل، إلى بئر من اليأس المطلق الذي لا أستطيع الهروب منه. بدا جسدي مشلولًا.

كانت هذه ثلاث حالات من لحظات استثنائية. غالبًا ما أرويها، أو بالأحرى، تبرز إلى السطح بشكل غير متوقع. ولكن الآن، بعد أن قمت بكتابتها لأول مرة، أدركت شيئًا لم أدركه من قبل. انتهت اثنتان من هذه اللحظات في حالة من اليأس. بينما انتهت الأخرى، على العكس، في حالة من الرضا. عندما قلت عن الزهرة "هذا هو الكل"، شعرت أنني قد قمت باكتشاف. شعرت أنني قد خزنت في ذهني شيئًا يجب أن أعود إليه، لأدور عليه واستكشافه. يبدو لي الآن أن هذه كانت فرقًا عميقًا. كان الفرق، في المقام الأول، بين اليأس والرضا. أعتقد أن هذا الفرق نشأ من أنني كنت غير قادرة تمامًا على التعامل مع ألم اكتشاف أن الناس يؤذون بعضهم البعض، وأن شخصًا رأيته قد انتحر. لقد أوقفني الشعور بالرعب، ولم أكن قادرة على التصرف. لكن في حالة الزهرة، وجدت سببًا؛ وبالتالي كنت قادرة على التعامل مع الإحساس. لم أكن عاجزة. كنت واعية — وإن كان ذلك عن بُعد — أنني سأفسر ذلك في الوقت المناسب.

تجادل وولف أن مصدر الدافع الإبداعي يكمن في الفرق النوعي الحاسم بين التجارب التي أدت إلى اليأس وتلك التي أثارت الرضا:

"كلما تقدم الإنسان في العمر، يكون لديه قدرة أكبر من خلال العقل لتقديم تفسير؛ وهذا التفسير يقلل من قوة الصدمة. أعتقد أن هذا صحيح، لأنه رغم أنني ما زلت أملك الخصوصية التي تجعلني أتلقى هذه الصدمات المفاجئة، إلا أنها الآن دائمًا ما تكون مرحب بها؛ بعد المفاجأة الأولى، أشعر دائمًا على الفور أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا أذهب إلى افتراض أن القدرة على استقبال الصدمات هي ما يجعلني كاتبة."

على نحو ملائم، حوّلت وولف هذه الرؤية في وقت لاحق إلى سطر جميل في روايتها مدام دالوواي: "إن التعويض عن التقدم في السن هو أن المشاعر تظل قوية كما كانت دائماً، ولكن المرء يكتسب ـ أخيراً! ـ القوة التي تضيف النكهة العليا للوجود، ـ قوة الاستيلاء على الخبرة، وتحويلها ببطء، في ضوء النهار". ولكنها هنا تواصل البحث بشكل أعمق عن مصدر هذا النشاط الزلزالي للروح:

"أجازف بالتفسير بأن الصدمة في حالتي تتبعها فورًا الرغبة في تفسيرها. أشعر وكأنني تلقيت ضربة؛ لكنها ليست، كما ظننت في طفولتي، مجرد ضربة من عدو مخفي خلف قطن الحياة اليومية؛ بل هي، أو ستصبح، كشفًا من نوع ما؛ إنها علامة على شيء حقيقي خلف المظاهر؛ وأجعلها حقيقية من خلال وضعها في كلمات. فقط بوضعها في كلمات أجعلها كاملة؛ وهذه الكمالية تعني أنها فقدت قدرتها على إيذائي؛ وتمنحني، ربما لأنني بذلك أزيل الألم، سعادة كبيرة في جمع الأجزاء المفصولة. ربما تكون هذه أقوى متعة معروفة لي. إنها النشوة التي أشعر بها عندما أكتشف أثناء الكتابة ما ينتمي إلى ما؛ عندما أجعل المشهد صحيحًا؛ وعندما أجعل الشخصية تتماسك.

تنهي وولف بتلخيص رائع لفلسفتها الشخصية — وهو التعبير المباشر الوحيد لها الذي يظهر في أي من كتاباتها:

"من هذا، أستنتج ما قد أسميه فلسفة؛ على أي حال، إنها فكرة ثابتة لدي؛ أن خلف القطن الوهمي يوجد نمط مخفي؛ أننا — أعني جميع البشر — مرتبطون بهذا النمط؛ أن العالم كله هو عمل فني؛ أننا أجزاء من هذا العمل الفني. إن هاملت أو رباعيات بيتهوفن هي الحقيقة حول هذا الكتلة الواسعة التي نطلق عليها اسم العالم. لكن لا يوجد شكسبير، ولا يوجد بيتهوفن؛ وبالتأكيد وبشكل قاطع، لا يوجد إله؛ نحن الكلمات؛ نحن الموسيقى؛ نحن الشيء ذاته. وأرى هذا عندما أتعرض لصدمة."

(انتهى)

***

....................

الكاتبة: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

محطة من دفتر الذاكرة

لا أغالي ان اعترفت، ان حبك هو الحياة، ان صبرك إكسير الحياة، وأن ضمك لي كل يوم يعيد لي الحياة.

سفرتي هذه في طريق العودة إلى وطني السويد من ساحل الشمس على متن الطائرة الإسكندنافية البيضاء ألهمتني الكتابة فوق السحاب وعلى علو شاهق بعيد عن الأرض ومشاكلها من حروب وخصام وبشر جاحدون وعلى صهوة هذا الجواد الحديدي. قارئي الكريم، الكتابة متعة غير اعتيادية خاصة على متن طائرة تجوب بينً الغيوم سابحة ففيها ترى الغيوم بأشكالها وألوانها متجمعة تحت هذا الغول المارد الحديدي التي يسمى طائرة نفاثة والتي تزن آلاف الأطنان وهي تطير كالطير وقد أفردت جناحيها فوق السحب عابرة القارات والمحيطات دون أي عايق أو مانع.

رغم أني أسافر مرات عدده كل عام ومنذ اكثر من نصف قرن فلا زلت أعاني من صعوبة النوم ليلة قبل السفر حيث استيقظ مرات عدده منً جراء حلم رأيت فيه نفسي باني تأخرت عن موعد السفر او حتى ضاع مني شيئا ما وطبعا مع مرور قطار العمر بدأ ذاكرتي القريبة تذبل كأنها ذاكرة الأسماك اليابانية البرتقالية حيث أنسى دوما شيئا ما في البيت رغم أني أحاول ان أفكر جبريا وحسابيا وأراجع كل صغيرة وكبيرة في قائمة أعددتها لهذا الغرض حيث اعد حقيبتي وأدقق وثائقي لكني اعترف لكم باني أنسى دوما احد التفاصيل الصغيرة. ولا اخبر الكثيرين بموعد سفري لان أم أطفالي تبقى قلقة لحين وصولي إلى البيت إلا أني أحبذ دوما ان يعرف احد الأبناء او الأصدقاء المقربون بموعد وصولي، فقط. ورغم أني لمً اكن ارغب بالسفر الآن وفي نهاية الخريف تاركا شمس الأندلس البديعة رغم انه موسم الشتاءً على الأبواب وآنذاك لا يتعدى فيه درجات الحرارة ١٧ مئوية ولا تصفر قط أوراق الأشجار بل تبقى خضراء طول العام في حين تنتشر أشجار البرتقال (النارنج)على طول شوارع مدن الأندلس الساحلية وفي غرناطة، قرطبة ، قاديس، المرية والعاصمة إشبيلية ومدن أخرى أقول بان بوادر البرد والأيام الداجية المظلمة في مدن القطب الشمالي تبدّا مع الخريف وتستمر إلى بدايات الربيع حيث يكون النهار قصيرا جدا والظلام الدامس يلف كل شيء والثلوج تغطي كل مكان وحتى الصقيع تنتشر في لياليها لكني أجبرت هذه المرة على السفر لأمرين او ثلاث بالأحرى الأول ابني البكر سيعقد قرانه في مدينة "مالمو " الساحلية والقريبة من مملكة الدنمارك التي تفصلها جسر طويل مع العاصمة كوبنهاغن الذي يصله الزائر بالقطار السريع في دقائق ويجب علي كوالد للعريس ان أحترم تراثي وأعرافي وانً احظر هذه المناسبة المهمة في حياة ابني على أمل ان لا تكرر والأمر الآخر ان امً الأولاد قد أجرت عملية جراحية يستوجب بقائي بجانبها ومساعدتها في أمور المنزل والتي أجيدها نتيجة حياة العزوبية التي طالت اكثر من عشر سنوات.

الأمر الثالث مرتبط بالتطورات السياسية في هذه المملكة والتي بدأت بوادرها منذ سنوات مع صعود وتيرة المنادين بالقومية وبالصفاء العرقي وما يسمى ب النارية الجديدة في السياسة ومحور سياستهم الشعبية تتمركز في العداء لكل اجنبي ولاجئ جاءهم من الشرق. ووصولهم كقوة سياسية عنً طريق الانتخابات أعطى لهم زخما كبيرا ووصلوا إلى تبوء مقاعد في برلمانات دولهم وفي برلمان الاتحاد الأوربي كذلكً. مع وصولهم إلى مواقع القرار في معظم دول الاتحاد الأوربي ومع الأسف كنتيجة مباشرة لتدفق اللاجئين من دول الشرق الحزينة ودور الإعلام في نشر سلوكهم السلبي والجنائي وعدم ملائمتهم لشروط الحياة في الغرب وثقافاتها وأعرافها وما اصطلح بتسميته ب "الصدمة الثقافية" والتي كانت احد اهم أسبابها ارتفاع التوجهات الدينية والاجتماعية والتقوقع حيث أسلوب الحياة الدينية التي فرضت على تلك المجتمعات حتى إذا علمنا ان معظم الدول الأوربية علمانية التوجه ولا تعترف حتى بالدين الإسلامي كدين رسمي على أراضيها بل تترك الشخص حرا في أجراء عباداته وشعائره فلا نجد مثلا دولة أوربية يكون فيها مثلا يوم الجمعة عطلة رسمية . هذا الخط العدائي الذي بدأ يبرز كل يومً اكثر وأكثر وحتى في سنً القوانينً واتخذ قرارات المنع بأنواعه شمل حتى المتقاعدين اللذين أقاموا طول حياتهم في هذه البلاد وأرادوا تحقيق حلمهم الأخيرة في ان يكون خاتمة أيامهم في وطنهم الأم. لكن التغيرات الجديدة التي جاءت مع السياسة التي تتبعها حزب الديمقراطيين السويديين القومية والسلبيةً وانعكاس تلك السياسة على إداء جميع الأحزاب السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف وعلى قوانين وقرارات الحكومة أدى إلى منعهم من البقاء لفترات طويلة خارج المملكة على أساس حصولهم على مساعدات من الدولة قد يستغلها البعض وحدد مدة الإقامة ان لا يزيد ذلك عن ثلاث اشهر. هذا السلاح الجديد الرقابي القسري الذي استخدم في أنظمة غير ديمقراطية من قبل يؤثر سلبا حتى على ملاين من أبناء الوطن الأصليين من المتقاعدين السويديين اللذين اختاروا العيش في دول أجوائها حارة وملائمة لأعمارهم بعد ان شاب المشيب وأدوا واجبهم تجاه وطنهم الأم. الجدير بالذكر ان راتب الشعبي الذي يتقاضاه المتقاعد لا يكفي لدفع إيجار البيت مما يؤدي إلى العيش على معونات الدولة ولا ريب ان العديد من القوانين التي سنت في السنوات الأخيرة تحول المجتمع خطوة بخطوة إلى مخبرين من موظفين دولة يجبرون على إخبار عن وجود المهاجرين الغير شرعيين في البلاد والتبليغ عن هؤلاء ممن رفض طلبات لجوئهم وكذلك الشهادة المجهولة والتي ستؤثر سلبا على عدالة قرارات المحكمة حيث لا يمكن معرفة هوية الشاهد وقد تكون كيدية و بعد ان شدد العمل بالتعليمات الخاصة بالهجرة في البلاد مع العلم بان مئات الألوف من المواطنين اذو الأصول السويدية يهاجرون ويتركون البلاد والولادات منخفضة جدا. في زيارتي الأخيرة وانا اهم بالخروج من قاعة مجيئ الحقائب وقفتني احدى الشرطيات لتسألني؛

- منذ متى وأنتم خارج السويد؟

كانت الصدمة بالنسبة لي شديدة لأني عملت بإخلاص ٣٥ عاما ودفعت الضرائب واحترمت قوانين البلد…. كل عام ولم أتوقع ان اسأل وأنا تجاوزت السبعين هذا السؤل فتلعثمت في الإجابة فطلب مني التنحي جانبا ودخول احد الغرف شعرت كأني مجرم وجاني عمل جريمة بسفره للاستجمام خارج مملكة السويد

ولا يوجد داعي انً اكمل تجربتي الحزينة تلك….

وقد حصل نفس السيناريو مع اخي عند عودته في مطار ستوكهولم. استوقفني هذه المرة وأنا عاود من الأندلس إلى وطني في القطب الشمالي مملكة السويد وأنا جالس في الطاولة احرف ثلاث تدل علىً شركة الخطوط الجوية الإسكندنافية التي تنتمي اليها الطائرة في سفرتي هذه والتي ستستغرق أربع ساعات أي احرف SAS وصولا إلى العاصمة استوكهولم ومن ثم استقل طائرة أخرى إلى مدينة غوتنبرغ حيث ينتظرني سفرة أخرى إلى مدينتي حيث بيتي مدينتي الجميلة يونشولنك وهي ميناء تقع على الضفة الجنوبية من بحيرة فترن الكبيرة والتي تمتد مسافة ١٦٠ كمً شمالا وتعتبر اكبر خزان لمياه الشرب النقي في اوربا حيث يمنع إنشاء المعامل والمصانع على ضفافها وترتبط من الشمال ببحر بلطيق عن طريق قناة مائي يعتبر قبلة للسواح لجمال الأماكن التي يمر فيها السفن الشراعية واليختات الشخصية وتسمى ( يوتا قنال ) ورغم تفاوت ارتفاع الأراضي التي تمر منها القناة فقد عولج ذلك عنً طريق بناء أحواض مائية ترفع اوً تنكس السفن والقوارب واليختات المارة منها ذهابا وإيابا. وقد استغلت شركات صناعة الأفلام السينمائية هذا القناة لتصوير العديد من الأفلام السينمائية.

الخط الزمني الفاصل بين خيال ذلك الكاتب في ألف ليلة وليلة الذي تخيل الغول الذي يخرج من المصباح يطير وعلى ظهره جلس علاء الدين وبين هذه الطائرة التي اجلس فيها واكتب كلماتي هذه ، شاسع والتجربة خيالية الطيران بحد ذاته نراه في مسارها التاريخيّ حلما تكرر . حيث نرى في معظم الحضارات القديمة أن البشر حلموا بالطيران وحتى تخيلوا ان لبعض الحيوانات أجنحة تمكنها بالطيران كالثور والحصان وحتى الفيل وحيوانات أخرى ناهيك عن أنهم تصوروا بان هناك بشر على شكل الله لهمً أجنحة كذلك. لم يتخيل أجدادي باني يوما سأركب هذا الحصان الحديدي وعلى صوت هدير محركاتها اكتب هذه الكلمات لكم باطمئنان وارى قمارة الطائرة وقد جلست وراء مقود القيادة فتاة شقراء جميلة ذكرت اسمها "انجلينا" أي الملاك بالترجمة العربية تحدثت بالإنكليزية ومن ثم باللغة السويدية بنبرات تطرب السامع وهي تتحدث للمسافرين عن برنامج الرحلة وتقدم طاقم الطائرة بأسمائهم في حين تدور حوريتان بأباريق من الشاي والقهوة ، اللتان تقدمان مجاناً ، حول المسافرين وعلى محياهن ابتسامة وبريق ازرق مائل إلى الرمادي في أعينهن وذاك قلما نجده ونحن نتجول في شوارع مدن الشرق مع الاعتذار ل الشاعر جرير والقائل    :

إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا

اعتذرت متأسفة الشقراء، قائدة الطائرة لاحقا من المسافرين عن طريق البث راديو الداخلي لأنها ستتأخر في الهبوط من موعدها المحدد بخمسة دقائق لأننا في واقع الحال بدأنا الرحلة متأخرين من موعد إقلاع الطائرة بقليل ما يلفت النظر في الرحلات بالطائرة وجود مسافرين قلقين، مرتبكين وربما خائفين ، نتيجة مشاهدتهم للأفلام السينمائية حيث موضوع المحبب لمخرجين الكوارث والحروب والقتل وطبعا الجنس، هؤلاء المرتبكين من المسافرين تراهم دوما يحاولون ان يكونوا بين اوائل من يتدافعون يقفون في اول الطابور قبل الإذن لهم بدخول الممرات المؤدية إلى باب الطائرة (الخرطوم) وحال وصولهم إلى باب الطائرة لاعتلائها تراهم يتزاحمون وكذلك يفعلون عند هبوط الطائرة هم اول من يقومون من مقاعدهم و بسرعة حتى قبل الإعلان كابتن الطائرة عن إطفاء المحركات وتوقفها الكامل وهؤلاء هم انفسهم الذين بسببهم تتأخر الرحلات ويتأخر بذلك ركوب الركاب الأخرين لأن هؤلاء لا يجدون حتى مقاعدهم ولديهم دوما أغراض كثيرة يعيقون مسار الركاب غالقين الممر الضيق لسير الركاب لإيجاد مقاعدهم ووضع حاجاتهم في الأماكن المخصصة أي الدواليب العالية ومن إيجاد مقاعدهم . وربما انتم بنفسكم قد لاحظتم ذلك في أسفاركم إلى الخارج. كما في السفر بالطائرة تحصل دوما تأخير وطبعا حصل معنا نفس الشيء عند هبوطنا في العاصمة حيث تأخرت الطائرة الثانية ساعة كاملة عن الإقلاع مما أدى ذلك إلى تأخري على باص مدينتي والذي في العادة تسير مرتين فقط في اليوم بين المطار ومدينتي التي أقيم فيها منذ ٣٦ عاما. والتي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار ومع كل التعب والجوع أقول الجوع لأني عادة لا آكل أبدا من الطعام المقدم في الطائرات ليس لأنه غالي الثمن، بل لأنه بدون طعم ومليء بالمواد الحافظة وكمياتها قليلة جدا لا تشبع المسافر في السفرات الطويلة، بل اشرب القهوة وهي معالجة كذلك كي تكون صالحة في ظروف السفر بالطائرات.

اتصلت مرغما بابني الصغير ورجوته ان يأتي إلى المطار ولأنه يعمل في دورية المسائية وعدني ان يأتي لاصطحابي إلى بيتي حال انتهاء عمله. أجواء السفر تظهر دوما سلوكيات البشر حيث نرى ركاب ساحلي الوجه من الهائمين وآخرين صامتين بينما نجد نساء يثرثرن طوال مدة السفرة ودون انقطاع وهناك دوما من يريد ان يكون العدول من يدخل إلى غرفة التواليت الصغيرة جدا وترهم يتزاحمون في طابور على نيل شرف دخولها قبل الآخرين وحتى حينما تكون الطائرة لا تزال جاثمة على الأرض على المدرج. اماً أنا فأعاني دوما من تشنجات عضلية والآلام في رقبتي وظهري يعيق جلوسي في مقعدي الوفير وغالبا لا أقوم من مكاني في رحلاتي واشرب فنجان من القهوةً تلو الأخرى ولا أستسيغ أكل في الطائرة ولا أحبذ النوم لذا تراني الآن اكتب لكمً هذهً السطور. أبناء الدول الإسكندنافية بصورة عامة والشباب منهم بصورة خاصة حين يسافرون إلى دول للتصييف تراهم يبداون باحتساء الخمر حال وصولهم داخل الطائرة ولا يضيعون الوقت في أي شي آخر كأنهم في سباق للشرب لا ينتهي إلا داخل الطائرة وهم في طريق العودة إلى ديارهم ولا ادري ماذا يفهمون من السفر التي تبدأ بسكر وتنتهي بسفر. خاصة في السفرات السياحية (چارتر) حيث يكون المرء قد حجز كل شيء مقدماً ودفعً قيمتها مقدما. في هذه المحطة تصل الطائرة إلى احد اكبر مدن السويد واعني گ وتابورك أي قلعة الگوتيين وهي ميناء كنت قد عملت فيها لفترة قصيرة قبل ٣٥ عاما سآتي إلى تفاصيلها في حديثي عنً تلك الأيام وهنا استقبلني ابني الشاب "قيصر " وعانقني ورجعنا معا الىً مدينتنا التي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار. دار حديثنا طول الطريق حول التغيرات التي طرأت في المجتمع السويدي في الأعوام الأخيرة وعن ما قدمته أنا بنفسي لمدينتي وكيف أردت ان اتركً ارثا لأحفادي وما أهمية هذا الإرث لعدم وجود جذور لنا في وطننا الجديد مملكة السويد.

***

د. توفيق رفيق التونچي

على متن الطائرة "ساس" في رحلتها المرقمة Sk1584, SK165:  2024

عند ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ينبئ باتساع نور الصباح، وبزوال آخر خيوط ظلمة الليل، يفتح البوَّاب الباب الرئيسي للقصبة، ويشغل نفسه بتثبيت دفة الباب الكبيرة الحجم، ساعيا في كبح حركتها، بسحب الحَجرة الكبيرة الحجم الجاثمة بالقرب منه، ووضعها على الأرض مقابل الباب، ليتسمر على الحائط ويلتصق به، وقد اعتاد البوَّاب في الأيام السابقة، بعد أن يتنسم هواء الصباح العليل الممزوج برائحة أوراق الشجر، أن تقع نظرته الأولى إلى الخارج من كل صباح على الأغصان الخضراء المتدلية من جهة الطرف الأيمن للساحة المقابلة للباب، لشجرة التِّين الأصفر، لكن هذه المرة لم يبصر البوَّاب الأوراق الخضرا، وقد وقع بصره على أغصان وعيدان ممتدة إلى السماء، تتخللها وريقات قليلة العدد، وتبعث في النفس حالة من الشفقة نتيجة يتمها من بعد فقدان أوراقها التي تكسوها وتغطيها وتحجب عورتها، والذي يزيد الأمر شفقة هو ذلك اللون الرمادي لأغصان شجرة التين، كأنها تبكي فراق زينة أوراقها الخضراء.

   عندما تفقد البوّاب المكان ببصره بالقرب من أسفل الشجرة، وقعت عينه على كومة متسعة من أوراق شجرة التين التي ملأت المكان، وقد أخذتها هبوب الرياح وبعثرتها في وسط الساحة، بالقرب من الباب الذي لازال البوَّاب يمسك بإحدى دفتيه... وبعدها بقليل أخذ مكنسة المصنوعة من الجريد وانخرط لوحده في عملية سَحْل أوراق الخريف ودفعها وتجميعها في اتجاه أحد الزوايا التي يلتقي فيها سور الساحة بأحد أبراج القصبة القريب من الباب الرئيسي.

 قبل أن تطل الشمس بخيوطها الذهبية على عين المكان، وهي تعلن يوما جديدا من أيام الواحة، تجمَّع فئة من الكهول والشباب، وقد تسللوا إلى وسط الساحة، من داخل القصبة ومن خارجها، ومعاولهم على أحد أكتافهم، ومنهم من يحمل الفأس بدل المعول، فالفؤوس للحفر واقتلاع الأحجار، والمعاول لسحب التراب، البعض منهم يحمل قفة صغيرة أو وعاء صغيرا، يخبئ بداخله وجبة طعام فطوره وغذائه، عند وصول كل فرد منهم، يسحب المعول من أعلى كتفك، ويلقى به على الأرض ويده متشبثة، بالنصف العلوي من مقبض اليد الخشبية للمعول أو الفأس، ها هم الآن على شكل دائرة يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، ويحيي بعضهم البعض الآخر، يا ترى أية مهمة هذه تستعد من أجلها الجماعة، إنها المهمة السنوية من كل فصل من فصول الخريف، مهمة سحب الأتربة من قعر الساقية الكبيرة للواحة، التي تطل عليها القصبة من أعلى الربوة منذ زمن بعيد، سحب الأتربة من قعر الساقية يجعلها تجرف من الماء ما يكفي لارتواء الواحة، وكذلك هو الأمر في مختلف أرجاء الواحات، فعندما يحل فصل الخريف يعني الاستعداد للحرت، حرت الزرع والذرة والخضروات من لفت وجزر...

بعد لحظات تفرقت الجماعة إلى جماعات صغيرة ما بين ستة وأربعة أفراد، وإذا برجل طويل القامة ذو بنية جسدية متينة، يرتدي جلبابا أسود اللون وعمامته مكورة على رأسه، يتوسط رجلين، إنه "مُقدم الساقية"  الرجل الذي أوكلت له القبيلة وفق أعراف متوارثة مهمة شؤون العناية بالساقية الكبيرة، الوريد الذي يسقى الواحة بما فيها من الكائنات، وبدونها تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة، عند وصول الرجل، خفَّت أصوات الجماعة، وقد فهم الجميع أن وصوله يعني الاتجاه نحو الهدف المنشود، وهو المكان المخصص للحفر أو لترميم أحد جنبات الساقية التي يبلغ طولها أربعة كلومترات من النقطة التي تجلب منها الماء من النهر إلى أول نقطة تسكب فيها مياهها في جوف الواحة، كانت توجيهات "لمُقدم" هذا اليوم توجيهات صارمة، وقد قسم الحاضرين إلى قسمين وعلى رأس كل قسم من ينوب عن المقدم في مهامه، بعد أن حدق في الجميع وتبادل أطراف الحديث مع البعض...ها هو الآن يشير بأصبعه إلى فلان ابن فلان... وإلى فلان...اقتربوا إلى هذا الجانب، وقد منح الخيار للبعض أن يختار أي قسم لينضم إليه... ها هو يرسل القسم الذي يضم العدد القليل من الرجال نحو منبع رأس الساقية، لجمع الأحجار من قعر النهر بهدف تدعيم وترميم الحاجز الحجري الذي يربط ما بين ضفتي النهر، ويمنح فرصة تدفق الماء نحو الساقية.

