أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

إذا بحثت عن أصعب صحبة فى ظل عالم التقنيات اللاهث ستكتشف أنها صحبة أبنائك!

لا وقت لديك ولا لديهم للحديث الودى وتبادل الأفكار! وفى يد كل فرد من أفراد العائلة جهاز يشغله عن أحبائه ويفصله عن الواقع المعاش إلى الواقع الافتراضي. ولم نخرج من دائرة العزلة القسرية هذه إلا خلال فترات الحظر بسبب كورونا، تلك الفترة التي أظهرت سلبيات اجتماعية كثيرة لم نكن نفطن إليها.

نعم ثمة إيجابيات لا حصر لها للتكنولوجيا الحديثة التي سهلت الحياة  وأمكن من خلالها ممارسة التعليم عن بد والتدريب أونلاين وتطوير أية مهارة مختارة. واستطاع أصحاب الأعمال إنجازها فى وقت أقل كثيراً مما مضي. ثم إن البعض قد يزعم أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية تضمن نوعاً من التواصل مع الأقارب عن بعد فى حده الأدني، وقد يستخدمها بعض الآباء للاطمئنان على أحوال أبنائهم عن بعد فى حالة انشغالهم الدائم فى أعمالهم، خاصة لو كان الأبوان كلاهما يعملان.

وفى إطار المدح والإشادة أكدت منظمة الأمم المتحدة أن الطفرة الحادثة فى استخدام التقنيات فى بلدان العالم النامي خلال آخر عقدين من الزمان أسهمت فى إحداث تحولات كبري فى هذه المجتمعات. وأن أهم مكسب مادي لهذه الطفرة ارتفاع معدلات الخدمات التجارية سريعة الوصول، وأن جزءاً كبيراً من العالم العربي اليوم بات يستخدم الهواتف للطلبات التجارية اليومية والأسبوعية. وإذا كان مثل هذا الأمر قد أحدث منفعة لأصحاب المتاجر الإليكترونية وأصحاب خدمات التوصيل السريع، إلا أنها تسببت فى ضعف أصحاب الخدمات التقليدية وركود التجارة التقليدية فى بعض أنواعها. ثم إن الرفاهية التي ظللت البيوت فى المدن باتت سبباً فى ضعف المهارات اليدوية الشخصية، وأصبحت الأمهات والبنات فى البيوت المحافظة البسيطة أكثر ميلاً للكسل والدعة وعدم القيام بالخدمات المنزلية التي كانت معتادة فى جداول العمل المنزلي اليومية. فلا طبخ ولا غسل ولا تنظيف، وإنما أجهزة مبرمجة وخدمة توصيل سريعة أو فورية.

هناك اهتمام لدي المنظمات الدولية أن يصل الربط الإليكتروني لجميع القطاعات المحرومة منه، وبخاصة النساء وكبار السن وذوي الإعاقة والأقليات العرقية وسكان المناطق الفقيرة والنائية، وهم يستشعرون الفجوة بين استخدام الرجال والبنين للتكنولوجيا بنسبة أكبر بنحو 85% عن البنات والنساء. وهم يرون أن الاهتمام بتعميم التكنولوجيا يسهم فى التقليل من التحيزات الاجتماعية والفروق الطبقية.

هذا وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلي أن الترويج للاقتصاد الأخضر من خلال وسائل التواصل قد يسهم فى توفير نحو 24 مليون وظيفة جديدة حتي عام 2030. وعلى الناحية الأخري قد يسهم تطوير التشغيل الإليكتروني وزيادة الاعتماد على التقنيات الحديثة بدلاً من العمالة البشرية فى فقدان نحو 800 مليون شخص لأعمالهم التقليدية حول العالم! فالتكنولوجيا سلاح ذو حدين فى مجال الأعمال..

الذكاء الاصطناعي أحدث طفرة إضافية خاصة فى مجالات البيانات الشخصية والعامة. ومثل تلك الطفرة لها بعض الإيجابيات، لكن لها سلبيات ضخمة قد تصل إلى حد الكوارث. خاصة إذا ضممنا إلى الفضاء الإليكتروني ذلك الفضاء المظلم فيما يعرف بعوالم الهاكرز وقناصي المعلومات والبيانات، وهؤلاء منهم من يستخدم تلك البيانات فى جرائم سرقة ونصب وابتزاز وربما تجسس وتهديد شخصي أو أمني.

أما نحن الآباء فإننا قد نقف فى حيرة أمام تلك الطبيعة المزدوجة للتقنيات الحديثة؛ حيث يصعب علينا تحقيق التوازن المطلوب بين سلبيات وإيجابيات التكنولوجيا. وفى رأيي أن أهم وأخطر سلبياتها إحداث تلك الفجوة الاجتماعية التي قد تؤدي بأبنائنا لحالات متفاوتة من العزلة والتوحد وربما الاكتئاب.. أخطر من هذا ما ظهر حديثاً من دراسات حول مرض شهير له اسم مختصر هو: (ADHD) والذي اتضح أنه قد يكون من إفرازات عصر التكنولوجيا وتأثيرات الموجات الكهرومغناطيسية على أدمغة الأطفال، فنجد أطفالنا وقد أصيبوا بكوكتيل من أمراض نفسية وذهنية تضطرب فيها أفكارهم ويتشتت انتباهم ويقل تحصيلهم العلمي وقد تزداد لديهم ميول العنف والعصبية والعناد والحدة فى التعامل فتزداد بهذا صعوبة علاجهم من الآثار السلبية للتكنولوجيا! فما عساه الحل الأنجح أمام مثل تلك المعضلة؟!

خبراء علوم النفس والاجتماع يتحدثون عن ضرورة العودة للطرق القديمة فى الدفع بأبنائنا بعيداً عن تأثيرات التقنيات.. وأن تشجيع الطفل على تطوير علاقاته الاجتماعية بأقرانه من الجيران وزملاء الدراسة، وأن يهتم بتطوير قدراته البدنية واليدوية بممارسة الرياضة واكتساب المهارات وإشباع الهوايات، كلها وسائل أثبتت فاعليتها فى هذا المضمار.. ويبقي على الآباء هنا توفير جزء من نفقاتهم على التكنولوجيا وتوجيهها نحو الأنشطة الرياضية والفنية والتدريب على اكتساب المهارات، ثم يبقي على الدولة دور فى تقليل تكلفة مثل هذه الأنشطة، إذ باتت أسعار اشتراكات النوادي باهظة، وقلَّ عدد الحدائق العامة التي تستوعب طاقات الشباب والنشء. ونتمني ألا يستغرق تطوير حديقة الحيوان وحديقة الأورمان زمناً طويلاً فقد كانا متنفساً للكثير من الأسر المصرية المتوسطة .

إننا على أعتاب افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهي فرصة للآباء فى استصحاب أبنائهم والاستمتاع برفقتهم للتحدث وتبادل الأفكار معهم، حتي يتسني لهم اكتشاف طريقتهم فى التفكير وسبر أغوار مشاعرهم الحقيقية نحوهم، ثم الأهم أن نبني جسراً للصداقة الأصعب فى هذا الزمان .. صداقتنا مع أبنائنا!

***

د. عبد السلام فاروق

(استرَقَ سمعي أنينَ الجسر فكتبتُ النصَّ في مقهى الشَّابندر على ضفاف دجلة)

إِيِهٍ بَغدادَ!  وَيْهاً دَارةَ الرَّشيدِ...

صَومُ العَوَامِ شَهرٌ كُلَّ عَامٍ مُتَوَاكِلٌ مُتَنَقِّبٌ، وصَومُكِ كَوَمُ أعوامٍ متَوَاصِلٌ مُتَعَقِّبٌ!

عُذرَاً بغدادَ، إِذ أُنَاجِيكِ وإذ يَغشَاني غَمٌّ شَارِدٌ مُتَرَقِّبٌ. وَلَئِن كَانَ لِلأفئِدةِ أن تَهوى مَدَائِنَها، فأنَّى لِفؤاديَ ارتِقاءٌ في هواها مُتَيَّمٌ مُتَهَيِّبُ.

أَمَّن يُفتِينِي في رَسمٍ كَرَسمِ بغدادَ مِن لُؤلُؤِ البَحرِ انبَجَسَ وَجهُها فَتَجَسَّم، فَعَلا ثمّ علا ثمّ علا فتجلّى في بأسِ التّبَرُّمِ فَعَرَشَ هنالك فَنَجَم.

"مَن لِي بِبَغدادَ أبكِيها وَتَبكِيني1".

أَمَّن يَأتينِي باِسمٍ كاِسمِ بَغدادَ مِن بُؤبُؤِ الزَهرِ اقتَبَسَ حَرفُها فَتَبَسَّم، فدنا ثمّ دنا ثمّ دنا فَتَدَلى في كأسِ التّبَرعم ففرشَ هنالك ووَشَم.

"قَد عَشَّشَ الحُزنُ بَغدادَ حَتى في رَوَازيني2".

وَيْهَا بغدادَ، مَا بَالُ جَبينُكِ يَتَصَببُ عَنبَراً يَا شَمعةَ الأعيَادِ. أَفَعَليلَةٌ أنت ومَا بَرحتِ تَسخَرينَ منَ عِلَلٍ وكُلِّ ضَمادِ، فَإن غَزاكِ دَاءٌ كَفَرتِ بهِ بِلَمزٍ وإلحادِ. أَم هُوَ ضِغثٌ مَرَّ بغَفوَةٍ، كيف وأنتِ الشَّاهدُ على النّجمِ والأشهَادِ.

تَأَهَّبي بَغدادَ وتَوَثَّبي حِسَّاً يا مَربَضَ الآسَادِ بَينَ الأممِ

تَوهَّجي بَغدادَ وتَأَجَّجي بسَاً يَا سُؤدَدَ الأجنادِ فَوقَ الحِمَمِ

انهضي فادحَضي رِجسَاً يا مَقبضَ الأوتَادِ بَينَ الخِيَمِ.

شُدِّي عَلى الأحزَانِ وَتَبَسَمي يَا هَديرَ الرَّوْحِ وَالأجسَادِ

مُدِّي عَلى الأفنَانِ وتَنَسَمي يَا غَدير الدَّوْحِ والسَّوادِ

شُدِّي ومُدِّي فمَا أنتِ بِرَقمٍ نُكْرٍ عَابِرٍ، بَل أنتَ مَن صَكَّ الرَّقمَ للأفرَادِ وأنتِ مَن دكَّ العظمَ للأوغادِ.

وَيْهَاً بَغدادَ، حَدِّثيني ولا تَذريني أغَمغِمُ يا كبرياءَ والدي وأولادِي. حَدّثيني وبُعداً لصَمتٍ وهجرٍ وإبعاد، فَثَنايايَ لا تَتَبَسَّمُ إلّا بكِ وإليكِ يا بَهاء

نَسبي وأجدادِي، وحناياي لا تَتَرَسَّمُ إلّا منكِ ومعكِ يا رِداءَ الفخرِ للأحفادِ. وعلامَ الصَّمتُ والسَّبتُ يا بغدادي. أفَأنتِ غضوبٌ من خنوعي يا سَماءَ عنفواني وأمجَادِي. فما كانَ سَمتُكَ إلّا نابِضاً بِتَغرِيدٍ وإنشَادِ، وَنَحتُكَ  رَابِضاً عَلى توحيدٍ بإسنادِ، وَنَبتُكَ قَابضاً في عُلُوٍّ على أطوَادِ، وَنَعتُكَ رَافِضاً لسبتٍ وإلحادٍ وَحِيادِ.

وَيْهَاً بغدادَ تَفَوَّهي وأنت المُهَلِلُ للعاكِفِ والمُضَّيفُ للبَادي، ولا تَتَأوَّهي فأنت أمُّ الضّادِ وضادُ الضَّادِ لِكُلِّ ضادِ

تَفَوَّهي وكفى صمتاً وسبتاً يا مَثوى الرَّشيدِ ومأوى السّندباد، فإنَّ صَمتَكِ مُكَمِّمٌ لِأنفاسِ الأجنادِ وَأقبَاسِ الرَّشادِ، ومُوجِعٌ لِخَافِقِي وَكُلِّ جَوارحِي تُبَّعٌ

لهُ بانقيادِ، بل ومُغَمِّمٌ ومُوجِعٌ حَتَّى لِمَن كانَ وإياكِ في تَضَادِ. وهاهمُ أولاءِ أَهلُ الضَّادِ مَا انفَكُّوا يَتَحَسَّسُونَ أَنباءَكِ بارتداد، يَا شَذاهُمُ وَشَذْو العِبادِ والبِلادِ ويا شَداهم وشَدْو المَناقِبِ للضَّادِ وهُدَى المُعاقِبُ للضَّادِ.

فكفى صمتاً يا عَبيرَ الأورادِ ويا نميرَاًلأسيادِ.

وها قد أطبَقَ أنينُ الجِسرِ في صَمتٍ كَظيم، فَتُهتُ في صَحارى أنينُ صَمتَيهما؛ الجِسرِ وبغداد، وبَدَأتُ أتَحَسَّسَ سبيلاً لِأنجَادِي؛

"لعلَّه مِن عارِضِ رِيحٍ صَرٍّ جَاءَ بها زُرّاعُو ضوضاءَ وإلحادِ، وأذنابٌ مِن خَلفِهم غوغاء وأوغَادِ، ولا رَوْمَ لهمُ إلا في إِحرَاقَ "سرجونَ" ومتونِهِ ذا العمادِ، ولا عَوْمَ لهمُ إلا في إغراقَ عرجونِ نخلتي ذاتِ العِنادِ. وإِيهِ بغدادَ...

ألم يأنِ أوَانَ فَتحِ البابِ وصَدِّ الرِّيحِ بتكاتفٍ واتِحَادِ فلا عَزاءَ ولا مراسمَ من حداد 

ألم يأنِ لساحةِ التَّحريرِ أن تقدَحَ؛ نحنُ الأصابعُ على الزِّنادِ وسيفٌ كارِهُ الأغمادِ

ألم يأنِ لساحة الميدانِ أن تمنَحَ مُستَبشِرَةً "سوقَ السّرَايَ" قِلادَةَ الحَرفِ والمِدادِ

ألم يأنِ لرَنّات "سوقِ الصّفافيرِ" أن تجنَحَ لِصُنعِ مَفاتِحَ القيدِ والأصفادِ

ألم يأنِ لِاستكانات "مقهى عزّاويّ" أن تصدَح بِملعقةِ الشّاي لتُضَيّفَ أكارِمَ الخِلّانِ والرّوادِ

ألم يأنِ لشَارعِ "الرَّشِيدِ" وخِلُّهُ "السَّعدَون" أن يتَهامَسا أمرَهم بينَهم؛ "نحنُ المُنتُدى للوِدٍّ ونحنُ المُفتَدى للجَهادِ"

قد آنَ أوانُ "حَجي مُقدَادَ" لينَادي على عُكازَتِهِ المُزَخرَف بتَنادِ: "إنّي لَفي شَوقٍ لخُطوةٍ رُوَيدَاً رُوَيدَاً على "الكورنيش" مُتَأنِقاً بسِدارتي الحَنونِ السَّوداءِ ورفيقتي عُكّازتي من أنفسِ الأعواد".

وقد آنَ أوانُ "جَمُّولِي" صغيرُ الحيِّ المُلَقَّب "قِمبيزَ" لينادي بينَ العِباد: "إنّي لَفي تَوقٍ لِسَطوَةٍ على صَدرِ مَقعَدِ طابقٍ علوِيّ لِحافلتي الميمونِ

الحمراء وأنا على أهبَةِ الاستِعدادِ".

وقد آنَ أوانُ زَغْرَدَةِ الحيِّ "بَسعادَ" لتنادي في تَهَاد؛ "إنّي لَفي جَذوَةٍ لِسُوقِ حَيّنا ذي البَرَكاتِ والإمدادِ، فأعودُ مٍنهُ تَمايِلاً بتَهادِ؛ أَقبِضُ بِشِمالي حقيبَتي على رَأسي وبِيَميني على عباءتي تُشبِهُ المِنطادِ، وبأنفاسٍ مُجتَرَّةٍ لاهِثَةٍ، وخُدُودٍ مُحمَرَّةٍ وبَاعِثةٍ ، وببسماتِ بَسعادَ تتراقصُ الأزقَّةُ بإسعادِ".

