أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

"الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت عمل رائد في الشعر الحديث يعكس التفتت وخيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. القصيدة عبارة عن نسيج معقد من الأصوات والصور والإشارات التي ترسم صورة قاتمة لعالم في حالة انحدار. وفي حين يُنظر إلى القصيدة غالبا على أنها نقد للحاضر، إلا أنها تحتوي أيضا على عناصر تشير إلى رؤية للمستقبل.

أحد الموضوعات الرئيسية في الأرض الخراب هو فقدان التقاليد وتفتت الثقافة. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الأعمال الكلاسيكية والأدبية، والتي غالبا ما يتم وضعها جنبا إلى جنب مع صور الاضمحلال والدمار. يشير هذا التجاور إلى مستقبل تم فيه نسيان الماضي أو التخلي عنه، ولم يتبق سوى حاضر مجزأ وفارغ. يمكن اعتبار السطر الافتتاحي الشهير للقصيدة، "نيسان هو الشهر الأكثر قسوة"، تعليقا على فقدان التقاليد وتآكل القيم التي كانت تربط المجتمع معا ذات يوم.

من الموضوعات المهمة الأخرى في قصيدة الأرض الخراب البحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الغرض. القصيدة مليئة بمجموعة من الشخصيات الضائعة والمربكة والخاوية روحيا. ينعكس البحث عن المعنى في الأصوات المتعددة التي تتحدث طوال القصيدة، كل منها يبحث عن نوع من الاتصال أو الفداء. يشير هذا الشعور بالفراغ الروحي إلى مستقبل حيث تنجرف البشرية، دون بوصلة أخلاقية إرشادية.

تحتوي الأرض الخراب أيضا على عناصر من النبوءة والصور الكارثية. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الدمار والموت والبعث، مما يشير إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. يحتوي القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، على سلسلة من النبوءات الغامضة والغامضة التي تلمح إلى مستقبل حيث يكون الفداء ممكنا، ولكن فقط من خلال عملية التدمير والتجديد.

من نواح كثيرة، يمكن النظر إلى قصيدة "الأرض الخراب" باعتبارها حكاية تحذيرية حول عواقب إهمال الماضي والفشل في إيجاد المعنى في الحاضر. تعكس البنية المجزأة للقصيدة الحالة المجزأة للمجتمع، حيث يكون الأفراد معزولين ومنفصلين عن بعضهم البعض. المستقبل الذي يتصوره إليوت هو المستقبل الذي فقدت فيه البشرية طريقها، ويجب أن تخضع لعملية تجديد روحي من أجل العثور على الخلاص.

على الرغم من نبرتها القاتمة واليائسة، تقدم قصيدة "الأرض الخراب" أيضا بصيصا من الأمل للمستقبل. تنتهي القصيدة بصورة الملك الصياد، وهي شخصية من أسطورة الملك آرثر جريح ولكنه ليس ميتا. تشير هذه الصورة إلى أن الخلاص لا يزال ممكنا، حتى في عالم يبدو خاليا من المعنى. يمكن النظر إلى السطور الأخيرة من القصيدة، "شانتيه شانتيه شانتيه"، كصلاة من أجل السلام والمصالحة، ودعوة لمستقبل يمكن للبشرية أن تجد فيه الوحدة والانسجام.

تقدم قصيدة "الأرض الخراب" رؤية معقدة ومتعددة الطبقات للمستقبل قاتمة ومفعمة بالأمل. تعكس القصيدة تفكك المجتمع والبحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الهدف. وعلى الرغم من تصويرها القاتم لعالم في حالة انحدار، فإن قصيدة الأرض الخراب تشير أيضا إلى أن الخلاص ممكن، إذا كانت البشرية على استعداد للخضوع لعملية التجديد الروحي. تشير صور القصيدة للدمار والبعث إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. في النهاية، تعد قصيدة الأرض الخراب تأملا قويا في تحديات وإمكانيات العالم الحديث، وتذكيرا بأنه حتى في أحلك الأوقات، هناك دائما أمل في مستقبل أكثر إشراقا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صادف أن نزلتُ في مناسبة من المناسبات بفندق صنف أربع نجوم وعندما دلفت إلى صالة المطعم الفسيحة لتناول فطور الصباح قابلتني الأطباق على يميني وشمالي من كل لون وصنف ومَذاق ولست أدري كيف وقعت عيناي على إحدى الزّوايا فإذا بي أرى صانع فطائر يُديرها بإتقان ثم يلقيها واحدة تلو واحدة في الطاجن ويتعهّدها بعد ذلك بالسّفود فتقدّمت إليه وبعد التحية والملاطفة سألته هل هو من بلد غمراسن المعروف بصناعة الفطائر والزّلابية والمخارق فقال إنّه حذق أمرها لدى أحد صنائعي غمراسن ثم سألني هل أنا من أهاليها فقلت نعم فزاد في الحديث معي وسألني كالمختبر قائلا لابدّ أنك تعرف قَلي الفطائر فأجبته باِعتزاز نعم فتعجّب من أمري وأراد أن يمتحنني فقال إذن خُذ هذه العجينة من يدي وأدِرْ فطيرتك بنفسك إن كنت من غمراسن حقا !

ووجدت نفسي أمام اِمتحان عظيم لم أتهيّأ له طيلة حياتي ويجب أن أنجح وأفوز بالتحدّي وفي تلك اللحظة تذكرت صباي عندما كنت أذهب صباح كل يوم أحد إلى والدي فكنت أراقب تفاصيل حركاته وهو يقلي الفطائر في دكان جدي بشارع الحرية في العاصمة تونس .

قبل أن أهُمّ بتناول العجينة من صاحبي غمستُ أصابعي في طسْت الماء بجانبه كي لا تلتصق العجينة بأناملي فاِبتهج صاحبي وقال يبدو حقّا أنّك عارف بهذه الحرفة وهو لا يدري أن هذه أوّل مرة ألمس فيها عجينةَ فطيرةٍ فأخذتها منه بأنامل يدي اليمنى وسُرعان ما ملّستها بضربة لطيفة على كفّي اليسرى ثم أدرتها بعناية حتى اِستدارت واِستوت  حينذاك ألقيتها بحركة دائرية وسط زيت الطاجن فاِستقرت في وسطه فطيرة كأشهى ما تكون !

حينذاك لاح سرور صاحبي وقال الآن أشهد أنك من غمراسن فقلت هات السّفود إذن لأقلِب فطيرتي على وجهها الآخر ثم لأرفعها تستقطر من الزيت بجانب  الطاجن !

كانت ألذّ فطيرة في حياتي

وكان أصعبَ اِمتحان

رحم الله والدي !

ــــــــ الفطيرة ـــــــــ

تحيّة إلى الكرام من ـ غمراسن ـ بالجنوب التونسي الذين عُرفوا منذ القديم بصناعة الفطائر والمخارق والزلابية ونشروها في جميع أرجاء تونس وفي سائر بلدان العالم وقد كانوا رمز الصّدق والشّهامة والوفاء والتّضحية وبكسبهم الشّريف تمكّن أبناؤهم وبناتهم من التقدّم في سُبل العلم والمعرفة وفي مختلف الوظائف والمهن والأعمال.

فالأمل أن لا ينسى الجيل القديم وأن يحافظ الجيل الجديد على القبم ـ الغمراسنية ـ الأصيلة بما فيها من عرّة وإباء وصبر وحبّ للخير لجميع النّاس.

تَوَكَّلْ عَلَى اللّه خُذْ بِالـلُّجَـيْـنِ

أَدِرْهُ بِلَمْسٍ يَصـيرُ فَـطِيـرَهْ

*

أَنَامِلُكَ السِّـحْـرُ مِنْهَا اَلْحَـــلَالُ

بِـفَـنٍّ تَـلُوحُ كَتَـاجِ الأمِـيـرَهْ

*

بِزيْتٍ وَقَمْحٍ وَعَزْمٍ عَـجَــنْــتَ

جِـبَالا وَجُبْــتَ بِلَادًا كَـــثِيـرَهْ

*

إِلَى الرِّزْقِ تَسْعَى بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ

 تَطُوفُ بِهَا وَنِعْمَ اَلسَّفِيرَهْ

*

لَكَمْ جَاءَكَ اَلْجَائِعُ وَاِشْـتَـهَـاهَا

هَنيئًا مَريئًا ـ مَلَاوِي ـ كَبِيــرَهْ

*

وَشَــهْـدُ اَلْمَخَارقِ مِثلُ الـزَّلَابِي

كَلَمْعِ الكَواكبِ تَبْدُو مُنِيرَهْ

*

تَرَى اَلنّاسَ فِي كُلّ شَكْلٍ وَلَوْنٍ

وَوَاحِدٌ أَنْـتَ فِي كُلّ سِيـرَهْ

*

لَـئِنْ طَوَّحَتْـنَا اَلـدُّرُوبُ فَنَحْـنُ

نَحِنُّ جَمِيعًا لِتِلْكَ اَلْـعَشِـيـرَهْ

***

سوف عبيد - تونس

 

في رواية "سيدة التوابل" للكاتبة شيترا بانيرجي ديفاكاروني، تجسد شخصية تيلو، وهي امرأة شابة تدربت على فنون التوابل الصوفية، مفهوم الحكمة بعدة طرق. تعمل تيلو كشخصية حكيمة وعطوفة لأولئك الذين يطلبون مساعدتها في متجرها للتوابل في أوكلاند، كاليفورنيا. من خلال تفاعلاتها مع شخصيات مختلفة وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسا قيمة حول الحب والتضحية وعواقب التدخل في القدر.

أحد الموضوعات الرئيسية في الرواية هو فكرة الإيثار والتضحية. يجب على تيلو، بصفتها سيدة التوابل، أن تتخلى عن رغباتها وعواطفها من أجل خدمة عملائها والوفاء بواجبها تجاه التوابل. يوضح هذا العمل من التضحية حكمة وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجات المرء وأهمية خدمة غرض أكبر.

تنقل تيلو أيضا الحكمة حول طبيعة الحب والعلاقات. من خلال ملاحظاتها على علاقات عملائها وشوقها للحب، تعلمت تيلو أن الحب لا يمكن فرضه أو التلاعب به. تدرك أن الحب الحقيقي يأتي من اتصال حقيقي واحترام متبادل بين الأفراد، وليس من استخدام السحر أو الخداع.

علاوة على ذلك، تعلمت تيلو من تجاربها مع التوابل أهمية احترام النظام الطبيعي للأشياء وعدم التدخل في القدر. التوابل لها قواعدها وحدودها الخاصة، ويجب على تيلو الالتزام بها من أجل الحفاظ على قوتها وتوازنها. هذا الدرس في التواضع وقبول النظام الطبيعي للكون هو جانب أساسي من حكمة تيلو.

إن تفاعلات تيلو مع الشخصيات المختلفة التي تزور متجر التوابل الخاص بها تعمل أيضًا كفرص لها لنقل الحكمة والتوجيه. من خلال محادثاتها مع هؤلاء الأفراد، تعلمهم تيلو دروسًا قيمة حول القبول والتسامح وقوة الشفاء. تساعدهم على اكتشاف الحقائق المخفية عن أنفسهم وعلاقاتهم، مما يقودهم إلى إجراء تغييرات إيجابية في حياتهم.

جانب آخر من حكمة تيلو هو فهمها لقوة الكلمات ورواية القصص. بصفتها سيدة توابل، تستخدم تيلو لغة التوابل للتواصل مع عملائها والتأثير على عواطفهم وأفعالهم. إن هذه القدرة على سرد القصص ونقل الرسائل من خلال لغة التوابل توضح فهم تيلو العميق لقوة السرد وأهمية سرد القصص في تشكيل التجربة الإنسانية.

إن حكمة تيلو واضحة أيضا في قدرتها على رؤية ما وراء السطح وفهم الدوافع والعواطف العميقة لمن حولها. لديها حدس حاد وتعاطف يسمح لها بالتواصل مع الآخرين على مستوى عميق وتقديم التوجيه والدعم لهم. إن نظرة تيلو الثاقبة للطبيعة البشرية وقدرتها على رؤية الخير في الناس حتى في أحلك لحظاتهم تظهر حكمتها وتعاطفها.

وفي الختام، تجسد تيلو، سيدة التوابل، الحكمة في رواية "سيدة التوابل" من خلال إيثارها وتضحيتها وفهمها للحب والعلاقات وقبول القدر والتوجيه للآخرين وقوة سرد القصص والحدس والتعاطف. ومن خلال تفاعلاتها مع الشخصيات في الرواية وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسًا قيمة حول التجربة الإنسانية وأهمية عيش حياة ذات معنى ومرضية. تشكل حكمة تيلو نورا هاديا لأولئك الذين يطلبون مساعدتها ومصدر إلهام للقراء للتفكير في حياتهم وخياراتهم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

وأنت تكتب قصة او رواية او مقالا يصادف أن تهرب بك الذاكرة فتخونك وتورّطك في نقل جملة أو طرادة أو فكرة وتوهمك بأنك قائلها. تقنعك بأنّ الحافر قد وقع على الحافر وبأنّك بريء من كل سرقة لا موصوفة ولا مصادفة. وقد ينزاح بك القلم أو يزل ّفتصطدم بمثل شعبي أو مقولة فلسفية شاردة لم يذكرها كثيرون لكنّها ترسّخت في ذهنك حتى خلت أنها من بنات افكارك.

لا أحد من الكتّاب يضمن لنفسه البراءة من التناص إذا   لم يسجّل أفكاره في دفاتر محرّكات البحث التي أخذت دور الملكية العقارية ففاقتها في الخدمة والأمانة والصراحة.

وفي اعتقادي أن محركات البحث (وأشهرها الغوغل) صارت شاهدة علينا، نحن الكتاب، إذ بإمكانها تكذيبنا وفضحنا إن نحن ادعينا الاتيان بما لم يستطع أحد الاتيان به بل وهي قادرة على أن تفصل بين الأنا المتواضع الذي يكتب كلاما وينشره بين النّاس وبين الأنا النرجسي الذي يتشبث بحقّه في التّفاخر والتّنكّر لما قال سابقا. وبما أنني، مثلكم، أزداد حكمة وتعقّلا مع تقدّمي في العمر فقد أقدمت على اجراء مناظرة بين الأناءين من خلال ما كتبت في روايتين تفصل بين نشرهما سنوات. هي مناظرة افتراضية كتلك التي تنظم بين المتنافسين على مركز القرار. كان الأنا النرجسي هو المبادر بإبداء الرّأي قال: 

 النرجسي: أنا الحلم أعرف متى أهبط على الانسان. أنزل أحيانا كابوسا على الرؤِوس. أنا أجزاء متناثرة في الكل، أستولي عليه ولا أتركه الا بعد أن اترك فيه أوجاعا.

 المتواضع: أما أنا فكل لا يتجزّأ لأنني الأمل الذي يقود الحياة. أنبت في الأنفس التي ترعاني فأداويها من الأوجاع التي يسببها الحلم.

 النرجسي: أنا الحلم، أخطر على الشعوب من حمل السّلاح، أولد في الظّلام وأكبر في السّرّية، لذلك يعتبر بعض الحكّام أن إشاعة فكرة الحلم جريمة ترتقي الى مرتبة الخيانة العظمى.

المتواضع: أنا الأمل الذي يقود الشعوب الى الإطاحة بمن يمنعهم من تحقيق أحلامهم بحياة أفضل.

النرجسي: سأظل أرتفع عن العامّة التي تصرّ على القناعة والصبر ولعب دور الضّحية وأضطّر الى منعك ومنعها من الفوضى حتى لا تصنع منك بطلا.

المتواضع: تنتصر الضحية على الظالم بالصّبر فالصبر عند المظلوم كزيت الفتيل ينتصر دائما على الظلام. والفوضى تصنع من الجبناء أناسا شجعانا.

النرجسي: أنا لا أنافق بل أقول صراحة إننا نطمح الى العلوّ والسّمو فلماذا نخون أنفسنا وأوطاننا التي تسكننا؟ نحن نتوق الى العلياء بالفطرة والغاية تبرّر الوسيلة.

المتواضع: أمّا أنا فأوفي للوطن الذي يحملني ولا أخونه فخائن الوطن كمجنون يلهو بمقْود السيارة. لقد رضعت منه حليب الوفاء.

النّرجسي: لا حاجة لي بثدي لا يعلمني العناد والشجاعة.

المتواضع: لا تنس أن القهر يفعل ما لا تفعله الشجاعة.

النرجسي: نحن في الوطن نفسه وحكوماته المتعاقبة تأكل من نفسها وترتشي من أعوانها كالنار التي تدور على احطابها.

المتواضع: من واجبنا ألا نترك الحكومة توقظ الطوفان ثم تطلب منه ألا يجرفها.

النرجسي: أتريدني أن أحمل النّار دون أن أحترق أو أن اوقدها من رمادها بعد أن تخبو، هذه الحكومات التي تتباهى بالحفاظ على الانسان انما تأكل من لحمنا كلما جاعت وتشرب من دمنا اذا عطشت

المتواضع: الوطن وردة والوطنية عطرها والنضال من اجله شوك هذه المبادئ التي عليك ان تعرفها.

النرجسي: الوطن قوانين لا غير ونحن كالأطفال نظل نطيع القوانين و لا نثور عليها الا اذا احسسنا بظلمها الكبير.

المتواضع: البسطاء الحفاة الذين يرفعون الحاكم على اعناقهم هم قادرون على رفع اقدامهم الحافية لتدوس اعناقه إذا ما تمادى في ظلمهم

النرجسي: ثلاثة أدوار لا يمكنني لعبها: دور المجنون الذي يلهو بمقود السيارة ودور الطفل الذي يلعب بالسلاح ودور البحار الذي يرى ثقبا في السفينة ويسكت.

المتواضع: القانون الذي لا يحظى بموافقة كل الناس لا يسمى قانونا بل حكما ينفذه القوي على الضعيف.

النرجسي: ستعيش كالأحمق مطيعا مهادنا لذيذا كالحلم لا يمكن ان نحدّد له متعة ان كانت قبل النّوم أو بعده أو أثناءه وذلك سرّه الغامض.

المتواضع: بل سأظل الأمل الذي يترجم الحلم في داخل الأنا الى واقع أعيشه وأحياه.

وظل الأنا النرجسي متشبّثا بتعاليه وظل المتواضع يشقى بعقله. لذلك سأظل أحمل المتناقضين لألعب دور الحكم بينهما.

***

المولدي فرّوج / تونس

غيّب الموت فجر يوم امس الاثنين، الأول من تموز الجاري 2024، الكاتب الالباني البارز، الشاعر، المسرحي، الروائي إسماعيل كاداريه، وذلك عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، امضى جله في الكتابة وفي المواجهات الجريئة حينا والحيية أحيانا، علما ان كاداريه عاش فترة ابداعاته الأولى وما تلاها حتى اعوام التسعينيات، تحت حكم أنور خوجة المتسم بصفة متطرفة من الشيوعية الستالينية ذات القبضة الحديدية واكاد أقول النارية خاصة فيما يتعلق بالأدب وأهله.

الكاتب الراحل من مواليد عام 1936، ولد لعائلة البانية مُسلمة مثقفة، جذبه عالم الكتابة والابداع بعد قراءته مسرحية "ماكبث" للكاتب الإنجليزي البارز وليام شكسبير، وهو لما يزل في الثانية او الثالثة عشرة من عمره، وبعد انجذابه هذا قرر ولوج عالم الكتابة والابداع الادبي، وقد درس الادب بين عامي 59 و60 في معهد غوركي الموسكوفي. ابتدأ الكتابة في أواسط الخمسينيات واوائل الستينيات، وقد أنتج في هذه الفترة العديد من الاعمال الشعرية والقصصية، وصدرت روايته الهامة " "جنرال البحر الميت" عام 1963، لتلفت اليه الأنظار بشدة ولتكرّسه كاتبا من ابرز كتاب أبناء جيله، ولتطبق بالتالي شهرته الافاق، وقد نشرت هذه الرواية في القاهرة مترجمة عن الألبانية عام 83، كما نشرت مترجمة عن الإنجليزية عام 2001. وتحكي هذه الرواية قصة جنرال إيطالي يزور ساحة القتال برفقة رجل دين للبحث عن جنود جيشه الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية.

مما يذكر فيما يتعلّق بالقارئ العربي، حول الكاتب الراحل، هذا القارئ تعرف عليه عبر تقديم دار الآداب اللبنانية اعماله الروائية مترجمة الى العربية، وقد يسّرت هذه الترجمات لكاتب هذه السطور قراءة ابرز اعمال كاداريه الروائية مثل: مدينة الحجر، طبول المطر، الوحش، ومن أعاد دورانتين، قصر الاحلام، الجسر غيرها من الروايات التي صدرت عن دور نشر عربية أخرى مثل رواية الحصن التي صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال العربية المصرية العريقة.

بعد معايشة تواصلت عبر العشرات من السنوات، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية على النتاجات الروائية والشعرية عامة لهذا الكاتب المهم.

* كما سلف عاش كاداريه ضمن ظروف سياسية غير مريحة في ظل حكم أنور خوجة الديكتاتوري المعروف بقسوته وقبضته الستالينية المتشددة، وكان من الطبيعي ان يتأثر بهذه الأوضاع وان تترك اثارها على ما انتجه من اعمال روائية، مسرحية وشعرية أيضا، غير أن تأثره هذا لم يوقعه في بوتقة المباشرة والتقريرية الممجوجة في الادب والفن، وعلى العكس فان من يقرأ اعماله او بعضا منها، يدهش لما اتصفت به من قدرات وطاقات أدبية إبداعية، لا تتنازل عمّا يفترض ان يحافظ عليه أي ابداع ادبي يريد ان يُقرأ وأن يعيش طويلًا لا سيما فيما يتعلّق بما اتفق على توفره في الاعمال الأدبية من وجدانيات، أفكار،  خيال وأسلوب.

* من هذا المنطلق يمكن للقارئ ملاحظة ان كاداريه تغلغل في تاريخ بلاده، خاصة خلال وقوعها ماضيًا تحت نير الاحتلال العثماني، وقام بأكثر من استعادة لهذا التاريخ ضمن محاولة لإسقاط ما حدث فيه على الواقع اليومي المعيش للبلاد، وذلك بهدف تعلُّم الدروس والعبر من الماضي، والاتعاظ به، ضمن تأكيد قوي على ما تضمنه ذلك التاريخ من اشراقات وطاقات تعزّز الانتماء وتؤصل الوجود، ولعلّ رواية "الحصن"، المذكورة انفا، تقدم مثالا ناصعا لما نذهب اليه.

* الى هذا يتعمّق كاداريه في العديد من نتاجاته الأدبية الروائية تحديدا، في الاساطير الشعبية، ضمن محاولة تتقاطع مع تغلغله في تاريخ بلاده، حدّ التوازي، ولعل روايته القصيرة "مَن أعاد دورنتين"، تقدّم مثالًا ساطعًا على هذا التغلغل في الأسطورة الشعبية الألبانية، وذلك عبر الموازاة بين اسطورة انبعاث الأخ للوفاء بعهده لأخته، وبين الاطار التاريخي – القروسطي- المتخيّل الحافل بالدسائس والمؤامرات، وكل  هذا يفتح افق الرواية على العديد من التأويلات التي تتطلبها الاعمال الأدبية العظيمة في العادة، كونها ترفض القراءة أحادية البُعد، وتحثّ على القراءات المتعددة عبر الوفير من التأويلات كما سلف.

تنطوي برحيل كاداريه صفحة ناصعة البياض في الادب الروائي العالمي، صفحة منحت صاحبها أملًا وجعلت لحياته معنى، كما صّرح في اخريات أيامه، ومما يذكر عنه بعد رحيله امران احدهما يتعلّق بترجمة اعماله الى العشرات من اللغات، منها العربية بالطبع، والآخر ما حظي به من اهتمام واسع النطاق وفي اكثر من لغة، بالنسبة للأمر الأول، اعتقد ان قطاعات وفيرة من القراء في بقاع واسعة من عالمنا قرات اعماله الروائية المذكور وغير المذكورة كما قرات اشعاره خاصة حصان طروادة، وعرفته كاتبا مثريًا مثقفا ومؤثرا، اما بالنسبة للأمر الاخر فمن المعروف ان كاداريه رُشح اكثر من مرة للحصول على جائزة نوبل الأدبية غير انه لم يحظ بها لأسباب يمكن لكل مجتهد التكهن بها، لكنه لم يحصل عليها، واعتقد انه اكتفى وتعزّى باهتمام القراء بما انتجه من اعمال أدبية خلال عمره المديد.

***

ناجي ظاهر

ما خطته أقلام لغة الضاد الجميلة من أيقونات إبداعية أدبية عبر العصور فيها من الجمال الأخاذ، ما لا يُضاهى بلاغيا وروعة  في التعبير والتصوير والإختصار.

تحف فنية خالدة مرسومة بحروف اللغة العربية!!

ومهما حاول المنقطعون عن جوهر الأمة وأنوارها الإبداعية الأصيلة الخالدة، فأنهم لن يصلوا إلى مقامات ما سطرته من جزيل الخرائد الفنية النثرية السامية البهاء.

فأقلام العرب سطرت ما يعجز عن قوله الشعر، وتفوقت بآياتها الجمالية على أقوى القصائد، وحتى فاقت المعلقات بإطلاقها لمكنونات الجمال الإنساني الخارق.

فلماذا يتحدثون عن النثر الشعري، ويدّعون ما يدّعون؟

قطعة نثرية عربية مكتوبة بمداد الإلهام الإبداعي، والتوافق المعرفي مع فضاءات علوية نقية، لا يمكن مقارنتها باي (قصيدة نثر)، مهما أراد أصحابها تبرير وتمرير ما يكتبونه على أنه شعر معاصر، فالمعاصرة لا تسحق جوهر الكينونة الإبداعية الوارفة العطاء والرقاء.

فهل من أصالة إبداع؟!!

***

د. صادق السامرائي

26\6\2024

بصمتٍ مُرعب مفزع، صمت رهيب يشبه شجرة تنتصب في عتمة ليلٍ داجٍ، رحل عن عالمنا الصديق، سوري المولد، فلسطيني الهوى، الكاتب السارد المبدع خالد صالح علي، رحل قبل أيام (يوم الاحد 23/6/2024)، تاركًا اسمًا طيبا وتراثا يستحق البقاء، ويدخل بعض منه الى ديوان النثر الفلسطيني متخذا له صفحة خاصة به، رحل كاتبنا العزيز الغالي بالضبط مثلما رحل قبله الكاتب الصديق حسين فاعور الساعدي ابن قرية الحسينية قبل ثلاثة أعوام ومثلما رحل الصديق الناقد الاديب نور عامر ابن قرية حرفيش في الجليل الأعلى في العام الماضي، لقد مضى صالح خالد علي عن عمر لم يزد عن الثمانين الا بسنة واحدة.

من سوريا الى فلسطين

خالد علي وهذا هو الاسم الذي وقّع به كل كتاباته وانتاجاته الأدبية، من مواليد القطر العربي السوري عام 1943، قذفت به الاحداث السياسية والاجتماعية القاسية الى بلادنا فأقام مع أبناء اسرته بداية في بلدتي الحبيبة الناصرة مدة ثلاثة أعوام، بعدها انتقل للإقامة في منشية عكا. في عام النكبة انتقل مع أبناء اسرته للإقامة في بلدة كفر ياسيف، في هذه البلدة تلقى تعلمه حتى الثانوي، اما دراسته العليا فقد تمت في مدينة بيت المقدس، وقد اهّلته للعمل في مجال التربية الاجتماعية، فالتحق بمعهد الجليل في عكا وفيه تسنّم وظيفة مرشد اجتماعي وقد عمل في هذه الوظيفة مدة نافت على الثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن. قبل نحو العقد ونصف العقد حلّت به واخترقت صحته جلطة دماغية حدّت من حركته، لكنها لم تحدد من نشاطاته ومشاركاته الأدبية، وقد التقى به كاتب هذه السطور في العديد من المناسبات الأدبية الثقافية وأعرب له عن الكثير من الاعتزاز والتقدير لإرادته القوية التي تحدت المرض وتحلّت بالصوت الهامس القوى رغم المرض وآثاره.

تعود علاقتي بالكاتب الراحل، الى نحو ربع القرن، وكان لقائي الأول به عبر صفحات مجلة كانت تصدر ابان الثمانينات، أتذكر انها مجلة الشرق المحتجبة حاليا، وقد تكرر هذا اللقاء في مجموعته القصصية الأولى" ذات الانفاس"، الصادرة عام 1996، اما اللقاء الشخصي الأول لي به فقد تمّ خلال زيارة شخصية له الى مكاتب صحيفة" الصنارة" النصراوية، واذكر انه دخل غرفتي في الصحيفة، غرفة المحرر الادبي، وقدّم لي روايته " مذكرات الأمير"، الصادرة عام 2001، وهو يسرد لي قصة تلك الرواية، ويقول انه كتبها تحدّيا لكاتب مثقف مصري كاد يعايره بان الفلسطينيين لم ينتجوا ما يُذكر في موضوع الرواية التاريخية. وقد اعجبتني ثقة زائري ذاك بنفسه، لتبدأ علاقة ودّية حتى يومه الأخير، وما زلت اذكر بكثير من الدفء والمحبة، انني كتبت عن روايته تلك بعضًا من الكلم الادبي، ما أثلج صدره وما عزّز بالتالي علاقة المودة والتفاهم المضمر فيما بيننا.

ملامح وسمات أدبية

واضح مما تقدم ان راحلنا الكريم، كان مثقفا عصاميا، آثر الطحين على الجعجعة، وعمل في الظل حالمًا بان تكون اعماله الأدبية، على قلتها، كما سيرى الأخ القارئ، هي سقيره الى قارئه المتوقع المتخفّي، ورافضًا ان يكون هو ذاته سفيرَ اعماله كما يحصل في فترتنا المرتبكة الجارية.

صدر له خلال حياته الأدبية الحافلة بالهدوء وشبه الصامتة عدد قليل من المؤلفات، نشير فيما يلي، إضافة الى ما ذكرناه منها، الى أهمها وهو: *سبيل الطاسات (مقالات) سنة   1996*مدينة الرواية (قصص قصيرة) سنة 2009*دائرة وثلاث سيقان (رواية) سنة 2019.