أما القسم الآخر من الرجال والذي يضم الرجال الأفذاذ وهو أعلم بهم وبقدراتهم، وبخبرتهم وتجربتهم... فأمرهم أن يتوجهوا نحو الجزء الأوسط من جنبات الساقية وهو الجزء الذي يكلف الكثير من الجهد والوقت، لكونه قابل  التحلل بين الحين والآخر، نتيجة تموضعه في مساحة رملية منبسطة، ومنحدرة في اتجاه النهر، وهذه كلها عوامل جعلت من هذا الموضع لجانب الساقية سريع الانحلال والانجراف، إما بسبب قوة تدفق الماء وسط الساقية، مما يسبب في تحلله، أو بفعل اقتراب ماء النهر منه مما يسبب في انجرافه، ففي حالة انجراف أو انحلال بعض منه،  ينسكب ماء الساقية في النهر مرة أخرى، ويبقى جوف الواحة في انتظار... والغريب أن النهر أحيانا يكون ممتلئ بالماء ووريد ساقية الواحة منقطع  نتيجة انجراف بعض من جنباته... حينها ينادي المنادي من بعد أذان المغرب (لا إله إلا الله، ستسمعون خيرا يا عباد الله، يا رجال الله، يا من عليه الصيام واجب، غدا صباحا موعدنا بالساقية) إنها حالة من التأهب القصوى التي تجعل أهل القصبة يتركون كل خلافاتهم جانبا وينخرطون في عمل جماعي من أجل الجميع جميع الناس وجميع الكائنات.

بعد أن انصرفت جماعة الرجال إلى الهدف المنشود، فمنهم المترجل ومنهم صاحب الدابة...وهي فرصة لكثير منهم للقيل والقال والحكي، ومنهم من يجدها فرصة للزجل وترديد المواويل.... بقي المقدم بصحبة الرجلان اللذان اصطحبهم معه عند مجيئه يتجاذبان أطراف الحديث، حول ما أثار انتباههم من وضع وأحوال الرجال الذين انصرفوا إلى مهامهم قبل قليل، فمنهم من هو مقبل ويمتلكه الحماس، ومنهم من يظهر عليه نوع من التردد الغير المبرر... الآن بدأت أشعة الشمس تتسلل إلى وسط الساحة، وهي تطارد ظل أسوار القصبة، وإذا بالرجل وأصحابه يقصدون بقية الظل تحت السور الخارجي لساحة القصبة، وهو ظل قصير المسافة بقصر السور، وقبل أن يجلس المقدم على الأرض لمحت عينه خيطا من النمل في حركة ذهاب وإياب وبالقرب منه ثلاثة نملات تساعد نملة على ما يبدوا أنها كسرت أحد أرجلها ولم تقوى على المسير، وهو مشهد يثير الدهشة في النفس ويلفت النظر لأهمية العمل بجد...

 لم يستسغ المقدم الجلوس وإذا به يطلب دابته... ليلحق بالجماعة التي كلفها  بمهمة ترميم الجزء الأوسط من جنبات الساقية، عند وصوله وجد البعض من الرجال لم ينهوا فطورهم  وقد تفرقوا إلى جماعات صغيرة ما بين الثلاثة والستة أفراد، تحت ظل هذه الشجرة أو تلك، و الكثير منهم قد أعد الإبريق الصغير من الشاي... البعض منهم يدعوه ليشاركهم فطورهم وكأس الشاي... اعتذر من بعضهم وقد استجاب للبعض الآخر...وبحضوره ازدادت هِمَّة الرجال... أما الذين انهوا فطورهم فقد انخرطوا في  ترميم جنبات الساقية، وقد التحق بهم المقدم ليشير عليهم بما يمكن القيام به أولا بأول... وهو يمسك عصا طويلة من مترين، عندما رآه الرجال بينهم بالوسط من قعر الساقية، ظن بعضهم أنه سيعتمد وحدة القياس في توزيع العمل، لأن كل فرد من الرجال يمثل أسرته والأربعة أو الخمسة يمثلون عشيرة من أبناء العمومة، وكل أسرة أو عشيرة، تملك وقت محدد يطول أو يقصر، يتم التناوب من خلاله على دورة ماء الساقية وهي دورة تكتمل على مدار فترة زمنية معية، في الغالب لا تتجاوز ما يقرب شهر، إذ يكون مالك الماء فيها لساعة أو أكثر سيد الموقف، فإما يدفع الماء نحو حقوله أو يجود به على من له علاقة صداقة به، أما في الأيام التي يكون فيها الماء فائض عن الحاجة إليه، فلا فائدة في التناوب عليه، والمقابل لما تملكه العشيرة الواحدة من الفترة الزمنية محدد لماء الساقية على مدار فترة التناوب، هو ما يجب عليها أن تزيل من أتربة من قعر الساقية، في الوقت المخصص سنويا لحفر الساقية وتنظيفها من مختلف الرواسب، وما علق بها من جريد وسعف النخيل، ولهذا كثيرا ما يلجأ المقدم إلى وحدة القياس، وينادي المنادي ثلاثة عصي لعشيرة أبناء فلان...أربعة ونصف لعشيرة أبناء فلان...وهكذا، الكل ملزم أن يزيل ما يستوجب من إزالة التراب الذي يملئ قعر الساقية نتيجة الرياح التي تفاجئ الجميع أحيانا بردم جزء كبير من الساقية بالرغم شكلها المقعَّر... لكن هذه المرة ترك المقدم وحدة القياس جانبا واعتمد على الانخراط الجماعي من أجل الهدف المنشود...

قضى الرجال يومهم في العمل وقد أفلحوا في ترميم  جزء مهم من حافة الساقية المحاذية للنهر، جلهم ملتف بمأزر الصوف، الذي يلف على الجسد من صرة الجسم إلى الركبتين، النصف العلوي لأجساد البعض منهم يبدوا نحيفا، خاصة لمن هو طويل القامة، فالجسد النحيف يساعد صاحبه، وهو ينحني ويتمدد بعيدا تاركا المعول ليسحب معه التراب الممزوج بالرمل والماء، وهو يسحبه إليه بحرفية عالية، وبعدها يدفع به إلى أعلى جنبات حافة الساقية، وقد تحولت إلى حافة ذات علو يفوق  ثلاثة أمتار وعرض بقاعة ثلاثة أمتار، الرجال من فوقها وعلى جنباتها مثل النمل، البعض منهم يدك التراب بأرجله من أعلى سطحها وهو سطح يسمح بالجري من فوقه لاتساعه وصلابة تحمله... كثيرة هي الأشعار التي رددها الرجال، وكثيرة هي الحكايات التي تولى بعضهم حكايتها... كل ذلك من أجل تخفيف حالة العناء والتعب التي هم عليها... وقد قطعوا على أنفسهم أن لا يتوقفوا عن العمل حتى ينهوا ما هم مقبلون عليه، فموسم الحرت يطاردهم فهو على الأبواب.

مآزر الرجال تبدوا مبللة كأنهم استحموا في النهر، بفعل العرق الذي يتصبب من، النصف العلوي من أجسادهم... مع أذان العصر وجدوا أنفسهم أنهوا مهمة هذا اليوم، وإذا بهم يختمون دورة عمل اليوم بالصلاة الجماعية على الرسول بصوت جماعي يسمع من بعيد،(والله مصلى عليك يا رسول الله، يا جاه النبي، الشفاعة لمولاي محمد الحبيب ) وهم يعتقدون ويسلمون، بأن الصلاة على النبي عون وإعانة لهم، والغريب في الأمر أنك تجد من يسلم جازما أن الرسول معهم في عملهم هذا، فهو يراهم وهم لا يرونه، ودليله في ذلك، أن الرسول يكون حاضرا في كل عمل من شأنه، صرف الماء بهدف سقي مختلف الكائنات... ومنهم من يرى في الساقية بأنها ترمز لحوض النبي الذي يتمنى الجميع أن يرتوي منه، الساقية إذن تروي الجميع، فهي حوضه في الدنيا قبل الآخرة.

اتجه الرجال ذووا المآزر نحو النهر وقد تشتتوا في كل مكان على طول النهر، وقد انغمسوا في مياهه قصد الاستحمام، وإزالة ما علق بأجسادهم من عرق ممزوج بالتراب، البعض منهم لا يرى البعض الآخر، إذ تحجبهم شجيرات "الفرسيغ" والقصب وشجيرات الدفلة ذات الأزهار بيضاء ووردية اللون... البعض منهم استرخى ملتقيا على ظهره، على جانب النهر، لوقت قليل، والبعض منهم انشغل بإعداد إبريق الشاي وتدفئة رغيف خبز الشحمة المخبأ في المزود لسد رمق الجوع، الذي طارده الجميع بين الحين والآخر بحبات التمر وغرف الماء من النهر... وبعدها عاد الرجال تباعا والشمس في نهاية رحلتها اليومية نحو الغروب.

...يتبع...

***

د. أحمد مولاي صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

 

في لوحات أحمد قليج خطابان يسيران بالتوازي في أحدهما تتلاقح جملة الانفعالات مع ذاك الحس الانساني والجمالي بداخل الفنان لتعكس من خلال حركة الفرشاة العريضة والمشبعة بصياغة مشهدية أكثر عمقا وتعبيرا عن المضمون والمأساة وهو يحتمي هنا بخبرته وقدرته على تفكيك وتحليل اللون لمكوناته وبمصداقية انفعالاته عبر إيقاعها الحركي المترابط والذي يمنح عجينته تلك القوة القادرة على تبرير ذلك الحضور المتباين والمتوازن لألوانه بالمجمل. 21 ahmad klach

أما الخطاب الثاني فهو شرح وتوضيح موجه للعامة نمسك به من خلال تلك الخطوط المخلصة والملخصة للواقع المرئي والملتزمة بحدود الشكل الواقعي بحيث يكتشف المتلقي من خلالها ملامح لشخوص انسانية تشرح الحدث.. تشرد.. معاناة.. حفاة.. عراة إلا من أوجاعهم وهمومهم التي حيكت كحكاية متواصلة مع الحدث في الخلفية لتغطيهم بجملة انفعالات يترجمها الخطاب الأول.

تلك هي لوحته تترجم كم انفعالاته وتحلق بثقة تعكس ما يتمتع به من قدرات لتترجم أخيرا بالخطوط حركات وشخوص رحلته كمن يقرأ ويفسر للعامة لوحته وأمام تلك القراءة تتضارب الآراء فمتعة الكشف والاستكشاف تبقى مهمة القراء.

ولكني أشير هنا إلى أنه لا يكشف كل الخيوط ويترك لمخيلة القارئ استكمال تلك الخطوط  إذا أن متعة العبث بعجينة اللون واشتقاقاته المتواصلة مع سكين أو فرشاة لازالت تطرحه وتحركه بشغف منتقية تلال الدرجات الزاهية المتقاربة والمتباينة بكامل قوتها ونقائها لتساير الأسود بكل سيادته والأبيض بكامل نصاعته  هي شغله الشاغل وهو ما يعطي عمله في مراحله الأولى سمة العمل التجريدي وفي المرحلة التالية يترك لعجينة الخلفية المتشكلة مما تبقى من مزيج الألوان مضيفاً الأبيض على سطح الباليت لتتحقق مهمة الكشف عن أشكاله وتكويناته النسائية والانسانية بحضورها الواقعي والغير خاضع لأية تحويرات وليستكمل ما تبقى من أجزاء كاشفا بالخط هما تحمله رؤاه.

تجربة أحمد قليج تجربة امتلكت أدواتها وخطت لها اسلوباً ينتمي للحدث والفكرة وللواقعية التعبيرية وبحس أكثر حرية يجعل من عمله ولوحته أقرب للتجريد المتكامل إن استثنينا تلك الخطوط المحددة للشكل الواقعي بحرفية التي لا تميل باتجاهات التحوير والذي هو (التحوير) الصفة المميزة للفنانين التعبيريين أما تعبيريتة فهو يؤكدها عبر الحركات والتوضعات وعبر فرشات تتحرك بحرية مشحونة بكم من الانفعالات المضبوطة بخبرته اللونية التي تمكنه من السيطرة عليها لينحى معها باتجاه التجريد.

بتعبير آخر أقول تتداخل الواقعيته التعبيرية والانفعالية الحركية للفنان قليج مع رؤى أكثر تجريداً عبر أسلوبية التغطية اللونية للأجساد والشخوص والخلفيات المتناغمة معها وهذا ما يجعلنا نخمن أن خطوات عمله تبدأ بفرش الوانه بتلقائية ومباشرة وليدة الخبرة ثم يشتغل على الخطوط اللاحقة مخلصاً لواقعية الشكل الإنساني وخادما لتعبريته عبر الملامح  الوجوه وتوضعات الجسد  العاكسة لصور الحياة والتجمعات النسائية والانسانية ضمن البئر الفقيرة والمعدمة ووسط الحدث حيث الخراب والدمار وما يخلفه من تعاضد في جانب وانهيار أخلاقي في الجانب الآخر.

وعلى الجانبين أقول هي مخلفات الحرب ضحاياها الفقراء والأبرياء إذ تزيدهم تعاسة وبؤساً في الوقت الذي يتعاظم جشع المسببين لها وتتعاظم ثرواتهم معها.

***

الفينيق حسين صقور

الملوك والموسيقى ومعنى الحياة

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ولكن ماذا لو لم تكن الصداقة والحب نقطتين متعارضتين يمكن أن ننتقل بينهما، بل إنهما مكانان يتداخلان بدرجات متفاوتة؟ في ظل المثل الرومانسي للحب، أصبحنا نتوقع أن تحتوي كل قصة حب عظيمة في داخلها، بالإضافة إلى العاطفة الجنسية، على صداقة قوية. ولكننا نتمسك بشكوك عميقة في العكس ــ صداقة أفلاطونية ملونة بألوان عاطفية للحب الرومانسي، لا تتخذ شكلاً مادياً أبداً، بل تتوهج دائماً بكثافة خافتة بشكل مصطنع بسبب تسمية الصداقة البسيطة. وربما لا نحتاج إلى تصنيف هذه العوالم العاطفية المتعددة الأشكال بعد كل شيء؛ وربما تكون مقاومة الرغبة في التصنيف والاحتواء هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة لثراء المشاعر والعواطف المتلألئة التي تتمتع بها.

إن الشهادة المشجعة على هذا الاحتمال تأتي من حياة عالمة الأحياء البحرية الرائدة، والمحافظ على البيئة، وعالمة الطبيعة، وصانعة العجائب راشيل كارسون (27 مايو/أيار 1907 - 14 أبريل/نيسان 1964)، التي ساهمت أكثر من أي شخص آخر في إيقاظ الوعي البيئي الحديث ــ كتابها "الربيع الصامت" الذي صدر عام 1962، قبل ثمانية عشر شهراً من إنهاء حياتها، أدى إلى إنشاء يوم الأرض وتأسيس وكالة حماية البيئة الأميركية، وأشعل الحركة البيئية كما نعرفها اليوم..

لكن تحت عقل كارسن اللامع وعاطفتها الحامية للعالم الطبيعي، كان هناك عالم داخلي غني وعاطفي، يحييه نفس الشدة من الحب الذكي والعاطفي.

في أواخر عام 1952، وقبل أن تنتقل كارسون إلى جزيرة ساوثبورت في ولاية مين مع والدتها، كتبت لها ربة منزل محلية تدعى دوروثي فريمان رسالة دافئة ترحب بها في مجتمع الجزيرة المتماسك. (كانت كارسون قد أصبحت كاتبة مشهورة بالفعل — فقد حقق كتابها "البحر حولنا" الذي نُشر في 1951 أرقامًا قياسية بالبقاء على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا لمدة ثمانية عشر شهرًا.) وتحولت مراسلاتهما إلى صداقة سريعة أضاءت بلهفة اللقاء الأول بينهما.

في 30 ديسمبر 1953، زارت راشيل منزل عائلة فريمان وأقامت هناك لليلة واحدة. كتبت إلى دوروثي بمجرد عودتها إلى منزلها: "الواقع يمكن أن يقصر بسهولة عن الآمال والتوقعات، خاصة عندما تكون هذه التوقعات مرتفعة". وأضافت: "يا عزيزتي، ليس هناك شيء واحد فيك يمكنني تغييره إذا استطعت!" وأرفقت بالرسالة أبياتا من شعر كييتس:

"شيء من الجمال هو فرح أبدي:

يزداد جماله، ولن يمرّ

إلى العدم؛ بل سيبقى

حديقة هادئة لنا، وسبات

مليء بالأحلام الجميلة."

وأضافت:

أنا متأكدة، يا عزيزتي، أن هذا سيكون فرحًا إلى الأبد، وسيزداد جمالًا مع مرور السنين، وأنه في الفترات التي نبتعد فيها عن بعضنا البعض، لا يمكننا أن نحصل على كل سعادة يوم الأربعاء، ولكن سيكون هناك، في قلب كل منا، واحة صغيرة من السلام و"الأحلام السعيدة" حيث يكون الآخر.

كانت دوروثي متزوجة ومخلصة لزوجها، ولكنها سرعان ما أصبحت محورية في حياة راشيل بشكل غير مسبوق. وعلى الرغم من أن علاقتهما كانت في الغالب عن طريق المراسلات، فإنها نمت لتصبح مليئة بالعاطفة الشديدة وتم التعبير عنها بلغة رومانسية لدرجة أن مصطلح "الصداقة" لا يمكنه احتواؤها. كانت راشيل تخاطب دوروثي بـ "عزيزتي"، وغالبًا "عزيزتي جدًا". كانت العبارة الختامية في رسالة كتبتها في فبراير 1954 — "عزيزتي — دائمًا ودائمًا — أحبكِ كثيرًا" — نموذجًا لعاطفتهما المتبادلة. وفي رسالة أخرى كانت تخطط فيها لزيارتهما الأولى منذ لقائهما الأول، تنفست راشيل قائلة: "لكن، يا عزيزتي، أريد أن أكون معكِ بشدة لدرجة أن الأمر تؤلمني!"

ومع ذلك، لم تكن علاقتهما سرية أبدًا. شاركت دوروثي رسائلهما مع زوجها، والتي ردت عليها راشيل بسعادة صادقة:

كم كان لطيفًا منه أن يقول ما قاله. ربما تكون هذه اللمسة الأخيرة من الكمال في هذه الحكاية بأسرها... يعني لي كثيرًا أن أعلم أنكِ تملكين زوجًا متفهمًا ومحبًا ورائعًا... أريد له أن يعرف ما تعنيين لي.

وعلى مدى السنوات الاثنتي عشرة المتبقية من حياة راشيل كارسون، كان حب دوروثي وتفانيها اليومي هو الذي درء عن العالمة شعورها بالوحدة المؤلم وصراعها مع الاكتئاب، وحفز خيالها الإبداعي والفكري، وغذى روحها الملهمة بينما أعطت شكلاً لبعض أكثر الأفكار تأثيرًا في القرن العشرين في كتاباتها. في أوائل فبراير 1954، عبرت راشيل عن أهمية دور دوروثي في حياتها في رسالة بالغة الجمال، التي وُجدت في كتاب:  دائمًا، راشيل: رسائل راشيل كارسون ودوروثي فريمان، 1952-1964 (مكتبة عامة):

لا أظن أن أحدًا يعرف حقًا كيف يعمل الكاتب المبدع (ربما هو أو هي أقل الناس علمًا بذلك!) أو ما نوع الغذاء الذي يحتاجه روحه. كل ما أنا متأكدة منه هو أنني بحاجة ماسة لأن أعرف أن هناك شخصًا ما مخلصًا لي كإنسان، ولديه القدرة وعمق الفهم ليشارك، بشكل غير مباشر، العبء الثقيل أحيانًا للمجهود الإبداعي، معترفًا بالحزن، والإرهاق الكبير للعقل والجسد، واليأس القاتم الذي قد ينطوي عليه — شخصٌ يقدرني وما أحاول خلقه... القليلون الذين فهموا المشكلة الإبداعية لم يكونوا من الأشخاص الذين شعرت بالقرب العاطفي منهم؛ أولئك الذين أحبوا الجانب غير الكتابي مني لم يفهموا الكاتب أبدًا، بطريقة غريبة! ثم، يا عزيزتي، دخلتِ حياتي! … علمت حين رأيتك لأول مرة أنني أريد أن أراكِ أكثر — أحببتكِ قبل أن تغادري ساوثبورت — ومنذ بداية مراسلاتنا في الخريف الماضي بدأتُ أشعر بتلك القدرة على الانغماس التام في الأجزاء الفكرية والإبداعية من حياتي، بالإضافة إلى كونكِ صديقة محبوبة جدًا. ويومًا بعد يوم، تحقق كل ما شعرت به فيكِ، ولكن بشكل أكثر روعة مما كنت أتخيل...

أشعر بمثل هذه الموجة من البهجة والعجب في كل مرة أتوقف فيها لأفكر كيف في مثل هذا الوقت المظلم وعندما لم أتوقعه على الإطلاق، جاء شيء جميل ومرضي للغاية إلى حياتي.

كانت هذه الرسالة بمثابة إجابة على رسالة أخرى كتبتها دوروثي قبل بضعة أيام، حيث تأملت في علاقتهما وسألت راشيل في دهشة متسامية: "ألا تتعجبين أبدًا من نفسك، عندما تجدين نفسك في مثل هذه التجربة العاطفية الطاغية؟" بعد أسبوع، أعادت راشيل النظر في السؤال وقدمت إجابة أكثر مباشرة:

لقد تساءلت منذ ذلك الحين... ما إذا كنت قد نسيت أن أوضح أنه — بالإضافة إلى كل الإشباع الفكري الذي ربما تطرقت إليه طويلاً — فإنه حقًا بالنسبة لي، كما هو بالنسبة لك، "تجربة عاطفية طاغية." إذا لم أكن قد أوضحت ذلك، أعتقد أنه يمكنني الآن أن أثق في أن قلبك يعرف ذلك. كنت أفكر اليوم، وبأعمق درجات الامتنان التي آمل أن تعرفيها، كم هو رائع حقًا تأكيد اهتمامك الثابت والمستمر بي، ليلاً ونهارًا. بدون ذلك، لا أعرف حقًا ماذا كنت سأفعل الآن، في أيام تبدو أحيانًا مظلمة بلا أفق.

ولعل الجانب الأكثر جمالاً في علاقتهما كان التبادلية العميقة والكرم الهائل الذي أظهرته كل منهما للأخرى. وبنظرة امتنان لعظمة ما تساهم به فريمان في حياتها، تتساءل راشيل عما تساهم به بدورها في حياة دوروثي:

وبما أن أحد الأشياء التي أبهرتني فيك منذ البداية كانت جودة حياتك العائلية الرائعة، فقد كنت أعلم... أن السبب لم يكن نقص الحب. فلا أحد يستطيع أن يكون معك ومع ستان حتى لفترة قصيرة دون أن يدرك مدى تفانيك ولطفك. وأتساءل عما إذا كانت حقيقة أنك عشت، وسكبت الكثير من الحب، قد جعلتك أكثر تقبلاً للتفاني الذي يقدمه هذا الوافد الجديد في حياتك. لقد كتبت بشكل جميل للغاية، قبل أسابيع، عن كيف تنمو قدرة المرء على إعطاء الحب مع ممارسته، لذا ربما كلما تلقينا المزيد من الحب، كلما تمكنا من استيعابه، وبهذا المعنى لا يكتفي أحد منا أبدًا. وأنا أعلم أن حقيقة أننا، إلى حد لا يصدق "أرواح متقاربة"، وأننا لأسباب عديدة نحتاج إلى كل ما نعنيه لبعضنا البعض، ربما تكمن في قلب حبنا. ولكن كلما فكرت في كل ما قاله كل منا، كلما شعرت بأن هناك شيئاً ما ربما سيظل إلى الأبد بعيد المنال وغير ملموس ـ وأن الكل هو شيء أكبر من مجموع "الأسباب" المختلفة. يقول هنري بيستون [أحد مؤلفي كارسون وأبطالها المفضلين، والذي قام مؤخراً بمراجعة كتابها "تحت ريح البحر"] في المراجعة التي أرسلها إليكم اليوم: "الشمس ـ هي دائماً أكثر من مجرد كتلة عملاقة من الأيونات، إنها روعة ولغز، وقوة وإلهية، إنها الحياة ورمز الحياة". لقد كانت تحليلاتنا جميلة ومريحة ومرضية، لكنها ربما لن تكون أبداً كاملة — ولن تشمل أبداً كل "البهاء والغموض".

