أقلام ثقافية

غريب دوحي: بين السياب وأمل دنقل

تسمى عادة مثل هذه (الدراسة مقارنة) وتكون عادة بين  ظاهرتين أوعالمين أو شاعرين وهكذا، والمقارنة كما يصفها العلماء ام المعرفة، المقارنة هذه بين شاعرين كبيرين، احدهما عراقي هو الشاعر بدر شاكر السياب والثاني شاعر مصري هو امل دنقل، ولد السياب في قرية من قرى جنوب العراق (جيكور) وولد الثاني في قرية جنوب مصر (القلعة)  لكن السياب كان هو الاسبق من الناحية الزمنية فقد ولد 1926 بينما ولد امل عام 1940، كلاهما عانا من آلام الفقر والمرض والغربة فكان هذا هو الخيط الذي جمع بين الشاعرين حتى رحيلهما عن الحياة، وقد نعكست ظروفها الاجتماعية الصعبة على نتاجمها الشعري فكانت قصائد وجدانية تغرق في النزعة الانسانية وذات مواقف متشابهة من الحياة والموت والتي تعكس حياة الشاعرين في البيئة القروية والآفاق الاجتماعية والنفسية لكل منهما، حتى ان امل دنقل قد اطلق عليه النقاد لقب سياب مصر غير ان اللقاء والافتراق لم يكمن تاماً بينهما فثمة اوجه شبه واوجــه اختلاف رغم التشابه في ظروف البيئة القروية القاسية فالفارق بينما هو فارق التجربة فقط فقد كان السياب اعمق تجربة كونه لم يتخلى عن رغبته في الحياة حيث ظهر هذا جلباً في قصائده مثل: انشودة المطر وحفار القبور .. إما امل دنقل فقد غيم على اشعاره شبح الموت الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود . لقد اصدر السياب اول مجموعة شعرية له عام 1946 باسم "ازهار واساطير" وكانت اول قصائده (هل كان حباً) إما امل فكانت مجموعة الشعرية  الاولى عام 1969 تحمل اسم (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) صدرت بعد انتكاسة العرب في حرب 5 حزيران 1967 .

ان شعراء كثيرين ارتبطت اسماؤهم بمآسي عصرهم واوطانهم مثل: لوركا، ناظم حكمت، الجواهري، البياتي، وكذلك السياب وامل دنقل لقد كان كل من السياب ونقل يحب وطنة وتغنى  به بل يحن إلى قرية وامال كل منهما إلى الملحمية في الشعور، وتضمنت قصائدهم الاساطير  الأغريقية التي نراها واضحة في قصائد السياب و دنقل،  ووقف الاثنان إلى صفوف الجماهير الفقيرة التي كانت تعاني الحرمان وشظف العيش ايام السيطرة البريطانية على كل من العراق ومصر ففي أثناء وجود السياب في بغداد في الأربعينيات لدراسة اللغة الإنكليزية انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من ان بيئة بغداد كانت تؤرقه وهكذا كان الحال عند امل دنقل عند ما حل في القاهرة، لقد مات السياب عام 1964 وهو في قمة النضج وفي عمر مبكر (38) عاماً وكذلك امل دنقل توفي وهو قمة النضج عام 1983 (43) عاماً . كتب السياب قصيدته والتي تضمنها ديوانه في بيروت والمؤرخة 19 / نيسان 1962 اي قبل وفاته بعامين يقول فيها:

من مرضي

من السرير الأبيض

من جاري انهار على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة

أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده أبي أبي

وامل دنقل قبل وفاته بأيام كتب قصيدته الاخيرة: يقول وهو راقد في المستفى في غُرَفِة العمليات:

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،

لونُ المعاطفِ أبيض،

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،

الملاءاتُ،

لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،

قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،

كوبُ اللَّبن،

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ،

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ،

صورتان تعكسان روى التشابه بين السياب وامل دنقل.

***

غريب دوحي

 

في المثقف اليوم