اتصفت كتابات كاتبنا الراحل بالعديد من الصفات التي نفتقدها ونتوق اليها في الفترة الجارية فترة وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي التحول في الكثير من المسلمات والمفاهيم السابقة، خاصة فيما يتعلّق بالنشر، الامر الذي خلط الحابل بالنابل، ودفع بالكثيرين من المبدعين المجوّدين الى ايثار الصمت، وفي الوقت ذاته دفع في المقابل الكثيرين.. الكثيرين.. الى رفع العقيرة عاليا.. عاليا.. دون أي رصيد ثقافي ومعرفي طالما طالبت به ونشدته الفترة السابقة. هذا لا يعني أنني متشائم من الفترة الراهنة، بالعكس من هذا.. ها نحن نعبّر عن تفاؤلنا الذي طالما عبّرنا عنه وعن مثله في هذا المنبر او تلك الأمسية، وهو اننا انما نمرّ في الفترة الجارية في مرحلة من التطور الكمّي ونقترب من عالم الحرية في كل مناحي الحياة واولها الأدبية، بالضبط كما نقترب من فترة التطور الكمي.

مجمل القول ان كاتبنا الراحل، كان مقلًّا في انتاجه الادبي السردي، اذ ان عدد مؤلفاته لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة الا بالقليل، واعتقد ان السبب في هذا يعود الى امرين أحدهما الانهماك في الحياة اليومية وهمومها الضاغطة علينا جميعا، والآخر هو انه اخذ موضوع الابداع الادبي بكلّ جدية فلم يكتب الا ما داعب خياله وظنه، ووجّهه الى محبته الغامرة لكلّ ما هو جميل انساني واصيل في الحياة. وهذا كله ما اهله للحصول على جائزة الابداع الادبي الوزارية عام 2009.

***

ناجي ظاهر

في قصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" للشاعر ت. إس. إليوت، يلعب موضوع الطموح دورا مهما في تشكيل شخصية البطل. الطموح هو القوة الدافعة وراء أفعال وأفكار بروفروك طوال القصيدة. بينما يتصارع مع مشاعر عدم الكفاءة والخوف من الفشل، يدفعه طموح بروفروك إلى البحث عن المصادقة والقبول من الآخرين. ومع ذلك، فإن صراعاته الداخلية تعيقه في النهاية عن تحقيق طموحاته، مما يجعله يشعر بأنه محاصر في حالة من الشلل.

منذ بداية القصيدة، يظهر طموح بروفروك بوضوح وهو يفكر في الدخول الكبير في حفلة. إنه يرغب في ترك انطباع دائم على من حوله ويسعى إلى تأكيد وجوده في المجال الاجتماعي. ومع ذلك، سرعان ما طغى الشك الذاتي وانعدام الأمان على طموحه، مما جعله يشكك في قيمته وقدراته.

إن طموح بروفروك واضح أيضا في مساعيه الرومانسية، حيث يتوق إلى ارتباط عميق بشخصية تحبه. إنه مستهلك بأفكار حول كيفية إثارة إعجابها وكسب عواطفها، ومع ذلك فإن خوفه من الرفض والفشل يمنعه من التعبير عن مشاعره الحقيقية. إن طموح بروفروك في العثور على الحب والرفقة يفشل في النهاية بسبب حواجزه الداخلية، مما يجعله يشعر بالعزلة والانفصال عن من حوله.

بينما يتنقل بروفروك عبر المشهد الاجتماعي لمجتمع أوائل القرن العشرين، فإن طموحه يتحدى باستمرار مشاعر عدم الكفاءة والاغتراب. إنه يدرك تماما أوجه القصور والضعف لديه، والتي تعمل كحواجز أمام تحقيق أهدافه وتطلعاته. تعكس الاضطرابات الداخلية لبروفروك الأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يكافح الأفراد لإيجاد المعنى والغرض في عالم سريع التغير.

وعلى الرغم من طموحاته، فإن بروفروك غير قادر على التحرر من قيود عقله وتوقعات المجتمع. يطارده الخوف من الفشل والرفض، مما يمنعه من المخاطرة وملاحقة أحلامه. في النهاية، تقوضت طموحات بروفروك بسبب انعدام الأمان والقلق، مما جعله يشعر بخيبة الأمل والإحباط.

في المقاطع الأخيرة من القصيدة، يتأمل بروفروك في موته وعبثية طموحاته. يواجه الواقع القاسي لقيوده الخاصة وطبيعة الحياة العابرة، مما دفعه إلى التشكيك في صحة رغباته وتطلعاته. يتضاءل طموح بروفروك في النهاية بسبب إدراكه أن جهوده قد تذهب سدى، مما دفعه إلى مواجهة فراغ وجوده.

يستكشف تي إس إليوت "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" موضوع الطموح من خلال شخصية البطل. إن سعي بروفروك الدؤوب إلى التحقق والقبول هو ما يحرك أفعاله وأفكاره طوال القصيدة، إلا أن صراعاته الداخلية تمنعه في النهاية من تحقيق أهدافه. ومن خلال تجارب بروفروك، يسلط إليوت الضوء على تعقيدات الطموح والتحديات المتأصلة في الإبحار عبر عالم مليء بعدم اليقين والغموض. وفي النهاية، يعمل طموح بروفروك كانعكاس للأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يتصارع الأفراد مع مشاعر الاغتراب وخيبة الأمل في سعيهم وراء المعنى والغرض.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اعلن صباح اليوم الاثنين عن رحيل  الروائي الألباني الكبير إسماعيل كاداريه في أحد مستشفيات العاصمة تيرانا، إثر نوبة قلبية، عن 88 عاماً. كاداريه يعد من كبار الروائيين في ألبانيا وأوروبا، أعاد في رواياته كتابة التاريخ الألباني القديم والحديث، وترجمت العديد من أعماله إلى العربية.

كان كاداريه على قوائم جائزة نوبل ، وكان يتوقع ان يحصل عليها بعد ان  فاز بجوائز  بريطانية وفرنسية ، لكنها خاصمته كما خاصمت الكثير من الكتاب الكبار .  كاداريه يعد  واحد من أبرز الروائيين الألبان والأوروبيين، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عدة ولقيت رواجاً، كونها  رواياته  تتميز بطابع كلاسيكي ونفس سردي تاريخي وملحمي. فهو عمد طوال مسيرته الأدبية، إلى تفكيك تاريخ بلاده، دامجاً بين الأساطير والقضايا السياسية والتجارب الإنسانية.

ولد كاداريه في مدينة جيروكاسترا في جنوب ألبانيا عام 1936، وهي مدينة الرئيس الألباني أنور خوجا الذي كان يوصف بالديكتاتور. درس في جامعة تيرانا، ثم سافر إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للأدب العالمي. وعندما عاد إلى بلده عام 1960 وجد أن خوجا قطع علاقاته مع موسكو وأقام حلفاً مع الصين البلد الشيوعي المناوئ عقائدياً للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

استهل كاداريه مساره في الصحافة، ونشر بعضاً من أشعاره. ولكن ما كرسه كاتباً وأطلق اسمه في الأدب الألباني كان عمله الروائي الشهير "جنرال الجيش الميت" وقد صدر عام 1963. ثم ما لبث أن تفرغ للكتابة فتتابعت أعماله وأصدر روايات مهمة لقيت صدى لدى القراء والنقاد.

بدأ الكتابة في منتصف الخمسينيات ونشر بعض القصص القصيرة في الستينيات حتى نشر أولى رواياته بعنوان " جنرال الجيش الميت"  عام 1963. وتعد أشهر رواياته التي منحته شهرة دولية خارج ألبانيا. وتحكي قصة جنرال إيطالي في مهمة قاسية يحاول خلالها العثور على رفات جنود بلاده الذين لقوا حتفهم في ألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية وإعادتهم إلى إيطاليا.

من بين روايات كاداريه الأخرى التي تتناول التاريخ الألباني؛ رواية " القلعة"  أو " الحصار" ، الصادرة عام 1970، وتروي قصة المقاومة المسلحة للشعب الألباني ضد الأتراك العثمانيين في القرن الـ15. وكذلك رواية " الشتاء العظيم " ، الصادرة عام 1977 وتصور الأحداث التي أدت إلى الانفصال بين ألبانيا والاتحاد السوفياتي عام 1961.

في عام 1996 مُنح كاداريه عضوية أكاديمية العلوم السياسية والأخلاقية الفرنسية، ثم أصبح لاحقاً ضابطاً في جوقة الشرف الفرنسية. وفاز بجائزة بوكر الأدبية عام 2005، وجائزة أمير أستورياس عام 2009، وجائزة  نويستات  الأدبية الأميركية عام 2020. وحصل أيضاً على جائزة «مونديال تشينو ديل دوكا» عام 1992، وجائزة  هيردر  عام 1998. ورُشِح أكثر من مرة لجائزة نوبل في الآداب. كما تُرجِمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة، فيما تجاوزت أعماله 100 عمل تنوعت ما بين روايات ودواوين شعرية ونصوص مسرحية وسيناريوهات.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

تكادُ تكونُ الطَّائرةُ وحَسْب هي الموضِعُ الذي يَهربُ بي، صوبَ خَلَجَاتٍ مُخجلةٍ في الفكرِ أراها جليَّاً تَشهبُ بي. فما إن أقعدُ ببَطنِها مُنبَهراً، وبلعابٍ سيّالٍ لتقنيةٍ فيها تَحلِبُ بي، حتى أرى تيكَ الخَلَجاتِ تنهمرُ مُجَلجِلةً وتندبُ بي. ثُمَّ ما إن تَقلعُ من مَدرجِها حتى تَختمرُ رُغمَ أنفي تُصَرِّحُ بأنِّي مِن أمَّةٍ عالةٌ على أممٍ، وذيكَ خَلجَةٌ ما فتأت تثلبُ بي. وثَمَّ كلمَّا تصَّاعدتِ الطَّائرةُ في جوِّ السماء تَصَّاعدَت تيكَ الخلجاتُ وتصَاعدَ عويلُها يهتفُ بي، بأنَّه ليسَ لي يدٌ في صنعِ سلكٍ أو جُزءٍ من ذي طائرةٍ وذاكَ عويلٌ بمَعَرَّةٍ تضربُ بي. ثُمَّ تأتيَ خَلجةٌ أمرُّ وأدهى بأنَّ كلَّ أجزائِها صُنِعَت بأيادٍ هي بربِّ السَّماءِ كافرةٌ، وهذا عارٌ يَذهبُ بي، الى خَلجةٍ أخرى هي أعتى وأخزَى بأنَّهُ حتى جهاز ملاحةٍ جَويةٍ في برجِ المَطار قد خَلقَتهُ أيدٍ هيَ كذلكَ مِن ربِّ السَّماءِ نافرة، وذاكَ شَنارٌ يلهبُ بي.

ثُمَّ أرانيَ أتأمَّلُ وُجوهَ بني قومي من مسافرينَ على مَتنِها وذلكَ فضولٌ صبيانيٌّ مَعيبٌ ما فتِأ يلعبُ بي، فأرَى بعضَها وجوهاً تحتَ شَلالِ شَخيرِها غَافيةً، وتيارُ نَومِها يكادُ يَسحبُ بي، وبعضَها وجوهاً جافيةً ورسوماتِ انتفَاخِها بتَنَطُّعٍ وخُيلاءَ يَقطبُ بي، وكأنَّ أحدَهُم هوَ الصَّانعُ لمنظومةِ (هَيدروليك) الطَّائرة وتلكَ خَيلاءُ جوفاءُ الى السَّأمِ تغرُبُ بي، بينَما هوَ في حقيقِ الأمرِ لا يَعلمُ مِن ذي دُنيا دائِرةٍ، سوى الثّريدَ وهزَّ العُرجونِ بعُودٍ من جريد لينالَ تُمَيراتٍ بائِرة، وذاكَ خطبٌ سقيمٌ يَخطبُ بي.

ثمَّ أرانيَ أنظرُ من نافذةِ الطَّائرة بهوسٍ غريبٍ يرغَبُ بي، فأرى مَيادينَ أمتي خربةً وخرابُها بوَجعٍ شديدٍ يقلِبُ بي، وأرَى فَدَادِينَها ثَاويةً وتَثُجُّ بالتَّلافحِ بين مِللِ دينٍ خاطئةٍ ومذاهبَ دَجَلٍ واطِئَةٍ، وجائرةٍ كاذِبةٍ كُلِّها وتحزبُ بي، ماخلا ملَّةَ أبينا إبراهيمَ وتلكَ مِلَّةٌ بمحجَّةٍ بيضاءَ زكيَّةٌ غالبةٌ تَشهبُ بي. وأرى بَساتِينَها خاويةً وتَعُجُّ بالتَّناطحِ بين ثيرانٍ قَبَليةٍ وعُجولٍ عَشائرية ترَاها لأهلِ السَّذاجةِ نَادبَة. ذاكَ تناطِحٌ مجٌّ يصخبُ بي. ثمَّ أرى سَلَاطِينَها عَاويَةً وتأجُّ بالتَّباطحِ بين أحزابِ صَعلكةٍ سِياسيَّةٍ مِن سبلِ الأصالةِ هَارِبَة، ولأهلِ السَّفاهَةِ جَاذِبة، وذاكَ تصعلكٌ يَعصِبُ بي. ثمَّ جَفَلتُ فُجأةً من جليسٍ هولنديٍّ بالجَنبِ في ذيكَ الطَّائرةِ السَّاربةِ، يقولُ وهوَ يَجذبُ بي:

"أظنُّكَ لن تَرى في فَدَادِينَ أمَّتِكَ طَوَاحِينَ، أبداً ولا مَوَازِينَ تَزنُ رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ بمَهابَةٍ". قولُ هذا الهولنديِّ ما إنفكَّ يعشُبُ بي. لكنِ الحقُّ معَه رُغمَ أنَّ قيلَهُ ثقيلٌ ويَقشِبُ بي، لأنِّيَ أبداً لن أجدَ في دروبنا رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ أفخرُ بهِ ويشهبُ بي، فأذنابُ السَّلاطينَ: إمَّا صَلبوهُ في سَاعةٍ غَاربةٍ، إمَّا حَبسُوهُ في خَرابةٍ غَاضِبةٍ، وإمَّا صَيَّرُوهُ خَبَلاً طَوَّافًاً في الدُّروبِ كمثلِ كَلبةٍ من سَكارى الحَيِّ في لَيلٍ شتويٍّ مَذعورةٍ هَاربَة، فويلٌ لي في أمَّةٍ عالِمُها خَبَلٌ يَحُكُّ استَهُ في الدُّروبِ، ويلٌ لم يزلْ يُكَبْكِبُ بي. فهلّا بحَثْنا معاً بعُيونٍ هيَ للدَّمعِ ساكبةٍ، عنِ كلِّ كَلْبَةٍ عَلّامةٍ لكنَّها مذعورةٌ وهَاربة، فلا نَجاةَ لنا من كُلْبَةِ الدَّهرِ ولا قيمةَ لنا فيهِ إلّا في احترامِ وتقديرِ الكَلبةِ الهَاربةِ.

(ومعنى الكَلْبَةِ؛ الشّدَّةُ مِن كلِّ شيءٍ)، وكانتِ الكُلْبَاتُ في دروبِ أمتي مِن كلِّ حَدبٍ تضربُ بي.

عَوْ ! عَوُوُو!

***

علي الجنابي

 

علوية صبح كاتبة ومسرحية لبنانية شهيرة قدمت مساهمات كبيرة لعالم الأدب بقصصها الآسرة. ولدت علوية في لبنان، وغالبا ما تدور أعمالها حول تعقيدات المشاعر الإنسانية والعلاقات والأعراف المجتمعية في الثقافة اللبنانية. من خلال أسلوبها الفريد في سرد القصص، تمكنت علوية من جذب قلوب القراء في جميع أنحاء العالم.

واحدة من أبرز قصص علوية صبح هي "خشب الصندل". تستكشف هذه القصة موضوع الخسارة والحزن حيث تتبع رحلة امرأة حزينة على وفاة زوجها. تصور علوية بشكل جميل الاضطراب العاطفي الذي تمر به بطلة الرواية وتسلط الضوء على الطرق التي تتعامل بها مع حزنها. من خلال الصور الحية واللغة المؤثرة، تنقل علوية بفعالية شدة مشاعر بطلة الرواية، مما يجعل "خشب الصندل" قصة قوية ومؤثرة.

في "الأرجوحة"، تتعمق علوية في تعقيدات العلاقات بين الأم وابنتها. تدور أحداث القصة حول أم تكافح للتواصل مع ابنتها المتمردة، مما يؤدي إلى توتر العلاقة بينهما. تستكشف صبح ببراعة الانقسام بين الأجيال وتحديات التواصل داخل الأسرة، مما يخلق سردًا مثيرًا للتفكير يتردد صداه لدى القراء من جميع الخلفيات.

تدور أحداث قصة "أشجار البرتقال في بيروت" لصبح حول مفهوم الذاكرة والحنين. تدور أحداث القصة على خلفية بيروت التي مزقتها الحرب، وتتتبع مجموعة من الأصدقاء الذين يجدون العزاء في أشجار البرتقال التي كانت تزين ملعب طفولتهم. من خلال عدسة ذكريات هذه الشخصيات، ترسم صبح صورة حية لعصر مضى وتلتقط المشاعر المريرة المرتبطة بتذكر الماضي.

قصة أخرى آسرة لصبح هي "طعم الملح". تتبع هذه القصة امرأة شابة تكافح من أجل التحرر من قيود نشأتها المحافظة وملاحقة أحلامها في أن تصبح طاهية. تنسج صبح بشكل معقد موضوعات التقاليد والتمرد واكتشاف الذات، مما يخلق سردا مقنعا يتحدى المعايير والتوقعات المجتمعية.

في "صانعة العطور"، تستكشف صبح فن صناعة العطور وارتباطه بالذاكرة والهوية. تتبع القصة صانعة العطور التي تشرع في رحلة لخلق رائحة مميزة تجسد جوهر تجارب حياتها الخاصة. من خلال العملية الإبداعية للبطلة، تصنع صبح بمهارة قصة تحتفي بقوة الرائحة في استحضار الذكريات والعواطف.

"البيت في شارع مونو" هي قصة جميلة ومؤثرة من تأليف صبح تستكشف موضوع النزوح والشوق. تدور أحداث القصة في بيروت التي مزقتها الحرب، وتتبع مجموعة من الأفراد الذين يجدون أنفسهم يعيشون في منزل مهجور في شارع مونو، كل منهم يتصارع مع شعوره الخاص بالخسارة وعدم اليقين. من خلال نثرها المثير، تلتقط صبح يأس وشوق شخصياتها وهم يتنقلون بين عدم اليقين الناجم عن الحرب والنزوح.

في "بيت الطيور"، تحكي صبح قصة فتاة صغيرة تجد العزاء في رعاية الطيور المصابة في قفص مؤقت في حديقتها الخلفية. وبينما ترعى الفتاة الطيور حتى تستعيد عافيتها، تبدأ أيضا في التعافي من الألم والصدمة التي تحملتها في ماضيها. إن تصوير صبح المؤثر للصمود والشفاء يجعل "بيت الطيور" قصة مؤثرة ومبهجة تتردد صداها لدى القراء من جميع الأعمار.

"صباحات في بيروت" هي قصة غنائية جميلة من تأليف صبح تجسد جوهر المشهد النابض بالحياة والصاخب في بيروت. من خلال عيون فتاة صغيرة تستكشف شوارع المدينة عند الفجر، ترسم صبح صورة حية لماضي بيروت وحاضرها ومستقبلها، وتنسج معًا موضوعات الأمل والصمود والروح الدائمة لسكانها.

في "زهرة الياسمين"، تستكشف صبح موضوع الحب المحرم والتوقعات المجتمعية. وتدور أحداث القصة حول زوجين شابين يجب عليهما التغلب على تحديات رفض أسرتيهما وإيجاد طريقة للبقاء معا على الرغم من العقبات التي تعترض طريقهما. إن تصوير صبح الحساس للحب والتضحية في "زهرة الياسمين" يجعلها قصة مؤثرة ومؤثرة تظل في قلوب القراء لفترة طويلة بعد الصفحة الأخيرة.

لم تتخل الكاتبة في روايتها الثالثة "اسمه الغرام" ، عن مجهرها في رؤية الواقع، لتبرز تفاصيل الموضوع الذي تتناوله، والتي تشكّل أهمية قصوى على درب معرفة الحقائق، وتعرية النفوس من ما يعتمل فيها، وكشف المستور الذي يبرع الآخرون في إخفائه، وحتى التشدق بعكسه. لم تتخل أيضا عن دفاعاتها المسبقة، فلم تنس الإعلان أن “الكتابة دايما ناقصة”، وأنها لا تتعدى على مسيرة حياة أبطالها ولا تتحكم بهم، ولا تفرض رؤيتها عليهم، فتعلن أن “نهلا تلكزني كي أكتب حكايتها”، “المليئة بالحب والحياة..”، فالبطلة نهلا اختفت وقد تكون ضحية من ضحايا حرب تموز على لبنان عام 2006، وهي الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، فأنا ـ”إن لم أكتب حياتها، ألن أجعلها تتحول إلى مجرد اسم مكتوب على كيس نايلون مثل مصير وحيوات أولئك الأطفال والضحايا الأبرياء”. لكنها تعود للشك في مصداقية الكتابة نفسها: ” لم أعد أدرك إن كنت أعرف امرأة اسمها “نهلا” حَكت لي حكايتها لأكتبها، أم أني أتخيّل حياة امرأة من بين الذين رأيتهم ينتشلونهم من تحت أنقاض منازلهم”. كما أنها لا تنفي وجود المبرر الذاتي والهدف الشخصي: “لم يكن أمامي سوى أن أطاوع نهلا لأقاوم موتي بالكتابة”.

"اسمه الغرام" رواية غنية بالقصص المتعددة والمصائر المتنوعة، وبشخصيات نسائية مركبّة بين الواقع وبين خيال التركيب الروائي. نهلا وسعاد وعزيزة ومنى ونادين وميرنا، كلهن سيعبّرن وسيكنّ إطارا للحديث عن الأهم وهو الموضوع. ألا تنتهي حياة الشخصيات والأفراد والأسماء وتبقى المواضيع…وهذه المرة كان “الغرام” هو الموضوع الأهم الذي اختارته الكاتبة. “ما اسم هذا الغرام الذي يفتك بي ويحييني في آن”؟! تقول البطلة التي تعود إلى غرامها الأول هاني، بعد أن انفصلا وبنى كل منهما حياته بعيداً عن الآخر، فتزوج وانجب. فحبهما “جمر بقي متوقدا”، وبحسب تعبيرها: “كنت مختبئة فيه، وهو يختبئ فيّ طوال الوقت الذي لم نر فيه واحدنا الآخر. ومن أجل ذلك، لم أنسه، لأن الأشياء التي نختبئ فيها لا تُنسى أبداً”.

يفيض الكلام بمشاعر الحب ويختلف باختلاف حدّتها. فالحب أنواع :”الحب هو اللي ما فيكي تقمعيه وتحديه متل النهر”، وحب الودّ والمحبة، و”الحب اللي فيه ولع وتيه ومفردات كثيرة”.

في جولتها وبحثها عن كشف حقيقة ما “اسمه الغرام”، لن تبخل الكاتبة في عرض محتوياته على أرض الميدان، ومصطلحاته المستعملة، ومفاهيمه المطبّقة، وكل ما يدور حوله: الزواج والتقاليد، والحب والعلاقة المختلفة التي تربط بين قطبيه، والرغبة الجنسية واكتشاف الجسد، وعدم الاكتفاء والحرمان، والتعويض عن هذا الحرمان..

تتخذ الكاتبة موقعا واقعيا كاشفا في طريقة تناولها لهذا الموضوع المتشعب والشديد الخصوصية. لكنها حتى في تدّخلها الذاتي ورؤيتها الخاصة، لا تدين ولا تحلل ولا تطرح حلولا، بل هي تقدم تفاصيل واقع تزج نفسها به، لتخرج بحصيلة رؤى ومشاهد، تسجل أحداثها وظواهرها وتدون تعابيرها، وتدع للقارئ المهام الأخرى من الاستنتاج والتحليل.

من جانب  آخر تتعمق الرواية في تعقيدات الحب والعلاقات، وتستكشف مواضيع الرغبة والشوق والخيانة. تدور أحداث القصة في بيروت، وتتتبع حياة العديد من الشخصيات المتشابكة وهم يبحرون في مياه الحب والانكسار.

تبدأ الرواية بتعريف نهلا، وهي شابة تكافح لإيجاد معنى لحياتها بعد سلسلة من العلاقات الفاشلة. تنجذب إلى الشاب الغامض، الفنان الكئيب الذي يبدو أنه يقدم لها الحب والاستقرار الذي تتوق إليه. ومع تعمق علاقتهما، تبدأ نهلا في التشكيك في نوايا علي الحقيقية وتتساءل عما إذا كان حبهما مبنيا على أساس من الأكاذيب.

مع تطور القصة، يتم تعريف القارئ بمجموعة ملونة من الشخصيات التي يجلب كل منها وجهات نظره الفريدة حول الحب والعلاقات. من الفنان العاطفي إلى سيدة الأعمال البراجماتية، تقدم كل شخصية عدسة مختلفة يمكن من خلالها رؤية تعقيدات المشاعر والرغبات البشرية.

في جميع أنحاء الرواية، تنسج صبح نسيجا غنيا من المشاعر، وتستكشف صعود وهبوط الحب في جميع أشكاله. من الاندفاع المسكر للحب الجديد إلى الألم المدمر لكسر القلب، تختبر الشخصيات في "اسمه الغرام" مجموعة واسعة من المشاعر التي ستتردد صداها مع القراء من جميع الخلفيات.

تتمثل إحدى نقاط قوة كتابات صبح في قدرتها على التقاط الفروق الدقيقة للعلاقات الإنسانية بصدق وحساسية. إنها لا تخجل من الجوانب الفوضوية والمؤلمة غالبا للحب، بل تختار بدلاً من ذلك مواجهتها بشكل مباشر بطريقة صريحة وحازمة.

بينما تتصارع الشخصيات في الرواية مع شياطينهم ورغباتهم، يضطر القارئ إلى التفكير في تجاربهم الخاصة مع الحب والعلاقات. كتابات صبح هي استبطانية ومثيرة للتفكير، وتتحدى القراء للنظر في تعقيدات الحب في حياتهم الخاصة.

في جوهرها، "اسمه الغرام" هي رواية عن البحث عن الاتصال والتفاهم في عالم يمكن أن يشعر غالبا بالبرودة واللامبالاة. من خلال رحلة نور والشخصيات الأخرى، يستكشف صبح الطرق التي يمكن للحب من خلالها أن يرفع ويدمر في الوقت نفسه، فيجلب الفرح والألم على حد سواء.

في النهاية، "اسمه الغرام" هي تأمل قوي ومؤثر في طبيعة الحب والعلاقات. كتابات صبح غنائية ومؤثرة، تجذب القارئ إلى عالم حيث يسود العاطفة والرغبة، وحيث لا ينتهي البحث عن الحب.

تشكل رواية علوية صبح "اسمه الغرام" استكشاف مكتوب بشكل جميل ومؤثر للغاية لتعقيدات العلاقات الإنسانية. من خلال شخصياتها الحية ونثرها المثير، تقدم الرواية تأملا قويا في طبيعة الحب وتأثيره على حياتنا. إنها قراءة لا بد منها لأي شخص تعامل مع أفراح وآلام الحب، ويسعى إلى فهم أعمق للقلب البشري.

تقدم قصص علوية صبح نسيجا غنيا من المشاعر والموضوعات والشخصيات التي تسلط الضوء على تعقيدات التجربة الإنسانية في المجتمع اللبناني. ومن خلال نثرها المثير ورواياتها المقنعة، تدعو صبح القراء لاستكشاف أعماق الحزن والشوق والحب والمرونة بطريقة تتردد صداها على مستوى عالمي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: أليس ماكديرموت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

مثلما قال إيمرسون ل ويتمان: "أحييكم في بداية مسيرة مهنية عظيمة، والتي لا بد أنها كانت لها خلفية طويلة في مكان ما، لمثل هذه البداية". نفس الكلمات التي قالها لي محرري عندما نشرت روايتي الأولى عام 1982 – يا إلهي! على الرغم من أنني يجب أن أعترف - بقطع النظر عن إيمرسون وويتمان - فقد صدمني هذا الشعور حتى في ذلك الوقت باعتباره مبالغًا فيه إلى حد ما.

يبدو لي الآن أنه جاء في توقيت سيء. وبعد مرور أربعين عامًا، أنا متأكدة تمامًا من أنني ما زلت في بداية هذه المهنة، وما إذا كانت مهنة رائعة أم لا لم يتحدد بعد.

هذا لأنه، كما اكتشفت بالفعل بلا شك، فإن مهنتنا، وحياة الكاتب، تسمح لنا بالاعتقاد بأننا دائمًا في بداية الأشياء، لأن كل قصة جديدة نكتبها، وكل رواية جديدة، وكل جملة جديدة، هذا الأمر المهم، يحولنا مرة أخرى إلى مبتدئين، وطلاب جدد، ومسافرين وحيدين في أراضي مجهولة، ومبتدئين - جدد إلى الأبد في هذا، يحاولون دائمًا سرد قصة لم تُسرد من قبل.

ليس هذا بالأمر السيء، حقًا.

*

ومع ذلك، فإن هذه المناسبة، وهذا الاحتفال بظهورك الأول، يتطلب كلمات حكيمة ومشورة حكيمة من أحد شيوخ القبيلة، أو على الأقل من شخص ليس جديدا في هذه الوظيفة .

ولذا كنت أحاول أن أتذكر النصيحة التي ربما تلقيتها في وقت مبكر، النصيحة التي ربما ساعدتني خلال هذه السنوات من البدء.

ولقد تذكرت هذا: حفل عشاء جوائز الكتاب الوطني في فندق بيير عام 1987. وكانت روايتي الثانية واحدة من بين خمس روايات وصلت إلى التصفيات النهائية في ذلك العام (كان هذا قبل وقت طويل من ذلك الشيء الخبيث الذي يسمى القائمة الطويلة)، ولكن كذلك كانت رواية توني موريسون الرائعة. الحبيب. الأمر الذي خفف الضغط عنا نحن البشر الأقل شأنًا - كان الجميع يعلم أن الحبيب سيفوز.