استمر هذا "البهاء والغموض" في الظهور والتوسع بينهما، ولم يزداد إلا ثراءً بمرور الوقت. بعد عامين، كتبت راشيل إلى دوروثي:

حبيبتي الغالية،

بمناسبة عيد ميلادك، هذه رسالة لأخبرك — كما لو أنك لا تعرف — كم أحبك بعمق ورقة. لقد أصبحتَ تحتل مكانًا في حياتي لا يمكن لأي شخص آخر أن يشغله، ومن الغريب الآن أن أتأمل في كل تلك السنوات الفارغة عندما لم تكن هناك. ولكن ربما لا ينبغي لنا أن نندم على تلك السنوات — ربما بدلاً من ذلك يجب أن نغمر أنفسنا في الدهشة والامتنان لأن صداقة بهذا القدر من الرضا والفرح والجمال قد جاءت إلينا في سنوات العمر المتوسطة — عندما، ربما، كنا في أمس الحاجة إليها!

[…]

حبيبتي، هل تعلمين كم هو رائع أن أمتلكك؟ آمل أن تكون قد علمت ذلك.

أحبك.

راشيل

في ربيع عام 1960، بينما كانت راشيل كارسون تقترب من إنهاء مسودة الفصلين في كتاب الربيع الصامت اللذين يعالجان التأثيرات المسرطنة للمواد الكيميائية، تم تشخيص إصابتها بسرطان الثدي. وبحلول ديسمبر، وعلى الرغم من خضوعها لعملية جراحية، كان السرطان قد انتشر إلى أماكن أخرى من جسدها. ومع ذلك، استمرت في العمل بلا كلل على الكتاب ومشاريع أخرى رغم تدهور حالتها الصحية بشكل متزايد.

في سبتمبر من عام 1963، وبعد وقت قصير من شهادتها أمام لجنة الاستشارات العلمية للرئيس جون ف. كينيدي، والتي كان لها دور محوري في تشكيل أول السياسات التنظيمية للمبيدات، كتبت رسالة مذهلة إلى دوروثي. كانت الرسالة تحتوي على تأمل في وفاتها الخاصة، كان عميقًا، مؤثرًا، مليئًا بالحنان والسمو بحيث لا يمكن أن تُعبر إلا إلى الشخص الذي كان يعرف قلبها أكثر من أي شخص آخر. كتبت:

عزيزتي،

هذه ملاحظة إضافية لما قضيناه من وقت في نيواغين، شيء أعتقد أنني أستطيع كتابته بشكل أفضل مما أستطيع قوله. بالنسبة لي، كان أحد أجمل ساعات الصيف، وستظل كل التفاصيل في ذاكرتي: ذلك السماء الزرقاء في سبتمبر، أصوات الرياح في أشجار التنوب وأمواج البحر على الصخور، النوارس التي كانت مشغولة بالتنقل بحثًا عن الطعام، تهبط برشاقة متأنية، المناظر البعيدة لرأس غريفيث ونقطة تود، اليوم كانت واضحة جدًا كما لو أنها نقشت بوضوح، رغم أنها كانت يومًا ما مرئية جزئيًا وسط الضباب المتلاطم. ولكن أكثر من كل شيء، سأظل أتذكر الفراشات الملكية، ذلك الانسياب البطيء نحو الغرب لجناح صغير بعد الآخر، كل واحدة منها مُسحَرة بقوة غير مرئية.

تحدثنا قليلاً عن هجرتها، وتاريخ حياتها. هل تعود؟ اعتقدنا أنها لا تفعل؛ لأن هذه كانت على الأغلب، على الأقل بالنسبة لمعظمها، الرحلة الأخيرة في حياتها.

لكن خطر لي هذا بعد الظهر، وأنا أتذكر، أن ذلك كان مشهدًا سعيدًا، وأننا لم نشعر بالحزن حين تحدثنا عن حقيقة أنه لن يكون هناك عودة. وكان ذلك صوابًا — لأنه عندما تصل أي كائنات حية إلى نهاية دورة حياتها، نقبل هذه النهاية على أنها طبيعية.

بالنسبة للفراشة الملكية، تقاس تلك الدورة بفترة زمنية معروفة من الأشهر. أما بالنسبة لنا، فالمقياس هو شيء آخر، لا نعرف مداه. ولكن الفكرة واحدة: عندما تنتهي تلك الدورة غير الملموسة، تكون نهاية الحياة شيئًا طبيعيًا وغير محزن.

هذا ما علمتني إياه تلك الومضات الحية المتألقة هذا الصباح. شعرت بسعادة عميقة من ذلك — وآمل أن تشعر أنت أيضًا. شكرًا لك على هذا الصباح.

راشيل

وفي رسالة أخرى كتبتها قبل ثلاثة أشهر من وفاتها ولكن تم تسليمها بعد وفاتها، أعادت النظر في موضوع وفاتها من منظور علاقتها بدوروثي، الهدية العظيمة في حياتها:

عزيزتي،

[...]

عندما أفكر في العديد من كلمات الوداع التي ميزت عقدًا (تقريبًا) من صداقتنا، أدرك أنها كانت غير واضحة تقريبًا. أتذكر بشكل رئيسي تدفق الأفكار التي لم يتم التعبير عنها بالكلمات بطريقة أو بأخرى - الصمت المثقل بالأشياء غير المذكورة. ولكن بعد ذلك، كنا نعلم أو نأمل، أن هناك دائمًا فرصة أخرى - ودائمًا ما تكون هناك رسائل لملء الفجوات.

مع وعي واضح ومتواضع وقريب من الصدمة تجاه قرب وفاتها، تضيف:

لقد عشت حياة غنية، مليئة بالمكافآت والرضا التي لا يحصل عليها الكثيرون، وإذا كان لا بد لها أن تنتهي الآن، فأنا أشعر أنني قد حققت معظم ما كنت أرغب في تحقيقه. لم يكن هذا صحيحًا منذ عامين، عندما أدركت لأول مرة أن وقتي قد أصبح قصيرًا، وأنا ممتنة جدًا لأنني حصلت على هذا الوقت الإضافي.

أسفي، /عزيزتي، هو على حزنكم، وعلى ترك روجر [ابن شقيقة كارسن اليتيم البالغ من العمر إحدى عشرة سنة، الذي تبنته]، حينما كنت أرغب بشدة في رؤيته ينمو إلى رجولة، وعلى العزيز جيفي [قط كارسن] الذي ترتبط حياته بحياتي.

[…]

لكن كفى عن ذلك. ما أريد كتابته هو الفرح والمرح والسعادة التي شاركناها — فهذه هي الأشياء التي أريدك أن تتذكرها — أريد أن أعيش في ذاكرتك كذكرى سعيدة. سأكتب المزيد   عن تلك الأشياء. لكن الليلة أنا متعبة ويجب علي إطفاء الضوء. وفي الوقت نفسه، هناك هذه الكلمة — وحبي سيظل حيًا دائمًا.

راشيل

في رسالتها الأخيرة، التي كُتبت بينما كانت فريمان في طريقها لزيارة راشيل كارسن في سريرها قبل وفاتها، لكن تم تسليمها بعد أسبوعين من وفاة كارسن، كتبت:

عزيزتي،

أنت في طريقك إليَّ صباح الغد، لكن لدي شعور غريب أنني قد لا أكون هنا عندما تصل — لذا هذه مجرد ملاحظة صغيرة إضافية للوداع، في حال حدث ذلك. لقد مررت بالكثير من الألم (القلب) في الأيام القليلة الماضية، وأنا متعبة في كل عظمة من جسدي. وهذه الليلة هناك شيء غريب في رؤيتي، ربما لا يعني شيئًا. ولكن بالطبع فكرت، ماذا لو لم أستطع الكتابة — أو لم أستطع الرؤية للكتابة — غدًا؟ لذا، كلمة قبل أن أطفئ الضوء.

[…]

عزيزتي — إذا أخذني القلب فجأة، فقط اعلم كم سيكون الأمر أسهل لي بهذه الطريقة. لكنني حزينة على ترك أحبائي. أما بالنسبة لي، فلا بأس تمامًا. منذ فترة قصيرة، جلست متأخرة في دراستي وأستمع إلى بيتهوفن، وحققت شعورًا حقيقيًا من السلام وحتى السعادة.

لا تنسَي أبدًا، عزيزتي، كم أحببتك طوال هذه السنوات.

راشيل

(تمت)

***

.........................

كاتبة المقال: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

عندما وقع "ميخائيل ستروغوف" أسيرًا لدى التتار، خططوا أن يعموه بالحديد المحمّى. كان رجلًا صلبًا، لكنه حمل في قلبه حبًا دفينًا؛ ولأجل هذا الحب البعيد، سالت دموعه. وكانت تلك الدموع، تحديدًا، هي ما أنقذه من العمى، إذ خففت من حرارة الحديد. مشهد "ديدي هوبرمان" لهذا البكاء البطولي يُعيد تشكيل تصورنا للدموع، فهي لم تكن ضعفًا بل كانت حالة من التحول، قدرةً على التعبير عن ألم إنساني صارخ بعمق لا يقدر عليه سوى أصحاب القلوب القوية. أعادت هذه الصورة للفيلسوف الطفلَ الخائفَ الذي كانه ذات يوم، وجعلت مشاعره تكتسب شرعية مدهشة، حيث يمكن للرجل، على غرار ستروغوف، أن يُظهر عواطفه دون أن يكون ذلك نقصًا في رجولته.

في أعمال "داروين" المصورة للعواطف الإنسانية والحيوانية، يظهر أطفال يبكون، ينوحون. بالنسبة لداروين، كانت العاطفة ظاهرة بدائية موجودة لدى الطيور، والكلاب، والقطط، وأيضًا لدى البشر الأدنى، إما لأنهم ينتمون إلى "أجناس بشرية قليلة الصلة بالأوروبيين" أو لأنهم أطفال أو نساء، حيث تظهر بشكل واضح لدى "المجانين والعجائز". بصيغة أخرى، الإنجليز والبالغون لا يبكون، وهذه الهرمية النفسية والقيمية ليست بعيدة عن بعض أفكار "فرويد"، حيث كان يعتقد أن الوهم العاطفي جزء من مرحلة طفولية في الشخصية، ويتجلى أساسًا لدى النساء، لكنه لا يليق بالذكر البالغ.

إن دعوة "كبح الدموع" شائعة بين من يُطلب منهم إظهار الصلابة، وأداء أدوار تعاكس التعبير العلني عن العاطفة، ومع أن البكاء أصبح مسموحًا به علنًا، حتى في عالم الرياضة، إلا أن بكاء طفل بصوت عالٍ في مكان عام قد يخلق توترًا، حيث يظل بكاؤنا الشخصي محاطًا بأسئلة في دواخلنا، فهو يربكنا حينما يظهر فجأة ويخرج عن سيطرتنا.

الشخص الذي يبكي يكشف عن جوهره للآخرين، مُظهِرًا جزءًا من معاناته الداخلية التي لا يستطيع إخفاءها، ومع ذلك، هناك خطر أن يُعتبر هذا الكشف ضعفًا أو "رثاء ذاتيا" يجلب تعاطف لحضي، حيث يظهر الصراع الأبدي بين (الباثوس)، كحالة من التأثر العاطفي، وبين (اللوغوس)، كحالة من العقلانية. بعد "نيتشه"، بدأت الفلسفة تميل إلى الاعتراف بالعواطف، لكن التناقض بين العاطفة والعقلانية لا يزال قائمًا في الوعي العام، حيث تٌعبر الدموع، والاحمرار، والتعرق عن حركة الروح في الجسد، وهي ليست مجرد أحاسيس وضيعة بل ضرورية لفهم ما يدور في داخلنا ولتحديد اتجاهنا.

في تلك اللحظات التي تسيطر فيها العاطفة، وتنفصل عن وعينا، تبدو الذات كأنها ليست "سيدة بيتها"، لكنها في المقابل تمنحنا الفرصة لأن نُرى ونُفهَم.

فالانتقال من "أنا أبكي" إلى "هو يبكي" يشكل بُعدًا للذات ينقل الألم الشخصي إلى مشهد مرئي يُحسّه الجميع. وفي الطقوس الجنائزية، يتحول الحزن الفردي إلى حزن جماعي، ويكتسب بعدًا أخلاقيًا يوحّد المجتمع.

الدموع تعكس تجسيدًا مزدوجًا للعواطف؛ فهي من جهة، تفريغٌ طبيعي للتوتر والحزن، تنبع من أعماق النفس حين تعجز الكلمات عن التعبير. لكن، من جهة أخرى، تعتبر تجليًا لحالة الوجود الإنساني، فهي تعبير عن الضعف الذي يسكننا جميعًا، وعن الشوق والحنين لأشياء لا تُنال بسهولة. "ديدي-هوبرمان" يرى في الدموع نافذة تفتح على قضايا إنسانية كبرى، حيث تقلب التوازن بين العاطفة والعقلانية، وتجعلنا نواجه ذواتنا بصدق تام. فالدموع، لا تعبر فقط عن انفعال لحظي، بل تمثل فيضًا من الوعي الداخلي وانعكاسًا للصلة العميقة بين الإنسان وذاته، وبين الفرد والمجتمع.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

السينما رافد ثقافي مهم وأجمل ما فيها انها تواكب الأحداث والمتغيرات العالمية على مختلف الصعد وتتناولها في أفلام رائعة، فخلال مسيرتها الطويلة الزاخرة بالمتعة والأبداع لم تكن السينما بمعزل عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الشعوب انما ومنذ بداياتها رصدت السينما مختلف الوقائع التاريخية والظواهر المختلفة من كوارث وحروب وصراعات سياسية وآخرها ظاهرة الارهاب الذي ضرب مساحات واسعة من العالم واشاع الرعب فيه وجعل الشعوب تعيش قلقا حقيقيا نتيجة الخسائر المادية والبشرية التي تسبب بها، وقد تصدت السينما المصرية لهذه الهجمة البربرية وقبل ان تصبح ظاهرة وذلك من خلال افلامها (الارهاب 1989) و(الارهاب والكباب 1992) و(الارهابي 1994) التي تناولت مخاطر الارهاب وتأثيره على استقرار وأمن المجتمعات ثم جاءت السينما العالمية لتنتج كما كبيرا من الافلام عن الارهاب وذلك بعد ان استفحل وبات ظاهرة تهدد مساحات واسعة من العالم ومن بينها فيلم (ليلة سعيدة ألف مرة) انتاج نرويجي 2013 الذي أدت فيه دور البطولة الممثلة الفرنسية " جوليت بينوش"، فبعد حصول هذه النجمة على جائزة الأوسكار عن دورها الثانوي في فيلم (المريض الانكليزي 1997) وترشحها مرة أخرى للأوسكار عن دورها في فيلم (شكولاته 2000) تعود نجمة السينما الفرنسية الممثلة (جولييت بينوش) لتبهرنا من جديد في فيلمها (ليلة سعيدة ألف مرة) انتاج ايرلندي ــ نرويجي 2013 والذي أدت فيه دور "ربيكا" المصورة الحربية لإحدى وكالات الأمم المتحدة حيث تغامر بحياتها وتتواجد في اخطر المناطق عنفا وتطرفا هما كابول وكينيا وذلك من أجل الفوز بلقطات حية وناطقة تقوم بتوثيقها من ميدان العمليات الارهابية.

الفيلم يبدو في الظاهر انه يتناول موضوع الارهاب لكنه في الحقيقة يعكس وجهين من الصراع، وجه ظاهر يوحي بأن الفيلم يستهدف ظاهرة الارهاب وجرائمه وذلك من خلال استهلاله بمشهد توثيق " ربيكا " ــ المصورة الحربية لعملية تفخيخ فتاة انتحارية بالأحزمة الناسفة في مدينة كابول الافغانية ومن ثم انفجار الفتاة داخل سيارة في سوق المدينة وكذلك مشهد آخر يوثّق ما حدث من انتهاكات في مخيم للاجئين في كينيا على حدود السودان على يد جماعة ارهابية اثناء تصويرها لأوضاع اللاجئين هناك، وفي كلتا الحادثتين كادت " ربيكا " تذهب ضحية تهورها ومغامرتها وهو ما تسبب في حدوث ازمة بعلاقتها مع عائلتها ــ زوجها وابنتيها ــ حيث يرفض الزوج طريقة عيشها المليئة بالمخاطر نتيجة لوظيفتها، فزوجها وبناتها يرون أنهم بحاجة إليها وطرح هذه الأزمة هو جزء من رسالة الفيلم التي جاءت لتؤكد على الارهاب وتأثيره على الحياة العامة عند الشعوب المبتلاة بالتطرف وما ينجم عنه من فوضى ورعب وتخريب للبنى التحتية وكذلك انعكاسه على الحياة الخاصة للمتصدين له والمتمثل بتدهور العلاقة بين المصورة وعائلتها. أما الوجه الاخر ــ الباطن ــ للفيلم هو الصراع الذي تعيشه ربيكا بين الطموح والحب، الطموح الذي يتمثل في رغبتها التواجد في اكثر المناطق خطورة طمعا في الشهرة المتحصلة من الفوز بصور حية من ميدان العمليات الارهابية رغم المخاطرة الكبيرة والذي أشارت اليه ابنتها " ستيف " عند الحديث عن عائلتها في اجتماع مدرسي وقالت عن امها (انها تذهب الى اماكن حيث توجد المشاكل، أماكن لا يهتم بها بقية العالم كثيرا)، وبين حب ربيكا للعائلة التي ترفض استمرارها في هذا العمل الذي سبب للعائلة القلق والفوضى وبالتالي القطيعة بين افرادها. يحتدم هذا الصراع تارة ويهدأ تارة اخرى فتدخل (ريبيكا) في صراع وحيرة، حيث أنها تحب أسرتها وكذلك تعشق عملها. ويستمر الترقب والتكهن بأي منهما ستضحي بطموحها أم بحبها؟ وتأتي النهاية الطبيعية التي تلجأ فيها ربيكا الى الخيار الأسلم لها ولعائلتها.

***

ثامر الحاج امين

المسافر: اعددت جدول مباحثاتي مع الأمين العام للجامعة العربية، وركبت رأسي قبل طائرتي وانطلقت الى تونس الخضراء، ولما علم بأنني "كاتب" استقبلني في المطبخ ولكنه بدد في الحال ما اعتبرته إهانة شخصية لي عندما ربت على كتفي وجدول مباحثاتي وقال:

القليبي: لا تبتئس يا بني فأول تعارف بين خروشوف ونيكسون كان في المطبخ وانا اجتمع بك في هذا المكان تقديرا مني ومن الجامعة التي امثلها للدور الكبير الذي يلعبه الأدب والادباء في هذه المرحلة.

المسافر: شكراً يا سيدي.

القليبي: وكان بودي ان استقبلك شخصياً في المطار واعود بك بسيارة الجامعة وتحت اعلامها.

المسافر: كم علماً لها الان يا سيدي؟

 القليبي: لا اعرف لكن منذ الاعلان عن اتفاق شولتز بين لبنان وإسرائيل لم اغادر مكتبي ولم أرى حتى زوجتي واطفالي، بانتظار ردود الفعل العربية عليه.

المسافر: وهل هو خطير الى هذه الدرجة يا سيدي؟

 القليبي: انه بالتأكيد سوف يقلب معظم التحالفات والتوازنات القائمة في المنطقة، فإسرائيل هي إسرائيل لا يمكن ان تعيد شيء اخذته بالقوة دون ثمن يوازيه واكثر.

المسافر: ولكنها اخذت سيناء بالقوة واعادتها بالكامل للشقيقة مصر.

القليبي: واخذت جنوب لبنان بدلا عنه.

المسافر: ولكنها ستعيده حسب نصوص الاتفاق.

القليبي: ما الذي ستأخذه من العرب بدلا منه. انها في اعقاب كل حرب تضع الامة العربية وفي المقدمة منها لبنان في زاوية حادة كمنقار الصقر ليكون شعبها العصافير المطلوبة دوليا وإقليميا فهل نسمح له بذلك؟

المسافر: كلا والف كلا ولكن كيف؟

القليبي: بارتفاع الى مستوى المسؤولية.

المسافر: وهل هذا الاتجاه متوفر الان يا سيدي؟

القليبي: نعم وعندي تأكيدات قاطعة حول هذا الموضوع.

المسافر: ولكن ها قد مضت أسابيع واكثر على توقيع الاتفاق والصمت العربي يكاد يكون مطبقا.

القليبي: بالعكس هذا دليل على استغراق الدول العربية في دراسة الاتفاق وتقويمه من جميع جوانبه قبل تحديد موقفها النهائي منه فالمرحلة خطيرة والمسؤولية اخطر وانا أتوقع ظهور هذه المواقف وردودها الى امانة الجامعة تباعا بين لحظة وأخرى ويبدو ان وجهك خير عايّ وعلى الجامعة العربية وعلى الامة العربية باسرها.

المسافر: وجهي انا لماذا؟

القليبي: الا تسمع لاقطة البرقيات الالكترونية كيف اخذت تصفر؟ ان سيل البرقيات اخذ يتوالى، لا تعبث بها ارجوك انها برقيات تاريخية في ظرف تاريخي.

المسافر: إذاً تفاؤلك كان في محله؟

القليبي: طبعاً فعندي تأكيدات حول ذلك.

المسافر: برقية عاجلة من ثلاث دول عربية دفعة واحدة تعلن رفضها القاطع للاتفاق. عظيم وهذه برقية من ثلاث دول عربية اخرى تعلن موافقتها المبدئية عليه...على كل حال، موقف.

و هذه برقية من اربع دول جديدة تعلن تحفظها مؤقتاً من الاتفاق، ريثما تقوم باتصالاتها مع الدول التي رفضت الاتفاق لتعرف لماذا رفضته ومع الدول المؤيدة له لتعرف لماذا أيدته وذلك حرصاً منها على وحدة الصف العربي.

و هذه برقية جديدة من دولة جديدة تعلن انها ترفض الاتفاق اذا كان يتناقض مع مقررات قمة فاس وذلك حرصاً على وحدة الهدف.

وهذه برقية من دولة أخرى تعلن موافقتها على الاتفاق اذا كان لا يتناقض مع مقررات قمة فاس والرباط حرصاً منها على وحدة المصير.

و هذه برقية ثانية من الدول التي كانت قد رفضت بشكل قاطع تعلن موافقتها المبدئية عليه اذا كان يسمح بعودة مصر الى الحضيرة العربية وذلك لأسباب تتعلق بأمنها القومي.

و هذه برقية من الدول التي كانت قد وافقت عليه بشكل مبدئي تعلن رفضها القاطع له اذا كان غطاء لمشروع ريغان لأسباب تتعلق بسياستها الاستراتيجية.

و هذه برقية من خمس دول أخرى تعلن تحللها من كافة التزاماتها السابقة وانها ستحدد مواقفها الجديدة من الاتفاق بعد تفسير الملاحق المرفقة به لأسباب تتعلق بأمنها السياسي.

و هذه برقية أخرى مستعجلة من الدول التي كانت قد رفضته ثم ايدته تعلن انها لا تستطيع تحديد موقفها النهائي قبل ان تتضح مواقف كافة الأطراف على الساحة اللبنانية لأسباب تتعلق بدورها القومي.

وهذه برقية أخرى من الدول التي كانت قد ايدته ثم رفضته تعلن أيضا انها لا تستطيع تحديد موقفها النهائي من الاتفاق لأسباب تتعلق بدورها الجغرافي.

و هذه برقية من الأغلبية الصامتة بين الدول العربية تعلن انها ما زالت كالعهد بها وفية لالتزاماتها، امينة على مبادئها، ثابته على مواقفها في راب الصدع وتوفير الجهد لتحرير لبنان ورفاهية شعبه وفرض سلطته الشرعية على كامل ترابه ولكنها لا تستطيع بلورة موقفها النهائي من الاتفاق قبل فرز كافة المعطيات التي كانت قائمة على الساحة اللبنانية قبل المفاوضات وبلورتها مع كافة المعطيات التي استجدت على الساحة العربية خلال المفاوضات ومن ثم بلورة الموقف في لبنان من الدول المؤيدة لانتمائه العربي قبل الاتفاق والمعارضة له بعد الاتفاق وذلك لأسباب تتعلق بدوره الفلسطيني والعربي على حد سواء والله الموفق

المسافر: الموفق على ماذا؟

القليبي: على كسب الوقت ريثما تتوضح بعض الأمور.

المسافر: واضحة كعين الشمس فكل هذه العواطف المشبوهة والكلمات المعسولة عربياً ودولياً عن الأدوار التاريخية والحضارية في المنطقة من اجل الغاء دور الثورة الفلسطينية وحجب الأضواء عنها ارضاً وفكراً وشعباً.

القليبي: بل لنصرتها وحماية وحدتها وأهدافها، وعندي تأكيدات قاطعة بذلك.

الو سنترال...اعطني الثورة الفلسطينية.

السنترال :لا صوت لها يا سيدي.

القليبي: ابحث عنها في أي مكان اريد ان اتحدث معها باي وسيلة.

السنترال: مستحيل يا سيدي فمكاتبها في تونس ومعسكراتها في عدن ومقاتلوها في البقاع وصحافتها في قبرص واطفالها في المخيمات وشهدائها في البرادات وشبابها في مراكز الهجرة والجوازات.

القليبي: اعطني المسؤول الفلسطيني الذي تجده.

