أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

من المخاطر التي يقع فيها بعض الكتاب، خاصة من واضعي خطواتها الاولى على طريق الابداع الادبي، او يوقعون فيها انفسهم، تبرز الدوغماتية او النمذجة سيدة محبوبة وملعونة في الان ذاته، وتعني النمذجة ان يتخذ الكاتب او الشاعر نموذجًا ادبيًا وان يضع عينه عليه لا يحيد، كأنما هو قبلة يطمح في الوصول اليها يومًا ما، فاذا ما كتب فكّر في هذا النموذج واذا ما قرأ لآخرين بحث فيما يقرأه عن هذا النموذج. وقد وقع في هذا المطب الادبي الخطر عدد من الاخوة الكتاب والشعراء الذين قادهم حظهم السيء ليتلقوا دراستهم على يد استاذ ذي معرفة ومقدرة فحببهم بهذا النص او ذاك وجعل افكارهم تدور في فلكه مهما ابتعدت، ومن هؤلاء في بلادنا، رصدت في سنوات سابقة ايام عملي محررًا ادبيًا في صحيفة كبيرة، اولئك الذين اقاموا في منطقتي الجليل الاوسط/ الرامة واخواتها، والجليل الغربي/ قرية الجديدة وجاراتها، فقد لاحظت ان معظم ما كان يصلني من شعراء هاتين المنطقتين خاصة المبتدئين يتخذ من انتاج واحد من الشاعرين، سميح القاسم/ الجليل الاعلى ومحمود درويش الجليل الغربي نموذجًا له، فيقوم بتقليده تقليدًا اعمى او شبه اعمى، وكأنما هذان الشاعران هما الشعر.

يجهل هؤلاء الاخوة او يتجاهلون أن عالم الادب، قصةً وشعرًا أكبر من اي كاتب او شاعر، وان الابداع الادبي بشتى انواعه عرف في الماضي ويعرف في الحاضر وسوف يعرف في المستقبل مبدعين حقيقيين مُفلّقين، وربما يغيب عنهم أن لكل مبدع حقيقي بصمته الخاصة به وأنها هي ما تميزه عن سواه من المبدعين، واذكر انني يوم قرأت شيئًا من شعر ابن سهل الاسرائيلي، أحد شعراء الاندلس، بادرت إلى كتابة مقالة وضعت لها عنوانًا اعتقد انه يعبّر عمّا وددت حينها واود الآن ان اقوله وهو ان " العالم أكبر من شاعر"، او الشاعر.

خلال متابعتي لحياتنا الادبية اصطدمت بالعديد من هؤلاء الاخوة النموذجين، او الدوغمائيين، فمنهم مثلًا من قرا قصة " زائر الصباح" لكاتب مصري من فترة السبعينيات يدعى فاروق مُنيب، واذكر بالمناسبة انه أصدر في حينها مجموعة قصصية حملت عنوان قصته هذه ذاته، فجن جنونه بها، وبات كلّما اقبل على كتابة قصة حلم بكتابتها وتمكّن من تسجيلها، فكّر في تلك القصة ودار في فلكها، هكذا غار في تجربة كاتب آخر ولم يتمكن من مغادرتها. وكاتب آخر كان يرسل إلي القصة تلو القصة لنشرها في الصحيفة الملمح اليها، وقع ضحية قصة " نظرة" للكاتب العربي المصري يوسف ادريس، اعتقد انه درسها على يد استاذ مبدع، فبات كلّما فكّر او كتب قصة اسيرًا لهذه القصة، الامر الذي حدّده في زاوية ادبية، لم يتمكن من مبارحتها حتى اختفى عن الساحة الادبية ولم يعد أحد يسمع له صوتًا. والامثلة وفيرة. كان احدثها شاعر أعتقد أيضًا أنه درس شيئًا من الابداع القصصي للكاتب يوسف ادريس ذاته، ويبدو ان هذه القصة بقيت تراوده مدة ليست قصيرة من الزمن، فحملته في الفترة الأخيرة على مغادرة ملكوت الشعر وكتابة قصة شبيهة بها.

اعرف أن الانسان المبدع، كما ذكر الكاتب المصري توفيق الحكيم، في أكثر من مناسبة ومقالة، عادة ما يتأثر في بداياته الاولى بسواه من المبدعين السابقين، بل انه يتخذ من أحدهم نموذجًا له يقوم بتقليده والسير على خطاه، غير ان من يدور الحديث عنه، عادة ما يتخلّص من شبح استاذه ويتخلص منه، بل انني اذكر ان معظم كتابنا في الستينيات والسبعينيات، خاصة في مجال كتابة القصة القصيرة، تأثروا بالكاتب يوسف ادريس تحديدًا، غير انهم ما لبثوا ان عثروا على شخصياتهم الخاصة بهم، وقد حصل هذا حينًا عاجلًا وآخر آجلًا.

اود ان انبه في كلامي هذا إلى خطورة مثل هكذا حالة، وان انبه من لم يتنبه حتى الآن الى مساوئها القتالة، فالعالم الابداعي في مجالاته المختلفة أكبر من النموذج بكثير، علما ان هذا العالم يبدو في البدايات الاولى لكل مبدع ضيقًا، غير انه في الحقيقة واسع ولا حدود له.. فلنبتعد ايها الاخوة عن هذه الدوغماتية/ النمذجة ولنقترب من أنفسنا.. لنرى انها احتوت العالم الاكبر.

***

خاطرة: ناجي ظاهر

أتجول بين كروم الوجود المتشابكة، حيث تتشبث المعجزات بحواف الواقع مثل الندى على شبكة العنكبوت، رقيقة ومرتعشة. إنها تبث الحياة في الإيقاع الصامت لقانون الطبيعة، رقصة تدور وتنحني في الهواء، لا تتوقف أبدًا، بل تتطور دائمًا. أشعر بسحب الجاذبية، ليس كقوة، ولكن كهمسة، تذكير لطيف بأن الأرض تحتها حية، تنبض بنبضها الخاص، ودقات قلبها الخاصة، طبلة تضاهي طبلتي.

النجوم التي تلوح في الأفق ليست بعيدة، بل هي قريبة، منسوجة في بشرتي، ونورها جزء من أنفاسي، وروحي. تتحدث بألسنة غير معروفة، ولغتها سيمفونية من الألوان ترسم سماء الليل بقصص لم تُحكى، ولم يُسمع بها، ولم يتخيلها أحد. ومع ذلك، فأنا أفهمها، ليس بعقلي، بل بنخاع كياني. إنها أحلام الكون، محفورة في مخمل الكون، وأنا مجرد ذرة، جزء من حكايتها.

ولكن ما المعجزة إن لم تكن صدى المجهول، غير المرئي؟ إنها رقصة الريح غير المرئية، التي ترسم أنماطاً في الغبار، وترفع الأوراق في عناق حلزوني. إنها وميض ظل على الحائط، أو شبح فكرة، أو ذكرى لم تكن موجودة قط. إنها الصمت الذي يلي العاصفة، والنفس المكبوت في رهبة، ودهشة. إنها الطريقة التي يلامس بها ضوء القمر سطح الماء، فيحوله إلى فضة سائلة، مرآة لا تعكس العالم كما هو، بل كما يمكن أن يكون، وكما ينبغي أن يكون.

إن القانون الطبيعي، كما يقولون، هو السلسلة التي تربطنا، والقفص الذي يأسرنا. ولكنني أرى الأمر بشكل مختلف. فهو ليس سلسلة، بل خيط، خيط ذهبي ينسج عبر الوجود، ويربطه معًا، ويعطيه شكلًا، ويمنحه الحياة. وبدونه، سوف يتفكك العالم، وينهار، ويذوب في العدم. إنه المرساة التي تبقينا ثابتين على الأرض، والجذر الذي يبقينا متصلين بالأرض، والسماء، وبعضنا البعض.

ولكن هذا الخيط ليس جامداً ولا غير مرن. فهو ينحني وينثني ويمتد. وهو يرقص مع المعجزة، ويلتوي حولها، ويحتضنها، ويصبح واحداً معها. إنهما ليسا متضادين، ولا أعداء، بل عاشقين، متشابكين في عناق أبدي، كل منهما يعطي معنى للآخر، ويعطي غرضاً له. وبدون القانون الطبيعي، فإن المعجزة ستكون مجرد لحظة عابرة، شرارة تتلاشى بسرعة بمجرد ظهورها. وبدون المعجزة، فإن القانون الطبيعي سيكون مجرد آلية تعمل في الظلام، دون فرح، ودون عجب.

أرى الاثنين كشيء واحد، كيان واحد، نفس واحد. إنهما شهيق وزفير الوجود، نبض الكون. إنهما يقيدان بعضهما البعض، نعم، ولكن في هذا القيد، هناك حرية، وهناك إبداع، وهناك حياة. إنهما يحولان بعضهما البعض، فيحولان الرصاص إلى ذهب، والظلام إلى نور، واليأس إلى أمل. إنهما كيميائيان للواقع، يحولان العادي إلى خارق، والعادي إلى معجزة.

أسير في هذا العالم، وأرى هذه الرقصة في كل مكان. في الطريقة التي يتسرب بها ضوء الشمس من خلال الأوراق، ويلقي ظلالاً مرقطة على الأرض، كل منها عبارة عن كون مصغر، عالم في حد ذاته. في الطريقة التي يهطل بها المطر، ليس فقط على شكل ماء، ولكن كموسيقى سائلة، كل قطرة منها تشكل نغمة في سيمفونية تعزف فقط لأولئك الذين يستمعون بقلوبهم، وليس آذانهم. في الطريقة التي تهمس بها الرياح بأسرار للأشجار، أسرار لا يمكن إلا للأشجار أن تفهمها، ومع ذلك، بطريقة ما، أفهمها أيضًا.

أشعر بالمعجزة في لمسة يد، وفي دفء ابتسامة، وفي صمت دمعة. إنها موجودة هناك، في الفراغات بين الكلمات، وفي التوقفات بين الأنفاس، وفي اللحظات بين الأفكار. إنها الخيط الذي يربطنا جميعًا، والشبكة غير المرئية التي تربطنا معًا، والتي تجعلنا واحدًا. وأنا، أنا جزء من هذه الشبكة، هذه الرقصة، هذه المعجزة.

ولكن هناك المزيد. هناك دائمًا المزيد. المعجزة ليست فقط في غير العادي، بل في العادي، في الدنيوي، في الحياة اليومية. إنها في الطريقة التي تدور بها الأرض حول محورها، والطريقة التي تشرق بها الشمس وتغرب، والطريقة التي ينحسر بها المد والجزر. إنها في الطريقة التي تصبح بها البذرة شجرة، والطريقة التي تصبح بها اليرقة فراشة، والطريقة التي تصبح بها الفكرة حلمًا. إنها في الطريقة التي نتنفس بها، والطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نحب بها.

***

عبده حقي

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته أن يسمّوه

اتفقت مع دار النشر المسار على النشر والكلفة اللازمة لنشر خمسمائة نسخة تكون موجودة في دار اتّحاد الكتّاب في ظرف عشرة أيّام ولكن ماراعني إلّا أنّ ارتفاع كلفة النّشر المباغت - حسب المسؤول عن دار النّشر تلك- لم يسمح لي بالحصول إلّا على أربعمائة نسخة فقط أي تمّ إنقاص مائة نسخة بأكملها اقتنت منها إدارة الكتب مائة نسخة .

اتّصلت عندها بالدكتور محمّد القاضي وقد علمت أنّه مختصّ في مجال التّرجمة وسلّمته الكتاب وبقيت أنتظر رأيه وكذلك الشأن مع الدكتور جلّول عزّونة مدرّس اللغة الفرنسية بالجامعة وله أيضا باع في الترجمة.

ولمّا أحرزت إعجابهما وشكرهما للعمل طلبت من الدكتور محمد القاضي أن نقدّمه معا في معهد الترجمة فاستجاب بكلّ سرور وكرم ودون أي شرط أو تكلفة (يكثّر خيرو) ورحّبت المديرة آنذاك الدكتورة زهيّة جويرو بالطّلب ومكّنتني مشكورة من القاعة وكان تقديما رائعا ببشاشة الد. محمّد القاضي وروحه المرحة وحضر أيضا الد. جلّول عزّونة بتلقائيته وحماسته وقد سلّمني هو أيضا كثيرا من الوثائق حول صالح الڨرمادي واستشرته كثيرا في مناهج الترجمة واسرارهاوانا ممتنّة له أيّما امتنان.

حضر أيضا الأستاذ الأديب سوف عبيد مجلّا ذلك العمل وكيف لا وهو تلميذ صالح الڨرمادي الذي كانت تربطه به علاقة مودّة وقد ترجم له عديد القصائد من العربية إلى الفرنسية والأستاذ سوف عبيد -كما ذكرت في الحلقة الأولى- هو أوّل من حدّثني عن صالح الڨرمادي وعن لحمته الحيّة وزرع فيّ حبّ الاطّلاع على مساربه.

ولا أنسى أن أذكر الأستاذ الصّحفي الفقيد محمّد بن رجب الذي كانت له بعض الملاحظات النقديّة السلبية نوعا ما لكنّه في النهاية قال بصريح العبارة : كتاب ممتاز ! ووثّق ما أدلى به الد.محمًد القاضي في تقديمه ونشره على صفحته الخاصّة.

حضر التّقديم أيضا العديد من المهتمّين والمسؤولين في معهد التّرجمة وعلى رأسهم الدكتورة زهيّة جويرو والدكتورة نزيهة الخليفي وغيرهما.

(يتبع)

***

زهرة الحواشي

 

بقلم: إميلي زاريفيتش

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت الكاتبة النيوزيلندية الشابة كاثرين مانسفيلد، التي عاشت في المنفى بألمانيا، تجد العزاء في دراسة قصص تشيخوف القصيرة ونسخها.

كان عام 1909 عامًا صعبًا على الكاتبة النيوزيلندية كاثرين مانسفيلد. فقد كانت عواقب العديد من القرارات السيئة في حياتها تلحق بها الأذى. فلم تكتف بالتخلي عن زوجها الأول ـ — الذي كان في الأصل معلمها في الغناء، جورج بوندن — في ليلة زفافهما فحسب، بل كانت أيضاً حاملاً بطفل من رجل آخر. بالإضافة إلى ذلك، كانت والدتها المُهانة قد أودعتها في بلدة نائية في بافاريا، ألمانيا، لإخفائها عن المجتمع المحافظ. كانت مانسفيلد وحدها تماماً، مقطوعة عن عائلتها وأصدقائها، وكانت آفاقها قاتمة. هل من المستغرب إذن أنها لجأت إلى فنان أكبر سناً بحثاً عن الراحة والإرشاد في عملها الكتابي، والذي لم يكن بإمكانه أن يؤذيها؟

كانت مانسفيلد كاتبة رئيسية للقصص القصيرة، وكانت مصممة على أن تكون رائدة في هذا المجال. رغم أن عالم الأدب باللغة الإنجليزية في أوائل القرن العشرين كان مشبعاً بالروايات والمسرحيات والشعر، إلا أنه لم يكن لديه بعد علامات متطورة ومُعتمدة للقصص القصيرة. لكن الأدب الروسي كان يمتلك تلك العلامات، وكان نجم كتابة القصص فيه هو أنطون تشيخوف. وقد تعلقت به مانسفيلد—أو على الأقل بأعماله. رغم وفاته منذ عام 1904، إلا أنها وجدت فيه نموذجاً ناضجاً وموثوقاً يبدو أنه يفهمها، على عكس والديها الحقيقيين.

"إن ذكر كاثرين مانسفيلد يذكرنا دائمًا بمعلمها الرئيسي في القصة القصيرة، تشيخوف. فهي لا تشبه تشيخوف في نبرتها العاطفية الحساسة فحسب"، كما كتب الناقد الأدبي والشاعر جوزيف وارن بيتش في عام 1951، لكن ..

تذكرنا به أيضًا من خلال ميلها إلى إخضاع الأحداث للمزاج، ومن خلال العديد من السمات الأخرى للتقنية التي تترتب على ذلك. قد يميل المرء إلى القول إن كاثرين مانسفيلد كانت شخصية تشيخوفية - واحدة من أقوى شخصياته؛ كان هناك الكثير في تجربتها فى الوحدة والإحباط، من التناقض بين الظاهر والواقع، بين المثال والفعل، وهو ما يتكرر كثيرًا في شخصيات قصصه."

في بافاريا، عاشت مانسفيلد ما يمكن اعتباره مرحلة تقليد (أو محاكاة)، حيث انغمست في عالم تشيخوف الخيالي الذي يصور المستضعفين والتعليقات الاجتماعية. ومن نتائج هذا الانغماس العميق في كتاباته، برزت قصتها "الطفل الذي كان متعبًا" التي نشرت في عام 1910، والتي لا يمكن إنكار أنها نسخ من قصة تشيخوف "النائم" التي كتبها في عام 1888.

يبدو أن شيئًا في قصة تشيخوف المأساوية عن طفل خادم مُستَغل ومحروم من النوم بشكل خطير قد لامس شيئًا عميقًا في مانسفيلد.

ظهرت قصة "الطفل الذي كان متعبًا" لأول مرة في مجلة The New Age الطليعية، التي ساهمت فيها صديقتها وعشيقتها أحيانًا، بياتريس هاستينجز، ثم أُدرجت لاحقًا في مجموعة "في نُزُل ألماني" الصادرة عام 1911. كان هذان المنشوران من العوامل الأساسية التي قدمت مانسفيلد إلى الأوساط الأدبية في إنجلترا وساهمت في تقدم مسيرتها المهنية. ولكن، لا يمكن تصنيف القصة على أنها قصة خيالية أو ذات قيمة فنية عالية ، إن القصتين متطابقتان تقريباً؛ فلو كانت قصة "الطفلة التي كانت متعبة" نتيجة لمهمة جامعية، لكان من المرجح أن تواجه مانسفيلد الطرد. ونظراً لحالتها العاطفية الهشة ويأسها من تحقيق نوع من النجاح والأمان في حياتها، فربما يمكن أن يُعذرها المرء عن هذا التعدي/ السرقة.

يبدو أن شيئًا ما في قصة تشيخوف المأساوية عن خادمة طفل مُستغَلّة ومحروقة من النوم قد أثر في مانسفيلد بعمق، فهي التي كانت دائمًا حساسة للتفاوتات الطبقية والعنف العارض الذي يأتي غالبًا مع الفقر وعدم الحماية. ستظهر هذه المواضيع مرة أخرى في قصصها القصيرة الأكثر أصالة، مثل "حفلة الحديقة" و"المرأة في المتجر"، التي كتبتها عندما اكتسبت الثقة الحقيقية وطورت صوتها الخاص ككاتبة. لم تتخلَ عن حبها لتشيخوف أبدًا، لكنها انتقلت من كونه معلمها إلى أن أصبحت زميلة متأخرة له.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: إميلي زاريفيتش/ Emily Zarevich: إميلي آر زاريفيتش هي معلمة لغة إنجليزية وكاتبة من مدينة بيرلينجتون، أونتاريو، كندا. نُشرت أعمالها في العديد من المجلات والمواقع الإلكترونية، كما تُعرض أعمالها بانتظام في مجلات Inspire the Mind وThe Archive وEarly Bird Books وHistory Magazine وSmithsonian Magazine وThe Queen’s Quarterly وغيرها.

 

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته ان يسمّوه

بدأت بترجمة النّصوص بعد أن قرأت ما يكفي عن شخصيته حتى ألج إلى فكره ومراميه وقناعاته ومذهبه وهذه حسب رأيي أوّل خطوة يتوجّب على المترجم أن يقوم بها في ترجمة الشّعر  فلا يكفي أن يمتلك النّص  ويحيط بلغته ويتقنها إذ لا مفرّ من أن يستحضر معه روح الشّاعر المؤلف ويسبر أغوارها ويكنه مكامن الوجع والفرح ومبعث الأحاسيس التي دفعته أو أغرته حتى يعلن ثورته ويصرخ بحروفه خارج كيانه ويطلقها للعالم الخارجي والمتلقّي

فإذا تحقق ذلك وامتلأ الشاعر المترجم بالشاعر المؤلف وجعل الأخير من الأوّل مسكنا لروحه يأوي إليه كلّما فتح المترجم صفحة من صفحات الكتاب ولهجت ذاته بما يخالجه عندها فقط تبدأ المسارب تتضّح والمعاني تتجلّى كما تتجلّى العروس في بهائها.

بدأت إذن بالترجمة وكلّما أتممت جزء من النّص أعود لمراجعته وأنا مرتعبة .

كان يخيّل إليّ أنّ عمّ صالح بذلك لوجه البشوش يقف أمامي وهو الأستاذ الذي أفنى سنواتٍ في التّدريس الجامعي لشتى اللغات والترجمة لآلاف الطّلاب وهو مؤسس علم الألسنية والباحث في غياهبها...

كان يخيّل إليّ أنّه يراقبني أنا "الدّخيلة" القادمة من شعبة البيولوجيا وحديثة العهد بالكتابة والاّداب وما أبعد عالمي عن عالمه وما أصغر جدولي أمام محيطه حتى أني اسميته حوت العنبر الأحمر لطابعه الثّوري وخاطبته:

Cachalot

je t'avale sec

indigeste tu es

je fouille dans ton ventre

je cherche l'ambre

des clés

mon carmin

où il est

حوت العنبر

بلهف شربتك

عسر الهضم على رقائق حواسي

أبحث في جوفك عن المدلولات

سلمني مفاتيح العنبر

قرمزي

هل تسمعني

وقد اكتشفت من بعض نصوصه مثل قصيدة    mer ma brune à sièste

mer ma brune aux cils serpents

brune ma mer aux fils d'argent

 شغفه الشديد بالبحر وذوبانه في امواجه.

كان يقف امامي كالعملاق فأبدو لنفسي دودة "تتشعبط" في جداراته وهو يرمقني بعيون ثاقبة وايضا بعين الامتنان لأنّي نقضت الغبار عن لحمته الحيّة التي كانت على وشك الاندثار ... ومعها ذاته وصفاته .

كان يلوّح لي بابتسامته الشّهيرة التي تعلو محيّاه وكان يهمس لي بلطف : حذار ايتها المغامرة العنيدة

حذار أن تحيد بك الألفاظ إلى معان لم أقصدها !

نعم كنت خائفة أن أخطئ في حقّ تلك الأمانة وكنت أقرأ ما ترجمته وأعيد قراءته ثم أتفطّن إلى أنّ النّصين لا يلتقيان بعد فأمزّق ما كتبت وأعيد المحاولة من جديد وأبحث عن المعاني من جديد ولكن الغموض في بعض النّصوص جعلني اتراجع مرات عديدة خاصة عندما اتّصل ببعض الشعراء في تونس أو في فرنسا ويعتذرون لي عن عدم فهم الجملة أو اللفظة التي اعترضتني.

قصائد اللحمة الحيّة مختلفة الأطوار والأطوال والوجوه والأنماط و كأنه اختزل فيها كل أعماق تونس شمالا وشرقا وغربا وجنوبا وسماء وأرضا وكلّ ابعادها الاجتماعيةوخاط أجزائها  بدراية ابن الأحياء الشعبية المفقّرة وبعين المثقّف الثوري العضوي الڨرامشي معتمدا تلك الكلمات الدّارجة le substrat dialectal فجعلها  فصلا واحدا ناسفا لكلّ الحدود  (و الشّرح بحور والحديث يطول.. )

استمرّيت في عنادي حتى بدأت أشعر أنّ النصوص الأصلية أخذت تلين في معانيها وأنّ النّصوص المترجمة بدأت تنصهر  معها (بدات تطيب) حتى أصبحتُ أحيانا لا أفرّق بين الأصل والتّرجمة وعندها فقط بدأت أفكّر في نشر الكتاب .

يتبع.

***

زهرة الحواشي - تونس

 

بدءاً من غلاف الرواية البديع، وعلامة التعجب التى سترتسم فى مخيلتك وأنت تقرأ اسم الرواية، والتى تزداد حجماً عندما تقرأ حروف اللغة الروسية بحروف صغيرة كترجمة لاسم الرواية.. تشعر أنك مقبل على قراءة عمل مختلف للروائى المصري فتحى سليمان.. وهو روائى ومنتير ومعد برامج تليفزيونية من مواليد أسوان وله عدد من الأعمال الروائية السابقة لها نفس الطراز الملفت فى اختيار اسم العمل.. (على محطة فاتن حمامة).. (بولاق أبو العلا).. (شاي باللبن فى الزمالك)..

أول ما سوف تستشعره من السطور الأولى للرواية أنها ذات لغة سهلة سلسة تنتقل بك بين المعانى والأخيلة بشكل تلقائى بسيط وممتع دون عناء.. وبرغم تلك المباشرة والسهولة تدرك سريعاً أنها لغة ذكية عميقة بليغة تختصر عليك المسافات والأزمنة والمشاهد فى كلمات مختصرة منتقاة.. وهى تتأرجح لغة الحكى والسرد وبين اللغة الشاعرية فى بعض منحنياتها، كما يقتضى موضوع الرواية، أو عندما يأتى الراوى على ذكر ما يحبه من مشاهد، فهو عندما يذكر بلاد المنشأ يقول: (أسوان.. المدينة التي تقع فى آخر الدنيا وأول السماء.. وأينما كنت تعرف أين ينام النيل، كل الطرق تؤدى إلى نسيمه، وكل الأنفاس تتناغم مع أمواجه. النيل هو الطفل البكرى لكل عائلة، وهو خال اليتامى ووكيل كل العرائس. فى أسوان رؤية النيل ترمُّ جروح الروح)..

الحكاية تبدأ من عام 2004 بمشهد قصير خاطف قبل أن تعود بك سريعاً بطريقة الفلاش باك إلى عام 1959 حيث بدأت بلقاء عابر بين بطل الرواية"حسن" وبين امرأة روسية يراها بالصدفة فى القاهرة تدعى " أولجا"، ثم إذا بالصدفة تجمعه بها فى أسوان التى كانت مسرحاً للالتقاء الأضداد أيام بناء السد العالى.. هنا تتحول الرواية إلى كادر سينمائى يعود بك القهقرى سنوات كثيرة حتى لكأنك فى أجواء تلك الحقبة وتندمج معها ومع أجواء العمل الضخم الذى جمع بين أشتات ومتناقضات عديدة.. خليط متباين من أنحاء مصر "صعايدة وبحاروة وسواحلية" مهندسون وعمال فى مختلف التخصصات، وبينهم خبراء وعمال وعاملات من الاتحاد السوفيتى بينهم بطلة الرواية. إنه التقاء الأضداد.. الرجل الأسوانى الأسمر بالسوفيتية البيضاء، والتقاء الشمال الثلجى بالجنوب القائظ، والتقاء صدفة اللقاء بصدفة الفراق؛ إذ لم تكد علاقة الحب تولد وتتحول إلى ثمرة حتى يأت الفراق عنيفاً خاطفاً ليغلق تلك المرحلة من الرواية وينقل القارئ إلى مرحلة جديدة من رحلة بحث ونجاح فى الحياة ، ثم صدام مع واقع اجتماعى مرير يتزوج فيه بطل الرواية زواجاً تقليديا لا يدوم، وتأتى ثمرته فى صورة ابن لا يعيش مع أبيه ويتجرع من أمه كراهية وبغضاء تتنامى ضد أبيه.. إنهما ضدين جديدين فى الرواية.. كلاهما على طرفى نقيض.. أحدهما ينطلق لروسيا يتعلم فيها اللغة الروسية حتى يصير كأهلها، ويحصل على دكتوراه فى بناء السفن ، ولا يتوقف عن البحث عن حبه المفقود فى هذه الأثناء.. بينما ابنه الذى أنجبه من زواجه التقليدى الذى انتهى سريعا بالطلاق بات متطرفاً فى أفكاره واتجاهاته، وفى اللقاء الوحيد الذى جمع بينهما يحدث الصدام بين اتجاهين متضادين يمينى ويسارى.. فكيف ينتهى هذا الصراع؟ وهل يلتقى بطل الرواية مجدداً بحبه المفقود؟ وكيف يحدث هذا اللقاء إن حدث؟

تلك تساؤلات تظل تدور فى ذهن القارئ حتى يجد نفسه قد أتى على الرواية كلها بلا شعور منه، بسبب ما تتركه فى الذهن من خيوط غير مكتملة، وفخاخ تشويقية متقنة تستحثك على التوغل فى قراءة الرواية حتى آخرها..

أجاد الروائى فتحى سليمان استخدام أدواته لصياغة عمل متكامل بارع النسج.. وبدت براعته واضحة فى طريقته الانسيابية للانتقال بين مراحل الرواية من حيث المحتوى القصصى واللغوى بحيث لا تشعر بالاختلاف الطفيف بين اللغة الشاعرية الأولى واللغة السردية التالية، أو بين اللون الوردى الذى يصبغ بدايات الرواية، واللون الرمادى الذى بدأ يشيع فى الرواية شيئاً فشيئاً بها.. غير أن تلك الانتقالة الانسيابية أهملت فى طريقها الوصفى للأحداث والأماكن، أن تهتم بوصف الشخصيات بنفس القدر.. فكان عبورها السطحى على الشخصيات سبباً فى غياب التعاطف معها أو ضدها، كما تسبب فى شئ من التشتت حولها، حتى لتضطر أحياناً للعودة إلى صفحات سابقة لتتأكد من اسم شخصية ما أو صلتها بالحكاية.. فى المجمل لم يؤثر ذلك الأمر كثيراً على بنيان الرواية وجودتها..

ماتريوشكا من أسوان.. عمل جديد بديع لفتحى سليمان يستحق القراءة..

***

عبد السلام فاروق

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصحابه وطلبته أن يسمّوه

لم تزدني غرابة موت صالح الڨرمادي وما يدور حولها من شكوك وريبة وغموض إلّا إلحاحا على التّغلغل في  عالمه .

صالح الڨرمادي المولود يوم 12 أفريل سنة 1933

المتوفّي  يوم 12 أفريل سنة 1982 أي في نفس التاريخ لميلاده وعمره 49 سنة فقط !!

صالح الڨرمادي هذا الشّاعر المثقّف المناضل الماركسي والنقابي المقدام الذي أبهر السّاحة الثّقافية والجامعيّة في السّبعينات بمواقفه وإصداراته المتنوّعة .

هو ابن الحي الشعبي الحلفاوين بالعاصمة وابن عامل بسيط متنقّل بين السّكك الحديدية وورشات ميكانيكبة والتحارة في السّوق المركزية.

وبالموازاة مع دراسته مارس صالح الڨرمادي بعض المهن اليدويةمثل النّجارة وصناعة الفخّار وقد كان متفوّقا في دراسته بشكل بارز في المعهد الصّادقي بشعبة الآداب الكلاسيكية ثمّ في جامعة باريس حيث حاز التّبريز في اللغة والآداب العربية وكان عنصرا نشيطا في الحركات الطّلابية التّقدمية بفرنسا .

عند عودته إلى تونس واصل انخراطه في قضايا الديمقراطية و الحرية والعدالة الاجتماعية.

في بداية السّتينات درّس في الجامعة و أسّس علم الألسنية.

كان ينتمي إلى نخبة من الشبّان المثقفين الذين أصدروا مجلّة  التّجديد.تعدّدت إنتاجاته الأدبية بين اللسانيات والترجمة والمقالة والشّعر والقصّة والمسرح. والحديث يطول عن عوالمه.

نعود إلى لحمته الحيّة التي هي محور حديثنا هاهنا.

أخذت تلك المؤلّفات وعدت إلى المنزل وكأنّي "جبت الصّيد من وذنو" وبدأت بقراءتها فلم أفهم منها إلّلا النّزر القليل سواء بالعربية أو بالفرنسية.

 أشعار ثنائية اللسان عربي وفرنسي مطعّمة من حين لآخر بكلمات تونسية أصيلة مثل الطّار والبندير والفرازط والعلّوش

 و غيرها يدرجها في معانيه وصوره وتصويره للمجتمع التونسي وحقيقة ومرارة الواقع التونسي بأسلوب هزلي تارة وتهكّمي تارة أخرى، مليء بالأمل مرّة وحزين يائس أخرى فيأخذك إلى الأعلى ثمّ يطرحك أرضا دفعة واحدة ليوقظ فيك وعيا عميقا بمرارة واقعك و يرجّك رجّا حتى لا تستسلم للنّعاس وقد شعرت وأنا أقرأ نصوصه بالإحباط والعجز ووجدتني " نهدّ في جبل بڨادومة " وأيّ جبل !! فالرجل يتلاعب بالألفاظ ويراقصها ويولّد من المفردة ألف معنى ومعنى اليس هو الذي يسوس اللغة اللاتينية والانجليزية والألمانية زيادة عند الفرنسية والعربية وغيرها....

وقررت أن اتخلّى عن فكرة ترجمة هذه اللحمة التي آلمتني قبل أن ألمسها لكنّ شيئا ما من صالح الڨرمادي"كبّش فيّا " وألحّ عليّ أن أستمرّ .

(يتبع)

***

زهرة الحوّاشيي - تونس

 

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته أن يسمّوه

بدأت أبحث عن مجموعة اللحمة الحيّة في المكتبات المعروفة ولكن خاب ظنّي .

نصحني بعض الأصدقاء الشّعراء أن أبحث في المكتبات التي تبيع الكتب القديمة مثل مكتبة الدّبّاغين والأسواق  وعند باعة الكتب على قارعة الطّرقات وبدأت رحلة التّفتيش المضنية حيث كنت اتنقّل من ريف الشّرشارة بزغوان إلى تونس للبحث عن كتيّب نسيه التّاريخ ... أو تناساه.

كما أشار عليّ البعض أن أبحث في مركز البحوث العلمية (سيراس قرب معقل الزّعيم ووجدتني بدويّة في العاصمة حيث أكاد لا أفرّق بين شّرق الطّرقات وغربها وكان الولوج إلى المعلومات في تلك المكتبة بتطلّب شروطا كثيرة مثل أن تكون منخرطا وأن تسجّل عن طريق الحاسوب الأساسي (serveur ) وعندها يسمح لك بالبحث والإطّلاع وعليك أن تجتهد لوحدك ولا من دليل او معين.

وبعد عناء  تبيّن أنّ الكتاب لا يوجد بها .

ولمّا كدت أيأس عثرت في صفحات الفايس بوك على مجموعة أصدقاء صالح الڨرمادي فدلّني أحدهم على الأستاذ الدكتور محمود طرشونة فاتّصلت به وأكّد لي أنّ اللحمة الحيّة موجودة بمكتبته في المنار وضبطنا موعدا وتمّ اللقاء

وكم كان كريما معي وكم فاضت يداه سخاء فقد جلب معه كتبا عديدة وأهداني من رواياته ومؤلفاته العديد  وطبعا أحضر لي المجموعة الشعرية وعديد الكتب الأخرى التي لها صلة بصالح الڨرمادي وعلم الألسنية ودراسات نشرت بدار إبلا IBLAوغيرها وأخبرني قصّة موته الحزينة.