(على الرغم من أننا، بالطبع، لنواجه الأمر، لم نكن لنكون كتابًا إذا لم نكن أيضًا حالمين ورومانسيين... لذا أعترف أنني تخيلت لفترة وجيزة لحظة سندريلا عندما ظهرت روايتي الثانية الصغيرة، على نحو مفاجئ، باعتبارها رواية فائزة ، خيال الحصان الأسود الذي استغرق روايتين أخريين وعقدًا آخر ليؤتي ثماره فيما يسمى أحيانًا "الحياة الحقيقية")

على أية حال: في فندق بيير، كنت أنا وزوجي على طاولة الناشر مع متأهل آخر للتصفيات النهائية - لاري هاينمان، الذي كتب رواية مدمرة عن فيتنام، "قصة باكو - وزوجة لاري". كان هناك أيضًا محرري ووكيلي ورئيس قسم الدعاية، لكنني كنت جالسة بجوار روجر شتراوس نفسه، أحد مؤسسي فارار وستراوس وجيرو، وهو شخصية أدبية كبيرة: أرستقراطية النشر، أرستقراطية مانهاتن؛ - أسطورة كبيرة، وسيم، ذات شعر فضي، اشتهر بارتداء الأسكوت، وملء محادثته المضحكة بألفاظ نابية مذهلة..

تأتي جائزة القص دائمًا في المرتبة الأخيرة في حفل توزيع جوائز الكتاب الوطني - وهي أفضل لحظة مصورة - وعندما تم الإعلان عن ذلك، فازت قصة باكو بالجائزة. حدثت ثلاثة أشياء في وقت واحد: شهق الجمهور، وانفجرت زوجة لاري هاينمان في البكاء، وربت روجر شتراوس على ركبتي مثل عم متعاطف. بينما كان لاري يشق طريقه إلى المنصة، انحنى روجر ليهمس في أذني... قال: "آه، عليهم اللعنة ".

وبعد عشرين دقيقة، بينما كنا نرتدي معاطفنا، أمسكت توني موريسون بيدي وقالت لي نفس الشيء بكل سرور.

إنها نصيحة حكيمة، وشعار كاتب، استفدت منها جيدًا على مر السنين، وها أنا الآن أنقلها إليك: آه، عليهم اللعنة.

استخدمه عندما يقترح شخص ما أن كتابة القصص ليست وظيفة حقيقية.

أو عندما تسمع أن الطباعة قد ماتت. والكتب عفا عليها الزمن. وسوف يحل الذكاء الاصطناعي محلنا جميعًا.

آه، عليهم اللعنة!

أهمس بها كلما قيل لك: لا يمكنك قول ذلك. لا يمكنك كتابة ذلك. لا يمكنك بيع ذلك.

قل ذلك عندما يحاول شخص ما أن يقترح أن هناك محظورات لفننا: أنه لا يُسمح لك بتخيل نفسك في عوالم معينة، أو شخصيات معينة، أو ثقافات معينة. أنك ممنوع من خلق مواقف لم تعيشها بالفعل. أنك ممنوع من اقتراض الكثير مما يسمى "الحياة الحقيقية".

قلها عندما يُقال لك إنك تأخرت كثيرًا في فكرتك الخيالية، فقد تم إنجازها من قبل. أو مبكرًا جدًا – لم يتم القيام بذلك من قبل.

"آه، عليهم اللعنة."

قلها بضحكة. أو بهزة كتف .

قل ذلك بلطف، بنفس الطريقة التي قد تتمتم بها، "أيها الأحمق المسكين"، أو "أوه، حسنًا"، أو مثل سيدة جنوبية مستهترة، "لماذا، ليبارك قلبك". أو قلها بصبر وأسى كما قد يقول الأيرلنديون: "فليساعدنا الله".

القراء، وقراء الروايات على وجه الخصوص، هم أشخاص رائعون، وكرماء، وضروريون، وأفضل الناس، حقًا، ولكنهم يمكن أن يكونوا أيضًا، حسنًا، مزعجين.

لذلك قل ذلك بلطف عندما يسألك عزيزي القارئ: "لماذا قصتك حزينة جدًا؟ " أو "هل كان من المفترض أن تكون قصتك مضحكة؟" أو "هل كنت تنوي وضع تلك التفاصيل المحورية الذكية هناك أم أن ذلك حدث للتو؟" قل ذلك بأقل قدر من السخط عندما يقترح قارئ متحمس أن عملك سيجد جمهورًا أوسع إذا كانت قصصك أقل تعقيدًا.

آه، عليهم اللعنة.

سألني كاتب من أكثر الكتب مبيعًا بشكل يبعث على السخرية ذات مرة. قال:

- هل تحبين الكليشيهات؟  أنا أحبها .

يعرف الناس بالضبط ما تعنيه عندما تستخدم عبارة مبتذلة. عبارات مبتذلة. شخصيات مبتذلة. ليس عليهم أن يفكروا في الأمر.  أكد لي:

- يجب عليك استخدام المزيد من الكليشيهات. القراء يقدرون ذلك.

فكرت: آه، عليهم اللعنة.

*

في إحدى جلسات الأسئلة والإجابة السريعة التي أجريت مؤخرًا، تم سؤالي عن شعوري تجاه المراجعات عبر الإنترنت. أعترف أنني كنت متعبًا بعض الشيء، لقد كان يومًا طويلًا، وربما كنت غريب الأطوار إلى حد ما. أخبرت السائل أنني لم أقرأ مثل هذه المراجعات - لعملي أو لأعمال الآخرين - لأن الكثير منها يعادل سؤال شخص ما "لماذا لست أطول؟"

*

يقول لك القارئ العابس: "لم تكن قصتك تدور حول ما اعتقدت أنها ستكون حوله". يقترح عليك أحد القراء المفيدين أن تقوم بمراجعة رواية تشبه روايتك - في الحقيقة لن تكون مثل روايتك - لأنها أنتجت سلسلة شعبية. يقول أحد القراء القلقين: "لقد استمعت إلى كتابك بينما كنت أقوم بإعداد عشاء من ثمانية أطباق لعشرين شخصًا في مطبخ مزدحم ولم أفهم النهاية تمامًا. ربما تركت شيئًا ما." يقول القارئ قليل الكلام: "لقد قرأت قصتك"، ثم لا شيء آخر.

يجب أن تبتسم. يجب أن نكون دائما لطفاء مع القراء.

ولكن يجب أن تفكر، مع ذلك، آه، عليهم اللعنة.

*

كاتب عظيم، لم يعد معنا، كان في منزله الريفي، يكافح من أجل تأليف روايته الألف، عندما توقفت سيارة ليموزين طويلة في ممر منزله وخرجت منه وأسقطت كاتبًا أصغر سنًا كان قد دافع عنه قبل عقد من الزمن، أعقبها ضباب من دخان الحشيش. ومن ثم النجم السينمائي الشهير جدًا الذي كان على وشك الظهور في النسخة السينمائية من الكتاب الكبير الحالي للكاتب الأصغر سنًا. قالا إنهما جاءا لتكريم هذا الكاتب العظيم، كاتب كانا يعشقانه، كاتب رثياه أثناء تناول المشروبات، والذي كانت رواياته، للأسف، غير قابلة للتصوير السينمائي.

عندما انطلق الاثنان بسيارتهما الليموزين، اتصل الكاتب العظيم بوكيله - الذي روى لي القصة - ليأسف لعدم عرض أي من كتبه الحائزة على العديد من الجوائز على الشاشة. ماذا كان يفعل خطأ؟ هل كان منفصلا عن الواقع؟ هل كان عمله يشيخ بشكل سيء؟

فقالت وكيله: بالله عليك اذهب واكتب.

ما كانت تقصده، بالطبع، هو: آه، عليهم اللعنة.

قلها عندما تبدأ يومك في الكتابة، بينما تدير ظهرك لكل الأشخاص والأصوات التي لا تنتمي إلى غرفة الكتابة الخاصة بك: الآباء، والأشقاء، والأزواج، والنقاد - عبر الإنترنت أو غيرهم - والأصدقاء والجيران ذوي الرأي، أحدث كتاب كبير، والمؤلف الجديد الأكثر إثارة، وبعض الأشياء التي على  تيك توك، وزميل الدراسة الذي حصل للتو على صفقة بقيمة مليار دولار مع Netflix.

آه، عليهم اللعنة.

و كما قال فوكنر، لا تترك مكانًا في ورشتك لأي شيء آخر غير أحكام وحقائق القلب البشري.

وبعد أن أمضيت لحظة "ليلة الموتى الأحياء"، أغلق الباب على الأيدي المتلمسة والوجوه الكئيبة لكل ما يمنعنا من مواجهة تلك السلطات والحقائق بلا قيود- وبدونها، كما قال فولكنر، تصبح أي قصة سريعة الزوال ومحكوم عليها بالفشل - انظر إلى المرآة المجازية وقلها لنفسك.

قل ذلك لشكوكك، وترددك، ومخاوفك بشأن الحصول على وظيفة حقيقية.

آه، عليهم اللعنة.

قل ذلك لمخاوفك بشأن كتابة الشيء الخطأ: العبارة الخاطئة، أو الشخصية الخاطئة، أو النوع الخطأ، أو الموضوع أو المشاعر الخاطئة. القصة التي تموت على الكرمة.

أعني، اللعنة على تلك المخاوف.

قلها لكل فكرة معقولة، محبطة، وجبانة تزور عقلك المضطرب، لكل الأشياء التي تشل حريتك في الكتابة.

آه، عليهم اللعنة

وينطبق الشيء نفسه على خيالات سندريلا الخاصة بك بالفوز بجائزة أدبية كبيرة، بالإضافة إلى يقينك على غرار إيور بأن عملك لن يرى النور أبدًا.

اللعنة على كليهما.

سوف تفشل، بالطبع سوف تفشل. سوف ترتكب أخطاء. ستكتب جملًا فظيعة، ومشاهد غير ضرورية، وقصصًا تفقد قوتها، وروايات ربما لا تكون أفضل أعمالك.

أصدقائي، إن المخاطر المهنية الكامنة في اختيار مهنة - مهنة سرد القصص - هي التي تبقيك، بغض النظر عن عدد السنوات التي عملت فيها، إلى الأبد مبتدئًا، ، ومستكشفًا وحيدًا ينطلق لبناء عالم جديد.

مهنة تبقيك في البداية، مجرد بداية مسيرتك المهنية العظيمة، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لتكتبها، وجملة جديدة لتؤلفها، وصوت مصنوع من الكلمات وحدها، لم يُسمع بعد، والذي فقط يمكنك اكتشافه.

قمت بإعادة قراءة إيريس مردوخ في الآونة الأخيرة، لأنني لا أزال أكتشف كيفية القيام بذلك، والكتاب الجيدون هم، في النهاية، أفضل المرشدين. (على الرغم من أن المحررين العظماء مثل باتريك وهانا وماريبيث وويل سيساعدون أيضًا بالطبع).

تستخدم مردوخ مصطلحًا أصبحت مولعة به كثيرًا: "نكران الذات".

كلمة جميلة لمقاومة ثقافة "الأنانية" لدينا. طريقة رائعة لتحديد ما نفعله عندما نواجه مخاوفنا الكتابية ونقول: آه. . . جيد أنك علمت . . .

نكران الذات. في عالم مردوخ، يعد هذا مفهومًا معقدًا -أفضل المفاهيم كذلك- لأن مردوخ كانت فيلسوفة وروائية، كما أعتقد، مثل أفضل الكتاب.

وتؤكد أن نكران الذات هو الهدية العظيمة لكل من الفن والطبيعة. إنها القدرة على التخلص، ولو للحظات فقط، مما تصفه بـ "الأنا السمينة التي لا هوادة فيها". إنها القدرة على ترك الذات، ولو للحظات، من أجل الرؤية بوضوح.

وتقول إن الفن العظيم يمنحنا متعة خالصة في الوجود المستقل لما هو ممتاز. سواء في نشأتها (التي ستكون وظيفة الكاتب) أو استمتاعها (وظيفة القارئ) فهي شيء يتعارض تمامًا مع الهوس الأناني. إنه ينشط أفضل قدراتنا، وباستخدام اللغة الأفلاطونية، يلهم الحب في أعلى جزء من الروح.

وتقول إن (الفن العظيم) قادر على القيام بذلك تقريبا بفضل شيء يشترك فيه مع الطبيعة: كمال الشكل الذي يدعو إلى التأمل الحر ويقاوم الانغماس في حياة الحلم الأنانية للوعي.

*

من قبيل الصدفة، أم لا، هناك صدى لإيمرسون في هذا:

إن الشاعر الذي يستخدم الطبيعة كخط هيروغليفي يجب أن يكون لديه رسالة كافية لينقلها.

صدى لويتمان أيضا: الذي قد تبدو "أغنيته لنفسي" متناقضة تماما مع نكران الذات، إلا عندما تفكر: لأن كل ذرة تنتمي لي هي ملك لك.

لذا، هذا هو الشيء الذي يجب أن نتذكره: نحن الذين نعمل في الفنون الأدبية نسعى لنحصل، لبعضنا البعض، ولنا جميعًا، على متعة خالصة - فرحة بالوجود المستقل لما هو ممتاز، فرحة بكمال الشكل. لقد خرجنا لنلتقط، من خلال قصصنا، التأمل المجرد الذي يحررنا جميعًا من غرورنا الذي لا هوادة فيه، ويحررنا من الهواجس الأنانية التي تحد من حياتنا، والتي تجعلنا تافهين ومشتتين ووحيدين.

نكتب لنتخلص من كل التشوهات الذاتية للتعصب والأحادية والاستياء والرأي، حتى نتمكن من التعرف وتحديد وتوضيح سلطات وحقائق القلب البشري التي توحدنا، السلطات والحقائق التي يجب على كل راوي أن يسعى إليها.

أعرف أعرف. هذا كله مبالغ فيه جدًا. ساذج جدًا أيضًا. ألا نريد جميعًا بيع بعض الكتب وكسب عيش كريم؟ ربما توقع هذه الصفقة مع Netflix؟

أنا أعلم، أسمع ذلك.

على الرغم من أنني كنت روائية لأكثر من أربعة عقود، فقد أمضيت أيضًا بعض الوقت في العالم الحقيقي، وبالطبع سمعت كل شيء:

كل تلك الأصوات الذكية المدمرة التي تقول إن ثقافتنا قد تجاوزت منذ فترة طويلة أي تملق طموح للرجال البيض الموتى مثل إيمرسون وويتمان وفولكنر.

الجوقة الهادئة والثاقبة التي تنص بقوة على أن فترات انتباهنا المختصرة جعلت الانطباع شبه ميت. لقد أصبحت المفاهيم المعقدة التي طرحها الروائيون الفلسفيون قديمة تمامًا.

أعرف ضجيج الحشود الصاخبة التي تتنبأ بأن الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى إفلاسنا جميعًا. ويُبْعد رواة القصص الأصلاء والمبتكرون عن الإنتاج.

لقد سمعت كل الاعتراضات الواضحة على مفاهيم تخصصي في اللغة الإنجليزية حول أهمية الأدب للروح.

لقد سمعت هذه الحجة، وقلبتها في ذهني. احتضان كل واحد منهم. لقد شعرت في أوقات مختلفة بالرعب والرعب والاكتئاب والراحة بسبب المعرفة الجيدة التي لديهم.

وفي هذه المناسبة الرائعة في بداية مسيرتكم المهنية العظيمة، أنصحكم أن تفعلوا الشيء نفسه: استمعوا بعناية لجميع التحذيرات المعقولة حول سعينا العقيم والمضلل الذي عفا عليه الزمن. تعجب بمنطق العالم الحقيقي لكل تنبؤ رهيب بأن الفنون الأدبية قد ماتت. قلّب هذه الأصوات الذكية في قلبك وعقلك.

وبعد ذلك، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لنرويها، قل: آه، عليهم اللعنة.

وابدأ من جديد.

***

...........................

الكاتبة: أليس ماكديرموت: Alice McDermott  مؤلفة تسع روايات، نشرتها جميعها FSG، بما في ذلك تشارمينغ بيلي، الحائزة على جائزة الكتاب الوطني، وتلك الليلة، وفي حفلات الزفاف والاستيقاظ، وبعد هذا، والتي وصلت إلى التصفيات النهائية لجائزة بوليتزر. وهي أيضًا مؤلفة مجموعة المقالات ماذا عن الطفل؟: بعض الأفكار حول فن الخيال. ظهرت قصصها ومقالاتها في نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ونيويوركر، ومجلة هاربر، ومنشورات أخرى. تعيش خارج واشنطن العاصمة.

 

الثقافة التراثية الشعبية ثقافة نقلية.. ينقلها العوارف والرواة من السلف إلى الخلف في حديث المجالس.. وهي شانها شأن الثقافة العربية طللية.. بما تتميز به من انجذاب عاطفي نحو الماضي، بكل ما يحمله ذلك الماضي من أصالة القيم والتقاليد والشعر والادب والفروسية ومكارم الأخلاق..

 وقد تميز بين القوم.. عدد من الرواة.. قيض لنا ان نعاصر البعض منهم.. ونستمع إلى مروياتهم في التراث.. ففي خمسينات القرن الماضي.. فقد كان الراوية النابغة كندير يرتاد مضايف الديرة.. حتى اواخر ستينيات القرن الماضي، ويقضي ليلته ضيفاً فيها.. حيث كان يسترسل بالسرد في مجالسها، إلى وقت متأخر من الليل.. وبطريقة جذابة لا يمل منها الحضور، بل ويلحون عليه في كثير من الأحيان، طالبين منه سرد المزيد من حكايات التراث عليهم...

وتجدر الإشارة إلى أن الملا ضيف الأحميد المصطفى.. كان ايضا من فحول الرواة ومن اعلام النسابة... حيث كان يسرد مروياته بطريقة سلسة، وبأسلوب قص سردي بليغ، يأسر المتلقين.. فكان مصدراً لكثير من الباحثين في الأنساب والتراث.. كما ان الأديب إشعموط كان هو الاخر، راوية متمكنا يجمع بين الفكاهة، وحكايات التراث بشكل محبب... بحيث لا يمل السامع حديثه..في حين كان الأديب محمد العبيد الضاحي، نسابة تراثيات متميزا، في سرديادته، التي تجذب المتلقي اليه برغبة جامحة،كي لا يفوته من حديثه شيء منها..

 لقد كان لأولئك الرواة الأفذاذ، وغيرهم.. فضل ولمسة واضحة، في تكوين الثقافة التراثية الجمعية لجمهور ريف الديرة.. ولأن وسائل التوثيق لم تكن متاحة يوم ذاك.. بالشكل الذي هي عليه اليوم لتدوين مروياتهم.. فقد فات الكثير مما رووه وجادت به قريحتهم.. وبذلك فقد ترك رحيلهم فراغا واضحاً في الساحة التراثية.. بما تميزوا به من مواهب فطرية إبداعية، استظهارا، وسردا نقليا.. مما بات يتطلب من الكتاب والأدباء المهتمين بالتراث،المبادرة على عجل، لتدوين ما تركوه من مرويات،في التراث والموروث الشعبي في كافة مجالاته وتوثيقها، وجمعها في كتاب.. للحفاظ عليها من الضياع بمرور الوقت.. لتكون وسيلة لاطلاع الأجيال القادمة، ومرجعا متاحا للباحثين، والمهتمين بالتراث مستقبلا..

ولعل التوكيد على موضوعة الموروث الريفي الشعبي التقليدي، والنهوض بثقافة توثيقه، يظل هاجسا مشروعا، وأمرا مطلوبا باعتبار الموروث الشعبي، نتاج هوية أصالة، وينبغي الحفاظ عليه من المسخ والتشويه،بتداعيات العصرنة الصاخبة بجوانبها السلبية..الأمر الذي يؤرق المهتمين بالتراث خاصة، ويجعله موضع قلقهم، لاسيما وأن تداعيات العولمة جارفة، وفي طريقها لكنسه، لتتركنا مستلبين بلا ملامح..

***

نايف عبوش

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

*** 

كامل فرحان

قراءة الومضة:

صاحب هذه الكلمات شاعر من طراز فريد، الإلهام الشعري يأتي له بغته ويختفي تماما كمن يضع مصبحا ليضئ طريقاً للعابرين وهذا يتناسب مع الومضة الشعرية كصورة واحدة مركبة ليزداد عنصر التكثيف مع خرق اللغة.

قال نيتشة: إن مرماي أن أكتب في عشر جمل ما يكتبه غيري في كتاب.وهذا ما حققه الشاعر كامل فرحان، حيث استخدم الإيجاز والتكثيف  والبناء الدرامي الدائري حيث انتهى من حيث أبتدأ/ نار الغضا /  ثم انتهى بنار الموقد. والموقد  أيضا غضا لتكتمل الدائرة: نار - حطب  - حب - موقد نار:

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

وما أدراك وحركة الجفون بسهد الأحبة.. شعور لا يمكن تمثيله بكلمات.

وانظر الى أركان صورة فرحان وتشكيلها وحتى بروازها المفتوح الذي يعيدنا تارة إلى الصوفية والمفردات التي كان يذكرها عمر ابن الفارض في أشعاره بكثرة حيث تدل على الفناء في المحبوب وتدل على مداعبة الروحانيات

وكذلك الحلاج...

الاركان أو العناصر الثابتة على الورق المتحركة في المُخيلة والمشاعر

نار الغضا / (حركة تقترب فيها الجفون ككناية عن السهد) 

الحب وحطبه / وانسنته

الموقد/ وهو ماعون النار التي تلهب قلب المحب بسبب غضاضة الجفون.

هذالحب يحتطب اغضاني

فالاغصان هي اجمل شئ واهم شئ في الشجرة لينزاح الشاعر إلى أن الحب يأخذ اجمل ما فيه برفق ثم يهديها لجفونه (بسخاء) حين يغلقها فتشب نيران الحب وتخرج دخان بشذى عطر تلك الأغصان وهي مشاعر المحب.

***

زين المعبدي

 

بسمة الخطيب هي كاتبة لبنانية غزيرة الإنتاج، وقد أسرت قصصها القراء في جميع أنحاء العالم. ولدت الخطيب ونشأت في لبنان، وتستمد الإلهام من التقاليد الثقافية الغنية لوطنها، وتنسج قصصا خالدة ومعاصرة. غالبا ما تستكشف كتاباتها موضوعات الحب والخسارة وتعقيدات العلاقات الإنسانية، وتقدم للقراء لمحة عن تعقيدات الحياة في الشرق الأوسط.

إحدى أشهر قصص الخطيب هي "طريق الحرير"، التي تحكي قصة امرأة شابة تشرع في رحلة للعثور على ذاتها الحقيقية. تدور أحداث القصة على خلفية طريق الحرير التجاري القديم، وهي تأمل في قوة اكتشاف الذات وأهمية اتباع المرء لمساره الخاص في الحياة. من خلال نضالات البطل وانتصاراته، تستكشف الخطيب موضوعات الهوية والتمكين، وتتحدى القراء للتفكير في رحلاتهم الخاصة في اكتشاف الذات.

ومن بين قصص الخطيب الشهيرة الأخرى "شجرة الأرز"، وهي حكاية مؤثرة عن الحب والخسارة في ظل غابات الأرز المهيبة في لبنان. وتحكي القصة قصة زوجين شابين وهما يواجهان تحديات علاقتهما، ويتعمقان في تعقيدات عواطفهما ورغباتهما. ومن خلال النثر الغنائي والصور الحية، يلتقط الخطيب جمال الحب ومأساته، ويدعو القراء إلى التأمل في الطبيعة العابرة للعلاقات الإنسانية.

في "بستان الزيتون"، يستكشف الخطيب تأثير الحرب والصراع على الناس العاديين، ويروي قصة عائلة مزقتها العنف والمأساة. تدور أحداث القصة في قرية صغيرة في جنوب لبنان، وتقدم لمحة عن الحقائق القاسية للحياة في منطقة مزقتها الحرب، حيث يتم اختبار روابط الأسرة والمجتمع إلى أقصى حدودها. ومن خلال عدسة نضالات البطل، يلقي الخطيب الضوء على مرونة وشجاعة الروح البشرية، ويذكر القراء بقوة الحب والأمل في مواجهة الشدائد.

وتستمد قصص الخطيب جذورها العميقة من تقاليد وفولكلور لبنان، وتستمد من تاريخ البلاد الغني وتراثها الثقافي لخلق سرديات غامرة ومثيرة. على سبيل المثال، تحكي الخطيب في "زهر اللوز" قصة امرأة شابة تكتشف سرا عائليا مفقودا منذ فترة طويلة مخفيًا بين أغصان شجرة لوز قديمة. ومن خلال رحلة البطلة في اكتشاف الذات، تستكشف الخطيب موضوعات الأسرة والتراث والقوة الدائمة لسرد القصص، وتنسج نسيجا من التاريخ والأساطير يتردد صداه لدى القراء من جميع الأعمار.

ومن أكثر قصص الخطيب المؤثرة "زهرة الياسمين"، وهي قصة مؤثرة عن الحب والخيانة تدور أحداثها في شوارع بيروت المترامية الأطراف. تتبع القصة امرأة شابة وهي تتنقل بين تعقيدات علاقتها برجل كاريزمي ولكنه معيب، وتتعمق في تعقيدات الرغبة والشوق والخيانة. من خلال النثر الغنائي والصور الحية التي تستخدمها الخطيب، ينتقل القراء إلى عالم بيروت النابض بالحياة والصاخب، حيث يتعايش الشغف وألم القلب في توازن دقيق.

في "شجرة الرمان"، تروي الخطيب قصة فتاة صغيرة تشرع في رحلة اكتشاف الذات بعد تدمير بستان عائلتها بسبب الحرب. ومن خلال نضالات البطلة وانتصاراتها، تستكشف الخطيب موضوعات الخسارة والمرونة والقوة الدائمة للطبيعة للشفاء والتجديد. وعلى خلفية المناظر الطبيعية الخصبة والتقاليد القديمة في لبنان، تشكل القصة تحية مؤثرة لمرونة الروح البشرية في مواجهة الشدائد.

لقد اكتسبت قصص الخطيب قراء مخلصين في جميع أنحاء العالم، حيث تُرجمت أعمالها إلى لغات متعددة ونُشرت في مجلات أدبية مرموقة ومختارات. وقد نالت نثرها المثير وروايتها الحية استحسان النقاد والعديد من الجوائز، مما عزز سمعتها كواحدة من أكثر المؤلفين موهبة وإقناعًا في لبنان. من خلال قصصها، تدعو الخطيب القراء لاستكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية، وتقدم نافذة على النسيج الغني للثقافة والمجتمع اللبناني.

تعد الكاتبة بسمة الخطيب راوية موهوبة، وقد أسرت حكايات الحب والخسارة والتجربة الإنسانية القراء في جميع أنحاء العالم. وبالاستفادة من التقاليد والفولكلور الغني في لبنان، تنسج الخطيب سرديات عالمية ومتجذرة بعمق في التراث الثقافي لوطنها. ومن خلال نثرها المثير وصورها الحية، تروي بسمة الخطيب قصصا عن الحب والخسارة والتجربة الإنسانية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

عندما ماتت "أمي" لم أبكي، كان الحزن أكبر من تصريفه عبر الدموع، فثمة أحزان لا تبكي حتى وإن بكيناها لا نبكيها كما تستحق. ثمة خسارات ونكبات في حياتنا لو أردنا أن نبكيها كما يليق بها لبكيناها دَمًا لَا دُموعًا. ثمة خيبات لا شيئ قادر على أعادة الثقة الينا بعدها. ثمة إنكسارات تعجز الدنيا كلها عن ترميمها،، في لحظة صفاء مع النفس والتأمل وذاكرة قطعت المسافات بسرعة البرق ونحن اطفال وبين الحقول، والغربة،والقراءة والأدب والفلسفة والجغرافيا والتاريخ ودولة ما بعد حرب اكتوبر والحداثة، والعولمة وعري الشوارع والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية والرواية الجديدة وجسور الآنهار في اوروبا، وقطارات وصالات وأندية أوروبا، لتعود في النهاية الى زمن (الطفولة) في قريتنا، اكتشفت وانا أقرأ للكاتب والفيلسوف { ميلان كونديرا} وهو يتحدث عن الموت بلا شهود ولا استعراض هو موت ورقي مارسه (الشيخ محمد) من قريتنا وهو لا يقرأ ولا يكتب..؟ عندما شعر بدنو الأجل ذهب الى الحقل كي يموت في عزلة، عاش سنوات وسط الحقول في إنتظار موت لا يأتي. لم يكن يخاف من الموت بل من الضعف. كان يخجل ان يراه احد مُنهكًا أمام الموت. الحياء من قدر كوني كبير. الحياء من أن يُرى.مكشُوفًا لذلك ذهب الى الموت كما لو كان علي موعد مع الموت بلا شهود ولا استعراض.، كيف انتهيت بعد طواف ورحلة في دول الى" صومعة الشيخ محمد" وكوخه في (الجرن) وفي الحقل وليالي الضباع والصلاة النقية في الحقل عند الدخول والخروج منها؟

عندما تهاوى كثيرون أمام إغواء الغرب، عدت أنت للجذور ليس بدافع الحنين وحده، بل بدافع الاكتشاف وغواية النقاء البري..؟

لم يكن "الشيخ محمد " شخصاً فحسب، كان زمناً ومجتمعاً ومبادئ حياة، حيث الطبيعة هي الأصل والثقافة ثانوية، كان الضمير هو القانون. يكفي ان تترك أبواب المنزل بدون اقفال وتسافر. حتى لصوص ذلك الزمان كانت لهم مبادئ وقواعد شرف: لا تسرق مال يتيم او أرملة أو غريب . ليس من الرجولة، ولا يُختزل به الشيخ محمد بل هو كل الزمن المنقرض خارج نجاسات العهر السياسي والاجتماعي وعصر الوحوش من رأس المال،

يوم كان الحلف (بالماء والملح وربعت الشيخ صيام) هو القانون،يوم كانت المصافحة وعد ووفاء والضحكة قسماً.

ورغيف الخبز المتبادل عهد شرف والكلمة وثيقة شرف. يوم كانت صحون الطعام تدور في المساء للمحتاجين تحت جنح الظلام للعفة، يوم كان المناخل والغرابيل على الحائط هو صمام أمان ودستوراً، يوم كان اللص يبكي من السرقة ولعنة العوز.