السنترال: سافر الى كوبا لنصرة الشعوب في أمريكا اللاتينية.

القليبي: الاحداث تتصاعد اعطني وزير الخارجية الكوبي.

السنترال: سافر الى المنطقة لوقف الهجمة اليمينية الشرسة عليها وعلى اليسار العربي.

القليبي: اعطني رئيس اليسار العربي.

السنترال: أي يسار؟

القليبي: اليسار العربي الماركسي.

 السنترال: عرفته، لقد سافر لأداء مناسك العمرة.

القليبي: الاحداث تتشابك اعطني مفتي المنطقة لأعرف ما هي القصة.

السنترال: سافر الى موسكو لحضور الاحتفالات بذكرى ميلاد لينين.

القليبي: بصراحة....لم نعد نفهم ما يجري وما سيجري.

المسافر: وهذا هو المطلوب.

التالية والأخيرة (15)/ يا شارع الضباب

***

عبد الرضا حمد جاسم

...........................

* من كتاب سأخون بلدي لمحمد الماغوط

 

رَنَّ "هاتِفي" بخَبَر، أفضاهُ لي صديقٌ مُقيمُ في باريسَ السَّمَر، وكانَ بسَقيمِ عَيشٍ في بغدادَ قد كَفَر، وبِنَسيمِ ضِفافَ "السِّينَ" قد ظَفَر، والسِّينُ هوَ اسمٌ لذاكَ النَّهَر.

استوطَنَ حّذوَهُ واتَّخذَ مِن برجِ ايفِلَ قِبلَةً لمَقطَنِهِ على مَدِّ البَصَر.

ثمَّ حَثيثاً غادَرَ صدِيقِي حديثاً مِن شَذرٍ مَذَر، وبَادَرَ الى قَولِ الخَبَر؛

- لقد حُزتُ على جِنسِيَّةٍ إفرنجيَّةِ بفَخَر. ويا لهُ من نبأٍ سارٍّ مُنتَظَر، ومُدعاةٍ لابتهاجٍ بصَخَبٍ على جُفُونِ السَّهَر!

- أصِدقاً ما قلتَ مِن خَبرٍ بابتهاجٍ وفَخَر؟ أوَلم ترَ من العَوائِقِ ما فيهِ مُزدَجَر؟

- نعم، وعَلامَ العوَائِقُ والبَوائِقُ والقَهَر، وما مِن مُديرٍ إفرنجيٍّ هَهُنا ذي صَفِيرٍ مُزدَجَر، وما مِن مُوَّظفٍ ذي وجهٍ مُصفَرٍّ مُكفَهَر. بل إنِّي لستُ مَلزمَاً لأكونَ في دائِرةِ الجِنسِيَّةِ لديهم مُّحتَضَر، لإنَّ الأمرَ كلُّهُ سَلسٌ يَسيرٌ مُختَصَر، ويكمنُ برقمِ طابعٍ بثَلاثينَ "يُورو" أرسِلُهُ لهم ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر.

- ويْ! أوَصِدقاً ما تَقولُ، أم هو التَّملُّقُ بِفَخر! أمهاجرٌ يَتَجَنَّسُ دونَ كَبَدٍ بكمَدٍ وقَهر. أحقَّاً الأمرُ لا يستَوجبُ إلّا طابعاً مُرسَلاً ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر. وَيْ، لئن كانَ ذاكَ كذلكَ، فالخَطبُ إذاً يستدعيَ السَّهرَ بسَمَر. ولا تَثريبَ عليكَ يا صاحُ ولا حرجَ من ذا سَهر، ولكَ أن تَجعلَ أمَدَ السَّهرِ شهراً فَشَهراً فوقَهُ شهر، واجعَلِ السَّمَرَ فيهِ حكايَتي وماطوَتْ من قَهَر.

وإنَّ ما سَأرويهِ لكَ هوَ واللهِ حقٌّ، وما كانَ من عَجيبِ الخَبر، ولا من غَريبِ الضَرَر..

كنتُ قد وقفتُ قبل أيامٍ قُدَّامَ دائِرَةَ الجنسيَّةِ في بغدادَ بِأنَفَةٍ وانشِراحٍ وبلا ضَجَر، إمتِثالاً لإمرِ حُكومَتي بِتَحديثِ "الِبِطاقةِ المُوَحَّدَة" المُعتَبَر. وإذ أرشَدنيَ القائمونَ هناكَ الى حَجزِ موعدٍ للمراجعةِ يَمتدٌّ لشَهرٍ مَعهُ شَهَر. وإذِ أبانوا ليَ ألّا حَجزَ دونَ دفَعِ مبلغٍ ماليٍّ (أصُوليٍّ) مُقَدَّراً بِقَدر. فأسرَرتُ القَولَ باستِهجانٍ وبضَجَر؛

إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُعتَبَر!

أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لحَجزِ ميعادٍ مُنتَظَر!

لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ ثمَّ تَرَكتُ الدَّائرةَ بِكَدَر، على أملٍ في عَودٍ اليها مُعتمِراً وملبياً بلبَاسِ إحرامٍ وطَنيٍّ مُبتَدَر، لباسٍ مِن عَلمٍ عراقيٍّ مُحتَضَر، حينَما تَكونُ المَناسِكُ في دائرةِ الجنسيَّةِ قد خَلَت من زحامِ حَجيجٍ مُستَعَر، فأحجُّ بلا عُسرٍ وأُكبِّرُ للعراقِ بِيسرٍ مُستَقَر.

أجل، تَرَكتُ الدَّائرةَ بِحَسرةٍ بل بِكَدَر، فَيَمَّمتُ وجهي شَطرَ "مصرف الرَّشيدِ" بتؤدةٍ ذاتِ بَصَر، لأستَلِمَ راتباً تقاعدياً بعدَما اكتَملَ الشَّهَر، لكنِ المَصرَفُ أمَرَني بدفعِ ٢٥ ألفَ دينارٍ ولعُذرِ الدَّفعِ قد طَمَر، ولمَّا سألتُ ردَّ عليَّ المُوظفُ بردٍّ قانونيٍّ مُختَبَر: "إنَّها أُجورُ المُعتمدِ ليَجلبَ لنا من هَيئةِ التَّقاعدِ صِحَّةَ الصُّدورِ لملفِكَ في ذا شَهَر".

لَعمريَ إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُختَبَر!

أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لصحةِ صُدورٍ مُنتَظَر!

لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ وَدَفعتُ إجلالاً لقَداسةِ المَصرفِ في ذا دَهَر، فهوَ نَبعُ النَّهَرِ في ذا شهرٍ وفي كلٍّ شَهَر.

أنا أبداً، لن أصَرِّحَ بعدَ هذا السَّفَر، لدَائِرتَي الجِنسيَّةِ والمصرفِ بنَكدٍ وبِقَهَر؛

"تبَّاً لكَ يا وَطَن، يا أسَّ كلِّ كَمَدٍ مُعتَصَر" !

كلّا، وحَاشَا لوَطَني، وهوَ لمُقَليَ المَقَر..

فَوَطني حَوى الجَالغيَّ ودجلةَ، واحتَوى كُبَّةَ السَّرايِّ والقشلةَ، وشايَّ الشَّاهبَندَرَ المُقَدَّرَ بقَدَر.

كلّا، لا وَزَرَ، على وَطَنٍ رَوَى النَّجمُ حَرفَ العُنفوانِ المُستَطر، وَرَوى مِن ماءِ فُراتِهِ العاكِفُ والبادي والطَّيرُ والشَّجَر.

وَطَنٌ زَوى شَطَّ العرَبِ، وهوى طُرفَةَ بَصراويٍّ حينَ السَّمَر، ونَفرةَ كرديٍّ "نَه خبر"، وتلكَ نَفرةٌ لا تقبَلُ قسمةً إلّا على نفسِها بقَدَر.

في وَطَني ورُغمَ كلِّ هَمٍّ وغمٍّ وقَهَر، لم تزلِ التَّحيةُ تُلقى مِن على مَدِّ البَصَر، ولم تزلْ فيهِ ضحكةُ خَالتي بلا سَبَب، وعُبُوسُ عَمِّي لأدنى جَلَب، واستدانةُ جاري لدِينَاري بسَبَبٍ وبلا سَبَب.

وطني، وَطَنٌ أصيلٌ جَميلٌ وإن أمسَتِ الخُطى فيهِ كئيبةً وبِحَذَر، وأنا لن أنالَ مِنهُ ولو أضحَيتُ ناراً تلظَّى بسعر. وأمّا جنسيَّتي فلا تَثريبَ ولا ضرارَ ولا ضَرَر، وسأنقَلِبُ في قادمٍ بلباسِ إحرامٍ وَطَنيٍّ لأرميَ حِجاراتٍ على كلِّ مُوَسوِسٍ لي بهجرَةٍ وسَفَر؛

 "لبَّيكِ يا بِطاقةً حمَّالةً للقَهَر"

***

علي الجنابي

 

يجسد الفنان فائق العبودي لقاء ثقافيًا فريدًا بين الشرق والغرب، إذ استطاع، من طريق جذوره العراقية وتجاربه في البيئة الأوروبية، أن يطور هُوِيَّة فنية غنية ومعقدة، وفي هذا السياق، تعكس أعمال العبودي تشابكًا بين التراث العراقي القديم والحداثة الأوروبية، مما جعله قادرًا على استحضار القضايا الإنسانية والثقافية المعاصرة بأسلوبه المميز.

الجذور العراقية: العمق الرمزي والغنى الثقافي

تمثل جذور العبودي العراقية الأساس في رؤيته الفنية، حيث يستند إلى التراث الحضاري والرموز القديمة، والأساطير التي تميز الثقافة العراقية، وقد أثرت هذه الخلفية على أعماله في العناصر التالية:

الرموز الأسطورية والتاريخية: يستوحي العبودي من رموز تاريخية وأساطير عراقية قديمة وغيرها من الأساطير الرافدينية، حيث يستخدم هذه الرموز وسيلة للتعبير عن قضايا معاصرة، مما يعطي أعماله عمقًا إضافيًا ومعاني مترابطة بين الماضي والحاضر.

الألوان والأشكال: تأثرت ألوانه لوحاته بخلفيتها الشرقية، إذ يستخدم الألوان الدافئة، والترابية التي تعكس أجواء الصحراء العراقية والطبيعة المحلية، مع الاحتفاظ بدلالات خاصة للون ترتبط بعواطف، ومفاهيم معقدة.

التعبير عن القضايا الإنسانية: العراق، بماضيه الثقافي الغني وتاريخه المعاصر المملوء بالصراعات، يشكل مصدر إلهام للعبودي في تصوير الأزمات الإنسانية، من ألم وفراق، وحنين.

 يظهر ذلك في الأشكال التي تتخذ طابعًا معبرًا يعبر عن قضايا مرتبطة بالذاكرة الجمعية للعراقيين.609 faeq

البيئة الأوروبية: الأسلوب الحداثي والانفتاح الفني

عند انتقاله إلى أوروبا، وجد العبودي نفسه في بيئة فنية مختلفة تمامًا، قائمة على التجديد والابتكار والانفتاح على مختلف: المدارس، والأساليب، وقد أثرت هذه البيئة على تطور هويته الفنية بطرق متعددة

التجريدية والابتكار الفني: تأثر العبودي بالمدارس الفنية الأوروبية الحديثة، فتبنى الأساليب الرمزية والمفاهيمية التي تتيح له حرية أكبر في التعبير، مما ساعده على تطوير رموزه الفنية بأسلوب حديث يجمع بين الوضوح والغموض، مما يدفع المتلقي للتأمل والتفاعل مع العمل.

التفاعل مع الثقافات المتعددة: منحته البيئة الأوروبية، خاصةً السويسرية، فرصة للتفاعل مع جَمهور متعدد الثقافات، مما أثر على فهمه للفن بصفة وسيلة تواصل عالمية. أصبح العبودي قادرًا على إيصال رسائل تتجاوز الحدود الثقافية، حيث تتواصل رموزه مع المتلقين على مستويات مختلفة تعبر عن المشتركات الإنسانية.

التقنيات والوسائط المتقدمة: بفضل البحث المستمر والتجريب، بدأ العبودي في استكشاف تقنيات جديدة في الرسم تميز بها، مثل الخامات، والمواد المختلفة التي مكنته من تعتيق لوحاته لإعطائها صورة أو روحية الأثر.

هذه التقنيات سمحت له بتطوير تعبيره الفني، مما أضاف أبعادًا مبتكرة إلى رموزه التقليدية.

تأثير التشابك الثقافي في تشكيل الهُوِيَّة الفنية للعبودي

يتجلى التأثير المتبادل بين الجذور العراقية والبيئة الأوروبية بوضوح في أعمال فائق العبودي، حيث استطاع أن يطور: هُوِيَّة فنية فريدة من نوعها تتميز بالخصائص التالية

التنوع الأسلوبي: تميز العبودي بقدرته على الانتقال بين أساليب متعددة، من الواقعية في بدياته الفنية، إلى التجريدية، والرمزية، مع الحفاظ على وحدته الأسلوبية التي تعكس تأثيرًا مزدوجًا بين الشرق والغرب.

التأويل المتعدد للرموز: بسبب تأثير الثقافتين، تحمل أعماله أبعادًا رمزية متعددة قد تختلف في تأويلها بين المتلقين، حيث يرى المتلقي الشرقي في الرموز صلة بالتراث والتاريخ، في حين يجد المتلقي الغربي في هذه الرموز معنى عالمي وإنساني.

التعبير عن الهُوِيَّة والانتماء: يشعر العبودي بانتماء مزدوج لكل من العراق وأوروبا، وهذا الشعور بالانتماء المشترك يتجلى في أعماله كصراع داخلي بين ثقافتين، مما يجعل فنه يعبر عن هُوِيَّة معقدة تجمع بين الحنين إلى الجذور والانفتاح على الجديد.

ساهمت الجذور العراقية والبيئة الأوروبية في تشكيل هُوِيَّة فائق العبودي الفنية في تكامل بين التقليد والابتكار، والأصالة والمعاصرة. ويعد هذا التشابك الثقافي مصدر إلهام لأعماله، حيث يقدم الفن باعتباره لغة مشتركة تجمع بين تجارِب الشعوب وثقافاتها، ويظهر في الوقت ذاته قضايا إنسانية مشتركة.

***

الدكتور صائب غازي: كندا

كان المثقف العربي غارقاً في بث همومه ومكنونات صدره للكلب الصغير المتثاقل ترفا واسترخاءً في احدى سيارات ألسلك الدبلوماسي الأجنبي وسط تجمع المارة وسخريتهم عندما قدم احد رجال الشرطة مسرعا بمسدسه وهراوته و اصفاده و غيرها من عدة الديمقراطية العربية.

المثقف: سنتابع حديثنا فيما بعد.

الكلب: لم يرتجف صوتك وتصطك ركبتاك؟

المثقف: لقد جاء الشرطي.

الكلب/ و ان جاء ما علاقته بك او بسواك؟

 المثقف: اذا لم تفهموا هذه العلاقة حتى الان فلن تفهموا ما يجري في منطقتنا ابدا.

 الكلب: انا لا أخاف من حلف الأطلسي.

المثقف: لان حلف الأطلسي قد يراجع بشأنك اذا ما تعرضت الى مكروه.

الكلب: اليس لك اهل و أصدقاء يراجعون نشانك؟

المثقف: طبعا و لكن المشكلة ان الذين سيراجعون بشأني سيصبحون هم اوتوماتيكيا بحاجة  الى من يراجع بشأنهم، الان وصل الشرطي  ارجونك ان تتصرف و كأنك لا تعرفني.

الشرطي: ما هذا التجمع وسط الشارع؟

المثقف: الا تسمعون؟ ممنوع التجمع الا لرجال الامن.

الشرطي: هيا...كل في حال سبيله.

المثقف: مواطن يتحدث الى كلب، هل هي فرجة؟

الشرطي: بل جريمة.

المثقف: قبل ان ترفع هذه العصى يجب ان تعرف و انت رجل قانون انه لا يوجد في أي عرف او دستةر او بيان وزاري ما يمنع المواطن من التحدث الى كلب؟

الشرطي: من ندرة الأشخاص و المنابر و المتفقهين من حولك حتى تتحدث بما تعانيه الى هذا المخلوق المنفر الغريب.

المثقف: و لمن اتحدث يا سيدي؟

الكتاب مشغولين بالجمعيات السكنية.

و الفنانون بالمسلسلات الخليجية.

 و المعلمون بالامتحانات.

 و الطلاب بمعاكسة الفتيات.

و التجار بإحصاء الأرباح.

 و الفقراء بغلاء الأسعار.

و المسؤولين بالخطابات.

الشرطي: عم كنتما تتحدثان؟

المثقف: موضوعات عامة، كنا نتحدث عن الحب.

 الشرطي: كذاب لا احد يحب أحدا.

المثقف: عن الصداقة.

الشرطي: ايضاً كذاب...لا احد يثق بأحد.

المثقف: عن الصحافة العربية.

الشرطي: لا احد يقرؤها.

المثقف: عن الإذاعات.

 الشرطي: لا احد يسمعها.

المثقف/ عن الانتصارات.

 الشرطي: لا احد يصدقها.

المثقف: عن المقاومة الفلسطينية.

 الشرطي: لا احد يحس بوجودها.

 المثقف: عن حرب الخليج.

 الشرطي: لا احد يبالي بها.

المثقف: عن الزراعة.

الشرطي: لا احد يزرع شيء، كل طعامنا صار معلبات.

عم كنتما تتحدثان للمرة الأخيرة؟

المثقف: بصراحة كنت احدثه عن الصراء العربي الإسرائيلي من الالف الى الياء

الشرطي: يا للفضيحة تتحدث عن اهم قضية عربية الى كلب و اجنبي أيضا

المثقف: لا تحمل الموضوع اكثر مما يحتمل اعتبره تتمة للحوار العربي الأوربي

الشرطي: و لماذا كنت تطلعه على صحفنا المحلية

 المثقف: كنت اتلو عليه احدى الافتتاحيات

الشرطي: و كيف كان تعقيبه عليها؟

المثقف: لقد عوى

الشرطي: كلب متواطئ

المثقف: لماذا تتحدث عنه بكل هذه الضعة و الاستصغار يا سيدي؟

صحيح انه كلب صغير بحجم قبضة اليد و لكن انظر اليه كيف يبدو وادعاً مطمئناً وواثق من كل شيء  يعرف متى يأكل ومتى يشرب و متى يخرج الى النزهة و متى يعود منها و متى ينام و متى يستيقظ باختصار كلب صغير يعرف مصيره و رجل طويل عريض لا يعرف مصيره أه يا سيدي الشرطي انا الانسان العربي لو كان لي حقوق كلب فرنسي او جرو بريطاني لصنعت المعجزات بقلمي البائس و دفتري المهترئ هذا

هل سمعت بإلياذة هوميروس؟

الشرطي: لا

المثقف: بالأوديسة؟

الشرطي: لا

المثقف: بملحمة غلغامش؟

الشرطي: لا

المثقف: بالكوميديا الإلهية لدانتي؟

الشرطي: لا

المثقف: بمسرحية فاوست لغوته؟

الشرطي: لا

المثقف: إذاً بماذا سمعت؟

الشرطي: منذ غزو لبنان لم اسمع الا اغنية "صيدلي يا صيدلي".

المثقف: إذاً : هل تسمح لي بأن أعوي معه قليلاٍ؟.

الشرطي: لا هيا أمامي.

 المثقف: لن امشي في الشارع هكذا.

 الشرطي: ماذا تريد؟ موكباً رسمياً؟

المثقف: اريد طوقاً حول عنقي فقد اهرب، كمامة على فمي فقد أعض.

الشرطي: من ستعض يا هذا؟

المثقف: قد اعض الأرصفة، البنوك، الجماهير، اليمين، اليسار، الشرق، الغرب، الجنوب، الشمال. اخفض مسدسك يا سيدي و لا تصدق ما أقول ففي النتيجة لن اعض الا لساني على قارعة الطريق، أو اصابعي حتى يتصل الناب بالناب لأنني آمنت بشيء ما في يوم من الأيام ..اليس كذلك يا سيدي الشرطي؟

الشرطي: ارجوك لا تضربني على الوتر الحساس و الا تركت عملي و انضممت الى المحادثات معكما.

التنالية (14): الأقنية الرومانية

***

عبد الرضا حمد جاسم

.................................

* من كتاب: سأخون بلدي لمحمد الماغوط

 

(مقتطف من كتاب نساء محاطات بالماء لباتريشيا كورال)

بقلم: باتريشيا كورال

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان زواجي بمثابة رحلة بحث لا تنتهي أبدًا

كنت دائمًا أبحث عن الأشياء التي أخذها زوجي، والقرائن التي تركها وراءه

***

1- إدمان الزواج:

أتذكر كيف بكيت عندما مشيت نحوك وأمسكت بيدك بين يدي.

بعد الزفاف، رقصنا طوال الليل في كاسا دي إسبانيا على أنغام أغانينا المفضلة، وعلى وقع فرحة أصدقائنا، وعلى وقع حبنا. كانت قدماي تؤلمني. وعندما اشتكيت من الألم، أخذتني إلى جانب حلبة الرقص وأحضرت لي كرسيًا لأجلس عليه. ركعت أمامي، وخلعتُ حذائي ذي الكعب العالي، ودلكتني قدمي. التقط صديق صورة لي بفستان زفافي وقدمي العارية في يديك.

لا أملك صورة لجبهتك المقطوعة، ولا للدم الأحمر الذي كان يسيل من أنفك حتى وصل إلى فمك، كالنهر الذي يجري إلى البحر.

أجسادنا العارية على سرير فندق. يدك اليسرى على صدري، وقبلاتك الرطبة على عنقي. “زوجتي، أنا محظوظ لأنك زوجتي,” همست، وكنت أتأمل خاتم زواجك المتلألئ على إصبعك.

كنا جائعين. في وقت متأخر من الليل، مشينا متشابكي الأيدي إلى المتجر لشراء بعض الوجبات الخفيفة. اخترتَ علبة بسكويت محشو بالجبن، وعدنا إلى الفندق. جلسنا جنبًا إلى جنب في شرفة غرفة النوم وفتحنا زجاجة من الروم. امتزجت ضحكاتنا بصوت الأمواج وأشجار النخيل في سان خوان. بقينا مستيقظين حتى الفجر، حتى لم يتبقَ بسكويت أو روم.

في رحلتنا الأولى معًا، سمحت لي أن أجلس في مقعد النافذة في الطائرة. كنت تعرف كم أحب ذلك. غفوت على صدرك بينما كنا في السماء. فتحنا الطاولة لملء بطاقة السائح، والتقطنا صورًا لأيدينا اليسرى مع خواتم زواجنا الجديدة وأول مستند حددنا فيه "متزوجان". حملت أمتعتي عندما هبطنا في بونتا كانا.

غرفة ذات إطلالة على المحيط. ملابس داخلية مختارة بعناية. أيام أمضيناها بين السرير والماء. كتبت أسماءنا على الرمال مع قلب وعبارة "متزوجان للتو" بجانبهما. لم تتوقف عن تصويري. لم تتوقف عن قول كم تحبني.

طلبت منك أن تتوقف عن طلب كل هذه المشروبات في البار.

كان يوم اثنين. جلبت عبوة أخرى مكونة من ستة زجاجات من مدالا إلى منزلنا. رميتها على أرضية الشرفة غير المكتملة في الفناء الخلفي وصحت: "لن أسمح بالمزيد من الكحول في هذا البيت. لقد سئمت من الأمر." في الحقيقة، كنت قد سئمت منك. ربما رميتُ علب البيرة على الأرض لأنني لم أستطع رميك، أو رمي عملي، أو دراساتي العليا، أو بيتنا، أو زواجنا، أو نفسي. بكيتَ هناك، أو لاحقًا في سريرنا حتى غفوت. أو هكذا أذكر ذلك. أو هكذا أريد أن أتذكره، لقد دفعت ثمن قسوتي شعورا بالذنب.

في بعض ليالي الجمعة، شعرت وكأننا مثل أي زوجين شابين متزوجين. تناولت بيتزا متوسطة الحجم بالبصل ونصف لحم مقدد ونصف لحم خنزير. جلسنا على الأريكة لمشاهدة أفلام كوميدية على التلفزيون الذي اشتراه لنا والدك. استلقى الكلبان على الأرض بجوارنا مباشرة. كانت أحلامي صغيرة.

اتصلت بصديقتي المقربة وأنا أبكي.

قلت لها: "ما زال ليس لدينا طاولة طعام في المنزل"

أجابتني: "لا تبكي! لديك زوج يحبك حقًا، وهذا هو الأهم . يستغرق الأمر وقتًا لترتيب المنزل "

لم أخبرها أنك كنت تشرب البيرة كل يوم وأن الثلاجة كانت شبه فارغة.

كرهت أن أكون معلمة بدوام كامل، وطالبة دراسات عليا بدوام كامل، وزوجة بدوام كامل. كنت أنام على الأريكة بمجرد وصولي من العمل كل عصر حتى اليوم التالي. كنت تقول لي مرارًا وتكرارًا: "أشعر بالوحدة الشديدة"، ولم أكن أستمع إليك.

كل بضعة أشهر، كنت تقطع الموز الأخضر والموز الطازج من حديقة منزلنا، وتضعها داخل أكياس التسوق، وتقدمها لجيراننا.

