أقلام ثقافية

ربى رباعي: الأبعاد المكانية في أدب الصعاليك.. الشنفرى نموذجًا

يُعد أدب الصعاليك في الجاهلية من أبرز مظاهر التمرّد على القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويحتل البُعد المكاني في هذا الأدب موقعًا محوريًا، كونه ليس مجرد خلفية للأحداث بل يحمل دلالات نفسية واجتماعية وفكرية. وفي هذا السياق، يُعد الشنفرى من أبرز شعراء الصعلكة الذين عبّروا عن علاقتهم المتميزة بالمكان.

أولًا: مفهوم المكان في أدب الصعاليك

المكان في شعر الصعاليك ليس حياديًا أو ساكنًا، بل هو فضاء للحرية، والتمرد، والتحدي، والانفلات من قبضة السلطة الاجتماعية والقبلية. يتخذ المكان عندهم أبعادًا رمزية، ترتبط بالهوية والانتماء والصراع.

ثانيًا: ملامح البعد المكاني في شعر الشنفرى

1. الصحراء كمكان للحرية والتمرد

الشنفرى – كغيره من الصعاليك – اتخذ من الصحراء ملاذًا وفضاءً حرًا يعبر فيه عن رفضه للقيود الاجتماعية. في لامية العرب الشهيرة، تتجلّى الصحراء كعالم بديل عن عالم القبيلة، حيث يعيش الشنفرى مع الوحوش بدلًا من البشر، ويجد فيها ذاته:

وَلَـي دُونَكُمْ أَهْلُـونَ سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ

وَرَهْطٌ لَـهُ كَـأْسٌ تُفَيَّـضُ وتُرشَـفُ

هنا، يصف الشنفرى الوحوش البرية بأنهم "أهله"، في إشارة رمزية إلى رفضه للمجتمع البشري وقيمه، واعتناقه لقيم البقاء والقوة في الفضاء الصحراوي.

2. المدينة (القبيلة) كمكان للرفض والنفي

المدينة في شعر الشنفرى ليست مركزًا للاستقرار أو الانتماء، بل مكانًا للغدر والخيانة، ولذلك تمثّل "المكان الطارد"، أو "المكان النفي". فقد لفظته قبيلته، ونبذته الأعراف، مما دفعه إلى الارتحال الدائم، وتحوّل الشاعر إلى "كائن حدودي" يعيش على أطراف المجتمع.

3. المكان المتحوّل / الهامشي

في شعر الشنفرى، لا يوجد مكان ثابت، بل أماكن متنقلة تتغير حسب تنقله وغزواته، كأنما يعيش في حالة من "التيه الوجودي"، تنعكس في حركته المستمرة بين الفيافي والجبال والوديان. وهو لا يرتبط بالمكان بوصفه وطنًا جغرافيًا، بل بوصفه ساحة اختبار لقدراته.

ثالثًا: البعد الرمزي للمكان

المكان عند الشنفرى رمزٌ للهوية الفردية المتمردة، فالابتعاد عن القبيلة والانغماس في فضاء الصحراء والوحشة يعكس نزعة وجودية قائمة على تحدي المصير. المكان لا يُسكن بل يُجتاح، لا يُحب بل يُستغل، وهذا يتماشى مع فلسفة الصعلكة كحالة تمرّد لا فقط اجتماعية، بل أيضًا أنطولوجية.

رابعًا: المكان والهوية

يتماهى الشنفرى مع المكان الصحراوي إلى حد الذوبان فيه. إنّ هويته تتشكّل من خلال علاقته بالمكان القاسي، المتوحش، الخارج عن السيطرة، وهذا ما يمنحه قوة واستقلالية ويجعله ندًّا للمجتمع لا تابعًا

خلاصة

البعد المكاني في شعر الشنفرى يتجاوز الوصف الجغرافي إلى بناء دلالي معقّد، يعبّر عن فلسفة في الحياة قائمة على الحرية، والرفض، والتحدي. الصحراء ليست مجرّد فضاء خارجي، بل تعبير داخلي عن نفس متوثبة، ترفض القيود وتبحث عن ذاتها في أقسى الظروف. بهذا المعنى، يصبح المكان عند الشنفرى عنصرًا بنائيًا حاسمًا في أدبه، لا يقل أهمية عن الموضوع أو اللغه

***

ربى رباعي - الاردن

 

في المثقف اليوم