  إنَّك بَغدادَ في ذَرى العَافيَةِ، مَا كَذَبتُ أنا ومَا هي بشِيمَةٍ ليَ. فَهَيّا بغدادَ لتَسمَعَ دلدلُ منكِ ولنَستَمتِعَ كلُّنا بِنَبَراتِ صَوتِكِ مُؤَطَّرَةً بألحانِ زِريَاب ومُعَطَّرَةً بِألوانِ الأحسابِ والأنساب، فأمُري "عَزاويّ" بِصَحنِ كاهيّ وقَيمر، وليَعزِفَ بِمِلعَقَةِ الاستكانِ نَغَم "البستنگار" الشَّجيِّ؛ "يا حلو يابو السِّدارة"، ولتَتَهادى مَسابِحِ مقاهينا هُوَيناً هُوَينا، حَبَّةً على حَبَّةٍ، وَلِيَصدَحَ المَقهى عَالياً بمقام البيات؛

"وفراكُهُم بَجَّانِي جالمَاطِليَه بالضِّلع.. بِيك أشتِرَك دَلّالِي يكلُون حُبِّي زَعلان.

آآآآه.. يا كَهوِتَك عَزاوي بِيها المدَلَل زَعلان".

آه.. وإِيهاً بغداد، أَوَمِن رَحلِ استِبدادٍ خَرَجتِ إلى وَحلِ أَوغَادٍ وَلَجتِ!

فَدَتكِ عَينُ العَينِ وَفَلَذَةُ الأَكبَادِ.

***

علي الجنابي

........................

[1] من قصيدةِ (مَن لي ببغداد) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد (1930 -2015).

[2] بحثت على مفردةِ (روازيني) فلم أعثر لها على معنى في معاجم الضاد، لعلها موجودة في المعاجم أو ربما هي من اللهجة العراقية أضطر الشاعر لحشرها بين القوافي فتبعتُهُ أنا فنشرتُها على الخوافي. ويُذكَرُ أن شاعر العراق عبد ألرزاق عبد الواحد قد قالَ وهو على فراش المرض من المهجر في قصيدٍ رفيعٍ رغم أنه موجعٌ:

دَمعٌ لِبَغداد دَمعٌ بالمَلايين    

مَن لي بِبَغداد أبكيها وتَبكيني؟

*

مَن لي ببغداد روحي بَعدَها يَبِسَتْ

وَصَوَّحَتْ بَعدَها أبْهى سَناديني

*

عُدْ بي إلَيها فَقيرٌ بَعدَها وَجَعي  

فَقيرَة ٌأحرُفي خُرْسٌ دَواويني

*

قد عَرَّشَ الصَّمتُ في بابي وَنافِذ َتي

وَعَشَّشَ الحُزنُ حتى في رَوازيني

*

والشِّعرُ بغداد، والأوجاعُ أجمَعُها

فانظُرْ بأيِّ سِهام ِالمَوتِ تَرميني

وغالب ظني أنَّ ألسنةَ العربِ لا تعلمُ شيئاُ عن (الروازين) بل ينطقُونها (رَوَازِن)، [والرَّوْزَنة في "لسان العرب": الكُوَّة، وفي المحكم: الخرق في أَعلى السقْف، وفي التهذيب يقال للكُوَّة النافذة الرَّوْزَن، قال: وأَحسبه معرَّباً، وهو الرَّوَازِن] وهكذا تكلمت بها العرب، ولأني لستُ بمختصٍّ بصنعة الضاد فقد وجب علي التماس النصح من خبير فيها، فأبانَ لي الآتي؛ (الذي أعرفه أن الأمر في (روازين) طبيعي لأن الكلمة معربة فإننا أضفنا إليها صبغة عربية حين أضفنا الياء دليل على تملكنا لها ودخولها في لغتنا لأنها جرت على أوزاننا، ومن المعلوم أيضا أن كل جمع على فواعل يصح فيه فواعيل بزيادة الياء). أنتهى كلام المختص، وفهمتُ منه أنه قد سُمحَ لحرف (الياء) اقتحام فواعل (روازن) لكي تُمنحَ "روازن" نسبٌ وجواز سفر عربي" . ولئن ارتضينا ياءَ "روازيني" فما عسانا قائلين في قول الشاعر في (سناديني) إذ لا وجودَ لها في المعاجم  الا بمعنى الحَدِيدَةِ العَرِيضَةِ يَطْرُقُ عَلَيْهَا الحَدَّادُ الحَدِيدَ، ولا رابط بين المفردة وبين الورود البتة.

 

من فكرة بالدواخل حيث الذات في هيجانها الرجيم نظرا وحلما وتقصدا لما به تفصح الأحوال عن معانيها وهي في حلها وترحالها.. أخذا بناصية الفن وهو يعلي من شؤون وشجون شتى.. هو الكائن يحمل قلبه في الدروب يحاول ما تداعى به من خوف وشغف وألم.. وأمل قديم معتق يفضي الى الراهن في ارباكاته وانكساراته حيث التلوين مجال قول مفتوح على الأساطير والموحش والمبهج في سير المخلوقات..

كون من أحاسيس وهواجس عبر زمن مفتوح ومتواصل في هذيانه تجاه العناصر والأشياء والتفاصيل حيث جدة قديمة من بدايات قديمة أيضا تروي الما يحدث.. وتماما.. مثل شجرة قديمة في أزمنة نائية تحكي شجنها للأغصان.. تفصح عن نواحها الخافت.. هي تفعل ذلك بينما.. حطابون ينعمون.. بموسيقى الفؤوس..

هي لعبة الحكي في أرض الفن تعري ما تداعى من حال الكائن وهو ينعم بالألوان تغري القماشة بالقول في حميمية فارقة.. في تقابل بليغ بين ما أسطرته الشواسع في الانسان.. والحلم اذ يكفي أن يحدث ذلك ليمضي الهائم بالفن الى ركنه يلتقط سرديات ملونة من الفجائع وسوريالية بطعم الشجن وما الى ذلك.. ولكن في ضرب من التلقي والبث المبهجين حيث أن هذا ما يغنمه الفنان في صفائه تجاه الآخر.. العالم..

انها فتنة الحكي الجمالي في عالم معطوب منذ القدم ومفعم بعناصر السقوط المريع وفق تداعيات من أمزجة وقيم معكوسة ورداءات سائدة ومن ثمة وفي هذا الحكي وبحسبه لم يبق غير.. الحلم.. نعم الحلم هذا ابن النوم.. واليقظة.. وليس من مجال غير المواءمة الرائقة في سمو ذهني وابداعي بين الواقعي والمتخيل والأسطوري كحامل للاعتمالات والعواطف وما يتطلبه كل ذلك من نظر عميق في تأويل لى يخرج عن جماليات شتى هي محصلة الفن.. والفنان.

و الحلم هنا ذهب ليكون عنوانا لافتا محيلا الى قراءات مولدة ومتحركة في حدث فني جمالي بمضامين لها من عطور الشعر نصيبها المتخير.. مورفيوس (Morpheus) احالة ضمن الأساطير الإغريقية إلى إله الأحلام وباعتبار كونه أحد أبناء هيبنوس إله النوم.. حيث كان يعتقد أنه يأخذ شكلاً آدميًا ويظهر للناس في نومهم.. ومن هذا الاطار وغيره كان الفن وما يزال يتطلب الحلم الشاسع لتغذية الخيال والذات لأجل الابداع والتجدد واعادة النظر تجاه الأشياء وابتكار صياغات أخرى ومختلفة للمرغوب في قوله واستدعائه جماليا وأدبيا بما يحيل الى المنجز في خصوصياته التي منها وهذا الأهم ابداعيته.

هكذا نلج عوالم التجربة المفضية الى معرض مهم للفنانة التشكيلية والباحثة شيماء الزعفوري التي خلصت في معرض جامع لحيز لافت من أعمالها الفنية الى فكرتها الفنية حيث اللوحات في تعدد أحجامها وأشكالها تجتمع في السياقات المذكورة وعليها وبها لتفضي الى هذا العنوان الدال اسطوريا وأدبيا وجماليا الذي اتخذته كتعلة عميقة للقول برغباتها تجاه الفن والكامنة فيه نبشا واجتراحا وتوغلا في.. الحلم.. هذا الذي أرهق الانسان والكائنات.. الكل حلم ويحلم.. حيث يبقى الفن هذا الملاذ الممكن للحفاظ على الحلم ولشحنه وللقول بوجهه.. اننا نتقصدك ونحبك أيها الحلم.. لا تتركنا يا حبيبنا الحلم.. نحن هنا سيدنا الحلم..

و الفنانة شيماء الزعفوري متحصلة على الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون سنة 2019 بتونس العاصمة ودرست بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس وتدرس حاليا بالمعهد العالي للفنون والحرف بسيدي بوزيد ولها مشاركات متعددة في الفعاليات الثقافية والتشكيلية والعلمية ضمن الندوات وذلك فضلا عن معارضها الفردية ومشاركاتها في معارض جماعية كما أنها شاركت في العديد من الملتقيات داخل تونس وخارجها من ذلك حضورها في بوركينا فاسو والكونغو وتركيا والمغرب والكاميرون وكوريا وفرنسا.

مورفيوس (Morpheus) العنوان الحاضن لهذا المعرض الخاص للفنانة التشكيلية شيماء الزعفوري المنتظم بالمعهد العالي للفنون والحرف بمدينة سيدي بوزيد وقد شهد اقبالا من قبل طلبة المعهد ورواد الفنون الجميلة وأحباء الابداع الفني التشكيلي حيث قدمت منجزة الأعمال بانوراما لشغلها الابداعي بما يحيل الى جانب من تقصدها الجمالي ضمن رؤيتها المخصوصة والتي رافقتها من سنوات في تعاطيها مع الرسم والتلوين وغيرهما من التعبيرات فهي فنانة مسكونة بهواجس الاختلاف والذهاب في الطرق غير المطمئنة بروح مغامرة فيها الكثير من الرغبة في الفن وتفاصيله وبحلم دفين فيه الكثير من شاعرية الأحوال وبمناخات من سرديات بينة وأسطورة موحية ومحركة وباعثة على المضي أكثر في أرض فنية تخيرتها شيماء.. تقصدا لدرب جميل للانسان يخلص فيه وبه الى عالم الأحلام قتلا للانكسار والصدام والسقوط المريع.. انها انتظارات فنانة ضمن مسارات تعبيرية في مجالات فنّ تشكيليّ معاصر وفق رؤاها المختلفة .. أعمال بتنوع في الشكل والحجم بتقنيات و بتصرف فيه الكثير من التعبيرية والحركة ضمن الفضاء العام للوحات فنحن أمام شخوص وأصوات في تعددها لتشكل بالنهاية نظر ولغة وحواس ورسائل الزعفوري في امتداداتها الزمنية قديييييما وراهنا حيث الفن هنا حمال معان وكلمات هي عين هذا " الحلم الزعفوري " المفتوح على الدهشة والبهجة والقلق وال ...أمل .

الفعل التشكيلي هنا مساحات خيال ضمن عوالم الإنسان والكون والطبيعة وفق الاحالة الى ديناميكية بها حركة الحياة الأشياء والعناصر والشخوص والمفردات يمكنها الحلم من التواصل جماليا في كل ما هو بينها.. هي فسحتها في أرض الفن الشاسعة في ضرب من النظر الجمالي والفلسفي والشعري تقصدا للكنه وما يعلي من شأن الجوهر.. جوهر اللعبة الفنية في مقابلتها الشاملة مع الكينونة..

معرض به أعمال هي ثمار سنوات من البحث والتفكير حيث الجمال الخفي والبين والتقنيات في بهاء توظيفها ليلنس المتلقي هذا النزوع تجاه تيارات السوريالية والتكعيبية الى جانب بروز حال القسوة وتبين مظاهرها بيسر وهو ما يطلبه جانب من مضمون اللوحات على غرار الوحشية..

عالم ومزيج من الأحاسيس تزخر بها أعمال مختلفة لشيماء الزعفوري في احالة الى عنفوان الوعي والادراك ساعات انجاز العمل الفني في سياقاته هذه بين الثقافي ولاجتماعي والانساني والوجداني والحضاري وفق المألوف والمختلف والثابت والمتحول ..

هكذا هي التجربة ضمن هذا السياق من المعرض الفردي لشيماء الذي حوى (22) عملا فنيا بنباهة من الاحساس وبجمالية تعمل ضمنها وتواصل فيها في شواسعها من الرمزي والأسطوري واليومي فكأننا تجاه ملحمة ملونة تستدعي الأسطوري لتدعم قولها في هذا الراهن المربك والموحش ولعل ما يحدث لغزة وشعب فلسطين المقاوم والصامد امام صمت كوني مريب من قبل آلة الابادة الصهيونية حيث بشاعة الأفعال.. شكل مجالا قديما متجددا من فعل الطغيان والخراب الانساني الذي واجهه الفن والملاحم بالادانة جماليا ووجدانيا وهذا المعرض في حيز مهم منه كان ضمن هذا السياق أو تزامن معه ولكنه يعيد للذاكرة الفنية فعل الوعي ودور الفن في مواساة الانسان..

تجربة فنية تفضي لهذا المعرض الفني المخصوص حيث تمارس شيماء الزعفوري شغفها الفني كما تقصدته مخاطبة الحواس والناس والكائنات بما اعتمل بدواخلها من شجن ووعي وجمال لأجل الحلم.. الفن هنا هو ذلك الحلم البليغ.. المؤلم.. الممتع.. والباذخ.

***

شمس الدين العوني - تونس

 

أعلام: من عَلَم، أي لواء أو راية لبلد أو ولاية أو مدينة.

صفي الدين الحلي عراقي من الحلة (1277 - 1339) ميلادية، شاعر معروف وإشتهر بقصيدته التي كنا نحفظها في المدرسة، ونرددها يوم رفع العلم كل خميس ومطلعها:

سلي الرماح العوالي عن معالينا

واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا

ومنها:

إن الزرازير لما طار طائرها (قام قائمها)

توهمت أنها صارت شواهينا

***

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة

يوما وإن حكموا كانوا موازينا

*

تدرعوا العقل جلبابا وإن حميت

نار الوغى خلتهم مجانينا

*

إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا

أن نبتدي بالأذى مَن ليس يؤذينا

*

تغشى الخطوب بأيدينا فندفعها

وإن دهتنا دفعناها بأيدينا

*

بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

البيت الأخير وضع ألوان أعلام دول الأمة، فكأنه رسم راياتها قبل أكثر من ستة قرون، وما إستطاعت دولة واحدة أن تشذ عن تلك الرؤية السلوكية المعبرة عن جوهر قيم وأخلاق إنسانها.

بل يبدو أنه إستطاع أن يختصر دوافع السلوك ويرمز لها بأربعة ألوان، وكأنه غاص في أعماق النفس وكشف عن مطموراتها المتناقضة، المتوطنة أعماق البشر.

والعجيب أن معظم أعلام الدول يبرز فيها اللون الأحمر الذي يرمز للدم.

ترى هل أن هذا البيت صار وهما، أو ولد من رحم خيال وتأسي، لأن الشاعرعاش في الفترة بعد سقوط بغداد (10\2\1258)، وكان ما جاء في القصيدة من أفكار وتصورات، تعويض عن الواقع الخسراني الإنهزامي الأليم الذي عاشته الأمة، فأصبحت فريسة للوحوش المنقضة عليها بين حين وحين.

إنه بيت خيالي وضعناه على أعلامنا، لنهرب من آلياته وندّعي بوجودنا، وما لدينا القدرة على التحدي والإستبسال، وأمعنا التغني بأمجاد الأجداث!!