كان زمن "الشيخ محمد" خارج كل نظم الحكم، زمن مرجعية تتداخل فيها الطبيعة مع العرف تداخل سبيكة الذهب، لم يكن سلطة ولا يفرق بين ملك ورئيس، لا بين جمهورية ولا ملكية، لكنه يعرف موسم الأمطار وزهور الربيع، والغيوم البيض علامة الخريف:

ظلال شهر اكتوبر علامة نهاية الصيف، وسخونة تراب شهر مايو وبزوغ نجمة الفجر،لماذا أتذكر [الشيخ محمد] في زمن الموت العاري، وخيبة البشر بنظام العالم، زمن صارت فيه الشطارة ثقافة والحيلة ذكاءً، والخيانة وجهة نظر..؟ آنا من عشاق فن المطربة (فيروز) احتفظت علي صفحتها بهذا التعليق علقت قارئة بذكاء على أغنية لفيروز، قائلة إن فيروز ليست مغنية فحسب بل هي مؤرخ لزمن الحارة وشادي والثلج ومواسم العنب والعصافير وفوانيس الشوارع، وشايف البحر شو كبير وقهوة الصباح وطير الوروار، وجايبلي سلام من عصفور ينفض جناحه عند شباك الدار، وأين ذهب شادي الذي كان يأتي من الأحراش ونلعب أنا وياه..؟ احتفظت في مذكراتي عن تعليق يحكي حقبة تاريخية، ابحث مع فيروز عن شخصية شادي هذا العصر اين ذهب ..؟

لا أحد يعرف أين راح، في جبهة ممزقة من ميلشيات أم في قوارب الموت في البحر، أم صار زعيماً في حزب او عصابة؟من يوم مات الشيخ محمد وإختفى شادي، اختفى الجانب النظيف وانطفأت فوانيس القرية والكفر والعزبة والنجع والضيعة، ونحن ننطر عالطريق، ماذا ننطر..؟

لا أحد يخرج من هذه الصحراء الميتة، صحراء الداخل والخارج، ولا خيار لنا أمام جنون العالم غير الجلوس "وانتظار أحد ما يأتي من مكان" أغنية ميج جيفر: الأ غنية الأخيرة التي سمعها الفيلسوف والآديب { صموئيل بيكيت } في انتظار جودو وحامل جائزة نوبل في دار المسنين في سريره الأخير وطلب من الفريق الطبي مغادرة الغرفة وعندما عادوا وجدوا كل شيء انتهى.

لم يشارك في جنازته سوى الفريق الطبي ونزلاء دار المسنين. لم يَأْتِ أَحَد. لم يذهب أحد. هذا فظيع كما قال يوماً.

عندما شعر الشيخ محمد راعي الأغنام بقرب الأجل قال لزوجته:

" أنا ذاهب للحقل لكي أموت إياك أن تخبري أحداً".

إرتدى أفضل ملابسة واخذ حمام دش في حمام المسجد، وقال لها:

"هذا الخاتم لك".

كل ما يملك وغادر المنزل بعصاه التي ما فارقته يوماً. ذاهب للموت كما لو الى حفل وعلى موعد، تابعته زوجته في الشارع في المساء حتى إختفي.عندما أقارن بين شخصية هاري في رواية "ثلوج كليمنجارو" للروائي (همنجواي) الذي يصاب برحلة بغرغرينا فوق الجبل الأفريقي ويهذي عن ماضيه ويشرب بإفراط، أجد أن "الشيخ محمد" أعظم من :

هاري يستسلم هو الآخر للموت حتى لا ينتظر طائرة الإنقاذ لكنه يحكي بصدق وفي واحدة من هذياناته يقول لزوجته: أنا لا أحبك، وتصاب بالذعر.

لكن الشيخ قال لها:

" كسرت ظهري. ستبقين وحيدة".

كان هاري المستلقي تحت شجرة ميموزا فوق سرير من الحبال فوق قمة جبل كليمنجارو الأفريقي يرنو الى السهل في الأسفل: السهل ضاج بالحياة ومتوهج. طيور كاسرة. ظلال متحركة. عشب حي. كل ما يتنافر مع رجل يموت. هاري يتكلم مع زوجته.

سلطة اللغة في مواجهة سلطة الموت. هو الآخر يعرف كل شيء إنتهى ولا ينتظر أحداً.الشيخ محمد أعزل ووحيد في عتمة الحقول لا يتكلم مع أحد، هو من قبل لا يتكلم مع أحد إلا في حالات نادرة، سيد الحقل والبراري، مروره في المكان يعطره من الدنس لكن فاطمة قالت لي بعد سنوات:

" مرة واحدة سمعته في الفجر يتكلم، وإختبأت في الجرن، وكان يردد مع نفسه:

" كلمات لم اسمعها من قبل وهو رافع وجهه الي السماء . في العتمة الفجرية هو في انتظار موت لا يأتي. في عزلة باردة وموت متردد، كان يتفسخ حياً في المرة الأخيرة التي زارته فيها فاطمة، لم يأت الموت وعندما يأتي سيرى عينيه في عتمة الحقل.لكنها لم تتحمل في ظهيرة ربيعية دافئة ومشرقة، فجاءت هلعة للحقل لتقول الحقيقة للرجال:

" تعالوا، الشيخ محمد يتعفن".هرع الجميع نحو تلك البقعة المنزوية في الحقل. نظرة عتاب محرقة نحو زوجته، كانت كافية لجعلها تتداعى.

المرة الأخيرة التي زرتها فيها بعد غياب فترة في الغربة " وقد هرمت وتعيش وحيدة قالت لي:

" لم أخنه يوماً إلا تلك المرة يوم فضحت سره، ونظرة عتابه القاسية لم تغب أبداً".مرة واحدة فقط، فاطمة، خنته بكشف سر موته..؟ من حسن حظ فاطمة انها ماتت قبل قدوم زمن مختلف. وداعًا

زمن سنقول عنه يوماً:

نحن سعداء لأننا عشنا في زمن يسمى زمن الشيخ محمد وفاطمة.

***

التوقيع الأخير لزمن نظيف من يوميات كاتب في الأرياف ..!!

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

بقلم: جوليا فيليبس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لافتة تحذر الناس من الدببة في ويسلر، كندا. انتشر مقطع فيديو على الإنترنت يسأل النساء عما إذا كن يفضلن مواجهة رجل أو دب أثناء وجودهن بمفردهن في الغابة، حيث اختارت النساء الدب بأغلبية ساحقة.

إذا كنت وحية في الغابة، فمن الذي تفضلين أن تقابليه: رجل لا تعرفيه أم دب؟ هذا السؤال، الذي طُرح على العديد من النساء في مقطع فيديو على تطبيق TikTok الشهر الماضي، أدى إلى انتشار مسألة الرجل والدب. و تكاد تجمع النساء على الإنترنت على تفضيل النموذج السمين المشعر الذي ينام خلال فصل الشتاء.

اسمحوا لي أن أوضح إذا كنت تعرف أشخاصًا ينطبق عليهم هذا الوصف: الدب. الجميع يختار الدب.

السؤال هو فرصة للنساء لمقارنة المخاوف، لمعرفة الخطر الأكبر الذي يلوح في الأفق. في مقطع الفيديو الذي أطلق هذا الاتجاه، طرحت سبع من النساء الثماني اللاتي أجابن بكلمة "دب" نفس المنطق: فالدب جذاب، كما يقلن، على وجه التحديد لأنه ليس رجلاً. تقول إحداهن: "الرجال مخيفون".

وبالنظر إلى البيانات، فإن هذه الإجابات معقولة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من ثلث النساء في جميع أنحاء العالم تعرضن للعنف الجسدي و/أو الجنسي، "ومعظمه على يد الرجال".(تخبرنا الإحصائيات أيضًا أن الرجل الذي لا تعرفه لا يمثل في الواقع أكبر تهديد قد تصادفه في الغابة. بل إن الرجل الذي تعرفه - شريكك الحميم، في معظم الحالات - هو الذي يشكل الخطر الأكبر). وفي الوقت نفسه، لا يتعرض سوى عدد قليل من الأشخاص على مستوى العالم للأذى من الدببة في عام معين.

ومع ذلك، فإن تقييم المخاطر ليس هو الطريقة الوحيدة للإجابة على هذا السؤال. من الواضح ما هو المخلوق الذي تخاف منه النساء أكثر. ولكن ماذا عن أي مخلوق نحبه أكثر؟ هل هناك من هي مهووسة بالحصول على الدب؟4160 الدب

هذه الفكرة ليست جديدة، فقد اختار الناس صحبة الحيوانات المفترسة من قبل. منذ أكثر من 30 ألف عام، بدأ الصيادون وجامعو الثمار في تدجين الذئاب.  لقد اختاروا حيوانًا آكلًا للحم كبيرًا ليكون شريكًا لهم في الصيد وحارسًا في المنزل ورفيقًا مخلصًا بشكل عام. وفي آلاف السنين منذ ذلك الحين، ذهبنا إلى أبعد من ذلك حيث  يسبح الناس مع أسماك القرش، ويحتفظون بأفعى البواء في خزانات في غرف معيشتهم وينشرون صورًا شخصية ملتقطة مع النمور في ملفاتهم الشخصية على Tinder.

لقد لاحقت النساء الحيوانات الخطرة لنفس الأسباب التي دفعتهن إلى إقامة علاقات مع الرجال. للترفيه والصداقة والدعم. من أجل الحب. من أجل .... المزيد ؟ إن فكرة دخول امرأة في علاقة غرامية مع دب هي فكرة جامحة، لكنها مدعومة بقصص عن العلاقات بين الإنسان والحيوان التي تم سردها عبر التاريخ.

من المحتمل أنك كبرت وأنت تسمع قصصًا قبل النوم عن نساء متورطات عاطفيًا مع مخلوقات. الأساطير اليونانية مثل ليدا والبجعة ويوروبا والثور؛ القصص الخيالية مثل "الجميلة والوحش" و"الأمير الضفدع". في الواقع، هناك العديد من الحكايات التي تناسب الوصف الرومانسي للمرأة والحيوان، لدرجة أن علماء الفولكلور يصنفونها في فئة "الحيوان كعريس". في الآونة الأخيرة، ربما تكون قد شاهدت الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار "The Shape of Water"، والذي تدور أحداثه حول امرأة تقع في حب حيوان برمائي، أو قرأت رواية راشيل إنجالز القصيرة "Mrs. Caliban، وهو نفس الشيء تقريبًا، لكنه نُشر قبل 35 عامًا من ظهور الفيلم.

تختار النساء في هذه القصص حيواناتهن بسعادة، وعن طيب خاطر، لأن اختيار الحيوانات يعني ترك المجتمع وراءهن. في مثل هذه القصص، غالبًا ما تقع النساء في فخ الأعمال المنزلية. إذا كنا شركاء، فهن ربات بيوت وأمهات في المنزل، مكلفات بأعمال منزلية لا نهاية لها؛ إذا كن عازبات، فهن أمناء مكتبات وحيدات أو طالبات دراسات عليا مثقلات بالديون عالقات في مكاتبهن عالمهن من صنع الإنسان، ويتضمن مزيج الكعك والعمل العاطفي. إنهن لا يخافن من الرجال، لقد سئمن من العيش في ظل النظام الأبوي.

لذلك قررن الابتعاد عن عالم الرجال تمامًا. يذهبن للدب. ولعل المثال الأفضل والأكثر إثارة للصدمة في فئة الحيوان كعريس هو رواية "الدب" التي صدرت عام 1976 للكاتبة الكندية ماريان إنجل. في نهاية علاقة شخصيتها الرئيسية الساخنة مع هذا الحيوان، كتبت إنجل: "  أو للحظة حادة وغريبة يمكن أن تشعر بها في مسامها وطعم فمها الذي عرفت من أجله العالم. لم تشعر أنها أصبحت إنسانًا في النهاية، لكنها أصبحت نظيفة في النهاية. نظيفة وبسيطة وفخورة."

بالتأكيد لا ينبغي عليك السير على خطى هؤلاء النساء الخياليات، ولكن عليك أن تأخذ وجهة نظرهن بعين الاعتبار. هناك عالم، ولو في الخيال فقط، حيث وجدت النساء وجودًا أكثر نظافة وبساطة وأكثر حرية. من الغريب أنه يأتي مع محبي الحيوانات، لكن ماذا يمكنني أن أقول؟ الخرافات والحكايات الخرافية غريبة.

إن القصص التي نرويها لبعضنا البعض عن الجمال والوحوش تعيد تعريف مسألة الرجل مقابل الدب. وبدلاً من مقارنة خوف بآخر، فإننا نزن رغباتنا. هل تختار أقل شرا أو المزيد من المغامرة في حياتك؟ فكر في سؤال TikTok بهذه الطريقة: إذا كنت وحدك في الغابة، فهل ستركز على الخروج، أم تريد أن ترى ما هو ممكن عندما تتعمق أكثر؟

***

....................

* جوليا فيليبس /  Julia Phillips زميلة جوجنهايم ومؤلفة الكتب الأكثر مبيعًا. ومن المقرر أن يصدر كتابها القادم "Bear" في 25 يونيو.

https://www.latimes.com/opinion/story/2024-05-08/man-versus-bear-tiktok-meme

نحنُ أبناءُ الغُيُومِ الذِينَ وُلِدنَا فِي يَومٍ مَجهُولٍ وسنوَاتٍ مَجهُولَةٍ كَأَزهَارِ البَريةِ، مِن أُمهَاتٍ بِلَا تَارِيخٍ مِيلَادٍ ومِن آبَاءٍ هَبَطُوا مِن الغُيُومِ، وماتُوا دُونَ أَنْ يَعرِفُوا متَى عَاشُوا، انطفَأُوا كَنيازِكَ فِي الظلَامِ، كَمَا سنَنطفِي يَومًا .سكَنا فِي وطنٍ لَا نعرِفُ لِمَن، وحَاربنَا دُونَ أَنْ نَعرِف لِماذَا، وقَتلنَا دُونَ انْ نَعرِفُ السببَ وأحببنَا بِبرَاءَةٍ بِلَا أَهدَافٍ، ومَشينَا فِي شوَارِعِنَا الضيقةِ المُلتوِيةِ كَمَا يَمشِي الغُربَاء، وجلَدنَا لِأَننَا حاوَلنَا أَنْ نَكُونَ كَمَا نُرِيدُ لَا كَمَا يُرَادُ، وسكنَا فِي غُرفٍ بِجِوَارِ حظائِرِ الموَاشِي وَالطيُورِ ومعَ العصَافِيرِ علَي شبَابِيكُ غُرَفَ النوْمِ ، وخرجنَا منْ المدَارسِ نَهتِفُ يَوْمَ رَحِيلِ الرئِيسِ أي رئيس، وهتفنَا مثلَ العصَافِيرِ  لِلْمَطَرِ:

" يَا مَطَرُ رَخِي رَخِي عَلَي ارْعَتْ إِبْنَ أُخْتِي" نَحْنُ الّذِينَ نُبَاعُ فِي الِانتِخَابَاتِ ونُبَاعُ مِنْ نِظَامٍ الَى آخَرَ كمَا تُبَاعُ الْقَطِيعُ مِنْ الأغنَامِ، أَبْنَاءُ العتمَةِ والغِيَابِ والصمتِ والغُرُوبِ ، كُنا نُمَزقُ صُور الزُّعماءِ بَعد رَحِيلهمْ أَيْ كَانَ الرحيلُ..؟ فِي الصباحِ نَعْرِفُ انْ انقِلَابًا حَدَثَ وقتْلَ رَئِيسٍ وَجَاءَ آخَرُ ومَناهِجُ جَدِيدَةٌ ونَشِيدٌ وطنِيٌّ جدِيدٌ وصُوَرُ وقوانِينَ جَدِيدةٍ ،،كَيْفَ يَتَوَازَنُ الطفْلُ علَى قِيَمٍ ومبَادِئ وتقالِيدَ ومنَاهِج مُتَغيرةٍ كُلَّ مرَّةٍ..؟

فِي المَسَاءِ، قَبْلَ العِشَاءِ ، علِمنَا مِنْ نَشرةِ الأخبَار أَن جيشَنَا دَخَلَ فِي حَرْبٍ وَصَارَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، ونَحنُ اصبحنَا جُنُوداً ونَحنُ اطفَالٌ بِدَعوَةِ الإِحتِيَاطِ قَبْلَ نَزْعِ سَرَاوِيلِ النومِ، لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ لِمَاذَا ثُمَّ عَلِمْنَا انْ جَيْشَنَا سُحِقَ فِي الْحَرْبِ وَنِصْفِ جُنُودِنَا لَمْ يَعُودُوا وَلَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا انْتَصَرْنَا وَلِمَاذَا هَزَمنَا وَحَوْصِرَا رُبْعَ جَيْشِنَا فِي سَيْنَاء وَلَا لِمَاذَا لَمْ يَعُدْ جُنُودُنَا وَلَا أَيْنَ ذَهَبُوا، وَطَلَبُوا مِنَّا الذَّهَابَ لِلْإِحْتِفَالِ بِالْهَزِيمَةِ بِثِيَابِ النَّصْرِ،لَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا حَوْصِرْنَا فِي الدِّفَرْسُوَارِ وَلِمَاذَا نَتَسَاقَطُ فِي الشَّوَارِعِ مِنْ الْامْرَاضِ فِي الْقَتْلِ الْأَبْيَضِ بِلَا دَمٍ؟

حَرِمْنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَمِنَ الْآجُوبَةِ وَمِنَ الصَّمْتِ وَمِنَ الْكَلَامِ وَمِنَ الْحُلْمِ، وَمِنْ النَّوَايَا" السَّيِّئَةِ" وَحَتَّى مِنْ الْأَحْلَامِ الْمُعَادِيَةُ". وَتَحَوَّلَتْ أَجْسَادُنَا الَى حَاوِيَةِ نُفَايَاتٍ مِنْ الِاحْلَامِ الْمُجْتَرَّةِ وَالْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَتَجَوَّلُ فِي شَوَارِعِ كَهَايْكِلْ صَامِتَةً رَغْمَ ضَجِيجٍ وَفَوْضِيٍّ عَارِمَةٍ فِي شَوَارِعَ مُبَاحٍ فِيهِ كُلُّ أَنْوَاعِ الْفَوْضِيِّ، ثُمَّ قَالُوا لَنَا فِي التِّلْفَازِ إِنَّ "التَّتَارَ الْجُدُدَ" قَادِمُونَ مِنْ خَلْفِ الْحُدُودِ وَعَلَيْنَا الْإِسْتِعْدَادُ لِحَرْبٍ لَا نَعْرِفُ عَنْهَا شَيْئًاً، وَأَهْدَافٌ لَا نَفْهَمُهَا وَأَنْ نُدَافِعَ عَنْ وَطَنٍ كُنَّا حَشَرَاتٍ فِيهِ تَزْحِفُ، بِلَا كَرَامَةِ الْحَشَرَاتِ وَلَا هَيْبَةِ الْجُدْرَانِ الْعَالِيَةِ وَلَا لِمَعَانِ السَّكَاكِينِ.

نَحْنُ جَمِيعًاً مَشْرُوعُ قَتْلَى أَوْ مَوْتًى يَوْمًا بِالتَّقْسِيطِ كَخَرَّافٍ تَرْعَى مُطْمَئِنَّةً فِي حَقْلٍ لِلْمَسْلَخِ، بِالرَّصَاصِ اوْ الْأَمْرَاضِ اوْ التَّلَوُّثِ أَوْ الْإِنْهِيَارَاتِ النَّفْسِيَّةِ.نَحْنُ يَتَامَى التَّارِيخَ وَالْآوِطَانَ وَالسِّيَاسَةَ وَالْأَرْضَ وَالثَّرْوَةَ وَالْمُسْتَقْبَلَ، رُكَّابٌ قِطَارٌ مَاتَ سَائِقُهُ وَلَا نَنْتَظِرُ سِوَى الْإِرْتِطَامِ الْأَخِيرِ، مَتَى يَأْتِيَ الْإِرْتِطَامُ الْأَخِيرُ كَيْ تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الْمُمِلَّةُ..؟

كُنَّا مَحْرُومِينَ مِنْ السُّؤَالِ وَمَحْرُومِينَ مِنْ الْجَوَابِ، لِأَنَّنَا قَبْلَ زَمَنِ الْآلَاتِ الْحَدِيثَةِ ، بُرْمَجِنَا عَلَى الصَّمْتِ وَعَلَى النِّسْيَانِ، نِسْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مَنْ نَكُونَ وَلِمَاذَا نَكُونُ لِأَنَّنَا أَشْيَاءُ، لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُفَكِّرُ وَيُخَطِّطُ وَيَحْلُمُ وَيُتَوَهَّمُ بِالْإِنَابَةِ عَنَّا.نَحْنُ الْهَامِشُ الْفَائِضُ عَنْ الْحَاجَةِ وَالرَّقْمِ فِي بَلَاغَاتِ الْقَتْلَى،الْمَدَنِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَفِي خِطَابَاتِ الْآحْزَابِ الْوَهْمِيَّةِ وَفِي احْتِفَالَاتِ الْقَادَةِ:

" نَحْنُ حِزْبُ الضَّحَايَا "، لَمْ نَسْقُطْ فِي مَعْرَكَةٍ حُرِّيَّةٍ وَلَمْ نُقْتَلْ وَنَحْنُ فِي الطَّرِيقِ الَى تَارِيخٍ مُخْتَلِفٍ، وَلَا وِلَادَةَ حِكَايَةِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ تَبْزُغُ غَدًا، بَلْ قُتِلْنَا تَحْتَ الْأَحْذِيَةِ فِي السَّرَادِيبِ وَالْأَقْبِيَةِ دُونَ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدُنَا سِرَّ ثَوْرَةٍ .

نَحْنُ أَبْنَاءُ الْغُيُومِ نَجْلِدُ كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ عِصِيِّ التَّارِيخِ وَالْخُطَبَاءِ وَالْقَادَةِ وَالدُّوَلِ الشَّقِيقَةِ وَالصَّدِيقَةِ، وَالْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ وَالْغَنِيَّةِ وَالْفَقِيرَةِ، وَالْأَحْلَامِ الْمُتَفَسِّخَةِ، وَالشَّرِكَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ وَالْبَرَامِجِ وَالْآوْهَامِ وَالْعِصَابَاتِ وَالْمَرَضِ ، وَتَمُصُّ شَرَايِينَا بِكَامِلِ الصَّحْوِ وَالْعَلَنِيَّةِ وَأَطْفَالُنَا يَبْحَثُونَ فِي الْمَزَابِلِ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ لَنْ نُشَارِكَ فِي صُنْعِهِ وَحَيَاةٍ لَا عَلَاقَةَ لَنَا بِهَا، وَأَرْضٌ لَمْ يَعُدْ يَرْبِطُنَا بِهَا سِوَى الْحِذَاءِ.

نَحْنُ الْأَمْطَارُ الْحَجَرِيَّةُ وَالْعَوَاصِفُ الْحَمْرَاءُ الْمُغَبَّرَةُ، نَحْنُ الشَّوْقُ الرَّاعِشُ لِلْحَنِينِ وَالْمَسَرَّةِ وَالرَّغِيفُ الْحَارُّ مِنْ الْآفْرَانِ الْبَلَدِيِّ وَالْآمَالِ الْخَائِفَةِ وَنَوْمِ الْعَافِيَةِ.

كُنَّا نَذْهَبُ الَى حَفْلُ الْعُرْسِ بِكُلِّ صَفَاءٍ وَنَذْهَبُ فِي مَوْكِبِ الْجِنَازَاتِ بِكُلِّ صِدْقٍ، نَتَأَلَّمُ مَعَ كُلِّ حَالَةٍ وَلِآدَةٍ مُتَعَثِّرَةٍ وَنُطْلِقُ الْآهَااَاتِ مَعَ الطَّلْقِ، وَنَمْشِي فِي جِنَازَاتِ الْغُرَبَاءِ بَاكِينَ.حُزْنُ الْغُرَبَاءِ. نَحْنُ الْوَجَعُ الْمَخْفِيُّ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالدُّمُوعِ الْحَبِيسَةِ وَالْخَوْفِ الْمُزْمِنِ. نَحْنُ الْأَلْقُ الْمُضِيءُ فِي الظَّلَامِ الْمُهْمَلِ وَالْآشِيَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي الطُّرُقَاتِ، نَحْنُ أَبْنَاءُ الرِّيحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالْغُرُوبِ.فِي لَيْلَةِ ظَلَامٍ دَامِسٍ ،،بِلَا كَهْرَبَاءِ ،مِصْرَ الْجَمِيلَةِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانِ وَالْعَبْقَرِيَّةِ الْمُضِيئَةِ، الْغَنِيَّةِ الثَّرِيَّةِ، السَّخِيَّةِ، الْبَهِيَّةِ، الشَّقِيَّةِ، النِّيلِيَّةِ وَالْمَنَارَةِ لِطُرُقِ الْعَتَمَةِ عَبْرَ التَّارِيخِ.حَرَامٌ وَأَلْفٌ حَرَامٌ أَنْ نَعِيشَ بِدُونِ أَنوارٍ.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

الطموح هو موضوع متكرر في العديد من مسرحيات شكسبير، حيث يستكشف عواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. في جميع أعماله، يتعمق شكسبير في تعقيدات الطموح، سواء كان مثيرا للإعجاب أو خطيرًا، وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. في هذا المقال، سوف ندرس كيف يتم تصوير الطموح في مسرحيات مختلفة لشكسبير والنتائج المختلفة التي يؤدي إليها لشخصياته.

أحد أشهر تصويرات شكسبير للطموح هو في مسرحيته ماكبث. يقود البطل، ماكبث، طموحه ليصبح ملكا وهو على استعداد لارتكاب جريمة قتل لتحقيق أهدافه. يقوده طموحه إلى طريق مظلم ودموي، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطه وموته. يستخدم شكسبير طموح ماكبث لاستكشاف موضوعات القوة والشعور بالذنب والمصير، مسلطا الضوء على الطبيعة المدمرة للطموح غير المقيد.

في مسرحية أخرى، يوليوس قيصر، يفحص شكسبير طموح الشخصية الرئيسية وعواقبه على نفسه وعلى من حوله. يؤدي طموح قيصر إلى السلطة في النهاية إلى اغتياله على يد صديقه الموثوق به، بروتوس. يصور شكسبير طموح قيصر على أنه مثير للإعجاب وخطير، ويسلط الضوء على الخط الرفيع بين الطموح والطغيان. تعمل المسرحية كقصة تحذيرية حول مخاطر الطموح والحاجة إلى التوازن في السعي وراء السلطة.

يستكشف شكسبير أيضا موضوع الطموح في مسرحيته عطيل، مع التركيز على شخصية ياجو. طموح أياجو لتدمير عطيل والتلاعب بمن حوله هو المحرك للأحداث المأساوية في المسرحية. يؤدي طموحه غير المقيد إلى الخداع والخيانة وفي النهاية الموت. من خلال أياجو، يكشف شكسبير عن الجانب المظلم للطموح وقدرته على إفساد الأفراد وتدمير العلاقات.

في مسرحية أخرى، ريتشارد الثالث، يصور شكسبير طموح الشخصية الرئيسية القاسي ليصبح ملكا بأي ثمن. إن طموح ريتشارد يدفعه إلى ارتكاب أفعال شنيعة، بما في ذلك القتل والخداع. يستخدم شكسبير ريتشارد الثالث لاستكشاف عواقب الطموح الجامح والمدى الذي سيذهب إليه الأفراد لتحقيق أهدافهم. يعمل سقوط ريتشارد كتحذير من مخاطر الطموح بدون أخلاق أو ضمير.

يفحص شكسبير أيضا موضوع الطموح في كوميديته الليلة الثانية عشرة، من خلال شخصية مالفوليو. يؤدي طموح مالفوليو للثروة والمكانة إلى إذلاله وسقوطه. يستخدم شكسبير مالفوليو لتسليط الضوء على عواقب الطموح الأعمى وأهمية التواضع والوعي الذاتي. تعمل المسرحية كتذكير بأن الطموح يجب أن يكون معتدلاً بالحكمة والأخلاق لتجنب النتائج السلبية.

في هاملت، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية كلوديوس. يقود طموح كلوديوس إلى السلطة إلى قتل شقيقه الملك هاملت والزواج من أرملته جيرترود. يصور شكسبير كلوديوس كشخصية متلاعبة ومخادعة يؤدي طموحها غير المقيد في النهاية إلى سقوطه. من خلال كلوديوس، يفحص شكسبير عواقب الطموح والطبيعة المدمرة للجشع والسلطة.

في هنري الرابع، الجزء الأول، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية الأمير هال. يدفع طموح هال ليصبح ملكا إلى التمرد ضد والده الملك هنري الرابع، وإثبات نفسه كخليفة جدير. يصور شكسبير هال كشخصية معقدة طموحها مثير للإعجاب وأنانية. تعمل المسرحية كقصة بلوغ سن الرشد حول تحديات الطموح والحاجة إلى النضج والمسؤولية في السعي وراء السلطة.

يعد الطموح موضوعا متكررا في مسرحيات شكسبير، حيث يفحص تعقيدات وعواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. من خلال شخصيات مثل ماكبث، ويوليوس قيصر، وأياغو، وريتشارد الثالث، ومالفوليو، وكلاوديوس، والأمير هال، يتعمق شكسبير في الطبيعة المظلمة والمدمرة للطموح وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. إن استكشاف شكسبير للطموح يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة والجشع، ويذكر الجماهير بأهمية التواضع والأخلاق والوعي الذاتي في السعي وراء الطموح.

***

محمد عبد الكريم

 

إلى روح خالي الغالي "غسان محمد المجذوب"

الموت.. تلك الرسالة المجهولة التي لا يأتيك بها ساعي بريد، ولا وسيلة أطرف حداثة، تحس به حولك، ومع ذلك تنسحب باطمئنان إلى مساعيك اليومية، تدعه، وأنت تراه قد جثم فوق عزيز لك، ولست تملك نحوه سوى النظر، والتمتمة بالدعاء، وطلب التخفيف عن المصاب به.

أهو داء تبتلى به، أم أنه الذي تعجزك أشرس الأسلحة عن مقاومته، أم هو شيء لذيذ يتجوّل كالخدر، وهو يكشف أمامك ما سرد لك في الكتب دينية، وغير دينية، متخيلة، أو مستنسخة من وادي عبقر.

لم يكن من إشارة اليوم لطفل يبتسم مداعبا، أو لحمامة حول الشباك ترفع رأسها تبشر بالسلام كما نُسب إلى.. أو أخبر بعض من عادوا بعد أن انصبّوا عبر النفق الطويل يتلمسون ضوءا شاحبا ينوء في نهايته فتيل شاحب.. ليس من شيء سوى المصاب به، هادئ هو، متلاشي الحضور إلا من أنفاس تلهث في صدره المنخور عجزا، ونحولا.. حوله من يبكي، ومن يتلو، من يدعو، ومن يفكر متى ستنقضي الساعة، ومن يفكر بأشياء أخرى لا يخاصرها عالم اللحظة الشائك..4145 امان السيد

ولعلي أنا الذي بصمت كان يتابع، وبالتمنيات الطيبة يتمتم أن يعبر بسلام، وقد استذكر أصناف الموت كلها التي تلقفها، وأسرَتْ فيه هدوءا لا مثيل له إزاء هذا المشهد الجليل، لينتشل نفسه بلأيٍ، ويفلتها لفضائه..

