أقلام ثقافية
حيدر كريم: فقد الأحبة غُربة

أسير بالمدن في ليالي الشتاء الموحشة، هاربًا من ضجيجها في النهار. أمشي في أزقتها حيث لا أحد، لا صوت سوى بعض الآلات الصناعية ونباح الكلاب السائبة. موحشة لأنها تذكّرني بما مضى، تعصف بي الذكريات تمزيقًا، وتشتت روحي أشلاء. موحشة لأني أشعر وسطها بالغربة، بعدما كنت أشعر فيها بالأمان. موحشة لأني فقدت رفيق دربي وصديقي الحميم، الذي كنت أشاركه هذه الأزقة في الليالي الباردة، هاربين من البشر وضجيج النهار.
في زحمة النهار، وسط البشر وحركتهم اللامتناهية، كنا نضيع. لم نكن نشعر بذواتنا إلا عندما نبتعد عنهم. وحدنا، مع أنفسنا، ومع من يفهمنا، كنا نجد ذواتنا حقًا.
وفي إحدى تلك الليالي، بينما كنا نسير معًا ونتحدث، ناظرين إلى السماء المرصعة بالنجوم، والجو الماطر يلفحنا بنسماته الباردة، قال لي متأملًا في الحياة والعزلة:
"لقد تسببت الثورة الصناعية وعصر التنوير والحريات الفردية في جعل الإنسان أكثر كآبة، وأكثر فراغًا. صار معيار السعادة مرتبطًا بغايات مادية مؤقتة. لقد تحوّل الإنسان من كائن يمتلك روحًا وجانبًا مثاليًا، إلى كتل لحم لا تتجاوز نظرتهم المدركات الحسية. حتى مفاهيم مثل الشرف والعزة والمروءة، تم تحجيمها لأنها لا تعود بنفع مادي. نعيش في عصر أحادي النظرة، نسبي التفكير، صار فيه الحلم أن يُطلق العنان للشهوات، ويشتري أحدث السلع، دون أن يدرك مرارة هذا الانحلال التي سيتذوقها عاجلًا أو آجلًا."
ثم أضاف:
"لقد نجحنا في صناعة آلة متحضّرة، ولكننا فشلنا في صناعة إنسان."
سألته:
ــ "وما الحل أمام هذه الكارثة؟"
قال:
"أن يعود الإنسان إلى ذاته، ويحنّ إلى موطنه الأصلي حيث السكينة والطمأنينة."
سألته مجددًا:
ــ "وكيف يعود؟ وما هو موطنه الأصلي؟"
فأجاب:
"بالانعزال. فكلما عاشرنا البشر، اسودّت أفكارنا. وإذا عدنا إلى عزلتنا بحثًا عن النور، وجدناه في ظلال تلك الأفكار.
موطن الإنسان الأصلي هو الغاب. أحب الغاب، إذ لا تطيب لي حياة المدن وقد كثر فيها عبيد الشهوات. الخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح، من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة. إنك إذا ما تأملت رجال المدن، لتشهد في نظراتهم أنهم لا يرون في الأرض شيئًا أفضل من مضاجعة امرأة."
ثم قال مختتمًا حديثه وقد تأخر الوقت:
"لو تعلم كم يزعجني هذا العالم اليوم... أريد الفرار، لكني لا أعلم إلى أين.
على كل حال، دعنا ننام، فلا يزال أمامنا الكثير من التعب."
وبعد هذا الحديث، عدنا إلى منازلنا. منازلنا التي كانت ليلًا أشبه بالسجون، وفي النهار حصنًا منيعًا يحمينا من تطفلات البشر.
لكننا لم نكن نعلم أن ذلك اللقاء سيكون الأخير بيننا... لم نكن مستعدين لهذا الفقد. كنا ضعفاء، لكن وجودنا معًا كان مصدر قوتنا.
بعد فراقه، قضيت وقتًا لا أعرف فيه ما أفعل. كنت تائهًا، أحمل على كتفي عبء الذكريات. بقيت في زاوية منزلي، أحمل صورنا ورسائلنا كمن يحمل أدوية مهدئة. وبعد صراع طويل مع ذاتي، قررت الخروج.
ذهبت إلى أماكننا القديمة، وتجولت هناك طويلًا. لكن شعورًا غريبًا تملكني، وكأن الجدران والأعمدة كانت تحدّق بي، تسألني: "أين كنت؟ و أين هو؟ لماذا لستما معًا؟"
شعرت بالغربة والوحشة مجددًا، فعدت مسرعًا إلى منزلي، أحتضن ذكرياتنا، وأبقى على هذا الحال حتى تشرق الشمس.
لكن منذ رحيله ...
كانت تشرق الشمس، وهذا الضوء لا يخصنا.
***
حيدر كريم