عندما دعونا الأصدقاء إلى منزلنا، استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً في التنظيف.. "لماذا أنت بطيئة جدًا؟ توقفي عن الانشغال بالتفاصيل. اذهبي لتأخذي دشًا، وسأكمل الباقي " قلتِ لي ذلك وأنت تأخذ الممسحة من يدي. شعرت بعدم الكفاءة.

اتصلت بالعمل وأبلغتهم أنني مريضة لأن سيارتنا لم يكن بها ما يكفي من البنزين.

كنتِ تسهر معي طوال الليل عندما كان عليّ إنهاء ورقة تخرجي. كنتِ تحضر لي القهوة     وتفرك رقبتي. "أنتِ تستطيعين فعل ذلك. أنهيتِ تقريبًا. أنا هنا معك." بعد عدة أشهر، احتفلتِ بشهادتي من خلال التقاط صورة لها ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي مع تعليق كتبته، "أنا فخور جدًا بزوجتي."

كان الصيف، ومع ذلك كنتِ ترتدي قميصًا بأكمام طويلة لتغطية ذراعيك.

بدأت تفقد الطلاب. أردت أن أعتقد أن السبب في ذلك هو الاقتصاد وليس لأنك لم تحضر دروس الموسيقى. لم تغادر غرفة النوم لمدة أسبوع. وعندما فعلت ذلك، لم يعد لديك وظيفة.

في الصباح، كنتُ أرتدي ملابسي للعمل وأجلس على السرير أستعرض الأرض. استغرقني الأمر ساعة لأقوم وأغادر المنزل بينما كنتِ نائمة. كنتُ خائفة من مغادرة المنزل خوفًا من أن أجد جثتك ملقاة على أرضية المطبخ عندما أعود وأفتح الباب.

لقد وعدتني بتقليم الشجرة التي كانت أمام المنزل. وعندما عدت إلى المنزل من المدرسة، وجدتك تبكي في المطبخ.

" هل أنت بخير؟"

قلت لى:

"لقد قتلت الشجرة؛ لقد قطعتها كثيرًا".

نظرت من خلال النافذة ورأيت أن الشجرة فقدت معظم أغصانها.

"لا تقلق، ستنمو مرة أخرى"، طمأنتك.

وهذا ما حدث بالفعل.

2- إدمان الزواج:

تشاجرنا في طريقنا للاحتفال بذكرى زواجنا وعيد ميلادي. لقد أنفقت المال الذي كنا سنستخدمه في مغامرة نهاية الأسبوع. عندما وصلنا إلى الفندق أعطيتني هدية وبطاقة مكتوبة بخط اليد. كان السطر الموجود على البطاقة يقول، "أنا آسف لعدم تمكني من منحك كل ما تستحقينه". وبكيت.

سألتني بينما كنت تخلع قميصك لتدخل المسبح، وكنت أنظر إلى النقاط الحمراء الجديدة على ذراعك:

"هذه العلامات قديمة. هل تصدقيني؟"

كذبت:

"أعرف"

انتظرتك في منزل والديّ لتناول عشاء عائلي.

قلت لي عندما اتصلت بك أسأل لماذا تأخرت.

"أشعر أنني سأمرض. أفضل البقاء في المنزل "

عندما وصلت إلى منزلنا، كنت ترتدي ملابسك للخروج.

سألت، وبدأت المشاجرة: " إلى أين تذهب؟"

أجبت: " سأذهب لأحضر بعض البيرة"

صرختُ: "لقد سئمت من شربك. إذا كنت ستستمر في الشرب هكذا، فمن الأفضل ألا تعود إلى المنزل "

مرت ساعات ولم تعُد. كنت خائفة. اعتقدت أنك ميت. عدت إلى المنزل في الصباح وأخبرتني أنك تعرضت لانتكاسة. كانت تلك بداية حرب سأظل أشعر بالمسؤولية عنها دائماً.

لقد دعوتني إلى مجموعة من اثنتي عشرة خطوة في ليفيتاون. ذهبت إلى اجتماعات الأسرة بينما ذهبت إلى اجتماع المدمنين المتعافين. رأيت امرأة شابة تتحدث إليك خارج الغرفة. كانت تحتفل بثمانية أشهر من الإقلاع عن الإدمان. أتذكر الخوف في عينيها عندما أخبرتها أنك تعاني من انتكاسة بعد سنوات من التعافي. في تلك الليلة توقفت عن حضور اجتماعات التعافي.رجل مسن من مجموعتي فقد زوجته بسبب المخدرات. أهدي إليّ كتابًا مع ملاحظة في الخلف تقول: "اختر نفسك."

خلعت خواتم زواجي وضعتها على طاولة القهوة قبل أن أنام على الأريكة. عندما استيقظت في الصباح، لم أتمكن من العثور عليها. قلت لي: "ربما ابتلعها الكلب عن طريق الخطأ" أردت أن أصدقك.

جئت ترتعش إلى غرفة النوم مع كوب من الماء. تسللت إلى السرير، وعندما عانقتني، كانت بشرتك حارة كالحمى.

كانت أغنية "إل دراجون" تعزف في راديوك. كانت تلك نشيد جحيمك. أطفأت أضواء غرفة النوم وبقيت في السرير لعدة ساعات أراقب السقف. كانت الشياطين تزورك مرة أخرى.

قائمة الأشياء المفقودة:

1- الساعة الذهبية والماسية التي أعطتها لى  جدتي.

2- العقد الأبيض والأزرق من الياقوت الذي كان لتيتي كارلا

3- خاتم زواجك.

هل أخذت خاتمي؟

آثار الحقن. تحت قميصك ذو الأكمام الطويلة. نقاط حمراء تشير إلى مسار عروقك.

قائمة أخرى:

1. جيتارك

2. مجموعة الطبول الخاصة بك.

3. راديوتنا

4. دراجتك

5. وظيفتك

6. سيارتي

7. الأمل

وجدت حقنا فارغة في خزان المرحاض وداخل حذائك. وجدت ملعقة في الغسالة عندما كنت أقوم بالغسيل، كانت معوجة، محترقة من الأسفل بدائرة سوداء غير متساوية.

لكمك الجار في وجهك عندما علم أنك سرقت لوح التزلج الخاص به. كانت ابنتنا الروحية تزورنا. كانت تبكي عندما سقط جسمك على الأرض. ضممتها إلى صدري.

لقد وقعت في فخ البحث عن الكنز الذي لا ينتهي أبدًا.

1- إدمان الزواج:

أحضرت معك جوع الشارع. شغلت الموقد، وأخرجت الحليب، وكيس دقيق الذرة، بينما كنت أتأكد من أنك لن تحرق أي شيء. أنك لن تحرق نفسك. كنت أنظف خلفك، وأتعثّر بك مع كل خطوة، مع كل نصف دورة، كأنني أحاول بفشل أن أرقص سون كوبا. بدون حفلة. بدون فرح. بدون موسيقى. كنت منزعجًا كأنني أدوس على قدميك. لم تفهم أبدًا كم كان صعبًا تنظيف دقيق الذرة الجاف من قدر، من السقف، من الخزائن، من الطاولة، من الأرض، من الملابس، من طبق... كنت تعرف فقط كيف تسكبه. من التعثرات ورقصتنا المتكسرة في المطبخ، ذهبت إلى مائدة الطعام وأنت تسكب دقيق الذرة في طريقك. غائب، بذيول ممتلئة وبطن فارغ، جلست إلى الطاولة وحاولت أن تأكل بضع لقيمات دون أن تسقط من كرسيك. جلست معك على الطاولة وهززت كتفك لأبقيك مستيقظًا، لكنني قمت وذهبت إلى المطبخ لأنني لم أرغب في رؤيتك بعد الآن. نمت ووجهك على الطبق. نظفت الفوضى على الأرض بينما كانت لا تزال طازجة. انتظرت أن تستيقظ لأخلع قميصك وأغسل وجهك.

أخذتَ المفاتيح التي أخفيتها في درج المطبخ، وفتحتَ الباب الأمامي، وغادرتَ منزلنا. عندما خرجتُ من الحمام لأستعد للنوم، أدركتُ أنك قد رحلتَ. عدتُ إلى الدش وبقيتُ تحت الماء الدافئ لأطول فترة ممكنة، حتى أصبحت أصابعي مجعدة وبشرتي نظيفة بشكل زائد. كان ذلك يُشغلني عن الخوف من نوبة الهلع. ساعدني في تجنب التفكير في كل الأخبار السيئة التي يمكن أن أستقبلها.

ماذا لو جرع جرعة زائدة؟

ماذا لو اتصلت بي الشرطة لأتعرف على جثته؟

رفضتُ هذه الأفكار.

لديه خبرة في تعاطي المخدرات. لن يرتكب خطأً.

كنتُ أبحث عنك في سابانا سيكا ورأيتُ من بعيد رجلًا مشردًا يعبر الشارع. لكن، كان هو أنت. لم أستطع التعرف عليك. ناديته باسمك، وعندما استدرتَ، رأيتُ وجهك. جبهتك مصابة، ونهر من الدم يجري بين عينيك الكبيرتين، الخضراوين اللتين لم تتعرفا عليّ أيضًا.

صرختُ من داخل السيارة:

"إلى أين تذهب؟"

"أنا ذاهب إلى المنزل، ألا ترين؟"

أجبتَ وأنت تعبر الشارع، وعيناك تائهتان، وأنت ضائع. كنتَ تسير في الاتجاه المعاكس للعودة إلى المنزل، وتساءلتُ منذ متى كنتَ تحاول العودة.

" ادخل، سآخذك إلى المنزل."

لم تنظُر إليّ، لكنك دخلت السيارة. ربما كنتَ تثق بالصوت الذي وعدك بأن يأخذك إلى المنزل.

هل يمكنك التقاط صورة لروح محطمة؟

عدت إلى المنزل من العمل ووجدتك على الأرض. ألقيت بنفسي فوق جسدك وهززتك بقوة قدر استطاعتي لأرى ما إذا كنت على قيد الحياة، وكأنني أستطيع إعادة روحك من الموت. فتحت عينيك. أتذكر نظرتك الفارغة. عينيك البيضاوين. أتذكر أشياءً لا أريد تذكرها. لا أريد الكتابة عنها. اعتبرها مكتوبة في هذا الفضاء:

" لا أريد أن أكون متزوجة منك بعد الآن "

صرختُ بها في صباح يوم الأحد. ذهبتَ لتعيش أنت مع والديك. وبقيت وحدي في منزل مسكون.

تلقيتُ مكالمة من جارتي بعد بضعة أيام من رحيلك. قالت في الهاتف.

"أعتقد أن منزلك قد تعرض للاقتحام "

عدتُ إلى المنزل مسرعة من العمل ورأيت نافذة المطبخ المكسورة. تلفازنا ملقى على الأرض خارجًا. وجسمك يخرج من النافذة. دفعتك بمجرد خروجك من النافذة.

"ما خطبك؟ هل جننت؟

صرختُ، ولم ترد.

أخذتَ التلفاز من الأرض، وقلت لك:

"إذا أتيتَ إلى هذا المنزل مرة أخرى، سأستدعي الشرطة"

أجبتَ زأنت تتعثر في الشارع:

" اللعنة عليك"

مرّت امرأة بسيارتها، ودخلتَ في سيارتها. انطلقت بك بسرعة. حتى لم أعد أراك.

(تمت)

***

........................

* مقتطف من كتاب نساء محاطات بالماء للكاتبة باتريشيا كورال. © 2024 جامعة ولاية أوهايو.

المؤلفة: باتريشيا كورال/  Patricia Coral كاتبة بورتوريكية ثنائية اللغة. تحمل شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من الجامعة الأمريكية، حيث حصلت على جائزة ميرا سكلارو وكانت رئيسة تحرير مجلة FOLIO. تكتب كورال في مجال النثر الإبداعي والشعر، لكنها غالبًا ما تجد كلماتها مكانها في الحدود بين الاثنين.  كانت مديرة الفعاليات السابقة لمكتبة Politics and Prose، وقد ساهمت في العديد من المجلات الأدبية. مذكراتها (نساء محاطات بالماء) أول كتاب لها.

فجأت خرج أهل الواحة من حالة الخمول التي كانوا عليها طيلة الأسابيع الأخيرة من فصل الصيف، ففي الليل ينامون على هبات ونسمات الهواء البارد، وفي النهار يفتشون عن الظل ويقصدونه من مكان إلى آخر، من تحت سور يحجب أشعة الشمس في الصباح إلى سور آخر يحجبها في المساء، ومن تحت ظل شجرة إلى أخرى، ومن قبو أو درب إلى آخر، الكثير يعوض ما فاته من النوم بالليل، والبعض الآخر يقضي جزءا كبيرا من وقت النهار في ظَفْرِ سعف النخيل بعضه ببعض، وتحويله إلى بساط بعرض أربع أو خمس سنتمترات وبطول أمتار متعددة... وبعدها يتم خياطة جنباته بعضها ببعض، بشكل دائري يتحول بعدها إلى قفف كبيرة أو صغيرة الحجم... البعض الآخر يستبدل ظَفْرَ سعف النخيل بِظَفْر ولفِّ شرائح القصب بعضها ببعض، والتفنن في صناعة سلال متنوعة الأشكال والأحجام، وقد يلجأ إليها من أجل تخزين بعض أنواع التمور وغيرها.
ترك جل الناس ما بيدهم، وانخرطوا في جني التمور، وهم يتقفَّون أثر نضجها تباعا، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد آخر، فبعد صلاة الصبح من كل يوم وقبل شروق الشمس، تجد النِّسوة قد انتهت من طهي شربة الصباح "الحريرة البيضاء" المكونة من دقيق الشعير، فبعد تناول شربة الحريرة، يتجه جل أفراد الأسرة نحو هذا الحقل أو ذاك، لجني تماره، التي استوت ولم تعد تتحمل البقاء وهي معلقة من بين جريد النخيل، وقد تتساقط بشكل تلقائي بفعل هبة برد خفيفة، أما إن باغتتها رياح عابرة فقد يتساقط الكثير منها على الأرض، وهي فرصة ثمينة للنمل والفئران والقنافد والخنافيس والحشرات... لتسعد بقوت يومها وقوت غدها، أما الطيور فهي تختار ما تريد من حبات التمر من الأعلى بالرغم من أن أشواك النخيل تحيل بينها وبين ما تشتهيه، النمل والفئران... يقبلون بنهم على بعض أنواع التمور، بينما لا يولون اهتماما لأنواع أخرى... أهل الواحة لديهم خبرة، بمعرفة أنواع التمور التي يقبل عليها النمل دون غيرها، والتمور التي يفضلها الفئران... إلى درجة أنهم يلقبون بعض أنواع التمور بأسماء بعض الكائنات، ولا شك أن الخريف ووفرة تماره وتعدد أنواعها وأشكالها، قد تجذب كل المخلوقات الطائرة والزاحفة والتي تمشي على أربع، فليس من الغريب أن تجد كلاب وقطط الواحة وهي تقبل على أكل بعض أنواع التمور...
وأنت تعبر وسط الواحة من حقل إلى آخر، وفي طريقك بين الحين والآخر تصادف الدابة الواحدة أو الإثنين إن لم تكن ثلاثة دواب وهي تتمايل، لعبء ما يثقل ظهورها من زنابيل1 ممتلئة بالتمر عن آخرها، وقد يبادرك صاحبها بجملة معهودة طيلة أيام الخريف، وهو يدعوك وليحُّ عليك بأن تأخذ وجبة طعامك من نوعية التمر من وسط الزبيل على ظهر الدابة، البعض يقبل على قبول الدعوة، والبعض الآخر "يكتفي بالقول خير وبركة"، والغريب في الأمر في حالة الذين لبو الدعوة بالقبول، أن الدابة تتوقف عن المسير، وهم يقتربون نحوها، فهي لا تمانع أن تمتد يدك إلى وسط حمولة الزنبيل، لتقع عينك على حبات التمر و بعدها يسيل لعابك وتجذب شهيتك... الدابة (حمار أو بغل) تحرك أذنيها وتهز برأسها الى الأعلى، وتمنحك الفرصة والوقت الكافي لتنتقي ما تريد من حيات التمر، قليلة هي الدواب التي تمانع ولا تتوقف، لتلبي استجابة الدعوة.
عملية قطعِ العراجين أحيانا تكون سهلة جدا، لكن بعض العراجين ليس بالسهل قطعها، فهي تمانع وتدافع عن نفسها بما لا يخطر على ذهن بشر، البعض من الناس يرى في جني تمار الأشجار، مسألة سهلة المنال، فالشجرة ليست لها قرون لتنطحك بها، الشجرة ثابتة في مكانها وليس لها هروب...لكن واقع الحال أن الأشجار لها طرقها التي تدافع من خلالها على احتضان تمارها، إذ تخبئها بين الأشواك وبين مختلف الفروع والأغصان في علو شاهق...لا فرق إذن؛ بين من له خبرة في ذبح العجول والأبقار أو ترويض الفرسان، وبين من له خبرة جني تمار شجرة من الأشجار.
تصور نفسك الآن، وأنت على رأس نخلة يتجاوز علوها أربعة عشر مترا. وأنت تتشبث بجريدها، وهو يتمايل بك ذات اليمين وذات الشمال، وكل همك أن تتوفق في الإمساك بعرجون التمر، إذا تراه بالقرب منك، بينك وبينه بضع من جريد النخلة، وهو يحاصرك بأشواكه الذي يشبه الابر والمسامير... تحتاط كثيرا ألا تكون ضحية شوكة منفلتة لا تحسب لها حساب، وقد أبصرتك وأنت لم تبصرها، رأسها الحاد مصوب في اتجاه باطن قدمك وأنت حافي القدمين، إن وقع جسد على باطن القدم ستنفذ الشوكة إلى الداخل وتحس حينها بالألم، ستسحب قدمك بخفة لكن الشوكة ستصحبها معك، وأنت تحس بألم وخزها في باطن قدمك، والمفارقة هنا أن باطن أقدام معظم أهل الفلاحة البارعين في صعود النخيل، تكون خشنة بشكل ملفت للنظر، نتيجة ترسُّب طبقات من الجلد الميت الذي فقد الإحساس، إلى درجة أن البعض من الرجال من هذا النوع يدوس بقدمه عقرب ولا تنفذ شوكتها المسمومة إلى طبقة اللحم الحي. وبالرغم من كل هذا فشوكة النخيل التي لم يحسب لها حساب قد تنفذ إلى الأعماق... ربما أن أهل الواحة لوحدهم على علم بأن العراجين تحتمي بالجريد وسعفه وأشواكه، والحقيقة أن النخلة هي التي تحمي تمارها بكل ما لها من قوة. بلوغ هذا العرجون بالذات سارت أكثر صعوبة، ها أنت تتوقف للحظات، لتسترجع أنفاسك وأنت متمسك الجريد، وهو يمنحك ثقة وأمانا، وأنت تحتاط كل الاحتياط من الانزلاق والسقوط في الفراغ، الذي يأخذك إلى الهاوية.
تتمثل في ذهنك تلك اللحظة القريبة منك والقريب منها، التي تضع فيها المنجل الطويل بإحكام، على وريد العرجون المتفرع من رأس النخلة، تسمي الله، وأنت على يقين بأن وريد العرجون لا يشبه وريد الخروف في شيء، العرجون لا يمكن له أن ينتفض أمام حركة جزِّ المنجل، مثل الخروف، لكن عملية القطع والفصل والجزِّ والذبح... تفضي إلى نفس النتيجة، عندما تجزُّ العرجون في صمت يسيل منه قليل من الندى تخليدا لذلك الحدث... حدث الانتقال من عالم إلى عالم آخر، حدث الإعلان عن نهاية دورة طبيعية وبداية أخرى... أنت الآن تستحضر كل براعة جسدك وتلتوي مثل الافعى بين جريد وآخر. تحدِّق في العرجون بعينيك ويخيل إليك أنه هو الآخر يحدِّق فيك... ترفعه إلى الأعلى وتفصله عن الجريد وتلقي به إلى الأسفل وتحاول أن يأتي وسط البساط، الذي بسطه أفراد الأسرة ومن معهم من الأصحاب، كي لا يعفر التمر بالتراب، وهم بالقرب من البساط المفروش على الأرض، وأبصارهم مشدودة إلى الأعلى وهم ينظرون إليك من الأسفل نظرة يغلب عليها الترقُّب... وعندما تلقي بالعرجون من الأعلى، تصاحبه أبصارهم حتى اللحظة التي يلتطم بها على الأرض فوق كومة العراجين، وهو يخلف صدى كبيرا يتردد في أرجاء المكان، ومن خلال صدى العراجين المتتابع، يعرف البعض ببديهتهم التي اكتسبوها مع الزمن، مكان النخلة أو النخيل في الحقل الذي تُجنى تماره.
عندما تضع رجلك على الأرض معلنا نجاح رحلتك هذه نحو السماء صعودا ونزولا، يبادرك البعض بالقول "على سلامتك" كأنك عدت من رحلة سفر غير مدروسة العواقب، أو كأنك عدت بزورقك الصغير من البحر إلى اليابسة بعد فترة وجيزة، ولا أحد يعرف كيف ستكون عواقب موج البحر...ها أنت الآن تنخرط مع الجماعة في حلقة حول كومة العراجين، وأنتم في عملية فكِّ ما تبقى من حبات التمر العالقة بها، والآخرون منهمكون في التقاط حبات التمر المبعثرة، هناك وهناك في كل جوانب النخلة الواحدة أو النخلات الثلاثة المتفرعة عن الجذع الواحد... وهم يملؤون القفة بعد القفة، والبعض الآخر منهمك في إفراغ القفف وسط الزنابيل من أعلى ظهور الدواب، وهي في طريقها إلى القصبة ذهابا وإيابا.
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
...................
1- الزَّنْبيلِ: الجمع، زَنابيلُ وهو القُفَّةُ الكَبيرَةُ، الجِرابُ، الوِعاءُ، وهو على شكل مستطيل مفتوح من جهة واحدة، يوضع على ظهر الدابة، ويتم ملؤه ...