هناك حيث لا كلمات، ولا تلفاز، لا شيء سوى أفكاري أنضددها، وأنا أرتب ما تسوقته من متاع الغرور.

الموت رديف الصمت المحرض على الصمت، تسكت الأجراس المعتادة في رأسي الذي لا يملّ من الطنين، لأتقبل خبر الوفاة بتريث الحكيم، الذي تلبّسه العقل مبكرا جدا.

أرنو من وراء ستارة خلبية، وقد سحبه إليه بجناحين تطويان حكاية وطؤها ثقيل، لكن عينيه الزرقاوين لم تلبثا أن أومضتا لي غزيرتين.. باقتان من نجوم وديعة..

" يباشر.. الموت"

*

و.. أتراك تعلم أن الموت لا ينتهي سريعا، إذ ليس روحا تغادر، ولا جسدا ينطفئ، ولا عيونا تنسدل على الكتمان.. إنه سلسلة تسلم قيادها لعاقل، يتمرّس به التدبر، والتقليب.. وتختلف الطرق، فما بين أن تنهال الجرّافات هنا بالتراب على جسد استغنى عنك، وما بين فؤوس هناك في وطنك الأم يفتقد الدفن شفافيته، ويتشظى به حنينه.

هنا حيث تصلي النساء مع الرجال، وراءهم، على بعد خطوات، بحماية جدار، في مبنى منفصل.. ليس مهما، المهم أنهن يحصلن على حق لهثن حوله مذ خلقن، يصلين على الفقيد، ويتجمعن في بيت من بيوت الله لتطييب الخاطر، أما المغسل، فلقد فررت منه، دون أن أعلم بوقته، فررت، وحتى لو علمته، فإني سأفرّ منه، ومن الطقوس الشبيهة كلها سأفرّ..

هنا في المقبرة التي تحمل مسمى أجنبيا، غريبا عنك، تختلف عنه مقبرة "المَغربي" التي تقابل بيتك في الوطن شلفَ حجر، أو كيلومترا، ولكنك لا بد أن توقّع بامتنان وتقدير لروعة التنظيم، والاحتفاء البشري، ولسكائب حقول الزهور الثرية الألوان والفوح التي شتلت فوق القبور، ولمشاعر أخرى تنبثق فيك معها..

قد تشتهي فنجان قهوة، وأنت تجالس في تداعياتك مقعدا من مقاعد حديقة " البَطرني" ومثيلاتها من الحدائق العامة التي تجولت فيها هناك أيضا، وأنت تراقب من بينك وبينهم خطوات، وتبتسم وأنت تتساءل: أهم الأموات، أم أنت أيها الغريب الذي دعوت يوما على نفسك أن تموت ملفوظا، وهل سيستجيب الله لك دعاءا مريرا رجوته تحت ضغطة قيد، وفتكة معصم؟!

أهم الأحياء، أم أنت الذي عندما تشتهي فنجان قهوة، سترتشفه على الفور.. وهل هم نسوا رائحة قهوة الصباحات، أم مجّوها، لأن هناك طيورا ألزمت بها أعناقهم قد حان الوقت لهبوطها، ولفتح الدفاتر، ولتجريدها من اللحم حتى العظم، ثم في كفتين وزنها...

أيها المسكين، وماذا لو مالت إحدى الدفتين قيد شعرة؟!..

هل في تلك اللحظات سيقدّر للميت أن يستقوي بحكاية المجرم المذنب الذي اجتمعت ملائكة الموت لتحصد أعماله، وعندما اختلفت قيست خطواته إلى أي اتجاه كانت الأقرب، إلى رقعة الشر، أم إلى رقعة الخير، ليفوز حصانه بقصب السبق؟!

" يوم يلي الموت"

*

ها هم يتنادون فرادى، وجماعات في ذلك المنأى الذي لن يصل إليه أحدهم راغبا لو أراد الاكتشاف، أو شاعرا لو أنه أراد قصيدة، نفرت منه حيث الشمس والقمر يتشقلبان بمحبة وتساق، وبتناغم لا يرتقي إليه الغائبون، مكرها سيستقبله، مصرُورا كسجادة فارسية، شامية، يتساوى انتماؤها، نفضت عنها زخارفها، فالتزمت الصمت تجاه اشتهاء الدنيا، وغرائزها العصية على الشجب، أو على الإخراس..

من الذي أخبرهم بالمستجدّ، أمن جواب غير أن البصر اليوم حديد، وأن التحية سُنّة، والواجب أن يُحيّا الوافد بأفضلها، هم الذين لطالما تنازعوا فحرثوا الأرض أنانية، وكرها  ينفضون غبار الكدر، ويتشافون بمعين الصفاء والسلام في العالم الجواني، لبّ الجواني، أعماقه، دخائله العصية على الإدراك، والرضية قبولا، بل استسلاما..

في العالم الأثيري ستطفو الأرواح عزيزة رغم ما سبق منها، أوليست من نفخ روح الله تسلسلا، وهناك ستنطلق النفس بحرية بعيدا عن ملاكها الحافظ، إذ آن أوان الانفلات من كل قيد دنيوي، وسيُستعذب تطواف، وسيتعثر آخر..

أيها الوافد ستلتحق بالركب حثيثا، وسيعمر بك المقام، ولكن ماذا بشأنك، أنت الذي تذوقت لذة الاعتزال، وانتأيت بك حين استمطار الأرواح أصابك بالعناء...

رغم استثناءاتك كلها، لا مفر، ففي التراب استُودعت عجنا طريا لن يلبث أن يعتدّ به اليباس لخلود حقيقي، وحاذر التمرد، فالوجوه التي تُعرّى لا تستر أبدا...

".. وبعده.. الفراغ"

***

أمان السيد - كاتبة سورية / أستراليا

 

تُبنى العلاقات على الثقة والتواصل والتفاهم. عندما يبدأ أحد الشريكين في تجنب الآخر، فقد يكون ذلك علامة على وجود مشكلات أساسية تحتاج إلى معالجة. إليك مؤشرات تدل على أن شريكك يتجنبك منها:

1. يختلق الأعذار باستمرار لعدم قضاء الوقت معك. إذا كان شريكك دائما يقدم أسبابا لعدم تمكنه من الخروج معك، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنبك.

2. يكون دائما مشغولا أو منشغلا عندما تحاول التحدث معه. إذا كان شريكك مشتتا باستمرار عندما تحاول إجراء محادثة، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنب إجراء مناقشة جادة معك.

3. يبدو غير مهتم بحياتك أو بما يحدث معك. إذا لم يبدو أن شريكك يهتم باهتماماتك أو بما يحدث معك، فقد تكون هذه علامة على أنه يتجنب التواصل معك على مستوى أعمق.

4. لا يستجيب لمكالماتك أو رسائلك في الوقت المناسب. إذا كان شريكك يتجاهل محاولاتك للتواصل معه باستمرار، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب التواصل معك.

5. سريع في تجاهل مخاوفك أو مشاعرك. إذا تجاهل شريكك مشاعرك أو مخاوفك دون إعطائها الاهتمام المناسب، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب التعامل مع أي مشاكل في العلاقة.

6. يتجنب المودة الجسدية أو الحميمية معك. الحميمية الجسدية هي جانب مهم من العلاقة، لذلك إذا كان شريكك يتجنب التقرب منك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب الحميمية العاطفية أيضا.

7. غالبا ما يكون دفاعيًا أو جدليًا عندما تحاول التحدث معه حول علاقتك. إذا أصبح شريكك دفاعيا أو بدأ الجدال عندما تحاول معالجة أي مشاكل في علاقتك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب مواجهة أي مشاكل.

8. يقضي المزيد من الوقت مع أصدقائه أو يمارس أنشطة بدونك. إذا كان شريكك يضع الخطط باستمرار دون إشراكك أو يعطي الأولوية لأصدقائه على قضاء الوقت معك، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب البقاء بمفرده معك.

9. يتجنب وضع الخطط أو الالتزامات المستقبلية معك. إذا كان شريكك مترددا في وضع الخطط للمستقبل أو يتجنب التحدث عن الأهداف طويلة المدى معا، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب الالتزام بمستقبل معك.

10. يتجنب مناقشة الموضوعات أو القرارات المهمة معك. إذا كان شريكك يتجنب إجراء مناقشات مهمة حول أشياء مثل الشؤون المالية أو ترتيبات المعيشة أو الأمور العائلية، فقد يكون ذلك علامة على أنه يتجنب مواجهة أي صراعات أو خلافات محتملة.

إذا لاحظت أيا من هذه العلامات في علاقتك، فمن المهم معالجتها مع شريكك بطريقة هادئة ومنفتحة. التواصل هو المفتاح في أي علاقة، ومعالجة المشكلات في وقت مبكر يمكن أن تساعد في منع المزيد من التجنب وتعزيز علاقتك بشريكك.

***

محمد عبد الكريم يوسف

غالبا ما يُنسب إلى رينيه ديكارت، الفيلسوف والرياضي الفرنسي الشهير في القرن السابع عشر، وضع الأساس للفلسفة الحديثة. ومن أكثر جوانب حياته إثارة للاهتمام علاقته بالملكة كريستينا ملكة السويد، والتي غالبًا ما يشار إليها باسم "ملكة هولندا". كان لهذه العلاقة تأثير كبير على عمل ديكارت وإرثه.

التقى ديكارت بالملكة كريستينا لأول مرة في عام 1649 عندما دعته إلى السويد ليكون مدرسا شخصيا لها في الفلسفة. في ذلك الوقت، كان ديكارت شخصية معروفة بالفعل في أوروبا، وكانت فرصة العمل مع الملكة تُعتبر شرفا عظيما. ومع ذلك، تردد ديكارت في قبول العرض، لأنه فضل العمل في عزلة وكان حذرا من متطلبات حياة البلاط الملكي.

على الرغم من تحفظاته، قبل ديكارت في النهاية دعوة الملكة وسافر إلى السويد لبدء عمله معها. كانت الملكة معروفة بفضولها الفكري وكانت حريصة على التعلم من ديكارت. كانت علاقتهما معقدة، حيث كانت الملكة معروفة بسلوكها غير المتوقع ومزاجياتها المتقلبة. وجد ديكارت نفسه في موقف صعب، محاولاً التنقل بين تعقيدات الحياة في البلاط بينما كان يركز أيضا على عمله الفكري.

خلال فترة وجوده في السويد، انخرط ديكارت والملكة في مناقشات ومناظرات فلسفية. كانت الملكة مفكرة حادة الذكاء وتحدت ديكارت في العديد من أفكاره. دفعت محادثاتهما ديكارت إلى صقل وتوضيح معتقداته الفلسفية، مما أدى إلى فهم أعمق لعمله.

كانت إحدى أشهر الحلقات في فترة ديكارت مع الملكة مناقشة ساخنة حول طبيعة الجسد والروح البشرية. شككت الملكة في وجهات نظر ديكارت الثنائية، بحجة أن الجسد والروح مترابطان بطرق لم يفكر فيها ديكارت. ألهم هذا النقاش ديكارت لتطوير أفكاره بشكل أكبر حول العلاقة بين العقل والجسد، مما أدى إلى عمله الشهير "تأملات في الفلسفة الأولى".

وعلى الرغم من خلافاتهما الفكرية، نشأت بين ديكارت والملكة علاقة وثيقة. فقد أعجبت الملكة بذكاء ديكارت وذكائه، بينما احترم ديكارت ذكاء الملكة وشخصيتها القوية. وكثيرا ما يُنظَر إلى تفاعلاتهما باعتبارها لقاء بين عقلين قويين، يؤثر كل منهما على الآخر بطرق عميقة.

ومن المؤسف أن وقت ديكارت مع الملكة لم يدم طويلاً عندما مرض وتوفي في عام 1650. ولا تزال الظروف الدقيقة لوفاته لغزاً، حيث يتكهن البعض بأنه قد تسمم على يد أعداء الملكة. وبغض النظر عن السبب، فإن وفاة ديكارت كانت بمثابة نهاية فصل رائع في تاريخ الفلسفة.

وفي السنوات التي أعقبت وفاة ديكارت، استمر عمله في التأثير على الفلاسفة وعلماء الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وكان لأفكاره حول الشكوكية والعقلانية وطبيعة الواقع تأثير دائم على تطور الفلسفة الحديثة. وكثيراً ما يُنظَر إلى العلاقة بين ديكارت وملكة هولندا باعتبارها رمزا لقوة الفضول الفكري والسعي وراء المعرفة.

كانت العلاقة بين ديكارت وملكة هولندا لحظة محورية في تاريخ الفلسفة. فقد كانت تفاعلاتهما مصدر إلهام وتحدي لبعضهما البعض، مما أدى إلى رؤى وتطورات جديدة في عمل ديكارت. وعلى الرغم من تحديات الحياة في البلاط وسلوك الملكة غير المتوقع، فإن وقت ديكارت في السويد كان تجربة تكوينية شكلت إرثه الفلسفي. إن إرث ديكارت وملكة هولندا بمثابة تذكير بقوة التبادل الفكري والسعي وراء المعرفة. ويقال أن هذه العلاقة كانت السبب في مرض ديكارت  ووفاته المبكرة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تستكشف مسرحية شكسبير "كما تشاء"  الطبيعة المعقدة والمتعددة الأوجه للحب، وتقدم أشكالا مختلفة من الحب التي تدفع الشخصيات طوال المسرحية. يركز العمل بشكل أساسي على الحب الرومانسي، حيث تعمل العلاقة المركزية بين روزاليند وأورلاندو كقوة دافعة للحبكة. ومع ذلك، يتعمق شكسبير أيضا في أنواع أخرى من الحب، بما في ذلك الحب العائلي والصداقة وحب الذات، ويرسم صورة غنية ودقيقة للطرق المختلفة التي يمكن أن يتجلى بها الحب ويؤثر على الأفراد.

أحد أبرز الموضوعات في "كما تشاء"  هو القوة التحويلية للحب. يدفع حب روزاليند وأورلاندو لبعضهما البعض إلى التغلب على العقبات والنمو كأفراد. يتجاوز حبهما الحواجز الاجتماعية والأعراف، مما يلهمهما لتحدي الوضع الراهن والسعي إلى سعادتهما. من خلال علاقتهما، يوضح شكسبير كيف أن الحب لديه القدرة على تغيير الناس للأفضل، مما يقودهم إلى اكتشاف الذات والنمو الشخصي.

بالإضافة إلى الحب الرومانسي، يستكشف شكسبير أيضًا موضوع الحب العائلي في "كما تشاء"  . العلاقة بين روزاليند ووالدها، دوق الأب، هي علاقة عاطفة عميقة وولاء. على الرغم من الانفصال لسنوات عديدة، إلا أن رابطتهما تظل قوية، مما يدل على الطبيعة الدائمة للروابط العائلية. وبالمثل، يسلط لم شمل أورلاندو وشقيقه أوليفر الضوء على أهمية التسامح والمصالحة داخل العائلات، مما يدل على أن الحب يمكن أن يداوي الجروح الماضية ويصلح العلاقات المكسورة.

الصداقة هي جانب مهم آخر من الحب في "كما تشاء" . تشكل الشخصيات في المسرحية روابط وثيقة مع بعضها البعض، وتدعم وتعتني ببعضها البعض طوال رحلاتهم في غابة أردن. تُظهر صداقة روزاليند مع سيليا وصداقة أورلاندو مع خادمه المخلص آدم قوة الرفقة والثقة المتبادلة في التغلب على الشدائد. ينقل شكسبير فكرة أن الصداقة هي شكل من أشكال الحب الذي يمكن أن يكون عميقا وذا مغزى مثل الحب الرومانسي، حيث يوفر الرفقة والعزاء في أوقات الحاجة.

كما يتم استكشاف حب الذات في مسرحية "كما تحبها"، حيث يشرع العديد من الشخصيات في رحلات اكتشاف الذات وقبول الذات. يسمح قرار روزاليند بارتداء زي رجل، جانيميد، لها باستكشاف وفهم رغباتها وعواطفها بشكل أكثر اكتمالا. من خلال تبني هذا التنكر، تتمكن من مواجهة انعدام الأمان والمخاوف الخاصة بها، مما يؤدي في النهاية إلى فهم أعمق لنفسها وقدرتها على الحب. يؤكد شكسبير على أهمية حب الذات كأساس لجميع أشكال الحب الأخرى، مما يشير إلى أنه فقط من خلال قبول الذات واحتضانها يمكن للمرء أن يحب الآخرين حقا.

تستكشف المسرحية أيضا موضوع الحب بلا مقابل، كما نرى في شخصيتي سيلفيوس وفيبي. يسلط تفاني سيلفيوس الأبدي لفيبي، على الرغم من رفضها له، الضوء على الألم والشوق الذي يمكن أن يصاحب الحب بلا مقابل. يصور شكسبير تعقيدات المودة غير المتبادلة، موضحًا كيف يمكن أن تؤدي إلى حزن وخيبة أمل، ولكنها تعمل أيضا كمحفز للنمو الشخصي واكتشاف الذات. من خلال هذه الشخصيات، يفحص شكسبير الطرق التي يمكن أن يكون بها الحب مصدرا للفرح والحزن، مسلطا الضوء على الطبيعة غير المتوقعة والمضطربة غالبا للعلاقات الرومانسية.

مع تطور المسرحية، يقدم شكسبير الحب كقوة تتجاوز المعايير والتوقعات المجتمعية، مما يسمح للأفراد بالاتصال على مستوى أعمق وإيجاد الوفاء بطرق غير متوقعة. تُظهر المظاهر المتنوعة للحب في "كما تشاء"  ثراء وتعقيد المشاعر الإنسانية، وتكشف عن القوة التحويلية للحب لإلهام الأفراد وشفائهم وتوحيدهم بطرق عميقة. من خلال عدسة العلاقات والتفاعلات المختلفة، يدعو شكسبير الجماهير إلى التفكير في طبيعة الحب وتأثيره الدائم على التجربة الإنسانية. في نهاية المطاف، تعتبر أغنية "كما تشاء"  بمثابة شهادة على القوة الدائمة للحب بكل أشكاله، وتحتفل بقدرته على جلب الفرح والوفاء والمعنى لحياتنا.

*** 

محمد عبد الكريم يوسف

قرب تمثال سعد زغلول الذي يتوسط ميدان الرمل في الاسكندرية يقع مقهى او كافيه تريانون، ما ان تدخله حتى تجد صوره معلقة على جدار تجمع بين يوسف وهبي وعماد حمدي، الصورة مشهد من فيلم ميرامار المعد عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة، انظر إلى الصورة واتذكر يوسف وهبي يقول لعماد حمدي:

عارف مين السبب في كل المصايب اللي احنه فيها دلوقتي

وعندما يسأله عماد حمدي: مين.

يشير يوسف وهبي عبر زجاج المقهى إلى تمثال سعد زغلول: سعد باشا ظل يسب في الملك ويشتم الإنكليز ويقول ثورة وديمقراطية. والناس تصفق، من ساعتها والناس تصفق على اي حاجة.4117 مقهى تريانون

المقهى يقع على ناصية الشارع ويتميز، بمظلاته البيضاء التي كتب عليها باللون الأحمر اسم المقهىً الذي أصبح علامة مميزة في قلب الاسكندرية حيث يعود تاريخ افتتاحه إلى اكثر من " 120" عاما، ونقرأ في سجلاته ان مؤسسه رجل يوناني اسمه.يورغوس بيرليس افتتح في البداية محل حلواني (بيتيت تريانون)، وقد تحولت ملكية المقهى عام 1970 إلى عائلة الحضري المصرية. لعل شهرة تريانون جاءت من اتخاذ نجيب محفوظ لزاوية فيه حيث كان يجلس ف مع توفيق الحكيم الذي ذكر المقهى في سيرته الذاتية " سجن العمر"، وكان من رواد المقهى ايضا عمر الشريف ومحمود مرسي وعبد الرحمن الأبنودي، كما مر عليه الكثير من المشاهير حيث تحتفظ جدرانه صورهم وتواقيعهم.تظهر الاسكندرية في ثلاثة من روايات نجيب محفوظ هي " ميرامار " و" السمان والخريف " و" الطريق.

أسير في شوارع الاسكندرية صديق إلى مقهى صغيرة دارت فيها احداث " السمان والخريف " هناك كان يجلس عيسى الدباغ، يفكر بمستقبله وأزمته حيث يعيش دوامة البحث عن طريق الخلاص..مثله مثل بطل رواية الطريق " صابر "، ومثل أبطال ميرامار الذين يعانون من أزمات وجودية، لكنهم جميعا يعشقون الاسكندرية، فها هو عامر وجدي احد أبطال رواية ميرمار يفتتح الصفحة الاولى من الرواية بالقول "، أخيرا الإسكندرية، قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبلَّلة بالشهد والدموع."4116 مقهى تريانون

 اجلس في تريانون واتذكر مقاهي بغداد التي كانت تزخر بذكريات أدباء وفناني العراق، من السويس كافيه، حيث يجلس جبرا إبراهيم جبرا وجواد سليم، مرورا بالبرازيلية وابطال غائب طعمة فرمان يتوسطهم حسين مردان، وحسن عجمي يذكرنا بإطلالة فؤاد التكرلي  والبرلمان ومقهى المعارف وليس انتهاء بمقهى المعقدين وحوارات جيل الستينيات الصاخبة ومقهى الراق واق الذي شهد اجتماعات نزار سليم وبلند الحيدري ونجيب المانع ونهاد التكرلي لتأسيس مجموعة الوقت الضائع التي كان ملهما مارسيل بروست وجان بول سارتر.

في حوارته مع رجاء النقاش التي سجلها في كتاب " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ " يتحدث محفوظ عن مقاهي الإسكندرية قائلا:"القهاوي بالنسبة لي في الإسكندرية كانت قهاوي تصييف فكنت ارتادها لمقابلة الأصدقاء. ولقد جلست كثيرا مع مجموعة توفيق الحكيم بمقهى تريانون، قهاوي تمتد بطول الكورنيش وكانت مباشرة على البحر "

يرى غاستون باشلار في كتابه " جماليات المكان " الذي ترجمه إلى العربية غالب هلسا اشهر عشاق مقاهي بغداد، ان الأمكنة نستمد جماليتها من الألفة، ويبدو ان الألفة ضاعت بيننا وبين مقاهي بغداد الثقافية فاندثرت.

في تريانون سخر نجيب محفوظ من الناس التي تصفق. وفي بلاد الرافدين يصر البعض ان يصفق لكل أفاق ودجال وانتهازي.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في سوناتات شكسبير، غالبا ما يتخذ تصوير المرأة طبيعة معقدة ومتعددة الأوجه. في جميع أعماله، يتم تصوير النساء كأشياء للرغبة، ومصادر للإلهام، وشخصيات الفضيلة أو الخيانة. في حين تحتفل بعض السوناتات بجمال وفضائل النساء، تستكشف السوناتات الأخرى موضوعات الحب، والخيانة، والطبيعة العابرة للعلاقات. تعكس معالجة شكسبير للنساء في السوناتات المعايير الاجتماعية وتوقعات عصره، فضلاً عن تجاربه الشخصية ووجهات نظره.

واحدة من أشهر السوناتات التي تصور المرأة كشيء للرغبة هي السوناتة 18، والتي يشار إليها غالبًا باسم "هل أقارنك بيوم صيفي؟" في هذه السوناتة، يقارن المتحدث حبيبته بيوم صيفي، ويشيد بجمالها وصفاتها الأبدية. يتم تجسيد المرأة في هذه السوناتة وتخليدها من خلال كلمات الشاعر، وتعمل كرمز خالد للحب والجمال.

ومع ذلك، لا تصور كل سوناتات شكسبير النساء في منظور إيجابي. في السوناتة 130، يسخر المتحدث من الأعراف التقليدية للجمال ويصف عشيقته بطريقة أقل إطراء. يعترف بعيوبها ونقائصها، مسلطًا الضوء على تصوير أكثر واقعية وإنسانية للمرأة. تتحدى هذه السوناتة التوقعات المجتمعية للمظهر الجسدي للمرأة وتؤكد على الجوانب الأعمق والأكثر مغزى للحب والعلاقات.

يستكشف شكسبير أيضا موضوعات الحب والخيانة في سوناتاته، وخاصة في العلاقة بين المتحدث وعشيقته. في السوناتة 147، يصف المتحدث مشاعره المتضاربة تجاه عشيقته، معترفًا بسلوكها المخادع والمتلاعب. يتم تصوير المرأة في هذه السوناتة على أنها مغرية تضل المتحدث، مما يسبب له الألم والعذاب. يعكس هذا التصوير الجوانب الأكثر قتامة وتعقيدا للحب والعلاقات، مما يسلط الضوء على التوتر بين الرغبة والخيانة.

على النقيض من العشيقة في السوناتة 147، يقدم شكسبير النساء أيضا كشخصيات للفضيلة والنعمة في السوناتات الخاصة به. في السوناتة 116، يصف المتحدث الحب بأنه قوة أبدية لا تتغير تتجاوز الزمن والظروف. يتم تصوير المرأة في هذه السوناتة على أنها رفيقة ثابتة ومخلصة، تجسد فضائل الثبات والإخلاص. يقدم شكسبير وجهة نظر أكثر مثالية للنساء في هذه السوناتة، مؤكدا على قدرتهن على الحب والإخلاص.

ثمة جانب رئيسي آخر من تصوير شكسبير للنساء في السوناتات الخاصة به هو دورهن كمصدر للإلهام والإبداع. في السوناتة 21، يقارن المتحدث حبيبته بالشمس، ويصفها بأنها حضور مشع ومضيء في حياته. تعمل المرأة في هذه السوناتة كملهمة وملهمة، تلهم الشاعر لخلق الجمال والفن من خلال كلماته. يصور شكسبير النساء كمحفزات للإبداع والعاطفة في السوناتات الخاصة به، مسلطا الضوء على قوتهن التحويلية والغامضة.

بشكل عام، تقدم السوناتات الخاصة بشكسبير صورة غنية ومتنوعة للنساء، تتراوح من رموز مثالية للجمال والفضيلة إلى تمثيلات أكثر تعقيدًا ودقة للحب والخيانة. النساء في السوناتات الخاصة به هن في نفس الوقت موضوعات للرغبة ومصدر للإلهام، مما يعكس ازدواجية وتعقيد العلاقات الإنسانية. من خلال لغته الغنائية والمثيرة، يتعمق شكسبير في أعماق الحب والعاطفة، مستكشفا الموضوعات الخالدة للرغبة والإخلاص والقوة الدائمة للنساء في السوناتات الخاصة به.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

حنان الشيخ كاتبة لبنانية بارزة معروفة بقصصها القوية واستكشافها لمواضيع معقدة مثل الحب والأنوثة والتوقعات المجتمعية في العالم العربي. وبمزيج فريد من الحداثة والتقاليد، تخلق حنان الشيخ سرديات آسرة تلقى صدى لدى القراء عبر الثقافات. في هذا المقال، سأناقش بعض الأمثلة على قصص حنان الشيخ التي تبرز موهبتها وعمق كتابتها.

ومن أشهر أعمال حنان الشيخ رواية "قصة زهرة"، وهي رواية تتبع حياة امرأة لبنانية شابة تدعى زهرة تكافح من أجل العثور على هويتها وسط خلفية الحرب الأهلية في بيروت. ومن خلال رحلة زهرة، تستكشف الشيخ موضوعات الصدمة والخسارة وتأثير الحرب على العلاقات الشخصية. والرواية هي تصوير مؤثر للتكلفة البشرية للصراع ومرونة الروح البشرية.

ومن الأمثلة الأخرى على براعة الشيخ في سرد القصص مجموعة قصصها القصيرة "أكنس الشمس عن أسطح المنازل". في هذه المجموعة، تتعمق الشيخ في حياة النساء اللواتي يعشن في العالم العربي والصراعات التي يواجهنها في مجتمع يهيمن عليه الذكور. القصص عبارة عن مزيج من الفكاهة والمأساة، تسلط الضوء على تعقيدات الوجود الأنثوي في الشرق الأوسط. من خلال شخصياتها، تتحدى الشيخ الصور النمطية وتقدم تصويرا دقيقا لتجارب النساء العربيات.

في "نساء من الرمل والمر"، تستكشف الشيخ حياة أربع نساء من خلفيات مختلفة يجتمعن معا في دولة في الشرق الأوسط لمواجهة رغباتهن ومواجهاتهن مع التوقعات المجتمعية. تتعمق الرواية في موضوعات الصداقة الأنثوية والجنس والسعي لتحقيق الذات في مجتمع محافظ. نثر الشيخ الحيوي وشخصياتها العميقة تجعل الرواية قراءة مقنعة تكشف عن تعقيدات ديناميكيات النوع الاجتماعي في العالم العربي.

لكن أكثر قصص الشيخ إيلاما هي "فقط في لندن"، وهي قصة حب ونزوح تدور أحداثها في مدينة لندن. وتدور أحداث الرواية حول ليلى، وهي شابة لبنانية تنتقل إلى لندن للهروب من قيود نشأتها التقليدية. ومن خلال تجارب ليلى، تستكشف الشيخ موضوعات الهوية الثقافية والهجرة والشوق إلى التواصل في أرض أجنبية. وتلتقط القصة التحديات والانتصارات التي تصاحب التنقل بين عوالم مختلفة والبحث عن الانتماء.

في رواية "بيروت بلوز"، تأخذ الشيخ القراء في رحلة عبر مدينة بيروت، وتستكشف شوارعها النابضة بالحياة وندوب الحرب التي تظل باقية تحت السطح. وتتتبع الرواية حياة شخصيات مختلفة وهم يتنقلون بين تعقيدات الحياة في لبنان ما بعد الحرب. ومن خلال قصصهم، ترسم الشيخ صورة حية لمدينة في حالة تغير مستمر، تتصارع مع ماضيها ومستقبلها غير المؤكد. والرواية شهادة على قدرة الشيخ على التقاط جوهر المكان وشعبه بحساسية وبصيرة.

في رواية "ست ماري روز"، تحكي الشيخ قصة امرأة مسيحية لبنانية تصبح شهيدة خلال الحرب الأهلية اللبنانية. تتناول الرواية موضوعات النشاط السياسي والمقاومة والتضحيات التي يبذلها المرء من أجل معتقداته. ومن خلال قصة ماري روز، تسلط الشيخ الضوء على تعقيدات الهوية والدين والقومية في سياق الصراع. والرواية عبارة عن تأمل قوي في تكلفة النضال من أجل العدالة في مجتمع منقسم.