فهل سنرتقي إلى مقام البيت الشعري، أم سنضع على رؤوسنا قبعات ألوان؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

حين نظرت صُبْحا إلى المرآة لم أعد يومها أَتذكر شكلي بكل تفاصيله الخارجية المُمِلَّةِ، لم أَعُدْ أُجري تلك الحركات التي كانت تُحفزني على خلق التوافق بين روحي وجسدي. ساَلِفَ الذكر، كانت رُؤيتي تجاه المرآة يَمرُّ عبر اهْتمامِي بذاتي كنمط من عصر اليقظة. فقد كان نوع من اهتماماتي بذاتي ومعرفتها بغاية رأب صدع الماضي المزدوج بين فَوالق الفرح والألم، ولما لا استيعاب عمليات تسرب الفكر الذكي نحو الوعي الخارجي الكفيل بتدبير القلق. اليوم قلقي مع ملمح المرآة صنع عدة تساؤلات من طينة الزوبعة الذهنية، بمؤشرات رَتقِ فُتُوقِ التباينات العمرية، وبكل أَنَاةِ استعادة الحالات العمر الزمني التي استعصى استحضاره للمحاكمة أمام المرآة.

انسحبت تاركا ذاتي باعتبارها كيانا مستقلا ومختلفا لاصقة على مُسطح لوح المرآة، وفي تلك العلاقة التقابلية ولما لا التناقضية. فقد كان هدفي الأول، أن أتعلم بِنْيةَ علاقة الانعكاس والتناظر بين تَضَاد الفطنة والسذاجة. اليوم، تحررت من فئة خوارج تفكير سلطة الذات بالثورة، ومن كل مُفرقعات الحياة السلوكية التي تصنع تجليات الوهم في صورة لوح المرآة. اليوم، أرنو طواعية إلى امتلاك جزء ميسر من الذات، والأنا، والفلسفة، والهوية بالواقعية، ولما لا كَسْبِ قسط تزكية من الوعي المنتج للأخلاق الخيرية، ولو عبر قناة مفهوم الراحة النفسية. اليوم، فكرت مليا على أن أفكر من الخارج إلى الداخل، و ضمن وضعيات استنطاق (الأنا) الأعلى بنهايات الذات الحاضرة، وكذا امتلاك المتعة الجمالية في الفهم والتخطيط الحياتي، وضبط تجليات الآخر الغائب. اليوم، كونت معرفة للعالم بمتغيراته، والتي تُفضي إلى معرفة فلسفة الذات، وصناعة القدرة على رؤية الوجود (المعرفة التوافقية والاصطلاحية)، والبحث عن أثر الحرية وتحريرها من ربقة العصيان.

أروي لكم سادتي الكرام ما استعصى عليَّ من الفهم والتدبر بالتفسير والسؤال، فقد كنت أتنقل داخل غرفة (الذات) بتلك الأحلام المستقظة، والتي كانت تُجسد سياقات متعة الخدع الحسية (السحر المعرفي)، ومراوغة المنطق والعقل بالتنويم. فحين أردت انتقاد صورتي المتبقية داخل لوح المرآة، رأيت أني لا أتسلح بالآليات المنهجية الحصينة بالتجرد عن الذات، وملاحق الزمن العمري. وجدت أن النقد العنيف، قد لا يقدم سوى فقاعات من الوهم والزيف، ووضع الحقيقة في غرفة الإنعاش. تعلمت بالفطرة، ربط ثنائيات فُتوقَ (الداخل والخارج) حتى لا أنزلق في إنتاج تفاهة الوهم. فلا غرو اليوم سادتي الكرام، أن تحمل تخوفاتي الأولية، ضُعف وجهي الذي بقي عالقا على لوح المرآة بلا رقيب ولا حسيب، وهو يتوجس قسطا من الخوف على مفارقتي بالبتة.

استيقظت لحظة باسترجاع (الأنا) المفكرة عندي، وجعلت منها لِحافا قُطنيا لتدثر روحي الزائدة من التآكل والتغيير المفرط في التجريد. حينها شعرت بالأمن، وأضحيت أبحت عن نفسي وهويتي وذاتي، وكيفية الاهتمام بهم إزاء التعيينات القاسية للنقد والسلبية. من فرحتي، أن المذياع صدح بمتنوع أغان من الماضي، من تم شعرت أني لا أمارس الانعزال عن العالم الخارجي، بل صارت ذاتي تُعلن الثورة على لوح المرآة، وسحب وجهي بالوجود الحقيقي المتنور بأخلاق الخير والقيم الاجتماعية.

اليوم، تحررت من سلطة المرآة (الآخر) ومن كل الأبعاد الثقافية والأخلاقية، ومن غيث سيولة انسياب الحداثة السائلة المفزعة. اليوم، تحررت من تلك النواة الصلبة في التحجر الفكري والسلوكي، والتي كانت لا تقبل معرفة ماهية اختلاف تصورات الكينونة والكونية. اليوم، وذاتي المتحررة تتناول وجبة الوعي والتفكير في الاتجاه الصحيح لا المنعرج في الغائر. اليوم تعلمت أن التغيير لن يتأتى حتى يمتلأ العقل والذهنيات بأنماط الوعي والسلوك الحضاري المتنور.

***

محسن الأكرمين

برعاية كريمة من لدن السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للمدة من العاشر ولغاية الرابع عشر من شهر شباط فبراير 2024، ستشهد بغداد انطلاق مهرجان بغداد السينمائي (دورة المخرج الكبير محمد شكري جميل) الذي تقيمه نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار ودائرة السينما والمسرح، أعلن ذلك نقيب الفنانين العراقيين رئيس مهرجان بغداد السينمائي الدكتور جبار جودي، وقررت اللجنة التحضيرية للمهرجان قبول ستة عشر فيلماً للمشاركة في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة من بين الأفلام العربية والعراقية المتقدمة للمهرجان، وتشمل أربعة أفلام من جمهورية مصرالعربية، وفيلمين من مملكة البحرين، وفيلماً واحداً لكل من: تونس، وفلسطين، ولبنان، وسوريا، والمغرب، فضلاً خمسةأفلام عراقية, وأوضح جودي أن الأفلام التي ستشارك في مسابقة المهرجان للأفلام الروائية القصيرة هي أفلام: (ترانزيت) - باقر الربيعي- العراق. (خطاف)- ياسر الاعسم – العراق. (يد أمي) – كاردينيا هيمن – العراق. (دويرة) - سيف صباح – العراق. (كيمر عرب) - رانيا حمزة – العراق. (16 مللي) - عبدالله جاد – مصر. (عيسى أعدك بالجنة) - مراد مصطفى – مصر. (فطيمة) - أحمد عادل – مصر. (الترعة) - جاد شاهين – مصر. (نصف روح)- مروان طرابلسي- تونس. (فلسطين 87) - بلال الخطيب- فلسطين. (الحفرة) – علي بازي- لبنان. (العزلة) – جمال غيلان- البحرين. (عروس البحر) - محمد عتيق – البحرين. (فوتوغراف) - المهند كلثوم – سوريا. (الموجة الاخيرة) - مصطفلى فرماتي – المغرب, وأكد جودي أن المهرجان سيعلن قريباً عن الأفلام المشاركة في مسابقة المهرجان للأفلام الروائية الطويلة، وكذلك قائمة بأسماء نخبة من النجوم وصناع ونقاد السينما العرب البارزين بما فيهم مديرو المهرجانات السينمائية العربية، فضلاً عن كوكبة من صناع ونقاد السينما من العراقيين في الداخل والخارج، ناهيك عن عدد من الفعاليات والبرامج والأنشطة السينمائية المتنوعة. وتابع جودي وهناك (مسابقة فضاءات سينمائية جديدة) التي تشمل عشرة من الأفلام الروائية العراقية القصيرة والجديدة والتي أنتجت بموجب منحة نقابة الفنانين العراقيين في سابقة فريدة من نوعها تحصل للمرة الأولى في تأريخ المهرجانات العراقية والعربية، وتهدف الى تفعيل الحراك السينمائي وإنعاش المشهد السينمائي في العراق ودعم الطاقات والكفاءات السينمائية ودوران عجلة الانتاج السينمائي العراقي,, مضيفا / أن المهرجان سيعلن قريباً عن الأفلام المشاركة في مسابقة المهرجان للأفلام الروائية الطويلة، وكذلك قائمة بأسماء نخبة من النجوم وصناع ونقاد السينما العرب البارزين بما فيهم مديرو المهرجانات السينمائية العربية، فضلاً عن كوكبة من صناع ونقاد السينما من العراقيين في الداخل والخارج، ناهيك عن عدد من الفعاليات والبرامج والأنشطة السينمائية المتنوعة. وتابع جودي وهناك (مسابقة فضاءات سينمائية جديدة) التي تشمل عشرة من الأفلام الروائية العراقية القصيرة والجديدة والتي أنتجت بموجب منحة نقابة الفنانين العراقيين في سابقة فريدة من نوعها تحصل للمرة الأولى في تأريخ المهرجانات العراقية والعربية، وتهدف الى تفعيل الحراك السينمائي وإنعاش المشهد السينمائي في العراق ودعم الطاقات والكفاءات السينمائية ودوران عجلة الانتاج السينمائي العراقي.

ومن جانبه أوضح مدير مهرجان بغداد السينمائي الدكتور حكمت البيضاني، أن اللجنة التحضيرية تواصل مناقشة المهام التنفيذية واللوجستية المتنوعة لإقامة المهرجان على أحسن وجه، وقرارات اللجان الفرعية بما فيها قرارات لجنة قراءة وفحص سيناريوهات مسابقة إنتاج الأفلام العراقية القصيرة (فضاءات سينمائية جديدة) التي تضم عشرة أفلام وتهدف الى تفعيل ودعم الإنتاج السينمائي العراقي، وتابع الدكتور البيضاني أن اللجنة التحضرية تنتظر صدور القرارات النهائية للجنة مشاهدة وفرز الأفلام المرشحة للمشاركة في مسابقات المهرجان بغية الإعلان عنها في القريب العاجل في بيان خاص، إضافة الى مواصلتها مناقشة وإقرار الأسماء المقترحة لعضوية لجان التحكيم الرسمية، والندوة الفكرية حول (سبل تعزيز الانتاج السينمائي العربي المشترك)، وورشة الإخراج السينمائي، فضلاً عن الضيوف والشخصيات المقرر دعوتها، وجميعها ستضم نخبة من أبرزالمعنيين بالسينما من مخرجين وكتاب ونقاد ونجوم عراقيين وعرب

***

نهاد الحديثي

 

الفنُّ هو أحد الفنون التي يمارسها الإنسان في حياته الشخصية، القدرة والإتقان بمستوًى عالٍ من الجودة والكفاءة العالية في العمل أكثر جمالًا وتنظيمًا، الوظيفة ليست صعبة ولا بسيطة، إنّها مجمل التفكير في قرار ساحله أزرق العينين. توظّف قدراتك في التجادل مع الحياة، روية وهدوء.

هذه الأحداث الوصول إليها يغلب عليه التكاثر المعرفي التجريبي الواعي في تزويد ذلك العقل الباطن، بالرؤية التي تحلم بها في موطن حياتك. الأزمات ليست قليلة وقد لا تتوقف، لكنها طاقة أثيرية، توطّن إحساسك بالحياة، تلك هي الفلسفة التي تنير صفحاتك المتبقية قبل الرحيل من عالم إلى آخر مقدّس بما وراءه من صور ووعود جميلة وتحت رحمة لا تتوقف من العالي المُعيل، غدًا وما بعده يحمل كلّ الأمنيات.

لا تثقل نفسك بين عقول تناثرت عليك قاسية مؤذية، عندما تستوعب القاعدة الطبيعية للبشر في السباق بين الماراثونات المتعدّدة في الفوز الأول، حلّق مع أحلامك بهدوء وقدرة عالية، عليها أثر البسمات الجريئة النابضة بالحياة، قسمات قدرت، يغلب عليها التعب، لكنها طبيعية في حالاتها، انتصر عليها في وقتها.

التبعثر شقاء، القناعة جمال داخلي، أمثال البشر بين يديك، بين سقوط ونهوض، انهض بوعيك الذي ينبض، الغبار لا يتوقف والمطر لا ينتظر المظلات المهترئة، اضرب بين جناحيك، حلّق كما تستطيع، بين الإقلاع والإقلاع حياة وخبرات جديدة، الحياة جميلة رغم بعض محطاتها الحزينة، إنّها رواية لا تتوقف عند سطر حزين، صعابها قد تكون النهاية سعيدة وجميلة، متى ما ضغطت على أيقونة القبول، تبقى القناعة الأمل الأول والأخير.

الطائرة تنتظرك في الصعود بين رحاب العالم، يأتي الخيال بين الصخور الحافرة الصلدة، تخطو خطوتك، تشعر بأمانها تجلس بعد أن تطمئنّ الروح بأنّ غدك سوف يكون بين يديك، الموت لا ينتظر أحدًا والعزاء مستمر، بين القافية ينابيع تفجّرت من أعماق لا تدركها الأرقام، جميع المحطات منسجمة مع الطبيعة التي ولدت أمامك وقبلك.

منذ الأزل، البشر لديهم القدرات والأقدار التي تحطم طواحين الألم في خيال بعده واقع، تذكر بأنك ذلك الإرث الذي تخلفه يبقى ومن بعدك سوف يقرئه، إنّها المعارف المستمرة في النضج، ذلك المدّ الغائب يتحدّث إليك أن ترفع تلك الأشرعة أمام الأمواج العالية، بعيدًا عن الأرض ترى الوجود لم يكن من قبل، أيُّها القبطان، ابتسم أمام الريح التي أمامك، أنت الآن في الأمان الذي انتظرته وقت طويل.

***

فؤاد الجشي

 

في مقهى ينأى عن ضجيج المدينة ومتابعات مباريات الدوري الاسباني (لا ليغا/ La Liga). في مقهى يقع بالمحاذاة من بدال الطريق السيار الشرقي لمدينة مكناس. كعادتي، جلست منفردا لأحتسي فنجان بُن أسود يفوح بنكهة مرارته وبلا قطعة سكر. كان كل مَنْ بالمقهى المطعم في انشغالات أحاديث دائرية منغلقة، فيما كانت الخدمات في متناول الجميع، وبتلك الابتسامات والترحيب والسرعة المتناهية.

كنت في غفلة من أمري، وأنا أمارس صناعة فكر الانعكاس والتناظر، وفق علاقة التقابل والتناقض في نوعية المشاهد بين حركة من يلج وبين من يغادرها. كنت أمارس فِطْنة تأمل سقراط المعلم الأول (اعرف نفسك، اهتم بنفسك)، وتحرر من جاذبية السلطة الخارجية، ثم تخلص من الهيمنة المادية. كنت مرات أفكر من خارج الصندوق ثم أعود باللاوعي إلى داخل نفس الصندوق لأفتش عن ذاكرتي الذهنية الماضية.

كان كل من يقربني بالمجاورة في مجلس طاولتي المنفردة، في انشغال تام بالمأكل والمشرب، وتناول قسط من بذخ الحياة، وترف الحضارة المستحدث. مرات بالقلة، كنت أسمع ضحكات من مائدة يتحلق عليها ثلة شباب من متنوع الأعمار وصنف الجنس. هذا، لا يعني أني أمارس الانعزال عن العالم الخارجي، بل مشاهداتي المتنوعة كانت تفكر في المتغيرات ، حين كان المكان مزرعة فلاحية تنتج القمح والخضروات، لكن تحولات المدينة الجديدة، غيرت (بلاد الفلاحة) إلى منتزه رحب بالأداء، وتقديم خدمات للميسورين من الطبقات المتوسطة.