ولد وترعرع وسط عائلة بسيطة، الأب بحار، ومهنة الأب أثرت على الابن لما صار كاتبا اذ اقتفى أثر والده ولكن ليس بين الأمواج وفوق مراكب الصيد وإنما على الورق، اذ جعل من البحر موضوعا رئيسيا لقصصه ورواياته...
وبعد تخرجه سنة 1969 شغل عدة مناصب تجمع بين الثقافة والإعلام. وكمعظم الكتاب الجزائريين زاوج بين الوظيفة والكتابة الإبداعية، والعمل السياسي...
تعرض لمحاولة اغتيال سنة 1993، ورغم ذلك لم يتنازل عن أفكاره وأرائه وما كان يراه صوابا، وأفكاره لم تكن متطرفة، فهو كان دائم الاعتزاز بانتمائه الإسلامي وحبه للغة العربية! لكنها ظروف عسيرة كانت تمر بها البلاد، وكان كل مثقف مستهدف، وكل كاتب خائف على حياته...
وهو من الكتاب القلائل من جيله، الذي كان يتقن اللغة الانجليزية ويقرأ بها، أما الكتابة فكان يكتب باللغة العربية، وأحيانا باللغة الفرنسية،والكتابة باللغة الفرنسية لم تكن تتعدى المقالات في الصحف...
و كانت مشاهدة الأفلام السينمائية الجيدة من بين أحب الهوايات الى قلبه!
رغم نشاطه السياسي المعتبر إلا انه كان يفرض على نفسه الاستقلال الفكري...
أما في الإبداع فمتنوع بين الروايات والقصة والترجمة والمقال؛ أهم أعماله الروائية؛ طيور الظهيرة 1976، عزوز الكابران ،1990 دم الغزال سنة 2002...
أما القصة فله جراد البحر 1976، المومس والبحر 1983 .. أما الترجمة فله ترجمة جيدة لكتاب الرواية لجورج لوكا تش سنة 1982.. والمقال فله كتاب خيول الليل والنهار سنة 1990..
مواضيع قصصه ورواياته هي الجزائر عبر تحولاتها وأطوارها المختلفة، والبحر بطل رئيسي في تلك الروايات والقصص..
وفي أيامه الأخيرة،مع التقدم في السن كان يتأسف لأنه لم يعد بمقدوره القراءة، وهو من الكتاب الذين كانوا يحرصون دائما على القراءات التراثية، والاطلاع على التراث لتقوية لغتهم وأسلوبهم الكتابي، وطالما ردد في أكثر من مناسبة انه لا يقرأ رواية لا تكون مكتوبة بلغه راقية!..
***
بقلم عبد القادر رالة

 

رواية رادا للروائية الفلسطينية إسراء عبوشي، امرأة تبحث عن طعم حياة.
الرواية من حيث الشكل والتي تأخذ اسم فتاة رادا وهذا الإسم غير متداول بالبلاد العربية ويعني الريح اللينة، وفي اللغة الكنعانية تعني رامية الحجر.
وفي الإهداء نقرأ (إلى وطن ارهقناه ونحن ننبش جراحه بأقلامنا،
إلى شهداء يحسبونهم أرقاماً.
إلى أسير غمرته دمعة شوق لحضن أحبابه )
ولأن الشكل يجب أن يشي بشيء من مضمون الرواية كما هو متعارف عليه، لكن واقع الرواية أشار لشيء مختلف،
فالقارئ للعنوان والإهداء يذهب بدون شك إلى الاعتقاد أن هذه الرواية تمثل الأدب المقاوم بكل سردياتها، وأن بطلة الرواية رادا ستكون امرأة مقاومة ضد الاحتلال،
يقول هيدجر (الوضوح هو اكثر الأشياء غموضاً)
إن الظهور في خاصية العنوان لا يكون إلا سمة أو علاقة على المعنى يحيل أو يفضي وإنما بالحكاية التي ستقولها،
وهذا ما فعلته الكاتبة إسراء في روايتها.
حيث تناولت الرواية الاضطهاد الاجتماعي التي تعاني منه البطلة رادا ولم تتطرق إلى الاضطهاد الوطني وتأثيره في مسيرتها.
هذا من حيث الشكل أما من حيث مضمون الرواية، فالرواية قائمة على قلق السؤال حول مصير المرأة في المجتمع الذكوري ومعاناتها، وحول مصير الوطن بكل أبعاده من الخارج والداخل، الرواية أحالتنا على "ما يسمى الفوبيا الاجتماعية" إذ فتحت الرواية المجال واسعا للشخصيات أن تتحدث عن نفسها دون أية رقابة وهذه الميزة خاصية أصبحت تتعلق بالكتابة الروائية العربية عموما بعد التطورات الكبيرة التي يشهدها الواقع وخاصة بعد دخول ما يعرف بالأدب الحداثوي.
الزمن: لا وجود لزمن في الرواية تستطيع أن تتكأ عليه فالزمن هنا مفتوح غير محدد وهذا قد يشكل مأخذاً على الرواية من حيث التقنية الفنية، لكن في الأدب الحداثوي هناك تجاوزات تحصل لصالح الفكرة، أنا لم أعرف لماذا لم تحدد الكاتبة الزمن في الرواية.
لقد عودتنا الكاتبة، ان قضية فلسطين تحتل حيزا كبيرا في أدبها. لعل هذا التوتر الفكري احتل معظم أحلام اليقظة لديها، وغالبا ما توظف نسق الوطن.. الشهيد.. الأسير... العودة.. الحرية.. المرأة.. هاجسا لكشف المزيد من طبقات البنية السيكولوجية للمجتمع الفلسطيني.
تشتغل الرواية عموماً على اللغة البصرية والحسية من خلال عملها على تحديد مظاهر الحجاج " الاضطهاد الاجتماعي، الفساد " وأساليبه المتعددة ٌلإقناع المتلقي أو تبرير تيمة الانزياح ومعناها ودلالاتها المختلفة، حيث يكون دور المتلقي كبيراً من خلال تحوله "إلى منتج للدلالة، اعتماداً على ما تلقاه من بيانات وحمولات ومعطيات لسانية ورؤيوية وبصرية وفرها له النص ذاته وسياقاته الثقافية أحياناً، عندما يكون ذلك ضرورياً ولازماً لإيقاظ الذاكرة البصرية والسمعية والروحية لدى المتلقي.
تبقى تقنية الانزياح اللغوي على المستوى الأساسي في تحقيق لذة القراءة والرغبة في التأويل وفك شيفرة النص الروائي، لترتقي وتتوطد العلاقة بين النص والقارئ.
تكتب الكاتبة روايتها بشغف وهي تمتلك ناصية السرد الروائي، وبمرونة واضحة تطوِّع الحكاية والتي ملؤها الدهشة والمفاجأة والتعبير السلس عن المشاعر والأحاسيس والمواقف. حتى يتمكن من الاضطلاع بالوظيفة المعهودة إليه.
تبحث حكاية "رادا" عن ذاتها، عن أحقيتها في الحياة، من خلال سرد "ملفوظات حميمية" كتقنية أسلوبية حاضرة بكل تجلياتها الإيقاعية والدلالية.
لقد اعتمدت الرواية على دلالات حسية من خلال خلق علاقة متبادلة بين الذات والمضمون في إطار خاص .
تجربة رادا التي عاشتها مع زميلاتها في المسابقة، فقد صورت أحاسيس ومشاعر وانسجام تام بين رادا وعروبة وحنين وهن فلسطينيات مثلها أرادت الكاتبة أن تربط المرأة الفلسطينية في مناطق ٤٨ والضفة والشتات.
لقد نسجت الكاتبة روايتها نسجاً عنكبوتياً بلغة جميلة مبدعة تفرض على قارئها التوغل جيداً في مجاهل هذا النسج الذي يجمع شتات تركيز القارئ في موضوعة واحدة (الوطن والمرأة) فالصورة السردية الآخذة في التصاعد تؤكد دوافع البطلة "رادا" في التخلص من الظلم الاجتماعي وفي حماية الوطن من الفاسدين ومن المحتلين عندما تشير بشكل واضح عند فوزها في مسابقة القلم الذهبي في لبنان إلى والدة سليم وابنته صفد هذا الشاب خريج الكيماء الذي لم يجد مكانا للعمل في وطنه وذهب إلى الخارج وقتل عندما دسو له جرثومة السيدا بالدم لأنه فلسطيني رفض العمل في شركة أدوية يملكها يهودي.
تترك الكاتبة نهاية الرواية مفتوحة، وقد روت روايتها بأسلوب الراوي العليم، اعتمدت إلى تكثيف السرد، والاتكاء على الحوار الممسرح كوسيلة للكشف، ولتطوير الحدث، وإيصال رسائل الكاتبة الخفية.
تحرص الرواية على لفت انتباه قارئها إلى ثنائية الهواجس:
هاجس الحرية / الوطن، والهاجس الكياني الوجودي..
هاجس الكينونة الإنسانية ذاتها، وكيف يتحقق وجودها وتتخلق ماهيتها.
الرواية من الروايات القصيرة وقد اتخذت من التكثيف والحوار منطلقا ً لها في سرديتها.
***
محمد حسين - كاتب وقاص وروائي فلسطيني / سورية

 

ناطق عربي: بعد ان هب الشعب العربي هبة الرجل الواحد وحصل على استقلاله بالعرق والدموع والدماء وطرد المستعمر الغاشم من بلادنا شر طرده وبعد ان اممنا القناة وجابهنا العدوان الثلاثي وسطرنا أروع آيات البطولة والفداء في حرب السويس، وبعد ان كسرنا احتكار السلاح واطلقنا شعار "نعادي من يعادينا ونصالح من يصالحنا.
وبعد ان اسقطنا "حلف بغداد" و"مبدأ ايزنهاور"" ومشروع جونسن" وارسينا قواعد عدم الانحياز وسياسة الحياد الإيجابي بعيدا عن هيمنة الدول الكبرى وبعد ان اطلقنا حركة التحرر العربي في المنطقة وراحت القلاع الرجعية تتهاوى تباعا تحت ضربات الشعوب في اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية وبعد ان حشدنا طاقاتنا ونَّظمنا اعلامنا وبرامجنا على أساس ان إسرائيل مخلب قط الاستعمار وشوكة في خاصرة الوطن العربي وبعد ان انتظرناها من الشرق فجاءت من الغرب اطلقنا شعار " ما اُخذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة" وفوقه لاآت الخرطوم الثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. وبعد ان تجاوزنا كل هذا في حرب أكتوبر حينما حررنا الإرادة العربية وحطمنا العُنجهية الإسرائيلية امام الملأ. وبعد ان قطعنا امدادات النفط عن الدول المؤيدة للعدوان، وجعلنا من زعمائها واقطاب صناعتها يهرعون الينا معتذرين متقربين متملقين. وبعد ان عايشنا العمل الفدائي ورعيناه بالمال والسلاح حتى استقام عوده واشتد ساعده براً وبحراً وجواً في جميع ارجاء المعمورة واعتلى منصة الأمم المتحدة، ارفع منبر دولي في العالم. وبعد ان وقفنا وقفتنا الغضوب من مبادرة السادات واتفاقيات كامب ديفيد واتفاقية الصلح المنفرد وعزلنا مصر شعبياً ورسمياً ونقلنا مقر الجامعة العربية من مصر الى تونس. وبعد ان اكدنا ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وانه لا صوت يعلو صوت المعركة .وبعد ان استوعبنا حرب لبنان ومنعنا إسرائيل من تحقيق أي من مخططاتها التوسعية نتيجة للتلاحم البطولي بين الشعبين اللبناني والفلسطيني امام الة الحرب الإسرائيلية المتعجرفة.
وبعد ان تفهمنا حرب الخليج وحصلنا على صفقة الأواكس المتطورة رغم جهود اللوبي الصهيوني داخل الكونكَرس الأمريكي وخارجه ومن معه من العناصر المؤثرة في مراكز التأثير في الإدارة الامريكية وبعد ان احتوينا خلافات المقاومة بعد خروجها من لبنان واكدنا على ديمقراطية القرار الفلسطيني وعلى عدم الاستئثار به من أي طرف كان.
وبعد ان تفهمنا واستوعبنا جميع مراحل الازمة في المنطقة عربياً وفلسطينياً ولبنانياً وخليجياً في قمة فاس وقفزنا قفزة نوعية في قمتها الثانية. وبعد ان طافت اللجمة السباعية المنبثقة عنه ارجاء العالم من أمريكا الى روسيا الى فرنسا الى بريطانيا الى الصين لشرح الموقف العربي وجوهر الصراع في المنطقة من جميع جوانبه ولوضع حد لجميع لممارسات إسرائيل العنصرية وأهدافها التوسعية، وبعد ان عرينا إسرائيل دولياً واوقعناها في عزلة خانقة بعد ان توصلنا مع حلفائنا الى اتخاذ القرار تلو القرار بطردها من الأمم المتحدة ومن معظم اللجان الثقافية والاقتصادية والتكنولوجيه المنبثقة عنها. وبعد ان لعبت الجماهير العربية من المحيط الى الخليج دورها الريادي في المعركة وقالت بلسان احزابها ونقاباتها ومنظماتها لا لمشروع ريغان كما قالتها من قبل لمشروع روجرز والقرارين 242 و334 ولكافة الحلول الاستسلامية والطروحات التصفوية. وبعد ان لعبت الصحافة العربية المقيمة والمهاجرة دورها الحضاري في طرح الحقائق الموضوعية ولتعرية الصهيونية العالمية ثقافياً واعلامياً واعلانياً وبعد ان لعب البترول العربي دوره القيادي والمتميز سياسياً واقتصادياً وصحافياً وفكرياً وفنياً وتلفزيونياً على الصعيد الإقليمي والدولي لرأب الصدع وتوفير الجهد العربي للنهوض بمسؤولياته في المعركة وبعد ان أكدنا على هذا الاتجاه امام مؤتمرات القمة ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة الوحد الافريقية والمؤتمر الإسلامي في كولومبو وندوة الحوار العربي ـ الأوربي الأوروبي وحوار البحر المتوسط في مالطا وفي جميع المحافل والمناسبات الدولية منذ مؤتمر كلاسبورو بين الشرق والغرب الى المؤتمر الأخير بين الشمال والجنوب
عابر سبيل: وبعد كل هذه اللفة والدورة سنجلس على الخازوق المُعَدْ لنا منذ عام 1948.
***
التالية (13) المواطن والكلب.
عبد الرضا حمد جاسم
..........................
* من كتاب: سأخون بلدي لمحمد الماغوط

إن قصيدة "إلهاء البومة في قاع المفاصل" جميلة وممتعة وعميقة وغارقة في تربة الرمزية ومتجذرة في دهاليز التجريد الفلسفي [على غرار الشعر الميتافيزيقي او السوريالي..] ؛ جميلة دالا ومدلولا، مبنى ومعنى، لغة وفكرا ؛ رغم شفافية معجمها ووضوح أبجديتها فتنم عن دلالات عميقة ومعاني مستمدة من الماورائيات ؛ تضع الكلم في موضعه بناء وجزالة، تتجاوز فيه المعنى المبتذل إلى المعنى الباطن العميق، معنى المعنى، ميتا - معنى..
- من منظور الشكل الخارجي للقصيدة {لغة النص الشعري}، لوحظ بعد قراءة حثيثة وشمولية أن البناء اللغوي ظهر بمظهر التعقيد والتشابك والتشاوج في تركيب مكوناته ومحدداته وآلياته الاستيطيقية والبديعية والإثباتية من تقابل أو طباق (زمان / مكان..)، وتقريب تمثيلي أو مشابهة (توظيف كلمة " مثل "..)، أو تعبير جمالي / إبداعي (إضرام النار في قطن الكلمات / الطبيعة أرضعتني حليب اللامعنى / القمر افتض بكارة روحي..)، أو تعبير فلسفي / ميتافيزيقي (العالم لامتناه / قيام الأشياء من رفات الأشياء..)، أو استعارة أدبية / مرض اللغة (خطف دابة البراق من غياهب الأساطير القديمة..)، أو تعبير رومانسي فوق طبيعي (أصغي لنباح أصابعي في العتمة / أعزي القطار النائم فوق الشجرة / أقدس سر صداقتي مع الذئب..)، أو تعبير فوق عقدي (أعبد الأرض وأدهس السماء بمؤخرتي / هدايا الله التي نخرها نقار الخشب..).. بالجملة، فلغة النص تستعصي على القارئ اسكناه كنوزها واستغوار جوهر قصدها، وهذا ينم عن تعقيدها وثراء معجمها وثقل حملها ومتانة بنيتها..
- من منظور بنائها الداخلي (المتن الشعري)، فالأفكار ثمراء ووارقة، والمعاني قريبة وبعيدة، قبلية وبعدية، صريحة ومضمرة، معلومة ومجهولة، ظاهرة وباطنة.. غزيرة ومتنوعة ومحملة بازدواجية المعنى وفوق المعنى، الدلالة وماوراء الدلالة.. أفكار ذات طابع معقد ومتغاير ومتفاوت في الطبائع {الطابع الفلسفي / ط. الأدبي / ط. الفني التجريدي / ط. الميتافيزيقي / ط. السريالي اللاواعي..}.. وتجاوزا لعملية تفصيل فكر النص وقراءته من خلال استعراض واستنطاق أفكاره الجزئية / الظاهرة ؛ واسبعادا لكل هذا، أتناول المفهوم / الأم الذي ورد في العنوان : طائر البوم لأتساءل وأسائل، أشك وأفكر، أتأمل وأحتار، وأشارك هموم الذات الشاعرة وأتماهى مع هواجسها وانطباعاتها وشطحاتها الفكرية / الفلسفية.. لماذا وجود البوم في القصيدة؟ إلى ماذا ترمز الذات الشاعرة؟ إن طائر البوم كما هو معلوم كائن جارح ليلي، سمعه قوي، بصره حاد، عيناه واسعتان، حجم جسمه صغير، رؤيته بعيدة وقوية في عتمة الليل، يعيش في الغابة والحديقة والأمكتة المهجورة، ينصت للأصوات وينذر بوقوع الخطر، يختفي في النهار ويظهر بالليل.. إنه طائر نذير بالشؤم والنحس وسوء العاقبة في الحضارتين الفرعونية والشرقية القديمتين، يصدر أصواتا حزينة مزعجة.. لكنه في الحضارة الإغريقية القديمة والأوروبية جزء منها، هو رمز الحكمة والتعقل والتأمل العميق والاستقلال عن بعد في منأى عن المتطفلين والفضوليين، رمز العزلة والتفرد والانهماك في تأمل الذات لتأهيلها إلى المخاض والإبداع والتوليد النظري والانفجار الفكري.. وفي هذا السياق أسمى الفيلسوف الألماني فردريك هيجل HEGEL الفلسفة ببومة " مينيرڤا " لأن عملها يشبه عمل الفيلسوف حيث يتقاطعان في العزلة والتأمل العميق والاشتغلال في المساء وبعد النظر... بعد هذا التوضيح، لا أملك في هذا النطاق سوى التساؤل مع الذات الشاعرة : لماذا وجود الغابة والشجر مقترنيين بوجود طائر البوم؟ أبين هذه الموجودات اتصال أم انفصال، تداخل أم تنافر؟ تقاطع أم تباعد؟ مع العلم، أن طائر البوم لا يفارق الشجر، وهذا الأخير يتسم بالكثافة والصبر وحفظ السر وعمق العمق في مقابل البوم علامة الكتمان والعمل في خفاء والتوغل في صلب الظلام (العتمة بتعبير النص الشعري).. ألهذه الرموز والإشارات التي تتجسد في النبات والحيوان علاقة بالذات الشاعرة والأنا المبدعة؟ هل اختيار هذا النسق الرمزي في سياق النص كان اعتباطيا أم مفكرا فيه؟ وكما يقال يقرأ الكتاب من عنوانه، لماذا البوم كمفهوم مركزي في عنوان القصيد؟ أيشير ذلك إلى عتمة الذات وابتعادها عن الآخر وكتمان أسرارها والاستقلال بما هو فوق العادة والمألوف من حيث الإبداع والتأمل والإنتاج؟ أيشير طائر البوم إلى صبر الذات وتجلدها وخلخلتها وحفزها على اتباع سبيل المشقة والتحمل والإحساس بألم المخاض وتفضيل الظلام على النور؟..
- في المحصلة، فالنص الشعري لا يجادل عاقل في حبكته اللفظية وعمق منجمه الفكري، بدليل أنه يستفز راحة القارئ، ويحدث الحيرة في ذهنه أثناء قراءته، ويدفعه إلى الاستفسار والاستفهام، ويقلق باله، ويجعل ذاته تتماهى مع الذات الشاعرة وتتقمص أحيانا دواخلها وبواطنها..
***
بقلم: عبد الوهاب أحميرين
.....................

** مضطر لقتل قائد الأوركسترا.
لإلهاء البومة في قاع المفاصل.
مضطر لأضرم النار في قطن الكلمات.
لأغرز مخالبي في لحم البدهي.
لأعبد الأرض وأدهس السماء بمؤخرتي.
لأخطف البراق من براري ألف ليلة وليلة.
وأبيعه لنخاس في أقصى المدينة.
لأحرر متناقضاتي من قفص الفهد.
لأضحك مثل ثور في جنازة.
أو مثل بغي في مأزق شبقي.
أجر قافلة الهواجس مثل رهائن حرب.
لأسعد المهرجين الذين كسروا أسناني في حقل الأرز.
إفترسوا حصان العائلة.
حملوا جثة أمي المتعطنة.
رقصوا رقصة التابوت أمام الكهف.
لأبولن على وجه الشيطان.
***
مضطر لنسيان كنوز دمي
في بنك.
فضة عمري لطابور المرابين.
أحبال أعصابي لصيارفة جدد.
العضة العميقة في زندي الأيسر.
ليبك بدلا مني تمثال من الجبس
وليوزع قمح مخيلتي على الفقراء.
ليبك السنجاب الأشقر داخل عمودي الفقري.
***
للعميان فقط أبيع دموع زرقاء اليمامة.
قلت : سقط ناب الشمس
في حديقتي.
خطفه نسر ضرير فر من مرتفعات الشك.
قلت: المرأة هاوية والأديان معتقلات فظيعة.
عبروا برشاقة كنغر.
أفردوني في وادي الملوك.
أنادي صديقي المختبئ في الهواء
- توت عنخ أمون
-توت عنخ أمون
- يوما سألبس تاجك الذهبي
وأروض وحوش الكهنة.
أروض المركب الذي يعض سمكة النور.
الموجة التي تلسع هواجس الغريق.
***
مضطر لنسيان السماوات السبع.
الطبيعة التي أرضعتني حليب اللامعنى.
الثقوب السوداء التي تنتظر صحوني الطائرة.
لتلتهم شياه رأسي دفعة واحدة.
القمر الذي افتض بكارة روحي
في ممر عبثي.
هدايا الله التي نخرها نقار الخشب.
***
تحت شجرة اللوز
أيقظت المصباح.
لأقدس سر صداقتي مع الذئب.
أصغي لنباح أصابعي في العتمة.
أعزي القطار النائم فوق الشجرة
مليئا بالأشباح.
يهتز غصن عمودي الفقري.
ديك الجارة مختبئ في رأسي.
سحر نثره اليومي لا يقاوم.
سمعت خشخشة البستاني في الجذور.
وصهيل أحصنة الأسلاف
في طبقات الرغام.
قلت: العالم لامتناه في الزمان والمكان.
والمجد لقيامة الأشياء
من رفات الأشياء.
***
يكفي أن يقال: إنك تحيي الأموات وتداوي الأبرص والأكمه.
ولك أمشاج قربى بالماوراء.
حتى يصدق المنكسرون ويقولوا
إنك نبي مختار.
يكفي أن يقال: إنك ذو لوثة
حتى يصدق الآخرون..
يرموك بحجارة من سجيل.
يستنكف منك الأغيار.
***
لا توقظني
ذرني أمت
مثل ورقة قيقب
في مهب المحو.
***
فتحي مهذب تونس