ومن الأمثلة الأخرى على براعة الشيخ في سرد القصص روايتها "الجرادة والطائر"، وهي مذكرات عن حياة والدتها في لبنان. ومن خلال تجارب والدتها، تتأمل الشيخ المشهد المتغير لبيروت وتأثير الحرب على العلاقات الشخصية. والمذكرات هي تكريم مؤثر لقدرة والدتها على الصمود واستكشاف مؤثر للعائلة والذاكرة ومرور الوقت. إن نثر الشيخ الغنائي وتصويرها الحميمي لحياة والدتها يجعلان من المذكرات قراءة مؤثرة لا تُنسى.

في "ألف ليلة وليلة"، تعيد الشيخ تصور الحكايات العربية الكلاسيكية من خلال عدسة نسوية، وتمنح صوتا للنساء اللواتي غالبًا ما تم تهميشهن في القصص الأصلية. ومن خلال إعادة سردها، تزعزع الشيخ الأدوار الجنسانية التقليدية وتتحدى المعايير الأبوية التي شكلت السرد لقرون. وتحتفل القصص بتمكين المرأة وقدرتها على الصمود، وتقدم منظورا جديدا للحكايات الخالدة التي لا تزال تأسر القراء في جميع أنحاء العالم.

في "حارسة العذارى" تجد قصة قصيرة آسرة كتبتها الكاتبة اللبنانية الشهيرة حنان الشيخ. تدور القصة حول حياة فتاة شابة تدعى زينب، اختيرت لتكون حارسة العذارى في قريتها. تأتي هذه المسؤولية مصحوبة بضغوط وتوقعات هائلة، حيث تتولى زينب مهمة ضمان نقاء وعفة الفتيات الصغيرات في القرية. طوال القصة، تستكشف الشيخ ببراعة موضوعات التقاليد وأدوار الجنسين وتأثير التوقعات المجتمعية على الحرية الفردية.

تبدأ القصة باختيار زينب كحارسة للعذارى، وهو المنصب الذي تم تناقله عبر الأجيال في عائلتها. منذ سن مبكرة، يتم إعداد زينب وتعليمها حول أهمية دورها في الحفاظ على شرف وسمعة القرية. وعلى الرغم من شعورها بالإرهاق بسبب ثقل هذه المسؤولية، تقبل زينب بشجاعة مصيرها وتكرس نفسها لواجباتها.

وباعتبارها حارسة العذارى، يتعين على زينب مراقبة سلوكيات الفتيات الصغيرات وتفاعلاتهن في القرية عن كثب. وتصبح ركيزة للسلطة والأخلاق، وتضمن التزام الفتيات بالمعايير الصارمة للحياء واللياقة التي وضعها مجتمعهن. ويخيم حضور زينب على القرية، ويثير الخوف والاحترام في قلوب القرويين.

ولكن مع تعمق زينب في دورها كحارسة للعذارى، تبدأ في التشكيك في صحة وهدف واجباتها. فهي تتصارع مع المشاعر المتضاربة بين الواجب والرغبة، حيث تتوق إلى حياة من الحرية والاستقلال خارج دورها الموصوف في المجتمع. يصور الشيخ بمهارة الصراع الداخلي لزينب، مسلطا الضوء على القيود والحدود المفروضة على النساء في المجتمعات التقليدية.

من خلال تفاعلات زينب مع الفتيات الصغيرات في القرية، يكشف الشيخ عن الآثار المدمرة للمعايير والتوقعات الأبوية على حياة النساء. تخضع الفتيات للمراقبة والتدقيق المستمرين، حيث يتم فحص كل حركة منهن والحكم عليها من قبل حارس العذارى. تعمل بيئة الخوف والسيطرة هذه على قمع فرديتهن واستقلاليتهن، مما يؤدي إلى إدامة دورة من القمع والخضوع.

على الرغم من تحفظاتها بشأن دورها كحارسة للعذارى، تجد زينب العزاء والغرض في واجبها لحماية الفتيات الصغيرات من الأذى والاستغلال. تصبح مصدرًا للتوجيه والدعم للفتيات، وتقدم لهن مساحة آمنة للتعبير عن أنفسهن والبحث عن ملجأ من القيود التي يفرضها المجتمع. تتألق شفقة زينب وتعاطفها في تفاعلاتها مع الفتيات، مما يدل على قدرتها على الحب والتفاهم.

مع تطور القصة، يزداد عزم زينب على تحدي الوضع الراهن، مدفوعا بعطشها للحرية والعدالة. تبدأ في التشكيك في التقاليد والعادات التي طالما أملت حياة النساء في القرية، وتقاوم القيود التي يفرضها دورها كحارسة للعذارى. تتنقل الشيخ بمهارة عبر تعقيدات شخصية زينب، وتصورها كامرأة شجاعة وصريحة تتحدى المعايير المجتمعية لمتابعة طريقها الخاص.

من خلال رحلة زينب نحو اكتشاف الذات وتمكينها، تسلط الشيخ الضوء على مرونة وقوة النساء في مواجهة الشدائد. إن تحدي زينب للتوقعات المجتمعية والتزامها الثابت بمعتقداتها بمثابة تذكير قوي بالإمكانات التحويلية للوكالة الفردية والمقاومة. تعمل القصة كتعليق مؤثر على القوة الدائمة للمرأة لتحدي وتفكيك الأنظمة والهياكل القمعية.

"حارسة العذارى" هي قصة مثيرة للتفكير ومؤثرة تتعمق في تعقيدات التقاليد وأدوار الجنسين والدور الفردي. من خلال شخصية زينب، تستكشف حنان الشيخ تأثير التوقعات المجتمعية على حياة النساء والنضال الدائم من أجل الاستقلال والحرية. وتعمل القصة كتذكير قوي بضرورة تحدي المعايير الأبوية الراسخة وتمكين المرأة من متابعة مساراتها ومصائرها. إن أسلوب الشيخ المثير للعواطف وتصويره الدقيق للشخصيات يجعل من "حارسة العذارى" عملا مقنعا ومؤثرا لا يزال يتردد صداه بين القراء في جميع أنحاء العالم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يا وابور قولي.. الى أين يمضي قطار الليالي.

في طريقي من مدينة "ميلانو الإيطالية" الي هامبورج في شمال المانيا، لم أعرف ان القطار غادر الأراضي الإيطالية، ودخل الي الأراضي السويسرية وجبالها الوعرة من سلاسل جبال الآلب الشاهقة، في صيف مثير ونادر كحفل متنقل، ودخل السهول المفتوحة مع شروق الشمس علي بحيرة مجاورة لشريط سكة القطار، الا عندما وقفت أمامي بائعة القهوة في القطار لتقول لي بلهجة إيطالية غريبة عن اهل "ميلانو"

"كيف تريد القهوة...؟

قلت مندهشاً من اللهجة لإنني لم اشعر بدخول القطار الي الأراضي السويسرية، وبلا تفتيش ولا حواجز كالسفر داخل بلدة واحدة في هذه الدول:

" أين نحن الآن من هذا العالم ...؟ أين نحن من الشعارات التي تعلمنها {أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة}

بالتهذيب السويسري الراقي المعروف قالت باسمة:

" نحن دخلنا سويسرا وعلي مشارف محطة مدينة "زيوريخ "قلت مع نفسي:

نحن اذا سافرنا من قريتنا الى المدينة، ومن الطابق الاول الى الثاني، ومن بلدة الى أخرى، بل من شارع الى شارع، فعلينا أن نحمل كل الوثائق لنواجه مختلف أنواع الأسئلة من الشرطة، ونفكر بكل أنواع الذنوب الحقيقية والمتخيلة، حتى نصل المكان الأخير، وقد تقلصنا من الخوف الى أصغر حجم.،، سويسرا يوجد بها ثلاث لغات الإيطالية والفرنسية والالمانية، وهي لغات مختلفة عن بعضها،ورغم ذلك الاختلاف يمكن التفاهم.

عدت وجلست في مقعدي وفتحت، التابلت، لحمل الملفات وقراءتها على شكل كتاب وفي الوقت نفسه الأرشيف الخاص لكل ما كتبت وكل الرسائل والصور ومكتبة كبيرة وكل عبارة أو كلمة أو قصاصة ورق أو تذكرة سفر أو فندق وهو مصدر وذاكرة احتياطية للكتابة الموثقه لآي كاتب أو روائي، لكني عثرت في ثنايا الملفات على أغنية "محمد عبد الوهاب": يا وابور قولي رايح على فين"

"كما لو ان القطارات القديمة من قطار الشرق الفرنساوي في قريتنا تطاردنا في هذه السهول السويسرية المشعة، ومع انسياب الأغنية شعرت ان هذه الرحلة نحو أمكنة أخرى، وقطارات أخرى وحقول وقناطر وسهول أخرى.

يا وابور قولي رايح على فين

يا وابور قولي وسافرت منين

يا وابور قولي

عمال تجري قبلي وبحري تنزل وادي تطلع كوبري

حود مره وبعدين دوغري

م تقول يا وابور رايح على فين

صوتك يدوي وانت بتهوي

والبعد اليم ناره تكوي

والأرض بساط وانت بتطوي

م تقول يا وابور رايح على فين"وعندما وصلت الأغنية الى مقطع:وسافرت منين

يا وابور قولي يا وابور قولي

قربت قريب وبعدت غريب وجمعت حبييب على شمل حبيب

والقرب نصيب والبعد نصيب

م تقول يا وابور رايح على فين

أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب

بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين

انا رحت معاك ورجعت معاك

وانا ايه كان مقسوم لي وياك" سمعت خلفي صوتاً مباغتاً كمطر صيفي في يوم مشرق، لكن أصابعاً وضعت على كتفي من الخلف،شعرت برعشة من الخوف،وكأن ذاكرة قديمة من بلاد الخوف خلفي ،

والتفت.كانت امراة عربية تبكى بصوت عالٍ. في المقعد الخلفي. قالت:بلهجتها

" خوية مصري، أرجوك، أوقف الأغنية".عندها خيل إلي اننا في القطار المصري، ليل وكشاف الكمسري،ومشروب،عرق سوس،استمرت الأغنية،

عادت لتقول أمام ذهولي وهي تقف خلفي:

" انت سمعتني، أوقف الأغنية".

قلت في نفسي،،يمكن إيقاف المغني، لكن كيف نوقف الأغنية؟

يمكن ايقاف الجهاز، لكن كيف يمكن ايقاف الذاكرة..؟

يمكن ايقاف القطار لكننا لا نستطيع ايقاف رحلة القلب.وقفت امامها فتاة سويسرية من المسافرين، عادة الغرب اذا شعر بتوجع الآخر، وقالت:

" انت بخير سيدتي..؟"

لم تجب لكني قلت:

" هي بخير لكنها الأغنية"

" آه.... فهمت".

الرهافة والحساسية أهم ميزات هذه الشعوب .

اوقفت الأغنية لكني عندما نظرت الى السهول الألمانية المشرقة،

وطواحين الهواء، والأبقار في المراعي،

رآيت، في وضح النهار الصريح، الأبيض، الهادئ، قطاراً قديماً يعبر سهولاً آخرى،

قناطر وأكواخ وسمعت دق قهوة وضرب الفناجين،ورجلاً يخرج من باب المضيف،

يحمل فانوساً، ولم تتوقف الأغنية في رأسي بل صارت ترن بقوة:أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب

بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين

انا رحت معاك ورجعت معاك

وانا ايه كان مقسوم لي وياك

دي كانت نظره من هنا لهناك العين عرفت رايحين ع فين

على فين يااااوابور

"سمعتها تواصل الآهات والنشيج: انه العشق العربي النقي الآصيل،. الحزن الذي يجعل صاحبه لا يأكل ولا يشرب،

ويمسح وجهه بالتراب.كانت تكلم نفسها:

" لو أدري لماذا الدموع..؟، هل حان الوقت أفتح معها حوار

هذه المرة،، تبادلنا

أطراف الحديث ثم اقتربنا وفتحت الذاكرة "ليلة سقوط بغداد "ليرتفع مرة أخري النشيج المر. فقدت معظم اسرتها وخطيبها، وانها تعيش في" السويد" وكل عام تزور ماتبقي من اهلها في البلدان الأوروبية، توقف بنا القطار في محطة (برلين) سوف تأخذ حافلة الي مدينة" هانوفر الالمانية لزيارة عمتها،وانا كذلك بالحافلة الي هامبورج"،

هذا ليس قطار فيلم /قطار الشرق السريع ولا قطار الشرق الفرنساوي في مدينتنا المنصورة لكنه قطار المنفي الاختياري

" قطار الحمولة والذكريات،

قطار الليالي،

قطار السنين الخوالي،

إلى أين تمضي بركابك الميتين..؟".يا وابور قولي رايح على فين وسافرت منين،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تعريف الغَزَل كما ورد في القواميس اللغوية هو فنّ من فنون الشِّعر، يتغنَّى فيه الشَّاعر باِمرأة ويُحمِّله مشاعره. وهو الشِّعْرُ الَّذِي يُقَالُ فِي النِّسَاءِ وَوَصْفِهِنَّ وَالتَّشَبُّبِ بِهِنَّ.

يُقال للظّبي غزال وللظبية غزالة والغزالة في اللغة أيضا هي الشّمس عند الضّحى لا غير وقد شبّه الشعراء القدامى حبيباتهم بالشّمس تعبيرًا عن وضاءتها وحسنها مثل عنترة في قوله:

أَشارَت إِلَيها الشَّمسُ عِندَ غُروبِها

تَقولُ إِذا اسوَدّ الدُّجَى فَاطلِعِي بَعدي

والغزَل في اللغة أيضا هو فتل الصّوف خيوطا وقد ورد في القرآن قوله في سورة النحل: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها.

وقد جمع المعرّي بين الغزْل والغزَل في أحد أبياته قائلا:

سُقيا لِشَوْهاءَ ما هَمّتْ بفاحشَةٍ

غدتْ على الغزلِ، ليستْ تعرِفُ الغزَلا

هذه مناسبة إذن للوقوف على العلاقة بين الغزَل والغزْل والغزالة فيبدو لي إذن أن غزل الصوف حول المغزل هو مثل غزل الكلام حول المرأة التي تشبه الغزالة في حسنها وفي كثير من طباعها فغزْل الصوف يتطلب اللطف والحذق والمداومة حول المغزل وشعر الغزل يتطلب كذلك المهارة اللغوية ولطف المقاربة كما قيل في قواميس اللغة هو محادثة النساء بِلُطْفٍ وَرِقَّةٍ وَكَلاَمٍ عَذْبٍ وَتَوَدَّدَ إِلَيْهِنَّ وأما التشبيه بين الحبيبة والغزالة فأمر شائع في مدوّنات الغزل كقول قيس بن الملوّج مخاطبا ظبية:

أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني

لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ

*

فَعَيناكِ عَيناها وَجيدُكِ جيدُها

سِوى أَنَّ عَظمَ السّاقِ مِنكِ دَقيقُ

وهذا الشاعر المنخّل اليشكري هو أيضا يجد شبها وتوافقا آخر ولكنه مع البعير والناقة ليعبّر عن تمام الانسجام وكماله بينه وبين حبيبته حيق قال:

وأحبُّها وتحبّني

ويُحبّ ناقتها بعيري

قيس بن الملوّح  يستحضر هو أيضا زمن طفولته مع حبيبته ليلى وهما يرعيان صغار الغنم فيقول:

تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة

ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ

*

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

تمثّل الطفولة الصّفاء والنّقاوة والبياض الذي لم تَشُبه شائبة والعاطفة فيه صادقة تنأى عن هواجس الغرائز وحسابات المصالح وقد صوّر الشابي الطفولة فاِعتبرها حلما لذيذا مرفرفا وذلك في أسلوب صيغة التعجّب الذي يرشح بمعاني المحبّة والاِشتياق  المَشُوبة بشيء من الحسرة على اِنقضاء عهدها حيث يقول:

للّه ما أحلى الطفولة

إنّها حلم الحياة

*

عـهد كمعسول الرّؤى

ما بين أجنحة السُّبات

وعذوبة الطفولة لدى الشّابي جعلته يفتتح بها ـ معلّقته ـ صلوات في هيكل الحب ـ إذ يستهلّها قائلا:

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام

كاللّحن كالصّباح الجديد

أمّا الشّاعر التونسي ـ حاتم حمّادي ـ وهو من آخر حبّات العنقود في مدوّنة الشعر التونسي فقد نشر أخيرا قصيدا جديدا عاد فيه هو أيضا إلى ألعاب الطفولة خاصّة منها لعبة الغمّيضة لينال قبلة من حبيبته جائزة له بعد عناء البحث والفوز بالرّهان فهذه اللعبة البريئة والمسليّة تُعتبر أكثر صدقا وأبلغ حميميّة من طقوس الحبّ الرّسمية الخاضعة للبروتكولات

قصيدة  ـ الغُمَّيْضَةُ ـ للشاعر ـ حاتم حمّادي ـ تونس

إنْ أَقْرُبْكِ

أَغْمِضِي عَيْنَيَّ بِمنديلٍ صغيرٍ

أو وِشَاحٍ

ثُمَّ

تَوَارَيْ قَلِيلاً...قَلِيلاً

وتَسَلَّلِي

ثم تَخَفَّيْ بِتُؤَدَةٍ

وراءَ جدارٍ

أو

وراء ستارٍ

كطفلةٍ تَتَسَلَّى بِي

تحت...

جُنْحِ الظَّلاَمِ

وَإِذَا...

بعْد جَمِيلِ تَعَثُّرٍ

وبعدَ بحثٍ حليمٍ

وَكَدٍّ خفيفٍ ومُزَاحٍ

وَجَدْتُكِ دون عناءٍ

لِيَكُنْ حَظِّي مِنَ الرِّهَانِ

قُبلة برقيّة خاطفة

بِالكَادِ تمسح مسحا خفيفا

على الخدَّيْنِ

مثلما

يفعل جميع الأطفالِ،

سأراها مخاطرة

ومجازفة كبرى

وجزاء

وسترينها مُخَالَفَة

وأحلى عقاب

صَرَاحَةً...صراحةً

أريدُ أن ألْعبَ معكِ

مثلَما يلعب جميع الصِّغارِ

إنّي...

مَلَلْتُ الحُبَّ الرّسْمِيَّ

والقُبُلاَتِ مِنْ نَارٍ !

قصيدة الغمّيضة للشاعر حاتم حمّادي عودة إلى ينابيع الشّعر العُذري واِستلهام لرموز الرّومنطقية وهي من ناحية أخرى مواصلة في تفاصيلها وصورها وأبعادها لمسيرة الشّعر الجديد بتونس .

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

لن ندخل في نقاش لماذا. لأن الكل مجمعون على عقم وصعوبة وعسر اللغة العربية وأساليب تدريسها وقواعدها.. والنتائج واضحة. أجيال وأجيال من الناطقين بالعربية وممن درسوها وتخرجوا من الجامعات وهم لا يعرفون قواعدها ولا كيفية الاستفادة من هذه القواعد أو كيفية التحدث بها.

التغيير واجب لكن بأي اتجاه؟

يجري تقسيم تدريس قواعد اللغة العربية لثلاث مراحل :

-الابتدائية والمتوسطة

-الاعدادية بجزئين الأدبي والعلمي

- الجامعية للدراسات الإنسانية فقط

وذلك لتسهيل تلقي الطالب المعلومات وترسيخها.

المرحلة الابتدائية والمتوسطة:

1. إنهاء فوضى الجملة العربية باختيار الجملة الفعلية لأغراض التدريس (في المرحلة الابتدائية فقط) وترك باقي الجمل الإسمية والمبتدئة بحرف وغير ذلك لمراحل الدراسة اللاحقة كتنويع ممكن على الأساس وهو الجملة الفعلية.

إن هذا المبدأ سيسهل كثيرا على الطالب المبتدئ تركيب الجمل واستقرارها

راح الولد الى المدرسة

أكلتُ الطعامَ

2. التخلي التام عن المرفوعات والمنصوبات والمجرورات من الأسماء في جميع المراحل الدراسيّة الابتدائية والمتوسطة واستبدالها بـ:

-  الاسم المتحكم بالجملة وتكون علامته الضمّة وهي أقوى الحركات ويجب أن يتبع الفعل مباشرة ولهذا لا يصح (لأغراض تعليم الطلاب فقط) أن نقول

راح الى المدرسة الولدُ أو كتب الرسالةَ صديقي بل ندرّس وجوباً أن يكون الاسم المتحكم (أو الضمير) يلي الفعل مباشرة كما الأمثلة التالية:

كتب صديقي الرسالة

لعبنا الكرة

-  الاسم المحايد لجميع المنصوبات (ونلغي تدريس أو تسمية خبر كان-اسم ان- المفعول به- المفعول المطلق-التمييز-المفعول معه-الحال-المفعول لأجله) وتوحيد التسمية وشرح أنه محايد لأنه لا يتعامل مع الفعل بالجملة وانما يقع عليه فعل الاسم المتحكم بالجملة.

-  أمثلة لكل نوع من الأسماء المحايدة (تحته خط):

كان النهر فائضاً (فائضاً اسم محايد) (اعرابه سابقا خبر كان)

ان الجوَّ صحوٌ (الجوَّ اسم محايد) (اعرابه سابقا اسم ان)

كتب الطالبُ الجملة (الجملة اسم محايد) (اعرابه سابقا مفعول به)

جاوب المدرس جواباً مقنعاً (جواباً اسم محايد) (اعرابه سابقا مفعول مطلق)

-  الاسم الضعيف المكسور بحرف الجر أو بالتبعية أي الإضافة.

3. تدرّس الضمائر أينما وقعت كبديل عن الأسماء.

4. تدرّس الصفات كتوابع للأسماء

5. إختيار جميع النماذج التدريسية من المشترك مع اللغة المحكية لذلك البلد وهذا سيكون ذا نفع كبير لتدرج الطالب من لغته الأم البيتية المحكيّة الى اللغة العربية الفصحى بحيث لا تشكل قفزة لا يمكن عبورها. وكمثال الأفعال المشتركة (أكل-شرب-سمع-نزل-نام-سأل-كتب)

6. اختيار جميع النماذج القرآنية جملاً فعلية في هذه المرحلة.

إن خريجي الابتدائية والمتوسطة بهذا النظام اللغوي الجديد قادرون وبسهولة على استيعاب الجملة العربية وتكوينها وكتابتها بالشكل الصحيح وسيعرفون دائما أن ما سيلي الفعل هو اسم مرفوع لأنه يتحكم بالفعل مباشرة وكل ما سيليه من أسماء أما محايد أو ضعيف.

يتبع

***

فهيم عيسى السليم

 

(ما تستحضره الشاهدة ولم يقله الرواة.. مرويات شعبية)

صدر عن دار الفرات بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع في بابل؛ كتاب أخي وصاحبي ذياب مهدي محسن آل غلام؛ الموسوم (مرويات شعبية.. ما تستحضره الشاهدة ولم يقله الرواة)، بواقع (224) صفحة من الحجم الوزيري، وبغلاف جميل يحمل لوحة الفنان والخطاط محمد لقمان الخواجة.

الكتاب حمل (45) عنواناً أو ما يحمله العنوان داخل الكتاب بـ(الفرزة)، ويذكر الأستاذ منير بعلبكي في كتابه المورد الحديث ط1، الصادر في بيروت، عن دار العلم للملايين، ص951 معنى الفَرْزة؛ وهي تجويف أو أخدود مقطوع في حافة قطعة من مادة قابلة للتشكيل، عادة ما تكون من الخشب.

والعناوين في الكتاب تتكلم من خلال شاهدة القبر التي زارها المؤلف خلال فترة زمنية ما. فالشاهدة أو شاهد القبر أو حجر المقبرة؛ هو علامة تصنع عادة من الحجر وتوضع فوق القبر. يوضع على القبور في الديانات المسيحية واليهودية والإسلامية وغيرها. في معظم الحالات يكتب اسم المتوفى وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته على الشاهد، بالإضافة إلى رسالة شخصية، أو صلاة، ولكن قد تحتوي على قطع من الفن الجنائزي وخاصة التفاصيل المنقوشة على الحجر. وفي بعض الأحيان يعتبر وضع صورة للمتوفى داخل إطار الشاهد أمراً شائعاً جداً.

والمرويات في الكتاب جميعها تحمل قصص العشق والعشاق؛ سواءً كبرت أم صغرت، ملمعة بأبيات الدارمي الجميل التي تناسب الحدث، وقد وظف المؤلف تقسيمات تلك العناوين وفق الدالة الاجتماعية لدراسة المجتمعات الريفية والبحث في اعماقها، فوظف غزل البنات من العشق كممارسة وجدانية أزلية، تتمظهر في اشكال مختلفة من التعبير بحسب الخصوصيات الروحية والجسدية بين العاشق ومعشوقته، أو تبادل العشق من طرف واحد، سواء كان معلوماً أو مجرد شعور محمول دون التصريح به.

فالمؤلف وثق الكثير من مرويات العشق وقصصها السردية الخفية التي تنطق من خلال العاشق بأبيات الدارمي الجميلة، والتي تدور اغلبها من خلال حكايات المجالس والمحافل، التي اقترنت اغلبها بعنوانات تواكب المرويات في الكتاب، والبعض من المرويات قد انطقها المؤلف من خلال أفواه عشاق منطقة الفرات الأوسط وجنوب العراق.

فالمرويات التي يتداولها الكتاب تحمل بين طياتها حنيناً شجياً يناح في الفلوات والأقبية، تتخللها الدموع الحارة المحملّة بالوجد والألم والشجن، لتخرج لنا في عناوين الكتاب بترنيمة النوح على زمنٍ ولى، رسمه العشاق دون معرفة الأقدار القاهرة التي تنتظرهم من خلال الشجن والفراق واللوعة والاشتياق.

لم يقف الكاتب عند هذا الحد، بل ينقلك بسياحة مطعمة بالشوق لمعرفة نهاية تلك المرويات، من خلال الدارمي والغناء، متجلبباً بالخوف والحذر من المجهول، فجسدها الراوي برومانسية العاشق من خلال مفردات جميلة محببة للقارئ، ومسكونة بوجعٍ ممنوع من خلال لوحاته التي ينقلها للمتلقي.

وأخيراً وليس آخراً، اقدم التهنئة القلبية لصاحبي ذياب آل غلال بمناسبة إصدار كتابه هذا،  واشد على يده واقول هلم بالمزيد إن شاء الله.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

كان العيد له مذاق خاص في الريف، وكان للعيد بهجة وفرحة في المجتمعات الريفية في سبعينيات القرن المنقضي، كانت القرية لها طقوس خاصة، في الاحتفال بالعيد، في المأكل والمشرب، والملبس، كانت الأسرة تقوم بتجهيز كحك وبسكويت العيد قبل ايام العيد، وكان يعتبر "عيب" ان تشتري الكحك جاهز من المحلات .كان يخبز ويجهز داخل كل منزل، وإذا كان لهم جار متوفي في الشارع لا يعملون كحك هذا العيد تضامناً بإعتبار ان اول عيد يطلع علي المتوفي، كان المجتمع يحافظ علي الشعور، وكانت اسرة المتوفي تضع الكنب الخشب "الآركة" امام المنزل ويجلس الناس، بمناسبة اول عيد للمتوفي، "وكانت الملابس من الكستور، والكتان وقليل من الصوف للرجال والاطفال كانت البيجامة وملابس للتلاميذ حتي الشباب الكبار في المدارس الثانوية للمتعلمين فقط، وكانت مخططة، والشباب والرجال جلباب كستور، كنا نلبس حذاء من شركة {باتا} كوتش وكنا نتزين به والرجال احذية كلاسيكية تصنع في محلات في القرية، والنساء احذية مصنوعه من البلاستيك وكان اشهرهم، [الاسطي بديع الجزمجي والآسطي حمزة الجزمجي واخيراً الأسطي محمد شتا] اهل القرية يتزاحمون عند محلات (الخياطة الترزي البلدي) ليلة العيد لاستلام ملابسهم وملابس اطفالهم، السيدات كانوا ليلة العيد يجهزون فطور العيد من خبز "رقاق" مصنوع في الفرن البلدي، والمحشي علي اقراص (الجلة الناشفة) المصنوعه من بقايا روث الماشية، وعيش لسان العجل من دقيق الذرة، وصنية الكنافة البلدي من القشطة والذبدة البلدي كل شيء كان يوجد داخل كل اسرة، اما اللحوم فكانت تربي في المنزل من الآوز والبط البلدي السوداني، فيتم اختيار (دكر بط ودكر اوز) ويمنع عنة الطعام مع الطيور، ويتم حبسة منفرداً ليتم عملية تسمينة بالفول والذرة وكانوا يطلقوا علي ذلك (تزقيط دكر البط للعيد)، وبعد إنتهاء صلاة العيد يخرج الناس ويقفوا طابور للسلام والتحية ثم تنتهي مراسم التهاني والسلام، يذهبوا جميعاً

علي المدافن لقراءة الفاتحة علي القبور ولم يتذكروا تجديد مباني المدافن الا يوم العيد،، ثم يرجعوا الي بيوتهم لتناول الفطور، وبعد إنتهاء وجبة الفطور يذهبوا افوجاً، لزيارة اهاليهم واقاربهم، واعطاء هدية العيد (العدية) من نقود،، وفي اليوم التالي يذهب البعض الي المدينة، لمشاهدة افلام العيد في السينما وكان يوجد في مدينتا ثلاث ادوار للعرض {سينما .ركس وسينما نصر وسينما عدن} وبعد حرب اكتوبر عام 1973 حدث إنقلاب إجتماعي مع بداية الهجرة الي خارج الوطن واصبح المجتمع الريفي مستهلك، واصبح متمرد علي الآرث والعادات والطقوس القديمة، وليس لدينا فقط، وهذا حدث في منتصف القرن الماضي: " قالها وكتب عنها احد الفلاسفة،، أوروبا تحتضر، عندما إنتهى زمن الحنين"ومع ثورة الاتصالات وحل الإبتكار مكان العاطفة، صار إنتظار إختراع هاتف جديد خبراً ساراً أكثر من إنتظار غائب، فرحة تقليب صفحات التواصل الاجتماعي علي الهاتف، أكثر متعة من تقليب صفحات الذاكرة، غابت مساحات التأمل وحلت مكانها مساحات الإملاء، حتى الحرية تخضع " لمعايير" النشر، تحول نصف البشرية إلى أسرى عادات في مساحة ضيقة. الفرح أمام محل الملابس والأحذية، قبل العيد أكبر من الفرح أمام ذكرى منزل آيل للسقوط دفنت فيه يوماً جزءاً من قلبك.