حين انتهيت بالعياء الفكري من تقابلات ثنائية (الداخل والخارج) و(المتغير والخالد)، كان مدخل المقهى المنير يستقبل أسرة تُدخلُ شابة أنيقة وجميلة على كرسي متحرك، كان كل من الأب و الأم والأختين في خدمة تامة لهاته الشابة العليلة، والتي يبدو الإنهاك على ملامحها الخارجية. لحد هذا المتغير، كل الأمور تسير وفق نظام الترحيب بالأسرة، وتيسير ولوجها بأخلاق العناية الفضلى لهذه الشابة في ذاك الكرسي المتحرك، بحق كانت الأخلاق الخيرة لمن يشتغل بهذا المطعم المقهى ترتقي إلى رفع القبعة لهم احتراما.

لم تُغْنِ عَنِّي المشاهد بدا، من متابعة الشابة التي باتت تتحرك إلا من خلال كرسي متحرك وهي ليست من ذوي الاحتياجات الخاصة. كانت تَعْتمر قبعة الرأس شديدة البياض، في ملمح وجهها النحيف، رأيت أن المرض أنهكه باستدامة الألم والمعاناة، وأفقده احمرار الشفاه والخدود. كان يبدو على تلك الفتاة أنها تجابه الداء والدواء، وقسوة الألم منذ زمن. كانت لا تبتسم، ولا تتكلم طويلا، ولا تعير المكان متابعة وأية اهتمام، فيما أسرتها الصغيرة فقد كانت بحق الله خدومة وتقدم لابنتهم العليلة كل المساعدة والابتسامة والفرح.

لحد جلوسهم وعناية النادل بهم، لم تَبُحْ هذه الشابة بأي كلمة تجاه مرافقيها، بل كانت تحول نظرات إلى شرود عن المكان ودون استطلاع. لحظة كشفت عن هامة رأسها، وأزالت القبعة الشديدة البياض، خطفت نظرة متأنية عنها والألم يُشعرني بالحرج، هنا كادت عيناي تسبقني إلى الدمع دون أن أناديه بتوجسات ذاكرة ألم الداخلي الماضي. كان شَعر الشابة قصيرة المورد والمنبت، كان خفيفا ويتسم بالرقة وقلة الكثافة، هنا جاء تفكيري ليربط العلاقة الخارجية للشابة والألم بمرضها، فقد كانت تبدو منهكة بالتمام، وكأنها خرجت تَوَّهَا من حصة العلاج الكيماوي      (  chimiothérapie). هنا زاد الوجود الحقيقي المتنور بالخير من أمها حين كانت تلهو بخصلات شعرها القصيرة، وهي تخاطبها بابتسامة لا تفارق ملمحها، فيما الشابة فقد كانت تنظر في عيني الأم حبا وعطفا، وكأنها تناجي قلب أمها بالفقد والافتقاد، لماذا  يا أمي يقتلني المرض يوما بعد يوم؟ لماذا يا أمي يعتصرني الألم، ويخنقني حتى في أمكنة اللعب والمرح؟ لماذا يا أمي أحمل مرضي على كرسي متحرك؟ لماذا يا أمي لا ينتهي الألم بنهاية زمن الحياة، حينها أشعر أنِّي انتصرت على المرض بقتله؟

كما وضع النادل قهوتي السوداء بنكهة البن المستفز، تركتها ولم أتناول منها غير رشفة بَلَعْتُ من خلالها ألمي الذي بات يعتصرني داخليا من شدة المشاهد المتكلمة بلا أصوات. تذكرت رثاء الخنساء وقلت: أعينيَّ جودا ولا تجمدا، ألا تبكيان هذه الشابة الجميلة العليلة الندى... تركت الشابة العليلة بنظرة دعاء، و ترجلت خارجا بمتغير زفير آهات لذاتي المتألمة، حين مددت ورقة نقدية للنادل، سألني ألم يعجبك اليوم فنجان قهوتك المفضل ؟ فقد لاحظت أنك لم ترتشفه !! ولم تمدده بقطعة السكر الوحيدة كعادتك !! اليوم، لم أبتسم في وجه النادل، ولم أشكره على خدماته، وتركت له ما يزيد مِمَّا تَبقى من الورقة المالية، وانسحبت نحو أبتغي العودة إلى المنزل، ورَتْقِ فُتُوقِ الألم بالبكاء.

***

محسن الأكرمين

 

أدركنا بحمده تعالى صبح عاما جديدا عبر الزمن الكوني المطلق.. بحلول 2024، وقد تقاطرت على أهل الأرض العواصف إعصارا تـلو إعصارا، ولا يتسع المقام هنا لذكر جميع أسبابها، مع ان إستقرائها يوضح أبرزها ممثلا؛ في تهافت الأنسان طمعا بمنافع الإثراء لموارد الأرض بباطنها وسطحها وسمائها، وبذلك تسابق الأنسان في كل دماره وصراعه وحروبه الدامية منذ فجر التأريخ ولحد اللحظة.. ظالما في تجاوزه لقوانين الكون طبقا لما فصلها الواحد الخلاق.

بعيدا عن ما سبق، وفي خضم أمواج بحار الحياة التي تلقيني احيانا على بعض من شواطيها، وقبل أن التقط أنفاسي؛ تأخذني بعيدا تلك المتربعة تـاجا بأعماق الذات.. ذاكرتي.. الى حيث كانت هناك مرابع الطفولة والصبا والفتوة لتكشف في ثناياها عن أناسا من الأستحالة وصفهم بالصداقة مدى السنيين، إنما وصفهم وتوصيفهم يرقى الى الأخوة  المطلقة بكل معناها .. وعندها تـرحمت على من غادر منهم دنيانا.

ثم ينفتح بابا لم يوصد يوما أمام تسجيل ما صقلته الأيام بالساعات حراكا في الحياة؛ مرة بالأفكار، وبالأبدان مرة أخرى.. تكريما وفاء للوالدين في كدحهم بين الصخور وعبر السنين السابقات بحلوها أحيانا وقسوة مرارتها بأحيان أخرى.. والى أن تسلق الوعي لإدراك كل معانيها.

لقد مضت بلمح البصر تلك السنون.. فكان الطائر كالصقر يجني ويجني بغابات الحياة ليس نفعا، إنما على الدوام تقضه عقولا قد تفتحت براعمها الندية ترنو نحو حرفا أو قولا من الجني ذاك، إذ إن من الحماقة أن يدفن بالموت الحصاد المثمر بالعلوم معارفا وأفكارا.. وقد حجبت عمدا عن عباد الرحمن .. وهو العظيم الذي علم الأنسان ما لم يعلم.

هـكذا.. تتمادى الذاكرة مرة أخرى لتخبرك عن من تكرمو خيرا عليك ساعات وأياما.. سواء بالمشورة الراشدة مرة، وبالجهد البناء مرة أخرى.. ليبصروك فقط للأخذ بذاك الأحسن من ذاك، ولأجل ذلك لا زالو في القلب بمحبة وإحتراما، ومن المؤكد هم مع تلك المحركات نحو السمو نجاحا وللهفوات تفاديا.. فمنها من مر كالأطياف يأخذ بالأحوال من هذا إلى ذاك، ومرة تكون للهمة حافزا، وفي أخرى تكون للطاقات الإثارة والإلهاما، وجميعها مماثل للسيوف البارقات شموخا في سماء قد تألق بضياء القمر العملاقا.

لا تبتأس.. عزيزي القاريء الكريم، فأنت أن علمت أو لم تعلم.. فأنت بصفاء قلبك من المؤكد أنت منهم.. وقد أتيت لنا فخرا وإلهاما، ولكم ما يليق من الأماني الباسمات نجاحات وأفراحا.. المقرونة بالإحترام الأسطع بياضا.

*****

د. مجيد ملوك السامرائي

جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

 

أبي رحمه الله وأغدق على قبره شآبيب الرحمة، كان يصرف نهاره في وظيفة عادية هي قوام عيشه، وينفق أول المساء إلى الهزيع الأول من الليل في جهد ونصب دائم، وهو قوام مركزه ومكانته التي حازها وسط دائرته، كان رحمه الله يصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويغيث الملهوف ويعين على نوائب الدهر، كما قالت السيدة خديجة الكبرى، وسفاتة بنت الطائي، وكنت رغم صغري أضيق بهذا كله، و أفصح عن ضيقي في وضوح وجلاء، كنت أنتظر مقدمه من عمله وأنا فرح مسرور، حتى أستقي من عواطفه ومشاعره الجياشة، فأنا آخر العنقود، وليس من اليسير على آخر العنقود أن يألف تسلط الناس عليه، واعتدائهم على حقوقه، كانت لدي خواطر تجيش في دواخلي، أريد أن أقولها لوالدي لحظة رؤياه، ولكني لا أستطيع أن أوثره بها، فأهل الوصل من أقطاب الصوفية، وأصحاب العلل الروحانية، كانوا ينكرون حقي في والدي، ولا يبيحونه إلا بمقدار، وبمقدار ضئيل كما قال الدكتور طه حسين، وفي الحق كثير ما كان  يقع بيني وبين هؤلاء تنازع وشجار، خاصة حينما أطبق بيدي الصغيرة البضة على أصبع أبي وأتشبث به في قوة واهية وخشية، وأسير مع الشيخ الجليل، الباد الوقار،بخطى متعثرة خلفه، فيأتي أحدهم غير مبال بعواطف صبي أغر تجاه أبيه، تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، فيدفعه دفعاً عنه، بل لا يرضى أو يقنع بهذا، فيغلظ عليه القول، لإلحاحه في أن يكون بمعية والده، ويستهجن تهالكه عليه.

رغم كرور الأيام، وتعاقب الحدثان، مازالت الصور هادئة مستقرة في مكانها، وما زال حنيني إلى والدي كثيراً غزيراً، لا يستغنى عن فؤادي، ولا يستغنى فؤادي عنه.

***

د. الطيب النقر

 

سقطت ورقة من حياتنا وجاءت أخرى وحتماً ستسقط الثانية عاجلاً أم آجلاً هذه سنة الله في أرضه وهكذا دواليك يستمر الحال يولد إنسان ويموت آخر والحياة تمضي نحو الامام ويمضي معها الكثير ولا يبقى سوى الاثر ومع مرور الوقت سينتهي الاثر وتتعاقب الامم والحضارات أنتَ في القيمة أسمى العَالَمَيْن كليهما فماذا يمكن أن أفعلَ إذا كنتَ لا تعرفُ قَدَرَك؟؟لا تبعْ نفسك رخيصاً، وأنتَ نفيسٌ جدا في عيني الحقّ فإذاً لا تكلف على ذاتك وتضطرب وتهجس ضجيج الحاضر وحزن الماضي وقلق المستقبل كن على يقين بأن الله لطيف رحيم لم يخلقنا ليشقينا حينما تصرخ الروح يستجيب لها الإله فتمطر السماء بهدايا الرب اللطيف لتحمل في طياتها الأمل فيسري السلام على سائر كياننا لنشعر بالمحبة والوئام، لأن الله كلّ الجمال المطلق هذا هو الإله الذي أعرفه، ولكننا نظلم أنفسنا بأشياء لا داعي لها كن راضيا بقدر الله فكما جاء في الاثر لو عرضت الأقدار على الإنسان لأختار القدر الذي أختاره الله له، فاﻟﻴﻮﻡ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ نجلس ﻣﻊ أنفسنا .. لنعلم ﻫﻞ ﺣﻘﻘنا ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻣﺎ نريد؟.. ﻣﺎﻫﻲ أخطاؤنا وهل ﺃﺻﻠﺤناها؟.. ﻭﻣﺎ ﻫﻲ ﺃﺣﻼﻣنا ﻭﻫﻞ ﺣﻘﻘناها!! .. ﻓﻬﻜﺬﺍ ﺳﻴﻤﺮ ﻋﻤﺮنا ﻓﺈﻥ ﻟﻢ نحاسب أنفسنا سنظل ﻛﻤﺎ نحن ! .. ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ نعلم ﻫﻞ نحن نسير ﻋلى ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ لتحقيق حلمنا وذواتنا أم اننا أخطأنا الطريق! ﻓﺎﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺣﻘﺎً ﺣﻴﻨﻤﺎ نكتشف ﺑﻌﺪ ﻓﺘﺮﺓ ﺃﻥ عمرنا لم ﻳﻀﻊ .. ﻭﺃﻧنا ﻧﺠﺤنا ﻭﺣﻘﻘنا ﻣﺎ نريد لنواصل ﻓﻲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﻤﺰﻳﺪ .. ﺟﻤﻴﻞ ﻫﺬﺍ اليوم لأننا سنبدأ عام جديد .. ﻭﻛﻢ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﺃﺟﻤﻞ ﻭﺃﺭﻭﻉ ﺣﻴﻨﻤﺎ نحقق ﻓﻴﻪ ﻣﺎ نريد.. ﻭﻟﺪ هذا اليوم لتشرق حياتنا بالأمل الجديد, وما أجمل أن يولد بداخلنا ﺍﻹﺑﺪﺍﻉ ﻭﺍﻟﺤﻤﺎﺱ ﻭﺍﻟﺘﻔﺎﺅﻝ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ .. ﻓﻬﻮ ﺃﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﻄﺎﻗﺔ نأخذ منه لنمضي ﻭنحقق ﻣﺎ نريد .. في أول يوم من عامنا الجديد.. كل أمنياتي و دعواتي لكم بأن يجعل الله عامنا هذا عام صلاحٍ وفلاحٍ و نجاح و أن يحقق فيه الأحلام و الطموح والأهداف وأن يصلح الله لنا النفس و السريرة .. و لكل من يتمنى للناس الخير .. جعلكم الله دائماً في رضا وسلام ووئام .أتمنى لي ولكم عام حافل بالعطاء، والنجاح والمضي قدماً نحو العزة والمجد وعلو المقام وسلامي إليكم لا ينتهي ..انتهى

***

زكريا الحسني -  كاتب من سلطنة عمان

اصحاب الثروات الضخمة التي تقدر بعشرات الملايير من الدولارات يقرأون بنهم ويخصصون ساعة أو اكثر للإبحار في عوالم الكتب وكيف لا وهي التي تلهمهم الأفكار التي يحولونها إلى مشاريع تدر عليهم ثروة طائلة

و حسب  الباحث الأميركي توم كورلي الذي قضى سنوات في دراسة له ببحث عن الاختلافات الجوهرية بين أصحاب الثروات وغيرهم من الناس، فتوصل  إلى نتيجة وهي  أن أهم ما يميز الأثرياء عن غيرهم من الناس العاديين  هو التركيز على أوقات الفراغ والعادات اليومية التي يستغلونها في القراءة والتأمل..

ويرصد موقع "فينانثاس بيرسوناليس" (finanzaspersonales) الكولومبي في هذا التقرير أهم تلك العادات اليومية التي تميز الأغنياء، والتي لا يدرك أغلب الناس أهميتها ولا يُقبلون عليها رغم أنهم يمتلكون الكثير من أوقات الفراغ يوميا.

وفي  كتاب "عادات الأغنياء"  لتوم كورلي الذي وثق  الأنشطة اليومية لحوالي 233 شخصا ثريا و128 شخصا يعيشون في ظروف عادية.

وخلال البحث حدد أكثر من 200 نشاط يومي يميز الأغنياء عن غيرهم، وخلص إلى أنهم يستفيدون بشكل رائع من أوقات فراغهم.

وحسب هذه الدراسة التي قام بها كورلي فإن 80% من الأثرياء يخصصون ستين دقيقة (60 د ) لتنمية مهاراتهم وتثقيف أنفسهم .

فمثلا بيل جيتس يقرأ 50كتابًا في السنة، بما يعادل كتاب كل أسبوع، وينشر على مدونته قائمة نصف سنوية بأفضل 5 كتب قرأها ليستفيد منها جمهوره، أما مارك زوكربيرج فأنشأ في عام 2015  ناديًا للكتب قدم من خلاله توصية لكتاب كل أسبوعين لملايين من متابعيه، فيما أعلن الثري المعروف وارين بافيت أنه يقضي معظم وقته في القراءة والتفكير (80%من يوم عمله).