1935- 2016
بمناسبة ذكرى رحيله الثامنة 

 إلى زهير شليبه

***
- قد نلقى الموت في الصحراء لكن العار لا يلحقنا إلا بين البشر. الفيلسوف البولندي ليشيك كوُاكوفسكي (1927 – 2009)
***

بعد إنزاله الى أوطأ درك من الحيوانية بقي الفطحل، وهنا مصدر الإستغراب بل الغيظ، على إيمانه السابق بجبروت، موهوم بالطبع، لكلمته، الشعرية خاصة، بعظمة الإنتماء الى الوطن، بقدسية العائلة رغم نواحه على غدر هذا وذاك. بيد أنه أخذ يتبرعم إيمان آخر في النفس الممزقة والجسم المغتصب الذي هو على وشك الإنهيارالتام، إيمان بأنه لابد من مخرج، من إنقاذ، من نهاية لهذا الكابوس الذي أطبق عليه وأين؟ في ربوع الوطن ! إذن (شغّلْ دماغك وإلقيلك فد جارة). مع مثل هذا النسق من التفكيرالواقعي لا يعرف كيف إمتلكته رغبة جارفة في أن يتمتم مع نفسه بأغنية قديمة: (يا حلو يابو السدارة، متيّمك سويله جاره). وكان قد فات صديقنا خالق شخصية الفطحل أن يذكر، ولو بصورة عابرة، أن بطله كان من هواة الغناء الشعبي بل من المتيمين والمولهين بكل أصناف غناء ما بين النهرين. كما لم يسلط صديقنا، لغاية الآن، أيّ ضوء على تحويرات الفطحل للكثير من البستات والهوسات، في أشعاره. أعترف بأن الكلام عن هذا البعد من أبعاد شخصية الفطحل ليس من مهام صديقنا بل من الصحيح أن نتركه للمؤرخين وغيرهم من الباحثين الذين لاينبغي أن تفوتهم لا صغيرة ولا كبيرة. وما على الجميع إلا إنتظار ثمرة البحث والنبش والتأويل وغير ذلك. عموما لنترك هذه الإشكالية وماشابهها، فأمامنا محن أكبر وبالطبع على رأسها سقوط الفطحل في مستنقع بصراوي لا أعرف كيف تمكنوا من خلقه في مدينة وادعة كهذه، وبمثل هذه العفونة. عليّ الإعتراف بل إبداء قدر ملحوظ من الإعجاب بقدرات الفطحل في التركيز الذهني والتكرس لقضية واحدة لا غير: كيف الخروج من المستنقع ومن سيكون القادرعلى إنتشالي ومتى (ترا حال الضيم حالي) ؟ وكان هذا السؤال يطارد فطحلنا ليل نهار تماما كما طارده الشوق الى ربوع الوطن وعصف به في تلك القرية البولونية الهادئة. والآن إنتباه ! بحكم كوني من أنيطت به مهمة إنتشال الفطحل من مستنقعه وإخراجه من ربوع الوطن بأي ثمن وإلا قد يحل فصل أكثر سوادا وبربرية من فصول هذه العودة المشؤومة الى الربوع، وجدتُ، لكن بعد إعتكاف ليس بالقصير في غرفتي أمام لوحة المفاتيح، أن هناك أكثر من مخرج واحد - لغاية كتابة هذه السطور أفلحتُ في العثورعلى خمسة وكلها لا تنحرف ولو بأصغر جزء من البوصة عن شتى أصول الواقعية في الأدب. قبل كل شيء الكرة هي منذ البداية في ملعب الفطحل وعليه أن يشحذ الذهن للعثور على أقرب جرف يخرج إليه من المستنقع.
إضافة الى رعي الدواب صارت مهمته الأخرى غسل أواني الطبخ والأكل. عملية جبارة .إعترف الفطحل في الأخير أن مثل هذه الأعمال المنهكة والتي تأخذ ساعات طويلة من الليل هي أفضل ب(ألف قاط) من الإعتداء على ما بقي من شرفه. وبسرعة وجد أن البلسم الشافي لكل هذه الطعنات التي تلقاها هو أن الوقت أبدى له كرما في أن يقوم بعمليتين في آن واحد: التفكير بحاله وبالمخارج، والغسل بالطبع. القاريء وليس بالضرورة أن يكون لبيبا كي يفقه بأن مخارجي الخمسة تلك هي مجهولة لدى الفطحل ولسبب بسيط: أنا هنا وهو هناك، وكل التقنيات التي وفرها عصرنا عاجزة تماما عن عقد الإتصال بيني والفطحل الذي ينحصرعالمه الان بين سَوق الدواب والأعمال المطبخية (أعترفُ مرة أخرى بأن إختفاء الكاتب وراء نصه وكأن هذا قد كتبه مخلوق هبط من الكون ثم عاد من حيث أتى، هو مجرد تقليد أدبي كثرت شقوقه ويصعب إخفاء ألوان وسمك خيوطها. إذن أرجو عدم الإستغراب إذا تدخلتُ كمؤلف، في شتى المواقف). بعبارة أخرى يكون هذا الإتصال من رابع المستحيلات. لاشك هي مصادفة يعجز العقلانيون عن تفسيرها إلا أنها مجرد مصادفة وليست ظاهرة لاتزال لغاية الآن مجهولة تماما وإن كان عدد ليس بالقليل من الأقوياء في الإيمان لكن كسالى العقول يرجع كل المصادفات الى جهة فوقانية واحدة. وكانت المصادفة أن تفتق ذهن الفطحل رغم إنهاكه سوية مع الجسم، على مخرج معين من مخارجي الخمسة. بالفعل، كان خروجا من الجحيم البصراوي لا يصدق إلا أن المصادفة، وجاءت هي مرة أخرى !، لعبت الدور الحاسم في تحقيق تلك الفكرة - المخرج. ولأترك هنا التفاصيل التي لاتفيد كثيرا عدا كتبة الصنفين العتيقين من الفنون السردية: الواقعية الريبورتاجية والأخرى الطبيعية التي صارت تلتصق بشدة متزايدة لدى كتّاب أقطار الجامعة العربية، برومانسية لكن من الصنف الباكي النائح. بإختصار: ُقدّر للفطحل أن يجد نفسه في بلد مجاور. وهذا موجز لحادث هروب الفطحل من ربوع الوطن:
جاءت فرصة أثمن من ذهبية في ساعة متأخرة من الليل حين كان يغسل الصحاف والأقداح بعد حفلة صاخبة أقامها أحد رؤوساء الفطحل من الضباط الذين كانوا قد بلغوا درجة عالية من السكر بل أن بعضهم بقي متمددا في القاعة ولم يعد الى الفراش. وهكذا لم يبق هناك من صاح غيرالفطحل وإثنين من الجنود البليدين كانا يقومان مع فطحلنا بخدمة المحتفل (كان قد نال ترفيعا مفاجئا ولم يكن يستحقه بالطبع) وضيوفه. وكان الفطحل قد فكر مرات ومرات بالهرب الذي إبتكر له أكثر من طريقة إلا أنها كلها على وجه التقريب من الصنف صعب التنفيذ عدا تلك التي سنحت بعد الحفلة، وفي الحقيقة كنت قد فكرت بها إلا أن التفاصيل عندي تختلف الى حد ملموس عن تفاصيل هروب الفطحل ولا مكان هنا لعقد المقارنة بين هذه وتلك، فالمهم في حكايتي شبهها بفكرة الفطحل الذي نفذها بهذه الصورة:
إرتدى إحدى بذلات رئيسه وركب سيارة عسكرية أخذت تنهب الأرض صوب أقرب بلد مجاور. ظلام الليل سهل كثيرا عليه الهرب (كان الفطحل قد عرف المسافة بين جحيمه وأقرب حدود، وقبل أن يركب السيارة أعطب أجهزة الإتصال في وحدته كما تزوّد بالطعام والشراب والسكائر، ولم ينس أخذ أشرطة الفيديو عن عاره وعارغيره أيضا وحشرها في محفظة كانت ملكا لرئيسه). أطفأ ضوء السيارة قبل الوصول الى الحدود ببضعة كيلو أمتار، وإنتظر كي تحين الفرصة للتسلل الى البلد المجاور. وقبل أن ينبلج الفجر وجد نفسه في أحد الشوارع المضاءة. بقي ينظر الى ما حواليه لكن ليس طويلا: نكس رأسه وغفا. جاءته بضعة أحلام، بينها حلم وردي بأنه عاد الى قريته البولونية وتصالح مع زوجته وعاهد نفسه على أن ينسى ربوع الوطن الى آخر يوم في حياته. من أحلامه الأخرى أنه عاد الى عقائده القديمة التي ألزمته بأن يكون واحدا من منقذي الوطن. إذن غادر قريته البولونية خفية وإلتحق بعصبة من الضباط الذين دفعهم الوضع الراهن الي أن يكونوا عاطلين ومتآمرين. وبقدرة قادر، لكن بمعونة بلد مجاور حققوا إنقلابا من النوع الصامت بل بدا وكأنه من تلك المؤامرات البلاطية التقليدية. حلم الفطحل بأن المهمة التي إنيطت به كانت تشكيل محاكم يقف في أقفاصها أبطال المستنقع السابقين من وزراء و ضباط ومعممين وميليشيات إلى آخره. بهذه الصورة إنتقم الفطحل ممن ثلم شرفه وأهدر كرامته ودفع زوجته الى التنكر له. وقبل أن ينتقل الى حلم آخر هزته يدٌ بعنف. فتح عينيه مذعورا (مرد الذعر أنه تصور الهرب ووصوله الى هذا البلد المجاور هو مجرد حلم وأن من هزه بمثل هذا العنف أحد جلاوزة تلك الوحدة العسكرية) إلا أنه إسترد الطمأنينة بسرعة حين وجد نفسه محاطا بعدد ليس بالقليل من أفراد شرطة البلد المجاور وجيشها ثم أجهش بالبكاء، بكاء الفرح...
بقي إختفاء الفطحل لغزا لم يستطع أي أحد في الجيش وخارجه من حله. أنا لا أستبعد هنا إحتمالا قويا: عرفوا بأن الفطحل هرب الى البلد المجاور لكنهم تركوا الأمرلأجهزة المخابرات التي كانت قد إستعادت عافيتها وعنفوانها في أمد بالغ القصر.
وفاتني أن اذكر أنه عندما كانت السيارة تنطلق كالمجنونة صوب الحدود عجز الفطحل عن كبح بركانه الشعري. إنفجرت منه أشعار أخذ يتلوها وفق عاهته اللسانية التي لا تعترف، وكما ذكرنا في تدوين سابق للسيرة الفطحلية، بأحرف كالسين والصاد والزاء وغيرها ومن حصرها في حرف الشين:
لا، لا، لن اقول ألف طش [طز] على هكذا ربوع
أنا التحرير يا وحوش هذا الشمن [الزمن] ولشت [لستُ] جربوع
خرجتُ من شلب[صلب] أنبل الجموع
أنا طفل الشموع
عقائدنا دروع
عقائدنا تفجر الينبوع
أنا، أنا رغم أتون العذاب وبحر الدموع
لا أعرف الهجوع
إذا حلت المحنة بالربوع
إذا جاءها الوباء والجوع
آه يا قلبي الملشوع [الملسوع]
أنا لن أنشى [أنسى] الجذوع
ولا الفروع
أنا رغم الظلام والعار
أبقي يا ربوعا عليك ألوع [ألتاع]
إنتظريني إنتظريني يا جموع
فنحن جسد واحد، روح واحدة في المجموع
ننادي كلنا يا شمس الرافدين متى الطلوع
***
حينها أوقف الفطحل السيارة وراح يدون قصيدته على ورقة، ثم عادت العربة تنهب الأرض صوب أخرى مجهولة رغم وجودها على الخارطة * ...
***
عدنان المبارك
باندهولم – تشرين الثاني 2009
.....................

* سيسرد علينا زهير شليبة في الفصل التالي من مغامرات الفطحل، بعض الأحداث التي مرت ببطلنا في طريقه الى قريته البولونية، وبينها اللقاء الذي حصل بين الإثنين في تلك المدينة الدنماركية التي أعجبت الفطحل للغاية، ودعونا لا نفقد الأمل في أن تجود قريحته بقصيدة مديح للإثنين: مبتكر شخصية الفطحل، ومدينته الجميلة...

تنبئ عراجين النخيل بحلول فصل الخريف، وقد سارع بلحها الأحمر في التحول إلى رطب سوداء اللون، وتحول بلحها الأصفر الى رطب عسلية باللون الغامق أو المفتوح، مختلف أنواع تمور النخيل لا يأتي نضجها دفعة واحدة، فالتدرج سنتها من حيث النضج على طول فصل الخريف، إلا أن بعضها يتماطل في نُضجه حتى الأيام الأولى من فصل الشتاء، وأقصد هنا تمر النخيل الذي يسميه أهل الواحة بـ"الشّتوي" نسبة لفصل الشتاء. في آخر أيام الخريف تختفي مختلف العراجين، وقد تفاجئك نخلة شتوية يتيمة بعراجينها، وقد استعصى بلحها على أن يتحول إلى رطب بالرغم من حرارة الصيف وبالرغم من اعتدال حرارة الخريف، بلح لم ينفع معه حرُّ الصيف وكيف ينفع برد الشتاء، ومن الحمق عند أهل الواحة أن يفلح برد الشتاء في نضج تمار نخلة يتيمة، وإن حدث ذلك فهي علامة من علامة الساعة، القليل من حبات الشتوي التي تتحول إلى رطب، والكثير منها تبقى بلحا وقد اختارت لنفسها لونا مركب يجمع بين اللون الأحمر والأصفر والبرتقالي... حيلة الشّتوي وتهربه من أن يتحول إلى رطب وتمر، لا تنطلي على أهل الواحة، فهم لا يمنحونه فرصة طويلة أكثر من اللازم إذ يجنونه آخر أيام الخريف...
يسمح فصل الخريف لأهل الواحة بالسفر بعيدا أو قريبا، بعد تراجع حرارة الصيف ولهيبه، وهي فرصة لتجار الواحة وغيرهم، بأن يحمِّلوا دوابهم وعيرهم، بمختلف التمور وبالأخص الأنواع الجافة منها، متجهين بها خارج الواحة وخارج نطاق الصحراء، في اتجاه الشمال بالقرب من البحر الأبيض المتوسط، أو في اتجاه الجنوب، حيث يصبح لحبات التمر قيمة وثمن وافر، يمكِّن التجار من مقايضتها ببضاعة أخرى من قبيل الجوز واللوز والفول السوداني والشاي والقهوة والزعفران ومختلف الأثواب وبعض أنواع السجاد ومختلف أنواع الفخار، بالإضافة إلى حلي النساء من جواهر فضة وذهب ولؤلؤ وبلح البحر...
زاد الذين تعودوا على السفر بعيدا أو قريبا، داخل الواحة أو خارجها، الذي يسدُّون به رمقهم، يتكون من أطعمة جافة يلجؤون إليها، في الأوقات واللحظات التي يجدون أنفسهم داخل مسافات شاسعة خالية من السكان، حيث البراري المفتوحة أو المسالك الضيقة بين الهضاب والجبال...فعندما يستسلموا للتعب يحطوا رحالهم في أماكن يعرفونها كما يعرفون أصابع أياديهم، خاصة بالقرب من أحد الآبار، التي تشكل نقطة عبور، وتَزود بالماء، فمن العادة أن يُحَطَّ الرحال بالقرب من بئر من الآبار، لأن البئر أقل خطر من هجوم حيوان مفترس، فالحيوانات ترسخ لديها أنها تسير نحو نهايتها، إن اقتربت من كل مكان عرف بتردد البشر عليه. كما أن البئر له حرمة في أنفس الناس فقطاع الطرق، يتجنبون النهب والسلب بالقرب من الآبار، خوفا من أن ينازلوا قافلة ويباغتهم رجال قافلة أخرى قادمة في الطريق نحو البئر، فضلا على أن فعلتهم البئيس تنكشف بالقرب من الآبار، فعين المارة لا تنقطع عليها، فضلا أنهم هم بدورهم في حاجة إلى التزود بماء البئر، وربما أن ماؤه يشعرهم بالكف عن فعلتهم الدنيئة. والكثير منهم يخافون من أن تلحقهم لعنة مياه البئر...
غاية رجال القافلة هي الاستراحة ومنح فرصة من الراحة والأكل والشرب لدوابهم، وفي الوقت ذاته ملئ قِربِهم1 بالماء، والكثير منهم لا يستبدل ماء قِربته إلا بعد تذوق ماء البئر، فالماء في ثقافتهم لا يُستغنى عنه إلا بعد الوصول إلى مصدر ماء آخر وتذوقه، حينها يمكن استبدال القرب بالماء الجديد في حالة إن كان عذبا وأفضل مذاقا من غيره.
بالقرب من البئر اتسعت فروع شجرة طلح يبدوا عليها أنها ضاربة في القدم، فظلها متسع إلى أبعد حد، وبالقرب منها نخلة تصافح السماء وقد تفرعت بجنباتها أربع نخلات لا تضاهيها في الطول، كل هذا بفضل الماء الذي يسيح على الأرض عندما يفرغ كل ساق دلوه في قربتِه أو ما يسيح من الحوض الصغير الذي يتعاون الرعاة على ملئه لسقي قطعانهم من الغنم والماعز والجمال...
اجتمع الرجال من تحت ظل شجرة الطلح بشكل مشتت هنا وهناك، وقد استغل البعض منهم الفرصة لقضاء حاجته...وتوضأ الكثير منهم، والبعض استغل فرصة وجود الماء لغسل لثامه... ومنهم من وجدها فرصة ثمينة ليزيل الشوكة التي علقت أسفل قدمه وقد تحمل وخزها طيلة النصف الأول من النهار، وهو يتوقع لحظة وصول الجماعة إلى البئر لينقش عنها بالمنقاش من فوق جلد قدمه، ويضغط على جنباتها، لتنزلق إلى الأعلى من خارج جلده، بمساعدة أحد أقرانه.
وبعدها بلحظات، أحضر أمير رحلتهم مزود2 الزاد وقد استداروا حوله الى جانب إيناء دائري الشكل مصنوع من سعف النخيل، إنها وجبة مكونة من لبن مجفف ممزوج بمكسرات الجوز واللوز والتمر المجفف، تسمى "الكليلة"3. امتدت الأيادي الى وسط الإناء، وقد كشف البعض منهم عن وجهه المخفي من وراء اللثام، كف الكل عن الكلام وعن القيل والقال وانهمك الجميع في ملئ الأفواه، وقد أفرغ الإناء ولا أحد منهم رجع إلى الوراء، فعينهم على المزود، وإذا بالأمير يفهم قصدهم من نظرات أعينهم، فلا أحد منهم تجرأ بطلب الزيادة، ليس خوفا، وإنما أدبا وتقديما للقناعة عن الشَّبع والاكتفاء، وإذا بالأمير يقرّب المزود إليه ويفكُّ عقدة رباطه التي تحفظ ما بداخله، وقد ملأ الإناء مجددا، انخرطوا في الأكل مجدا، ونطق بعضهم الحمد لله عليها نعمة...
لم تطل وقت الاستراحة هذه، فقد أخذت وقتا قصيرا، إلى درجة أن جلَّ الدواب بقيت محملة، فعند الزوال ترك الجماعة المكان مستمرين في المسير في اتجاه المكان الذي سيكون فيه مبيتهم، وهم في المسير بين التلال الرملية المنحدرة التي تستوي مع سطح الأرض وبين الأحراش التي يتخللها نبات "الدِّيس" وقد اصفر لونه، وتغطيها في أكثر من نقطة نبتة "أم اللبينة" ونبتات صحراوية أخرى... تبدوا شجرة الطلح الضخمة من ورائهم وهي تبتعد شيئا فيشيئا، ويتقلص حجمها مرة بعد مرة حتى اختفت عن الأنظار، وقد سارت معلما يدل على البئر من مكان بعيد، فاختفاؤها بالكامل ينبئهم عن اقتراب دخولهم منعرجا جديدا في الطريق الذي اقترب من الوصول إلى سفح الجبل الذي يحيط بالمكان من كل جانب، ويبدوا من البئر بلونه الأزرق الداكن الذي يلتقي بزرقة السماء، فعنده تتوقف رؤية البصر الممتدة في الأفق البعيد، فكل من ارتوى من ماء البئر، وأخذ لنفسه وقتا قليلا للراحة تحت الظلال المشتبكة أرضا بين ظل شجرة الطلح الكبيرة والنخلة التي تفرع عن جذعها أربع نخلات أخرى، تأسره زرقة الجبل بمنظرها الجميل، ويأخذه نوع من الفضول لمعرفة ما الذي يا ترى يحجبه الجبل عن الأنظار، وما الذي يخبئه داخل جيوبه الصخرية الكبيرة، فكل ما تخشاه الجماعات في سفرها وتحتاط من أجله هي مباغتة قطاع الطرق، الذين اعتادوا أن يتخذون من جيوب الجبال موطن تَخفِّي تحجبهم عن الأنظار.
في هذا الوقت بالذات الذي غادرت فيه الجماعة البئر، حطَّ جماعة من الناس رحالهم، بداخل الساحة الرئيسة للقصبة، البعض منهم من الذين يبيعون ما تحتاجه نسوة الواحة من عطور وصباغة تقليدية للزينة، والآخرين منهم مختصين في بيع الأواني الفخارية المزركشة بمختلف الألوان، البعض منهم يبيع بضاعته بمقابل نقدي، والبعض الآخر يقايضها بأنواع من التمر، والبعض الآخر يقايض بضاعته بالشعير أو القمح... وهي مقايضة لا يهمهم فيها التمر أو القمح بعينه، بقدر ما يهمهم الفضل الذي تجلبه معها المقايضة، وهي عملية تجعل البيع يتحقق بشكل سهل بين البائع والمشتري، فنسوة الواحة ليس بحوزتهم الكثير من النقود، بينما بحوزتهم وتحت تصرفهم بيوت خزين أسرهم، فهم يلجؤون إليها ويأخذون ما يلزمهم من الحبون والتمر، خفية عن أعين رجالهم، أو بعد استأذناهم، فقبل غروب الشمس يملأ التجار أوعيتهم، يقصد البعض منهم، أحد الدكاكين، بهدف استبدال الحبوب والتمر... بثمن نقدي وهم على يقين بأن تجارتهم رابحة ومثمرة.
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
..........................
1- القِرْبَة (الجمع: قِرَب) هي وعاء أو كيس من جلد الماعز أو البقر لاحتواء السوائل وتستخدم عادةً لحفظ الماء وتبريده
2- المِزْوَدُ: وعاء من جلد ونحوه يوضع فيه الزاد
3- "الكليلة" من مشتقات الحليب، أصل تسميتها يعود إلى كلمة "كلّلْ" المتداولة في والتي تعني انفصال السوائل عن المواد الصلبة وتشكل كثل بروتينية إما في الحليب أو اللبن، تحضر الكليلة بإضافة القليل من الملح إلى اللبن، يسخن على نار هادئة حتى يتخثر وتتجمع الكتل الصلبة وتنفصل عن السوائل، ثم يصفى بمصفاة ملبسة بقماش رفيع. تحزم القماشة حول المواد الصلبة وتعلق لتتصفى من السوائل، ولتجفيف الكليلة توضع في مكان مهوى ومظلل حتى تجف كليا ويتم الاحتفاظ بها لاستهلاكها في أي وقت، مع إضافة مختلف مكسرات الفواكه الجافة ومكسرات التمر المجفف

أقرأ في تراثنا الأدبي نثرا أروع من الشعر وينطبق عليه القول: "أن من البيان لسحرا"، وهو نثر يتفوق على الشعر، فلغتنا العربية فيها طاقات تعبيرية مطلقة، وليس من الصحيح أن نخلط بين أجناسها، وتفرعاتها التعبيرية الزاهية البيان.
وتجدنا اأمام محنة "قصيدة النثر" المجردة من القوانين والضوابط ويدّعي أصحابها بأنها من ضرورات التجديد بالشعر، وكأن الشعر العربي لم يتجدد على مر العصور.
"قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من البلور".
فهل هي قصيدة، كما تعرفت عليها الأجيال؟
هذا ليس ضد ما يُكتب، لكن الحيرة تكمن في التسميات، والإدّعاءات الخالية من الضوابط والقواعد والمعطيات التي تشير إلى المُسمى.
قال لي أنه كان يكتب ما يسميه شعر الإيقاعات الداخلية، ويرى أن في كل إنسان يكمن إيقاع خاص، وكان يقرأ نصوصه على مسامعي منذ السبعينيات من القرن العشرين.
وكنت أتمتع بكتاباته وأحسبها نثرا بديعا، وتعلمت منه كيف أكتب جميلا.
كان أستاذه في الصف يدعوه لقراءة ما كتب على مسامع التلاميذ، وهو يردد: كلماتك تطربني وتسحرني.
وما كنا نحسبه يكتب شعرا.
وترانا اليوم نقول بأن علينا الإعتراف بقصيدة النثر، فهي حرة بلا وزن ولا قافية وبسيطة موجزة ومكقفة، ويركزون على وحدة الموضوع وعضويته، وغيرها من المعايير التي يريدون إقحامها لتبرير القول بأن النثر قصيدة.
فليكتب مَن يكتب، المهم أن يكون شكل الكتابة عبارة عن كلمات مرصوفة على الطريقة اليابانية، من الأعلى إلى الأسفل، وأن تقرأها على هذا النحو.
وبموجب قصيدة النثر، كل مَن كتب فهو شاعر، فلا تتعجب!!
***
د. صادق السامرائي

صدر عن دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع هذا العام المجموعة القصصية (أرصفة التعب) للكاتبة هند يوسف خضر، التي تقع في 134 صفحة من الحجم المتوسط، متضمنة 40 قصة قصيرة اجتماعية واقعية.
نحن أمام كاتبة مفعمة بالحب منذ الإهداء إلى محطتها الأخيرة يَشعر القارئ بهذا الحب مع الكاتبة ، وإن لم تكتب نفسها هي تمطر رذاذ روحها على أغلب أبطال قصصها، لا أعرف الكاتبة لكنني أحببتها، فمن يملك هذه الروح الجميلة التي تحيل المأساة إلى حياة، بأسلوب سردي بسيط يتنقل بين المفردات، ويحسن اختيار المعاني، ويحاكي فكر القارئ ومشاعرة يستحق هذا الحب.
وليس هذا الحب إلا عدوى أصابتني من الحب الجميل الصادق والعفوية الرقيقة وفي قصص المجموعة القصصية.
حاورت الكاتبة مشاعر القارئ، من خلال طرحها لمشاعر متباينة يسوقها القدر، ما بين خذلان وحب واستمرارية حياة، فتحت الأبواب المؤصدة على الألم.
يبتعد وسيم في قصة (غيبوبة) لكيلا يؤلم حبيبته بمرضه، فيؤلمها بغيابه، ويعود وقد تزوجت رغم أن حب وسيم ما زال بقلبها، ببساطة وعفوية تتوالى الأحداث، لا تجلد الكاتبة أبطالها فقط هي تفسح المجال للواقع والقدر ليتحكما بسير القصة.
والقدر يكون بطل قصة (موسيقى) كذلك حيث تصاب زوجة الأب بالعمى، فتأتي ابنة زوجها دينا لخدمتها، بعد أن أذاقتها مختلف أصناف العذاب، قصة اجتماعية واقعية ومؤثرة.
وفي قصة (غيبوبة) حب ماجدة الجارف يعرضها لألم غير مبرر لسنوات، ويجبرها أن تختار حياة لا تريدها، تنعدم خياراتها ليعود الحبيب ويشرح نفسه بعد فوات الأوان، هي رسالة فحواها: أبقى معي ولنواجه الحياة معا، خير أن نواجه العالم كلٌّ على حِدَة، ولنتألم -سويا- خير من أن يكون كل منا سبب ألم الآخر
ومن القصص التي استوقفتني وأظهرت مهارات الكاتبة، وقدرتها على السرد قصة (بلا أصابع) هذه القصة ملخص للمشاعر الإنسانية بكل معانيها، تبدأ من الألم الذي يطغى على قصص المجموعة ثم الرحمة وما تعنيها من سمات، وتنتهي بالوفاء، بأسلوب سردي يأخذ القلب، ويتماهى مع ركن في الوجدان النقي، حيث نتمنى أن يضغي على كل ما نراه، ويمر علينا في حياتنا.
دماء الطفلة مقطوعة الأصابع تصبح لوحة فنية وكذلك المنقذ يوسف.
وتعالج القصة ظاهرة النمر لا تطرحها فقد بل تجد حلا لها، حيث إن النجاح وحده الرد على كل المتنمرين.
وكان للقضية الفلسطينية ومخيمات اللجوء والمقاومة نصيب من قلم الكاتبة، حيث استطاعت أن تختصر القضية بأحلام مؤجلة، فكمْ من شاب وفتاة بقيت أحلامهم مؤجلة في وطن شهد أطول احتلالا على وجه الأرض، ولتقول إن لكل فلسطيني نصيب من مأساة وطنه.
أما حلم العودة للوطن فهو مرادف للاستشهاد، سيان عند أبي خالد _المنفي في مخيمات اللجوء_ أن يعيش على أرض وطنه أو يدفن في جوفها، كلاهها وطن.
بدأت العديد من القصص في المجموعة من الشوارع والطرقات، وكأن الكاتبة تطالع وجوه المارة وتستقي من بريق عيونهم مآسيهم، وتشعر بألآمهم من خلال زفراتهم، تعبر عما لا يستطيعون التعبير عنه، تعارك معهم الألم وتبحث عن انصاف لأرواحهم وتربت على أكتافهم وتحاول أن تحوله إلى أمل، وتقول في النهاية إن الدنيا بخير، وتناقش كذلك عادات المجتمع وتقاليده وقيوده...
استخدمت الكاتبة عبارات بلاغية ولغة شعرية:
لعلها تعيد جنون البحر بحفنة ملح
عسانا نجد ما أضعناه من أيدينا عند مفترق قلب ونبضة
دخل في إناء قلبه يرتشف الأمل
لا أجيد فن أنصاف المطر، وفن الجلوس على طاولة الشاطئ
التوقيت الرمادي
الذي يسقط حلمه مضطر للسقوط في قعر الحياة
وغير ذلك الكثير من العبارات التي أثرت السرد، وأعطت عمقا للمجموعة، يؤولها القارئ حسب هواه
وهذا دليل على أن الكاتبة تملك لغة جزيلة وعميقة، وإمكانات شعرية خلاقة، وظفتها بأسلوب سردي متمكن، لا يمكن أن يقف القارئ متفرجا بل تلك اللغة تحثه على المشاركة وتثير وجدانه وتؤثر في فكره وتأخذه بعيدا ليعود محملاَ بالكثير من المعاني...
وقد كررت الكاتبة أسماء شخصيات أبطالها مثل: ماجدة، هند، شغف، جمال، وسام، في أكثر من قصة ضمن قصص المجموعة، وهذا حدث معي عندما كتبت مجموعتي القصصية (ياسمين) وكأن الشخصيات عاشت معها مراراً وتقمصت حيوات عديدة وبحثت مع الكاتبة عن انعتاق روحها الغير قابلة للرحيل.
***
بقلم الأديبة: إسراء عبوشي