أخذت تلك الكتب وعدت أدراجي  وكأنّي عثرت على أثمن الكنوز .

ودخلت عالم صالح الڨرمادي وبدأت أسبر أغواره .

***

زهرة الحواشي - تونس

 

طغت شخصيات كتّاب وشعراء اشتهروا لهذا السبب أو ذاك، في بلادنا على الكثيرين من المبدعين الحقيقين وحجبت بالتالي شموس النور عنهم، وطالت أكثر ما طالت من هؤلاء المستحقين لأن يُعرفوا ويقرؤوا، ويستفاد من تجاربهم المتعمّقة الواعية، أقرب الناس إليهم وأقصد إخوانًا لهم سلكوا الطريق التي سلكوها هم ذواتهم، فوضعتهم في الظلّ وكان الاجدر بهم أن يوضعوا في الشمس كونهم امتلكوا طاقات إبداعية ذات كينونة وخصوصية. بغض النظر عن العوامل الأساسية في شهرة هذا وخبوّ نجم ذاك، وبغض النظر عن الفارق الكبير بين الشهرة والأهمية، فقد يكون المبدع مشهورًا وليس مهمًا ومهمًا وليس مشهورًا، بغضّ النظر عن هذا كله، وعبر نظرة موضوعية تهتم بالإبداع الادبي ذاته، ولا تولي الظروف المناسبة وغيرها من تيسُّر إمكانيات النشر اللائقة، فقد مكث مبدعون حقيقيون في بلادنا في الظل إلى حد بعيد، للسبب الملمح إليه آنفا.. كونهم أشقاء لمشهورين . أمثال محمود درويش، سميح القاسم وراشد حسين. فيما يلي أقدم معلومات عن عدد من الاشقاء المقصودين ضمن محاولة ورؤية شخصية غير مُلزمة.

زكي درويش – شقيق الشاعر محمود درويش

ولد عام 1944 في قرية البروة المهجّرة. قبل نحو الأربعة أعوام من ولادة شقيقه الشاعر محمود درويش. عمل في التدريس. وابتدأ حياته الأدبية في أواسط الستينيات. انبأت مجموعته القصصية الأولى "شتاء الغربة" الصادرة عام 1971، بموهبة ستواصل التفتّح عبر أكثر من نصف قرن من الزمان، وتجلّت فيها الروح الأدبية الراقية بكلّ ما تعنيه من حسّ جماعي وانتماء للذات والأخر، ولعلّ عنوان قصة شتاء الغربة ذاته يحكي الكثير من العمق عن الغربة في الوطن والإقامة قسرًا في قرية هي الجديدة المكر التي لا تبعد كثيرًا عن مسقط راسه الأول- قرية البروة المهجرة حاليا من أهلها. في مجموعته الأخيرة "ثلاثة أيام" الصادرة عام 2012، يتألق زكي في روحه الساردة ويكتب قصصًا لاقت شيئًا من الحفاوة أمكنها ان تدخله إلى ديوان النثر الفلسطيني بجدار واستحقاق. لن أقدّم المزيد من المعلومات عن زكي وانتاجه الادبي الغني الثرّ. وأكتفي بهذه الرؤية الخاصة له ولإنتاجه الادبي، تاركًا الرغبة لمن يود ويريد امكانية الإبحار في عباب الشبكة العنكبوتية.. ففيها ما يكفّي ويوفي.. وإن كان لا يعني الشهرة الحافزة على قراءة هذا الكاتب الهام أطال الله في عمرة.

نديم حسين- شقيق الشاعر سميح القاسم

من مواليد قرية الرامة قبل اثنين وسبعين عامًا. ربطتني به علاقة ومودّة منذ سنوات بعيدة. كتب وأنتج الكثير في مجالي الشعر والنثر، وكان مثقفًا واسع الاطلاع، وكنت في كلّ لقاء لي به أزداد احترامًا وتقديرًا له ولثقافته الأدبية الواسعة، علمًا أنه درس اللاهوت والطب وعمل سحابة عمره طبيبًا. أمضى المرحوم نديم حسين – رحل عن عالمنا العام الماضي 2022 عن عمر ناهز الواحدة والسبعين عاما، سحابة طاغية من عمره وهو يكتب ويجوّد، ويشعر أنه ما زال هناك متسع، وكنت أرى إلى لهفته الأدبية خلال لقاءاتي به في مكاتب صحيفة الاخبار النصراوية بحضور صاحبها ومحرّرها الكاتب الصديق محمود أبو رجب أمده الله بالعافية ومنّ عليه بالصحة. تمكن نديم من فنّ القول الشعري تمكنًا حقيقيًا ووشت لقاءته في سنواته الأخيرة مع الإعلامي الصديق المحترم رشيد خير- عبر منصته الفيسبوكية، عن ثقافة وعلم غزير، دلّ فيما دلّ على أنه عمل على تثقيف نفسه طوال الوقت وأشير فيما يلي إلى عدد من مؤلفاته، ضمن رغبة جامحة في إنصافه وإعادة الاعتبار له، فنجمٌ لا يلغي نجمًا وإنما يؤكد حضوره كما تقول الحقائق المتعمّقة في الوعي والحضور الانساني.

أحمد حسين- شقيق الشاعر راشد حسين

ولد هذا الكاتب الشاعر في مدينة حيفا عام 1939، وأقام جُلّ حياته حتى يومه الأخير، في قرة مصمص (صادفت ذكرى رحيله السادسة يوم الأربعاء من اب الجاري، علما انه رحل بتاريخ 23-8-2017. عمل نحو الثلاثة عقود في سلك التعليم، وكان هاجسه اليومي هو الكتابة والابداع كما لمست هذا، في لقاءاتي المتباعدة به، تلك اللقاءات الجازمة بأن الابداع هو هاجسه الرئيسي. كما لمسته في كتابات له أعتبرها بالضبط كما اعتبرها آخرون، منهم المرحوم الشاعر الاب في شعرنا الفلسطيني في البلاد حنا أبو حنا- من عيون الابداع الأدبي في بلادنا. تألق أحمد حسين في مجموعة قصصية حملت عنوان "الوجه والعجيزة". صدرت ضمن منشورات الصوت الثقافية النصراوية عام 1979، أعقبها بملحمة شعرية ساحرة حملها عنوان الربّة الكنعانية القديمة "عنات" واعقبه بعنوان فرعي هو- "او سفر الخروج من الزمن الهجري". وكان ذلك عام 1983، أما في مجموعته القصصية الآسرة تلك فقد صال وجال في الذاكرة الفلسطينية الأدبية، متنقلاً بمخيال خصب نادر بين أروقتها ودهاليزها، وباعثًا في قصصه وسرّدياته ذاتها روح الابداع الذي لا يتوفّر إلا لمن عاش هواجسه طوال أيام وعيه ولياليه. فيما يتعلق بملحمته الشعرية المذكورة استعار قناع الاسطورة ليوجّه نقداته الواعية العميقة، لتصويب المسيرة الثقافية لأبناء شعبنا وكأنما هو يريد أن يقول لنا لقد كنّا أبناء ثقافات رحبة واسعة فأين نحن منها. وواضح من هذا أنه أراد بنقده هذا تصويب تلك المسيرة جريًا على نهج أبي الطيّب المتنبي- شاعر العرب بإجماع الأكثرية وهو "يا امة ضحكت من جهلها الأمم".

موجز القول: صحيح أن لكلّ من الأشقاء المشهورين مكانته ومكانه الذي تسنمه عن جدارة واستحقاق، زائد أمور جانبية تمثّلت في ظروف مناسبة كما رأى الشاعر المغربي المبدع منصف الوهايبي في مقالة جيدة جدًا عن الشاعر محمود درويش نشرها قبل فترة في صحفة القدس العربي. وامور أخرى تعلقت بالظرف السياسي ودار النشر التي اهتمت وأصدرت. غير أن الحقيقة يُفترض أن تُرى كالشمس حين تحجبها السحب الكثيفة، فالعالم يتّسع لكلّ مبدع حقيقي، ولا يتوقّف على عدد من الأسماء المحظوظة لهذا السبب أو ذاك، وهذا لا يعني بالحتم انها غير جديرة.

***

بقلم: ناجي ظاهر

الشواهد الباقية من آثار الفن الإسلامى فى إسبانيا وتركيا والمتاحف الأوروبية تظهر مدى ما تمتعت به الحضارة الإسلامية من عناصر إبداع مبهرة. ولا أدل على هذا من أن الأندلس وبغداد واسطنبول وسائر عواصم الخلافة الإسلامية ظلت لعدة قرون مقصد طلاب العلم والفن فى كل المجالات..وأن كل شهادات المستشرقين حتى الغلاة منهم أجمعت على أن المعمار الإسلامى تربع على قمة أشكال المعمار وقتذاك، وأن أروع شواهد الإبداع فى الزخارف الإسلامية كان هو الخط العربى..

أواخر مارس من عام 2020 شهد الاعتراف المتأخر جداً لمنظمة اليونسكو لإدراج الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافى غير المادى فى 16 دولة عربية...والحق أن هذا الاعتراف لم يحدث إلا تحت ضغط من المنظمة العربية للتربية ولثقافة والعلوم "الألسكو" بناءً على اقتراح تقدمت به المملكة العربية السعودية بهذا الشأن ..وكأنَّ آلاف أو قل ملايين الشواهد التراثية والآثار المعمارية والمخطوطات التاريخية المكتوبة بهذا الخط الذى يعد الأقدم والأهم والأجمل بين سائر الخطوط لم تكن تكفى أن تتخذ منظمة اليونسكو مثل هذه الخطوة مبكراً بشكل تلقائى ودون ضغوط!!

القلائل من المثقفين مَن يعرفون مدى عمق تأثير الفن الإسلامى على سائر أنواع الفن الغربي المعاصر، وكيف أن الكثيرين من رواد الحركة الفنية المعاصرة مثل ماتيس وبول كيلي ومونييه وديلاكرو وغيرهم تأثروا بالفن الإسلامى ودرسوا طرق الزخرفة والكتابة العربية.

هذا ليس كلامى وإنما شهادة حق نادراً ما تتلقاها من المنصفين من المستشرقين الأوروبيين أمثال هنرى لويرت مدير متحف اللوفر، والذى أكد أن الكثير من فنانى الغرب خاصةً فنانى القرن العشرين أمثال كاندينسكى ودوترمونت وميتشو وغيرهم مثّل لهم الفن الإسلامى وزخارفه وخطوطه الرائعة مدخلاً واسعاً لعمليات الابتكار وخلق الأفكار الإبداعية الجديدة . ويعترف "ماتيس" قائلاً: إن الإلهام يأتيه دائماً من الشرق وبالتحديد من الفن الإسلامى..كل هذا لا يضيف جديداً لحقيقة أن الفن الإسلامى وفى القلب منه الخط العربي مثَّل حجر الزاوية فى عمليات الترقى التى نالت أنواعاً ومراحل مختلفة من تطور الفنون العالمية  سواءً فى مجال المعمار أو الرسم أو الزخرفة أو التدوين. وأننا قصَّرنا كثيراً فى تأكيد هذه الحقيقة والبناء عليها..

خط خلده القرآن

الخط العربي له خصوصيات جعلته متفرداً بين سائر الخطوط فى العالم كله..

بدءاً من كونه واحداً من أقدم وأرسخ الخطوط جميعاً..وأن عمليات التطوير والتحديث المستمرة فى أنواعه أفرزت عدداً هائلاً من الخطوط العربية يصعب حصره حقاً..إننى لا أتحدث عن الخطوط الأساسية المعروفة والمتداولة بيننا اليوم فقط، بل والأنواع النادرة والمجهولة إلا لكبار الخطاطين المتخصصين ومنها القديم والحديث والإليكترونى، بحيث لا أكاد أبالغ إذا قلت إن عدد هذه الخطوط إذا تم حصره فسيصل إلى مئات الأنواع والأشكال المختلفة للخط العربي شديد التنوع والثراء ..

وصفة القِدم ليست السمة الوحيدة المميزة للخط العربي وإن كانت الأهم..إذ أتاحت له الفرصة لينصهر ويتطور باستمرار حتى يصل إلى ما وصل إليه الآن من روعة. والباحثون يعودون بالخط العربي إلى عهد نبى الله إسماعيل، وإن كان الذى وضع له القواعد الهندسية والأوصاف القياسية هو الوزير العباسي أبو على محمد بن مقلة والذى نبغ فى كتابة الخط الثلث وابتكر خط النسخ وأدخله فى الدواوين الحكومية. ثم جاء بعده على بن هلال المعروف بابن البواب ليهذب قواعد ابن مقله ويضيف عليها وينشئ مدرسة خاصة للخط استمرت وتطورت منذ العصر العباسى إلى اليوم..

الأنواع القديمة من الخط العربي تعددت واختلفت أسماؤها عما هو الآن ..كان هناك خط المتن والريحانى والرقاع والطومار والرياسي والمدور والقيروانى والأندلسي ، ويقال إن أصل هذه الخطوط كلها وأولها هو خط المسند، وهو خط أهل اليمن والذى عُرف فى الجاهلية واستمر قليلاً لما بعد الإسلام.. الآن استقرت الخطوط على أنواع رئيسية هى النسخ والرقعة والثلث والديوانى والفارسي والكوفى والطغرائى والخط الحر، وأنواع أخرى فرعية مستمدة فى أكثرها من تلك الخطوط نفسها، وكل يوم نسمع عن خط جديد من الخطوط الطباعية الإليكترونية تم ابتكاره، وهو الشكل الأحدث للخط العربي المعاصر.

ولاشك أن نزول الوحى، وتسجيل آيات القرآن الكريم ، ثم تطور عمليات النسخ والتدوين والكتابة فى كل عهود الإسلام جعل الخط العربي يتربع على قمة الأولوية والأهمية بين سائر أنواع الفنون الزخرفية قديماً وحتى اليوم..

هكذا تمتع الخط العربي بسمة أخرى جعلته يصل إلى أرفع المراتب وهى أنه الخط الذى تشرف بنقل رسالة السماء إلى أهل الأرض، فبات بهذا الشرف هو الخط الأسمى والأفضل لأنه يحوى فى طياته نوراً معنوياً داخلياً يضاف إلى ما فيه من جماليات شكلية ومظهرية جلية..

مأساة العصر..

فى أوروبا صرخات تعلو وترتفع تنادى بعودة استخدام القلم بعد طغيان استخدام شاشة اللمس فى الأيباد واللابتوب والجوالات..وكيف أن مثل تلك الرفاهية خلقت جيلاً من الأطفال الكسالى بل والجهلة فى استخدام المهارات اليدوية وعلى رأسها فنون الكتابة..

فى مصر والدول العربية لدينا مثل هذه المعاناة أيضاً .. نعم هناك مادة يتم تدريسها بصفوف التعليم الأساسي اسمها مادة الخط العربي، يتم فيها التركيز على خطى النسخ والرقعة.. لكن ماذا عن الثمرة؟

لو أنك حاولت إجراء مسح ميداني على سائر الطلاب فى مختلف مراحل التعليم ستكتشف أن الأغلبية منهم ذو خط سيئ للغاية إن كانوا يجيدون الكتابة أصلاً.. وأن أقل القليل يتمتعون بحسن الخط، فما السبب؟ إن السبب الواضح جداً هو أن مادة الخط العربي مادة بلا مدرسين، وأن مدرسي اللغة العربية القائمون بتدريس هذه المادة ليسوا مؤهلين لتدريسها بسبب سوء خط أكثرهم إلا القليل منهم ممن اهتموا بصقل موهبتهم بشكل فردى.. ولو أنك أردت تحسين خط أحد أبناءك اليوم فإلى أين ستتجه؟ هل هناك اهتمام حقيقي بتأصيل وتدريس الخط العربي بأنواعه بين الأطفال؟ هل توجد مدارس للخط العربي فى كل مدينة وقرية كما كان الأمر قديماً؟

إننا نملك كنزاً تراثياً عظيماً أهملناه أيما إهمال، بدلاً من أن نبحث كيفية استغلاله وتطويره.. وعلينا أن ندرك أن تمسكنا بمثل هذا الفن الأصيل، فن الخط العربى، من شأنه أن يصل بنا وبه إلى العالمية، بعد أن اعترف به العالم كتراث عالمى عريق..

عالمية فن الخط تبدأ من هنا

لو أنك استرجعت تترات المسلسلات والبرامج والأفلام من السبعينيات وحتى التسعينيات ستجدها مكتوبة يدوياً بيد الفنان وشيخ الخطاطين المصريين خضير البورسعيدى، ولدينا فى مصر عشرات أمثاله، لكنهم مجهولون لأنهم بعيدون عن دائرة الإعلام..

وإذا بحثت اليوم عن الزخرفة الإسلامية فى معمارنا الشرقى الحديث ستكتشف أنها مهملة إلى أبعد الحدود، وأن الفنون الغربية طغت على المظهر العام للمعمار عندنا بحيث لا يمكنك أن تجد فيه الطابع الشرقى الإسلامى إلا نادراً.. والأمر لا يقتصر على هذا، بل إن الغالبية العظمى من نخبة الفنانين العرب يحتقرون الخط العربي ولا يعترفون به كنوع من الفنون الإبداعية الجميلة أصلاً، ويرون أن الغرب هو مصدر الفن العصري الآن، وأن السبيل للعالمية يبدأ من تقليدهم لفنون الغرب، لا من التمسك بالفنون الشرقية والإسلامية وتطويرها إلى حد المنافسة مع الغرب بما نبرع فيه منذ قديم الأزل!

الخط العربي هو فن من أهم الفنون الزخرفية الإسلامية لا يحتاج منا إلى تزكية ليصبح فناً عالمياً، بل هو بالفعل فن عالمى باعتراف كبار فنانى الغرب.. والطريق إلى تأصيل هذه الحقيقة يبدأ من إزالة غشاوة التبعية للغرب والتماهى معه، لندرك أن لدينا قدرات فنية موروثة أهملناها طويلاً وآن الأوان لإعادة إحيائها وتطويرها ووضعها على خارطة المنافسة العالمية .

***

عبد السلام فاروق

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلّابه أن يسمّوه

عندما نشرت مجموعاتي الثّلاثة الأولى وكانت تحتوي كلّ واحدة منها على ثلاثة مصاريع : عربية فصحى، تونسية فصيحة وفرنسية لفتت طريقة النّشر هذه انتباه بعض الأصدقاء الشّعراء وسألوني  لماذا لم أنشر كلّ نوع لغوي على حدة .

فوضّحت لهم الأمر  بأنّي قصدت هذه الطّريقة وفاء واعتزازا بتونس المتعدّدة المناطق  والألسنة  وبمنشئي حيث لغتنا الأمّ اي الدّارجة المحكية  منذ الولادة وحتّى قبلها فالجنين في بطن أمّه يستمع إلى كلماتها وما يدور حوله .

ثمّ نحن نتكلّم اللغة الدّارجة في أوساطنا العائلية والإجتماعية والمدنية طوال أعمارنا .فهل منّا من ترك هذه اللغة وتكلّم مع أمّه أو أبيه أو أصدقائه لغة غيرها ؟

وأشير هنا إلى أنّ المؤدّب الذي عرفنا على يديه اللغة العربية الفصحى كان أيضا يتكلّم قليلا الفرنسية وكانت عديد الألفاظ والعبارات الفرنسية متداولة في أوساطنا العائلية وهي طبعا مخلّفات المستعمر.

ثمّ تأتي مرحلة التّعليم وفي مدارسنا نبدأ بتعلّم لغة الأدب وهي العربية الفصحى إلى أن نبلغ مرحلة معيّنة وندأب على تناول اللغات الحيّة وأوّلها اللغو الفرنسية وبعدها الأنغليزية وغيرها.

إذن هذه الألسن الثلاثة كانت الأبجديات التي اعتمدناها في حياتنا ومن هنا جاءت قناعتي بأن أنشر كتبي بهذه الطّريقة.

وفي هذا الخضمّ علمت عن طريق الأستاذ سوف عبيد أنّ ما من أحد نشر أشعاره بثلاثة أقلام سوى أستاذه صالح الڨرمادي الذي نشر باللغتين العربية والفرنسية وكان يطعّم نصوصه من حين لآخر ويقحم ألفاظا تونسية بحتة يوردها في النّصوص العربية والفرنسية على حدّ  سواء وحدّثني عن مجموعة اللحمة الحيّة التي تحتوي على جزءين  جزء عربي وجزء فرنسي.

ومن هنا بدأت أبحث عن هذا الشّاعر الذي وجدتني أقتفي أثره دون أن أعرفه.

- يتبع –

***

زهرة الحواشي.تونس

 

في متاهات التشظي مثل بلورة مكسورة ، أسافر بين البيادق، كل منها عبارة عن قطعة من فكرة تائهة، حيث الهمسات جوفاء، والفرسان قطعان من الذكريات، والدروع صدى الرغبات غير المعلنة.

الزمن، ثعبان يلتف حول نفسه، يزحف عبر المربعات، أسود وأبيض، لكنه في الحقيقة ليس أياً منهما، فهنا اللون هو وهم محموم، والسماء المسائية مخيطة من أحلام المهندسين الذين لا ينامون.

الكلمات التي رقصت ذات وليمة على شفاه الشعراء العرب البرجوازيين الذين قبلوا بالفراغ، والذين تجرأوا على غمس أقلامهم في محبرة الظلام، ليجدوا أنفسهم مبتلعين بنظرة الهاوية السحيقة.

ينتصب الحصن القديم شامخًا، كقلعة من اليقينيات ، أحجاره حفنة من رميم عظام ضائعة، وملاطه غبار الإيمان المنهار.

ومع ذلك، فإن ظل الزعيم العربي هو الذي يلوح في الأفق، ليس كحاكم بل كدمية، دمية في يدي القدر، وقلادته هالة من الأشواك والدموع، ونياشينه وعود مكسورة.

عند الحد الفاصل ، يتدفق نهر من الحبر، تحمل تياراته حطام الفكر - جمل غير مكتملة، واستعارات محطمة، ورماد أفكار كانت رائعة ذات تاريخ.

وهناك، طاف على هذا النهر، بيدق واحد لا يتحرك، يحدق في الهاوية الممتدة إلى ما وراء الحواف ، نظرته سؤال، وصمته صرخة. ولكن لا جواب يتردد، فقط ضحكة الفراغ القاسي واللانهائي.

تتحرك البيادق، ولكن ليس بأيدي الرجال، ولا بأهواء الآلهة، ولكن بنسمة الأحلام - تلك الهبَّات الروحانية التي ترفع غبار الأفكار وتنشرها عبر الرقعة الوجودية.

تتم الحركة - يقفز الفارس في دوامة من الجنون، ويهبط في زاوية يتقارب فيها الزمان والمكان،

وحيث يركع المنطق، ويصبح الهواء مذاقه صدأً.

في الخلفية، القمر، العين التي ترى كل شيء، تراقب اللعبة تتكشف، ضوءه يلقي بظلال طويلة حادة،

تقسم الرقعة إلى مليون شظية، كل منها واقع مواز، وكل منها جزء من كل محطم.

اللعبة لا نهاية لها، واللاعبون غير مرئيين، وتحركاتهم خلف الخريطة تحددها نزوات الكون الذي لا يبالي بالعقل، الكون الذي يسخر من فكرة البداية أو النهاية، الذي يسخر من مفهوم النصر، لأنه في هذه اللعبة لا يوجد فائزون، فقط كراكيز تتحرك حتى تجبر على التوقف عن الحركة.

وهكذا يظل المشهد أفقا من الشفق الأرجواني الدائم، حيث تغرب الشمس في الشرق، وتشرق من قلب الهاوية، وحيث النجوم ليست بقع ضوء، بل دموع الآلهة المنسيّة، وحيث تحمل الريح همسات أولئك الذين تجرأوا على الحلم فاستهلكتهم أحلامهم.

يسقط الزعيم العربي، لكن سقوطه هو البداية وليس النهاية، ففي هذا العالم الدورة أبدية، والقطع التي تنهار الواحدة تلو الأخرى تولد من جديد فقط، وتخرج من رماد تدميرها الذاتي.

منتصب القامة .. أقف في بطن الحافة، متفرجًا على هذا الرقص الكوني، وشاهدًا على القدر والفوضى، وأتساءل - أين أجد نفسي في هذا التصميم المجنون؟ هل أنا عقل اللاعب، أم مجرد كراكوز؟ أو ربما أنا المشهد نفسه، المسرح الذي تتكشف فيه هذه الدراما الدموية ، والذي يرسم عليه جنون الكون.

لكن هذه أفكار عابرة، ضائعة في دوامة الدم والدم والدم، في مد وجزر اللعبة، في الرقص الذي لا نهاية له للكراكيز، ولم يتبق لي سوى صدى كلمة بعيدة، وصوت حلم ينكسر على ضفة الحياة اليقظة.

هكذا أبتعد، لكن المشهد يبقى، لغزًا ملفوفًا بالظلال، لغزًا بلا حل، لغزًا همست به الرياح -منذ أن جاء الهمج .. رقعة من الأحلام المشوهة، حيث اللعبة أبدية، والنتيجة لا تزال غير معروفة إلى الأبد.

***

نص سردي

بقلم: عبده حقي

تعاني الامة العراقية اليوم من الامية بعد ان كانت مصدرا للمعرفة وهي امة الكتابة  ليس بمفهومها الأبجدي  فحسب، ولكن من جهة الجهل  بآليات العلم وطرق التحصيل، وتفعيل آثاره على الفرد والمجتمع،بسبب التحولات السياسية التي حدثت خلال العقود الاخيرة،والابتعاد عن الكفاءات والعقول الكبيرة والنيرة التي لم تحصل على المكان الذي يستوجب ان يكونوا فيها وحسب اختصاصتهم، فيوجب بنا مراجعة ما تبعثر من الأوراق، وإعادة الاعتبار لهذه العقول والخبرات بكل اطيافها ومكوناتها وهم اهل لحمل الامانة و أمة القراءة والعلم والمعرفة، أمة المجد، أمة الإبداع والابتكار، واستثمارهم للعلم والمعرفة بدل تخريبهم وانزوا هم في الظلمة بدل نشر المعرفة ، فالعقل في حاجة اليوم إلى حمايته من جهة الوجود والعدم كما هو مصرح به في كل مصادر المعرفة .

من خلال المتابعة نجد اليوم إن مفتاح تطوّر الشعوب وتقدّمها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقراءة، فهي التي تفتح بصيرة الأمم نحو التطلع والمنافسة والتقدم و الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها وتفقد مشعل المعرفة .

 ماتت  الكثير من الامم منذ أن تربعت على عرش الفتن، ماتت منذ أن تحول الكتاب إلى عدو وباتت الرفوف تزين به، لتنوب عنه وسائل التواصل الاجتماعي  التي قتلت ولاتزال  كل أشكال  البحث العلمي.

ان القراء تساعد على تنمية القدرة والتحليل والنقد من خلال توظيف الفرد مهارة التفكير الناقد، وذلك من خلال ما يلاحظه من التفاصيل التي يقرأها ويحدد فيما إذا كانت قد كُتبت  و و صفت بطريقة جيدة أم لا، وأن يحدد أثناء قراءته لموضوع ما إذا ما كانت مكتوبة بشكل جيد أم لا، وينتقد، والجدير بالذكر أن امتلاك المرء مهارة التفكير الناقد ضروري في مختلف جوانب الحياة الخاصة به، ومما لاشك فيه إن إنجاز الشعوب وبناء حضارتهم وتاريخهم العريق، والذي جعلهم في حقبة من الزمن.. مراكز فكرية، وثقافية وتجارية واقتصادية وسياسية وعملية ونجدها ان وجودها كانت بعد القراءة! الدقيقة والسليمة في النقل .

 ان القراءة تمنح الفرصة للأفراد لاكتساب المعرفة والمعلومات من خلال قراءة الكتب والمقالات والصحف والروايات، ليتعرف الأفراد على أفكار جديدة وثقافات مختلفة ومجالات معرفية متنوعة، تسهم في توسيع آفاقهم وتطوير قدراتهم العقلية والفكرية. وقد يكون القارئ عنصراً فاعلاً في تطوير المجتمع وارتقاء مستواه المعرفي والحضاري ويترك ذلك الأثر الذي تتركه القراءة في حياة كل فرد في المجتمع  وتزيد عملياً من مستوى إنتاجية الفرد وتفاعله، وتعاطفه ووعيه، وهذا سينعكس حتماً على المجتمع بقدرته على التفاعل الإيجابي، ونبذ التطرف والانحراف، فالقراءة أداة حقيقية لتنمية الفرد والمجتمع معاً

تمنح القراءة للمرء القدرة على التنقل بين الماضي والحاضر وتجعله يتطلع نحو المستقبل وآماله، كما تمكن القارئ من العيش في مختلف العصور من خلال قراءته لقصة أو رواية ما وتمنح القراءة المرء المعرفة حول أحوال الأمم السابقة، كما تمنحه القدرة على التفريق بين طرق الخير وطريق الشر

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والبحوث

عندما يخط القلم الكلمات، تلوّنا لريشة العبارات فتصنع منها لوحة قد تكون أبلغ من ذات الكلمات، فتكون أعمق تأثيرا وأوسع انتشارا من دوي الرصاص، لأنها صادرة عن من كان دائما متوثبا لنصرة قضيا وطنه وتأبى نفسه أن يكون يوما عدوا لأهله، قاتلا شعبه،خائنا لأمته.

إنها مجرد بضع رسومات كاريكاتيريةـ لا تشير إلى أحد ولا تخص بالذكر أي مسؤول أو تسمي وطناـ كانت كافية أن تكون مجرد وسيلة تنفيس شاب بعفوية تامة عن ضيقه بوضع يراه لا يحتمل فعبر عنه بروح الفكاهة المألوفة، إنه وضع يراه ثقيلا لا يتحمل عبأه سوى البسطاء الذين سبق أن صمتوا عندما هب وطنهم لنجدة " الأشقاء" شرقا وغربا وجنوبا وقبلوا مجاراة أولي الأمر لما قدموا المساعدات على خصاصة شديدة منهم،واستقبلوا بين ظهرانيهم " ضيوفا " الذي أصبح على وشك أن يحرم من أساسيات الحياة "الكريمة " إنهم بالفعل أصبحوا يعانون من نقص الخدمات وكل الوقائع كأنها تشير إلى أن التاريخ بدأ يعيد نفسه بعد مروربضع سنوات، فقط.

في ظروف الشدة والضيق لابد من وجود متنفس يقي البلاد خطر الغليان والانفجار، فالشباب المتحمس غالبا أقل صبرا لأنهم أكثر حماسة في وطنهم وأشد غيرة على بلدهم، يريدونها الجنة في غمضة عين، يريدون الزهو بها، وارتداء ثوب الفخر بالانتماء إليها، وفي مثل هذا الحال لابد من يد تحنو عليهم لتسمو بالمشاعر وفكر مستنير يقوّم السلوك، ورأي سديد لتحديد معالم الطريق الصحيح، لابد من وجود قدوة وأسوة حسنة تنير بسراجها الطريق أمامهم، ولكن عندما تفقد البلاد سريعا تأثير القوة الناعمة التي طالما كانت لسنوات طويلة مضت هي المؤثرفي مبادئ المجتمع والموجهة لقيمه فإنها بذلك تتنازل عن طواعية أمام حتمية السقوط الحر في أوحال القمع والقهو وقطع الألسنة.ليس الفنان أشرف عمر الجباخنجي أقل وطنية من آخرين ملؤا الدجى بالصياح، لم نسمعه يتحدث ولم نصغي يوما لرأيه المعارض في قضية ما إنه هادئ الطبع، قليل الكلام، هو صيدلي، مترجم، موسيقي، فنان .. متعدد المواهب وليس أبدا ما نُسب إليه ظلما، لقد جرى اتهامه بجرم لا يوجه عادة إلا بعد فترة طويلة من المراقبة والمطاردة والكر والفر، تهمة ليست في محلها تماما ولا تُصدق لأنه ليس له فيها سوابق ولم يكن يوما محل شبهة، وببساطة لم يجد عناصر الأمن في لباسهم القتالي والمدججين بالسلاح  !!!بعد تفتيش منزله المتواضع سوي آلات موسيقية، لم تكن هناك مقاومة أو حتى مواجهة لأنه صاحب ريشة والريشة ليست أبداكالبندقية، فجده الفنان التشكيلي والمؤرخ محمد صدقي الجباخنجي من أبرزأساتذة تاريخ الفن المعاصر في مصر الذي أثرى المكتبة المصرية بعشرات المؤلفات، وأبيه عمر صدقي الجباخنجي الذي تقاعد مديرا عاما بجريدة الأخبار المصرية وعمه على محمد صدقي الجباخنجي الذي عمل طويلا بالمركز الإعلامي المصري التابع للهيئة العامة للاستعلامات بالجزائر، والمسؤول الإعلامي رئيس المكتب الصحفي المتقاعد بعد 27 سنة عمل بسفارة دولة قطر في الجزائر، إن أشرف فنان وصحفي وإعلامي بالوراثة وآخرون كثر استقى منهم أشرف الانتشاء بحب الوطن والتمتع بلحظات الدفاع عن مصالحه، فهو من عائلة إعلامية عريقة وشريفة خدمت مصالح مصر لفترات طويلة، ولا يجوز أبدا معاملة أحد أبنائها بمثل هذه المعاملة المهينة ثم توجيه كيلا من الاتهامات الغريبة الباطلة حتى لا نقول المضحكة .

لقد عبرت بعض المواقع الصهيونية عن شماتتها في الشاب المصري المعتقل، وكأن لسان حالها يرى في اعتقاله المشين تأكيد لانتقادها وضع حقوق الإنسان السيئ وضيق هامش حرية التعبير في مصر، بل إن الأمر أكثر من ذلك لقد أتاح الاعتقال المشين الفرصة لردود فعل الكيان المحتل للمسارعة إلى انتقاد الديمقراطية والإساءة البليغة إلى مصر بصوت عال يكفي أن يسمعه بلينكين خلال زياراته المكوكية، لقد خدمنا في غفلة عن الوعي والتبصر الكيان المحتل ليقزّم حالنا ويجعلنا أضحوكة وأقل شأنا من أن نتضامن مع الفلسطينيين والشعوب المغلوبة على أمرها .

لقد تضامن الرأي العام الداخلي والخارجي في المطالبة بإلحاح إطلاق سراح أشرف عمر فورا وإعادة الاعتبار له وسوف يكون هذا محل تقدير عموم الشعب. لابد من إعادة مصر واحة للديمقراطية ليطمئن شعبها ويرتاح الجميع. لابد من ترسيخ دولة الحق والقانون فبدنوهما لا حديث يليق عن وجود تنمية في غياب الكرامة والشعور بعزة الأوطان، فقهر الرجال وإذلال الشباب ظلما وطغيانا مصيبة على الأوطان، فلا شيء يضمن لنا أن يكون لدينا يوما من يدافع عنا.. أو نجدمن يقبل عن رضا أن يضحي بروحه.