والملياردير الأمريكي وارن بافيت الذي تبرع مؤخرا ب 3.6مليار دولار من أسهم مجموعته بيركشاير هاثاواي لخمس منظمات خيرية ، يقرأ كل يوم بين خمس وست ساعات في اليوم ويبلغ ما يقرأه يوميا خمسمائة صفحة(500 ص) ويطالع خمس جرائد يومية وعددا من المجلات والتقارير. 

 ومن بين الأثرياء رجل الأعمال الأمريكي مارك كيوبان الذي عرف بشغفه الشديد للقراءة والذي يقرأ أكثر من ثلاث ساعات يوميا ..

وأوبرا وينفري اكتسبت عادة القراءة منذ الصغر وكانت زوجة أبيها تحثها على تخصيص نصف ساعة للقراءة يوميا وهكذا أسست نادي أوبرا للكتاب الذي تشجع من خلاله الناس على القراءة أو اقتراح كتاب أو مجموعة كتب لمطالعتها...

فلا تستغرب إذن من نجاح هؤلاء الأثرياء الذين أسسوا لتقاليد النجاح باستغلال أوقات فراغهم بالقراءة النافعة بينما الفقراء يضيعون أوقاتهم في المقاهي والملاعب وفي القيل والقال و اتهام الأغنياء بأنهم فاسدون ولصوص و أموالهم من حرام بل حتى نظرتهم للمال بأنه وسخ الدنيا و أن السعادة في القليل ويعيشون على الأماني والأحلام الكاذبة فكن قارئا حتى لو لم تكسب المال فستكسب الغنى النفسي والثراء الروحي.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي 

...................................

المراجع :

1- أسرار يومية للنجاح ، هذا ما يفعله الأغنياء وقت الفراغ، موقع الجزيرة.

2- فوائد قراءة الكتب وكيف ساهمت في نجاح أشهر رواد الأعمال؟موقع خمسات.

3- محمد عبد الرحمن ، الوظيفة رجل أعمال والهواية القراءة،.اليوم السابع .

هذه انا اليوم في سابقة ادبية جديدة حيث أقدّم عملي بنفسي متقمّصة في نفس الحين دور النّاقد ومسؤولية المؤلّف. ابدأ بالإفصاح وأقول: هذه الرّواية واقعيّة. جذعها غَرسٌ في أحد اريافنا في الكاف. وأبطالها يعودون إلى عائلتي. ابدأ إذن بتناول الحديقتين: الأمامية والخلفية اللتين تحيطان بمتن الكتاب اي العتبات.

1- الحديقة الأمامية وهي العنوان والصّورة.

العنوان: وهو أوّل ما يلتقطه المتأمًل في الكتاب ابن العاقر هذا العنوان المخاتل الذي يستفز القارئ فيجعله يتساءل في الحين: كيفاش ابن العاقر؟

كيف يكون هذا الابن ابن امراة عاقر. وكيف يكون لامراة عاقر ابن؟ ما هذا الهراء!. وفي لمح البصر تلوح الصورة:

امراة بلباس ريفي حولي احمر او حولي خمري (ولنضع كلمة خمري نصب اعيننا). تظهر لنا من الوراء. مغطّاة الرأس. تسرع الخطى نحو الجبل

انظر خطواتها: ساق على الأديم والأخرى في الهواء!، تكاد تجري!/ لا يظهر لنا وجهها الذي ولّته شطر الخلاء مسرعة. فكأنّما قد خاتلت الكامرا فلم تستطع اللحاق بها لأخذ صورة لوجهها. أو ربّما كانت المرلفة تطاردها لتستفسر منها الأحداث وكانت تفرّ من أسئلتها.

ماهي الأحداث الممكنة:

المراة تمسك بيد طفل وتجرّه لسرعتها. الطّفل في خطاه المضطربة يلتفت إلى الخلف

ما باله؟ لماذا يلتفت

ما الذي يشغله؟

ماذا ترك وراءه؟

هل ترك أمّه؟

هل ترك أباه؟

ما الحكاية؟؟

وهنا تتدافع التأويلات2184 زهرة الحواشي

1- الإمكانية الأولى:

امراة عاقر تختطف صبيا من الدّوار الذي تسكن فيه وتهرب به إلى الجبل حيث يصعب اللحاق بهما.

2- امرأة ساورتها الشكوك في ادّعاء زوجها بأنًها هي العاقر فسعت إلى علاقة ثانية وأنجبت ولدا وهاهي تهرب من زوجها الذي لن يغفر لها فعلتها

3- امراة عاقر تزوًج عليها زوجها من امرأة ثانية انجبت منه هذا الولد... وهاهي العاقر تهرب به من فرط حرقتها بنار الحرمان من الأمومة.

عديد التأويلات تبعث عنها هذه الصّورة.

نمرّ إلى الحديقة الخلفية:

إذن هي رواية مربكة، تثير التساؤل تارة والحيرة اخرى

كما تلهب الروح شجنا في بعض مواقعها.وسنرى ذاك في تعاريج المتن.

الآن تعالوا معي ننصب السلالم لتسلق جدرانها والاطلاع على كهوفها. وهنا أشير إلى ما شعرت به وانا اكتب بعض المقاطع:

حين تتسلّل إلى دواخل الاماكن الاي تدور فيها رحى الرّواية أي "تتجسّس" على ابطال الرّواية كي تنقل أخبارهم إلى خارج تلك المغاور وتفشي أسرارهم وسرائرهم تشعر أحيانا بالخياتة...خيانة هؤلاء الابطال

تختطفها من واقعهم وتركبها صهوة قلمك قلمك فرحا بالغنيمة، ثمّ تحطّ بها الرّحال فوق بياض الورق مفشيا أخبارهم ينتابك السؤال ملحّا:

من سمح لك بذلك؟

نمرّ إذن إلى المتن:

يحتمل هذا المتن 138 صفحة.فقط

اي ان الرولية من نوع النّوفلّا..La nouvella

بحيث هي رشيقة القوام، محمرّة البشرة كلون مهرة أصيلة من ذاك الريف الزاخر بالجمال، لكنّها مكتنزة الأحداث، صاخبة تحملك إلى سهول يحاكيها خرير الجداول. عامرة المراعي بثغاء الأغنام وصوت الضّاوي والد ربح صادحا بأغاني عذبة من موروثنا الشعبي الذي يحكي قصص العاشقين التي تأجّجت نيرانها بين شبّان تلك المنكقة حينا مثل أغنية الضّاوي والد البطلة ربح "يا فاطمة لاث ريڨي... يا رفيڨي..." وعديد الأهازيج الرائعة من جهة وبينهم وبين أندادهم من " الهطّايه " اي أهالينا الذين يقبلون من الجنوب التونسي إلى الشمال "فريڨا" مع مواشيهم طلبا للعمل في فصل الصّيف موسم الحصاد فيعملون "حصّادة" عند أصحاب المزارع وكذلك للرّعي أي يُسرّحون مواشيهم في بقايا التبن وما تخلّفه آلات الحصاد من جهة ثانية.

ولطالما كانت هذه الرّحلات مورد رزق وحركة معيشية كبيرة تصل حنوب الوطن بمشاله وتعقد أواصر الأخوّة والمودّة والنّسب بين الطّرفين

- بل تظلّ موجودة إلى يومنا هذا في الأرياف .

وقد حدث شيء من هذا القبيل لبطل الرّواية علي بالخمري، شيء بقي في ذاكرته كالوشم تذكي حراحه ربح كلّما غنّت بصوتها الشّجيّ أغنية "وحش الصّرا وبروده".

هذا جانب من جوانب الرّواية

الخاصية الثانية

2- الحوار بين أبطال الرواية

اعتمدت فيه وسيلتبن:

كتبت الحوار الذاتي او الآحادي le monologue باللغة العربية الادبية.

امّا الحوارات الثّنائية فقد اعتمدت فيها اللجهة الأصليّة الريفية للأبطال والخاصّة بتلك الرّبوع حتّى يكون القارئ قريبا اكثر من الأبطال فيحسّ أنّه لصيق بهم يعيش معهم في حوشهم... يتابعهم و يراقب تصرّفاتهم ويتعرّف إلى عاداتهم.

وهنا نبلغ العنصر الثّالث الثالث، التّعرّف إلى بعض العادات والتقاليد عند أهالينا في ريف الرّواية من ربوع الكاف.

عادات حميدة تثري معرفة القارئ وتمتّعه في سرديّة سلسة الأسلوب صاخبة الوقع تطوّقه برفق حتّى لكأنًه يعيشها على عين المكان.

الميزة الرّابعة 4 للرواية:

تؤرّخ الرواية لبعض الأحداث الوطنية المهمّة التي مرّت بها تونس مثل أحداث معركة الجلّاز الأليمة.وإشارات أخرى.

ويبقى السّؤال قائما

صارخا

محتجّا عن هذا العنوان المخاتل المراوغ

ملحّا على الوصول إلى الإجابة:

كيف يصير للعاقر ابن؟

بل ربّما أبناء!!

أحداث رواية ابن العاقر مليئة بالمفاحآت المفاجئة حتّى أنّي انا شخصيا ما كنت لأصدّقها لولا أنّي عايشت ابطالها.

ومكتضّة بالحوادث المأخوذة من ارض واقعها.

أرجو ان يجد القارئ متعة في التعرّف إليها والتّواصل مع أبطالها.

وفي الختام

اقول بتحفظ:

ربّما يحسن بكل امرإة مازالت في طور الانجاب ولم تنجب بعد أن تطّلع على أحداث ابن العاقر وتسبر أغوار الرّواية...

***

زهرة الحوّاشي

 

اعلن مندوب فلسطين بــ«اليونسكو»: إسرائيل تعمدت استهداف 200 موقع تراثي وأثري في غزة، واتهم منير انسطاس المندوب الدائم لفلسطين لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، إسرائيل، بتعمد استهداف نحو 200 موقع أثري وتراثي منذ بداية الحرب على غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، رغم علمها بإحداثيات تلك المواقع، وقال انسطاس: «الاستهداف متعمد، ليس فقط للمواقع الأثرية كالمساجد والكنائس والمتاحف والمنازل الأثرية وغيرها من مواقع التراث، لكن أيضاً للمدارس والجامعات والمستشفيات، وأضاف أن المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي، أبلغت السلطات الإسرائيلية بإحداثيات مواقع التراث العالمي الموجودة في غزة بعد اندلاع الحرب كي لا تستهدفها، ومن ثم فإن إسرائيل «تضرب المواقع وهى لديها إحداثياتها، وأكد على أن القصد من وراء هذا التعمد هو «مسح البنية التحتية لغزة كي تصبح غزة أرض صحراوية غير قابلة للحياة»، مشيراً إلى أن المواقع التراثية والأثرية في القطاع واضحة مثل «المسجد العمري الكبير الذي يمكن رؤيته على بعد كيلو مترات وكذلك قصر الباشا الذى تم تدميره وكنيسة بروفيريوس، وأشار إلى أن مسؤولية اليونسكو لا تندرج تحتها حماية مواقع التراث العالمي فحسب، بل كذلك المدارس والجامعات والمراكز الثقافية ومراكز الصحافة والإعلام وأيضاً حماية الصحافيين الذين قتل منهم أكثر من 100 صحافي حتى الآن،، وعبر المندوب الفلسطيني عن أسفه لعدم قدرة اليونسكو على اتخاذ إجراءات عقابية تجاه إسرائيل كونها ليست عضوا في المنظمة، وإن كانت لا تزال طرفاً في الاتفاقية المؤسسة لها،، وعن تحريك دعوات جنائية ضد إسرائيل بشأن استهداف المواقع التاريخية، قال «الدعوات يتم تقديمها من قبل الدول المعنية أو الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن اليونسكو لا يمكنها رفع دعوى أمام الجنائية الدولية بهذا الشأن

دمرت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عشرات المعالم الأثرية التي كانت شاهداً على تاريخها الثقافي والحضاري الحافل والممتد طيلة قرون،، ووفق دراسة حديثة أجرتها مجموعة "التراث من أجل السلام"، دمر العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أكثر من 100 موقع أثري وتاريخي،، ومن أبرز المعالم التي تعرضت لأضرار كبيرة المسجد العمري الكبير، أحد أهم وأقدم المساجد في فلسطين التاريخية، وكنيسة القديس برفيريوس، التي يُعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، ومقبرة رومانية عمرها 2000 عام في شمال غزة، جرى التنقيب فيها العام الماضي فقط، ومتحف رفح، في جنوب غزة، الذي كان مكاناً يقصده الدارسون لتاريخ وتراث قطاع غزة الطويل، ولم تكن الحرب الأخيرة، هي الحدث الأول الذي تتعرض فيه المعالم الأثرية في غزة للدمار، إذ تعرضت عشرات المواقع، بما في ذلك المسجد العمري الكبير الذي طمست معالمه الآن، لأضرار في عام 2014 كما يشير تقرير صادر عن اليونسكو2021، أيضاً إلى المزيد من الدمار للمواقع الثقافية والتاريخية في غزة من جانب أخر، أقام فنانون فلسطينيون، معرضا للفنون التشكيلية يحاكي تاريخ قطاع غزة ومعالمه الأثرية، شارك في المعرض الذي أطلق عليه تسمية (شظايا المدينة)، نحو 28 فنانا وفنانة ضم أكثر من 100 عمل وأقيم داخل المركز الثقافي الفرنسي في غزة، وتخلل المعرض أعمال فنية صممت بتقنية الحفر والطباعة اليدوية لمعالم أثرية في قطاع غزة، وطوابع بريدية استخدمت في فلسطين خلال الحقب الماضية، بالإضافة لمعالم الحياة العامة القديمة، كما قامت وزارة السياحة والآثارالفلسطينية بأصدار الدليل المعالم الأثرية والشواهد العمرانية التاريخية في قطاع غزة، ويُفصح عن أسرار المقتنيات الحضارية المكتشفة من واقع الحفريات والتنقيب الأثري في باطن الأرض وظاهرها، ويحتوي الدليل على الشواهد التاريخية للحياة العامة، من أسواق وخانات وأسبلة وحمامات عامة، وأسبطة (السباط ممر ضيق مقوس بين منزلين) وزوايا، ومقامات ومقابر، ويُفرد الدليل مساحة مفصلة عن تاريخ المواقع الأثرية بشقيه الإسلامي والمسيحي، "ويوثق جزءا من الحضارة الإسلامية الأيوبية والمملوكية والعثمانية، إضافة إلى نماذج عن أنماط الحياة التعليمية والاجتماعية، من خلال دراسة تاريخ القصور والبيوت الأثرية.

***

نهاد الحديثي

حين بَلغتْ سنة (2023) العد العكسي في حياتها الفانية، اكتشفت ليلتها أن التاريخ ليس تعاقبا لعصور وأزمنة متتالية وبالدقة المتناهية، وإنما هو اقتراب لفهم ذات الشيء عند انفصال عن الماهية، وتعلم معرفة حدود التطابق والاختلاف. حقيقة، لم أَكنْ قَبْلها أعرف أن الزمن يتعاقب ويتطور من خلال الانتقال من حالة اللاتعيين إلى وضعية التعيين (تعريف الذات من خلال الآخر)، لم أكن أمتلك فكرة عن تلك الآليات العقلية لضبط ذاتي وهويتي وذاكرتي من شدة الخواء الذي احتواني في سنة (2023) نحو روح الامتلاء بقدوم عام (2024). وقفت عندها، على أن التطور في حركة عقارب الزمان يزدحم بدون تأن ولا توقف، أحسست بعدها أن الخواء في تفعيل بنية العقل، قد ُيلغي الماضي من ذاكرتي الضيقة بالتذكر، ومرات أخرى بالنسيان المُرْتَمي في التجريد.

لكن، تيقنت بدا، أن الاستسلام للعدمية الفكرية، قد يُمِيت الذات العارفة (الأنا)، فيما الامتلاء قد يحافظ في ذات الوقت على تعاقب تراث الأثر وتحركه من السكونية نحو التفاعل مع غياهب المستقبل، وقد يُنعش رمز التمثل (النسقية)، ويجعل أي موضوع ماثلا وحاضرا بقوة المنطق والعقل ويجابه ذات الهوية المنفردة، ويرسو عند طابع الوحدة المشتركة في الهوية الكلية لا الضمنية.