تصميم سابق وتكوينات جريئة

هي قراءة متواضعة في أعمال الفنان الصديق بشير بشير وفي مصنع الكلمات هناك علاقة تناغمية بين كافة القطع المشكلة والملهمة وأي عطب يصيب واحدة من تلك القطع يستوجب تأخراً وإيقاف لغاية التصحيح والتصليح كي لا نتورط بمنتج دون المستوى المطلوب .. بعد طول انتظار لا يخلو من تواترية كان علي أن أعيد الصيانة لأكشف عن تلك القطعة المتسببة في هذا التأخير وفي كل تأخير خير وأرجو أن يتحقق الخير في تلك المادة.
يتمتع الفنان بشير بشير بنفس طويل في الفن والحياة والعلاقات وتشير سلسلة أعماله المتواصلة لروح عاشقة تسعى لتأكيد ذاتها وحضورها سواء عبر سلسلة النشاطات الممتدة في الزمان والمكان أو عبر اللوحات البانورامية التي تؤكد قدرته على السيطرة ضمن المساحات الكبيرة والصغيرة في آن أو حتى عبر تلك الأعمال التي سعى من خلالها ل شكل جديد وغير تقليدي للوحة والعمل التشكيلي بحيث يكون الفراغ مكانا مناسبا لعرض واستعراض مكعباته الحاملة لألوانه وخطوطه .. هو الفنان بشير بشير ..وهي لوحته المستخلصة والملخصة لروح الحرف إليه تشير.551 hussain saqourأما أنا فأشير لأسلوبية الفنان وذهنيته الباحثة عن التوازنات بدءاً من البناء الهندسي للعمل إلى المساحات اللونية المفروزة مسبقاً (لون رئيس وألوان متممة) ثم إلى الإدخالات الخطية التي تستقصي روح الحرف وحركته وتوظفها عبر تغريدة تعتمد التحوير لحدود تعيده أي الحرف لبدائته والتكثيف لتوحي بأبحدية مخطوطة على لوح رقم يتشكل من خلالها النسيج الخاص الذي يحرك العمل ويؤكد على قيمته الجمالية ...
يثير عمل بشير بشير التساؤلات حول نسب انتماءه للقيم الجمالية الإعلانية والزخرفية من جهة أو للوحة تحمل قيم فنية وتعبيرية من جهة أخرى والجواب هنا نابع من قلب أسلوبيته الممتدة للزخرفة العربية في الجذور والمتعالية نحو تشكيلات وتكوينات هندسية حرة وجريئة وخارجة عن القواعد الرصينة للعبة (الزخرفة) عند الفروع.
فإن كان كذلك فسيكون له الفضل في إنعاش الزخرفة وإدخالها ضمن إطار العمل التشكيلي الحداثي المفتوح للتنوع تبعا لتطور الأدوات طباعة غرافيكية وغيرها
يؤكد بشير على المساحات الوحشية كخلفية وكإطار ينظم نقوشه ورسومه اللاحقة ومساحاته تعكس خبرة و قدرة على اختيار القيم اللونية المتوافقة والمتكاملة الممتدة فكل لون يستدعي مكملة الأسود الكتيم الراسم للحروف يستدعي الأبيض والأحمر الأرجواني يستدعي الأزرق المخضر ووفق ذاك المفهوم المنظم هناك (لون رئيسي ممتد وألوان فرعية متممة ومكملة) و الألوان المختارة محضرة مسبقاً ولكل لون عبوته وفرشاته الخاصة فهو لا ينتمي للاتجاهات التراكمية الخادمة لتركيبة الألوان المعقدة ونادرا ما يضطر لخلط ومزج في آتون العمل ومخاضه.
ولأن أعماله تعتمد ذاك التصميم المسبق وتلك التقسيمات والتجاورات المدروسة لقيم اللون و امتداداته لذلك فهي تحافظ على نضارتها فوق السطوح البيضاء منذ البداية وحتى النهاية.
وحتى النهاية أقول شكرا لحضوركم وحضوري بينكم في معرض الفنان )100+1 ) في صالة الفنان مصطفى علي .. كنت حاضرا بروحي .. وقبل ذلك بأعوام كنت حاضراً بجسدي وأفكاري المرهقة حين استضافني صديقي الفنان بشير لليلتين متتاليتين في مرسمه الكائن في جرمانا بدمشق.
***
حسين صقور

 

بقلم: إيلا كريمر
ترجمة: د. محمد غنيم
***
ارتفعت مبيعات كتاب "حكاية خادمة" بأكثر من 400 مرتبة على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا منذ يوم الأربعاء مع اندفاع مماثل لشراء نسخ من كتاب "عن الطغيان" لتيموثي سنايدر.

***

ارتفعت الكتب التي تتحدث عن الديمقراطية، والواقع المرير، والاستبداد، والنسوية، والسياسات اليمينية المتطرفة بسرعة في قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في أعقاب فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.
صعدت رواية "حكاية الخادمة" لمارجريت أتوود، التي تدور أحداثها في مجتمع شمولي حيث تُجبر النساء على الإنجاب، بأكثر من 400 مرتبة، وهي حاليًا في المرتبة الثالثة في قائمة أفضل الكتب مبيعًا على موقع أمازون في الولايات المتحدة.
ويحتل كتاب "عن الاستبداد" للمؤرخ تيموثي سنايدرالمرتبة الثامنة الآن ، بعد صعوده مئات المرات خلال اليوم الماضي. كما يتجه القراء إلى رواية جورج أورويل الشمولية "1984"، التي ارتفعت إلى المرتبة السادسة عشرة.
تحتل رواية "الديمقراطية في التراجع" لسامي سيج وإميلي أميك قمة قائمة "المؤثرين والشخصيات البارزة" - والتي تصنف الكتب التي حققت أكبر زيادة في المبيعات خلال الـ 24 ساعة الماضية - بعد أن شهد الكتاب زيادة في المبيعات بأكثر من 30000٪.
كما يعد كتاب "الرجال يشرحون لي الأمور" للكاتبة ريبيكا سولنيت من بين الكتب الأكثر ارتفاعاً، حيث ارتفع أكثر من 40 ألف مرتبة خلال اليوم الماضي. وتحتل مجموعة المقالات النسوية التي صدرت عام 2014 الآن مرتبة في منتصف الثلاثينيات على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً.
في عمود نُشر في صحيفة "جارديان" يوم الخميس، قالت سولنيت عن الانتخابات: "كان خطأنا أننا ظننا أن العنصرية والعداء للنساء ليسا بالسوء الذي هما عليه، سواء كان ذلك فيما يتعلق بمن كان مستعدًا للتصويت لصالح امرأة سوداء مؤهلة للغاية، أو لمن كان مستعدًا للتصويت لمغتصب مُدان وجاني معجب بهتلر."
كتاب "المنشقون" لباولا راموس، الذي يتناول تصاعد المشاعر اليمينية المتطرفة بين اللاتينيين، قفز آلاف الأماكن منذ أن ظهر ترامب كفائز. في انتخابات 2024، حقق ترامب مكاسب كبيرة بين الناخبين اللاتينيين، وخاصة الرجال.
كما شهد كتاب "وصايا" وهو الجزء الثاني من "حكاية خادمة" زيادة في المبيعات. "اليأس ليس خيارًا"، كتبت أتود في منشور على موقع "إكس" بعد نتيجة الانتخابات. "إنه لا يساعد أحدًا."
كتاب "رجال يكرهون النساء" – وهو كتاب عن العداء للنساء وتطرف الشباب عبر الإنترنت – للكاتبة البريطانية لورا بايتس يتصدر أيضًا. فاز ترامب بما يقرب من نصف أصوات الرجال الشباب، وفقًا لاستطلاعات الخروج.
وقد صعد كتاب مذكرات كامالا هاريس، "الحقائق التي نتمسك بها"، نحو 2000 مرتبة خلال اليوم الماضي ــ ليحتل المركز 345 في قائمة أفضل الكتب مبيعا. وفي الوقت نفسه، تظل مذكرات ميلانيا ترامب وجيه دي فانس تحظى بشعبية كبيرة، حيث يحتل كتاب السيدة الأولى القادمة قمة القائمة، وكتاب هيلبيلي إليجي لنائب الرئيس المنتخب في المركز السابع.
***
.......................
* الكاتبة : إيلا كريمر / صحفية مستقلة في السياسة والثقافة

 

الرافضون عبر التاريخ أول كتاب قرأته لهذا الكاتب الموسوعي المتميز محمد صالح الصديق، وما لبث صديقي أن أعارني الجزء الثاني من الكتاب، وكان ذلك في بداية التسعينات، في بداية علاقتي بالكتاب والمطالعة، ولم أكن أعرف الكاتب معرفة جيدة، ليس معرفة اللقاء وإنما معرفة القراءة، وتتبع ما يكتب حوله!.. وما كنتُ أعرف من الكتاب الجزائريين الكبار الطاهر وطار، محمد ديب، رضا حوحو، مالك بن نبي ورشيد بوجدرة...
وفيما بعد أتيحت لي الفرص بأن أقرأ بعض إنتاجه الأخر ـ، وعلمتُ أنه من أكثر الكتاب الجزائريين تأليفا، وميدان تأليفه واسع متنوع ـ، في الأدب والثقافة والتاريخ والتراجم والفكر والحضارة ..
ومؤلفاته فاقت الثمانين كتابا ـ وطُبعت أكثر من مرة، وتلقى القبول من جمهور عريض من القراء في الجزائر، والوطن العربي..
وهو من أنشط الكتاب، ومن أكثرهم همة وتواضعا وحبا للوطن..
أول كتبه كان مقاصد القرآن الكريم، ألفه سنة 1956، وكان يبلغ من العمر تسعة وعشرون سنة...
فهو من أهم الكتاب الجزائريين وأكثرهم إنتاجا، وحتى اليوم ورغم تقدمه في السن، وهو من أهم رجال جمعية العلماء المسلمين، كما أنه مجاهد، وقد تعرض للأذى من طرف السلطات الاستعمارية.
وُلد بمدينة صغيرة من تيزي وزو اسمها بني عباس. حفظ القرآن الكريم وهو طفل صغير على يد والده، ولما بلغ من العمر اثنا وعشرون سنة ارتحل الى جامع الزيتونة بمدينة تونس الشقيقة.
وفي صحف تونس ومجلاتها نشر كتاباته الأولى ..
وبعد أن عاد الى أرض الوطن التحق بالثورة الجزائرية سنة 1957، وبعد الاستقلال زواج بين التعليم والكتابة، كما قدم وأنتج الكثير من الحصص الإذاعية والتلفزيونية التي نالت قبولا واستحسانا بين المشاهدين...
***
بقلم عبد القادر رالة

عن رواية أنطونيو سكار ميتا
ترجمة ا. د. غيداء قيس إبراهيم
***

هذه احداث حصلت في رواية للشاعر التشيلي المعروف ب (بابلو نيرودا بالإسبانية Pablo Neruda‏) يطلق عليها رواية "ساعى بريد نيرودا" والتي سردت احداث كثيرة عن حياة الشاعر بابلو والتي كتبها المبدع الكبير أنطونيو سكارميتا.
والرواية تحكي عن صياد شاب يدعى ماريو خيمينث يقرر أن يهجر مهنته ليصبح ساعي بريد فى ايسلانيدرا، بتشيلى حيث الشخص الوحيد الذي يتلقى ويبعث رسائل هو الشاعر بابلو نيرودا، أحد أعظم الشعراء فى القرن العشرين.
ومن خلال هذه القصة شديدة الأصالة، يتمكن الكاتب التشيلى "أنطونيو سكارميتا" من رسم صورة مكثفة لحقبة السبعينات المؤثرة في تشيلي، ويعيد في الوقت نفسه بأسلوب شاعري سرد حياة بابلو نيرودا.
وقد أعجب ساعي البريد "خيمينث" بـ نيرودا ، وينتظر بلهفة أن يكتب له الشاعر إهداء على أحد كتبه، وقصيدة حب لحبيبته.
الرواية عبارة عن قصيدة حب طويلة، موضوعها الإنسان بكل ما يحتويه من أفكار متناقضة، فلدينا الشاعر الأشهر (بابلو نيرودا) الذى تعتبره البلدة الصغيرة في تشيلي أيقونة مجدها، ولدينا قصة الحب الكبيرة وبطلتها "بياتريث" حبيبة "ماريو" التي قال لها "إن ابتسامتك تمتد مثل فراشة على وجهك" فاشتعل الغرام في قلبها.
قدم أنطونيو سكارميتا رسمًا واقعيًا للحياة في تلك الحقبة الزمنية المؤثرة في تشيلي، بأسلوب شاعري. تم تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراج ميشيل رادفورد في عام 1994، فاز الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في عام 1995.
الحديث من مقتطفات هذه الرواية الرائعة:
- سيد بابلو! ...أنا مغرم
- أعلم ذلك فلقد قلتها مرارا وتكرارا، ما الذي أستطيع أن أفعله لك؟
- عليك ان تساعدني
- بعمري هذا!
- عليك بمساعدتي.. لأنني لا اعلم ماذا أقول لها! عندما اراها امامي لا اقوى على النطق، ولا أستطيع البوح بكلمة واحدة ...فأن لم يكن لديك مانع وبدلا من اعطائي النقود، اريد منك ان تكتب لي قصيدة حب لها.
عندما سمع بابلو كلام الساعي، اتجه نحو الساحل رافعا كلتا يديه للسماء صارخا:
- لكنني لا اعرفها! الشاعر كما تعلم يحتاج الى ان يعرف جيدا الشيء الذي يهبه الالهام، لا أستطيع اختراع شيء من لا شيء!
- اسمعني جيدا أيها الشاعر – أضاف ساعي البريد موجها كلامه الى السيد بابلو – إذا بقيت هكذا تختلق الاعذار من اجل قصيدة بسيطة، فلن تفوز ابدا بجائزة نوبل!
فتوقف لبرهة نيرودا مختنقا لسماعه هذا الكلام، وقال مخاطبا ساعي البريد:
- انظر! ماريو!، اتوسل اليك ان تقرصني لكي اصحو من هذا الكابوس، كم اتمنى أن يكون هذا كابوساً أصحو منه!
- لا اعرف ماذا أقول لك سيد بابلو؟ حضرتك الشخص الوحيد الذي يستطيع مساعدتي في هذه البلدة، لان من فيها صيادين لا يعرفون قول أي شيء.
- عزيزي ماريو، فضولي يدفعني لقراءة التلغراف الذي جلبته لي، هلا سمحت لي بتسلمه؟
أجاب ساعي البريد:
- بكل سرور
-شكرا
ساعي البريد يسأل:
- انه ليس من السويد؟ اليس كذلك؟
- كلا
ساعي البريد:
- هل يحمل اخبارا سيئة؟
- بل مشؤومة! فهم يرشحونني لرئاسة الجمهورية!
- لكن سيد بابلو هذه اخبار عظيمة جدا!
- عظيمة لأنهم قاموا بترشيحي؟ لكن ماذا ان أصبحت بالفعل رئيساً؟
بالتأكيد ستفوز، جميع أناس هذه البلدة يعرفونك جيداً، فمثلاَ، أبي يمتلك كتاباَ واحداَ فقط! وهو لك!
-وماذا يدل على ذلك؟
-كيف على ماذا يدل؟ فأبي الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة لديه كتابك! هذا يعني اننا ربحنا كثيراَ
-ربحنا؟
- بالطبع، فأنا سأدلي بصوتي لك
- أشكر مساندتك لي
عندها وضع نيرودا البرقية في جيب سرواله الخلفي.
أما ساعي البريد فقد كان ينظر للشاعر نيرودا نظرة توسل ولهفة لمعرفة ما سيحصل بعد ذلك.
نظر نيرودا قليلاَ لوجه ماريو متأملاَ، ثم بدأ يحرك راسه يميناَ وشمالاَ قائلاَ:
- أذن هيا بنا الى الخانة للتعرف على هذه المشهورة التي تدعى بياتريث غونزاليس
صرخ ساعي البريد فرحاَ:
- سيد بابلو! هل تمازحني؟
- كلا، فانا أتكلم بجدية، لنذهب الى الخانة انا بابلو نيرودا وانت ماريو خيمينز لكي نحتسي كاساَ من النبيذ معاَ ، حتما هي ستموت من الدهشة عندما ترانا سوية.
فرد عليه ساعي البريد وهو حزين َ:
- سيكون هذا محزناَ! فبدلاَ من كتابة قصيدة غزل لأجلها وهي حية، سنضطر لكتابة قصيدة رثاء، اقراها على قبرها!
***

بقلم: أونور مور
ترجمة: د. محمد غنيم
***
تروي أونور مور قصتها حول اللحظات الخاصة للغاية
***

1.
إنه لأمر مرهق للغاية، تقول، لديها شكوك كثيرة، كما تعلمين، تساؤلات عديدة. هذا لا يفاجئني، فهي تميل لمعارضة الأمور.
لكنني فوجئت بمدى سرعة شعوري بالتعرق، وبالغثيان.
حسنًا، أنا لا أتفق. تمتمت بهذه الكلمات، ونظرت إلى عيني صديقتي الجامدتين عبر الطاولة.
تقول: تعرفين، جميع هؤلاء الرجال تم طردهم دون اتباع الإجراءات القانونية.
سألتها: هل حدث لكِ ذلك من قبل؟
تجيب: لا.
2.
إنه عام 1969 وأنا طالبة دراسات عليا. يتم مرافقتي إلى مكتب رئيس القسم الوسيم. ينظر إلى الشباب المسترخين في الغرفة الخارجية، ويقولون: إذا لم تخرج في غضون عشر دقائق، اجلبوا ماءً مثلجًا. ويضحكون جميعًا.
3.
حدث لي ذلك أربع مرات، قلت، متوقعة أن تسألني عمّا حدث، لكنها فقط تنظر إلي.
تقول: لكنكِ بخير، أليس كذلك؟
فأجيب: ليس تمامًا. وأغير الموضوع.
4.
ما هو شعورك أن تكون بخير لو لم يضع جليسي الذكر عضوه في فمي عندما كنت في الخامسة؟ لو لم يقم طالب تصوير ذكر بمجامعة جسدي العاري عندما كنت في الثالثة والعشرين؟ لو لم يتحول الثلج إلى عاصفة تجبرنا على المبيت بعد أن أقلّت أستاذًا إلى المدينة؟
قال عندما عاد من مكتب الفندق: غرفة واحدة، وسرير واحد أيضًا.
طوال الليل وأنا أدفعه في الظلام الكريه.
هل كان صحيحًا أنه لم يتبقَ سوى غرفة واحدة؟
5.
كنت في الرابعة عشرة من عمري في السينما عندما تسللت أصابع غريبة إلى جسدي، وانسحب صاحب القبعة والمعطف وكأنه ظل.
ترجح أختي أن تجاربها كانت أقل لأن طولها يتجاوز ستة أقدام.
6.
ماذا لو لم يلتقطني الرجل المتزوج من فوق الثلج في مستعمرة الفنانين ولم يبدأ في مغازلتي؟
لو كنت على ما يرام، هل كنت سأقع في حبه؟
7.
أم أنها قالت: "لقد انتهى بك الحال بشكل جيد"؟ وأيهما منا غير الموضوع؟
8.
عندما أبدأ في الكتابة، أصبح أنا الموضوع.
9 .
أتمنى لو كنت قد أحصيت عدد النساء اللواتي قتلن أو شوهت أجسادهن أو اغتصبن أو تعرضن للإساءة منذ بدأت في مشاهدة الفيديوهات منذ حوالي سبع سنوات.
10.
كنت أعتقد أنه عندما أصبح متفتحة في مسألة الجنس، سأتعلم كيف يتلاءم الماء المثلج مع الأمر.
11.
أشبه بالكوميديا، 1969:
كنت في الثانية والعشرين، أسير نحو سيارتي عبر موقف سيارات المسرح الصيفي، أحمل آلة كاتبة كبيرة عند مستوى صدري. كنت أرتدي فستانًا قصيرًا. سألني، "ماذا ستفعلين بهذه الليلة؟" (ظننت أنه يقصد الآلة الكاتبة!)
كان يقيم في فندق مع ممثلين آخرين، وعندما وصلنا إلى غرفته، أخذني إلى السرير. جاء طرقٌ عالٍ على الباب، وافترقنا. دخل ممثل آخر، جلس على كرسي، وتحدثا بينما كنت مستلقية هناك، صامتة.
عندما غادر الممثل، مارسنا الجنس لساعات، دون أن نقول شيئًا. بعد عقود، أصبح نجمًا سينمائيًا حاصلًا على جائزة أوسكار، والتقيت به في مكان ما.
قال: "لقد مضى وقت طويل."
الآلة الكاتبة، الصمت، الستينيات.
12.
إحدى شقيقاتي، ليست الطويلة منهن، شكرتني ذات مرة على اقتراحي لطبيب تقويم عظام مسن. قالت وهي تشعر بالارتياح: "من الجيد أنه لا يطلب مني خلع ملابسي."
13.
حكت لي جدّة والدي هذه القصة عن طفولتها: كانت وصيفة في زفاف، ووقفت في طابور الاستقبال بعد الحفل. وعندما مدّ أحد مرافقي العريس يده ليصافحها، بدلاً من ذلك عانقها وقبّلها. ضربته بقبضتها وأسقطته أرضاً. كان ذلك في حوالي عام 1906.
14.
أتذكر بداية حركة تحرير المرأة. لا أتذكر محادثات بعينها، لكن أتذكر الحيرة التي كانت تنتابني عندما كانت صديقة تقول إنها لا تحتاج إلى حركة نسوية. قالت المرأة المسنّة: "احذري من تجاوز حدود الحرية، فالرجال قد يكونون عنيفين." وكان ذلك في عام 1971، وكانت المرأة عالمة الأنثروبولوجيا مارجريت ميد.
15.
أستاذ، بعد عام من تخرجي في الدراسات العليا – كان ذلك قبل عصر البريد الإلكتروني وأجهزة الرد الآلي، ربما عام 1969: "حلمتُ أنك أصبحتِ نسوية قوية وأرغب في رؤيتك. لقد اتصلت بك عدة مرات ولم أتمكن من الوصول إليك، لذا أكتب لك رسالة. قرأت قصائدك، وإحدى هذه القصائد جيدة حقاً." أتذكر جلوسي معه على طاولة في شقتي، ربما كنت أتحدث معه عن قصائدي. لم أتحرك من الطاولة حتى غادر.لقد توفي منذ زمن طويل، ولم أره مرة أخرى. هل كان يهتم بكتاباتي حقاً؟
16.
أرتدي فستاناً قطنياً وردياً من ماركة "ماريميكا"، قصيراً وبدون أكمام. كان الربيع وكنت في الثالثة والعشرين، وحبيبي أكبر مني بثمانية عشر عامًا. كنت ألاحقه. كنت أعتقد أنه عبقري. كان يرتدي كنزات من الكشمير الإيطالي.
قال لي: "لا أعرف شيئًا عن تلك الملابس الداخلية السوداء، يا عزيزتي، من الأفضل أن تسحبي التنورة للأسفل. الظلام حالك هناك."
17.
في ظلمة الذاكرة، أتوجه نحو المستقبل.
مليون قبعة وردية اللون في الثلج.
(تمت)
"لا يُمحى من الحُصين: كتابات من حركة #أنا_أيضاً" من تحرير شيلي أوريا، متوفر الآن من دار نشر ماك سويني.
***
................................
الكاتبة: أنور مور / Honor Moore ألفت سبعة كتب، منها - مذكرات ابنة الأسقف وثورتنا، وأم وابنة في منتصف القرن، بالإضافة إلى ثلاثة دواوين شعرية. قامت بتحرير قصائد من حركة النساء وتحرير النساء: كتابات نسوية ألهمت ثورة ولا تزال قادرة على ذلك! لمكتبة أمريكا. تعيش في مدينة نيويورك، حيث تدرّس في برنامج ماجستير الفنون الجميلة في "المدرسة الجديدة".

 

في المثقف اليوم