***

صبحة بغورة

........................

* كاريكاتير بريشة راغب علي الجباخنجي

الى صديقي يونس!

لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا!

هل تتذكر المرحوم سعيد؟ قُتل فيما بعد في الحرب مع إيران، عرفتُ ذلك لاحقا، وقتها كنا، أولاد المحلة، في السبعينات نجلس في الشرفة، أو حديقة بيتنا الصغيرة، كان صاحبنا سعيد اسمًا على مسمّى، يمزح كثيرًا ولا يكف عن السخرية، نناديه باسمه:

- سعيد!

يجيبنا مبتسمًا: "يا ريت"، يقصد يا ليت هو سعيد حقًّا في حياته. وكان والدي يكن له حبًّا جمًّا ويتعامل معه كما لو أنه ابنه. كان سعيد مربوعًا مفتول العضلات، مائلاً إلى السمرة، مُجعّد الشعر قليلاً، فيه "رِس عبوديه" كما يُقال، ما أقبحه من قول! كنا نناديه "ابو سمره!"، وكانت جارتنا الطيبة العجوزة المحبوبة بيضاء البشرة أم عبد الأمير الشيخلي تقول له عندما تراه عندنا: "اشلونك؟ "دَيّوووس"، ذاك اليوم ليش ما درت لي بال لما طلبت منك تروح تشتري لي جكاير؟".

يُنكّسُ رأسه خجلاً منها متمتمًا بصوتٍ غير مسموع:

- سامحيني حَجّيه أم أمير، والله ما سمعتك! آني خادمك خالتي، خاله، أي شي تحتاجين آني بخدمتك، حاضر ببطن عيني، تدللين خاله أم أمير!

قالت له مبتسمةً وهي تنظرإليه بحنان الأم إلى ابنها:

- عفيه وليدي، اشلون لسان حلو عنده! عسل! سلّم لي على أمّك.

تصور! إننا العراقيون نتفوه بكلمات مثل: "ديّووس" التركية ومرادفتها ديّوث، و"قوّاد" بكل أريحية وودية! فظيييع!

سَأل سعيد والدي ذات مرة ممعنًا النظر إليه:

- عمو، كنت تدخن؟

- إي، نعم بس تركته لأنه مضر جدًا

- عمو والشرب؟ كنت تشرب في الشباب؟

- لا، في الحقيقة مرة واحدة ولم أستذوق البيرة لأنها مرّة، لا أفهم لماذا يحبونها،

أجاب والدي بفخر واعتزاز

- طيب عمو كنت تدور قح...........ا...ب؟

سأله سعيد متلفتًا هنا وهناك كأنه يستعد للهرب إذا تعرض للضرب او الهجوم!

- لَكْ، أسكت، عيب،

قال والدي محاولاً السيطرة على ابتسامة أصرّت أن تبقى مرتسمةً على شفتيه، بينما غرق الجميع في الضحك.

- طيب، طيب عمو جاوبني بصراحه أي حياة هذه؟ هذه جحيم !

وواصل الجميع ضحكهم، لكنه في حقيقة الأمر استدرك قائلاً:

- عمو هذا كلّه مزاح، بربّي إحنه طول الوقت نحلف براسك ونقول: يا ريت نصير مثلك، أنت كلك اخلاق وشهامه!

يونس!

أعتقد أكتفي بهذا القدر، على أن أكتب لك مرة ثانية رسالة بغير مقدمات مهلوسة ولا دوخة راس، وكما يبدو لي أنها مقبولة ومعقولة بفضل اختصاراتي وتعديلاتي، وغير مصدّعة كما تصورت، أليس كذلك يا صاحبي؟!

طبعاً يعجبني أن أحدثك كما طلبتَ مني عن الحياة هنا، مثلاً عن بعض الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد والسنة الجديدة وأعياد ميلادهم الشخصيه حيث يتحدثون عن كل الأمور بحرية للمزاح، ويوزعون الهدايا، وعن هدوئهم  والمسابح وتحميم الأطفال بدون ان تحترق عيونهم بالصابون كما هو الحال عندنا عندما كنا صغارًا، هل تتذكر كم مرة بكيت في الحمّام من الرغوة الحارقة وكيف كانت أمهاتنا يفركن وجوهنا ويؤنبننا أو قد يضربننا إذا كن متعبات كالعادة وأمزجتهن رمادية "غير فستقية"! وعموما كيف تتعامل الأمهات هنا مع أبنائهن بالطرق الجميلة الهادئة مثل الغناء والضحك والتحادث معهم وتربيتهن لهم منذ صغرهم، أو منذ "نعومة أظفارهم" كما علّمنا مدرس اللغة العربية. وسامحني مرةً أخرى على الأسلوب الفوضوي والمزاج الانفعالي والانتقالات رغم اني شطبت وعدلت وشذبت الكثير منها.

بلى، لا بدّ لي أن احدثك في المستقبل عن موضوعاتٍ خطيرةٍ يواجهُها الأجانب هنا وبالذات "ربعنا" من العرب والشرقيين مثل تربية الأطفال، الفرق بين الأولاد والبنات والتعليم الجنسي في المدارس والصور العارية والأفلام الإباحية ومحفزات الجنس متوفرة أينما تذهب ومن الصعب كبح غرائز الشباب.

وعن انتقال الأبناء من بيوتهم عند بلوغهم 18 سنه وهو سن الرشد، ويسكنون في مساكن الشباب، ويستلمون منحةً شهريةً، ومعاملة المرأة، الرجل والمرأة هنا يتقاسمان شغل البيت مناصفة.

أما ماهي الحرية الجنسية؟ "أسكتْ وخلّها"، حرية لا يقدر عليها إلا الذين نموا وترعرعوا عليها هنا منذ الصغر، والأجيال الجديدة لها ثقافة خاصة بها، هم يقررون أغلب أمورهم الشخصية والآباء لا يربونهم كما تربوا على الأجداد كما هو الحال عندنا. من منا لم يقرأ: "لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا"، وقولاً آخرَ كنا نقرأه  في الكتب المدرسية: "لا تربوا أولادكم كما ربّاكم أباؤكم فإنهم خُلقوا لـزمان غير زمانكم"، لكن هذا كلام نظري وبس، نظريًا كل شي عندنا تمام لكن العبرة بالتطبيق! المشكلة أن الغربيين يبالغون في إعطاء الحرية للأطفال بينما يضيّق الشرقأوسطيون الخناقَ عليهم، يريدون حلاً وسطًا في تربية الأجيال الجديدة.

أعتقد أن هذه القضايا على غاية الأهمية لا يمكننا التطور والنمو بدون فتح النقاش حولها وحسمها والحديث عنها بلا محرمات "لا حياء في الدين"، وإلا سنبقى نراوح في أماكننا إن لم نرجع إلى الوراء وعندها فعلاً لازم "نطمُّ نفسنا طمًّا" واسْلَيمَه التِطُمنا! وسامحني يا أخي يونس على هذه الخاتمة المتشائمه وما ذلك إلا حُبًّا بكم.

وتحياتي الى الجميع!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

تلعب الثقافة العامة التي تعني 'كلُّ ما يضيء العقل، ويهذّب الذوق، وينمّي موهبة النقد، واشتقاق كلمة ثقافة من الثِّقاف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَّف على أنّه شخصٌ مثقّف، وتُعرّف الثقافة أيضًا -اصطلاحاً- على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيّات ' و تستعمل في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي والجماعات والثقافة ليست مجموعة من روح ممارستها العقائد والقيم واللغة والمبادئ والمقدسات والقوانين والأفكار فحسب؛ ولكنها نظرية في السلوك ترسم طابع الشعوب وتغني التجارب.

تشمل القيم في البيئة التي خلقها الانسان؛ بما فيها المنتجات المادية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتتضمن الأنماط الظاهرة والباطنة للسلوك المكتسب؛ عن طريق الرموز التي تتكون في مجتمع معين من علوم ومعتقدات وفنون وقيم وقوانين وعادات وتقاليد تتوارث من جيل إلى أخر، من الصعوبة الفصل ما بين الثقافة والمجتمع؛ إذ إنهما متكاملان فلا وجود للثقافة من الاصل لولا وجود مجتمعات تتبناها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تنظمها؛ إذ إنها تتحول إلى غابة، وأبسط مثال على ذلك اللغة حيث تعتبر اللغة المكون الأول للمجتمعات؛ بل الموروث الثقافي الاهم في المجتمع ولولا وجود اللغة لانعدمت أهم وسيلة اتصال بين الناس في المجتمع، ولذلك فإن أي محاولات للفصل ما بين المفهومين ستذهب ُ سدى كما هو حال الثقافة والمجتمع تتعرضان اليوم للعديد من التحديات، و لعل الإنسان  يتأثر بعوامل خارجية؛ كذلك أيضا أبرز التحديات هو تحدي العولمة؛ الأمر الذي أفقد المجتمعات  خصوصياتها الثقافية حيث بدأ العالم كقرية صغيرة مفتوحة على بعضها، مما جعل الكون يبدو كأنه ثقافًة واحدة، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة اغتراب عن مجتمعه.

وتعمل الثقافة على إغناء حياتنا من خلال تقديم فهم أعمق للعالم وتعزيز النمو الذاتي وترسيخ أواصر الارتباط والانتماء من خلال التراث والمعالم التاريخية والأدب والفنون والإبداع والمتاحف وغيرها من الممارسات اما الثقافة العامة فهي هي مجموعة المعارف والمفاهيم والمعتقدات التي يكتسبها الشخص عن طريق التعلم والتجربة  والمعرفة التاريخية يتعلم من خلالها الشخص حقائق وأحداث تاريخية مهمة والثورات والحروب والتطورات السياسية والاقتصادية والمعرفة العلمية، يكتسب الشخص معرفة بنظريات ومبادئ العلوم المختلفة يكتسب البشر الثقافة من خلال عمليات التعلم الخاصة بالتثقيف والتنشئة الاجتماعية، وهو ما يظهر من خلال تنوع الثقافات عبر المجتمعات. أما الثقافة المؤسسية فلهادوراً محورياً، كونها ذات تأثير مباشر على أداء العامل بشكل خاص، وإنعكاس ذلك على أداء المؤسسة بشكل عام، إذ أنها تٌعد الإطار لتوجيه السلوك التنظيمي والمؤسسي، ووجود الثقافة يحافظ على القيم المؤسسية، وبالتالي زيادة الالتزام والضبط بالعمل على استراتيجيتها وإدراك أهمية ما تسعى إليه تلك المؤسسة ودفع العاملين لتحقيق أهدافها، بحيث ينتج عن هذا التجانس تحفيزهم ودعمهم لتحقيق أهدافها.

ومما لا شك فيه أن الثقافة المؤسسية لها دوراً مهماً في عملية التطوير والإبداع وتعد عامل مستقل يرتكز على القيم ولها أهمية بارزة في عمليات استمرارية الأعمال واستمرارية المنظمة بشكل عام.

ومن المعلوم أن الثقافة المؤسسية بأنها مجموعة من المفاهيم والقيم والمبادئ التي يؤمن بها رئيس المؤسسة، بحيث يقوم بدوره بالعمل على صياغتها بطريقة تتناسب مع طبيعة وبيئة وإستراتيجية العمل داخل المؤسسة، كما يجب أن يكون العاملين مؤمنين بتلك الثقافة وعلى قناعة تامة بتلك القيم والمفاهيم ويعملون ويلتزمون بكل جدية بالعمل على تطبيقها بتوجيه وتمكين ودعم من الإدارة العليا بالمؤسسة تلك. خلاصة القول أن الجهود الرامية إلى التقدم هي جهود جماعية يحمل مسؤوليتها المثقف والسياسي والتاجر بالإضافة إلى العمال وأرباب العمل، وكذلك كل أفراد المجتمع لتأتي النتائج الثقافية كتعبير عن تلك التي أحدثها في المجتمع في بنيته لأن الثقافة من أحد ُشكل الركن المعنوي فيها، و تشمل كافة الجوانب غير المادية والمتمثلة في العقيدة والقيم و الأفكار والعادات أركان الحضارة؛ واّلتقاليد والاعراف والاخلاق والأذواق واللغة، وغيرها من الجوانب الأخرى

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والبحوث

 

‎‎إن فرضية نهاية الكون تشير الى نفخ الملك إسرافيل بآلة الصور، فيصدر صوتا موسيقيا يفزعنا ثم يصعقنا للموت حتى نفخته الثالثة التي تبعثنا للنشور.

فلماذا اختار الخالق هذه الآلة وخلقها قبل ان يخلق بني ادم؟  هل لأهمية الموسيقى في حياتنا وموتنا؟ أم أنها رسالة تثبت أن الآلة الموسيقية ربانية بامتياز!. 

يحدد الباحثون زمن ظهور الموسيقى مع بداية الحياة على المعمورة، عندما أطلقت حنجرته نغمات موزونة على إيقاع تصفيق يديه، كما كان يفعل الراحل داخل حسن عندما يوازن بكفيه ومسبحته إيقاع اللحن ووزنه. بينما يشير المؤرخون الصينيون الى نشأة الموسيقى قبل وجود الانسان على الأرض. 

فالإنسان تعلم الموسيقى من الطبيعة وقلدها بإبداع.

الطبيعة بجمالية خلقها موسيقى هادئة  تبعث الاطمئنان والراحة النفسية، بينما تصدر الأصوات من مكوناتها كصوت خرير الماء وتغريد البلابل ورفيف أجنحتها.

ومن بين أسس الموسيقى العلاقة التي تنشأ بين الأم وطفلها عندما تهدهده. فعندما تودعه لساعات النوم تبدأ ترنيمتها الغنائية الموزونة: "دللول يا الولد يا بني دللول، عدوك عليل وساكن الجول". أنها اللحظة التي يكتسب فيها الطفل الادراك الموسيقي، وهي اللحظة التي يكتسب من خلالها ارتباطه بالعالم الخارجي، بحزنه أم بفرحه. 

ويقال ان الموسيقار بيتهوفن، كان يمضي وقتا طويلا في الطبيعة بكل مكوناتها، ويحمل القلم والورقة ليسن ألحانه المستقاة من أصل الطبيعة. وهذا مؤشر أكيد الى أن الموسيقى رفيقة الانسان، من مولده الى حين ما ينفخ بالصور

ومع ارتقاء الإنسان تبدلت آلاته الموسيقية القديمة، لتصبح أكثر حداثة لتشبع الذائقة والحاجة الروحية الى الموسيقى التي توحد العالم مثلها مثل الهواء والسماء، فكيف لعزف نشيد وطني بآلة موسيقية في محفل مهم يثير الثورات المصطنعة، وكأن فرحة الجمهور أثارت الغيظ والغضب الوهمي للمتصيدين في ماء السياسة العكر.

***

وداد فرحان - سيدني

 

في البداية وقبل كل شيء؛ لست انا بناقد وليس في نيتي ان  اكونه، إنما حين اقرأ عمل ما واجد من ان هذا العمال يستحق تقديم قراءة له؛ اكتب قراءة له. رواية احدب نوتر داب كنت قد قرأته في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ من ثم اعدتُ قرأتها قبل ايام. في هذه القراءة وجدت فيها الكثير من العلامات والدلالات، كما الكثير من الاسئلة عن حقبة ظلام وظلم القرون الوسطى التي كانت فيها اوروبا تحت هيمنة وظلام وظلم الكنيسة؛ خلال ما يقارب العشرة قرون الى نهاية القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر. انها اي هذه الرواية قد قالت الكثير عن بدايات انهيار قرون الظلم والظلام. من رحم هذا الظلم وهذه العتمة؛ بدأ عصر النور والانوار الذي شكل اللبنة التي منها من وبينها ومن وسطها؛ انفجر في فرنسا وفي عموم اوروبا عصر النهضة. رواية احدب نتوردام تصور بصورة مؤلمة وواضحة في آن واحد؛ الحياة في باريس في نهاية القرن الخامس عشر؛ وكيف يجري تماما استخدام او استثمار الدين من خلال تحكم الكنيسة في كل ما يجري على الارض من حياة الناس الى الاحكام التي تطال الناس وتسلب منهم حياتهم وحريتهم وكرامتهم وانسانيتهم. فقد استخدمت الكنيسة محاكم التفتيش في كل من يقف بالضد منها، او يحاول ان يفند اراءها سواء في السياسية او في الدين او في كل ماله علاقة بحياة الناس. رواية احدب نتوردام تعكس بصورة جلية؛ واقع الحياة في تلك العصور، عصور القرون الوسطى، وفي نهاية اخر قرن من القرون الوسطى المظلمة في اوروبا، وبداية عصر النهضة والاستكشاف والتنوير. كما انها ترجمت ما يمور في المجتمع الباريسي وبالتالي في كل المجتمع الفرنسي، بل الاوروبي وبالذات في غرب اوروبا وفي وسطها؛ من حركات مضادة لكل طروحات الكنيسة في تلك الفترة اي في اواخر القرن الخامس عشر. انها حقا ملحمة انسانية مؤلمة وموجعة في ان واحد؛ فقد كانت الكنيسة لا تتحكم بالمجتمع فقط، بل انها تتحكم ايضا بالقصر الرئاسي في فرساي، اي ان الحكم في القصر الرئاسي يستمد شرعيته؛ من موافقة الكنيسة وليس من الشعب. في ظل هذه الاجواء والظروف سواء ما كان منها سياسيا او دينيا، او اي ملمح اخر من ملامح الحياة كل الحياة؛ تخضع كليا لإرادة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، محاكم تفتيش القرون الوسطى. كانت هناك حركة مضادة لها، لها فعلها في المجتمع الفرنسي. في وقت كان هناك على الجانب الثاني في باريس؛ مجتمع الظل او مجتمع المهمشين الذين يرزحون تحت ظل الفقر والعوز والحرمان وانتشار بيوت الدعارة؛ في احياء كاملة في الضواحي. الغجرية الراقصة والمغنية والتي تتقن فن الغناء والرقص بطريقة مذهلة كما انها تتمتع بجمال اخاذ؛ كانت قد خرجت من مجتمع الدعارة هذا بطريقة مؤلمة جدا. والدتها كانت تعرض نفسها او جسدها للبيع في اسواق بيع الجسد في تلك النواحي المهملة جدا، والتي ترزح تحت فقر مدقع. فقد حملت وهي لا تعرف من والد الطفلة التي سوف تولد لاحقا، والتي حين  وضعتها كانت على قدر كبير جدا من الجمال. الوالدة تعلقت بها كثيرا حتى صارت لا تفارقها ابدا. في احد المرات من سوء الصدفة؛ كانت لشغل ما غادرت البيت لبعض الوقت. حين عادت لم تكن الطفلة في مكانها، بل كان هناك شبح مخيف جدا، فلا هو بإنسان ولا هو بحيوان هو في مكان بين الاثنين، بين الانسان والحيوان. وجه قبيح جدا، وحدبة في الظهر. في قارعة الطريق او في مكان على قارعة الطريق؛ وضعته هناك، مع اطفال اخرين في ساحة اعدتها الكنسية مسبقا لهذا الغرض، اي لعرض هؤلاء الاطفال او هؤلاء الرضع؛ لمن يريد من الناس ان يتبنى اي منهم. ظل الطفل الشبح او الطفل المخيف والمرعب جدا، ظل هو الوحيد الذي لم يتبناه اي احد. لكن في النهاية تبناه راهب عرف في المجتمع بالتقوى والاحسان. تتركز هنا بؤرة الرواية في الاحدب والراقصة والراهب والذي هو واحد من اعضاء محاكم التفتيش. تحمل الرواية مع انها رواية كلاسيكية؛ الكثير من الرموز والدلالات التي اراد الروائي بها او من خلال شخوصها الرئيسية؛ ان يقول رؤيته وأراءه في تلك المرحلة التاريخية المهمة والتي لاحقا هي من رسمت الحياة المستقبلية في فرنسا بل في كل اوروبا؛ بعد تخلص فرنسا من نفوذ وهيمنة الكنيسة، وانتهاء تحكمها في المجتمع والحكم والسياسة والناس. الراقصة الغجرية والتي هي ليست غجرية بل انها ابنة شابة فقيرة في احياء بيع الجسد، لكنها عاشت في احضان الغجر الى ان شب طوقها. حين كانت طفلة؛ قام الغجر بسرقتها ووضعوا مكانها، الطفل الرضيع الاحدب. كانت تعيش من عروضها في الغناء والرقص في الساحات. في احد المرات كان هناك عرض موسيقي غنائي؛ في مسرحية غنائية؛ لمخرج وموسيقي وشاعر وكاتب في وقت واحد؛ في بداية مشواره في التأليف والانتاج المسرحي؛ حين قام بعرض مسرحيته في الساحة التي تم اعددها لهذا الغرض؛ جاءت هي الغجرية وقامت بعرضها الغنائي مما ادى الى ان ينصرف الجمهور عنه إليها. لكنه في ذات الوقت كان قد تعلق بحبها، وتزوجها زواجا دراماتيكيا. كيف حدث هذا الزواج؛ هذه هي بؤرة الرواية؛ بشخوصها الرئيسية؛ الراقصة والاحدب والراهب.. الزمن الروائي للرواية حيث؛ تدور احداثها في هذه المرحلة التي سبقت عصر النهضة الاوروبية والتنوير؛ والتي فيها اختمرت كل عناصر الانفجار الذي لاحقا كانت هذه العناصر؛ هي الاسس الذي تم البناء عليها؛ في بداية التخلص تماما من نفوذ وسيطرة الكنيسة.. تخرج الراقصة الغجرية في ظلام الليل وحيدة تماما في دروب ضيقة ليس فيها اي حركة لبشر في ساعة متأخرة من ليل غاطس كاملا في الدمس. تتفاجيء بشلة من لصوص الليل يقودهم شبح مخيف كأنه حيوان خرج من غابة كثة؛ يجندلها الشبح حتى انها لم تتمكن من الصراخ. في هذه اللحظة ومن حيث لا تتوقع؛ يخرج من اعماق الظلام فارس شاب من سلاح الفرسان الملكي؛ ينقذها من عصابة اللصوص وقطاع الطرق. تقع في حبه بسرعة ومن دون ادنى تفكير، كما هو الأخر كان قد وقع في حبها على الرغم من ان له خطيبه من طبقته. في التوازي الزمني والمكاني تقوم العصابة بزعامة وحش الليل؛ باختطاف المخرج والكاتب والذي هو الأخر كان قد وقع في حبها؛ كما انه كان هو السبب في انقاذها حين ارشد وبسرعة الفارس الشاب الى ان هناك على مقربة قريبة جدا؛ ثمة اختطاف للراقصة الغجرية. لكن الذي حدث لاحقا حين انصرف الفارس الشاب؛ قامت العصابة بقيادة وحش الليل بتنظيم جلسة محاكمة للمخرج والكاتب؛ ووضعوه امام خيار وحيد؛ وهو ان تقبل به الراقصة الغجرية كزوج لها  وان لم تقبل فان مصيره الموت. جيء بها، بعد ان تركها الفارس وحيدة في الليل، ظانا من انها قد نجت منهم؛ الى دهليز المحكمة التي هي من صناعة الراهب من دون ان يظهر هو في الصورة، إنما سياق السرد قدم لنا هذه الصورة وبوضوح بالكلمات؛ وقاموا بتوجيه السؤال لها؛ هل تقبل بالكاتب زوجا لها؛ المفاجأة كانت هي قولها نعم اقبل به. ان كل هذا الذي  حدث هو بتخطيط من الراهب والذي هو احد اعضاء محكمة التفتيش. فقد وقع هو الأخر في حبها. الرهب الذي كان قبل سنوات قد تبنى الطفل الشبح او الذي هو في مكان بين الانسان والحيوان حتى سيطر عليه سيطرة تامة، اذ اوكل عليه دق نواقص الكنيسة عندما يحين وقت الصلاة. الاحدب الشبح المخيف والذي يشبه الحيوان اكثر مما يشبه الانسان؛ كان يتمتع بقوة خارقة جدا. اراد الراهب الحصول عليها باي ثمن، فقد كان قد احبها بطريقة جنونية. من بين تلك الوسائل هو اختطافها من قبل الوحش المطيع له مع عصابة اللصوص. لكن هذه الوسيلة قد فشلت تماما. فما كان منه الا ان قام بتحريض العناصر التي تتبع محكمة التفتيش والتي هي الأخرى تابعة الى الكنيسة. فقد اتهمت بالهرطة والتدليس. ليتم سجنها، لكنها تمكنت من الهروب قبل ان يتم تقديمها الى المحكمة ومن ثم حتما الى المقصلة. كان السبب في تهريبها هو الراهب الذي طلب منها ان تكون له هو وحده مقابل ذلك ان يخلصها من المحكمة كليا. لكنها رفضته بإصرار وقالت له انها تحب الفارس الشاب الذي انقذها. في هذا الوقت او في كل السنوات التي مضت كانت الام حبيسة في غرفة مغلقة؛ بحجة من انها مجنونه؛ لا ترى العالم الا من كوة صغيرة في الجدار. لكنها لم تأييس ابدا من انها ذات يوم لسوف ترى ابنتها. قصة الغجرية ما كان لها الا ان تنتشر في الاحياء الفقيرة، والتي اعتبرت او انهم اعتبروها واحدة منهم، وعلهم ان يهبوا لإنقاذها. لتفجر غضب الجماهير المهمشة من اتون محاكم التفتيش. هنا يتجلى تماما علاقة الكنيسة مع القصر الرئاسي في فرساي، إنما الامبراطور او الملك الفرنسي، لويس الحادي عشر؛ كان حينها في زيارة الى باريس. عندما علم بالغضب الجماهيري وبثورة هؤلاء الناس من الكادحين والعمال وما هو يقع في خانتهم او في تصنيفهم. حتى كادت هذه الجماهير ان تسيطر على باريس. قال لمن ابلغه هذه الاخبار؛ وهو ايدها كليا ظنا من انها كانت ضد قاضي باريس الذي يكن له كرها شديدا، وليس ضد الكنيسة؛ ومباركا لثورة المظلومين ومشجعا عليها. لكن حين علم من انها كانت ضد الكنيسة؛ امر الدرك وسلاح الفرسان بالتصدي لهذا التمرد وقبره قبل ان ينتشر الى بقاع اخرى من فرنسا. هنا يصبح لنا الامر واضحا كل الوضوح وهو علاقة القصر الرئاسي بالكنيسة؛ علاقة تخادمية ومنافع متبادلة بين الاثنين الكنيسة ومحكمة التفتيش(القاضي يشرف على ادارة باريس وليس له علاقة بمحكمة التفتيش) والقصر الرئاسي. حين يسجن ويعذب الوحش او الغول الوحشي الذي شكل ويشكل الخادم المطيع للراهب؛ للجريمة التي قام بها باختطاف او محاولة اختطاف الراقصة الغجرية، وبأمر من الفارس الشاب من سلاح فرنسان القصر الملكي، وقبل اتهام الراقصة بالتدليس والهرطة والتي كان وراء هذا الاتهام هو الراهب؛ عندما مرت بالقرب منه وهو يُعذَب قامت بسقيه بالماء واطعامه بما كان عندها منه حينها. في اثناء مطاردة الراقصة الغجرية من قبل سلاح الفرنسان، وهو يحاول اخماد ثورة الجياع والعمال والمهملين من الناس، وبعد تحرير الغول او الوحش المطيع للراهب، قام هذا الوحش بإخفائها في الكنيسة كي لا يصل إليها سلاح الفرنسان؛ لأن لكنيسة من الاماكن المحرمة الوصول إليها واعتقال من يلوذ بها طلبا للنجاة. هنا يتمكن الراهب من الوصول إليها على الرغم من تحفظ الوحش عليها واخفاء سرها عن الراهب، ويساومها بالقبول به مقابل ان يخلصها من سلاح الفرنسان وايضا من محكمة التفتيش. لكنها ترفض رفضا قاطعا. من كوة في جدار الكنيسة تبصر الفارس الشاب من سلاح الفرنسان فتنادي عليه بأعلى صوتها. في النهاية يتم اخراجها من مخبئها بحيلة شارك فيها الراهب. تم بعدها سوقها الى المقصلة. قبل ان تصعد إليها ابصرت امها؛ التي خرجت من محبسها حين عملت من ان الراقصة هي ابنتها التي كانت قبل سنوات خلت قد فقدتها. تعرفت عليها من القلادة التي حملتها الراقصة الغجرية خلال سنوات. قدمها لها الوحش وهي في سجنها، واعلمها بكل ما جرى ولسوف يجري لأبنتها. امام المقصلة يجتمع الراهب والحدب والام والراقصة التي تدفع من قبل الجلاد الذي يأتمر بأمر الراهب؛ كي تصعد سريعا الى المقصلة. تنادي امها. تحضنها امها في اخر مرة لها في الحياة؛ اذا تفارق الحياة وهي تحضن ابنتها. يقطع رأس الراقصة الغجرية. لتسدل الستار على حياتها الى حين.. الراهب يقذف به الاحدب من على برج الكنيسة حين اراد ان يتسلل الى الغرفة التي تضم الراقصة؛ قبل اعتقالها من قبل سلاح الفرنسان الملكي؛ ليموت ممزقا، كما ان الوحش الاحدب يموت هو الأخر عند ارض المقصلة، موتا طبيعيا هو اشبه بالانتحار وليس الانتحار تجسيدا. ان الرمز والدلالات والعلامات التي قالتها الرواية عبر شخوصها الرئيسة؛ الراهب الذي يمثل تماما فساد الكنيسة وسيطرة رجال الدين فيها على مقاليد والاوضاع والظروف واحوال  وحياة الناس؛ بإدانته التي جاءت له، من الكنيسة ذاتها نزولا عند رغبة الناس وخوفا من غضبهم لاحقا؛ يمثل بداية تراجع دور الكنيسة في حياة الناس وفي سياسة الدولة، في المستقبل القريب؛ وهذا هو ما حدث بعد سنوات اي في بداية القرن السادس عشر او اخر سنوات القرن الخامس عشر. الاحدب الوحش على الرغم من اطاعته للراهب، لكنه في نهاية الامر كان قد تمرد عليه واصطف الى جانب الراقصة، والى جانب ثورة الكادحين من ابناء الشعب الذي كان يئن تحت وطأة الظلام والظلم والجهل. الاحدب على الرغم من قبحه الا انه في الداخل منه؛ فيه الكثير من الرقة والعطف والانسانية. حين اكتشف حجم الظلم والقسوة التي كان يمارسها الراهب والذي يمثل كل من الكنيسة ومحاكم التفتيش؛ انحاز الى جانب الراقصة والى جانب ثورة الجياع والمظلومين الذي اتخذوا من مطاردة سلاح الفرنسان للراقصة سببا لهم للثورة. ان رواية احدب نتوردام؛ زمنها الروائي هو نهاية القرن الخامس عشر؛ الذي شكل نهاية قرون من ظلام القرون الوسطى في فرنسا واوروبا. لقد تلت بعد سنوات من زمن هذه الرواية التي كتبت من قبل شاعر وروائي فرنسي، فكتور هوجو؛ انها كانت في سرديتها تحمل نبوءة بداية عصر الانوار والتنوير وانتهاء عصر الظلام. فقد تلت سنوات هذه الرواية؛ ثورات فرنسية عديدة؛ استمرت لقرنين حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقبلها، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر؛ الذي حدثت فيهما على التوالي؛ كمونة باريس الثانية والاولى.  الكلمة الحرة هي من تسلط الاضواء الساطعة على الظلام والعتمة؛ لتعري وتكشف؛ رجالهما وادواتهما.. رواية احدب نتوردام من اصدار المركز الثقافي العربي في المغرب؛ تقع الرواية في 411صفحة من القطع المتوسط. ملاحظة ضرورة القول بها في هذه السطور المتواضعة: ان البعض من الاعمال سواء في الرواية او في الشعر او في اي جنس أخر؛ تظل صالحة ومفيدة للقراءة ومن ثم في الاستفادة منها في التحليل والاستنتاج للواقع المعيش في الاطار العام وليس في التطابق الكلي؛ لعدة عقود وحتى لعدة قرون..

***

مزهر جبر الساعدي 

 

عزيزي يونس اللجوج!

يا للجاجتك وإلحاحك!

لا تزعلْ منّي! طلباتك صارت كثيرةً! لكن مع ذلك أحاول أن أجيبك باختصار.

طلبتَ مني يا صديقي العزيز أن أكتب لك عن احتفالات رأس السنة هنا في هذا البلد الغني الصغير الجميل، وقتَها كانت الشمس تفتخر بإشراقها المتواصل حتى التاسعة مساءً، نعم كانت تشبه ليلة من الليالي البيضاء في عاصمة روسيا الشمالية: "لينينغراد" عفواً، "سانكت بطرسبورغ"، في نهاية يونيو وبداية يوليو، كما أتذكر، وإلا فأنا ضعيف بالأنواء الجوية. المهم، إني أجبتك آنئذ، وأنا "أدق" صدري قائلاً لك: تدلّل! غالٍ وطلب رخيص! صحيح، والله صحيح، أعترف بذلك، نعم وعدتك بالكتابة لكن كلام الليل يمحوه النهار، وأنا رجل، عفواً أقصد إنسان، متقاعس، أو بالأحرى مزاجي، يوم هيك وآخر كيك، وثالث ن ... ، عفواً، سامحني، هكذا هي الأمور هنا، كل شيء يجري حسب الطقس، أعتذر لك كثيراً لتأخري عن طلبك اللحوح اللجوج وأنت تعاني من الحصار، ومع ذلك وجدتُ نفسي اليوم منغمراً في رغبة الكتابة إليك، منخرطاً ومنهمكاً، في  الرد على سؤالك، وأحاول قدر الإمكان التركيز على سؤالك، وكما كانوا يقولون لنا في المدارس: فهم السؤال نصف الجواب، فأنا فهمتُ منك أنك تريد أن "تنفّه" عن نفسك وتستمتع بقراءة رسالة بلا نكد، كلها أفراح واتراح! أليس كذلك؟ وطبعاً سأتذكر دوماً ما طلبته أو "أمرتني" به: عدم التشعب وتقليب المواجع والانتقال إلى موجات أخرى، كما عهدتني أو شخّصتني و"اتهمتني" تقريباً! ولا يهمك سأسعى وأبذل كل ما بوسعي! إليك الرسالة!

الدنمرك دولة علمانية ديمقراطية، نعم، لكنها ذات خلفية مسيحية، إنهم يحتفلون بكل الأعياد الدينية المسيحية، لكن كما كان الناس عندنا في السبعينات يقولون ممازحين "مسلم بالجنسية".

الناس هنا يعشقون شجرة عيد الميلاد، يزينوها ويرقصون حولها في ليلة الكريسمس لكنهم ليس بالضرورة كلّهم متدينين. وأقول لك: لم يتقبل الناس هذا التقليد الجديد أو الموضة مباشرة وبدون اعتراض على الشجرة!