حين فكرت في نهاية سنة (2023)، عاينت أن الرجوع إلى الوراء يقودنا إلى ميدان أَهْمله فكر التخزين (الأنا الداخلي) حتى الآن من الاستذكار، وبقي استذكار النسيان هو المحارب الجدي للتذكر والبقاء. وقفت على رمزية بروز فجر الفكر (الحداثة البعدية)، الذي حتم لزوما نوعية منابر الاشتغال في المستقبل والحاضر، واستحضار الماضي، وليس بالرجوع إلى الوراء لاستذكار ذات متذكرة ومتفحمة بالمأساة، والعمل على إحياء وبعث الماضي (مهما كان)، ولكن لنشل الذاكرة من ذات التحجر، ونقد الذات المعرفية نحو فهم العولمة الكونية.

بحق الله، أننا نَضَعُ ذواتنا مرارا ضمن خندق ذهنية دوغمائية / متحجرة خَطِرة بالانعراجات، وقد تكون منتشية بالرسوبات التراكمية المتحركة. وقد تجعلنا الذاكرة المتكهربة (الاختلاف في خلق التوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل) نتهرب من المسؤوليات البَيْنية، ونشعر باستحقاق الركود التام، ونفقد طرق الاحتفاظ والاحتضان بفكر الاختلاف والتغاير، فيطفو  حتما الاختلاف الباطني أو الجوهري من فرضية غياب التطابق السفلي،  ومرات عديدة تتبعثر الأفكار حدة بحدود وحدة التطابق والتنوع. فالتناقض الحارق، هو تلك المجابهة التي تَفقِدُ فيها الأزواج (الاختلاف والتغاير) طريقها نحو الوحدة الوهمية. أما المفارقة القاتلة، فإنها تعمل على تصدع الوحدة النمطية التأملية، وبعدها  قد لم يعد بوسعنا تمثل الهوية بأنها الوحدة بذاتها في الفكر والذاكرة المشتركة.

فالتنوع التجانسي، هو اختلاف الانعكاس المقعر، وهو الاختلاف نفسه !! وبلا مناورات فلسفية تجريبية. إنه اختلاف متعين لوضعية خلخلة الذات وهز وحدتها تجاه صناعة المتغيرات التأملية. فيما استعراضات الاختلاف (الذات/ الآخر)  فهي مجرد اختلافات خارجية لا جوهرية (تُرَيِّبُ وَتَبْنِي). لحظتها لن يكون لرمزية المساواة والإنصاف اللغوية والاصطلاحية، إلا التطابق في حدود الرمزية والحساب الذهني الآلي، وليست هي المساواة العادلة في ذاتها (المقايسة والمعادلة)، إنها بحق حدود اكتشاف اللاتطابق من التطابق (الذات والهوية والفكر)، وتم يكون احتمال حدوث الانجراف الخاطئ في بناء المعرفة الجديدة.

***

محسن الأكرمين

- الفن عالم نوفره لأنفسنا فيعطينا ألوانه وتنوعه ووسعه..لا نكتفي منه ولا يتوقف عن تطويرنا..

- لوحات وحركات وأضواء لتجتمع المادة والتقنية في أعمال تشكيلية ثرية للتخلص من الأدوات التقليدية للرسم..

الفن والتلوين والذهاب الى التجدد والاختلاف مجالات حلم وبحث حيث الابتكار حيز للتعبير عن الدواخل والافصاح عن ما به تسعد الذات وهي تقول عوالمها الملونة منذ شغف بالفن من طفولة مقيمة والى الآن وبتناغم بين نظرات متعددة للعناصر والأشياء في كثير من الوعي بجماليات شتى وممكناتها الابداعية...

من هنا وهكذا مضت الفنانة في بداياتها الفنية في حوارها المفتوح مع القماشة لتكون عوالمها على اللوحة بتقنيات مختلفة كالرسم الخطي بالقلم أو الألوان المائية والأكريليك والطباعة وما الى ذلك...المهم ان تدعو الى عملها الفني المبتكر رغباتها في الاختلاف والتجدد..فالفن عندها عالم ابداع وجمال وتجدد.

الفنانة التشكيلية شيماء بن سليمان  تنوعت لوحاتها وأعمالها الفنية التي كان لها عبرها حيز من الحضور في النشاط الثقافي والمعارض عبر المشاركات المتعددة ومنها مشاركتها الأخيرة ضمن معرض صالون الشبان الذي أقامه اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين بفضاءات العرض برواق يحيى للفنون بالبالماريوم حيث تميزت بخصوصية لوحاتها المعروضة وفق اشتغالها الجمالي المتخير من قبلها ومنذ فترة في تعاطيها الفني التشكيلي.

هي فنانة تعد بالكثير في مجال الابداع التشكيلي وهي تحرص على تطوير تجربتها الفنية من خلال رؤيتها للفن والرسم والابداع التشكيلي عموما...

هي خريجة المعهد العالي للفنون الجميلة اختصاص رسم، رسامة مختصة في فن الطباعة باستعمال الأقمشة وهو موضوع تخرجها، أي استعمال الأقمشة بالإستعانة بمواد مختلفة كالأكرليك والحبر والماستيك لتحقيق أشكال مختلفة ناجمة عن ثراء الأنواع المختلفة من الأقمشة الحاملة للملمس والخيوط وأليافها المتنوعة الناجم عنها حركات مختلفة وأضواء لتجتمع المادة والتقنية في صنع أعمال تشكيلية متنوعة وثرية وذلك في سعي نحو التخلص من الأدوات التقليدية للرسم فتأخذ الأقمشة مكان ودور الفرشاة التقليدية.. مختصة في الرسم الغرافيكي باستعمال أقلام الرصاص مع الاتقان لابراز التفاصيل وابراز الملمس texture  في أعمال ثنائية الأبعاد وذلك بالاعتماد على ثنائة الضوء والظل...

وعن عملها الفني وبداياتها في التجربة تقول شيماء "...قمت بمجموعة صغيرة من الرسومات المعتمدة على الألوان المائية لإعجابي الشديد بالطبقات العديدة التي تسمح لي بابراز العمق والتباينات اللونية... مختصة في رسم portrait لاعجابي بتفاصيل الملامح البشرية والتي تعبر على هوية الشخوص.. أقوم برسم الأشخاص التي أحبها كتعبير عن المحبة والوفاء.. لا أقوم برسم ما لا يحمل فضولا داخلي.. كان ذلك في علاقة بالأعمال المجردة أو الواقعية... جميعها أعمال تنتمي لي على مستوى الفكرة أو التقنية التشكيلية... أحب تدريس الأطفال لمادة الرسم، ففي ذهني هم أساس التطور الفني في العالم العربي والذي يعتمد على ارادتهم وابداعيتهم... البحث في خبايا الأطفال وأحلامهم وتشجيعهم على التعبير عليهم وعرضهم بكل جرأة... الإرادة، الحلم والإبداع هي ألفاظ تتكرى في ذهني وهي التي تدفعني نحو القيام بأعمالي وتقودني للأطفال فالأطفال شديدو الحساسية والابداعية ويمثون المرحلة العمرية الممتازة التي وجب أن يطور فيها الطفل مهاراته وأن يكتسب المعارف الأساسية التي سيبني فيها مشروع حياته ومسيرته وهذا الرأي ينطبق على الموسيقى والمسرح والرياضة وحتى العلوم والأدب.. فكل المجالات وجب لمسها برغبة وشغف.. فلن تتميز في القيام بشيء إلا وان كنت تعطيه من قلبك فلا تتعب ولا تستسلم.. وبعد التضحية من أجل الحلم تجد نفسك اكتسبت زادا معرفيا وحياة تحيطك بكل الأشياء التي تحبها... الفن هو عالم نوفره لأنفسنا فيعطينا ألوانه وتنوعه ووسعه... لا نكتفي منه ولا يتوقف عن تطويرنا..".

شيماء بن سليمان فنانة تشكيلية من جيل الشباب تعمل في دأب وحرص وشغف فني حيث الرسم والفن عندها عالمها المخصوص الذي تطور من خلاله تجربتها التي تعمل على تتويج مرحلتها المنقضية بمعرض شخصي يضم جانبا من لوحاتها الفنية المنجزة الى الآن في هذه البدايات المتواصلة مع الفن التشكيلي.

***

شمس الدين العوني

صاحبة الوحي مجموعه قصصيه تعد من أشهر أعمال الكاتب الإصلاحي الشهيد أحمد رضا حوحو، وهي تعكس أسلوبه ونظرته وهدفه من الإبداع، وانك لتتعجب أن تجد كاتبا إصلاحيا ينتسب إلى جمعيه العلماء المسلمين،  ينتمي إلى ذلك العهد، يكتبُ بذلك الانفتاح وبالأخص الانفتاح على عالم الحب والعلاقات العاطفية بين الرجل و المرأة!

وقصص المجموعة عددها تسعاً، كلها تقريبا تعالج هذا الموضوع، الحب والتقاليد، وتدخل الآباء، ودور المال في التفريق بين المحبين، إذ طالما استخدم الأغنياء سلطانهم المالي لمحاولة شراء قلوب الصبايا المتعلقة بمن تحب من الفقراء المعدمين!

ثلاث قصص فقط حادتْ عن هذا الموضوع، وهي أيضا قصص جميله وممتعة؛ ثري الحرب التي يمكن أن تكون عنوانا كبيرا لكل أولئك الانتهازيين الذين يثرون فجأة مستغلين الظروف والفاقة، قصة مسرحية عنوانها أدباء المظهر! وتبحث الفروق بين الأدب الحقيقي والأدب المزيف، وقصة الفقراء التي نسجها على منوال رواية البؤساء لفيكتور هيغو ...

قصص المجموعة كلها اجتماعيه يغلبُ عليها الطابع الإصلاحي، ومحاولة إصلاح نظرة المجتمع الظالمة إلى عواطف الحب وأحاسيس المحبين..

صاحبة الوحي، خولة، القبلة المشئومة، جريمة حماة، فتاة أحلامي، صديقي الشاعر؛ قصص تتناول موضوع الحب كعاطفة سامية تختلف تماما وتبتعدُ جدا عن الإباحية والجنس، الحب في أجمل صوره، في ذلك الزمن ليس في الجزائر وإنما في كل البلاد العربية كان الكاتب يتحرج من الحديث عن الحب كعاطفة جياشة وذلك بسبب عصور الانحطاط، بينما تراثنا الأدبي العربي والإسلامي مليء بقصص الحب كضرورة من ضروريات الحياة، والحب ليس الجنس والإباحية أو الخيانة والتلاعب بعواطف الصبايا!

في مجموعة صاحبة الوحي عالج الكاتب سلوك الناس الاجتماعي والنفسي داخل مجتمع محافظ، يحاول أن يصون تقاليده وقيمه الدينية والاجتماعية، ولم يشر الكاتب في المجموعة القصصية، لا من بعيد أو من قريب إلى تأثير الاستعمار الفرنسي في المجتمع ...

ربما لأن المجموعة نشرت سنه 1949، قبل اندلاع الثورة التحريرية الكبرى بسنوات....

***

بقلم عبد القادر رالة

إذا كان أي نص تشعبي يعكس إنجاز الكتابة الأدبية والفكر الإنساني، وإذا كان أيضا يمثل صورة إيجابية عن أي مجتمع، ألا يمكننا أن نبني على هذه الاستعارة رؤية جديدة للعالم وللفلسفة ؟ هكذا طرح ليفي وبولتر سؤاله في هذا المجال المتشعب:

يمكن اعتبار مجموعة الرسائل والتمثيلات المتداولة في مجتمع ما، كنص تشعبي كبير ومتحرك، ومتاهة بمئات التنسيقات، وبألف طرق وقنوات حيث يشترك سكان نفس المدينة في العديد من العناصر والوصلات المتشابكة الضخمة والمشتركة. كل شخص يمتلك رؤية شخصية، وجزئية بشكل رهيب، مشوهة بواسطة عدد لا يحصى من الترجمات والتفسيرات. هذه الروابط التي لا داعي لها، وهذه التحولات التي تديرها الآلات المحلية، مفردة وذاتية، المرتبطة بالخارج، هي التي تعيد إدراج الحركة، والحياة، في النص التشعبي المجتمعي الكبير وبالتالي إلى "الثقافة" بشكل عام .

يمكننا أن نتوقع من العلماء المعاصرين أن يتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن كتاب الطبيعة هو نص تشعبي بامتياز، ولغته هي الرياضيات الحسابية للرسوم البيانية الموجهة. إنه احتمال مثير للاهتمام. لأنه إذا كان العلماء يدرسون ترابطية الطبيعة، بينما يقرأ آخرون النصوص التشعبية، فيمكن عندئذٍ توحيد رؤيتنا للطبيعة مع تقنيتنا في الكتابة بطريقة لم نشهدها منذ العصور الوسطى.

إن استفزاز النص التشعبي هذا، كما رأينا أعلاه قد سخر منه البعض الذين يتساءلون فيما إذا كان النص التشعبي يخفض مستويات الكوليسترول - وبالتالي يصبح سلطان الاستعارات، والاستعارات الفائقة.

لطالما كان اللجوء إلى الاستعارة الحسابية يبدو لنا غريبًا إلى حد ما : فنحن نصنع آلات هي الأنسب للإنسان من خلال وضع أنفسنا في فرضيات تقوم على عمل العقل ونصرخ من أجل تحقيق المعجزة لأن الآلات المذكورة ستؤكد هذه الفرضيات . لكن هذه بلا شك نظرة كاريكاتورية إلى حد ما للأشياء. إن المحاكاة والافتراضية تعبر عن الطريقة التي يستخدم بها تطوير التقنيات الجديدة المعرفة المتواضعة جدًا عن الجنس البشري .

***

مترجم بتصرف

إبراهيم ناجي بن أحمد ناجي بن إبراهيم القصبجي، شاعر مصري تأريخ ميلاده (31\12\1898)، وتأريخ وفاته (24\3\1953)،  من المنصورة، وقد أصيب بمرض السكر في بداية حياته، وتوفي في العقد السادس من عمره.

ومن ألقابه (طبيب الشعراء)، (شاعر الأطباء)، (رئيس الرومانسية الشعرية العربية).

تخرج من كلية الطب سنة (1923)، وإنطلق بشعره العاطفي الرهيف، وهو صاحب قصيدة الأطلال التي تغنت بها (أم كلثوم).

بدأ حياته الشعرية بترجمات لشعراء فرنسيين (دي موسية، توماس مور، بودلير)، وإنضم لجماعة أبولو سنة (1932)، وتعرض لنقد شديد من العقاد وطه حسين.

وكان ناثرا قديرا وكاتبا موسوعيا، ويُقال أن كتاباته النثرية أكثر من الشعرية، لكنها لم تلق الإهتمام الكافي.

ترجماته: الجريمة والعقاب لديستوفسكي، وعن الإيطالية (الموت في إجازة)، ولديه دراسة عن شكسبير.

ومن دواوينه: وراء الغمام (1934)، ليالي القاهرة (1944)، في معبد الليل (1948)، الطائر الجريح (1953).

وكانت هذه الدواوين ترافقني في مرحلة الإعدادية، وأترنم بها ماشيا على سدة سامراء، عندما كانت زاهية وتسر النظر، بترقرق المياه، وهفو الأطيار، وتقافز الأسماك، والأفق الساحر، والموج الهادر،  فكان لها وقع ممتع في النفس والأعماق الطافحة بعشق الجمال.

وكم رددنا كلمات أغنية الأطلال في المساءات العذبة:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحا من خيالٍ فهوى

إسقني واشرب على أطلاله

واروي عني طالما الدمع روى

....