الحنين نوع من الوجع في المجتمعات الريفية، عندما يجعلك ترى الفوضي في مناسبات دينية..؟ في الحنين يهرب جزء منك إلى مكان أو شخص، تركض خلفه ولا تلحق، هو الشوق الفار أو طفل الأحشاء الهارب، تتحول من حطب الى جواد بري.في الحنين أنت لا تكون واحداً في أعماق عزلتك، بل أنت المتعدد والمكتمل ولو بصحبة طيف، من الغباء الدخول في معركة مع عاشق وحدته لانها ستحرق وهو لن يخسر شيئاً. الاستغناء.ماذا يفعل ضوء شمعة غاب طرفها الآخر..؟ عندما تتأمل جدار غرفة نومك وأنت تحت حنين جارف، ترى شخصين يرقصان على الجدار على لهب ناحل احدهما غائب، وتري ضوء شمعة يرتعش كقلبك لآن ضوء المصباح بلا شاعرية وهو اكتشاف حديث، وافضل وفت للحلم والكتابة على ضوء شمعة او صوت المطر وكلاهما من عالم عريق: ضوء شمعة، عزلة، ماذا تفعل أمام قنينة عطر فارغة كانت يوماً مليئة بالفرح..؟

أو أمام صورة منزل مهجور كان جسدك الثاني يوماً..؟ من الذي سرق الحنين اليوم..؟ إنها جريمة إختطاف كبرى منسية." الحنين بتعبير الشاعر الفلسطيني، {محمود درويش} أعراض جانبية: إدمان الخيال في النظر إلى الوراء".الحنين هو إنكار التلاشي، قد تنطفيء شمعة قبل سنوات في غرفة هادئة، لكن اللهب مشتعل في الذاكرة.الحنين عند الفلاسفة وعند اليونانية القديمة، بمعنى العودة والمعاناة، أي السعي للوصول الى طرف مبتور وغائب، كما يحدث في ظاهرة الجزء المبتور لدى الزواحف في السعي للعودة الى الأصل.

ترتعش كجناح فراشة مبتور في الرمل ولا تصل، لكنك ترتعش بصمت، بلا حنين كائن بشري مفرغ من الآدمية:

الحضارات الكبرى هي التي سيطر فيها الحنين، كل الأداب والفنون الكبرى قامت على الحنين. اختفت الدول والامبراطوريات التي قامت على القسوة والشر كالفاشية والنازية والشمولية، لأن الشر سطحي لا يصدر من أعماق بشرية صافية بل من تشوه وضحالة عكس الحياة والطبيعة، في حين الحضارات التي تأسست على الخير والضمير والحنين قائمة حتى اليوم: الفرعونية والسومرية والبابلية والأغريقية.. في لحظة ما، وفي غياب ما، لا يكون الواقع حقيقياً. حالة إنكار .

من يدري لماذا صار اللون الرمادي لون الحنين..؟ هل لانه مزيج الابيض والاسود ولا يكتمل في غياب أحدهما؟الحنين هو حداد في حالات، محاولة لكي تستعيد ما صدرته الى مكان أو أشخاص من عواطف ومشاعر غائبة الآن، تحاول استرداد ما أعطيته، نوع من وجع الفطام، شيء ما، خيط، انقطع أو انكسر فجأة وتوقف السياق.تلتقط الهواء بأصابعك لكي يكون الواقع كاذباً. عندما تشعر بالحنين، فأنت تأمل ولذلك الحنين عكس اليأس، اليأس إستسلام وثبات الماضي: الحنين أمل وتوق لكنه قد يكون حنيناً وتوقاً للمستقبل، لما لم يحدث اليوم. في عصر الرأسمالية المتوحشة ..!!

***

من يوميات كاتب في الارياف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

(دعونا نستقبلُ حجيجَ العزيزِ الغفار العائدينَ بعدَ أيامٍ بأفئدةٍ مُتألقةٌ بأنوارِ مَكَّةَ ومِمَّا أبصَروا فيها، بل تراهم تركوا قلوبَهم هنالكَ ولم تزلْ نَبَضَاتُها متَعلِّقةً بأستارِ كعبةٍ فيها. وإنَّهُ ما مِن يومٍ أشقُ على الُّروحِ من يومِ طوافِ الوداع فيها، ويا لوعةٍ ويا لأسىً كانَتا في صَدرِ رسولِ اللهِ ﷺ لمَّا هاجَرَ مِنها وفارقَ بَيتَ اللهِ فِيها). ولقد..

هَاجَرَ منها وكانَ هوَ خيرُ خَلْقِ اللهِ فيها وكانَ أقسطُ مَن يوفِّيها. هَاجرَ وكانَ هوَ الأصلُ فيها والنّجمُ فيها وكانَ أمينُها وكافيها. هَاجَرَ ومَا كانَ شائِنَها قطُّ ولا شَانِئَها ومَا كانَ قطُّ جَافِيها. هَاجَرَ صَبرَاً بِشَجَنٍ على حَزَنٍ وَإذ فيها كانَ مَنفِيها. هَاجَرَ ومَا هَجَرَ بل كانَ البَشيرُ فيها وكانَ رمزُ الوَفا فِيها. هَاجَرَ لأنّهُ للهِ كانَ مُوَحِداً وللّاتِ ولملَّةِ الآباءِ نافيها. هَاجَرَ وإذ لعابُ الكفرِ والشِّركِ فيها نَاقِعٌ في غَمْراتِ فِيها. هَاجَرَ وإذ خِطابُ التَّكبَرِ فيها واقِعٌ في ضِغثِ غَافِيها. هَاجَرَ وكانَ هوَ الحِلُّ والحَلُّ فِيها ومَا كانَ لافِيها. هَاجَرَ مِنها وليفُها عن مَوَدَّةٍ في جَنبَيهِ يُخفِيها. هَاجَرَ مِنها خيرُ مَن مَشَى فِيها وبالذِّكرِ كانَ مُشفِيها. هَاجَرَ بَأمرِ رَبِّهِ على مَعَادٍ أن يُزكّيها وأن يُوافِيها وأن يوفِّيها. هَاجَرَ على وَعْدٍ بعَوْدٍ لِنَارِ الكُفرِ يُخمدُها أبداً ويُطفِيها. هَاجَرَ وأبو بَكرٍ لخُطَى النُّورِ خَادمُها وحَاديها وقَافِيها. هَاجَرَ فكانَ ليثربَ البَدرَ، وكانَ فيها نورُ جبريلَ يُضفِيها. هَاجَرَ لطِيبةَ فكانَ هَاديها وبالقرآنِ من سَّوآتِها شَافِيها.

صَلَّى عَليهِ اللهُ ذو رِفعةٍ علياءَ مَالَها مَن يُدانيه. صَلَّى عَليهِ اللهُ ذو شِرعةٍ بيضَاءَ تَسمو في مَعانيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما انْبَلَجَت شَموسٌ في أقاصيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما اعْتَلَجَت طقوسٌ في نواصيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما أنعَمَ الجَليلُ ببَرَكةِ أرزاقِهِ فيها. صَلَّى عَليه اللهُ ما برعَمَ إِكْلِيلٌ بحَرَكةِ أوراقِهِ فيها. وصَلَّى عَليهِ اللهُ ما سَكَنَت نَفسٌ في تَراقيها.

مَكَّةُ، ما أدراكَ ما بَكَّة، ثمَّ ما أدراكَ ما مَكَّة!

فمَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار. إي ورَبيِّ، فَمَكَّةُ هيَ دِفقُ الأحرارِ رفقُ الأذكارِ أفقُ الأفكار توقُ الأبصَار فلن تَكونَ مثلِها دار.

مَكَّةُ عَلمٌ وعِلمٌ مَعلومٌ لدى الأشرارِ قبلَ الأبرار. فدُموعُ الأبرارِ بشَوقٍ ورَفدٍ تَنبَجِس إن يَمَّمَ شطرَها رَكبٌ وزَار، وجُموعُ الأشرارِ بِطَوقٍ وصَفدٍ تَنحَبِسُ إن كَمَّمَ عطرَها خَطبٌ وثَار.

كلّا واللهِ، ليس مثلَ مكَّةُ دَار، وذلكَ أمرٌ مَفهومٌ لدى الفُجّارِ ومعلومٌ بينَ يدي الأخيار، بأنَّها الدَّارُ التي لا تُعاتِبُ بل تُعاقِبُ على نيَّات السُّوءِ لا على الإظهار، فعِقابُ مَن أرادَ فيها بِظُلمٍ عذابٌ أليمٌ مُتَقَلِّبٌ في مقامع النَّار، بأنَّ مكَّةَ لَيسَ داراً كَمثلِ بقيةِ الدَّيار. فقد نَأى بِها رَبُّها ﷻ عن حُروبِ تَناطحِ الأقطَار وعن كروبِ تلافُحِ الأمصَار. وجَعلَها ﷻ مَقَرَّاً لسَناءِ السَّماءِ لمَن رَغِبَ الهُدى وبهِ استَنارَ واستَجار، وما جَعلَها ﷻ مَكَرَّاً لغَبراء الأمراءِ مِمَّن جَلَبَ الرَّدَى وبِهِ استَسارَ واستَطار.

ولقد أمَرَ ﷻ رافِعَ قَواعِدِها أن يُغادِرَها فما هيَ لهُ بمَثْوىً ولا سَكَنٍ ولا دَار. ولقد وُلِدَ فيها سَيِّدُ الأنامِ ﷺ وأُمِرَ أن يُهاجِرَها فما هيَ لهُ بمَأْوىً ولا وَطنٍ ولا دَار. ولقد أمَرَ ﷻ النَّاسَ جَميعاً أن يأتُوها حَجِيجَاً على ضَامرٍ أو راجلاً قد هَبَّ ثمَّ دَبَّ وسَار.

و "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ"، وكيفَ أغارَ الفيلُ وثَمَّ كيفَ استَدار

"أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ"، وعِبرةً مُزَلزِلَةً في أرجَاءِ الدِّيار

"وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ"، وأولاءِ همُ جُندٌ منَ اللهِ الوَاحدِ القهَّار

"تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ "، ثمَّ لعَذابٍ مًقيمٍ في النَّار، ذلكَ بأنَّ مكَّةَ لَيسَ كَمثلِها دَار.

وإنَّما مَكَّةُ لهيَ العَلامةُ الفارِقةُ بينَ صَباحٍ في أنوارِ الجَنَّةِ وصَياحٍ خلفَ أسوارِ النَّار، فمَن ثَوى في ثَراها طَوَّافاً صَالحَ البالِ، فبينَ أرواحِ أهلِ الجَنّةِ ومِن كلِّ تَّرَفِ يَختار، ومَن ثَغَا في ثَراها خَوَّافاً كالحَ الحَالِ، فبينَ أشباحِ أهلِ النَّار ومن كلِّ قَرَفِ يُضَار.

فبَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار.

***

علي الجنابي

 

عيدنا الكبير قادم، ومعه يأتي الخير وتأتي البركات.. ها هم الحجيج يستعدون ليوم التروية الذي يوافق يوم جمعة، وهو يوم عيد وحده، ثم للوقوف بعرفات، وقلوب المسلمين معهم تهفو للمناسك والشعائر المقدسة وكأنها تخطو مع خطوات الحجاج قدماً بقدم.

وكما هي السعادة الغامرة تتسرب من غلالة الحج الأبيض لقلوب مخبته، فهي تفيض على وجوهٍ أضاءها حب الله تتابع من بعيد ولم يُكتب لها حجٌ هذا العام، وانعكست في مآقي عيونهم صورة البيت الحرام والحمائم البيضاء حوله تطوف تكاد تطير بقلوبٍ سمي بها الاشتياق..

والذي يجمع بين هؤلاء الذين فازوا بالقرب والتطواف، وبين أولئك الذين تأجلت زيارتهم لبيت الله، أنهم جميعاً يرفعون أكفهم في دعاء مشترك يبشر بقرب نصر غزة على أعدائها.

آيات وكرامات

منذ عام واحد، أي منذ الوقوف السابق للحجاج على عرفات يبتهلون، هل كان يقع في تصورهم أن يحدث لإسرائيل ما حدث؟

أن تنكسر شوكة الجيش الإسرائيلي الذي أوهم الجميع بأنه أقوي جيوش المنطقة؟ أو أن يصبح رئيس وزراء إسرائيل على رأس قائمة المطلوبين للجنائية الدولية؟ أو أن تشتعل آلاف الأفدنة في شمال إسرائيل، وتسقط الصواريخ على وسطها، ويتساقط الضباط والجنود وتحترق بهم دباباتهم وتنفجر بهم الأنفاق والمباني في الجنوب؟! أو أن يحدث كل هذا في أقل من عام؟!

أن ينقسم الداخل الإسرائيلي على ذاته انقساماً ينذر بخراب عاجل: ثلاثة وزراء ينسحبون من مجلس الحرب، و|"لحريديم" يرفضون تجنيدهم في ظل نقص حاد في تعداد الكتائب المقاتلة، والشارع الإسرائيلي بين هارب من أتون الحرب وبين متظاهر يحاصر بيت نتنياهو مطالباً بصفقة. وهناك رأيان متباينان يقسمان الشارع ومجلس الحرب والقادة القدامَى، والبعد بين الرأيين كالبعد بين السماء والأرض: فمن قائل إن الهزيمة حدثت وأن على إسرائيل جرّ أذيال الخيبة وإعلان هدنة والاتجاه نحو صفقة تبادل أسري. ومن مغرد خارج السرب وخلف نتنياهو أنهم ذاهبون إلى نصر مؤكد، بينما فريق من الحاخامات يؤكد أن إسرائيل تخوض حرب وجود!

لم يكن مقاتلو غزة وحدهم في المعركة، فقد ظهرت آيات أكدت أنهم منصورون مؤيَّدون ببركات السماء، وأن دعاء الأكف الضارعة أتي ثماره؛ فكم شاهدنا من مشاهد مبهرة في هذه الحرب: مشاهد المسافة صفر، ومشاهد قتل الإسرائيليين بعضهم لبعض، والكلاب التي لا تشم المفرقعات، وكلاب شوارع فلسطين التي واجهت كلاب إسرائيل المدربة وأجبرتها على التراجع، والدبابير التي أسقطت كتيبة، والميناء الأمريكي الذي فككته الأمواج، ثم ثبت أنه ميناء حرب لا سلام!

عودة العيد.. عودة البشري

العيد رحمة وفرصة ربانية علينا أن نغتنمها ونستقبلها باستبشار وتفاؤل.

تلك النفحات التي تأتي من العام للعام تدعونا لنتعرض لها. الأضاحي تتجمع وتتكدس وخلفها صفوف من الفقراء والمحرومين في انتظار فرج قريب. وأموال الزكاة والأضحيات تتدفق من أيدي المسلمين الموسرين طمعاً في رحمة رب العالمين صاحب الملك والملكوت، زكاةً عن عافية يُرجَي بقاؤها، وعن مال يُرجي نماؤه، وعن ذرية ترجي لهم سعادة الدارين.

تلك النفحات والرحمات التي تنزل فتغشي الجميع، فقراء وأغنياء، مبتلون وأصحاء، مقاتلون في ثكناتهم أو آمنون نائمون في بيوتهم وعلى فرُشهم.

عامٌ هجريٌ يشيخ ويهرم موصياً ابنه، العام الهجري الجديد، أن يكون رحيماً بالضعفاء. وهو يختتم أيامه بنفحات من الرحمة الربانية الداعية للتفاؤل رغم كل شيء. فلا حزن يبقي، ولا ألم يدوم، وكل شيء في هذا الكون يدور، شأنه شأن الأرض وأفلاك السماء، ولا أحد يبقي على حال. فلننتهز الفرصة ونتعرض لنفحات الرحمة وبركات الوقت.

الآن يحدث

منذ أعوام مضت تحدثت عن أشياء رأيت فيمن رأوا أنها ستحدث، وأن الدلائل والمؤشرات تقول إنها قادمة وأن علينا أن نستعد..

قلت إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا قادم، وأن في هذا الأمر نذير بأن المهاجرين واللاجئين سوف يعانون تضييقاً قد يصل إلى حد الطرد، كما تدعو "ماري لوبان" زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا لطرد الغرباء! وقد نفاجأ بها على رأس السلطة خلفاً لماكرون.

ليست فرنسا وحدها التي انعكست فيها البوصلة السياسية، فقد حدث هذا في بريطانيا وهولندا وبولندا وألمانيا وإيطاليا، والأخيرة ظهر فيها مشهد أرعب المراقبين، عندما اجتمع آلاف الشباب في أحد الساحات رافعين أيديهم بالتحية الفاشبة! فهل تعود الفاشية لإيطاليا، والنازية لألمانيا، والترامبية لأمريكا، لنصبح على مرمي حجر من تكرار المشهد التاريخي الممهد لحرب عالمية؟!

منذ أعوام مضت قلت أن المؤسسات الدولية عرضة لانهيار وشيك بسبب ممارسات أمريكا الأحادية، والتي جعلت قرارات الأمم المتحدة حبراً على ورق، قلت هذا منذ حدث التخبط في تقارير منظمة الصحة العالمية أمام جائحة مشكوك في حقيقتها، ثم رأينا مؤسسة كالعدل الدولية والجنائية الدولية تتعرضان لضغوط تجعل منهما أضحوكة عالمية، فلا قرار إلا القرار الأمريكي، ولا صوت يعلو فوق صوت الفيتو. فماذا لو حدث صدام بين القوي الكبرى في العالم، هل نتوقع أن يبقي لتلك المؤسسات الدولية أي دور؟ أم سيختفي دورها ومن ثم تختفي مسمياتها؟!

ومنذ أن بدأ طوفان الأقصى قلت إن هذا نذير بانهيار الداخل الإسرائيلي، وأننا لن نلبث أن نجد تفككاً في مجلس الحرب يؤدي في النهاية لرحيل نتنياهو. قلت إن المشهد يتغير باستمرار.

ومن بين التغييرات القادمة المنتظرة، انهيار الدولار عالمياً. قد يحدث هذا فجأة أو على دفعات، لكنه سيحدث. وعلينا أن نستعد لتبعات مثل هذا الأمر. هناك دول تلهث بحثاً عن الذهب، ودول ذاهلة تفقده وتنفقه غير عابئة بمثل هذا المنعطف الاقتصادي المخيف.

روسيا الآن تحشد قواتها على تخوم بولندا، والناتو يحذر من حرب نووية وشيكة دفاعاً عن أوروبا الموحدة، بينما صعود اليمين المتطرف ينذر بتفكك اتحادها القديم! التغيير العالمي مستمر وهو الآن يحدث..

سنة الله في الكون

إنها سنة إلهية ماضية لا تعبأ برافضيها أو مقاوميها..

أن كل قوة أو حضارة تعلو لابد لها يوماً ما أن تشيخ وتذبل. وأن الأيام دول. فلا أمريكا باقية، ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا إسرائيل. كلها قوى تأفل وهي الآن تدلف إلى منعطف التغيير. ولن تلبث الأرض أن تدور دورتها تصعد على إثرها دول وتنهار غيرها.

إننا نشهد بأعيننا كيف تتساقط إسرائيل حجراً بعد حجر. ولن نلبث أن نشاهد انهيارها الكامل بعد سنوات أقل من أصابع اليد الواحدة. أقول هذا مندهشاً متعجباً من المهرولين نحو التطبيع مع دولة مآلها الانهيار والزوال! فهل عميت القلوب والبصائر لهذا الحد؟!

على كل حال جاء العيد، وعلينا أن نرتدي الجديد. نرتدي عقلاً وفكراً مختلفاً يلائم ما يحدث حولنا من تغيير، نرتدي جلداً رقيقاً يشعر بمعاناة الفقراء والثكالي والمشردين والضعفاء، بدل الجلود السميكة والقلوب المتحجرة القاسية، نرتدي معاطف الرحمة وثياب العطاء وملابس الكرم والجود.

ها هو العيد الكبير قادم. أتفاءل وأستبشر بأن الفرحة الكبيرة قادمة ووشيكة. وأدعو الرحمن أن تعم الفرحة أرجاء البسيطة. وأن تسفر سنة التدافع عن مشهد أفضل من سابقه. وأن يخرج من باطن المشهد العالمي القاتم نور يضئ ما بين المشرقين.

أحمل بين ضلوعي قلب متفائل لا يخيفه تكاثف الظلام ولا يقلقه تكاثر الخطوب، طالما للكون ربٌّ مهيمن يدبر الأمر ويرحم العباد ويبدل الأحوال بقولة: "كن".

***

د. عبد السلام فاروق

الكاتب في. إس. نايبول في سطور

السير فيديادار سوراجبراساد نيبول، المعروف باسم في. إس. نيبول، كاتب بريطاني من مواليد ترينيداد ويُعتبر أحد أعظم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين. تتناول أعمال نيبول موضوعات الاستعمار والمنفى والهوية الثقافية، وغالبا ما يستعين بتجاربه الخاصة كأحد أصول الهنود الذين يعيشون في منطقة البحر الكاريبي ثم في إنجلترا لاحقا. تتميز كتاباته بذكائها الحاد وصدقها الشديد، مما أكسبه سمعة باعتباره أستاذا للغة الإنجليزية.

تشمل أشهر أعمال نيبول روايات مثل "منزل للسيد بيسواس" و"منعطف في النهر" . و"منعطف في النهر" التي نالت استحسانًا واسع النطاق. في هذه الأعمال، يتعمق نيبول في تعقيدات المجتمعات ما بعد الاستعمارية وصراعات الأفراد المحاصرين بين التقاليد والحداثة. تتميز كتاباته بالاهتمام الدقيق بالتفاصيل والفهم العميق للطبيعة البشرية، مما يجعل شخصياته وخلفياته تبدو حية ونابضة بالحياة على الصفحة.

على الرغم من فوزه بالعديد من الجوائز الأدبية، بما في ذلك جائزة نوبل في الأدب عام 2001، فقد قوبلت أعمال نايبول أيضًا بالجدل والنقد، وخاصة لتصويرها للمجتمعات غير الغربية ومعاملتها للنساء. ومع ذلك، فإن صدقه الذي لا هوادة فيه واستعداده لمواجهة الحقائق غير المريحة حول العالم أكسبته أيضًا حشدًا من المعجبين والمعجبين المخلصين. إن إرث نايبول ككاتب هو إرث التعقيد والتناقض، مما يعكس تعقيدات وتناقضات التجربة الإنسانية نفسها.

القدر والمصير في منعطف في النهر:

في رواية "منعطف في النهر" للكاتب في. إس. نايبول، يلعب موضوع القدر والمصير دورا محوريا في تشكيل حياة الشخصيات داخل الرواية. يجد البطل، سليم، نفسه محاصرا في شبكة من الظروف التي يبدو أنها محددة مسبقا بقوة خارجة عن سيطرته. طوال الرواية، يتعمق نايبول في تعقيدات القدر والمصير، ويستكشف كيف تؤثر على قرارات ونتائج حياة الشخصيات.

في بداية الرواية، يترك سليم منزله في الهند لبدء حياة جديدة في المدينة عند منعطف النهر. وبينما يستقر في محيطه الجديد، يدرك بسرعة أن مصيره مرتبط ارتباطا وثيقا بالمشهد السياسي والاجتماعي للمدينة. تبدو الأحداث العاصفة التي تتكشف في المدينة، مثل صعود الدكتاتور واندلاع الاضطرابات المدنية، وكأنها مقدر لها مسبقًا، مما يجعل سليم يشعر بالعجز ضد القوى المؤثرة.

بينما يتنقل سليم بين تحديات وعدم اليقين في حياته الجديدة، يتصارع مع فكرة القدر والمصير. يتساءل سليم عما إذا كانت أفعاله لها أي تأثير حقيقي على مستقبله أم أنه مجرد بيدق في لعبة كونية أكبر. يطرح نايبول هذه الأسئلة في المقدمة، ويتحدى القارئ بالتفكير في دور القدر في تشكيل حياة البشر.

على مدار الرواية، يقدم نايبول القدر والمصير كموضوعات متكررة متشابكة مع صراعات الشخصيات ورغباتها. غالبا ما تملي قوى القدر علاقات سليم بمن حوله، مما يؤدي إلى لحظات من الانتصار واليأس. على الرغم من بذله قصارى جهده للسيطرة على مصيره، يجد سليم نفسه منجرفًا في تيارات القدر، غير قادر على الإفلات من قبضته.

يثير استكشاف نايبول للقدر والمصير في "منعطف في النهر" أسئلة أعمق حول طبيعة الوجود البشري. هل مصيرنا محدد مسبقا، أم أننا نملك القدرة على تشكيل مصائرنا من خلال اختياراتنا وأفعالنا؟ تطرح الرواية هذه الأسئلة الفلسفية، وتدعو القراء إلى التفكير في تعقيدات الحياة ودور القدر في حياتنا.

مع تقدم الرواية، يتطور فهم سليم للقدر والمصير، ويتوج بإدراك عميق للترابط بين كل الأشياء. ويصل إلى إدراك أن حياته ليست سوى جزء صغير من نسيج أكبر، منسوج معًا بخيوط القدر والمصير. ويجلب له هذا الإدراك شعورا بالسلام والقبول، مما يسمح له بإيجاد العزاء في معرفة أن حياته جزء من كل أكبر.

إن تصوير نايبول للقدر والمصير في "منحنى في النهر" هو تذكير مؤثر بالرقصة المعقدة بين الإرادة الحرة والقضاء والقدر. ويكافح الشخصيات في الرواية مع تحديات التنقل في حياتهم في سياق هذه القوى الكونية، ويصلون في النهاية إلى تفاهم مع حدود الوكالة البشرية في مواجهة القدر.

في النهاية، يعمل استكشاف نايبول للقدر والمصير في "منحنى في النهر" كتأمل قوي في التجربة الإنسانية. من خلال عدسة صراعات شخصياته وانتصاراتها، يدعو نيبول القراء إلى التفكير في تعقيدات القدر والمصير، والتأمل في أسرار الحياة التي تقع خارج سيطرتنا. تعمل الرواية كتذكير مؤثر بالترابط بين كل الأشياء، والقوة الدائمة للقدر في تشكيل مصائرنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

دور الدكتور لمام بوسيف والدكتورة زهرة سعد

منتدى أوسلو للحرية، الذي يُعقد سنويًا في العاصمة النرويجية، يمثل أكثر من مجرد مؤتمر. إنه منصة دولية تجمع المدافعين عن حقوق الإنسان، الصحفيين، الفنانين، رواد التكنولوجيا، وقادة العالم لمشاركة قصصهم والتفكير في سبل توسيع دائرة الحرية وتحقيق الإمكانات البشرية عبر الكرة الأرضية. يسلط المنتدى الضوء على الكفاح المستمر ضد الطغيان ويحفز الحضور على التعاون نحو عالم أكثر سلامًا وازدهارًا. النسخة السادسة عشر من المنتدى، المقرر عقدها في يونيو 2024، تحمل شعار "Reclaim Democracy". هذا الشعار يبرز الدور الحيوي الذي يلعبه كل فرد في حركة الديمقراطية العالمية. يناقش المنتدى تحديات الانحدار الديمقراطي العالمي وصعود الأنظمة الاستبدادية، ويبرز أهمية مشاركة الدكتور لمام بوسيف والدكتورة زهرة سعد من المغرب. يمثلان صوت المجتمع المدني في العالم العربي، مشددين على الحاجة إلى تعزيز الديمقراطية والحريات الفردية في المنطقة. الدكتور بوسيف، باحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس، والدكتورة سعد، المكرمة من البعثة الألمانية بالاتحاد الأوروبي، قد شاركا في العديد من المنتديات الدولية، وهذا يعكس الطموح والنجاح الذي يمكن أن يسهم به المغاربة في الساحة العالمية. يسلط تعاونهما في منتدى أوسلو الضوء على الدور الفعّال للمغرب في دعم وتعزيز القيم الديمقراطية والحريات في جميع أنحاء العالم. اللقاءات التي عقدت على هامش المنتدى مع العديد من الشخصيات الدولية تظهر التزام المغرب بقيادة مبادرات تعزز التفاهم والتعاون الدولي. إن التعاون الجديد الذي يُعد بين منظمة الشباب الرائد ومنظمة شبابية نرويجية لتدريب الشباب على قضايا مختلفة يُعد خطوة مثالية نحو تفعيل هذه الأهداف، ويُظهر كيف يمكن للشراكات الدولية أن تُسهم في تحقيق تغيير إيجابي. بهذه الروح الملهمة، يستمر منتدى أوسلو للحرية في تعزيز جهوده لتوسيع الحرية والديمقراطية، مما يُشكل فرصة ثمينة للقادمين من جميع أنحاء العالم للتعلم، التواصل، والمشاركة في الكفاح من أجل مستقبل أكثر حرية وعدالة.

***

زكية خيرهم

 

تَفوَّهَ الفَتى حَذوي بتَأفُّفٍ على معيشةِ أسرٍ مُهجَّرةٍ في الخيام كثيرة، على ما فيهم من قلَّةِ مأكلٍ وبلَّةٍ مشربٍ وذلَّةِ ملبسٍ فقيرة، فقلتُ؛ "لا تكُ يا فتى مثلكَ كمثلِ بغلِ الديرة، لا هَمَّ لهُ ولا تَفَكُّرَ إلّا في بطنٍ وفرجٍ وغفوةٍ على فُرشٍ وثيرة، لكنَّهُ غافلٌ عن تَدَبُّرٍ في آهاتِ قَلقٍ لربِّ أسرةٍ في خَيمةٍ محتَضِنٍ بناتَهُ في ذا خليطٍ هجينٍ خشيةَ ذواتٍ فاجرةٍ أو شِريرة، وحاله كحالِ طائرٍ احتضنَ أفراخه تحت جناحيهِ في ليلةِ شتاءٍ مطيرة. وإذاً، فعليك يا فتى ان تنظرَ على ما أحاطَ بكَ من أحوالٍ بوعيٍ عميقٍ ومن نوافذَ بصيرة، وليسَ من نافذتي بطنٍ وفرجٍ وبعينٍ دنيئةٍ وحقيرة. ثمَّ استدرتُ عنِ الفتى فحرَّرتُ هِذي المقالةَ بحروفٍ بلوعةِ الأسى جديرة.