تقوم مؤسسات الدولة بتزويق أماكنها كل حسب اجتهاده، البلدية تنظف الشوارع وتعلّق الأعلام الملونة والشراشيب، تنصب شجرة كبيرة حقيقية مزيّنة ومزوّقة في ساحة المدينة الرئيسة، غالبًا ما تكون في مركزها كما هو الحال في كوبنهاجن. وتُخصّصُ محطاتُ التلفزيون برامجَها لهذا الغرض. هناك برنامج خاص للأطفال يبدأ من بداية شهر كانون الأول حتى رأس السنة اسمه "مفكرة عيد الميلاد" مكرس لهذه المناسبة مستوحى من الثقافة المسيحية، يُعرض فيلمٌ عن حياة سيدنا عيسى المسيح، فتصَوّر يا صديقي، مثلاً، كيف سيكون رد فعل عائلة ملتزمة باعتقادٍ آخر غير النصرانية، تريد تربيةَ أطفالهم عليه.

إنه أمرٌ متعبٌ بالتأكيد في البداية، وليس دائمًا سهلاً على آباء وأمهات غير مسيحيين، أو تابعين لكنائس أخرى، تقبّل ذلك! المسلمون يعترفون بكل الأديان السماوية السابقة ويَعتبرون المسيح نبيًا، لكن الرسول محمد خاتم الأنبياء، هذا ما لا يراه الآخرون! بل يغيظهم! هنا يكمن الصراع!

فيلم "الرسالة" عن حياة الرسول أهم بالنسبة للعائلة المسلمة من برنامج آخر عن الأديان!

عمومًا يبدأ الناس بالحديث عن عيد الميلاد والتحضير له منذ بداية شهر كانون الأول أو منتصفه، يفكرون بكيفية الاحتفال، أين وكيف وماذا يأكلون ويشربون، ولو في حقيقة الأمر أن الطعام معروف.

وكالعادة فإن أفراد العائلة يحتفلون بهذه المناسبة بأكل ما لذَّ وطاب من الوجبات والشراب والرقص حول شجرة عيد الميلاد المزينة بأحلى التزيينات اللّماعة بمختلف الألوان وصور الأقزام وهم يتدلون على أغصانها، وهدايا كثيرة مخفية تحتها توزع فيما بعد على الأطفال والكبار وهم يُقَبّلون ويحتضنون بعضهم بعضًا.

الأمر الآخر هو ان الكريسمس إذا جمعته مع "دورة" السنة ونهاية الأسبوع يصبح إجازة لا بأس بها، يسافر فيها بعض الناس. بدأنا نأخذ هذا الخيار أو يأتي أصدقاء مقربون جداً لنا ونحتفل معًا بهاتين المناسبتين، لكن هناك الكثير من المغتربين المسلمين الأصوليين، بالذات الجدد، وحتى الدنمركيين المورمونيين وشهود يهوه لا يبالون لهما وأطفالهم لا يشعرون بهما.

أتذكّر أني قلت لسْتين العامل "الروبوت" أو "الماكنة" كما أسمّيه، الطيّب، المشرف على بنايتنا السكنية، الجثيث، الطويل الضخم، عملاق من أحفاد القراصنة، "مبروك بعيد الميلاد"، ردّ عليّ ببرود أو جفاء :

- "إنكم لا تحتفلون بهذه المناسبة"،

أجبته:

- مع ذلك مبروك!

قال مبتسمًا ابتسامةً صغيرةً باهتةً بانت من طرف شفته:

- شكرًا.

تسائلتُ بين نفسي، من أين له هذه الأحكام النمطية؟ بالتأكيد بعد معايشته لبعض النزلاء من الأديان الأخرى بمن فيهم المسلمون وشهود يَهوه والمورمونيون ممن لا يُحيون هذه المناسبات، ولا يجاملون ويخشون على أطفالهم من التماهي مع الآخرين.

لكنها عطلةٌ لا يُستهانُ بها، يستغلها الناس بمن فيهم المغتربون للتزاور والسفر إلى ذويهم الى مدن او دول أخرى قريبة منهم. احتفلنا مع عائلة اخرى من أصدقائنا جاؤونا من السويد، قضينا ليلة جميلة بالذات مع الأطفال، لولا محاولة قتل "غسلاً للعار" حدثت هنا، أفسدت علينا أمزجتنا الجميلة واسترخاءنا.

دعني هنا أنقل لك مقاطعَ قصّةٍ كتبها صحفي مكرّسة لهذا الحدث، من جريدة محلية، وأعذرني إن كانت سلبيةً، يقول الكاتبُ:

- " أنا فعلاً متأثر وحزين لحد الآن على ما حدثَ، أعرف الرجلَ المسنَّ شخصيًا، اعتدى على "ضحيته" في لحظة غضب، لم تمتْ والحمد لله، أجل، بَقيتْ على قيد الحياة، اغرورقت عيناه بدموع الفرح والندم لسماعه هذا الخبر، كُتبتْ لها حياة أخرى جديدة، بشرى سارّة له، فقد أحبّها كثيرًا كما يحب ابنته وتمنى لو لم يرتكب هذه الجريمة.

وُلدَ هذا الرجل الفلاح الطيب في بلد "يحج" إلى سواحله الدافئة ملايين الأوروبيين سنويًا، حيث الجبال الشاهقة الجميلة الخضراء، قَدِمَ إلى ألمانيا ومنها إلى الجزر الدنمركية الباردة منذ الستينات للعمل حالمًا بالسعادة، وصار هذا المسكين المعذّب أبًا لأطفال كثيرين، لا أتذكر ثمانية او عشرة، أغلبهم يعاني من صعوبات وتحديات مختلفة، أحدهم مدمن، ضايع، صايع، زوّجوه من بنت شابة اسمها قمر، وهي حقّاً  اسم على مسمّى، وجهها كالقمر، "طازة"، "سر مهر" جاؤوا بها من الأرياف على أمل أن تصلحه، وهل يمكنها ان تقوم بذلك بعدما أفسده الدهر، اكتفوا بأن قالوا لها: خطيبك ميكانيكي، الحمد لله كانوا شرفاء، لم يبالغوا في وصف ابنهم، لم يقولوا لها مثلاً: إنه مهندس طيران! كانوا يعوّلون عليها لإصلاح ابنهم! هي أفضل منه تعليمًا، بقي لها سنة وتنهي الثانوية العامة، من يدري؟ كان يمكن أن تصبح معلّمةً أو طبيبةً في بلادها، لكنها فضّلت ألا تضيّع فرصة العمر: "لم الشمل"، أو "السحب" كما يقولون في بعض الدول الفقيرة، تركتْ الدراسةَ، ضحّتْ بفارس أحلامِها، أحبّها وأقسمَ لها أن يسعدها إن بقيت معه، مع ذلك جاءت إلى هنا، إلى هذا البلد الأوروبي الجميل، كانت تظن أنها ستنعم بالرفاهية وتطور شخصيتها وتكمل تعليمها، وقد تمد يد العون لقريبها و"ما الحب إلّا للحبيب الأول"، لم تجد غير النكد اليومي والفقر والعنف الأسري، بقيت حبيسةَ المنزل مع أفراد عائلة زوجها، أجل، كانت هذه الحقيقة مفاجأةً، بل كارثة بالنسبة لها!

عريسُها، المحروس زوجُها أو بعلُها مدمنٌ لا يفقه شيئًا من الحياة، يهيل ويميل في شوارع المدينة، بقيت معه خمس سنين على هذه الحال، احتارت المسكينة ماذا تفعل له ليتحسن وضعه، بلا فائدة، عبثًا حاولتْ وحاولتْ، أنجبت منه طفلين وثلاثة على مبدأ "كَثّري الحجار يثقل الدار"، عذراً إذا كان هذا المثل غير صحيح، أو أنه من تأليفي، النهاية ليست هندية "هَبي إند"، بل حزينة، هربت الزوجة الغريبة، أرادَ والدُه قتلها غسلاً للعار بينما كان بعلها الشاب يتسكع مع المدمنين قرب كنيسة مريم العذراء في العاصمة.

هي الآن راقدة في المستشفى بينما الأب في السجن، صاروا موضوعَ الصحافة وألسنة الناس، تلوكهم!

حدّثَني ابنُه، العريس "المقدام" في مراتٍ نادرةٍ التقيتُه فيها وكان بمقدوره الحديث والتعبير عما في خلجات صدره، قال بلكنته الجلية وهو مشغولٌ دومًا بتصفيف شعره الأسود اللماع بفعل الدهون، الطويل النازل على جبهته تارةً، يضع السيجارة في فمه حينًا آخرَ، نافثًا دخانها إلى الأسفل وإلى الأعلى، مبتسمًا بين الفينة والأخرى مكررًا:

- أليس كذلك، أليس كذلك، واللهًً، والله، كان أبي يضربني لأتفه الأسباب، مرةً لأني سألته عن "أبو البول" وكيف يتم الجِماع، ليس هناك مشكلة، أليس كذلك، صار يسب ويشتم، ويقول إني لا أحترمه، وضرب المنضدة بيده، جرحها، قلت له: أبي هذا ما علمّونا إيّاه في المدرسة، يسمّونه التعليم الجنسي، أليس كذلك، لماذا تضربني يا أبي، الله يخلّيك، أنت تعرف ممنوع ضرب الأطفال، أليس كذلك، لكنه صار عصبيا أكثر من السابق، يسب ويشتم وضربَ حتى والدتي ضربًا مبرحًا، قال لها: "أنتِ السبب، تدلّلينه، تريدينه أن يصير دنمركيًا"!

صحيح انا "ابن القعده" يعني آخر العنقود، أليس كذلك، لكني لم أرَ بحياتي اي دلالٍ ومحبةٍ منه، تصور مرة طلبت منه ان يشتري لي دراجة مثل كل زملائي التلاميذ، أليس كذلك، فرحتُ كثيرًا لأنه وافق، لكنه ظل يماطل ويماطل ويؤجل الموضوع، وفي كل مرة يقول: انشاء الله، انشاء الله أو بكره، أخيرًا هلكت، صرت أخجل أمام أصدقائي، أليس كذلك، والدة أحدهم أهدتني دراجة كانت حلوة ونظيفة، لكني مع ذلك قلت لها مفتخرًا، وأنا كنت في العلالي، فرحًا للغاية: أبي سيشتري لي واحدة، وعدني، أليس كذلك، هي تفهّمتْ موقفي، كانت أُمًّا دنمركيةً طيبة للغاية، تحبني كما تحب ابنها تأخذني معهما الى المطعم والسينما ومدينة الألعاب، والله كلها غالية جداً، أليس كذلك، ومع ذلك تدعوني في كل المناسبات.

عُدتُ إلى البيت، قال لي والدي:

- اليوم راح أشتري لك دراجة، فرحتُ للغاية، لا تتصور سعادتي، كدت أطير من الفرح، والله نمت أحلى ليلة في حياتي، لن أنساها إطلاقًا، وحلمتُ أني أسوقُ دراجةً جميلةً فيها سبعة "كَيرات" وحلّقت بها إلى أعالي السماء، فوق، فوق، سقطتُ ومع ذلك لم أشعر بالألم، كنت مبتهجًا فرحًا سعيدًا، أليس كذلك، بقيت منتظرًا اللحظة التي سيأخذني فيها الى محلات الدراجات، لكن لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، فوجئتُ بأنه جاء بدراجةٍ قديمةٍ صدأةٍ، رماها في الممر قائلاً: تعال يا صبي خذها، اشتريتها لك، ستذهب بها غدًا إلى المدرسة، لم أَسُقْها طبعاً عندما اذهب للمدرسة خشية أن يراها زملائي ويسخرون مني، في حقيقة الأمر لم يكونوا كذلك لكني لم ارغب باستعمالها رغم الضغط والضرب، إي والله يضربني، لم أستخدمها، يقول لي: "لازم تروح للمدرسة بها، لماذا لا تريدها؟ تستعر منها؟ أنا لما كنت بعمرك ما كان عندي دراجة يا غبي!"

أو، مرّة أخرى، رجوتُه ان نعمل حفلة عيد ميلادي وأدعو زملائي مثل الدنمركيين، أليس كذلك، كلهم سألوني عن ذلك، أخبرته، توسلت به، بابا الله يخليك دعني أسوّي حفلة عيد ميلاد، صار عصبيا، قال: "كم مرة طلبتُ منك ألا تلح عليّ، هذا حرام"، كان فعلاً عنيفًا معي، أكلتُ ضربًا من هذا الأصلي، ثاني يوم رحت للمدرسة، سألتني المعلمه عن الكدمات الزرقاء على وجهي، كذبتُ عليها بالطبع، قلتُ لها: سقطتُ، لم تصدّق ذلك، اتصلت بالمشرفة الاجتماعية، تدخلت البلدية، أخذوني إلى مقابلات خاصة مع ناس محترفين متخصصين، كشفوا الأمر، انتزعوني جبرًا من أمي وأبي، أليس كذلك، أعطوني هدايا، اشتروا لي ملابسَ ودراجةً جديدةً، كنت أهرب وأريد العودة إلى أهلي، وأشتاق إلى أخوتي وأخواتي باستمرار ولم أشعر بالاستقرار منذ ذلك الحين.

ومنذ ذلك الحين، أنا تائه! ضائعٌ! لم أنهِ المدرسة ولم اتعلم بشكل جيد! هذه هي الحقيقة، أنت لا تعرفها وأنا أحببت إبلاغك بها حينذاك، شكرًا لك، حاولتَ دوماً مساعدتي، أنت إنسان طيب، أنا أعرف أنك تحب والدي وعائلتنا كلها، تريد لنا الخير وتعيننا، لكن الآن صعب، أنا مدمن وأرتادُ مكانًا خاصًا للعلاج، أليس كذلك، أنت تفهمني، أليس كذلك"، قالَ كلمته الأخيرة وعلامات الألم والحزن بادية في عينيه، بانت أسنانه كلّها صفراءَ بنية أثناء ابتسامته اليائسة، بدا كأنه أكبر من عمره الحقيقي بعدة أعوام.

هذا هو الذي ينغّص علينا حياتنا يا صديقي القارئ، مع الأسف لدينا ما يكفي من هذه الهموم بين غرباء البلدان الدافئة، والقصص كثيرة تدمي القلب، الجميع يردّدُ عبارةً شهيرةً "نخشى على فلذات أكبادنا". مسكين والده كان يشتغل في البناء يأتي الى البيت متعبًا، يضرب أطفالَه، أبعدت البلدية بعضهم منه، تزوج من اخرى، في النهاية تقاعد عن العمل، أراد أن يتوب وصار يدعو الناس للجامع، لكن، "بعديش؟ بعد ما وقع الفأس بالراس؟"!

الأولاد "فالتيها" في الشوارع، من المؤسف أنه لم يلتقِ بإمامٍ ذكيٍّ وخبيرٍ يعرف كيف يرشده بأن العبادات وحدها غير كافية، كان عليه أن يكون طيبًا حنونًا مع أفراد عائلته، يحرّم عليه ارتكاب الجريمة، على الأقل المفروض أن المسلم لا يقتل!

هذا الأب القاسي كان دوماً يقول إن أولاده طيبون لا يضربون أحدًا، لا يفهم أن تربيتهم ليس بالضرب، ومن أين تأتي العدوانية المترسخة في شخصياتهم، هو غير قادر على استيعاب خطأ تربيته لهم، تقليدية قديمة عفا عليها الزمن وأن طفولتهم غير طبيعية، لا يدرك أن عدوانية أطفاله نتيجة حتمية لعنف أسري مارسه لأتفه الأسباب، وانعدام الرعاية والحنان والحب بينه وأم أولاده!

أبناؤه، طيبون بالفطرة كما أحسستُ بهم، لا تتصور عزيزي القارئ كم أحبهم كلهم بلا تمييز، الإناث أفضل من الصبيان في الدراسة، يواظبن على واجباتهن البيتية، الصعوبة عند الأولاد، "بعضهم يعاني من الشعور بالنقص وضعف الشخصية ومشكلة الهوية والانتماء واحترام الذات، وهي نتيجة طبيعية لطفولة بائسة غير مستقرة ومليئة بالمطبّات"، كما يقول المحلل النفساني! مِن أين للأب أن يعرف هذه المصطلحات ويفهمها!

تصوّر أن أحد المحللين قال:

- يبدو أن هذه العدوانية او الطريقة الفظّة الخشنة في التعامل مع الآخرين صارت راسخةً في الجينات لتاريخها الطويل في الشرق، لا يمكن حلها إلا بتنويرية جديدة وفترة استقرار طويلة تنشأ فيها عدة أجيال. طبعاً انزعج منه ابنُ العائلة الأكبر، وصفه بالعنصرية:

- أستغرب منك تتكلم بهذه الطريقة، تصنّف البشر حسب انتماءاتهم العرقية،

لكن النفساني قال له بثقة العارف الحكيم:

- مرّتْ أوروبا بالوضع نفسه، لكن التنويرية والتطور غيّرا الأمور ومُنعَ ضرب الأطفال في المدارس، والمنازل، أجل لا تتصور أن أسلافنا كانوا أفضل منكم، ولا يزال حتى يومنا هذا يعاني بعضنا من نفس هذه الأمراض الاجتماعية.

انتهت قصة الصحفي!

1994الدنمرك

***  

د. زهير ياسين شليبه

 

قبل أن نبدأ ننوه بأن الكلمات المبدعة لابد وأن تكون حادة ورقيقة في نفس الوقت كشعلة النار. ومن لا يجد في قلبه تلك الموهبة عليه أن يبتعد عن الخلق ويكتفي بما هو مخلوق! ونخبركم بأننا يحق لنا الإرسال فقط، ولا نرى ما تظهر من إيميلات الأعضاء. هذه رغبتنا ومن يرغب بالكتابة لنا فعلى الخاص مع التقدير.

مدخل للضرورة الحتمية:

لو أمتزج الجهل باليقين يصبح كارثة موقوتة يمكنها الانفجار في أي لحظة كالقنبلة؛ وهذه اللحظة ولدت وكبرت وترعرت وعشعشت في الأذهان، ثم انفجرت وأنقضى الأمر! ففي السابق كنا نبعث النص للرقيب قبل النشر ليقرر براءته من إعدامه! بينما اليوم ندفع النص لأقرب الناس لنا كالزوجة مثلاً لتقرر فيما إذا كنا سنلقي حتفنا بسببه أم نعيش برهة أخرى من الزمن الذي يحتضر أصلاً! بمعنى، عشعش الرقيب في أذهاننا، وبات أقرب إلينا من الجلد للعظم! هذا يجعلنا نتوصل إلى قناعة مؤلمة مفادها، كلما أثبتنا أميتنا كلما أصبحنا في مأمن من الخطر! هذي هي سياسة اليوم التي يسحبوننا إليها!

بتنا نتسلى بالصمت لعله ينقذنا مما أصابنا من فوضى حالت بالعالم ومن حولنا، وحتى ابتساماتنا أصبحت متعبة مثل أرواحنا، ودموعنا مهدودة كأجسادنا! فلماذا لا يتركون ما للرب للرب؟ وما للحياة للحياة؟ فهل تعودنا بحكم السلطان المعروف عنه بالورع والتقوى أن نربي ونرعى الردائة أكثر مما نصلح من شأنها؟! الويل  لوطن سكنه الأشرار، يعملون كالنار، يحرقون كل من يقترب منهم.

الوطن الذي نعرفه يكون حماية من الأخطار، خيمة ظل من العواصف والرعد والأمطار، رزق وحنين، وذكرى كل السنين، لكن وطننا يختلف عن كل الأوطان، تستعصي الكلمات فيه لتخرج وتعبر عن نفسها كالفرحة المغتصبة التي لم نعد نعرفها لحزنها وسواد ثوبها!

***

من لا يعرف المبدع العالمي واسيني الأعرج عليه أن يعترف بقصوره الثقافي!

مبدع من الطراز الأول. لملم وأستحوذ على الجوائز الأدبية التي نعرفها ولا نعرفها بكل جدارة. خاض ويلات التسقيط، والتهميش حتى وصل حد النبذ! كل هذا لم يجعله يخذل، أو يستسلم، أو يستكين. بل العكس، زاده قدرة وعزيمة وثبات وجرأة قل مثيلها، بل نكاد لا نعرفها عند رفقاء مهنته الأدبية أمثال محفوظ، أو مينه، أو الحكيم، أو نعيمة، أو جبرا، أو تيمور، أو أدريس، أو منصور ولا حتى عميد الأدب العربي بذاته.. نقول ذلك ولا ننتقص منهم. لكن الحقيقة لابد من قولها كي ننصف تأريخ هذا العملاق الأدبي الذي جاء إلينا من الجزائر وهو الأستاذ الجامعي في بلاد العرب وفرنسا وعندما كان يكتب ينسى نفسه، بل لا نجده يفكر إلا بأدبه، بما سينقله للناس أجمعين مهما كانت حدته، قوته، أو تأثيره، ولم يحسب وقتها حتى ردة فعل النظام الحكومي المدني أو الديني لذلك لم يكن له صيت العربي الحائز على نوبل لما كانت لكتاباته من شرارت ولهيب قادرة على حرق التراث المغلق، أو صهر العقول المتحجرة النائمة في الماضي الذي هو سبب الكوارث الإنسانية التي نحياها ومحاولة جعل تلك العقول تستيقظ من سباتها.. كيف لا وهو القائل:

" الذين سيروا هذه البلاد كانوا صغاراً. صغاراً على الأحلام الطفولية. كانوا مهزومين ومعادين لثقافة لم يكونوا يملكونها. ملأوا أدمغتهم بطقوس الصلاة والحج، وكل أساليب النهب والسرقات. علموا أطفالنا رؤية كل ما هو رمادي وقاتم ومنعوهم من التمتع بالنور والفرح. عندما نزلوا من الجبل، نزلوا حالفين على الكنائس، والحانات، والمسارح، والأوبرات، وكل ما يجعل من المدينة مدينة. لقد خسروا موعداً استثنائياً مع مدن كانت جاهزة، لكننا فعلنا كل شيء لتدميرها وترييفها بشكل أفقدها توازنها لتتحول في النهاية إلى وحش! "..

في سياق آخر مؤلم حد الإحتضار يقول:

" أي صمت ينفع أمام القاتل؟ الأمر لم يعد شجاعة ولكنه صار قدراً. لا نملك شيئاً سوى الصراخ والكشف وركوب الرأس والموت وقوفاً. إنهم يذبحون كل شيء، الناس. الصيف. الربيع. الشتاء. الخريف. المدينة. الهواء. والنور! "..

وعندما أغتيل أعز أصدقائه كتب نواحاً جريئاً يرهب النفوس المؤمنة والحاكمة على حدٍ سواء، قال:

" كان غاوياً. الشيء الوحيد الذي لن يرفضه تهمته الجميلة التي ظل طوال حياته يدافع عنها بكل جنون. الفن جوهرة، سحر، يعني غواية، وإلا ما هو السر في انقيادنا نحو الكلمات والألوان والتشكيلات؟ الفن إذا خسر طاقته للغواية يصبح كتلة جامدة، وميته (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يضحك صديقي عالياً وهو يحاول أن يسترجع الآية بكاملها: الشعراء والغاوون شيء واحد. الهيام واللافعل، يعني الانسياب والتلاشي، شيء واحد، نحن أمام مواصفات كلها نتاج هذا السحر وهذه الغواية الاستثناية. أليس هذا هو تعريف الشعرية بكل مواصفاتها النبيلة؟ "..

يا له من مبدع عظيم.. كان رغم بساطته اللغوية بحر هادىء الأمواج وفجأة ينقلب إلى صخب لا يرحم، مثل حافة المقصلة ولن تكون لديك أي قدرة على مواجهته رغم كل ما تمتلك من مقومات ثقافية كنت تتغنى بها قبل قراءتك لنصوصه السردية تلك. له روح وصفية حادة وشفافة في ذات الوقت لم نقرأ مثلها أو ما يعادلها، لا عربياً، ولا عالمياً إلا ما ندر. قابليته في الشد وصهر الحبكة في بوتقة النص رهيبة تحبس الأنفاس بين أضلعها. تجعلها لا تتحرك حتى تكمل متابعتها وبالكاد تسحب الشهيق.. ولن تجد الوقت لتزفر الزفير. هذه هو المبدع الجزائري واسيني الأعرج بأقل الكلمات.

***

قراءات في كتب ج. 1

 بقلم: هيثم نافل والي

الى صديقي العزيز يونس!

الحب هالحرفين

***

كما وعدتك، أكتبُ لك عن بعض المظاهر بصراحة محاولاً أن أمسك العصا من وسطها!

في الصباحات الباكرة الشتوية القارسة البرد ترى الشابات والشباب من طلبة الجامعات والثانويات وتلاميذ المدارس وأغلب الناس هنا يقودون درّاجاتهم متجهين صوب مؤسساتهم التعليمية وأماكن عملهم، الأمهات والآباء يضعون أطفالهم في المقاعد الخلفية، يسوقونها في ممراتها المخصصة لها بسرعة لامبالين بالسيارات طالما أنهم يلتزمون بقوانين المرور، يتوقفون عند اشتعال الضوء الأحمر رافعين أياديهم اليسرى إلى الأعلى، وينطلقون عند الأخضر، يحركون أكفّهم اليمنى إلى اليمين إذا أرادوا الاستدارة نحو هذه الوجهة وإلى اليسار إن رغبوا ذلك، لكن مع ذلك تحصل حوادث دهس الشاحنات للدرّاجين، وبالذات التلاميذ الصغار وبخاصة إذا قادوها عكس الاتجاه. ليس هناك أجمل من رؤية الأطفال الصغار يقودون دراجاتهم معتمرين خُوَذَهم على رؤوسهم، متجهين نحو مدارسهم أو أماكن اللعب والرياضة.

وأحب أن أقول لك إن للدراجات هنا سوقها الرائج، هناك العديد من محلات خاصة ببيعها وتصليحها، منها المحلي والمستورد والغالي والرخيص والمناسب والماركات الأصلية والتقليدية، والخ. "كل واحد يمد رجله على قد لحافه".

في كل مرة أرى فيها جارَتَنا العجوزة هَينه، يعني مثل اسم هناء، تقود دراجتها مرتدية ألطف الملابس، متعطرة بأعبق العطور ووجهها مطلي بدهون الزينة أو ما يسمى الميك أب أو الميكياج، أتذكّر العراقيات المسكينات يتسارعن نحو حتوفهن وهن لايزلن في مقتبل أعمارهن.

أتذكر والدتي، أصبحت تشكو من الشيخوخة قبل الخمسين. وجارتنا أم حسين، بقيت أرملة تتشح بالسواد منذ وفاة زوجها عندما كانت في منتصف الثلاثينات منشغلة بتربية أطفالها الأربعة. هنا، حتى بعض العجائز الوحدانيات يبحثن عن أزواج أو أصحاب وأصدقاء أو رفاق أو عشاق أو أحباء وخلان، سَمّهم ما شئت، هذا غير مهم بالنسبة لهنَّ هنا، المهم إنهن لا يُردن ولا يرغبن العيش لوحدهن بل الاستمتاع مع الآخر في هذه الدنيا، المهم العِشرة، وإلا فسيكفنَّ عن الوجود وينشدن الكفن والموت والخلاص من الحياة إن تحولت إلى جحيم. الناس هنا يبحثون عن الجنة في الحياة وليس الممات، ومفاهيم الشرف والأخلاق مختلفة.

لو حدثَ هذا الأمر عندنا في العُرااااق كان كلهن "راحن سبعة ماي!" غسلاً للعار!

وطبعا عندهم الغانيات و"الدونيّات" و"الموزينات" اللي فيهن العيب، يعني الدعارة، "عُذَه، عُذَه!" العياذُ بالله، أقصد بائعات الهوى! أستغفر الله، أستغفر الله، موجودة كما في كل مكان، وقد تكون رسمية، وقد يدفعن الضرائب، وهناك من يرى أنهن يؤدين وظيفة اجتماعية مهمة وضرورية ويقدمن خدمات لبعض الناس بطريقة قانونية مضمونة صحيًا! المنطق هنا يقول: "ليش لا إذا كان بعضهم يريد ذلك؟ دَعهم يقومون به قانونيًا تحت المراقبة والسيطرة، أفضل من الخفاء".

انتبه يا يونس، أنا شخصيًا لم أقل هذا، ولا علاقة لي بهذا الرأي! أرجوكم لا تقوّلوني ولا تحمّلوني مسؤوليته! وغيرمقتنع بالفكرة ابدًا!

فهل تعيش يا ترى نساؤنا، حسب قِيم الأوروبيين، في جحيم دانتي يا صديقي؟ لكن هل تتصور أن بعض هذه المظاهر مختفية عندنا؟ صدّقني، حسب ما يقال ويُشاع والله أعلم ما في الخفايا والصدور، إنها أيضًا موجودة، هناك نساء كبيرات في السن يتزوجن مع احبائهن في الخفاء وبشكل مستور وغير معلن للجميع تجنبًا لمفاهيم رقابة المجتمع. وهناك زواج الصيغة أو المتعة، صرنا نسمع عنه عندما أقمنا في الخارج، ولم يكن منتشرًا في العراق كما يُروّجُ له في بعض الأماكن، و"المستَجعَدات" المساكنات وبنات "الكاوليه" الغجريات وهناك في بعض المدن القوّادات "المعلّمات"، أم فلان وفلان، الشهيرات باستقبال الرجال في بيوتهن البغدادية، وطبعاً العُرفي والمسيار في بلدان أخرى. يَمعوّد، كلشي عندنا جوّه العباء ومدستَر، بس من نريد نحكي بالتدين والشرف ماكو أطول من لسانننا!

هذه كلها أساليب "احتيال" أو "تساهل" أمام التشدد ضمن سياسة غض النظر والتسامح، أو شىء من "المدنية" من قبل الحاكم، الدين يُسر لا عسر، ولم نسمع برجم الزانيات ولا العاشقات، اللهم إلا غسل العار.

العنف ضد النساء في الغرب له تاريخ و"فنون" قاسية لا تقل عن الشرق! إي والله "مفيش حد أحسن من حد"!

هنا، في الخارج، تُرتَكب أيضًا جرائم غسل العار بين بعض جاليات المغتربين واللاجئين، هذا هو حال الدنيا منذ الأزل. والعرب، طبعًا أكيد ليس كلهم، بل بعضهم، كان لديهم قبل الإسلام تقبّل لوجود متحررات، مسافحات ومخادنات، بل حتى بائعات هوى معروفات ممن نصبن الرايات الحُمر على خيامهن، ومنهن ظهرن إلى العلن على قارعة الطريق شبه عاريات الجيوب والأثداء، يلبسن ملابسَ أو دروعًا  وقمصانًا شفافةً، بلا أزرار، فتصور! وهل تعتقد أن هذه الظاهرة اختفت لمجرد نزول الآية الكريمة "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان..."، طبعا لا، مثل اي مجتمع آخر، "خلّي الطبق مستور!" وأنا لا اريد أن أدسَّ أنفي في هذه الأمور! بس ... مرات يصعب السكوت.

أجل يا صديقي لم يكن المجتمع العربي قبل الإسلام شموليًا، بل متعدد الألوان والأطياف والأديان: اليهوديه والنصرانيه والصابئة والوثنيه، وكانوا قبل نزول سورة الأعراف على نبينا الأكرم يطوفون حول الكعبة عرايا، والنساء يردّدن: "اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه"، وهناك أنواع متعددة للنكاح،  مثل الزواج المؤقت والمقت حيث تورث الزوجة بعد موت بعلها، ونكاح البدل، أي تبادل الزوجات، ومن يقدم زوجته للضيف، ونكاح الاستبضاع، ويقال إنَّ هناك حتى الآن جماعات هنا وهناك تسمى "عَبَدة الفروج"، والعهدة على الرواة، وقد تكون مبالغات. اقرأ عنها وستجد معلوماتٍ كثيرةً عن هذه الملل والنِحَل. هذه هي اعتقاداتهم، ماذا سيفعلون لهم؟ هل يكفرونهم ويعزرونهم ويقتلونهم رغم أنهم آمنوا بالإسلام، لكنهم حافظوا على رواسب تقاليدهم القديمة.

استغربَ أحدُ المبشرين الأميركان من هذه القصص، وفوجيء عندما أخبرته أن الدول العربية يعيش فيها ناس غير مسلمين لم يتم "اجتثاثهم" منذ ظهور الإسلام، قال لي هذا الأميركي الطيب بنبرةٍ مستهجنةٍ: ألا تعتقد أنه أمر جميل أن المسلمين لم يقوموا بالتطهير العرقي والديني كما فعلنا نحن مع الهنود الحمر حيث أبدناهم و"طهرنا" أميركا منهم!

اندهش الاميركي لحسن ضيافتنا له، بدأ ينظر للإسلام بإيجابيةٍ!

قبل يومين قال لي أحد معارفي، التقيتُه صدفةً في شارع كوبنهاجن، كان عصبيًا يتحدث بصوتٍ عالٍ كعادته معاتبًا إياي كأنما أنا المسؤول عن مأساته، فتح الموضوع معي بدون إحم ولا دستور، يعني بلا مقدمات ولا مقبلات، وكان الدنمركيون الهادئون يتطلعون علينا، وهُم يمشون في نفس ممر المشاة، أعتقدُ أنهم تصورونا نتخاصم، حاولت أن أبتسم لهم قدر الإمكان عسى أن أغير انطباعهم عنّا، منشغلاً بمسح رذاذه المتطايرعلى وجهي: "يا أخي نحن أصلاً لا نتحدث بصراحة عن التابوهات، أقصد المحرمات، وهذا هو الخطأ، أصبحنا نفهم الأمور أما أسود أو أبيض، وكل شيء له علاقة بالحب ممنوع، مسموح الغناء عنه، كتابة الشعر عنه مباحة، وهل هناك أكثر شعرية ورومانسية من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أو ألف ليلة وليلة أو نزار قباني؟

أغانينا كلها شجن، هيام، غرام، ولع، وَلَه وشغف، لكن لا علاقة حب معلنة، قبل الزواج! أو لا تجاهر بها، الحب ممنوع والعتب مرفوع!

وديع الصافي يطربنا في أغنيته: "الحب هالحرفين، مش أكثر، الله يرضى عليك يا ابني، خذ ليلى بنت ضيعتنا، ترتاح معها ولا تتعبني"!

وتابعَ يقول: أنا شخصيًا لم أرَ يومًا والدي يمسك يد أمي، فتصور! ولهذا نستغرب ونتعجب اليوم، بل نستهجن عندما نقرأ عن طقوس الاحتفالات بالأعضاء التناسلية مثلاً في الدول المتحررة مثل أوروبا واليابان، حتى في الحضارات الفرعونية والسومرية لا نأتي على ذكرها!".