يا حبيبي كل شيئ بقضاء

ما بأيدينا خلقنا تعساء

ربما تجمعنا أقدارنا

ذات يوم بعد أن عز اللقاء

فإذا أنكر خل خله

وتلاقينا لقاء الغرباء

ومضى كل إلى غايته

لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

**

وهي من ألحان رياض السنباطي وغنتها (أم كلثوم) عام (1965)، ولا زلت أستمع إليها لعذوبة كلماتها وروعة لحنها ومعانيها.

ولقصيدة الأطلال قصة معروفة.

تحية للشاعر الطبيب الأديب الدكتور إبراهيم ناجي في ذكرى وفاته، وبأمثاله تفخر لغة الضاد الأبية!!

و"هل رأى الحب سكارى مثلنا"؟!!

***

د. صادق السامرائي 

كان عائداً من وحدته العسكرية بإجازة دورية، ولم يكن يكترث لحالة الذعر التي ارتبطت بمصير وطن، افترست روحه أجنحة الموت، بعد أن تساقطت جسور العابرين، وعُطلت حركة السير بين المدن، لتطفو الأرض وسط خلاء يقطنه برد الخوف، والجوع، والألم، وينسف احشاءه ليل الروع.

**

نُسِفَت محطات الكهرباء، والوقود، ومخازن الغذاء؛ السايلو، وتحطمت معالم البنى التحتية، بما في ذلك مركز الطاقة الكهربائية، والمستشفيات، والمدارس، ومراكز الخدمات المدنية، والمؤسسات الحكومية.

**

باتت حركة السير أشبه بشريان جسد ينخر روحه الهلع؛ جنود يرتدون بزاتهم العسكرية بطريقة مبعثرة، سيطرات الانضباط العسكري اختفت تماماً، انقطعت الاتصالات الخاصة بخدمات شبكات الهاتف ، سيارات النقل القلاب حلت محل الباصات، أوالحافلات، لنقل مَن يريد الوصول إلى بيته، أو وحدته العسكرية.

**

ابتدأت المنشورات التي كانت تقذف بها طائرات قوات التحالف إلى ضباط الجيش، والمعسكرات، تدعوهم فيها إلى ترك معسكراتهم، تؤثر في نفوس الناس؛ ذلك تزامناً مع دعوتهم إلى استلام المؤن، والمساعدات الغذائية، والماء تحت ظل حصار شامل.

**

افترش نهر الفرات ذراعيه بعد انقطاع مياه الشرب، بينما حل خشب الأشجار محل الوقود، وعلى غرار ذلك تحولت قناني الزجاج إلى مصابيح، على نمط الفوانيس حيث تمرر قطعة قماش منقوعة بالنفط عند حافة تمر، أو عجينة خبز تمسك نهايتها البائسة، لتطلق الضوء باهتاً.

**

أصبحت العبارات، والزوارق النهرية وسائل نقل معتمدة للمسافرين، والقادمين من ثكناتهم العسكرية.

**

غدا الانتقال من مدينة إلى أخرى يحتاج إلى يومين وثلاثة، هذا لمن يمتلك القدرة على التزاحم مع المسافرين، أو لمن يحالفه الحظ؛ ذلك بعد أن أضحت معالم الحياة أشبه بمقابر تتوسطها أطلال كيانات هشة.

**

الناصرية في ذلك اليوم اختفت معالم ملامحها، وتغيرت صور شوارعها، ومحلاتها وسط عتمة من السواد لا نظير لها حتى في عالم الأشباح، أو في المنام حين يجد الإنسان نفسه قد ضل الطريق وهو يمشي في غياهب ليل بلا عيون، لولا وميض طائرة حلقت، لتعقبها صفارات إنذار، ثم انفجار بناية مجاورة ، لما يسمى بدائرة الدفاع المدني.

**

واصل السير باتجاه الشوارع المتاخمة لمكان سكناه، مع شتاء يوم ممطر، مثل معوق حرب يتكئ على صولجان جراحه في شوارع مقفرة، يستل بقايا أنفاسه وقد أجهده التعب، والجوع والعطش، أملًا بلقاء محبيه، وزوجته التي تركها حاملاً تحت رعاية أهلها قبل أن يغيب.

***

عقيل العبود

.....................

* يوم فرضت قوات التحالف سيطرتها على المدن، وما سبق "انتفاضة شعبان".

* أضطر الناس إلى تسخين الماء، وتنقيته بقطع قماش بعد انقطاع مياه الشرب، واستعمال القناني الزجاجية للإضاءة.

* التكملة ستأتي إن شاءالله. 

في الواحد والعشرين من آذار الجاري صادف يوم الشعر العالمي، وهو مناسبة يحتفل فيها العالم بفن الشعر، الذي يعد أحد أشكال التعبير وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، فضلًا عن الاحتفاء بالشعراء المبدعين الذي تحظى اسهاماتهم بتقدير عميق وكبير.

إنه يوم مكرس للإلهام والإبداع والتثقيف وتقدير المشاعر الإنسانية التي يمكن أن يخلقها الشعر، وتكوين علاقات ذات مغزى، وتوسيع مدارك الفرد حول التاريخ والثقافات، ومنح الشعراء التكريم لتألقهم الإبداعي، وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية.

والاحتفال بالشعر هو إنصات للصوت الرقيق الهادئ الهامس للإنسان، لصوت دواخله، الصوت الروحي الوجداني الذي كلما علا وصدح إلا وصدحت مع مشاعر المحبة والسلام والتسامح. فهو الصوت الداعي باستمرار إلى إنسانية الإنسان، والانتصار لقضاياه، في معارك الحرية والحضارة والخلاص من القهر والظلم والاستغلال.

إن الحاجة للشعر تتعاظم من أجل ان يعيش الإنسان بسلام على هذه الأرض، فهو الصوت الخفي الوامض داخل الإنسان، وطوق النجاة من الظلاميين وزارعي الأحقاد والكراهية ومشعلي الحروب، وهو قناعتنا وإيماننا بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة – كما قال درويشنا.

والاحتفال بالشعر هو دعوة للإنسان كي يرى صوته في مرآة وجوده، فجذوة الشعر وناره لا ولن تنطفئ، وإن خبت بين حين وآخر، إذ أن الشعر هو الوجه الأكثر صفاءً ونقاءً للإنسان في مسالك ودروب الحياة الوعرة، وفي عالم مليء بالألغام.

والشعر هو الأقرب إلى مشاعر الأفراد ومطالبهم وآمالهم، والمجسد لطموحاتهم، والمعبر عن أحلام الشعوب المقهورة ويمدها بالنفس والشجاعة والمقاومة من أجل تغيير العالم والمناداة بالمساواة، واحترام الهويات الثقافية والمعرفية.

والشعر هو صوت الحب الذي تريد قوى وأصوات الظلام والإرهاب أن تخنقه وتكتمه داخليًا في نفوسنا. فلنواصل كتابة الشعر ولنحتفل به إعلاءً لصوت الحب، الذي لا صوت يعلو عليه، ونشر ثقافة التسامح والمحبة والامن والسلام في شتى أصقاع الدنيا وأنحاء المعمورة، وكل يوم عالمي للشعر والبشرية والشعراء بألف خير.

***

بقلم: شاكر فريد حسن  

الحسين بوخرطةبشرى ترجمة روايته "مرافئ الحب السبعة" بالحروف اللاتينية

تحية للعلامة الدكتور علي القاسمي، الروائي والقاص والفاعل اللغوي الفذ في صناعة المعجم العربي التاريخي والأديب والمفكر المتألق.

تحية للأخ العزيز الأستاذ مصطفى شقيب، الذي متعني بتواصل زاخر بالحب والمعزة.

هنيئا للعالمين العربي والمغاربي بترجمة هذه الرواية القضية إلى الفرنسية. إنه فعلا ولوج إلى الفضاء الأدبي الفرنكوفوني الرحب بأدواره الريادية غربا. إنها خطوة في العالمية، ستليها بلا شك خطوات أخرى، بلغات حية كونية، ستزكي لا محالة الهاجس المشترك والدائم الذي يخالج النفوس باستمرار، إنه هاجس تثبيت مسار جديد في مجال التلاقح الأدبي والفكري والعلمي والإنساني ما بين الشمال والجنوب.

فالحديث عن علي القاسمي في هذا الشأن، كإنسان عربي، ليس بالأمر العادي، بل هو حديث عن قداسة قضية المواطن العربي المكافح المبدئي والمتعلم والمناضل، الذي الصق القلم بأصابعه وسخر عقله ووجدانه طوال حياته للعلم والمعرفة وخدمة الأجيال العربية من الخليج إلى المحيط. ذكره في تعليق أو مقال جعلني أحس أن الأمر يتطلب الحكمة والتبصر واستحضار حق أمة حضارية عريقة تاريخية في فرض الذات كونيا. القاسمي نموذج رجل أمة ارتقى وجدانا وعقلا ووجودا ذاتيا متوغلا في التراكمات الفكرية والعلمية المتفوقة في العالم المعاصر منذ صباه. هو كذلك نموذج رجل قدوة، قدم للعرب والمغاربيين تجربة لا تتيح خيار الحياد. تفاعلاته القوية عبر الترجمة مع المنتوجات الفكرية الكونية قدمت خدمات ثمينة للأجيال منذ عقود، ويستمر بنفس الإصرار بالرغم من تقدمه في السن.3138 النسخة الفرنسية

وهنا لا يمكن أن أتردد في اعتبار ترجمة روايته: "مرافئ الحب السبعة" للغة الفرنسية، كونها اعتراف واضح بقامة فكرية عربية لم تستوعبها الأنظمة العربية العسكرية داخل فضاء ترابي فسيح ومقدس، ارتقت حضارته تاريخيا بأمجاد معارفه ومروءة ناسه. رتب حاجياته الخاصة في حقيبته، وغادر شابا موطنه باحثا بعزم الكبار عن العلم والمعرفة ومقومات التأثير القوي على الوعي الجماعي العربي. لقد غادر بلا شك ليس بدافع الخوف على نفسه، بل هلعا من وأد إرادة وعزيمة شاب متشبث بصعود الجبال وجلب المنفعة لأمته. لقد خطا خطوات ثرية عبر سنوات عمره في العالمية، ليتوج مساره بخطوة رسمية إضافية، بقيمة مستحقة، على طريق العالمية وتصالح الحضارات وخدمة المصير المشترك.

وفي الأخير، أرفع قبعتي عاليا تمجيدا واحتراما لجهود أخي وعزيزي المترجم الأستاذ مصطفى شقيب، الرجل الذي تذوق بلاغة وجاذبية الكلمة والعبارة العربية في هذه الرواية، مشددا على تقديمها برقي للعالم بلغة بلد موليير (جُون بَابتِيسْت بُوكْلَان).

الشكر والامتنان موصول كذلك لأستاذة الأدب المقارن بجامعة غرناطة الدكتورة ماري ايفلين لوبودير في تقويم ومراجعة النسخة المترجمة.

فهنيئا للإنسانية بهذا المولود الأدبي العالمي، مولود بعبارات تقشعر لها الأبدان، وتنتعش بها الأماني والأحلام بغد أفضل.

وتعميما للفائدة بمناسبة هذا الحدث التاريخي الرائع، أقدم في هذا الموضوع، فيما يلي مقال الأخ العزيز المترجم الأستاذ مصطفى شقيب.

 

الحسين بوخرطة

......................

* يمكنكم قراءة المقال على الرابط ادناه

https://www.almothaqaf.com/d/e2/960259

 

 

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: ما الذي يجعلنا نحب الأم أكثر أو الأب اكثر؟ .. تارة نميل لها وتارة نميل له ! .

شهريار: مخزونات العقل الباطن لا تتغير إلا اذا سعى أحدنا لذلك جاهدا، ومن غير تدبير منّا فإننا نمر بمواقف تعيدنا الى مشهد في الذاكرة يزيد من تعلّقنا بالأب او الأم، في تلك اللحظات حينما نوقن أن تصرفا ما لأحد الطرفين – كنّا نحسبه فيما مضى خطأً جسيما – كان في غاية الصواب، وبحكم خزنه في العقل الباطن نحسن التصرف ونتجنب موقفا مهلكا، هنالك نُقّر لأحد الوالدين بالحكمة وبالمسامحة عن ذنب لم يرتكبه أبدا، ومن غير أن نشعر أو نفكر يرى أحدنا نفسه وهو يميل الى الطرف الآخر بخلاف الأيام او الاعوام السابقة، وهكذا نحب الأب أكثر او الأم أكثر، فكما إن الحياة مراحل والإدراك مراحل فالمحبة لكليهما مراحل.

قمة المسامحة والعفو يا شهرزاد لأبٍ أو أمٍ فارق أحدهما أولاده في ليالٍ حالكات، أو أيام مهلكات، ثم عاد بعد سنين طوال عانت خلالها العائلة أعظم معاناة ليطلب الصفح من أبنائه وبناته، إنها أقسى لحظات تمر على الطرفين، فالأول تتجلى أمامه كل ذنوبه، ويقر بتقصيره وعظيم عيوبه، والطرف الثاني (الأبناء والبنات) تتكالب أمام عينيه ذكريات لا طائل له بها، تجعل قلبه كالصخر نحو أبيه العائد او أمه العائدة بعد طول غياب، هنا تكون الكلمة الفصل لعقل راجح، أو قلب مجروح وهيهات أن يجتمعا على رأي واحد في مثل هذا الموقف، فأمّا العقل الراجح فهو يعاني من تربية أولاده، ويدرك قيمة رسالته، وعظيم منزلته عند ربه، فيصفح ويسامح، وفي اللحظة التي ينطق بها: (أسامحك أمي، أغفر لك أبي) يعود صغيرا ليرتمي في أحضانٍ افتقدها لأعوام وأعوام، ويشعر أن الدنيا باسرها قد أصبحت ملك يديه بعد طول انتظار . 

وأمّا القلب المجروح فيجد الفرصة المؤاتية للإنتقام ممن (ظلمه) وحرمه من أبسط حقوقه في الحياة، إنه كيتيم قضى عقدا من الزمن وهو يتلظى بين نيران الحرمان وآلآلم الفراق، وهاقد جاءته الفرصة ليداوي جراحه، فيشتاط صاحبه غيظا وينسى أن من يقف أمامه كان سببا لوجوده في هذه الدنيا، وأنكل مايقال في مثل هذه الأحوال: (لماذا عدت؟..لا حاجة لنا بك الآن) .

والغالبية العظمى ممن يعانون صدمة اللقاء مع الأب أو الأم المُفَارِقَين لايمكنهم المسامحة من غير تفريغ (شحنات سلبية) عاشت معهم سنين طوال، إن أحدهم كبركان هائج ينتظر هذه اللحظة (منذ قرن) ليرمي بحممه، ويحرق ماحوله قبل أن يعود الى حالة السكون .

وهنا أنصح كل أب فارق أبناءه وبناته ليعيش في كنف آخر، او أمٍ رَمت بأولادها في أحضان جدتهم وجدهم لتعيش عالما آخر، أن يستعدا لاستقبال تلك الحمم البركانية، وأن يصبرا على ماكانا سببا في تخزينه وإطلاقه من قساوة وغلظة وجفاء، وأن يعاودا الكَرةَ مرات ومرات حتى تسكن تلك العاصفة، وحينها سيتفقُ القلب مع العقل على أعظم صَفْحٍ عرفه التاريخ، إنها مغفرة ومسامحة على عذاب طويل لم يتوقف في أي لحظة أو ساعة أو يوم أو عام كان فيها الأب او الأم متنصلين عن أسمى رسالة في الحياة .. رسالة الوالدين .

ولي صديق من أهل البصرة .. رحل أبوه هربا من الخدمة العسكرية إبان حرب الثمانينيات من القرن الماضي، كان لصاحبي (ذو القلب الكبير ) أخَوَان أصغر منه وأختان تكبرانه بعامين وثلاثة، وكانت أمه بسيطة التعليم، وأكبر أختيه في الخامسة عشرة، لم يترك الأب حتى رسالة وداع، وأبلغ الأم بأنه سيعود ما أن تتوقف الحرب .