وإذ جاءَ من أطرافِ الحَيِّ بعدَ انقضاءِ قيلولةِ الظَّهيرة، رجلٌ يسألُ أهلَ الحيِّ بنَظرةٍ مُستَغرِبةٍ ذاتِ حِيرة، فَقَالَ "أَنبِئُونِي مَن هوَ في النَّاسِ بَغْلُ الدِّيرَة"؟

لا ريبَ أنَّهُ سائلٌ قد أتى ليستَعلِمَ بشَفَقَةٍ مُستَشيرَة، أو رُبَما حّضَرَ ليستَفهِمَ، أو لرُبَّما قد جاءَ ليَستَجيرَ. ولا شَكَّ أنَّهُ سؤالٌ عَويصٌ يُصَيِّرُ الذَّاتَ منهُ نافرَةً مُشْمَئِزَّةً ومُستَطيرَة، وجوابُهُ بحَاجةٍ لتَمحيصٍ على طَاولةِ بَحثٍ في المَقهى مُستَديرَة، ذاكَ أنَّ البغالَ كَثُرَتْ ملامحُها وصِفاتُها في تهي أيامٍ مُستَثيرة، وقد كثُرَ تُجوالُها في دُروبِ الدِّيرة.

ثُمَّ بعدَ استِحضارِ لمَا في مُتُونِ الأحدَاثِ من أحوالٍ عَسيرةٍ، ومِمَّا في عُيونِ التُّراثِ من أقوالٍ بَصيرَة، تَجَلَّتْ لأشياخِ المَقهى فنونُ الإجابةِ عن خَميرة، وتَحَلَّتْ بدلائِلَ دامِغَةٍ وبحُججٍ مُستَنيرَة. ولقد هالَ أهلُ المَقهى ما جَفَّتِ الإجَابةُ عن شؤونٍ خطيرَة، وأوجَفَتهُم مِن أحوالٍ بشُجونٍ كثيرة، وكأنَّهمُ ما سَمِعوا من قبلُ قطُّ عن هكذا صفاتٍ لبَغلِ الدِّيرَة. فقد ظَنّوا أنَّ بَغلَ الدِّيرَة هو الفقيرُ البئيسُ الغبيُّ القانِعُ بحَصيره، أوِ الثَّريُّ الأنيسُ البَغيُّ المانِعَ لعَصيره. لكنَّهمُ اليومَ عَرَفوا من طاولةِ أشياخِهم المُستديرة، أنَّ بَغلَ الدِّيرَة ليسَ هو الزَّعيمُ الذي يظنُّ أنَّ صفيرَ المُغرِّدينَ لهُ هو تَفخيمٌ لهُ وتعظيمٌ بخالصٍ مِن ولاءاتٍ قَريرة، وتراهُ يَتغافَلُ عن خَطْبِ ذَبحِهِ كنَعجَةٍ في ليلةٍ شتويةٍ مَطيرة، مِن ذاتِ مُغَرِّديهِ وعَلَى حِينِ غِرَّةٍ وبلا طَحيرَ. وأنَّ البَغلَ ليسَ هوَ مِنَ المُغَرِّدينَ بينَ يدي كلِّ زعيمٍ كي ينالوا من فتاتِهِ ومن دَنانيره. بلِ البَغلُ هوَ امرؤٌ ثالِثٌ خانسٌ دونيٌّ وفي سِرِّهِ يَتَمَنَّى بتَوتِيره؛ "يا ليتَني كنتُ مُغرِّداً معهُم فأحظى مِن تَصاويره، ولعلّيَ أكونُ الوزيرَ أو أكونُ السَّفير".

وكذلكَ فإنَّ بَغلَ الدِّيرَة ليسَ هو الذَّميمُ الذي يظنُّ أنَّ الدَّجلَ رهانٌ كافِلٌ لتَدَفُّقِ المَالِ وتَكثِيره، والتَّدليسَ حِصانٌ حافِلٌ بتَألُّقِ الجَاهِ وعَبيره، وتناسى أنَّ المالَ وسيلةٌ مُقَدَّرةٌ تُربَى من ربِّ السَّماءِ بقويمِ تقدِيره، ونَسيَ أنَّ الجَاهَ فسيلةٌ تأبى أن تُسقى بماءٍ من سقيمِ فكرهِ وتدَبيره. ولا البغلُ هوَ مِنَ انخَدَعَ بذاكَ الدَّجَلِ وتَنانيره وبالتَّدليسِ وأساريره، رُغمَ أنَّ فطرَةَ اللهِ ﷻ تمنَعُهُ عن إيمانٍ بالدَّجلِ وتَنظيره، وتردَعُهُ عن عملٍ بتَدليسٍ مَهما قلَّ تَقطيره. بلِ البَغلُ هوَ ثالِثٌ خَفِيٌّ جالِسٌ وفي سِرِّهِ ويَتَرَنَّى منهم بتَمريرة، ينالُها فيفوزَ بخطفَةٍ ذاتِ دَجلِ فيحوزَ بها على حياةٍ ماجِنةٍ أو هكذا يظنُّ تَبريره.

ثُمَّ ما كانَ بَغلُ الدِّيرَة هو اللئيمُ الظَّانُّ أنَّ العِلمَ شهادةٌ يَمتَطيها كي يَملأ بها جيبَهُ من دَرَاهِمَ سُحْتٍ حَقيرة، ويَتَجاهَلُ أنَّ بُراقَ العِلمِ من نورٍ لا يمتَطيهُ إلّا ذوو نفوسٍ زاكيةٍ خَبيرة. وما كانَ البغلُ هوَ المُعَلِّمُ العَقيمُ الذّي يُسِّرُ في نَفسِهِ القولَ؛ "لَيْسَ لِي مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما دامَ النَّاسَ كانوا كافرينَ بأنوارِ العُلومِ المُثيرة. بلِ البَغلُ هوَ ثالِثٌ عابِسٌ على العِلمِ وتَحبيره، وتراهُ يوصي أولادَه باقتفاءِ خطواتِ ذاكَ اللئيمِ وأن يَتَّخذوهُ قدوةً مُعتَبَرَةً لهم وكبيرة.

ثُمَّ ليسَ بَغلُ الدِّيرَة هو البهيمُ الذي لا يَتفَكِّرُ بحياةِ أسرٍ في الخيامِ مُهَجَّرةٍ إلّا فيما يّختَصُّ بمأكلٍ وملبسٍ وبغفوةٍ بجنسِ الأنامِ جديرة، لكنَّهُ غافلٌ عن تَدَبُّرٍ في واهاتِ القَلقِ لربِّ أسرةٍ في خَيمةٍ محتَضِنٍ بناتَهُ في ذا خليطٍ هجينٍ خشيةَ أنفسٍ فاجرةٍ شِريرة، مثلما يحتضنُ الطَّائرُ أفراخَهُ في سمومِ ريحٍ نَحسةٍ وصَريرة.

وثَمًّةَ أزواجٌ وأزواجٌ مِن بغالِ الدِّيرةِ، وأزواجٌ كثيرةٌ وكثيرة، لا غَمَّ لها إلّا تَربيةُ الكِرشِ وتَدويره، وتَسليَةُ الفَرْجِ وتَثويره، ثُمَّ لا هَمَّ لها إلّا التَمَلُّصُ والتَّعنفًصُ في دُروبِ الدِّيرة، وَلَئِن سَأَلۡتَهُم عَنِ الرجولةِ وعنِ الشَّهامةِ والغيرة، لَيَقُولُنَّ نحنُ فَلقُ الشَّهامةِ ونحنُ ألقُ الغيرة.

﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾

ثمَّ نَهضَ ذلكَ الرَّجلُ السَّائلُ عن ملامحِ بَغْلِ الدِّيرَة، فأسَرَّ في نفسِهِ كلماتٍ قَصيرة؛

"بئسَ هِذي الدِّيرة من ديرةٍ ضَريرة، يأكلُ المرءُ فيها ثُمّ ينامُ ليَستَمتِعَ بشَخيره، وما أكثرَها من بغالٍ خفيَّةٍ في هِذهِ الدِّيرة"!

***

علي الجنابي

في رواية جورج أورويل الشهيرة "1984"، يلعب مفهوم الذكاء الاصطناعي دورا مهما في تشكيل مجتمع أوشينيا الديستوبي. وفي حين لم تظهر تقنية الذكاء الاصطناعي صراحة في الرواية، فإن موضوعات المراقبة والسيطرة والتلاعب ذات صلة وثيقة بمجتمع اليوم، مما يجعل من الرائع استكشاف كيف كان من الممكن تنفيذ تقنية الذكاء الاصطناعي في عالم "1984".

من خلال استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، كان بإمكان الحزب في "1984" إنشاء بنية تحتية للمراقبة أكثر قوة. وبدلا من الاعتماد على عملاء بشريين مثل شرطة الفكر لمراقبة وتتبع تحركات وسلوكيات كل مواطن، كان من الممكن نشر الذكاء الاصطناعي لأتمتة هذه العملية، وتعزيز قدرة الحزب على قمع السكان والسيطرة عليهم. كان من الممكن أن يكون نظام المراقبة المدعوم بالذكاء الاصطناعي قادرًا على تحليل كميات هائلة من البيانات في الوقت الفعلي، والإشارة إلى أي انحرافات عن السلوك وأنماط التفكير المفروضة من قبل الحزب.

علاوة على ذلك، كان من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالواقع وتشويهه بشكل أكبر في "1984". كان من الممكن أن تستغل آلة الدعاية التابعة للحزب، المعروفة باسم وزارة الحقيقة، تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لفبركة أكاذيب ومعلومات مضللة أكثر إقناعا، مما يطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال إلى حد أكبر. ومن خلال الاستفادة من المحتوى الذي يولد بواسطة الذكاء الاصطناعي، كان من الممكن أن يستخدم الحزب التضليل إلى درجة غير مسبوقة، مما يزرع الارتباك والشك بين السكان ويعزز سيطرته على السرد.

في منظور مستقبلي، كان من الممكن أيضا استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتعزيز سيطرة الحزب على الأفكار والمعتقدات الفردية في "1984". ومن خلال استخدام الخوارزميات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، كان من الممكن أن يراقب الحزب ويحلل أنشطة كل مواطن على الإنترنت، وتفاعلاته الاجتماعية، وحتى الاستجابات الفسيولوجية لقياس مدى توافقه مع أيديولوجية الحزب. ومن خلال التنبؤ بالسلوك المخالف واستباقه، كان من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتشكيل وتشكيل أفكار عامة الناس، وإطفاء أي أثر للتفكير المستقل أو التمرد.

وكان من الممكن أن تعيد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تشكيل ديناميكيات القوة والقمع في "1984". كان اعتماد الحزب على الأنظمة التي تسيطر عليها الذكاء الاصطناعي ليعزز هيمنته ويقضي على أي تهديدات محتملة لحكمه. ومن خلال مركزية السيطرة على جميع جوانب المجتمع من خلال الذكاء الاصطناعي، كان الحزب ليعزز سلطته بشكل أكبر، ويجعل أي شكل من أشكال المقاومة عقيما. وكان من الممكن أن يحول انتشار الذكاء الاصطناعي في "1984" الكابوس الديستوبي إلى واقع لا مفر منه، دون أي مجال للاختلاف أو التخريب.

ومع ذلك، كان من الممكن أن يؤدي دمج الذكاء الاصطناعي في "1984" أيضا إلى إدخال تحديات وتعقيدات جديدة لنظام الحزب القمعي. ولأن أنظمة الذكاء الاصطناعي مستقلة بطبيعتها وتتعلم ذاتيا، فقد تشكل تهديدا لسيطرة الحزب من خلال التطور إلى ما هو أبعد من معاييرها المقصودة. وكان من الممكن أن يؤدي عدم القدرة على التنبؤ بالذكاء الاصطناعي وقابليته للتكيف إلى جعل تكتيكات المراقبة والتلاعب التي ينتهجها الحزب عتيقة، مما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة وردود فعل عكسية محتملة من السكان. وكان من الممكن أن تتحدى قبضة الحزب الحديدية على السلطة نفس التكنولوجيا التي سعى إلى استغلالها.

من منظور مستقبلي، كان من الممكن أن يؤدي تنفيذ الذكاء الاصطناعي في "1984" إلى إشعال سباق تسلح تكنولوجي بين الحزب وخصومه. ومع تطوير الفصائل الأخرى داخل أوقيانوسيا أو الدول العظمى المتنافسة لقدراتها الخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، كان من الممكن أن يتحول ميزان القوى، مما يخلق ساحة معركة جديدة في حرب السيطرة. كان من الممكن أن يؤدي السعي الدؤوب إلى تفوق الذكاء الاصطناعي إلى تصعيد التوترات والصراعات، مما يزيد من زعزعة استقرار العالم الهش بالفعل في "1984" ودفعه إلى حافة الانهيار.

وكان من الممكن أن تثير التداعيات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي في "1984" أسئلة عميقة حول طبيعة الإنسانية والإرادة الحرة. من خلال تقليص الأفراد إلى مجرد نقاط بيانات وخوارزميات، كان من الممكن أن يجرد الذكاء الاصطناعي استقلاليتهم وفرديتهم، ويحولهم إلى تروس مطيعة في آلة الحزب. كان من الممكن أن يؤدي التأثير اللاإنساني للذكاء الاصطناعي إلى تآكل جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانا في "1984"، تاركا وراءه مجتمعا بلا روح خال من التعاطف والرحمة.

يفتح التكامل الافتراضي للذكاء الاصطناعي في رواية جورج أورويل "1984" مجموعة لا حصر لها من الاحتمالات والتحديات التي كان من الممكن أن تعيد تشكيل العالم الديستوبي الذي تصوره الرواية بشكل جذري. كان من الممكن أن يؤدي استخدام الحزب لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لمراقبة الناس والتلاعب بهم والسيطرة عليهم إلى توسيع نطاقه وتعزيز هيمنته، مع إدخال مخاطر ونقاط ضعف جديدة أيضا. كان من الممكن أن يثير إدخال الذكاء الاصطناعي في "1984" أسئلة مهمة حول القوة والحرية وحدود التكنولوجيا، مما يقدم قصة تحذيرية عن العواقب المحتملة للتقدم التكنولوجي غير المقيد. بينما نواصل قراءة هذا الكتاب، فإننا ندرك أن الذكاء الاصطناعي قد يكون له تأثير كبير على مستقبلنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تغازلني الذكريات المتراكمة بلطف، وتغمرني الرغبة الأكيدة في الإنصات إلى أصداء الذكريات التي تتراقص في ذاكرتي، ويحملني الحنين الدفين بين جوانحي على أجنحته المشرعة نحو عوالم مجهولة، فأغدو كالسفينة التي اخترقت الرياح العاتية شراعها، ففقدت بوصلتها ووجد ركابها أنفسهم فريسة أمواج متلاطمة يقارع بعضها بعضا بعنف وصخب. أحاول الإنصات إلى نداء نفسي المتبلج من أعماقها، فترق مشاعري وتنفلت دمعة متلألئة من بين الجفنين، وتقف الكلمات متداخلة على عتبة الشفتين، تنتظر دورها للانفلات من ربقة الكتمان، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، من الغياب إلى الحضور، بيد أن ثمة حاجزا يصدها عن الانفلات والوجود، ويدفعني إلى الحيرة والتردد بين البوح بما تتلظى به نفسي، والكتمان المحرق الذي يتملك النفس الهائمة بين أشباح بلا أرواح.

يحضرني الماضي مثقلا بأحداثه، ويتبدى لي المستقبل غيمة حبلى بأحداث سديمية، يصعب تكهن شكلها والقبض عليها في لحظة زمنية محددة، فتولد حالة ضياع وجودية، واغترابا متعدد التجليات. تسعى النفس جهدها إلى الإحساس بالحاضر، واتخاذه نقطة ارتكاز تخول لها استعادة ماضيها واستشراف مستقبلها. إلا أن هذه النفس تتلاشى في رحلتها بين ماض ولى وأدبر، ومستقبل غائم ومجهول، بين الحنين إلى ذكريات ظلت وشما على الذاكرة والوجدان، وبين التشوف إلى لحظة متمنعة كلما حاول الخيال القبض عليها تاه في دروبها الغائمة.

تساءلت يوما إن كان بإمكان النفس أن تخلف ماضيا مثقلا وراءها، وتخوض رحلتها نحو الغد بكل ثبات وإصرار، وعن الصيغة التي يمكن أن تتجلى فيها حياة النفس وقد تخففت من عبء يجثم عليها. فهل النفس مجبرة على حمل ماضيها من البداية إلى النهاية؟ أم أن الماضي هو الأساس الذي تبني عليه حاضرها ومستقبلها؟ ألا يمكن أن تحقق النفس وجودها وكينوتها في الهنا والآن بعيدا عن الذكريات التي يعلو بعضها بعضا، ويتراكم بعضها على بعض مشكلا طبقات سميكة تثقل كاهل النفس، وتحجب عنها الرؤية الوضاءة الواضحة؟

يفرض ترميم الذاكرة نفسه بقوة، ويبقى السبيل الأمثل لملء الثغرات التي تجعل الماضي مؤلما يدفع النفس إلى الاغتراب عن حاضرها ومستقبلها، أو مبهجا يحملها على تناسي اللحظة الآنية والمستقبلية، والرغبة الشديدة في العودة إلى أحضان ذكريات لا وجود لها إلا في ذاكرة تتأبى عن النسيان. وهذا حال النفس التي يتجاذبها الماضي؛ إذ تحاول جاهدة تجاوزه تارة، غير أنها ترغب في تكراره طورا آخر.

تعيش النفس على البقايا، وتبني كينونتها على الحطام، وتتغذى على المنى الهاربة، وتختبر وجودها بالعزلة والرهبة، وتؤثت عالمها الجواني بما يتراءى من أصداء العالم البراني، بيد أنها تكتشف حجم نقصها، فتتوسل بالأنفس الأخرى بحثا عن كمالها، ورغبة في تفردها وتميزها؛ لتدخل تجربة جديدة تقوم على الأخذ والعطاء، والتحلي والتخلي، لتتجلى وقد صارت نفسا أخرى.

تعد التجربة الوجودية رحلة بين التشكل والتغير المستمرين؛ إذ تتحلى النفس بمقومات وجودية متولدة عن تجربة الاحتكاك، وتتخلى عن مقومات سابقة منبثقة عن العزلة والرهبنة. تدفع هذه التجربة الوجودية النفس إلى التمظهر المتعدد، والوجود في زمان ومكان مختلفين، ومن ثم، تصير نفسا قادرة على تبصر ماضيها ومستقبلها، والوقوف على ما تملكته قديما وحديثا، وما فقدته في غمرة تجاذبات وجودية مستمرة.

يحمل هذا التجاذب النفس على الحنين الدائم إلى ما كانت عليه، والرغبة في تحصين ما اكتسبته في حاضرها، لذلك ترى في الماضي وجها مضيئا يشكله الحنين، وفي الحاضر نقصا مخيفا يصوره الخوف من الفقد والتشوه، من فقد الكينونة في رحلة التجاذب والاحتكاك، ومن تشوهها بفعل ما تفقده من مقومات قديمة، وتتملكه من مقومات جديدة.

تبدو النفس شفافة في بدايتها، وتتلون بظروفها المتغيرة أثناء رحلتها، والآتي تجليها المتعدد بتعدد تجاربها وظروفها، وتغيرها بتغير الأنفس الأخرى التي تتفاعل معها. ومن ثم، لا تحقق كينونتها وتوازنها إلا في رحلة الذهاب والإياب بين لحظة مدبرة وأخرى مقبلة. وفي هذه الرحلة، لا مناص من الفقد والأخذ، والحنين والرغبة.

يظل الماضي عزاء للنفس البشرية في ظل حاضر لا ترضاه، ولا يحقق طموحها وآمالها، والمستقبل نورا تهتدي به في ظلمة رحلتها الوجودية؛ لذلك، لا تهدأ حركتها في المراوحة بين الماضي والمستقبل، بين الحاضر الغائب، والغائب الحاضر، بين ما كان واقعا معاشا فلم يبق إلا أثره، وما سيكون غيمة حبلى بالمجهول، ليغدو واقعا معيشا.

***

محمد الورداشي

 

الطبقة الاجتماعية هي موضوع رئيسي في رواية "وردة لإميلي" للكاتب ويليام فوكنر. تتبع القصة حياة وموت إميلي جريرسون، وهي امرأة جنوبية من عائلة ثرية ومحترمة. طوال القصة، يستكشف فوكنر تأثير الطبقة الاجتماعية على حياة إميلي وعلاقاتها مع الآخرين في بلدة جيفرسون.

إحدى الطرق التي تتجلى بها الطبقة الاجتماعية في القصة هي من خلال عزلة إميلي عن بقية المجتمع. بصفتها عضوا في الطبقة العليا، يُنظر إلى إميلي على أنها متفوقة على الآخرين في المدينة وتحظى باحترام كبير من قبل سكان المدينة. هذا الشعور بالتفوق يدفع إميلي إلى إبعاد نفسها عن الآخرين، مما يؤدي في النهاية إلى أن تصبح منعزلة داخل منزلها.

علاوة على ذلك، تتجلى الطبقة الاجتماعية أيضا في الطريقة التي يعامل بها سكان المدينة إميلي. على الرغم من سلوكها الغريب ورفضها الامتثال للمعايير الاجتماعية للمدينة، لا تزال إميلي تحظى باحترام كبير بسبب ثروة عائلتها ومكانتها الاجتماعية. إن معاملة إميلي كعضوة في الطبقة العليا تعزز أهمية المكانة الاجتماعية في بلدة جيفرسون.

بالإضافة إلى ذلك، تتأثر علاقات إميلي بالرجال في القصة أيضًا بالطبقة الاجتماعية. عندما تتورط إميلي عاطفيا مع هومر بارون، وهو رجل من الطبقة الدنيا، يشعر سكان البلدة بالصدمة وعدم الموافقة على العلاقة. هذا عدم الموافقة متجذر في التسلسل الهرمي الاجتماعي للبلدة، حيث يعتقد سكان البلدة أن إميلي يجب أن تكون مع رجل من طبقتها الاجتماعية.

علاوة على ذلك، فإن صراعات إميلي للحفاظ على مكانتها كعضوة في الطبقة العليا واضحة أيضًا طوال القصة. مع مرور الوقت وتضاؤل ثروة عائلتها، تُجبر إميلي على قبول مستأجر من أجل تلبية احتياجاتها. هذا الانحدار في المكانة الاجتماعية يعزل إميلي بشكل أكبر عن بقية المجتمع ويسلط الضوء على أهمية الطبقة الاجتماعية في تحديد مكانة المرء في المجتمع.

تستكشف القصة أيضًا تأثير الطبقة الاجتماعية على معاملة إميلي بعد وفاتها. على الرغم من ماضيها المضطرب وأفعالها المشكوك فيها، لا تزال إميلي تُرى كعضو محترم من الطبقة العليا من قبل سكان البلدة. هذا التبجيل للمكانة الاجتماعية لإميلي واضح في الطريقة التي يحضر بها سكان البلدة جنازتها ويقدمون احترامهم لذكراها.

يستكشف كتاب "وردة لإميلي" تعقيدات الطبقة الاجتماعية وتأثيرها على حياة بطلة الرواية، إميلي جريرسون. من خلال عزلة إميلي وعلاقاتها وصراعاتها للحفاظ على مكانتها والمعاملة بعد وفاتها، يسلط فوكنر الضوء على أهمية الطبقة الاجتماعية في تشكيل هوية الفرد ومكانته في المجتمع. كقراء، نحن مدعوون للتفكير في الطرق التي يمكن أن تؤثر بها الطبقة الاجتماعية على تصوراتنا للآخرين والأدوار التي نلعبها في تعزيز التسلسل الهرمي الاجتماعي. في النهاية، يعمل تصوير فوكنر للطبقة الاجتماعية في القصة كتعليق قوي على تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يمكن أن تشكل بها المكانة الاجتماعية حياتنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

للأديبة: إسراء عبوشي مداواة الجراح بمرهم الحقيقة 

سافرت الكاتبة إسراء عبوشي إلى مصر، عامي ٢٠٢١ و ٢٠٢٣؛ لزيارة ابنها عمرو الذي كان يدرس الطب هناك، وقد أتيحت لها الفرصة للقاء العديد من زميلاته وزملائه الفلسطينيين والمصريين، وبعض الأسر المصرية، وتعرفت عن قرب على همومهم ومعاناتهم وواقعهم وأحلامهم، وأوحت لها هاتان الرحلتان، والطبيعة الجميلة على شاطيء بحر الإسكندرية كتابة رواية حملت عنوان: (هذا أوان الحب).

صدرت الرواية عن منشورات مكتبة كل شيء في حيفا، عام ألفين وأربعة وعشرين، و تقع في مئة وستٍ وعشرين صفحة، وأهدتها إلى صديقتها المصرية سناء ندى (فيض حب يعبُر كبرياء النيل من مبتداه إلى منتهاه، مزينا طبيعة جريانه بأكاليل المحبة الصادقة، ومطرزا لون مياهه بكل أطياف الرومانسية التي تحبين..) والإهداء كما ذكَرتْ موصول بشباك المحبة والشوق والوفاء إلى أصدقاء وزملاء ابنها الدكتور عمرو...وإلى مصر و وطنها الجميل فلسطين وأسرتها الكريمة.

ونحن نعيش هذه الشهور العصيبة، وهذه المقتلة الرهيبة، هل هذا هو الموعد المناسب للحديث والكتابة عن الحب وحالاته ؟!.

وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن إسراء أنهت كتابة هذه الرواية، في بدايات العام ألفين وثلاثة وعشرين، أي قبل نشوب هذه الحرب الغاشمة، أثناء إقامتها على شاطيء الإسكندرية، حيث (كان النسيم العليل يداعب أسماعنا، يواكبه صوت أمواج البحر الهادئة على الشاطيء الرملي في الإسكندرية، وضوء القمر ينعكس على صفحته....).

ولعل العنوان الذي تصدّر الصفحة الأولى من الرواية، يجيب أيضا عن هذا التساؤل آنف الذكر، فالحبُّ هو الذي يبدّد ظلام واقعنا القاتم، والحب هو الذي يرقق المشاعر، ويبلسم الجراح، ويعالج المظاهر السلبية كلها، لا سيما عندما يسير الحبُّ في حياتنا، إلى جانب العقل الواعي والمستنير الذي يبرز الحقيقة، و يبحث عن جذور المشاكل ويشخصها ويعالجها علاجا جذريا شافيا.

نتعرف في الرواية على العديد من الشخصيات المصرية والفلسطينية التي ألّف الحبُّ قلوبها، ونسج بينها علاقاتٍ إنسانيةً متينة.

الطالبة الجامعية المصرية سلمى أحبّت كنان الطالب الفلسطيني حبا عميقا..(كان أسمر طويلا، يتميز بالأنَفَة، وتشع من عينيه الثقة بالنفس، كتفاه عريضتان، يمشي وصدره مشدود، ورأسه مرفوع، يخطو بهدوء ومهابة، يصوّب كلامه بدقة، ورغم ذلك لا يعبّر عن مشاعره....أصابعه عريضة، لعله في يوم ما كان من أطفال الحجارة، وأكسبته تلك الحجارة صلابتها.....).

لسلمى أب وأم واعيان ومتفهمان، ويمنحان ابنتهما الثقة،

ولأن ظروف الإنسان الفلسطيني صعبة وقاسية وفريدة من نوعها، فإن هذا الحب لم يُكلل في البداية بالزواج، حيث افترق الحبيبان بعد انتهاء الدراسة الجامعية، وغادر كنان إلى وطنه فلسطين، وبقيت سلمى في مصر تعاني من الشوق والحنين، وبعد فترة وافقت على الاقتران بمهندس مصري يعمل في كندا، لم يثمر هذا الزواج الذي استمر خمس سنوات عن أطفال، ولم يحدث بينهما انسجام، فاتفقا على الطلاق. بحثت سلمى عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن كنان، وبموافقة والديها، سافرت إلى الأردن وفلسطين؛ بصفتها حاملة للجنسية الأجنبية، وعندما وصلت هناك علمت أنه تزوج وله طفل وحيد، غير أن زوجته توفيت،وسافر مع أمه إلى إحدى دول الخليج ؛ لزيارة خاله.

وذهبت سلمى إلى دبي، والتقيا هناك، والتم شملهما، مع أمه واتفقا على بداية حياة جديدة في فلسطين..

وفي الرواية شخصيات مهمة أخرى، فبالإضافة إلى كنان وأمه التي نجت من الحروب بصعوبة، هنالك شخصية عدن ابنة عم سلمى التي عانت من معاملة زوجها وأمه، حيث طرداها من بيت الزوجية، وحرماها من طفلتها الوحيدة، ولكنها لم تستسلم، فقد عضّت على جراحها، وزارت حماتها التي مرضت وضعف جسمها في المشفى، وحينما لمست الحماة المريضة إنسانيتها ورقتها ووقوفها إلى جانبها، اعترفت لها بخطئها، وطلبت منها المسامحة، وعادت العلاقة مع زوجها الذي كان يعاني هو أيضا مع أمه، من سلوك أبيه وفظاظته.

ولم تكتفِ عدن بحل هذه المشاكل بالتفهم والمحبة والاحتواء، ومعرفة الحقيقة، بل إنها بحثت عن أبي زوجها، والتقت بزوجته الثانية في بيتها، فعلمت أن له ابنة، وأنه مريض لا يعي، وأن حياتهما كانت جحيما معه.. غير أن عدن استطاعت بصبرها وحنكتها وتفهمها وقلبها العامر بالحب والإخلاص، أن تعيد هذه الأسرة الى المسار الاجتماعي الإنساني السليم.

ورغم بعض الأخطاء اللغوية والمطبعية، إلا أن رواية (هذا أوان الحب) شدّتني منذ سطورها الأولى، وجعلتني أتابع صفحاتها بشغف واستمتاع وإعجاب، ولا سيما قدرة الكاتبة على تصوير مشاعر الحب والشوق والحنين، بلغة شعرية مشرقة وسلسة، مستخدمةً أسلوب الحديث الداخلي أو الحوار أو الخواطر الشعرية، عبر وسائل الاتصال الحديثة التي ترسل الرسائل المحمّلة بالأحاسيس والأفكار والمشاعر إلى الطرف الآخر، دون عوائق أو حدود.

وختاما، فإنني أتمنى للكاتبة إسراء مصطفى عبوشي التي في رصيدها الإبداعي مجموعة قصصية بعنوان (ياسمين)، ورواية (رادا) وكتابات أخرى المزيد من العطاء الإبداعي والثقافي المتواصل.

***

عبد السلام عابد

في المثقف اليوم