حاولتُ أن أبدي رأيًا موضوعيًا لأهدّأ من روعه وابدّد أحزانَه، العمر قصير، ويمكن أن يُصاب المرءُ بجلطة أو ذبحة أو سكتة دماغية لا سَمح الله، لكن هيهات، منعني ماسكًا يدي قائلاً: "أرجوك لا تقاطعني، خلّني أكمل فكرتي، والله العظيم أنا اتذكر أن أحد زملائي عندما كنا في الثانية عشرة من عمرنا لم يستوعب العلاقة الجنسية بين والديه قائلاً: "مستحيل، هذا حرام، اشدَتحكون؟ سرسريّه!" وصرنا نضحك عليه بينما توردت وجنتاه كأنه فتاة عذراء تأتيها الدورة الشهرية لأول مرة في حياتها! سبحان الله!".

أردتُ التعليقَ على فورته، لم يسمح لي، ودّعني مستعجلاً كعادته، قال ضاحكًا: "المهم أفرغتُ ما في جعبتي! فوّخت قلبي! فشّيت خلقي! مثل ما يقول الشوام". إلى اللقاء يا صديقي.

تركني راكضًا نحو الحافلة! ابتسمتُ وضحكتُ متمتمًا بين نفسي: مجنون!

مخبّل أو مسودَن! كويلات! كما يقول العراقيون! هذا هو حال الدنيا!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

في مستهل دراستنا للاقتصاد كطلبه تعلمنا أن الغرض من الإنتاج هو سد الحاجة، وان وظيفة الانتاج هي الحصول على منتج يرضي المستهلك في الوقت المحدد وبأقل كلفه، ولو اسقطنا هذا المفهوم على قضية الأدب والفن عموماً لتراجعت دقة مفهوم "الفن للفن" و "الأدب للأدب" وبانت ركاكتها وصار جلياً إن القاعدة في الفن والأدب انما هو نشاط انساني هادف لا يقل شأناً عن الانتاج السلعي، وإن مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب" موجود لكنه يشكل استثناء وليس القاعدة، أما عن المستهلكين فهم على نوعين:

1. العامه: وهم الكثرة الغالبة، ومنهم الحفاظ وهم وفقاً لقاموس ابن أختي سجاد "الدرّاخه"  وهؤلاء قله باعتبار أن القدرة على الحفظ "الدرّخ" ملَكّه والملَّكة لا تتوافر لدى الجميع، ومنهم  متذوقو الشعر وهؤلاء يتذوقونه ويفهمونه ولكن لا يجيدون نظمه أو حفظه، وهؤلاء العامة بشقيهم الدرّاخة والمتذوقة يشكلون سوق الشعر الرئيسي بمعنى جمهور الشعر والشعراء وهم لهم مفهومهم عن الشعر واشتراطاتهم المحددة فهم يريدونه هادفاً بمعنى منتج ويشبع حاجة لديهم وليس كما ينظر له زملاءهم من أصحاب مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب"، وقدرة الشعر على اشباع الحاجة عندهم هو مدى قدرته في التأثير بتهذيب السلوك والارتقاء بالوعي والمضي به قدماً ليكون الأنسان نافع وفعال لنفسه وفي محيطه، ويشترطون فيه كما في بقية صنوف الأدب والفن أن يكون  من نوع السهل الممتنع بمعنى انه ليس عصياً على الفهم فيحتاج مختصاً ليشرح مغازيه، وفي نفس الوقت أن يصاغ بطريقة شعرية تنطوي على الأوزان والصورة معاً ويتصف بالإبهار، وعندهم ان الشاعر هو الذي يفجر فيهم مشاعر الانحياز للحق والجمال والنبل والثورة ومناهضة القبح والظلم والسوء والاستكانة، وعندهم إن الشاعر هو ذاك الذي يقترن بما يمكن أن يسمى بـ "الجدحه" أو البصمه بمفهومنا الراهن بمعنى أن الشاعر هو الذي تقترن به وليس بغيره قصيدة أو قصائد تعرف به ويعرف بها وقد تكون البصمة واحدة فقط وقد تكون بصمات فمثلاً: على امتداد العالم العربي ما ان تقول: "اذا الشعب يوماً أراد الحياة" حتى تجدهم يقولون: ابو القاسم الشابي والعكس صحيح فما أن يذكر ابو القاسم الشابي إلا وكانت "اذا الشعب يوماً أراد الحياة..." حاضرة وهذا لا يعني أن الشابي أشعر الجميع ولكن هذا أمر آخر، ونفس الحال ينطبق على السياب وجدحته "مطر..مطر"، والفيتوري وجدحته "سقف بيتي حديد، ركن بيتي حجر"، ومحمود درويش وجدحاته "سجل أنا عربي"، و"وطني ليس حقيبه وأنا لست المسافر"، وسميح القاسم وجدحته "دمي على كفي"، وهكذا...وللفحول منهم جدحات وليس مجرد جدحه كالجواهري مثلاً عدا عن الأفحل منهم جميعاً المتنبي الذي لو دخلت الى فنائه فكأنما تدخل ميدان للألعاب النارية في ليلة عيد الميلاد منين ما تلتفت مفرقعات...

أما قبل ذلك فيحترمك العامة أيها الشاعر ويجلّوك ولكن أن تستفحل براسهم... وتقول: أنا أشعر من فلان، أو متنبي عصري...؟ فسيقولون لك: أجدح  جدحتك وتعال...

2. الخاصة أو النخبة: وهؤلاء هم الشعراء والنقاد والمشتغلون بالأدب وبعض هؤلاء ينظر للأدب والفن من منطلق "الفن للفن" و"الأدب للأدب" لكنهم يشكلون الأقلية من جمهور الشعر، وهؤلاء عندهم الشعر: "جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها وأعذب الشعر اكذبه..." كما يقولون، وأنا لا أنكر هذا لكني أسميه الاستثناء، ولا ابخسه حقه فهم مصممو مكائن إنتاج الشعر ورواد صناعته لكننا معشر العامة لا نهتم بهؤلاء بقدر ما نهتم بالذين يقدمون لنا أرغفة أو أطباق الشعر، وهنا يبرز الشاعر والفنان فالذي يستحق من العامة أن يشدوا اليه الرحال هو ذلك القادر على دمج الاستثناء بالقاعدة فيكتب للعامة وكأنه يستهدفهم وفي نفس الوقت للنخبة وكأنه متوجه إليهم وهو ما يوصف بالسهل الممتنع... و بوصفي من العامة لم ينل اعجابي شخصياً مثل عنتره في هذا الميدان ...فأشعاره في لفظها مفهومة من قبل العامة من جمهور الشعر والى يومنا رغم أنه ينتمي لفترة ما قبل الإسلام ومعلقته إحدى المعلقات المشهورة، لأنه جاء من بين العامة وربما أن الذي فجر شاعريته هو رفضه من قبل شريحة تراه أدنى في حين أنه يرى أن له ما لهم وعليه ما عليهم وكل ما في الأمر أنه يرفض اسلوب تعامل محيطه معه ويسعى لأن يحقق لنفسه القبول بينهم ومن ثم يبزهم ويتقدمهم بما ينجزه بقدراته الذاتية ليس أكثر وفي نفس الوقت يضرب بنفسه مثلاً ليحقق الارتقاء بفهم حاضنته من العامة ويأخذ بسلوكهم من الضعة والخور والدناءة الى مكارم الأخلاق:

فها هو يصف نفسه بقوله:

أَنا العَبدُ الَّذي خُبِّرتَ عَنهُ-وَقَد عايَنتَني فَدَعِ السَماعا.

وَسَيفي كانَ في الهَيجا طَبيباً -يُداوي رَأسَ مَن يَشكو الصُداعا.

ولم يقل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا- متى أضع العمامة تعرفوني.

وهو البيت الذي سرقه الحجاج من مطلع قصيدة الشاعر سحيم بن وثيل الرياحي لينفثه سماً زعافاً في وجوه العراقيين يوم ولي عليهم.

وها هو يعلن عن موقفه من مكارم الأخلاق كإنسان طبيعي سوي ويريد من الاخرين الاقتداء به فيقول:

أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي- سَمْـحٌ مُخالطتي إِذَا لم أُظْلَـمِ

وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ-مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ

وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُن ظالِماً -وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلِ

فالرجل سمحاً وليس متجبراً ويريد التعامل معه بالمثل وهذا أبسط حقوقه لكنه يحذر من موقع الاقتدار من يحاول بخسه حقه أو ظلمه بأنه سيذيقه العلقم وهو قادر على ذلك ...

ولا ينكر واقعه الذي وضعه فيه قومه دون استحقاقه ويسعى للارتقاء بممكناته الشخصية فيقول:

إِن كُنتَ في عَدَدِ العَبيدِ فَهِمَّتي - فَوقَ الثُرَيّا وَالسِماكِ الأَعزَلِ

أَو أَنكَرَت فُرسانُ عَبسٍ نِسبَتي - فَسِنانُ رُمحي وَالحُسامُ يُقِرُّ لي

وَبِذابِلي وَمُهَنَّدي نِلتُ العُلا - لا بِالقَرابَةِ وَالعَديدِ الأَجزَلِ

في حين أن عمرو بن كلثوم عندما قال:

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا- وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ-تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

بالغ كثيراً وقال ما لم يقله حتى كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية في عصرنا الراهن...!

وعنتره عندما ناجى حبيبته عبله لم يكن متبجحاً صفيقاً فيقول: سأضرب الثريا بزحل كما يقول المتبجحون عندنا اليوم وهم لا يصلحون حتى شيالي عليقة شعير حصان عنتره، بل قال قوله بوصفه شاب يرعى أغنامه أو أبله لكنه أبي وشجاع ليس أكثر فقال:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

وأيضاً لم يكن بكاءً مولول مثل قيس فيقول:

أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها- بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

لَعَمري لَقَد أَبكَيتِني يا حَمامَةَ الـ - عَقيقِ وَأَبكَيتِ العُيونَ البَواكِيا

خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِس-خَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا

 الأمر الذي دفع أبو نواس أن يسخر منه ومن أشباهه بقوله:

قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس- واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس

اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً- وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس

لكن عنترة شأن آخر...فهاك ما يقول:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

حياك أبو سمره...

وعنترة يعلم أقرانه مكارم الأخلاق فيقول:

وأغضّ طرفي ما بدتْ لي جارتي… حتى يواري جارتي مأواها

إنّي امرؤ سمح الخلائق ماجد… لا أتبع النفس اللجوج هواها

 وحتى في تعامله مع الخمرة يرفض أن يقول سكرت ولا يفقد توازنه واعتباره إنما مجرد انفاق المال:

فَإِذا شَرِبتُ فَإِنَّني مُستَهلِكٌ- مالي وَعِرضي وافِرٌ لَم يُكلَمِ

في حين أن غيره هذا حاله:

وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير-  وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير...!

وعنتره حتى في تشببه بعبلة رائع فهو يتشبب بما يظهر له جليا دون يختلس النظر من خلف الجلابيب:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

يا سلام... " وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ "،هذا كل ما في الأمر لم يتخطى الحدود فيقول:

ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلى تَرَادَفَت- ورُخّى عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل

فَقَبَّلتُهَا تِسعاً وتِسعِينَ قُبلَةً- ووَاحِدَةً أَيضاً وكُنتُ عَلَى عَجَل

وعَانَقتُهَا حَتَّى تَقَطَّعَ عِقدُهَ - وحَتَّى فَصُوصُ الطَّوقِ مِن جِيدِهَا انفَصَل

هذا بالضبط ما اسميه الشعر المنتج أما عن شعر النخبة فتفضل:

غمُوضٌ عَضُوضُ الحِجلِ لَو أَنهَا مَشَت - بِهِ عِندَ بابَ السَّبسَبِيِّينَ لا نفَصَل

فَهِي هِي وهِي ثمَّ هِي هِي وهي وَهِي - مُنىً لِي مِنَ الدُّنيا مِنَ النَّاسِ بالجُمَل

أَلا لا أَلَا إِلَّا لآلاءِ لابِثٍ - ولا لَا أَلَا إِلا لِآلاءِ مَن رَحَل

فكَم كَم وكَم كَم ثمَّ كَم كَم وكَم وَكَم - قَطَعتُ الفَيافِي والمَهَامِهَ لَم أَمَل

وكافٌ وكَفكافٌ وكَفِّي بِكَفِّهَ - وكافٌ كَفُوفُ الوَدقِ مِن كَفِّها انهَمل

فَلَو لَو ولَو لَو ثمَّ لَو لَو ولَو ولَو - دَنَا دارُ سَلمى كُنتُ أَوَّلَ مَن وَصَل

وعَن عَن وعَن عَن ثمَّ عَن عَن وعَن وَعَن - أُسَائِلُ عَنها كلَّ مَن سَارَ وارتَحَل

وفِي وفِي فِي ثمَّ فِي فِي وفِي وفِي - وفِي وجنَتَي سَلمَى أُقَبِّلُ لَم أَمَل

وسَل سَل وسَل سَل ثمَّ سَل سَل وسَل وسَل- وسَل دَارَ سَلمى والرَّبُوعَ فكَم أَسَل

وشَنصِل وشَنصِل ثمَّ شَنصِل عَشَنصَلٍ- عَلى حاجِبي سَلمى يَزِينُ مَعَ المُقَل

حِجَازيَّة العَينَين مَكيَّةُ الحَشَ- عِرَاقِيَّةُ الأَطرَافِ رُومِيَّةُ الكَفَل

هذا الشعر ...بوصفي من العامه:

- هل استطيع فهمه ...؟ لا ...فهو مجرد هيهيه ولألأه وكمكمه وكفكفه وعنعنه وسلسله وشنصله...يجيك واحد من الخاصه يقول لك: ما أدراك أنت بأسرار الشعر...؟ أصلاً كل واحدة من هذه العنعنات والفيفيات والسلسلات واللولوات والكفكفات والكمكمات واللألأات، والهيهيات والشنصلات لها معنى مختلف عن الآخر بقلب الشاعر والمختصين...أقول له: أنا الأكثرية من المستهلكين وأنا الذي أحدد قبول السلعة أو بوارها.

- ولكن في نفس الوقت هل أستطيع ان أنفي كونه شعراً...؟ لا طبعاً...فهو عندما يلقى قربك بتمكن، وتغمض عينيك تعيش أجواء موزارت وبتهوفن...

- وهل أستطيع حفظه...؟ من سابع المستحيلات ...

- وهل يضيف الى مكارم الأخلاق...؟ يمعود هذا لو يقروه بملهى مطفأة الأنوار إلا من انارة خافته حمراء لسمعت شبق القوم وانت بالشارع.

- طيب...بوصفي من العامه وهم الأغلبية هل أنا معني بهذا الشعر ...؟ طبعاً لا...

فلا تقل لي: "المهم بالشعر جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها فأعذب الشعر اكذبه"... فأنا من العامة وهم جل المستهلكين لبضاعة الشعر وستبور بضاعتكم إلا من كم علاكَه يقتنيها الخاصه....

فيا ايها الشعراء ...قبل أن يتفوه أحد منكم ويقول أنا أشعر من فلان وأنا متنبي العصر سيقال لك أرنا جدحتك أولاً...وخاطب العامة ثانياً فهم جل رواد سوق الشعر...وليكن شعرك هادفاً ومنتجاً وليس مجرد تمتمه أو دردمه...ولتكن مفهوما وليس مثل أغنية الشاب خالد الجزائري الذي بات اليوم عجوزاً وما زال يعتاش على وارد أغنيته الشهيره: دي دي دي واه دديدي واه ...

نأتي الى ظاهرة التسقيط التي انتشرت في الوطن العربي في السنوات الأخيرة وفي العراق مؤخراً:

عنتره الذي يقول عن عبلة:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

 ويثني قائلاً:

 ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ويتغنى بصدر عبلة الرجراج وكهلها قائلا:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

 يقولون عنه: بعد 6 أشهر من زواجه من عبلة لم تظهر عليها أعراض الحمل، فبدأ القلق يدب في قلبه فتزوج عليها ضره فانفتحت قريحته ليجعل منهن ثمان ...

وللمتصيدين بالماء العكر أقول: من نافلة القول أن عنترة  يسلك هذا المنحى ...فمن قال لكم أنه روميو مثلاً فيفرغ قنينة السم في معدته وهو ابن الصحراء الأشم ...؟ ثم هل تريدون منه أن يقال عقيم أو عنين مثلاً وهو عنتره سيد الفوارس والذي خلط الحابل بالنابل ليتخلص من سبة لونه، أنوب يعيرونه بالعنه...؟! طبعاً يتزوج ويخلف ولسان حاله يقول: لو تزوجت منكم رجالاً لخلفت وليس فقط نساء...

أما عن عبله فقد دفعها الإصرار بالتمسك بفتاها عنتره  لأن تبحث عن يمين غليظة تقسم به لأن اسم الله لم يكن معروفاً في تلك الأصقاع  فاختارت ذمة العرب وقالت: " لو ملك عنتر مائه امرأة ما يريد سواي، ولو شئت رددته إلى رعى الجمال وحق ذمة العرب أنه يبقى لشهر والشهرين لم أخليه يدنو منى حتى يقبل يدى ورجلي، وإني معه هذا الزمان ما رزقت منه بولد"...!

***

د. موسى فرج

 

عندما تتفتح الأبواب المغلقة على الحبّ والأمل.

لقد سحرتني رواية "فرصة ثانية" للأديبة صباح بشير منذ اللّحظة الأولى، غاصت في أعماق روحي، تاركةً أثرًا لا يُمحى، وكقارئ عاديّ، لمستني كلماتها بعمق، ونقلتني إلى عالمٍ ساحرٍ من المشاعر الإنسانيّة والتّجارب الحياتيّة.

إنها تحفة أدبيّة تستحق القراءة والتأمّل، عنوانها البسيط يحمل في طيّاته دعوة مغرية للغوص في أعماقها، وقد فعلتُ ذلك بشغف لا يوصف.

أسلوب الكاتبة الأنيق، المنساب كالنهر، والمطرّز بالكلمات البرّاقة، جعلني أشعر وكأنّني أتنقّل بين حدائق غنّاء، تفوح منها عطور المشاعر الإنسانيّة والحبّ النقيّ.

لم أستطع أن أترك الرّواية من يدي حتّى أنهيتها في نفس اليوم، وكأنّني في سباق مع الزّمن لأكتشف أسرار شخصياتها.

لقد برعت الكاتبة في نسج شخصيّات مركّبة، نابضة بالحياة، تنتمي إلى عالمنا الواقعيّ بكل تعقيداته. مصطفى، هدى، عبدالله، لبنى، إبراهيم، ونهاية، كلّ منهم يحمل قصّة فريدة، تتشابك مع قصص الآخرين؛ لتشّكل لوحة إنسانيّة غنيّة بالدروس والعبر.

الرواية، في جوهرها، هي رسالة مفعمة بالأمل، تعلّمنا أنّ العلاقات الاجتماعيّة، مهما بدت معقّدة، تحمل في طيّاتها حلولًا بسيطة، وأنّ الحبّ هو المفتاح السحريّ، الذي يفتح الأبواب المغلقة ويمنحنا فرصة ثانية.

أتمنى للأديبة صباح بشير المزيد من التألّق والإبداع، وأن تواصل إثراء عالمنا الأدبيّ برواياتها وأعمالها الأدبيّة.

***

د. يوسف عراقي

 

الى صديقي يونس!

باص "الأمانة" الأحمر، "أبو طابقين"!

اليوم كنت في البريد. أرسلتُ لكم طردًا، وزنه عشرون كيلو "فقط لا غير"! انشاء الله يصلكم سالمًا غانمًا منعمًا بدون أي غارة. وأنا في الحقيقة ممتن لموظفي البريد العراقي، يوصلون كل شيء مضمونًا ويسلمونه كاملاً، كما أخبرتموني. هذه فعلاً خصلة لا نجدها إلا عند أغنياء النفس الميسوبوتاميين الأصيلين الغيارى.

أنا حقاً فخور بسعاة بريد العراق، يجوبون الشوارع بدراجاتهم ليسلّموا الأماناتِ إلى أهلها، أعتقد أن هؤلاء بقايا الرافيدينيين النشامى.

بالمناسبة انا وأصدقائي دائما نتذكر هذه المؤسسة بإيجابية، كانت تقدم خدماتٍ بريديةً ممتازةً، حدّثني هنا أحد موظفيها القدامى بفخر واعتزاز عن نظامها وأسلوب عملها، أتذكر رسائلي وطرودي البريدية، كنت أبعثها لكم ايام الدراسة من خارج العراق، كانت تصلكم كاملةً.

أما أمانة مصلحة نقل الركاب فحدّثْ ولا حرج، آه كم أشتاق إلى باص الأمانة الأحمر، بالذات "أبو طابقين"، تميزت بها بغداد في الشرق الأوسط. مؤسسة مدنية عريقة ساهمت في تطوير العراقيين وحققت مبدأ "المدينةُ تُطوّرُ الإنسانَ"، شبكة خطوط ومواصلات لم أجدها في البلدان العربية الأخرى. علامة بارزة في تطور العراق المدني وظفت آلاف العمال والمستخدمين من كل أنحاء بلاد الرافدين.

أرفق لكم مع هذه الرسالة قائمة بمحتويات الطرد، سيصلكم قريبًا، وهي على العموم ملابس و"فيتناميات" عفوًا أقصد فيتامينات وأدوية والخ من "تفاتيش" القلوب كما كانت جدتك تقول. إنسانةٌ رائعةٌ!

هل تتذكّر كيف كانت جدتك تسمي اليمن؟ "أمن"، عندما سافر أحد جيراننا إلى اليمن للعمل كمدرس، كانت تقول: "راح للأمن"، ونحن نلاشيها ونضحك! وبالمناسبة كانت هي ايضًا سعيدةً بمزاحنا معها، أليس كذلك؟ أجمل شيء أتذكره عنها أني سألتها في إحدى المرات:

- بيبي اشلون كنتم انت وجدّو الله يرحمه؟ كنتم مثل الشباب بالأفلام؟ يعني هَمْ ...؟

ردّت على الفور تلوك بالكلمات:

- أسكت لَك، عيب!

ثم أردفت مبتسمةً:

- ليش احنه وَحّد؟ كلّه شيل وبطح على السطح! وغرقت في ضحكتها، بس مو مثل الأفلام يقعدون من الصبح ...بلا ما يفرّشون أسنانَهم!

واطلقت العنان لضحكاتها وصدرها يخرخش، عقبت متنهدةً ماطّةً شفتيها السمراوين:

- ربي ضحكة خير، راحت الأيام الحلوه، سودَه عليَّ، راح عند ربه!

لم نكن نتحدث عن مثل هذه المحرّمات إلا مع العجائز وبالصدف، شويه، شويه، مثل ناقوط الحِب! هل تتذكر كيف كنا نتحيّن الفرص ونتلقّفها؟ أنت كنت تجلب سيجاير اللف لهن، وانا كنت متخصصًا بالبسويكت! كلها "رشوات" لسماع قصصهن ومغامراتهن عن الحُب بالأقساط، بينما هنا كل شيء مسموح به، طبعًا هناك حدود أيضا.

الصيف هنا جميل كما أسلفتُ، بالذات عطلة نهاية "الإزبووع" مثلما يقول المصريون أو الويك إند، ترى الناس هنا يقودون دراجاتِهم شبابًا وشيبًا، نساءً ورجالاً مرتدين أزيائهم الجميلة: النساء يلبسن السراويل، و"الجِماشه" أو الفيزون الملتصقة بالجسد المثير، تبرز مفاتنه، والتنانير القصيرة، ألوان زاهية كالأحمر والأبيض والأرجواني، مسكينه المرأة العراقية، سواد بسواد، باستثناء الجامعات، كانت أفضل مكان لعرض الأزياء في السبعينات! لكن محافظ بغداد آنئذ وشرطة الآداب كانوا لهن بالمرصاد، حتى الشباب الخنافس لم يسلموا منهم!

ماعدا ذلك فالدنيا عندنا كلها سوداء، ومع ذلك أتذكر أن سائقي سيارات بغداد كانوا يلصقون على مركباتهم قطعًا صغيرةً مكتوب عليها "الله جميل يحب الجمال"و "القلب يعشق كلَّ جميل" والخ.

لكن، انتبه، "مو كل أصابعك سوه"! المسيحيون المورمونيون وشهود يهوه الأصوليون هنا يختلفون قليلاً عن الناس العاديين، إنهم يؤمنون بالحشمة، يلتزمون بالتقاليد الدينية، لكنهم أقليّه. وهل هناك أجمل من العباءة العراقية السوداء؟ السواد يسبي العباد! إنها حقًّا جميلة، لكنها تحتاج لبعض "التنقيحات"! أنا أحب العباءة، تراث جميل بس عايزها شويه رتوش، خلّيني ساكت أحسن! وأتذكر أغنية "يا أم العبايه لِبسي عباتك!".

إذا تطلعتَ إلى وجوه الدنمركيين هنا يوم الجمعة ستشعر بها فَرِحَةً مستعدة لعطلة نهاية الأسبوع، يسرعون إلى منازلهم مشيًا وبدَرّاجاتهم، وسياراتهم مشغولين بحياتهم اليومية السلمية السليمة، إلا أن بعض العاطلين بمن فيهم بعض اللاجئين أو الأجانب القادمين الجدد إلى هذه البلاد من "البلدان الدافئة" أو "البلدان غير الغربية" لا يشعرون بهذه العطلة ولا يفهمونها، إذا لا يذهبون الى العمل ولا الدراسة في الأيام العادية.

هؤلاء الغرباء الجدد، ليس كلهم طبعًا، ممن لم يحصلوا على عمل في بداية حياتهم هنا، قد يشعرون إن أزعَجَ الأيام بالنسبة لهم هو "الويك إند"، أطفالُهم يبقون في شققهم الصغيرة المخصصة لعائلات عدد أفرادها لا يتعدّى الأربعة، تصور كيف سيكون الوضع إذا كانوا عشرة أنفار!

لكن هناك قسمًا آخرَ منهم مشغول طيلة أيام الأسبوع في العمل ليلاً نهارًا! وأجانب آخرون لا يختلف وضعهم عن اهل البلد، يعني كل واحد وظروفه! أرجوك لا تفهمني غلط! أنا لا احب التعميم، تعرفني جيدًا، ولا التعتيم، أُعطي كلَّ ذي حق حقه، أحاول ولا أدعي الكمال! لستُ "رب الكمان"! كما كان والدك يردّد!

هنا، في الدنمرك، أحيانًا ترى العائلة كلها خارجةً في نزهة: الأم والأب والأطفال أو الجدة والجد في الغابات والشوارع النظيفة، يقودون دراجاتهم مبتسمين رافعين رؤوسهم يحيّون الآخرين: هاي! هاي!

شعب الهاي، بالذات عندما تشرق الشمس، فخورون ببلادهم وطبيعتهم وإنجازاتهم وديمقراطيتهم وأسلوب حياتهم، صارَ كما يبدو لي أشبه بالدين، يحبون التظاهر بطقوسه مثل الحديث عن الجو والضرائب وإشعال الشموع وترتيب المناديل الورقية الزاهية وكؤوس الماء والبيرة والنبيذ الأحمر والحب في المساءات الهادئة.

قد يأتي شخص آخر، ويفسر هذا الأمر بطريقة سلبية كأن يقول عنهم إنهم أنانيون مشغولون بحياتهم اليوميه وغرائزهم ورغباتهم ودنياهم، وقد يزيد إنسان آخر فيقول لك: "مصيرهم الجحيم لأنهم ملحدون وكفار"، وهذا هو أخطر ما يمكن حصوله بين الشباب الأجانب، تكفير الآخرين ونبذ الحياة الاجتماعية مع اهل البلد الأصليين! قسم من هؤلاء الشباب الغرباء بمثابة قنبلة موقوته يحتار السياسيون والمتخصصون اليائسون بكيفية دمجهم في المجتمع ودرء خطرهم عليه. الله يستر من القنابل الموقوتة!

أما اللاجؤون الجدد فأغلبهم، أو قسم منهم، أعذرني لا أعرف كم هي نسبتهم، خاصة في بداية حياتهم هنا، لا يختلطون كثيرًا مع أهل البلد المنظمين المقولبين، المبرمجين، "الباردين"، البيتوتيين، وتصوراتهم عنهم غير دقيقة وغير أصليه، وإن سألتَ بعضَهم عنهم، أقصد عن المواطنين الأصليين، يجيبك: "شمعة وكأس نبيذ وحبيبة!".

هكذا يختصر بعضُهم انطباعاتِه عن أهل البلد. كل شخص يرى الأمور من زاويته!

صحيح، إن العتمة والشمعة جزء من ثقافة الإسكندنافيين، ويجيدون هذا الاسترخاء بهذه الطريقة، لكن ليس قبل أن يهدّهم التعب وينجزوا كلَّ أعمالهم. الدَنمَركيون عمومًا مشغولون بحياتهم اليومية، واوقاتهم مليئة بالمواعيد كل حسب ظروفه، وبالذات مَن لديهم أطفال. وبمرور الزمن يصبح اللاجؤون الموظفون والحرفيون منهم، مثل سكان البلد الأصليين بل أكثر، مشغولين غير مكترثين بالعلاقات الاجتماعية الواسعة. هؤلاء يصبح وقتهم من ذهب والحمد لله يعملون ليلاً نهارًا.

العمل هنا أهم شيء! من لا يعمل لا يأكل! هذا شعار الاشتراكية، و هناك أناس لا يعملون، ومع ذلك يأكلون من الإعانات، لكنهم لا يحسُّون بطعمه كما يقولون أحيانا!.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

 

في رحاب الفنّ والإبداع، يشرق نجم الفنّان الفلسطينيّ جمال بدوان، ليروي للعالم حكاية شعب يتحدّى النسيان.

بريشته تتهادى الألوان والخطوط على اللّوحات الخالدة، تلك التّي تجسّد معاناة شعبنا وآماله، وتتردّد فيها أصداء القضيّة.

تتجلّى قصّة الفنّان جمال بدوان، ابن قرية عزون في قلقيليّة، الّذي حمل على كاهله أوجاع اللّجوء والتّشرّد منذ نعومة أظفاره، وفي الثّانية عشر من عمره، خطّت أنامله أولى لوحاته على قماش خيمته المتواضعة في قلب المخيم.

لم يمضِ عامان حتّى تحوّلت كلّ أقمشة الخيام في المخيّم إلى لوحات فنّيّة نابضة بالحياة، تجسّد معاناة اللاجئين وتطلّعاتهم، وفي إحدى زياراتها الدّورية للمخيم، أُعجبت لجنة من هيئة الأمم المتّحدة بما رأت، فقرّرت تكريم الفتى الموهوب، ومنحه أوّل علبة ألوان، لتفتح أمامه آفاقا جديدة في عالم الفنّ.

منذ ذلك الحين، انطلق بدوان في رحلة إبداعيّة متواصلة، يمزج فيها الألوان المائيّة والزيتيّة؛ ليصنع لوحات تحاكي الواقع وتلامس الرّوح.

في السّابعة عشر من عمره، غادر الأردن إلى بلغاريا ليكمل دراسته الجامعيّة، ثمّ انتقل إلى أمريكا لمتابعة دراسة اللّقب الثّاني، ومنها إلى روسيا حيث نال درجة الدّكتوراه في الفنون الجميلة، واليوم، يعمل د. بدوان محاضرا في قسم الفنون بالجامعة، يشارك طلّابه شغفه بالفنّ، ويغرس فيهم قيم الجمال والإبداع.

لم يكتفِ الفنّان جمال بدوان بالعمل الأكاديميّ، بل انطلق يحمل رسالته الفنّيّة إلى العالم، عارضا لوحاته في أروقة معارض أوروبا وأمريكا.

تجاوزت معارضه الفرديّة الخمسة والسّتين معرضا، موزّعة على ثلاث وثلاثين دولة، ناهيك عن مشاركاته العديدة في معارض جماعيّة حول العالم.

كانت لوحاته بمثابة مرآة تعكس آمال شعبه، وتراثه، وهويّته، لتخاطب الضّمير الإنسانيّ بلغة الفنّ الخالدة، وقد أثمرت رحلته الإبداعيّة عن جوائز عديدة من مختلف الدّول الأوروبيّة، وَتُوِّجت بتكريم ملكيّ من ملكة هولندا وملك المغرب. كما حاز على لقب "فنّان دوليّ" من الأكاديميّة العالمية للفنّون، وهو الفنّان العربيّ الوحيد الّذي نال هذا الشّرف.

اختير مرّتين لعضويّة لجنة التّحكيم الدّوليّة لاختيار أفضل فنّان للعام على مستوى العالم، ومنحته دولة فلسطين لقب "سفير الفنّ الفلسطينيّ" بمرسوم رئاسيّ، تقديرا لإسهاماته الفنّيّة.

على أرض الوطن، أقام ثلاثة معارض؛ ليشارك أبناء شعبه ثمرة جهده وإبداعه، وليؤكّد أنّ الفنّ رسالة سامية، تتخطّى الحدود وتجمع القلوب على الخير والجمال والمحبّة.

كما تخطّت لوحات بدوان حدود المعارض لتزيّن أغلفة المجلّات، وأبرز الكتب والدّواوين الشعريّة والرّوايات، كرواية "رحلة إلى ذات امرأة" و"فرصة ثانية" للكاتبة صباح بشير، ومجموعة من الأعمال للكاتبة رُلا غانم، وللكاتبة نوال حلاوة، والكاتبة سارة الشمّاس، الأديب جميل السّلحوت، الكاتبة نجوى أبو الهيجا، د. محمود صبري عودة، والكاتب محمد العرّوقي وغيرهم الكثير من الأدباء العرب والأجانب، وفي بادرة تشجيعيّة، أعلن عن استعداده لتقديم لوحاته كأغلفة مجانيّة لكتب المبدعين الفلسطينيين.

كما تقوم العديد من المتاحف والمعارض والمؤسّسات الثقّافيّة في أوروبا بعرض لوحاته، وفي عام 2011م، سطّر بدوان اسمه في موسوعة الأرقام القياسيّة برسمه أكبر لوحة زيتيّة على القماش في العالم، بمساحة بلغت (310) أمتار مربّعة، وهو رقم قياسيّ لم يُكسر حتّى يومنا هذا.

تجوب هذه اللّوحة الفريدة العالم في جولة مكّوكية، وقد عُرضت حتّى الآن في تسع دول أوروبيّة وثلاث دول عربيّة.

يعتبر د. جمال بدوان الأب الرّوحي لمجموعة كبيرة من الفنّانين الفلسطينيين، حيث ساهم في إحضار العشرات منهم إلى أوروبا؛ ليتفاعلوا ويتبادلوا الخبرات مع الفنّانين الأوروبيين، كما دعا فنّانين أوروبيين إلى البلاد والأردن؛ للمشاركة في فعاليّات فنّيّة مشتركة، وقد سُمح له ولمجموعة من الفنّانين الغربيين برسم لوحة ضخمة في ساحة المهد، مكان مولد السيّد المسيح عليه السّلام، بقرار من رئاسة السلطة الفلسطينيّة، لتغدو هذه اللّوحة أيقونة مشهورة في الغرب لما تحمله من رمزيّة دينيّة وروحيّة، فهي نتاج عمل جماعيّ لفنّانين مختلفين بقيادة الدّكتور بدوان.