علمت الأسرة بعد غيابه عاما أنه في ألمانيا، ومرت ثلاثة أعوام من غير أن تصل منه رسالة واحدة، الأم طورت من مهاراتها في الخياطة لتقوم بدور الأب.

مرت 17 عاما وهي تواصل الليل بالنهار مجتهدة صابرة على الفاقة، وترفض أن يترك أي من أولادها الخمسة الدراسة، كانت تأتيهم إعانات من جدهم، وكل ذلك لم يكن كافيا لتوفير عيش كريم.

بعد تغيّر الحال، وفي نهاية عام 2004 ظهر الأب فجأة ليجد ابنتيه متزوجتين ولكل واحدة منهما 3 أولاد، أمّا الأخَوَان الأصغران فقد قتل أحدهما إبان غزو العراق، والثاني يدرس في المرحلة الاخيرة من كلية الهندسة، أمّا صاحب القلب الطيب فلم يكمل ألا الدراسة الإعدادية، وهو في ذلك اليوم من أشهر طباخي البصرة، متزوج ولديه ولد وبنت، ومازال يعيل الأسرة الكبيرة، وقد رحلت أمه منذ أشهر حسرة على ولدها الشاب وسنين طوال قضتها في الكد على أبنائها وبناتها .

يقول ذو القلب الكبير إنه تفاجأ برجلٍ وقور بهندام مترف يطرق باب الدار الداخلية .

- عفوا من أنت؟ ولماذا دخلت الى الدار من غير استئذان؟ !.

- ألم تعرفني .. أنا أبوك .

في تلك اللحظات .. مرت الذكريات الأليمة في رأسه كفيلم روائي يوثق مايزد عن عقد ونص من الحسرات والآلام والخوف والفاقة والحرمان .. إعتلته رعشة غير مسبوقة وأصابه صداع شديد، ومن غير أن يدري تساقطت دمعاته على شفتيه لتلامس إبتسامة حائرة، طال سكوته وهو ينظر الى (الأب الضال) الذي عاد للتو يطلب الصَفْحَ الجميل، كان يتقلب بين عبارات تطرق مسامعه، وأخرى تدور في رأسه .

- ولدي سامحني أعرف أنني مقصر في حقكم، لم يكن ذلك بإرادتي، كنت مجبرا على الهروب، كان الموت قريبا مني في تلك المعارك الطاحنة.

نظر الى أبيه وقد علَتْ الدهشة محياه وأجابه من غير أن ينطق بكلمة واحدة:-

- نحن خضنا معارك من نوع آخر، كادت الفاقة تقتلنا، وغيابك طالما أشعرنا باليتم الدائم .

- انا لم أكن قادرا على الإتصال بكم، وعشت لأعوام طويلة في فقر شديد .

- لم يكن فقرك كفقرنا وها أنت ترتدي بدلة أنيقة تدل على غناك .

- ولدي .. أرجوك سامحني، سأعوضكم عما فاتكم .

- هل ستعوضنا عن الحرمان منك؟ أم عن سنوات القحط؟.. عن مستقبلي الدراسي الضائع؟ .. عن أمي التي ماتت من حسرتها .. عن أخي؟.

- ولدي ..هل تسمعني؟ .. لماذا لا ترد عليّ؟ .

رفع ذو القلب الكبير يده اليسرى طالبا من أبيه أن يسكت، تأمل إبنه وإبنته اللذين يقفان عند قدميه ويرفعان رأسيهما إليه، كانهما يسألانه عن دمعاته، وعن هذا الرجل الغريب الذي يقف أمامه؟، مسح بيده اليمنى على رأسيهما، وهو يقول مع نفسه: هل سأقف كموقفه المخزي هذا؟ .. هل سأتنصل عن مسؤولتي تجاه أسرتي في يوم ما؟.. هل ستسامحني زوجتي وأولادي انْ انا فعلتُ ذلك؟.

قرر في لحظتها أن يسامح أباه .. مد ذراعيه لمعانقته حيث بكيّا طويلا وبحرقة، ومن يومها صار مدافعا عن أبيه أمام امتناع أحدى أختيه وأخيه، ومازال متكاتفا معه حتى إلتأم شمل الأسرة .

لقد تجلت يا شهرزاد في تلك الدقائق العصيبة أرفع مشاهد العفو،  وأرق معاني المحبة، أنْ يصفح أحدنا عن أكثر من عقد ونصف من القهر والضياع وإنتظارٍ للمجهول بسبب قرار طائش فذلك عفو ما بعده عفو أرقى ولا أسمى منه، إلا محبة متعاظمة تزيد من تلاحم الأسرة، وتعوضها بشكل ما عن سنين الحرمان والفقر والقهر .

 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

......................

* من وحي شهريار وشهرزاد (41)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

 

ايناس نازلي نعيش ونحن على بعد أيام قليلة لتوديع سنة منتهية بحلوها ومرها، واستقبال عاما جديدا ندعوا أن يحمل بدايات أفضل ووعودا جديدة بهجة الاحتفالات برأس السنة الجديدة كعادة متوارثة منذ القدم يقال أنها تعود إلى أكثر من 500 سنة بعد ميلاد المسيح بن مريم عليه السلام، حيث تكون قد عرفت في حوالي عام 1500 في ألمانيا أولا لتمتد إلى كامل دول القارة الأوروبية بعد مرور قرن من الزمان وتنتشر لاحقا إلى القارتين الأمريكيتين ثم إلى دول العالم، ويقال أن أول احتفال بمولد المسيح أقامه القديس يوسف في العام الأول من ولادة المسيح بمدينة الناصرة مسقط رأس السيدة مريم العذراء وبها بشرت بمولد السيد المسيح حيث ولد بها وقضى فيها معظم سنين حياته حتى نسب إليه إذ كان يدعى بالناصري، ومنها اشتق أسم النصارى، وهناك وثائق تذكر أن أول من احتج على إقامة هذه الاحتفالات في دول العالم هو المصلح الديني" فون كايزر" وأعلن احتجاجه في خطبة ألقاها من أعلى برج أحدى الكنائس في ألمانيا عام 1508هاجم فيها بشدة ما اعتبرها بدعة جديدة تتمثل في تزيين صالة الجلوس بالبيوت في يوم ميلاد المسيح من كل عام بأغصان الصنوبر، إلا أن احتجاجاته لم تلق آذانا صاغية بل بالعكس واصلت الكثير من العائلات الألمانية إقامة الاحتفالات بصخب أكبر حتى كان الكثيرون من الفتيان والفتيات يقتطعون المال من مصروفهم اليومي طوال السنة لشراء ما أصبحت تسمى صراحة وجهرا " شجرة الميلاد " وشراء كعكة العيد وملحقاتها من أشرطة الزينة الملونة التي يقال أن أول من وضعها هو أحد الرهبان البروتستانتيين خلال احتفاله البهيج الذي أقامه مع أفراد أسرته بالمنزل الذي يملكه بمدينة ستراسبورغ عام 1605 حيث وصف حينها الاحتفال بأنه " رمز للتواصل من عام إلى آخر يتجدد فيها الزمن "

عيد الميلاد المجيد في التاريخ هو يوم 25 ديسمبر، ويذكر علماء الفلك أن يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل فيه الأرض إلى آخر مدى لها عن الشمس ويكون النهار في أقصره، وفي اليوم الموالي تصعد الشمس، لذلك كان يعتبر هذا اليوم، يوم ميلاد الشمس، وقد احتفل به الوثنيين كعيد آلهة الشمس، واستمر ذلك إلى أن ظهرت المسيحية .

تمثل شجرة الميلاد في نظر الملايين من البشر في العالم رمزا مقدسا عرفته وتعاملت معه شعوب الحضارات القديمة، فزين سكان روما منازلهم وشرفات بالأشجار في احتفالات بهيجة تقام في الأسبوع الأخير من كل عام، وفي أثينا كانت تقام الاحتفالات حول شجرة عظيمة يتم تثبيتها في منتصف المدينة وتسمى " شجرة العالم "، وفي وقتنا الحاضر يحتفل الملايين من الناس في بقاع الأرض بالمناسبة  بتزيين الشجرة والتفنن في تجميلها بالكرات الزجاجية الملونة والأجراس والزهور لما تمثله من قدسية محببه إلى النفس إلى جانب اعتبارها رمزا لطقوس الاحتفالية المميزة بأعياد رأس السنة ، وللشجرة مكانة عالية وقدر كبير في نفوس الناس حتى أصبحت عادة شائعة عند الكثيرين يبدعون في تزيينها  وتنصيبها في مكان بارز بالمنزل قبل موعد العيد بعدة أيام وتبقى في موضعها حتى عيد الغطاس"

بالعودة إلى قصة ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المراجع الدينية لا نجد أي رابط بين حدث الميلاد وشجرة الميلاد، فنتساءل من أين جاءت هذه الفكرة؟ ومتى بدأت؟ وكيف استقرت هذه العادة ؟ أشارت احدى الموسوعات العلمية إلى أن الفكرة ربما تكون جاءت من ألمانيا الغنية بغابات الصنوبر وذات الاخضرار الدائم، وذلك خلال القرون الوسطى، وكانت العادة لدى بعض القبائل الوثنية التي تعبد الإله " ثور" إله الغابات والرعد أن يقوموا بتزيين الأشجار، ويتم تقديم ضحية بشرية من أبناء احدى القبائل يتم الاتفاق عليه مسبقا، وفي عام 727 ميلادي أوفد إليهم البابا بونيفاسيوس مبشرا وشاهدهم وهم يقيمون احتفالا تحت احدى الشجرات وقد ربطوا ابن أحد الأمراء وقد هموا بذبحه كضحية فهاجمهم وأنقذ ابن الأمير من بين أيديهم ووقف فيهم مخاطبا أن الإله الحق هو إله السلام والرفق والمحبة الذي جاء ليخلص لا ليهلك، ثم قام بقطع تلك الشجرة ونقلها إلى أحدى المنازل، ومن ثمة قام بتزيينها حتى تصبح من ديكور المنزل فلا يطمع في استعادتها أحد، ثم أصبحت من حينها رمزا لاحتفالهم بعيد المسيح، وانتقلت هذه العادة بعد ذلك من ألمانيا إلى فرنسا وانجلترا ثم إلى أمريكا .

يتساءل العديد من الناس مع قدوم مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة عن العجوز البشوش صاحب الذقن الطويلة البيضاء والرداء الأحمر والعصا الطويلة الذي يحمل الهدايا في كيسه القطني الأحمر ويطوف ليلا فوق طوافة يجرها ثمانية من الغزلان متنقلا من دار لأخرى يضع الهدايا أمام أبوابها، لقد أصبح هذا الشيخ " بابا نويل" عرف منذ القرن التاسع عشر لا تأتي الهدايا إلا معه ولا تتحقق الأحلام إلا بقدومه على عربته الشهيرة مع بداية كل عام ميلادي جديد التي تجرها الغزلان على الثلج في جيرولاند أو حتى على ظهر قارب أو جمل في البلاد التي لا تقل درجة الحرارة فيها عن 30درجة مئوية، لقد غمس فنان الكاريكاتور توماس نيست ريشته في الألوان ورسم على الورق سانتا كلوز سمينا ذا خد متورد ولحية طويلة بيضاء احتفالا بأعياد الميلاد ونشرتها إحدى المجلات في وقتها فأصبحت هذه الصورة هي المعتمدة لشخصية بابا نويل أي أب الميلاد بالفرنسية، أما الانجليز والأمريكيين فيطلقون علي  موزع الفرح في قلوب الأطفال سانتا كلوز الذي يعني بالإيطالية القديسة . هناك قصص وأساطير عديدة حول هذه الشخصية التي أحبها جميع الأطفال في العالم،  وتروي الأساطير أن بابا نويل يسكن القطب الشمالي في مكان بارد جدا من جرينلاند الجزيرة الأكبر في العالم، حيث يقف بابا نويل بكل هيبته أمام كوينجز جاردن، مزرعة الملك ومسكنه الذي يعيش فيه ويتدلى من عنقه المفتاح الذهبي لمصنع الألعاب الذي يعمل فيه على إعداد الهدايا ليؤكد بإصرار على أنه الوحيد الذي يصنع البهجة في النفوس، وتروي قصة شهيرة أنه منح ثلاث عذارى فقيرات في ليلة عيد الميلاد أموالا مكنتهن من الزواج، وقد جعلته هذه القصص منبع الكرم ومصدر العطف والحنان على الأطفال لأنه ارتبط بعيد مولد السيد المسيح القائل " دعوا الأطفال يأتون إلي " في لفتة إنسانية .

تختلف احتفالات رأس السنة الميلادية من بلد لآخر، التقويم " الجريجوري" هو تقويم مقتبس عن التقويم الذي ابتدأ به العمل في عهد الامبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي يبدأ من أول فبراير وهو تاريخ بداية العمل بالقانون المدني الذي ينص على أن يتولى الشعب حكم نفسه عن طريق نوابه لمدة سنة، ومنذ آلف السنين كانت البشرية تعتبر فصل الربيع هو بداية عودة الحياة إلى الأرض بعد انقضاء فصل الشتاء، ولذلك يعتبر بداية السنة الجديدة، وكانت تستمر الاحتفالات سبعة أيام .

أما الاحتفالات البابلية برأس السنة فكانت أكبر وأضخم من احتفالات الروم، ومن العادات التي استوحيت من الحضارات القديمة اعتماد بطاقات تصور أطفالا في اليونان واعتبار الطفل رمزا للعام الجديد، حيث تضع الأمهات أطفالهن الرضع في سلال من القش ويتجولن بهم في أنحاء المدينة، أما التقليد الروماني الذي شاع في الكثير من مناطق العالم فهو توزيع القطع النقدية المعدنية على الأطفال، وبدأ من حينها الإمبراطور في زيادة صك العملات المعدنية تحمل اسمه يوزعها في بداية السنة ويبدأ التعامل بالقطع الجديدة على أمل أن تكون السنة خيرا ويمنح الأطفال بعض القطع القديمة .

ويعود إطفاء النور ثم إعادة إنارته إلى اعتقادات الديانات القديمة التي كانت تعتبر أن ضوء الشمس أمر إلهي  يحمل دفء الحياة، واما الظلام فهو يعني الموت لذلك يضيء الناس الشموع أو أي إنارة أخرى كتقليد لإبعاد شبح الموت في العام الجديد.

أما عند الأمازيغ شعوب شمال إفريقيا فتنتهي عندهم السنة الأمازيغية مع غروب شمس يوم12 يناير لتبدأ السنة الأمازيغية الجديدة يوم 13 يناير ويطلق عليه الأمازيغيون "أسوكاس أمكاز" وبدأ الحساب الأمازيغي منذ عهد الملك " شيشنق الثاني " وهي حسابات تعتمد على السنة الفلاحية، وتفيد المعلومات المتوفرة أن الأمازيغ لا يأكلون اللحم في هذه المناسبة ولا يشعلون النار وأكثر من ذلك لا يغسلون أغراضهم التي تخص الطبخ والاعتقاد السائد هو أن البركة ستحط عليهم إن تركوا أغراض الطبخ دون غسيل .

إذا كان للجانب الروحي أثره على النفس تسمو به وتتألق فيتعزز معها تقدير الفرد لذاته، فإن الجانب الاجتماعي هو التوازن الحقيقي للإنسان في حياته فيها تزهو حياة الفرد ويوفق في تلمس بدايته الفعلية نحو جعل أحلامه حقيقية، وأعياد الميلاد مصدر لشحن نفس الأطفال بالطاقة الإيجابية ولتطوير الذات وتعزيز الإيجابية لدى الطفل التي تدفعه للانطلاق إلى أفق أوسع دون أن يلجأ إلى فكرة الاصطدام الشديد بالمجتمعات وثوابتها بشكل عام سواء على مستوى العقيدة أو الحقوق والأفكار، ومن هنا تكون البداية لتقارب الحضارات والثقافات والأديان لخير البشرية .

 

إيناس نازلي الجباخنجي

 

 

في المثقف اليوم