في نهايّة المطاف، يقف الفنّان جمال بدوان شامخًا على طريق الإبداع، يؤكّد أنّ الفنّ قوّة لا تقهر، تتجاوز الحدود وتنشر رسالة السّلام والمحبّة.

فليبقَ اسمه محفورًا في الذّاكرة، وليكن إرثه الفنّيّ مصدر إلهام لكلّ من يحمل في قلبه شغف الفنّ والجمال.

***

صباح بشير

 

بقلم : كاميل بيري

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الأوديسة الرومانسية لفاني فان دي جريفت أوزبورن وروبرت لويس ستيفنسون

قدم شهر العسل الذي دام شهرين لفاني وروبرت لويس ستيفنسون أساسًا لمذكراته، "مستأجرو سيلفردادو"، وعزز حبهما المشترك للمغامرة.

ملاحظة المحرر: في عام 1879، شرع روبرت لويس ستيفنسون، الشاب العشريني، في رحلة عبر المحيط الأطلسي بحثًا عن فاني فان دي جريفت أوزبورن، وهي امرأة كاليفورنية غريبة الأطوار وقع في حبها أثناء زيارته لمستعمرة فنانين في فرنسا. وصل ستيفنسون إلى الولاية الذهبية مريضًا وفي حاجة ماسة إلى الراحة والتعافي. لقد ساعدت أوزبورن في رعايته حتى استعاد صحته وأصبحت زوجته. وبفضل تشجيعها ومساهماتها، واصل ستيفنسون كتابة أعماله الكلاسيكية جزيرة الكنز والحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد.

بالنسبة لشخص رومانسي، كان لويس صريحًا للغاية عندما وصف لاحقًا يوم زفافه، في 19 مايو 1880، لصديق:

لم يكن ما جذبني في زواجي هو سعادتي الشخصية؛ بل كان زواجًا في أقصى حالات الأزمات. وإذا كنت اليوم في مكاني الحالي، فذلك يعود إلى رعاية تلك السيدة التي تزوجتني عندما كنت مجرد كومة من السعال والعظام، أكثر ملاءمة لتكون رمزًا للموت منها إلى أن أكون عريسًا.

لتوفير المال، استقل الزوجان الترام بدلاً من العربة من فيري هاوس إلى نوب هيل، حيث تعيش عائلة ويليامز. كان فيرجيل [صديقه] خارج المدينة، لكن دورا [زوجته] سارت معهما من هناك إلى منزل القس ويليام أندرسون سكوت. لا بد أنهما بدوا كزوجين غريبين بالنسبة له: الفتى النحيف للغاية، وجهه شاحب باستثناء عينيه البنيتين المتقدتين، والمرأة الداكنة التي تمتلك عينين نافذتين أيضًا وشعرها المجعد الرمادي، والتي لم تكن أعلى من قلبه. تلاعب الزوجان بالحقائق التي قدماها لسكوت لسجل الزواج. كانت فاني صادقة بجرأة بشأن عمرها، أربعين عامًا، لكنها أعلنت بلا خجل أنها أرملة. ادعى لويس أنه يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، مما قلص الفجوة العمرية بينهما بعام. ومع قيام دورا بدور وصيفة العروس ووصيفتها، تبادلا الوعود وخواتم الفضة البسيطة. ثم ذهب الثلاثي إلى مخبز نمساوي لتناول  " الآيس كريم الرائع".

أصبح فاني ولويس الآن متزوجين رسميا. وقضيا ليلة زفافهما في فندق القصر، وهو الفندق الأكبر والأكثر فخامة في غرب الولايات المتحدة. وصلا بالعربة، ونزلا تحت السقف الزجاجي الرائع إلى الرواق المفروش بالرخام. تجولا على الشرفات المزخرفة المطلة على الفناء، المكان المرموق في سان فرانسيسكو حيث يمكن رؤية الآخرين ورؤيتهما. قد يظن أي شخص أنهما تخليا عن أسلوبهما الغريب والبوهيمي. لكن هذه كانت آخر رفاهية استمتعا بها لبعض الوقت. بعد أيام قليلة، وقد فرغت جيوبهما، غادرا لقضاء شهر عسلهما الغريب. سيقضيانه في منجم فضة مهجور.

توجهت فاني ولويس ولويّد [ابن فاني من زواجها السابق] وتشوتشو، كلبهما، إلى وادي نابا، حيث فر عدد من المصابين بالسل بحثاً عن القوة الشفائية المفترضة للهواء النقي ومياه الينابيع على جبل سانت هيلينا. وعندما سمعوا عن مخيم تعدين مهجور أعلى الجبل يمكنهم الإقامة فيه مجاناً، تمكنوا من تسلق المنحدرات الصخرية الحادة بواسطة عربة ذات عجلتين، حتى اضطروا لتسلق سلم خشبي مثبت على المنحدر للوصول إلى مكان إقامتهم المستقبلي.

كان منجم سيلفاردو قد حُفر في الأرض قبل ثماني سنوات فقط. لكن المشروع انهار دون أن يحقق النجاح المأمول، مما أحبط الخطط المتفائلة لمدينة مزدهر تحمل أسماء شوارع مثل روبي، وجولد، وجارنيت. على منصة مثلثة مغطاة بالركام، تم تثبيت ثلاث أكواخ خشبية في جدار الوادي مثل درجات تحت نتوء من الصخور الحمراء.كان المبنى الأول عبارة عن مكتب للخبراء. والآن لوح باب واحد، محطم ومتشظي، ملتوٍ هناك في النسيم. كانت أغصان أوراق الغار تتسلق عبر إطارات النوافذ الفارغة، وكان رذاذ من البلوط السام يزدهر من خلال ثقب في الأرضية. كانت السقيفة الثانية والثالثة تحتويان على أسرّة بطابقين لعمال المناجم - ثمانية عشر سريراً في المجموع - والمزيد من القمامة. طوال مدة إقامتهم، كان على المتزوجين حديثًا ولويد السير خارجًا وتسلق لوح خشبي إلى مدخل مفتوح معلق في الهواء للوصول إلى غرفة نومهم المشتركة.68 robart lues

مع وجود قطع الخشب والحديد مبعثرة حول المباني، كان المكان قذراً بكل معنى الكلمة. في مذكراته عن هذه التجربة، بعنوان "المستوطنون غير الشرعيين في سيلفرادو"، يعترف لويس بأن رؤيته لمدينة أشباح التعدين كانت أكثر رومانسية بعض الشيء ــ "مجموعة من المنازل المجاورة على مساحة خضراء في القرية، يمكننا أن نقول إنها فارغة تماماً، ولكنها مكنوسة ومطلية بالورنيش؛ وجداول مياه تتدفق عبرها أسماك السلمون المرقط؛ وأشجار الدردار أو الكستناء الضخمة، التي تطنطن بالنحل وتعشش فيها الطيور المغردة".

كانت فاني، التي عملت في معسكرات تعدين الفضة، أكثر واقعية من غيرها. وبعد أن قطع لويس شجرة البلوط السامة التي كانت تنمو عبر الأرض، تولت هي المهمة. وصنعت الأبواب والنوافذ من الإطارات الخفيفة والقطن، واستخدمت الجلود من الأحذية المهملة كمفصلات للأبواب. ومن بقايا الخشب وصناديق التعبئة، قامت بتثبيت قطع الأثاث. أصبحت فوهة المنجم ثلاجة لها لتخزين الخوخ المجفف والنبيذ والحليب الطازج الذي كانت تحضره من الجبل يوميًا. علّقت هناك الحمام والبط البري وغيرهما من الطرائد التي اشترتها من الصيادين المحليين. كما تم نقل موقد وقش للأسرة إلى الجبل.

عندما أصبح المكان صالحا للسكن— "الأسِرَّة مرتبة، الأطباق على الرف، دلو الماء اللامع خلف الباب، الموقد يصدر طقطقات في الزاوية"—وصفه  لويس بأنه مثال رائع على "نظام الإنسان،  الأماكن الصغيرة النظيفة التي ينشئها ليعيش فيها.". لكن إبداع المرأة هو من أنشأ هذا "المكان الصغير النظيف" .أما لويس فكان ما يطلق عليه الاسكتلنديون الرجل "عديم اليدين". وعندما كتب: "لقد أصلحنا أسوأ الأضرار"، يمكننا أن نفترض أن نفترض أن فاني هي من استخدمت المطرقة والمنشار. وكان هذا هو الأسلوب الذي عملا به معاً. فكلما شعر لويس الذي لا يمكن كبته برغبة في الانتقال ـ من أجل صحته، أو لمتابعة حلم، أو لمجرد الملل ـ كانت فاني تجعله يحدث. وفي هذه الحالة، حول خيالها منجماً مهجوراً إلى مسكن مريح؛ وأضفى خياله عليه صفة أسطورية في رواية "المستوطنون البسطاء في سيلفرادو".

في قصرهما  الخاص في الهواء الطلق، كانت فاني ولويس قادرين على اللعب بالأدوار الصارمة للجنسين التي كانت سائدة في عصرهما. فاني، وهي على ركبتيها تدق مسمارًا في مكانه، قد ترفع نظرها لتجد لويس مسترخيًا تحت أشعة الشمس، مرتديًا شالها وقبعتها بطريقة معكوسة، حيث كان الريش يتدلى فوق أنفه. ورغم أن مهارات فاني في الأعمال اليدوية منحتها مكانة غير تقليدية في المنزل، إلا أن ذلك لم يكن دائمًا في صالحها كشخص مبدع. موهبة لويس في الكتابة منحته الدور الأسمى في عائلتهما. لكنه كان يرتدي تاجه برشاقة وأناقة، دون أن يفرض سلطته المنزلية بطريقة صارمة أو متعالية.

كانت فاني تقدر أن لويس لم يكن زوجًا تقليديًا، يصدر الأوامر ويتوقع طاعتها على الفور. لاحظت هذا النهج المرن في سلطته منذ بداية زواجهما، حتى في تعاملاته الطريفة مع كلب العائلة. في رسالة إلى دورا، التي تُعد تقريبًا المراسلة الوحيدة التي نجت من تلك الفترة، وصفت فاني كيف كان لويس يوبخ الكلب تشوتشو بلا جدوى عندما كان الكلب يبعثر نعاله في كل مكان: "الفرق بين شدة لويس في الانضباط نظريًا، وتسامحه الفاضح عمليًا فيما يتعلق بتربية تشوتشو، أمر مسلٍ. لنأمل أن يكون الأمر نفسه مع زوجته."

كان لويس يشعر بالتوتر بسبب شبح الزلازل في سان فرانسيسكو، لكن في سيلفيرادو، كان هو وعائلته الجديدة يعيشون حقًا على أرض غير مستقرة. كانوا بالكاد يستطيعون المشي خارج المنزل دون أن يغوصوا في الأرض أو ينزلقوا أو يمزقوا أحذيتهم على الصخور الحادة. كانت الأنفاق والممرات المنجمية تلتف تحتهم في الأرض. في أي لحظة، كان من الممكن أن تنهار مسكنهم المؤقتة في أحد الممرات أو تتهاوى بهم إلى أسفل التل. في الليل، كانت عواءات الذئاب والثعالب تبدو قريبة بشكل مقلق من خلال الشقوق في الجدران والأبواب المصنوعة من القماش. خلال النهار، كانت الأفاعي الجرسية تصدر أصواتًا "مثل العجلات الدوارة" من كل جانب. لكن لمدة شهرين، استطاعت فاني أن توفر للويس الراحة التي كان يتوق إليها.

بعد القيام ببعض الأعمال الصباحية، كان لويس حراً ليستريح ويتجول ويكتب. على ما يبدو، لم يمنعه التعافي من التدخين، حتى عندما كان يتعين نقله إلى منتصف الجبل ليستنشق الهواء النقي. كان شرب الكحول أيضًا جزءًا من الروتين اليومي. كانت فاني تقدم له مشروب الروم المثلج الممزوج بالقرفة في منتصف الصباح ومنتصف بعد الظهر كل يوم. وفي مصنع النبيذ شرامسبيرج، تذوق ثمانية عشر نوعاً من النبيذ في جلسة واحدة ـ وهو إنجاز مذهل حتى بالنسبة لرجل يتمتع بصحة جيدة.

بعد شهرين تقريبًا، هجر المستوطنون مكانهم، قبل أن يبدأ الضباب الرطب الموسمي في التسلل إلى الوديان والشقوق الجبلية ورئتي لويس. كانت صحته قوية بما يكفي للقيام برحلة عبر المحيط، وكان يتوق لرؤية اسكتلندا ووالديه. وبمساعدة فاني، تحسنت علاقته بهما.

***

.............................

* مقتطف من كتاب شاطئ متوحش: ملحمة رومانسية لفاني وروبرت لويس ستيفنسون للكاتبة كامييل بيري، والمقرر نشره في 13 أغسطس 2024، عن دار فايكنج، إحدى إصدارات مجموعة بنجوين للنشر.

* في الصورة: الكاتب روبرت لويس ستيفنسون في صورة مع النساء اللاتي ساعدنه في تطوير مسيرته الأدبية على الرغم من أمراضه المتكررة. من اليسار: زوجته فاني ستيفنسون، وابنته بالتبني ومساعدته الأدبية إيزوبيل أوزبورن، ووالدته مارجريت إيزابيلا ستيفنسون.

 

الى صديقي يونس!

نخلة چاسبية أُم اللبن!

 لا يمكن مقارنة الطبيعة هنا بما موجود عندنا في بغداد، يؤسفني أن أقول لك إني ومثلي آلاف الشباب، لم ننعم برؤية بساتين ديالى الجميلة ولا الموصل الحدباء أم الربيعين، ولا مصايف صلاح الدين ولا جبالٍ في كردستان، مشهورة بجمالها، ولا بادية السماوة، سمعنا عن الصيد فيها من الآخرين صدفةً، ولا أهوار الجنوب العامرة بالأسماك وطيور الخضيري المهاجرة من أطراف الدنيا، لكن الحمد لله لم أرَ اراضيَ قاحلةً جرداءَ سبخةً أهلكت أصحابَها الطيبين كالحي الوجوه وحولتهم إلى "لاجئين" في بغداد، لكنها لا أعتقد تختلف كثيرًا عن عاصمتنا، المحترقة بشمسها، بل "شوتها شويًا" والحرارة تنبعث من أسفلتها وترابها، ولم تبقِ لا على ماء ولا خضراء ولا وجه حسن ولا هم يحزنون. لكني أعشقها وسأبقى أصرخ بغدااااد، بغداااد!

يوم أمس التقيتُ بشاعر عراقي شاب لكنه "آيل" للسقوط، طالَت فترة انتظاره هنا بدون أن يحصل على الإقامة، متعب نفسيًا، إنه مناضل البابلي، اسم على غير مسمّى، بائس حزين ويائس، يسمّيه بعضُهم متهكّمين به "بائس الحزين" غسلَ يديه من العراق و حكّامه، كان يسخر من أحد العراقيين المتحمسين، قال لمناضل: "آه لو كانت الأمور بيدي لخصصت مكافْأة أو أجرة شهرية لكل مَن يزرع شجرة فيها ويسمّيها باسمه ونصدر لها بطاقة خاصة بها ويسقيها بنفسه، مثلا كالبتوسة دحّام وعبّودي!، نخلة چاسبية أُم اللبن! أو سِدرة فطيمه المعيدية بائعة قيمر العرب (القشطة)، تَصوّرْ، هل يبدو الأمر مضحكًا؟ "والله شوف عينك" إذا مو كل بغداد صارت خضراء؟ ستحصل منافسة شديدة بينهم ويحمى الوطيس!" ويبدو أنه طاب له أن يراني أيضًا أتطلع إليه، أصغي إليه بصمتٍ واحترامٍ وعيناي مبحلقتان به، استمر يقول:

"آخ لو أصير أمين العاصمة، "أسَرفُن رداني" أو أشمّر عن ساعديّ وأمشي بملابس العمال"، أجمع القمامةَ بيدي، عمل شعبي مرة في الأسبوع، اسمه عمل شعبي بس أسوّيه إلزامي، اللي يعجبه أهلاً وسهلاً  وأعطيه مكافأة، واللي ما يعجبه ما نسمّي باسمه حتى شجرة قَوَغ! لو تشتغلون لو ماكو! أخلّي بغداد تزهي، أبني مترو، وأفتح شوارع عريضة محاطة بالنخيل والأشجار الباسقة و"داير مدايرها" نافورات أحلى من الشانزليزيه الفرنسي! هاآآ، لَعَد احنه وحّد؟! اشناقصنا؟ اشمالنه خويه؟".

كلام جميل وصحيح ورومانسي! وأنا أيضًا كانت لديّ هذه الأمنية منذ الصغر، لكن يا خساره ما عمّرت الحاره! والدي كان أيضًا يتمنّى نفس الأمر، لكن هيهات! مجرد أحلام وردية في عالم الصراعات!69 zouheer yasen

ألا يبدو كل هذا الحر على ملامح وجوه العراقيات والعراقيين؟ ألا تلاحظ أن بشراتنا تفتقر إلى النضارة ونحن كنا في عز الشباب؟ "أنت لِسّه شاب صُغَيّر!" كما يقول يوسف وهبي، هل أنا قاسٍ يا يونس؟ هل أنا حانق أو غضبان؟ أبدًا أنا منفعل ومشتاق لبلادي وحزين عليها، لماذا لا تتطور؟ كل الشعوب صار براسها خير إلا نحن! "إلا أنت، إلا أنت! إلا أنت!"، أعتقد هذه أغنية قديمة لمحبوبتك نجاة الصغيرة: "إلا أنت، فيها إيه الدنيا غيرك؟" لا أدري إن كان هذا صحيحًا أم أني صرت اخلط الأمور كعادتي، سامحني! سامحني! "إلا أنت، فيها إيه الدنيا دِيّه...فيها إيه الدنيا دِيّه...إلا أنت؟ كل غالي يهون عليّ إلا أنت..." أيها العراق الحبيب، إلا أنت! إلا أنت!

هل تتذكر أحد أصدقائنا من رفاق الدرب نعمة حينما قال لك: انتم تعيشون في رغد ونعيم، عندكم حديقة وبيت محاط بالكاليبتوس، بينما أنا أسكن في غريفة واحدة وصغيرة مع كل عائلتي، نحن نستيقظ الصباح يوميا على روائح المياه الآسنة مقابل بيتنا، تزكم أنفاسنا في الليل ونفتح عيوننا على مناظر بائسة وكالحة متشحة بالسواد، يا عزيزي أنت في حقيقة الأمر لا أخي ولا زميلي ولا رفيقي، أنت عدوي الطبقي!

والله حَقّه، لولا تنكره لصدقاتٍ تقبّلها من زملائه "البرجوازيين" أعدائه الطبقيين عندما مرّ في أحلك الظروف! ومع ذلك نَطقَ كلمته الأخيرة وبدا الحقد على نظراته رغم محاولته إخفائها بابتسامة باهتة بلهاء وشفتاه ترتجفان على أنياب كأنه ضبع سائب في البراري، بل وحش كاسر، شرس من الضواري قال مداريًا الموقف: "نعم، أنت رفيقي، لكن لازم نتعلم فن الحقد الطبقي ونتأكد من انسلاخكم من طبقاتكم! وهذا ليس له علاقة بكم كأشخاص"، يا له من جاحد! هل تتذكره، نعمة هذا كان يساريًا متزمتًا بامتياز لدرجة أنك بالذات كنت تسميه "نقمة"، لا يختلف عن الكثير مِمّن يطلقون عليهم اليوم تسميات مثل المتطرفين والأصوليين والمتشددين والسلفيين، كان يمكن أن يكون جهاديًا، كان ينادي أيضًا بالجيفارية ونظرية خلق البؤر الثورية، أفلح هذا الخط في كوبا بينما وُئدت حركتُه وقُتل قائدُه جيفارا في بوليفيا بعد أن خانه فقراءٌ جاء ليحرّرهم! فما الفرق بين هذين النهجين؟ اليساريون ذهبوا إلى إسبانيا دفاعًا عن الجمهوريه، والجيفاريون إلى بوليفيا لتصدير الثورة، والجهاديون اتجهوا إلى أفغانستان ليساندوا فئة ضد أخرى ولينصروا إخوتهم في الدين ضد الملحدين الروس. يعني إذا كل واحد يعطي الحق لنفسه سيصبح العالم غابةً! كلّهم مناضلون!

أجل، هكذا كان صديقنا المسكين نقمة عفوا أقصد نعمة، فقيرًا متحمسًا ولبقًا ومحدّثًا، مقنعًا في حواراته ولديه كاريزما، لكنه كان مثل بعض رجال الدين "الموامنه" منظّرًا اتكاليًا، "عِشتي" يعيش على الآخرين، بل "عَلَقة" يعتاش عليهم، يشكو الفقر والعوز ولم يجرب مرّةً أن يمسك المعول بيديه ليكسب خبزه بعرق جبينه.

أتذكّرُ أني أجبتُه بأنك زرعتَ الأشجار بيديك هاتين النحيفتين يا رفيقي، لِمَ لَمْ تَقُمْ بنفس الشيء أمام بيتكم؟ من يمنعك من القيام بذلك؟ لم يجبني ولم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إليّ محركًا يديه حائرًا ماذا يقول وابتسامة صفراء ترتسمُ على شفتيه! وسبحان الله كان نعمة اسمًا على غير مسمى، أول المنسحبين المنبطحين المتطوعين للخِسّة والحِطّة والنذالة والعار والتعاون مع الأجهزة بدون أن يجبره أو يضغط عليه أحد.

أصلاً، لم يكن لدى هذا المسخ ما يبيعه غير الغدر، ولم نكن لنغضب عليه لو تعرض للتهديد اوالوعيد والترهيب، ناهيك عن التعذيب، لكن أبدًا لم يحدث مثل هذا الأمر لصاحبنا "الهمام"، كان يتبجح بالبطولات ويدّعي ما ليس له به ويزايد علينا بتنظيراته.

نعم، لم نكن لنغضب ولا نحقد عليه لو اكتفى هذا المأجور الوصولي المسكين بتغيير فكره وموقفه منا، لكنه تطوع، بل تمادى وتفنن ليلحلق الضرر والأذى بالآخرين بدون ان يطلب منه أحد ذلك. أجل هذا هو نعمة المزايد، يتميز بأسوأ مفردات تبدأ بالخاء: أول الخاسرين وأسوء الخاسئين وأذل الخانعين والخائبين والخائنين لقضيتنا، كوفِىء فيما بعد وفجأة بزمالة دراسية إلى بريطانيا، بينما كان الآخرون يتعرضون للضرب والحبس والإهانه ومع ذلك لم يتردّدوا في النضال من أجل أهله الفقراء، لطالما ادّعى نعمة الانتماء لهم. هل هذا ميسوبوتامي كما كان يتمنطق ويزايد ويتبجح؟ هل ينتمي هذا التافه الدَعّي الى مابين النهرين؟ اي مفارقة هذه؟ هل تتذكر كيف أهنّاه واحتقرناه وهشّمناه، عفوًا أقصد همّشناه عندما عاد من بريطانيا إلى العراق؟

كان يتصور أننا سنستقبله بالورود أو سننسى فعلتَه السوداء، لكننا لم نحقد عليه في دواخلنا بل أهملناه، والله انا شخصيًا كنت أعطف عليه وركنته في زاوية "الكراكيب"، بل شطبت اسمه ومسحته ومحوته من ذاكرتي، اجتثثته، تمنيتُ له ان يحقق سعادته الشخصية كما يريد، لكن بالتأكيد ليس على حساب الآخرين! الكلاب تنبح والقافلة تسير!

سَوْرري! سَوْرري! آسف عيني آسف! آسف على هذا الاستطراد المتشائم! لكن الثوري المبدأي، آسف حبيبي آسف، أزعجتك بهذه القصه السلبيه!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

للأدباء والنقاد والمثقفين ومحبي القراءة في مجال النقد الأدبي.. مجموعة من أهم الإصدارات لواحد من أهم نقاد مصر. إنه الدكتور مصطفي ناصف، الذي عاش في الفترة بين (1921: 2008) وتوفي عن عمر جاوز 86 عاماً، أنجز خلالها عداً من أهم المؤلفات النقدية التي أثرت مكتبتنا الثقافية..

 لقد قررت الهيئة المصرية العامة للكتاب التعاقد على نشر أهم أعمال الدكتور مصطفي ناصف أحد أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي. وهو الأمر الذي يشير إلى مدي اهتمام الهيئة بحركة النقد وبالمؤلفات النقدية المؤثرة في تلك الحركة..

 والحق أن الحركة النقدية بالفعل تحتاج إلى اهتمام وتطوير ودعم. خاصة في ظل كثرة المعروض من الأعمال الأدبية مع ضعف قيمتها ومستواها في معظم الأحوال. ويصير من السهل في ظل انعدام تأثير الحركة النقدية علي جمهور القراء والمثقفين أن تتسلل إلى ساحة النشر أعمال مغرضة أو ملتوية تنتمي لأجندات فكرية تهدف لإفساد الوعي وتوجيهه نحو اتجاهات تخدم مصالح تلك الأجندات المشبوهة.

 نعم نحن لدينا جهات رقابية تمارس دورها في فلترة الوجبات الفكرية المقدمة للجمهور، لكنها لن تستطيع وحدها كبح جماح هذا الكم الهائل من الإصدارات. وهنا يصبح للنقد دور حيوي جماهيري في التمييز بين الغث والثمين، وفي توجيه دفة الثقافة نحو الاتجاه السليم. ثم هناك دور ثاني لا يقل أهمية وضرورة. وهو الدور الذي يخص الأدباء أنفسهم. إذ يقوم النقد الأدبي الرصين بعدد من المهام الضرورية لكل أديب، منها التقييم الذي يجعل الأديب شاعراً كان أو روائياً يدرك موقعه ومستواه بالنسبة لأقرانه، فيحاول أن يطور قدراته باستمرار. ثم إن النقد المستمر لأعمال الأديب يجعله قادراً على استدراك أخطائه وهفواته في أعماله التالية، كأن النقد يمثل بالنسبة للأدباء بوصلة تضمن لهم السير في الاتجاه الصحيح.

 تكمن أهمية الإصدارات التي تنوي هيئة الكتاب نشرها للناقد الأكاديمي البارز الدكتور مصطفي ناصف في كونها تمثل اتجاهاً نقدياً متفرداً يدعو للتجديد. إنه لم يكن مجرد ناقل للمناهج النقدية الغربية، بل كان ينظر إلى الإنتاج الفكري الغربي في مناهج النقد وفلسفاته بعين عربية وبنظرة علمية تنتقي ما يصلح لبيئتنا العربية وتتجنب كل ما يتنافَى مع بيئتنا وخصوصيتها الحضارية وتاريخها الثقافي.

 فأما الدكتور مصطفي عبده ناصف، فهو أديب وناقد مهم عاش خلال فترة امتدت من العهد الملكي، حتى عصر مبارك. وحصل على ليسانس وماجستير الآداب في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، عين شمس حالياً، عام 1952، ووصل أن أصبح أستاذ كرسي عام 1966. وله عدد كبير من المؤلفات النقدية المهمة منها: (النقد العربي. نحو نظرية ثانية)، (نظرية المعني في النقد العربي)، (نظرية التأويل)، (ثقافتنا والشعر المعاصر)، (اللغة والبلاغة والميلاد الجديد)، (محاورات مع النثر العربي)، (بعد الحداثة: صوت وصدي)، (دنيا من المجاز) وغيرها من المؤلفات الرائعة التي وصلت لنحو 23 كتاباً هي من أهم المؤلفات النقدية في مكتبتنا العربية.

 وبسبب تميز هذه المؤلفات وأهميتها، حصل ناصف على عدد من الجوائز في مصر وخارجها؛ إذ حصل على جائزة الدولة التقديرية، وجائزة أفضل كتاب في النقد الأدبي، وجائزة نقد الشعر من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين في الكويت، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد من مؤسسة سلطان بن علي العويس بالإمارت. واختتمها بحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2007، قبل وفاته بعام.

استطاع الدكتور ناصف صياغة منهجية نقدية خاصة يستقرئ من خلالها الأدب العربي القديم ليضعه في ميزان النقد الحديث، محاولاً تخليصه من أسر المحسنات البديعية والزخارف البلاغية موضحاً تطوره فكرياً ولغوياً. ثم أعاد قراءة أدبنا على ضوء استيعابه المحيط بمناهج النقد الحديث. وهو ما أوصله في النهاية لرسم خط أدبي ونقدي ميزه عن غيره من النقاد والأدباء.

امتلك مصطفي ناصف أسلوباً بارعاً في الكتابة النقدية والأدبية، ومنهجاً فريداً في معالجة وشرح أساليب النقد على ضوء منهجه الخاص الداعي للتطوير والتجديد. هكذا استطاع أن يحسم تلك العلاقة الجدلية بين مشروعات الفكر الحداثي الغربي وبين ثقافتنا الشرقية، وأن يصنع من هذا المزيج خطاً ثالثاً ينتمي في جوهره لتراثنا الثقافي ذي الخصوصية والتفرد.

 ولعل أهم ما ميز كتابات مصطفي ناصف أنه لم يخضع للأسلوب النقدي السائد في محيطه الأكاديمي، ولم يخاطب جمهوره من القراء من برج عاجي متعالي عليهم، بل حاول أن يكيف قلمه لخدمة القضية الفكرية والثقافية بإخلاص وتجرد.

 مشروع فكري مهم هذا الذي تنوي الهيئة رعايته، وإنني واحد من بين المترقبين لصدور هذه المؤلفات التي أثق أنها ستثري مكتبتنا من جديد بمؤلفات رصينة هادفة تستحق القراءة والاقتناء.

***

د.عبد السلام فاروق

قبل فترة تداولت وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خبرا مؤسفا عن عملية همجية، تمثلت في رفع تمثال الملك السومري كوديا المقام في مدينة الدواية، شمال محافظة ذي قار، بل وسحله بعملية مهينة، والتمثال كما اشارت بعض التقارير، من عمل الفنان النحات أحمد حسن، من أهالي مدينة قضاء الشطرة، الذي قام بعمل نسختين من التمثال، وأهدى الاولى لبلدية الدواية في مدينته الناصرية والثانية لمتحف ذي قار الحضاري..

فمن هو الملك غوديا؟

يعتبر الملك غوديا، المعروف عالميا، أشهر ملوك سومر وهو الملك الثاني عشر لسلالة لكش (حكم 2124 ــ 2144 ق م) وتعاظمت الدولة في عهده وقام بتطوير نظام الري والتجارة الخارجية مع لبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر، وهو لم يكن من مدينة لكش، الا انه نجح في صعود سلم المناصب والزواج من ابنة ملك لكش اوربابو (2144 - 2164 ق م) . وتميز عصره بالإصلاحات الاجتماعية فقد سمح للنساء بتملك الارض، واهتم بالفنون والآداب، وسعى لتطبيق القوانين. أيضا تشير الأبحاث الى أنه أول من بنى معبداً مقدساً في التاريخ، ومعنى أسمه باللغة السومرية (الرسول) أو (المُنادى - من قبل الإله-)، لذلك يصنفه بعض الباحثين على أنه (نبي).

الانباء ذكرت ان رفع تمثال الملك أو النبي غوديا تم بحجة أنه (صنم) ولا يجوز وجوده وتمت الإشارة الى محاولة استبداله بنصب ذو دلالات دينية اسلامية.

وسرعان ما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالغضب واستياء شديد من هذا السلوك الذي يهين رموز الفكر والثقافة ويهين تأريخ البلاد، ورفض واستنكر ناشطون العملية واعدوها جريمة بحق معالم اثار وتأريخ البلد، ومن جانبها استنكرت ورفضت مفتشية اثار وتراث ذي قار، عملية رفع التمثال ودعت المسؤولين في المحافظة، في بيان لها الى ( محاسبة مرتكبي تلك الجريمة، وحماية تماثيل ونصب المحافظة)، وسرعان ما تراجعت السلطات المحلية في قضاء الدواية عن قرارها برفع التمثال، وتواصلت مع النحات لإعادة ترميمه ونصبه في مكانه السابق وأدعت بأن الساحة خضعت لأعمال ترميم.

أن هذه الحادثة تقدم لنا درسا يمكن التوقف عنده مليا، فالسلطات الحكومية، التي فاتها ان وجود هذا التمثال وغيره، هو دليل اعتزاز اهل المدينة بتاريخها وحضارتها، اضطرت امام الرفض والاستنكار الشعبي للاستجابة للضغوط وإعادة نصب التمثال. ان حادثة تمثال الملك غوديا تقول لنا بأن تنسيق وتوحيد الجهود والرفض والاحتجاج يمكن ان يأتي بثماره ليس في قضية رفع تمثال فقط، بل وفي ملفات وقضايا اهم تخص حياة الناس ومستقبلهم.

ويضع أيضا امام الجهات الحكومية المعنية مسؤولية حماية اثار ومعالم الحضارة لبلادنا امام دعوات الجهل بحجج واهية لا تصب في خدمة البلاد وتاريخها ومستقبلها. ان المواطن العراقي يشعر بالخجل عند زيارته لبعض من متاحف العالم التي تحوي بعضا من اثار بلادنا، ويلمس جيدا حسن الاهتمام والطرق الحضارية للمحافظة عليها، والمستوى العالي من الرعاية التي تلاقيها على ايدي أهل البلاد “الكافرة” كما يقول بعض ابناء بلادي، فهل يعقل ان تكون على حق، تلك الأصوات التي تعتقد ان من الحسنات قيام الاوربيين بسرقة اثارنا، لأنهم يحفظوها لنا سليمة وبأحسن حال ويعرّفون بها، بينما نقوم نحن بإهمالها وأهانتها؟

***

يوسف أبو الفوز

الرسالة الثانية /3: الرسالة الجَلجَلوتية!

آب/ أغسطس 1992

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم

***

عزيزي يونس!

حدثني أحد أصدقائي، قال:

في إحدى المرات عندما كنا في بداية التسعينات ننتظر في معسكرات اللاجئين الحصولَ على الإقامة، فوجئت بشاب طويل القامة ضخم الجثة يأكل فيها السبع كما يقال، والله أتذكر أنه كان على جَمال رجولي يجلب انتباه حتى الرجال، فيه العينان الواسعتان الكحيلتان اللامعتان السوداوان، والسن الباسم والشعرالكث، والطول والرشاقة، والشياكة والأناقة والقيافة، والله العظيم لو كنت مخرجًا مسرحيًا لأعطيته دور قائد عسكري أو روحي، ملهم، يقود الجماهير، لكنه لم يكن كذلك، سبحان الله، كاد أن يطير من الفرح، لم يستوعب "صدمةَ" الخبر المفرح، صار يتراكض ويتراقص ويدبك ويهز وسطه ويدورهنا وهناك جذلاً فاقدًا السيطرة على جسمه ويهذي ويجمجم بكلمات غير مترابطة كأنه يعاني من نوبة فرح جنوني لا يدرك ماذا يفعل وكيف يسيطرعلى مشاعره كأنه نشوان سكران يتهاوى أصيب بهيستيريا، سألت الآخرين بهدوء وثقة بالنفس كأني مديرهم أو مسؤول نزلتُ عليهم مشرفًا "من فوق"، أو من كوكب آخر لا يعلم ماذا يجري هنا: يا جماعة الخير، اشصار بيه، هذا الشاب؟ ربح مليون ؟"، قالوا لي إنه حصل على إقامة، "هَلّا وصلت إقامته"، هَمهَمتُ مستفسرًا: "وصلت إقامته؟ بالسيّارة؟ شر البلية ما يُضحك! إن لله في الخلق شؤون، وشنو يعني إقامة؟"، بينما كانت عيناي تتطلعان بسخرية إليه وهو يتابع دبكاتِه ورقصاتِه، والآخرون يضحكون.

تَمتَمَ أحد كبار السن من طالبي اللجوء الفلسطينيين، كان جالسًا إلى جانبي، يبتسم: "حقه يفرح ويرقص كمان، ما هُوْو أردني، المفروض يزغرد لأن الأردنيين ما بيحصلوا على الإقامه بسهوله زيكم العُراقيين، أنت مش عارف؟ وإلا؟ إحنه الفلسطينيه قبل كانوا بيعطونا الإقامه بنص ساعه، هسّاع صاروا يأخّرونا، أكثريتنا هنا صار لنا ثلاث سنين ننتظر، عشان هيك هُوْو فرحان، أصلاً ما كان بيتوقع ياخذها، لأنّه أردني، وزي ما خبرتك ما بيعطوش للأردنيين إقامه عشان بلدهم آمن، وفيه دمقراطية واحترام لحقوق الإنسان، هُوو صار له أربع سنين ينتظر، لكن هُوو ما كان سائل عليها، يشتغل هنا وهناك، جزار وخضرجي، يجي هون للمعسكر بس يستلم معاشه شهريًا ويروّح، إيه شو بدّه يعمل؟ يروّح على بلاده؟ مش معقول يترك هالبلاد الخضراء الحلوة والشغل والرفاهية ويروح، لا عنده شهاده ولا شغل ولا عمل هناك، ما تقول لي وطن! لا وطن ولا بطيخ، شو فائدة الوطن إذا ما فيه لقمه الواحد يأكلها؟ مستحيل! مضبوط كلامي والاّ لا يا باشا؟".

وَجّه سؤاله الأخير متطلّعًا إليّ بعينين حزينتين مستفسرتين بينما أخرج سيجارتين من علبته، قدّمَ واحدة لي وأخرى وضعها بين شفتيه الذاويتين ليدخنها، وصدره يخرخش ويسعل وهو يتمتم بين نفسه كأنه يشك بما يقول: "أنا عارف! والله الواحد يحتار شو بيحكي، الوطن عزيز، لكن الظروف تحكم الناس، والاّ شو يخلّي واحد شاب مثل هذا يترك أهله وديرته"؟

تناولتُ السيجارة شاكرًا وأنا أتطلعُ إلى تضاريس الجغرافية والتاريخ والرحيل والقدوم والمغادرة والوصول والسفر البادية في ملامح وجه هذا الفلسطيني المبتسم الهادىء، وكأن المثل العراقي "المبلّل ما يخاف من المطر" ينطبق عليه، هو بالأساس لاجىء في لبنان ليس له حقوق. واستمرَّ يتكلم بصوتٍ خافتٍ كأنه يعاتب نفسه "شوف كانت هناك بناية قديمه عالية، هي مش كثير تعبانه، بس هم درسوا الموضوع وقرروا يهدّموها ويبنوا مكانها عماره جديده، حاطّين صوره كبيرة تورجيك كيف راح يصير شكلها في المستقبل، ماشفتها؟ في شارع الكومونه، وفعلاً هدموها، على اساس هي خرابه! ههه! وراح يبنوا سوبر ماركت جديد وشقق سكنية ولا احلى منها! واحنه؟ خراب وسراب وشتائم وسباب!

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم، هذا هيك عمل وهذه هيك عملت! وعلى اقل حاجة تبدأ اتهاماتهم وتخوينهم وتكفيرهم! شو بدّي أقول؟ أنا عارف؟ والله مش عارف شو أحكي؟ هَيْهم الناس إهنِي عايشين أحسن حياة ومرتاحين! ليش احنه هيك وضعنا؟ ليش ما نصير مثلهم؟ نبني ونعمّر بلادنا وبيوتنا؟ شوف يا مَحلى شوارعهم وبيوتهم، واحنه خراب وتراب، نكد بنكد، حروب إلها أول ما إلها آخر من داحس والغبراء حتى يومنا هذا، وأطفالنا وشبابنا يُقتلون قدّام أعين كل البشر، لكن لا مهزوز ولا محزوز، ولا نعرف شو راح يحصل بالباقين تهجير قسري أم "تحرير" أمري! وإلى متى نبقى بها الحال! الله اعلم!

كادت عيناي أن تدمعا، لو كان الأمر بيدي لفضّلتُ هذا الفلسطيني على نفسي وأعطيته الإقامة بدلاً عني، هذا طبعًا إن منحوني إيّاها بسرعة باعتباري عُراقيا كما يقول. أفكّر في كلامه وأقول لنفسي لا وطن بلا عمل ورعاية وحماية، ولا اندماج في مجتمع يدير للإنسان ظهره!

دعنا في المهم يا حبيبي يونس، نتذكركم في كل مناسبة وغير مناسبة، في كل لقمة نضعها في أفواهنا متردّدين بمضغها أو لوكها، وفي كل مرة نضحك قليلاً، نقطعها ونتوقف عن الابتسام خوفًا من لومة لائم أو تأنيب الضمير.

الطبيعة والمرابع الخضراء والسواقي والأنهار والأهوار لم نرها في بلاد الرافدين إلا في دروس الجغرافية والتعبير، هل تتذكر معلّم اللغة العربية عبد الحسين الحمداني؟ الطويل القامة ذا الشفتين، المتدليتين والنظارة السوداء، كان بارعًا في تدريس العربية ،علّمنا عبارات لم نكن نشعر بها، نصحنا أن نستعملها في موضوعات مثل: "صِف رحلة"، كنا نسميها كلائش: ولبسَت الأرض حلتها الخضراء متشحة بأحلى الألوان الزاهية، مرتدية أجمل الأزياء، أو: أخذت السيارة تنهب بنا الأرض نهبًا بينما كنا نتطلع من نافذتها إلى الأبقار والأغنام  والخيول والدجاج والبط والنوارس والطيور الأخرى وعصافير الدوري في المراعي والمروج والبساتين العامرة بالنخيل المتفاخرة بأعثاقها، نشم عبق الروائح الطيبة العطرة مع مهب الرياح الدافئة بشمس الربيع الساطعة ووجوه الفلاّحات مبتسمةً.

حلوووو! هلو عيني! هلو داد هذا شلون نفخ! كنّا في الصف السادس الابتدائي، وكان علينا أن نصف مناظرَ طبيعيةً لم نطلع عليها يومًا، بأجمل العبارات والألفاظ والصفات الجميلة الجاهزة!

بشرفك انت شفت مثل هذه الطبيعه في بغداد بحياتك؟ أنا شخصيًا لم أرَ أرضًا خضراءَ، أقصد بساتين وغابات غنّاءة وأشجارًا باسقة في بغداد إلا ما ندر، مثلاً في منطقة صدرالقناة ومقبرة الإنجليز أو الأتراك، لم أعد أتذكر، كنا، المفروض ندرس فيها، وأشجار الكاليبتوس في شوارع بغداد القديمة، مثل الوزيرية والصرّافية وراغبة خاتون وطبعًا كورنيش الأعظميه وبيت المميّز على الشط، كنا نسبح فيه وكاد أن يغرق فيه أحد زملائنا نوري النحيف الصُغيّر "الزعيجون" لولا أن أنقذه صاحبه صباح، هل تتذكر تلك الحادثة؟ والعطيفية، الله ما أجمل تلك الظلال في الظهيرات القائظة، وفي حدائق منازل يسكنها ناس محظوظون.

ولا أزال أتذكر مدى فرحي عندما زرعوا "الثيّل" الأميركي الأخضر في السبعينات على "سفحِ" سدّة ترابية كان يمر عليها القطار ما بين أكاديمية الفنون الجميله والجسر الصغير قرب كلية التربية ودار الكتب في بغداد، تحول لون التراب إلى أخضر جميل زاهٍ غمرني بالسعادة.

يا ترى هل لا تزال سدّة القطار خضراء؟ عشرون سنة تفصلني عنها، منها ثماني سنوات حرب مع الجارة إيران!

لا أزال أتذكرهذه السدّة الخضراء، أحنُّ إليها كلما أشتاق إلى أمّي.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في (20 تموز 24) دعيت لمشاهدة عرض فلم (اخفاء صدام حسين) يحكي قصة اختفاء صدام حسين من يوم هروبه من بغداد الى يوم القاء القبض عليه.

يبدأ الفيلم بظهور فلاح جالس على الارض بكامل اناقته الفلاحية يروي لنا بطلاقة وسلاسه وكأنه (يسولف سالفه) للجالسين في ديوانه، ظننته ممثلا لأجادته السرد والنطق السليم وصدق الأنفعالات، فيما كان هو الفلاح (علاء نامق) الذي اخفى صدام 235 يوما حاسما في حياة صدام، وخطرا رهيبا على حياة علاء واسرته من 150 ألف جندي أمريكي يبحثون عن صدام ورصدوا 25 مليون دولارا مكافأة لمن يدّلهم عليه.

علاء نامق

وكنت تساءلت: من اين جاءت الفكرة؟وهل ان الفلم وثائقي ام سياسي؟ وهل سيتصف بالمصداقية؟.. وأخرى، فعرفت ان المخرج شاب كردي اسمه (هلكوت مصطفى) كان قد هرب زمن النظام السابق الى النرويج، وقدحت الفكرة لديه فقصد العراق عائدا ليلتقى الفلاح (علاء نامق).

كان علاء هذا قد رفض المشاركة في افلام او برامج تحكي قصة اخفائه لصدام خوفا على نفسه وعائلته، وحرصا على تبرئة عشيرته من مزاعم واتهامات باطلة، واخرى روجت لأمور غير حقيقية تخص استضافته لصدام، كما قال. وحين التقى به المخرج عام 2012 .. اتفقا على تقديم القصة في قالب انساني بعيدا عن السياسة، واستغرق العمل على الفيلم أكثر من عشر سنوات، وأنتج بالشراكة بين شركة (هني) والحكومة النرويجية وشبكة رووداو الإعلامية. وكان أول عرض دولي له في تشرين الثاني 2023 في أمستردام، وأول عرض له في العالم العربي كان في جدة بالمملكة العربية السعودية، ودخل في مسابقة الأفلام الطويلة في النسخة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي عُقد في الفترة من 30 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

دراما .. بفلم وثائقي

وصف فيلم (اخفاء صدام حسين) بانه وثائقي، لكنني وجدته انه تجاوز التوثيق الى دراما تحكي محنة رجل مطارد.. يهرب متخفيا من مكان الى آخر.. ليستقر في مكان وجد فيه وفي صاحبه ما يشعره بالأمان، ما يعني انه يطرح قضية أنسانية خالصة.. في بيئة عشائرية عراقية لها تقاليدها في التعامل مع الضيف.

يبدأ المشهد الأول بمنظر لمزارع في منطقة (الدور).. وفلاّح(هو علاء) يرعى غنمه فيها.. يأتيه اخوه يخبره بمجيء ضيوف الى بيته، ويفاجأ ويندهش ويخاف حين يرى ان الضيف هو صدام حسين!. وهنا يكون علاء في (ورطة) بين أن يخفي صدام عنده وبين خطر ان يقتل هو وعائلته واطفاله الثلاثة. ويلخص لنا (علاء) حل الورطة بأن تقاليدنا العربية الأصيلة توجب ان نحمي الضيف رغم أن (الضيف والدخيل.. بلوه!) فكيف اذا كان الضيف صدام حسين الذي يبحث عنه 150 الف جندي امريكي! ما يعني ان العشيرة العراقية تحمي ضيفها والدخيل عليها، وحقق ذلك بأن بنى له غرفة ومطبخا خاصا به، وحفر له خندقا على شكل حرف ( T) ساواه بالارض وغطاه بالزهور، وجعل الاغنام تمر عليه كأي ارض في المزرعة.

صدام وعلاء.. صارا أصدقاء

تتوثق العلاقة بين رئيس جمهورية العراق.. صدام حسين، والفلاح البسيط علاء، الذي يدفعه فضوله الى أن يسأله: سيدي.. ليش انت اختاريتنه بالذات؟ فيجيبه صدام بأنه تنقل كثيرا من بيت الى بيت، وانه حلم بأن قال له احدهم: روح لبيت (نامق) بالدور.. فقصدتكم. فيجيبه علاء بأنه سيفديه بروحه.. فصار حارسه وطباخه وامين سرّه.. ويأنسه، فيأخذه الى المزرعه ويشاركه برعاية اغنامه، واصطحبه مرة الى جبل حمرين، بل انه عرض عليه أن يزوجه قائلا له( سيدي، بتقاليدنه لازم الرجال يتزوج.. شتكول نزوجك مرة من عشيرتنه!)

ومن المشاهد المؤلمة انسانيا، ان صدام طلب ذات يوم من علاء ان يأتيه بخروف.. فجائه به وذبحه وعلقه واخذ يقطّعه. وقال لعلاء.. اليوم يجون اولادي.. عدي وقصي، وهذا الخروف ذبحته لهم. وجاءا فكان لقاءا يثير انفعال التعاطف الأنساني وينسي المشاهد انهما مجرمان ايضا!.

وفي حوار لطيف بينهما يقول له علاء: سيدي.. الأمريكان نطوا 25 مليون دولار مكافأة للي يدليهم عليك.. شتكول.. نستلمها هسه لو ننتظر يزيدوها!.وكان صدام، رغم خبرته الاستثنائية بمعرفة نفوس من حوله.. على (يقين)انهم مهما زادوا فأن (علاء) لن يبوح بسرّه.

اشكاليات

واجه الفلم اشكاليات تتصدرها شخصية صدام حسين بوصفه رئيس الجمهورية العراقية. فهو بنظر معظم العراقيين.. دكتاتور، طاغية، مجرم بحق الشعب الكوردي ومرتكب جرائم بشعة ضد الشيعة توثقها مقابرجماعية، فضلا عن جرائم بقتل معارضين له من الطائفة السنية.. وبالتالي فانه لا يستحق أن(يجمّل) وجه طاغية و يعمل من اجله فيلم. والأشكالية الأكبر، أن المشاهد لأحداث الفلم تجعله يتعاطف مع محنة انسان مهدد بالتصفية، فكيف اذا كان هذا الأنسان هو (صدام حسين) الذي يعد بطلا بنظر العرب، وقف بوجه امريكا، وقاوم معتدين غزاة احتلوا العراق؟

فيما رأى آخرون أن المخرج الكردي (لمّع) صورة دكتاتور قتل الالاف من شعبه الكوردي ودمر العراق، وان (علاء) اساء للفلم بسعيه الى فرض رأيه على المشاهد بأن صدام رجل طيب.

والاشكالية الثانية، ان الفلاح (علاء) قدم صورة جميلة لشخصية صدام حسين كأنسان وليس كرئيس دولة. فبعد ان كسبه صديقا وجده انسانا طيبا يحمل مشاعر انسانية، متواضعا لدرجة أنه قام في الحمام بجلف ظهر علاء بالليفة والصابون ردا على قيام علاء بجلف ظهر صدام، فيما الفكرة الشعبية(العراقية) المأخوذة عنه أنه مجرم لا يمتلك أية مشاعر انسانية.

واذا جمعنا هاتين الأشكاليتين فأن الشعب الكردي وملايين الشيعة في العراق لن يقبلوا بعمل فني يجمّل صورة طاغية قتل عشرات ان لم يكن مئات الآلاف منهم.

والأشكالية الأخيرة: هل كان ما رواه الفلاح (علاء ) من احداث في اخفائه لصدام 235 يوما.. يتمتع كله بالمصداقية؟. وهل كان(علاء) فعلا فلاحا بسيطا كما وصف، أم انه يتملك مواصفات جعلت الفضائيات العربية التي اجرت معه لقاءات تكتب أمام اسمه (الفنان)؟!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث ومشروعه الفني الذي عمل على انجازه بكهف بمنطقة "المدينة" بمدينة الدهماني.. ذات حالمة مهمومة بالفن والتنشيط الابداعي والجمالي.. لفنان هاجر لفترة بالخليج وأنفق على مشروعه الكثير..

ها هو الفن في تلويناته المتعددة حيث الفكرة التي تقود القلب منذ نصف قرن وبعد تجربة بتونس وخارجها.. هي لعبة الفن في الجغرافيا والزمان والمكان والوجدان قولا بما به يسعد الكائن وهو يرى بعين القلب شيئا من حلمه وهواجسه وأغنياته العالية التي كثيرا ما تمنى احتضانها على الأرض وبين الجبال.. جبال الكاف العالية ونسائمها الصيفية وفي كل الفصول وفق رغبات شتى هي فكرة حاله ورؤيته للأسياء والآخرين والعالم.. ولذاته المثقلة بالابداع والامتاع والمؤانسة..

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث صاحب التجارب الفنية والخبرات حيث عرفه مجايلوه من الفنانين التونسيين منذ حوالي نصف قرن بشغفه الفني وحلمه اللا نهائي على غرار عمله الفني ضمن تجربة عرفت باللامنتهي.. هو يحمل مشروعا فنيا عمل على انجازه بكهف بمنطقة " المدينة " من مدينة الدهماني الكافية.. هو فنان مسكون بالهاجس الثقافي والابداعي وقد تشبث بجهته لابراز خصوصياتها الفنية والحضارية وعلى عكس غيره لم تستهوه العاصمة والعواصم والمدن الأخرى بل انه أراد أن يستثمر ثقافيا في مسقط رأسه وكان مشغولا بفكرة كهف الفنون لتنشيط الحياة الثقافية بالجهة ولتشجيع المواهب من خلال الورشات ولابراز دور الفنون في حياة الناس.. ومنذ سنوات أصبح الكهف مجالا للزوار وقد طالب الفنان بلغيث بادراج الكهف ضمن المعالم باليونسكو. وهو الآن بصدد الاعداد لتظاهرة ثقافية فنية كبرى بكهف الفنون..38 amar balgheeth

عمارة بلغيث لم يجد الطريق مفروشة بالورود وممهدة بل انه لاقى العديد من الصعوبات والعراقيل ولكنه كان مصرا ومقتنعا بفكرته ولذلك نراه الآن يحصد النجاحات وصاحبنا هذا الفنان المختلف له أكثرمن أربعة عقود في تجربته بين المشرق وتونس وله قصة عشق وهيام بالفن التشكيلي.

عمارة بلغيث انسان مرابط في كهفه ينجز الفكرة ويبحث عن غيرها وحياته في حيز كبير منها تكمن في "كهف الفنون" بالدهماني والذي بعثه منذ سنوات بعد اقامة لسنوات بالخليج العربي وكانت له تجارب أنشطة وشراكات منها الشراكة مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي بالكاف ضمن مشروع "محمية للمبدعين" التي كانت في هذا الاطار من التعاون والتفاعل الثقافيين.

وقد شهد المركّب الثقافي عددا من الفعاليات منها معارض مخصصة للفنان عمار بلغيث ولمختلف انتاجات الاطفال في مسابقة " أطفال المحمية.. هم فنانون أيضا.. " هذا فضلا عن المعارض المهتمة بالمنتوجات التقليدية لعدد من الجمعيات الحرفية بالجهة وخصص يوم كامل لعدد من ورشات الرسم وذلك باشراف وتسيير من قبل فنان سيكافينيريا المتميز وصاحب كهف الفنون وشريك المبادرة المذكورة الفنان عمار بلغيث.

وبالنسبة لورشة الفوتوغرافيا فيسبرها الفنان صالح القلعي وذلك بالمركّب الثقافي خلال يومين كما كان هناك مجال لورشة تهتم بمعالجة الصورة باشراف السيد ماهر العمدون وقام الأستاذ الأزهر الفرحاني بتنشيط ورشة فن الممثل كما قدّم عرض الراشدية للأستاذ معز التيساوي وخصص مجال للعرض الفرجوي (كيف الكاف) وقدمت كذلك مجموعة من العروض المسرحية خلال الأيام المفتوحة للتعريف بهذا العمل الكبير الممهور ب "محمية المبدعين" ومن العروض نذكر "مريض الوهم" للأزهر الفرحاني وهي من انتاج مؤسسة المركب الثقافي الصحبي المسراتي وعرض مسرحية "أرض الفراشات" لمركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف فيما خصص يوم للعرض الموسيقى والشبابي ضمن موسيقى الراب للثلاثي لارتيستو وغستمان وريان قلعي وذلك بفضاء مسرح الجيب بالكاف..39 amar balgheeth

في هذا السياق الثقافي كان التعاون ضمن فعاليات الكاف محمية المبدعين وذلك مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي وتضمن برنامج هذا المشروع الرائد حرصا على بعث وايجاد مجال ثقافي يساند ويرعى 20 فنانا من أبناء الجهة ضمن السياقات والمجالات الثقافية والفنية والابداعية المختلفة حيث العمل مع الشبان بالجهة (أعمارهم بين 15و30سنة) وذلك عبر ترميم واعداد المحمية الثقافية وضمن البرنامج دورة تدريبية في الرسم لتنمية وبناء المهارات الفنية لـ20 تلميذا والحصول على 40 لوحة فنية قابلة للعرض لنشر الوعي الفني والجمالي والحس النقدي ل 500 تلميذ من أرياف الجهة والجهات القريبة منها مثل جندوبة والقصرين وباجة وتم تنظيم 10 زيارات كل أسبوع وبعث محضنة ضمن المحمية الثقافية ل25 فنانا من الشبان لاقتراح مشاريع ثقافية وتم التأطير من قبل فنانين محترفين والمحصلة ترشيح 5 مشاريع فنية لفائدة فضاءات الكاف الثقافية.

هو مشروع مهم ساهم في احياء الحركة الثقافية على نطاق واسع والدفع مجددا بالسياحة الثقافية بالجهة حيث تمت دعوة 5 من الفنانين المحترفين العرب والدوليين للاطلاع على المشروع وتجربة المحمية الثقافية وتنشيطها فنيا وثقافيا عبر عدد من الفعاليات الى جانب الندوات والمجالس ضمن العناية بحوالي 3000 من رواد هذه التجربة وجمهور الكاف.

عمارة بلغيث الانسان والفنان المرابط في بكثير من حرقة الفن والابداع والامتاع يحاول الألوان ويحاورها كطفل سابح في سماء البراءة.. لا يلوي على غير القول بالتلوين وتنوع الأشكال وتعددها نحتا للخصوصية وتأصيلا للكيان.

***

شمس الدين العوني

بقلم: هالة عليان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أنت مختلفة:

عندما وصلت إلى عيد ميلادي العاشر، كنت قد عشت في ثلاث قارات. بسبب حرب الخليج، والدراسات العليا لوالدي، والضرورة المالية، انتقلت عائلتي عبر العالم إلى الغرب الأوسط. كنت عربية، محبة للكتب، ومذعورة على الدوام. كل هذا لأقول - لم أكن أرغب في شيء أكثر من التأقلم. وعلى مدى العقد التالي أو نحو ذلك، ظل هذا هو هدفي المحموم. أي شخص يريد أن يرى دليلاً على هذا الشوق يحتاج فقط إلى تصفح الكتب السنوية الخاصة بالمدرسة المتوسطة والثانوية.

لقد قمت بتسوية شعري. قصصت شعري. لقد صبغت شعري باللون الأشقر. اكتسبت وزنا. وفقدت وزنا. طلبت من الجميع أن يدعوني هولي. تظاهرت بأنني لم أقرأ "آنا كارنينا" قط. (قرأتها أربع مرات). تظاهرت بأنني شاهدت داوسون كريك وجيلمور جيرلز. (لم أشاهد أي حلقة حرفيًا)

لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً للتوقف عن التظاهر والنظر إلى الوراء وأن أدرك أن ذلك ربما كان ببساطة بسبب الإرهاق وليس بسبب شعور معين. ولكن بمجرد أن فعلت ذلك، لجأت إلى تقاطع الاختلاف والكتابة. وهذه نعمة الاختلاف ونقمته؛ في الحياة اليومية، قد يكون هذا أمرًا متعبًا، لكن في الفن، يصبح عملته الخاصة. بالنسبة للكثيرين منا، فإن الاستماع إلى أولئك الذين أسكتهم التاريخ (وحاول في كثير من الأحيان محوهم) لا يمكن أن يكون أقل من مجرد الارتياح.

لذا يا هالة الصغيرة: خذي ما يجعلك مختلفة واحكي تلك القصة. الأشخاص الذين يحتاجون إلى قراءتها سوف يتردد صداهم، وأولئك الذين لا يحتاجون إليها، حسنًا، لن يجلسوا بجانبك في الكافتيريا على أية حال.

2- المجتمع يساعد:

عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، فقدت شخصاً أحببته والذي توفي وهو في سن صغيرة جداً. توفي يوم الاثنين. في الجمعة التالية، كنت أتجول في شوارع القرية، مشوشاً تماماً ولا أعلم ماذا أفعل بنفسي، عندها وجدت ميكروفون مفتوح في مقهى كورنيليا ستريت. دخلت. كتبتت قصيدة قصيرة ورديئة على منديل ورقي و، بنبض الأدرينالين الخالص، قمت بتسجيل اسمي وأدائها.

ربما كانت تلك إحدى أهم اللحظات في حياتي. عدت كل أسبوع. لقد كتبت قصائد أقل فظاعة. مع مرور الأشهر، التقيت ببعض الأشخاص الأكثر لطفًا وذكاءً وذو قلوب كبيرة من خلال تلك الميكروفونات المفتوحة. التقيت بالناشرين المستقبليين لمجموعتي الشعرية الأولى.

الأهم من ذلك كله، اكتشفت شعورًا بالانتماء. كنت قد انتقلت إلى نيويورك قبل بضع سنوات، وما زلت أشتاق إلى بيروت كما يشتاق العاشق إلى حبيبته. كنت أفتقد عائلتي، وحاناتي المفضلة، وحرم جامعتي القديمة. لكنني وقعت في حب تلك القاعة المظلمة، المضاءة بالشموع، وجدت نفسي أعود إلى تلك الغرفة المليئة بالسرد والتصفيق بإخلاص شديد كما يفعل المصلون.

3- الكتابة هي العمل:

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لفهم ذلك، لأن الكتابة هي أيضًا كائن سحري، متقلب، مثير للغضب، نادرًا ما يبدو أنه ملك لي. ونعم، ربما تكون، بالنسبة للكثيرين منا، الكيمياء الأكثر نقاء وبساطة التي يمكن أن نصادفها على الإطلاق.

ولكنها عمل أيضًا. عليك أن تعاملها باحترام. الفكرة ليست كتابا. يمكن أن تكون المسافة بين الاثنين أرضًا طويلة وحيدة لا يمكن عبورها إلا بالكتابة الفعلية.

كل شخص لديه روتينه الخاص. بالنسبة لي، 30 دقيقة في اليوم، لا أكثر ولا أقل. أحيانًا أكتب تلك الدقائق الثلاثين في مترو الأنفاق، وأحيانًا على مكتبي، وأحيانًا على هاتفي، لكنها دائمًا ما تكون 30 دقيقة. إذا فاتني يومًا، أسامح نفسي، لكني أعوضه في اليوم التالي. لقد تعلمت أن الكتابة تشبه الذهاب إلى الصالة الرياضية، مثل بناء أي عضلة. إنها تحتاج إلى انتظام وللكثير منا، إلى طقوس.

4- سوف تسمعين لا كثيرا:

مثل - كثيرًا. مثل - ستكون هناك أسابيع وشهور حيث تسمع فقط الرفض. أتلقى رسائل عبر البريد الإلكتروني بانتظام تشتكي من أن عملي ليس بالضبط ما يبحثون عنه.

في المرة الأولى التي تلقيت فيها رسالة من هذا النوع، أصيبت بصدمة كبيرة. كان غروري الشاب واثقًا للغاية من أن المجلة لن تحب عملي فحسب، بل ستكون متأثرة بفهمي الدقيق للحالة الإنسانية، وإتقاني للغة والصورة، حتمًا سيطلبون مني المزيد من الأعمال.

لقد رفضوا عملي. وقد تعرض غرورتي لبعض الكدمات التي كنت في أمس الحاجة إليها في ذلك اليوم. ثم المزيد من الكدمات، ثم المزيد، حتى بدأت أفهم: إذا كنت ستكتبين، فعليك أن تجدي سببًا للقيام بذلك، لا علاقة له بالمال أو التقدير أو الجوائز.

أدرك أنني أقول ذلك من موقع الحظ والامتياز، بعد أن تم نشر أعمالي. ولكن هذا لا يغير حقيقة أن ممارسة هذا العمل يجب أن تأتي من حب العمل نفسه، من خلق عوالم وحياة لم تكن موجودة من قبل، ومن شغف في فقدان نفسك في رغبة في سرد قصة معينة، ومن الرضا في لحظة "أها"، عندما تتصل كل الأمور في مكانها، وتصبح جميع تلك الطرق المسدودة والمسودات الخامة فجأة تستحق الجهد.

5- الشك الذاتي هو جزء من العملية:

تصالح مع الأمر يا صغيري. دع الشك الذاتي يدخل إليك، لكن لا تجهز له سريرًا.

لا يوجد طريق صحيح لفعل هذا العمل. أي شخص يخبرك بغير ذلك يحاول ترويج نسخته الخاصة من "الصواب". بعض الكتاب يفعلون ذلك فقط من أجل أنفسهم، دون أي رغبة في جمهور. آخرون يزدهرون في الاندماج بالمجتمع والقراءات العامة. بعض الكتاب يرغبون في رؤية أعمالهم في كتاب، بينما يحرص آخرون على الظهور على المسارح.

ما يشتركون فيه جميعًا هو تكريم ذلك الجزء من نفسك الذي يدفعك للإبداع، إيجاد ذلك الجائع الصغير والهادئ داخلك ومنحه صوتًا.

6- الخوف والشجاعة وجهان مختلفان لعملة واحدة:

كل جملة عن الشجاعة تبدأ بالخوف. إذا قمت بشيء لا تخاف منه، فهذا لا يعتبر شجاعة. قد يكون الأمر متهورًا أو عفويًا أو غير قانوني، لكنه ليس شجاعة.

هذا وقت مثير للاهتمام للخوف. إننا نعيش في عصر الحدود، في لحظة إما أن يتمسك الناس بتلك الحدود أو يحاولون تفكيكها. إنه وقت أصبحت فيه اللغة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث يمكن استخدام الكلمات لإثارة الخوف أو مقاومته، حيث يحاول الناس تجريم كلمات مثل "مهاجر" و"متحول" و"أسود".

استعادة اللغة. السماح للكتابة بتجاوز تلك الحدود. لقد كان التعبير الإبداعي دائمًا بمثابة ملجأ يبني تحته الأشخاص الوحيدون والمصابون بحزن القلب نيرانًا صغيرة لتدفئة أنفسهم. كن فخورًا بنفسك لكونك جزءًا من هذا التقليد.

7- سوف تذكرك الكتب بمن أنت:

أعيد قراءة الكتب بلا خجل. هذا يثير جنون الناس. "هل تقرأين ذلك مرة أخرى؟" كانت تسألني أمي بدهشة عندما كنت صغيرة. "لكنّك تعرفين ما سيحدث بالفعل!" يمكن بسهولة تحديد كتبي المفضلة بفضل عادتي الغريبة والمستمرة في تمزيق زوايا الصفحات الصغيرة ومضغها أثناء القراءة. (كما تعلمون، مثل العلكة).

بالنسبة لبعض الناس، القراءة هي معادلة مباشرة وفعالة من حيث التكلفة: معرفة كتاب واحد مطروح منها الوقت يساوي القيمة الصافية. ليس بالنسبة لي. طوال فوضى طفولتي المتنقلة، حيث انتقلت عائلتي بين مدن الشرق الأوسط والمدن الأمريكية، كانت الكتب المتغير الأكثر ثباتًا في حياتي. بالنسبة لفتاة وحيدة، أصبحت الكتب رفاقًا، جغرافيا مألوفة ليتم زيارتها مرة أخرى.

لا تفهموني خطأ - يمكن أن يكون الكتاب الجديد ساحرًا. أحب ذلك الشعور باكتشاف كاتب يشعل شعورًا بالتآلف. لكن إعادة قراءة كتاب تشبه استئناف ذات سابقة: فهي تكشف عن الطرق التي تغيرت بها، لكنها تطمئنك أيضًا بثباتك الداخلي.

أثناء الحرب في بيروت في الصيف الذي سبق سنتي الأولى، أعدت قراءة درويش وسيكستون لأنني كنت واقعًا في الحب وخائفة. في أعماق عامي التاسع والعشرين الجامح والصعب، أعدت قراءة كتب هاري بوتر. أعيد قراءة الكتب القديمة، من تولستوي إلى كتب نادي جليسات الأطفال، كرفاق، لأتذكر أنه حتى لو كان بيتي ومدينتي وشوارعي غير مألوفة، فلا يزال هناك شعور بالصلابة في العالم.

عندما انتقلت إلى مانهاتن، وجدت نفسي أتجول في ممرات متجر دوان ريد، حيث كان كل رف منظم من كريمات الوجه والشامبو يثير نوبة جديدة من الدموع. لقد افتقدت انقطاع الكهرباء والفوضى في المدينة التي تركتها خلفي. في تلك الليلة، في غرفة نومي المستأجرة في مورنينجسايد هايتس، قمت بنكت وتفتيش حقائب السفر حتى عثرت على نسختي البالية من كتاب "مترجم الأمراض" وتحولت، للمرة الألف، إلى الصفحة الأولى.

(تمت)

***

.................................

الكاتبة: هالة عليان (من مواليد 27 يوليو 1986) كاتبة وشاعرة وعالمة نفس أمريكية من أصل فلسطيني متخصصة في الصدمات والإدمان والسلوك عبر الثقافات. تغطي كتاباتها جوانب الهوية وآثار التهجير، خاصة داخل الشتات الفلسطيني. وهي أستاذة في جامعة نيويورك، لها رواية (بيوت الملح)  الحائزة على جائزة دايتون للسلام الأدبي وجائزة الكتاب العربي الأمريكي، ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة تشوتوكوا. وصلت روايتها الأخيرة، مدينة مشعلي الحرائق، إلى نهائيات جائزة أسبن ووردز الأدبية لعام 2022. وهي أيضًا مؤلفة أربع مجموعات شعرية حائزة على جوائز، بما في ذلك ديوان (السنة التاسعة والعشرون). نشرت أعمالها في مجلة The New Yorker، وأكاديمية الشعراء الأمريكيين، وLit Hub، وThe New York Times Book Review وأماكن أخرى. أحدث مجموعاتها الشعرية، (القمر الذي يعيدك) صدرت مؤخراً عن دار إيكو. تعيش في بروكلين مع عائلتها.

* رابط المقال على: موقع لايت هوب / Lit Hub  بتاريخ 12 يونيو 2024

https://link.lithub.com/view/602ea751180f243d6532c4cel917m.2jq/7e7bb173

 

لقد عرف البشر القلم منذ آلاف السنين بل يذهب الكثير من علماء تفسير القرآن الكريم أن القلم أول ما خلق الله سبحانه مستشهدين بعدد من الروايات واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه الإمام أحمد وأبو داوُد والترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد كان للقلم دور كبير في توثيق تاريخ البشر سواء من الحضارة السومرية وألواح الطين والخط المسماري أو الحضارة الفرعونية وأقلام نبات القصب وورق البردي وما بين تطورات صناعته بين الألمان والإ نجليز ودخول اليابان على خط التصنيع للأقلام، حتى أصبح القلم اليوم قيمة رمزية فاخرة ، سواء كان القلم ذهبيا أو فضيا أو برونزيا فإن الأثر الذي يتركه الحبر في العقول هو الرهان، ولطالما صعب أو استحال قياس الأثر الإنساني للأعمال الفنية فإن التحدي الذي سيواجه النقاد في الجائزة كبير بلا شك؛ وهم أهل له. والأمر الأكثر إثارة هو الفجوة الحسية والمعرفية بين الأجيال وكيف يمكن تلبية ذائقة الجماهير الشابة التي تتغذى على الثقافات المختلفة والمتنوعة، وهل من الممكن أن تكون مثل هذه المبادرات العظيمة نقطة تحول في المجتمع لنشهد ولادة كُتاب محليين بمعايير عالمية؟ أو حتى صناعتهم لهذه المناسبة التاريخية

لقلم اهمية في القرآن الكريم، قوله تعالى اقسم بالقلم "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، الذي بواسطته الناس يكتبون فينقشع الجهل ويستبدل بالعلم "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وهذا شرف للعلم وتعلمه الذي له اثر على القلوب والعقول والدين وانارة البصائر ويميز الانسان عن غيره من المخلوقات باستخدامه اداة الكتابة. ويربط القلم هذه الاثار فقد قرن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم الدين بالعقل حيث قال (انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا عقل له). ومن القاب القلم مذيع العلم. وسورة القلم من السور المكية التي نزلت بعد سورة العلق وهذا يدل على ارتباط العلم بالقلم. وهي من اوائل سور القرآن التي نزلت التي منها سورة العلق وفيها اشارة الى اهمية القراءة وارتباط ذلك بالقلم فلولا القلم لما استطاع الانسان ان يقرأ. عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: ان اول شئ خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، وفي تفسير لاية "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وهنالك ايات قرآنية اخرى تشير الى اهمية العلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ان القلم هو اللوح المحفوظ الذي تكتب فيه الملائكة اعمال الكائنات خيرا وشرا

للاسف بدأ الناس والادباء ورجال الصحافة وطلبة الجامعات يتخلون تدريجيا عن الكتابة بالأقلام في عصر التكنولوجيا، حتى صاروا يتوقعون مع ازدياد الاعتماد على تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وبدأ الاستغناء عن الكتابة الورقية، وحلت مكانها اجهزة الكمبيوتر والموبايل والايباد، رغم ان الابحاث العلمية تؤكد أن استخدام الكتابة اليدوية في التعليم يعزز التفكير، وينشط الدماغ، المعلومات البصرية والحركية، التي يتم الحصول عليها من خلال حركات اليد التي يتم التحكم فيها بدقة عند استخدام القلم، تساهم بشكل كبير في أنماط الاتصال في الدماغ التي تعزز التعلم

ولعل هذه الحقبة الزمنية تعيد هيبة "القلم" وإعادة صياغة مواد تعليمية داعمة للكتابة، حيث يندر أن تجد في الجامعات لدينا مقررات خاصة بالكتابة، بل يمكنك أن تشاهد بالعين المجردة انهيار المنظومة اللغوية لدى بعض أفراد الأجيال القادمة خاصة من لا يتقنون لغتهم الأم ولا لغة أخرى عباراتهم مشوهة بدون معنى، وهذه بلا شك مسؤوليتنا جميعا. أخيرا، لا تتنازل عن قلمك ولا تجفف حبرك إن كان ما يخطه لا يروق للناس ولا تتخلى عن صفحتك حتى لا تجد عدوك يملأ عليك ما يريد.

سأل صحفيٌّ نجيب محفوظ كيف تكتب الرواية؟ فرد عليه فوراً بالورقة والقلم يا ابني، رُوي عن جرير أنه كان يتمرّغ في الصهريج وهو يعاني لحظات تصيُّد أبيات الشعر، وروي عن الجواهري أنه يصاب بنوع من اللوثة ولمسات الجنون حين ينهمك في كتابة الشعر إلى أن تلين الفكرة العنيدة (حسب كلمة السياب الذي روى أيضاً حالته مع ميلاد القصيدة)، مما يعني إن تصيُّد إيقاعات الشعر ومجازاته مثلها مثل تصيُّد حبكات الرواية، ومثل تصيد شوارد الأفكار، وكلها شوارد تقلق وتؤرّق وتشعل روح مُنشئها وتؤلمه بمثل ما تسهر عيون الخلق عليها بعد ذلك حسب المتنبي، وذلك بعد أن تستقل عن صاحبها وتطوف عوالم الحياة والناس، وينام صاحبها الذي قلق وتألم منها فتتولى إيلام القراء وتعذيب مشاعرهم وأفكارهم في تتبع شواردها ".

***

نهاد الحديثي

فارقت الحياة يوم السبت 3  آب  2024م في بلاد المغرب العربي، بعد تعرضها لجلطة حزن على فراق زوجها وحبيب عمرها: فراس عبد المجيد رشيد

وصبيحة شبر كاتبة عراقية، بدأت الكتابة في الصحف العراقية عام 1960، نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

السيرة الادبية

1- كتبت القصيدة العمودية اثناء الدراسة الابتدائية

2- نشرت المقالات في الصحافة العراقية منذ عام 1960

3- تخرجت من جامعة بغداد كلية الآداب – قسم اللغة العربية عام١٩٧٠

4-أصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان (التمثال) من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976

5 - غادرت العراق عام 1979 بسبب اشتداد الهجمة الدكتاتورية على القوى التقدمية

6– كتبت في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد)

7 – استقرت في المغرب عام 1986 8 – نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 الى 2004

9 – أصدرت مجموعة القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في مصر

10 – كتبت في الجرائد الالكترونية مثل الكاتب العراقي – الحوار المتمدن –فضاءات – بنت الرافدين - واتا – منتدى شروق- انانا- ازاهير- اقلام – الوراق- البيت العراقي

11 – نشرت المجموعة القصصية الثالثة  عنوانها (لائحة الاتهام تطول) صدرت في  2007

 12- رواية مشتركة عنوانها(الزمن الحافي) مع الروائي العراقي سلام نوري صدرت في بغداد – 2007

ا13 – عضو في الجمعيات والمؤسسات الاتية :مؤسسة تراي الثقافية – جمعية جمع المؤنث الثقافية في المغرب – اتحاد كتاب النت العرب – الهيئة الادارية لجمعية الرافدين الثقافية العراقية في المغرب - جمعية واتا للمترجمين واللغويين والمبدعين- هيئة التحرير لمجلة انانا- رابطة الكاتب العربي

14- مشرفة على الأدب في المنتديات  شروق – انانا- واتا-نور الشمس

  15- أجرت حوارات مع المنتديات الاتية:شروق مرتين- واتا- نور الشمس- -;- اوتار -صخب أنثى- المبدعات العربيات- مجلة شارع المتنبي- انانا – تعابير- مجلة المثقف من قبل الشاعر يوسف الشرقاوي- مجلة اويا الليبية بواسطة الشاعر صابر الفيتوري

16- كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب، يناير 2007، انانا نوفمبر 2007 – مهرجان المريسة المغربي4337 صبيحة شبر

السيرة المهنية

 1- أستاذة اللغة العربية في مدرسة الرصافي العراقية في الكويت بين عامي 1972- 1977

2- أستاذة اللغة العربية في مدرسة واسط (في العراق) بين عامي 1977 – 1979

3- استاذة اللغة العربية في مدرسة الأمل (للراهبات العراقيات في الكويت) بين عامي 1980 – 1986

4 - أستاذة اللغة العربية في مدرسة جبران خليل جبران المغربية الخاصة بين عامي 1986 – 1992

5- أستاذة اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدرسة العراقية في الرباط منذ عام 1992 وحتى وفاتها ...

قصص قصيرة

الثمثال، من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976.

امرأة سيئة السمعة، من مطبعة وكالة المطبوعات العربية في مصر عام 2005.

لائحة الاتهام تطول، صدرت عن دار الوطن للطبعة في الرباط، عام 2007.

التابوت، صدرت عن دار كيان في مصر عام 2008.

لست أنت، صدرت عن دار ضفاف.

غسل العار، دار فضاءات، عمان.

روايات

الزمن الحافي رواية مشتركة مع الأديب العراقي سلام نوري.

العرس رواية صدرت عن العراق في عام 2010.

فاقة تتعاظم وشعور يندثر، 2014.

أرواح ظامئة للحب، 2015.

هموم تتناسل وبدائل، 2015.

أدتك قلبي، 2017.

جوائز

نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

كرّمتها وزارة الثقافة العراقية عام 2010 ضمن المكرمين لحصولهم على جوائز عربية وعالمية

* بدأت الأستاذة صبيحة شبر النشر في المثقف منذ سنة 2010م.

تغمد الله الفقيدة برحمته الواسعة وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

.......................

السيرة الذاتية نقلا عن صفحة ا.م.د ماهر جبار الخليلي بالفيسبوك

تسمى عادة مثل هذه (الدراسة مقارنة) وتكون عادة بين  ظاهرتين أوعالمين أو شاعرين وهكذا، والمقارنة كما يصفها العلماء ام المعرفة، المقارنة هذه بين شاعرين كبيرين، احدهما عراقي هو الشاعر بدر شاكر السياب والثاني شاعر مصري هو امل دنقل، ولد السياب في قرية من قرى جنوب العراق (جيكور) وولد الثاني في قرية جنوب مصر (القلعة)  لكن السياب كان هو الاسبق من الناحية الزمنية فقد ولد 1926 بينما ولد امل عام 1940، كلاهما عانا من آلام الفقر والمرض والغربة فكان هذا هو الخيط الذي جمع بين الشاعرين حتى رحيلهما عن الحياة، وقد نعكست ظروفها الاجتماعية الصعبة على نتاجمها الشعري فكانت قصائد وجدانية تغرق في النزعة الانسانية وذات مواقف متشابهة من الحياة والموت والتي تعكس حياة الشاعرين في البيئة القروية والآفاق الاجتماعية والنفسية لكل منهما، حتى ان امل دنقل قد اطلق عليه النقاد لقب سياب مصر غير ان اللقاء والافتراق لم يكمن تاماً بينهما فثمة اوجه شبه واوجــه اختلاف رغم التشابه في ظروف البيئة القروية القاسية فالفارق بينما هو فارق التجربة فقط فقد كان السياب اعمق تجربة كونه لم يتخلى عن رغبته في الحياة حيث ظهر هذا جلباً في قصائده مثل: انشودة المطر وحفار القبور .. إما امل دنقل فقد غيم على اشعاره شبح الموت الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود . لقد اصدر السياب اول مجموعة شعرية له عام 1946 باسم "ازهار واساطير" وكانت اول قصائده (هل كان حباً) إما امل فكانت مجموعة الشعرية  الاولى عام 1969 تحمل اسم (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) صدرت بعد انتكاسة العرب في حرب 5 حزيران 1967 .

ان شعراء كثيرين ارتبطت اسماؤهم بمآسي عصرهم واوطانهم مثل: لوركا، ناظم حكمت، الجواهري، البياتي، وكذلك السياب وامل دنقل لقد كان كل من السياب ونقل يحب وطنة وتغنى  به بل يحن إلى قرية وامال كل منهما إلى الملحمية في الشعور، وتضمنت قصائدهم الاساطير  الأغريقية التي نراها واضحة في قصائد السياب و دنقل،  ووقف الاثنان إلى صفوف الجماهير الفقيرة التي كانت تعاني الحرمان وشظف العيش ايام السيطرة البريطانية على كل من العراق ومصر ففي أثناء وجود السياب في بغداد في الأربعينيات لدراسة اللغة الإنكليزية انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من ان بيئة بغداد كانت تؤرقه وهكذا كان الحال عند امل دنقل عند ما حل في القاهرة، لقد مات السياب عام 1964 وهو في قمة النضج وفي عمر مبكر (38) عاماً وكذلك امل دنقل توفي وهو قمة النضج عام 1983 (43) عاماً . كتب السياب قصيدته والتي تضمنها ديوانه في بيروت والمؤرخة 19 / نيسان 1962 اي قبل وفاته بعامين يقول فيها:

من مرضي

من السرير الأبيض

من جاري انهار على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة

أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده أبي أبي

وامل دنقل قبل وفاته بأيام كتب قصيدته الاخيرة: يقول وهو راقد في المستفى في غُرَفِة العمليات:

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،

لونُ المعاطفِ أبيض،

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،

الملاءاتُ،

لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،

قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،

كوبُ اللَّبن،

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ،

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ،

صورتان تعكسان روى التشابه بين السياب وامل دنقل.

***

غريب دوحي

 

كما تستطيع السريالية أن ترسم لوحة تقف أمامها بالساعات متأملاً فى محاولة لفك شفراتها السرية العميقة.. هكذا تفعل إذا تحولت فى يد الرسام إلى قصيدة ألفاظها مجرد رموز لمعانٍ أبعد..

هذا ما يفعله الشاعر والفنان التشكيلي (محمد مهدى حميدة) حينما يكتب أدباً شاعرياً بمفردات تجردت من سائر قيود الشعر الموسيقية واللغوية ، وتحررت من أثوابها الجاهلية البالية وارتدت بدلاً منها أردية معاصرة تنطلق بها فى رحاب آفاق صور شعرية مرسومة كقطع الفسيفساء، تجتمع معاً لترسم صورة يفهمها كل منا على هواه كأنها مرايا تعكس أحوالاُ نفسية عدة.. هنا يلتقى الشعر بالفن التشكيلي معاً فى لحظة نادرة تختفى فيها الفروق بين ما هو مكتوب بالقلم وبين ما ترسمه ريشة الفنان..

  بدأ محمد مهدى حميدة حياته الإبداعية كفنان تشكيلية أكاديمى بعد أن نال الماجستير فى تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة ، وأصدر كتابين حول الفن التشكيليى من إصدار دار سعاد الصباح بالكويت ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. قبل أن تجذبه عوالم الكتابة الأدبية ويبدأ فى تأليف عدد من المؤلفات الأدبية التى نال عنها عدة جوائز فى كل من مصر والكويت والإمارات..

  أصدر مجموعته الشعرية الأولى فى العام 2012 تحت عنوان"صناعة الأنقاض" ، ثم أتبعها برواية "امرأة خضراء" بالشارقة عام 2014. ثم مجموعته الشعرية "قناص جبل الرماد" عام 2015من إصدار دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وقد قرأت تلك المجموعة الأخيرة والتى أراها امتدادا لفنه التشكيلي لا الأدبي، إذ تعج بالأخيلة غير المكتملة والصور التى تتداعى دون أن ترسو بك على شاطئ الوعى وإنما هى صور متحركة بحركة لفظية مستمرة تنقلك من معنى إلى معنى مناقض كأنها أمواج صاخبة لا تهدأ..

  القصائد تتفاوت فى أحجامها الشكلية تفاوت اللوحات المربعة والمستطيلة والقصيرة والأقصر كأنك أمام كتل لونية تتنازعها الجدران..يبدأ الديوان بقصيدة (العدميون) وكأنها بداية لونية رمادية ذات ظلال موحية بعوالم شاعرية تفيض بالغموض وتضع الخلفيات اللونية فى دائرة الضوء بينما تتقلص مساحات المباشرة والصراحة والوضوح.. وتساهم التعبيرات المتقاطرة من النص على تأكيد مدلول العنوان دون التخلى عن مساحات الغموض الممتدة عبر الكلمات والتعبيرات من نوع (اجتهدنا فى محو أشكالنا من عيون الناس- النائمين فى تلابيب الطيف- مستسلمين كلياً للتلاشى..) .. تلك القصيدة هى مدخل تدرك منه أنك مقبل على عوالم غير تقليدية من اللفظ الظلى كأنه لوحة غائمة لا تدرك تفاصيلها إلا إذا ابتعدت وضيقت عينيك لترى ما يختفى خلف الظل اللفظى من معنى مراوغ..

تتدافعك بعدها عناوين القصائد تدافع الأحلام المبتورة والرؤى السريعة كأنها نظرتك عبر نافذة قطار.. فتقرأ ( دودة القز الأخيرة- أعين ماكرة- عشاق المقهى- قصيدة غابرة- بلا عينين تقريباً- أسماك ملونة- دائرة- بلورة- كائن الجهات- ضحك-الغابة- حياة- كورتاثر- أصدقائى- فيما يبدو- حرير- جغرافيا- خريطة- سيناريوهات وشيكة- عبور) لتدرك أنك لست أمام فكرة واحدة جامعة ولا رؤية أم تتفتت إلى نسل من نفس النوع، وإنما هى فراشات متطايرة ذات أشكال وألوان غير تقليدية.. وهكذا تدرك دقة الاختيار فى كونها (مجموعة شعرية) ذات أطياف متعددة ،وليست ديواناً من نبع مشترك. ثم إنك تكتشف أمراً غريباً ليس معهوداً بين مختلف المجموعات الشعرية ، وهو أن عنوان المجموعة ليس موجوداً بين القصائد!! فلا توجد قصيدة من قصائد الكتاب اسمها (قناص جبل الرماد) وهذا ما يدفعك للتفكير أن المؤلف يقصد ذاته بهذا العنوان .. وأنه قناص من نوع جديد لا ينقب عما يبحث عنه الجميع فى كهوف من جبال الذهب أو فى ينابيع النور وبين الورود وأشجار الزيزفون، بل هو يكتشف لنا خبيئة "جبل الرماد".. فهو جبل رمادى طيفى يتغير شكله وحجمه باستمرار ولا يثبت ولا يستقر إذا قررت الوقوف بقدميك راسخاً فوقه..مثل هذا الجبل سرعان ما يتفتت فى يدك إذا حاولت إمساكه، لذا لا تحاول أبداً أن تقلد كاتباً استطاع بريشته أن يقتنص جبلاً من رماد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

كان ويليام بتلر ييتس، أحد أعظم شعراء القرن العشرين، يستكشف في كثير من الأحيان موضوعات تتعلق بالشيخوخة في شعره. ومع تقدمه في السن، أصبح ييتس منشغلا بشكل متزايد بفكرة الفناء ومرور الوقت، وهو ما يتضح في العديد من قصائده. ومن خلال لغته القوية والمثيرة، يلتقط ييتس تعقيدات الشيخوخة والحكمة التي يمكن أن تأتي معها. في هذه المقالة، سأستكشف كيف يصور ييتس الشيخوخة في شعره، مع التركيز على الموضوعات والتقنيات الرئيسية التي يستخدمها الشاعر.

غالبا ما يصور ييتس الشيخوخة كوقت للتأمل والاستبطان في شعره. في قصائد مثل "الإبحار إلى بيزنطة" و"بين أطفال المدارس"، يتأمل حدود الشيخوخة والرغبة في التسامي. يقدم ييتس الشيخوخة كوقت يجب على المرء فيه مواجهة حقائق الفناء والتصالح مع مرور الوقت. من خلال الصور الحية واللغة المجازية، ينقل ييتس التعقيدات العاطفية والنفسية للشيخوخة.

علاوة على ذلك، يستكشف ييتس بشكل متكرر فكرة الإرث والتأثير الذي تخلفه تجارب الحياة على الأجيال القادمة. في قصائد مثل "هجران حيوانات السيرك"، يتأمل ييتس الخيارات التي اتخذها في حياته والإرث الدائم الذي سيتركه وراءه. بالنسبة لييتس، تصبح الشيخوخة وقتا للتأمل في الماضي والتفكير في مكانة المرء في العالم. من خلال شعره، يشجع ييتس القراء على التفكير في الطرق التي ستشكل بها أفعالهم وخياراتهم إرثهم.

ومن الموضوعات الرئيسية الأخرى في شعر ييتس التوتر بين الشباب والشيخوخة. في قصائد مثل "عندما تكبر"، يقارن ييتس بين جمال وحيوية الشباب وحكمة وخبرة الشيخوخة. يستكشف كيف تتقاطع هاتان المرحلتان من الحياة وتؤثران على بعضهما البعض، مسلطا الضوء على الطرق التي يمكن أن يؤدي بها العمر إلى فهم أعمق للعالم. تعمل قصائد ييتس كتأمل في مرور الوقت والتغيرات الحتمية التي تأتي مع الشيخوخة.

كما يتعمق ييتس في فكرة التحول في الشيخوخة، ويصورها كوقت للنمو الروحي والتنوير. في قصائد مثل "المجيء الثاني"، يستكشف ييتس الطبيعة الدورية للحياة والقوة التحويلية للشيخوخة. يقترح أن الشيخوخة ليست نقطة نهاية، بل هي بداية جديدة، وقت يمكن للمرء فيه تحقيق فهم أعمق لنفسه والعالم. من خلال شعره، يقترح ييتس أن الشيخوخة يمكن أن تكون وقتا للتجديد والولادة الجديدة، وفترة من النمو الشخصي والروحي.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يستكشف شعر ييتس التحديات الجسدية والعاطفية التي تصاحب الشيخوخة. في قصائد مثل "حوار الذات والروح"، يتناول التدهور الجسدي الذي يأتي مع الشيخوخة والشعور بالخسارة التي يمكن أن تصاحبها. يضفي تصوير ييتس الخام والصريح للشيخوخة شعورا بالضعف والإنسانية على شعره، مما يسمح للقراء بالاتصال بالتجربة العالمية للشيخوخة. من خلال عمله، يواجه ييتس الحقائق القاسية للشيخوخة بصدق وتعاطف.

كما ييتس يستخدم الرمزية والأساطير لنقل تعقيدات الشيخوخة في شعره. في قصائد مثل "ليدا والبجعة"، يستعين بالأساطير والخرافات القديمة لاستكشاف الموضوعات الخالدة للحب والخسارة والخيانة. من خلال نسج هذه القصص القديمة في عمله الخاص، يخلق ييتس شعورا بالخلود والعالمية، ويربط تجارب الشيخوخة بالعواطف والتجارب الإنسانية الأوسع. يضيف استخدام ييتس للرمزية والأساطير عمقا وتعقيدا لاستكشافه للشيخوخة في شعره.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يتميز استكشاف ييتس للشيخوخة بإحساس بالحنين والشوق إلى الماضي. في قصائد مثل "البجع البري في كول"، يتأمل في مرور الوقت والتغيرات التي تأتي مع الشيخوخة. يعبر ييتس عن شعور عميق بالحزن والندم على طبيعة الحياة العابرة، ويلتقط المشاعر المريرة التي غالبا ما تصاحب الشيخوخة. من خلال لغته المؤثرة والمتأملة، ينقل ييتس الحنين الحزين إلى الماضي الذي يمكن أن يحدد تجربة التقدم في السن.

يتميز تصوير ييتس للشيخوخة بإحساس بالقبول والاستسلام. في قصائد مثل "البرج"، يتأمل في حتمية الشيخوخة والحاجة إلى التصالح مع الموت. لا يتجنب ييتس حقائق الشيخوخة، لكنه يواجهها وجها لوجه بشجاعة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الهوية هي موضوع مركزي في شعر عزرا باوند وتي إس إليوت، وهما اثنان من أهم وأكثر الشعراء تأثيرا في الحركة الحداثية في أوائل القرن العشرين. لقد تعمق الشاعران في مسائل الذات والفردية والبحث عن المعنى في عالم سريع التغير. في أعمالهما، يستكشفان التعقيدات والفروق الدقيقة للهوية الشخصية، والتي غالبًا ما تعكس التفتت وخيبة الأمل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد تصارع باوند وإليوت مع فكرة الذات الحديثة ككيان معقد ومتعدد الأوجه. في أعمال مثل "الأرض الخراب" و"أغنية حب ج. ألفريد بروفروك"، يستكشف إليوت الطبيعة المجزأة للهوية في مجتمع مجزأ. غالبا ما تطارد شخصياته شعور بالاغتراب والانفصال عن أنفسهم والعالم من حولهم. وعلى نحو مماثل، يدرس باوند فكرة الذات المكسورة في قصائد مثل "الأناشيد"، حيث يجرب أصواتا ووجهات نظر متعددة لنقل شعور بالارتباك والضياع.

كما يستكشف الشاعران دور التقاليد والتراث في تشكيل الهوية الشخصية. وقد استعان باوند بشكل كبير بالأدب الكلاسيكي والشعر الصيني في أعماله، مما يعكس إيمانه بأهمية الاستمرارية الثقافية والجذور. وفي قصائد مثل "هيو سيلوين ماوبرلي"، يتأمل في التوتر بين الماضي والحاضر، والنضال من أجل التوفيق بين متطلبات التقاليد وضرورات الحداثة. وبالمثل، يشير إليوت إلى مجموعة واسعة من المصادر الأدبية والثقافية في عمله، مستمدا كل شيء من دانتي إلى شكسبير إلى الكتب المقدسة الهندوسية لإنشاء نسيج غني من الإشارات والإشارات التي تتحدث عن تعقيد الهوية الشخصية.

بالنسبة للشاعرين، فإن البحث عن الهوية هو أيضا بحث روحي ووجودي عميق. في قصائد مثل "الرباعيات الأربع"، يتصارع إليوت مع أسئلة الإيمان والفداء والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبا خاليا من الغرض. غالبًا ما تكون شخصياته في رحلة روحية، تسعى إلى تجاوز حدودها الأرضية والاتصال بشيء أعظم منها. وعلى نحو مماثل، غالبًا ما يكون استكشاف باوند للهوية مشبعا بإحساس بالبحث الميتافيزيقي، حيث يتعمق في أسرار الوعي البشري وطبيعة الوجود نفسه.

يرتبط موضوع الهوية ارتباطا وثيقا أيضا بمسائل اللغة والتواصل في أعمال باوند وإليوت. كان كلا الشاعرين مبتكرين في استخدامهما للغة، حيث جربا الشكل والإيقاع والصور لنقل الطبيعة المراوغة غالبًا للهوية الشخصية. تعد قصيدة "في محطة المترو" لباوند وقصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" لإليوت مثالين قويين لكيفية استخدام اللغة لالتقاط تعقيد وغموض التجربة الفردية. في أعمالهما، تصبح اللغة وسيلة لاستكشاف حدود التعبير عن الذات والتحديات التي يفرضها نقل ما لا يوصف.

فضلا عن ذلك، يتعامل باوند وإليوت أيضاً مع فكرة الهوية باعتبارها بناء اجتماعيا، تشكله ضغوط وتوقعات المجتمع. وفي قصائد مثل "الأرض الخراب" و"الأناشيد"، يستكشفان الطرق التي يمكن بها للقوى الخارجية أن تشكل الهوية الفردية وتفرض قيوداً على الحرية الشخصية. كان الشاعران منسجمين تماما مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية في عصرهما، وتعكس أعمالهما اهتماما عميقا بالطرق التي يمكن بها لهياكل السلطة أن تؤثر على الشعور بالذات وتشوهه.

وفي الوقت نفسه، يحتفل الشاعران أيضا بإمكانية الوكالة الفردية وتحديد الذات في مواجهة الضغوط الخارجية. وفي أعمال مثل "الرجال الجوف" لإليوت و"الأغنية الخامسة والأربعون" لباوند، يقدمان رؤى قوية للمقاومة والتمرد ضد قوى المطابقة والسيطرة. غالبا ما تؤكد شخصياتهم على هوياتهم الفريدة في تحدٍ للمعايير المجتمعية، وتحتضن تعقيداتهم وتناقضاتهم كمصدر للقوة والمرونة.

يقدم شعر عزرا باوند وتي إس إليوت استكشافا غنيا ومعقدا لموضوع الهوية في جميع أشكالها العديدة. من خلال استخدامهم المبتكر للغة، وانخراطهم العميق في التقاليد والثقافة، ورؤاهم الروحية والوجودية العميقة، يدعون القراء إلى التأمل في طبيعة الذات والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبًا فوضويًا ومجزأ. في أعمالهم، تظهر الهوية كظاهرة متغيرة ومتطورة باستمرار، تتشكل من خلال العديد من التأثيرات والتجارب. يتحدانا باوند وإليوت لاحتضان تعقيدات هوياتنا، والبحث عن الحقائق التي تكمن تحت السطح، والعثور عليها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

هناك كلمة خرجت ودرجت على لسان البعض.

(الساحة التشكيلية المحلية غنية بآلاف الفنانين وهم في تزايد يومي).

وأنا أرى أن هؤلاء البعض هم  أصحاب الآراء المتبدلة وفق ما يتطلبه الموقف وما تقتضيه مصالحهم الموهومة والمزعومة.. هي كلمة مطعمة بحس وطني زائف فهي تخلق دفاعاتها عبر استعارتها جملاً قد تصلح لخطاب وطني شعبوي تعبوي ولكنها تتنافي مع الحقيقة والواقع فهي لا تنتمي سوى للخيانة العظمى وللمحاولات البائسة واليائسة في عرقلة عجلة التشكيل وعجلة التطور والحياة.. فحين يقتضى الموقف وتقتضي مصالحهم الموهومة هذا  لن يكون أمامهم سوى اتهام  الناقد بالقصور والتقصير لأنه لم يشمل تلك الآلاف المؤلفة في دراساته.

إن تجاوزنا تعريف الفن والفنان وشملنا كل رسم لوحة أو قدم عملاً ضمن تلك التسمية..فحن لا نستطيع أن نتجاوز مفهوم الابداع الذي لا يمكن قياسه سوى من خلال الساحة الأكثر اتساعا..أما     ً

لماذا ينتمي هذا الخلط للخيانة؟

هو ينتمي للخيانة من ناحيتين..أولهما: هو يفقد تلك الكلمة رهجتها وقيمتها ومعناها ومحتواها فهذا اللقب الذي الذي كان الحافز وكان المكافئة الأجمل لطالب الفن بعد مسيرة تكللت بالنضج..هذا اللقب سوف تسقط قيمته عند العامة حين يعطى لمن هب ودب.

ثانياً: حين يوضع هذا اللقب في غير موضعه بغض النظر عن الدوافع.. لن تعكس نتائجه سوى الكثير من الملل والكسل والتقاعس والغرور..

وحين يتعلم الفنان من خلال تجربته وفي مخاض اللوحة ألا يُحَمِل عمله ما لا يستطيع تحمله.. حينها سيعي  ما أقصده.. وسيعي تماماً حجم الضرر الذي كان من الممكن أن يلم به لو أنه استسلم للبريق الخادع لتلك الكلمة.. أو لأي كلام غير مسؤول من قارئ لم يدرك المعنى ولم يعي من مفهوم الناقد والنقد سوى الشكل الظاهري للكلمة.

إن لم يكن الفنان محصناً و متمكناً وذا فكر وتجربة فهو سيسقط في براثن المديح الكاذب ولن يتطور عمله بالمطلق.. والحقيقة أن (دوافع بياعوا العبارات الكاذبة لا تنتمي سوى لزيادة رصيدهم الشعبي).

وحين يقصد أمثال هؤلاء الكتابة النقدية..حينها سيقعون في فخ النمطية لأنهم أساساً غير مؤهلين للخوض والنبش في القيم التعبيرية والجمالية وغير قادرين على الكشف عن القيم الإبداعية المكتنزة في عمق التجارب.

(ولأنهم يتجولون على السطح ولا يستطيعون تجاوز القشور ستبقى كتاباتهم موصومة بالتشابهات سواء كتبوا عن فنانين مخضرمين أو شباب).

لا يوجد نص نقدي ينطبق على جميع الفنانين ولكل فنان نصه المنبثق عن تجربته وعن قدرة الناقد على الكشف عن بعض الخفايا حتى لصاحب التجربة.

وكأني أسمع سؤالاً يكاد يختنق بين الحلق واللسان؟

هل تقصد أن طلاب الفن يجب أن يبقوا بعيداً وبمنأى عن الناقد؟

أقول طالما هم في طور التجريب ولم تصل تجاربهم لمرحلة النضج بعد.

فمفهوم الناقد سيكون مختلف هنا لأن النقد مرتبط بالإضاءة على التجارب التي حققت النضج..وملامح ما يود إيصاله الفنان هو مسطرة الناقد..فإن لم تتبلور تلك التجربة من تلقاء ذاته ستكون تابعة ولن تحقق كينونتها

..هم يحتاجون لمعلم ولكن..عظامهم لازالت طرية وأفكارهم لم تتبلور بعد. وأي تأثير خارجي سيكون خطيرا إن اتسم بتجاوب أعمى ببغائي..ولن يكسبهم هذا التأثير غير التقليد.. وسيبقون بمنأى عن الفردية والفرادة لاحقاً..إذاً  يفترض أن تكون تجربتهم الذاتية والحياتية والفنية هي المعلم الأول لهم.. ثم التأمل الملاحظة المتابعة.. والقراءة الفاعلة والفعالة وليست تلك التي تمر مرور الكرام..حينها.. كل  ما حولهم يتحول إلى معلم.. وقبل كل هذا هم أنفسهم الناقد والفنان والمعلم.

وأقول أحيراً  لنكن بالصورة التي فطرنا عليه ننموا ونكبر من خلالها حينها لن تزدنا قسوة الحياة والمسؤوليات سوى رأفة ورقة ومحبة ولن تزدنا سوى إصرارا على مواصلة درب الحلم الذي يحركه ذلك الحب الدفين الذي كان ولازال  ينبض في ذاكرة الروح.. هو الحب الدافع والرافع لتلك الرغبات العارمة.. لمواصلة العطاء وترميم الجروح.

***

الفينيق حسين صقور

...........

* مقتطف من ملف الناقد والفنان

 

في المثقف اليوم