أقلام ثقافية

نورا حنفي: حين هربت من العالم إلى نورا

أفقد القدرة على النطق أحيانًا وأتبخر، تتجمد كلماتي، صرخاتي وضحكاتي، كل الانفعالات يسيطر عليها صمت أنيق كهدوء الفجر، بعيدًا عن صخب الجدال الذي لا يُقدم ولا يُؤخر، حينها أتخذ مقعدًا على حافة الكوكب، وأتأمل الخلق بنظراتي المتأففة من فقر حروفهم وعبث منطقهم!

أحدهم يحاول إضحاك البشر بنكتة من موضة السبعينات، لم أهضمها حتى الآن ولن تستقبلها أحشائي أبدًا، والمضحك بحق أنه لم يكف عنها بأسلوبه الهزلي على الرغم من فوران دمي، وغيره يسرد تفاصيل الحلقة الأخيرة من مسلسل حضره مئات المرات، وكل مرة بتحليل مختلف كما لو كان المؤلف والمخرج والمنتج في آن واحد، وسيدة تؤكد لأخرى أن كيلو البطاطس زاد جنيهات فوق سعره هذا الصباح، فيشتعل النقاش حول استفهام حاسم: ما الطبخة الاقتصادية البديلة في ظرف كهذا؟

كلام كلام كلام.... صداع!

وأما عني، فأنسحب بكرامة عقلي والوحدة التي تبتلعه وسط الحشود!.. فهل هُناك انسحاب أكثر نبلًا من الخروج بك من حفرة الثرثرة وجفاف المعاني؟

الحقيقة أن في وضع مثله يصبح حديث النفس هو الملاذ والمأوى، والنجاة كما تردد في خاطرك للتو.. إضافتك في محلها.

لقد أدركت أني أُحب أن أتبادل الأفكار مع نفسي أكثر من الفضفضة مع البشر، أنقل لها آخر أخباري من الأزمات التي عصفت بي مؤخرًا، وكل مخاوفي الوهمية التي تُقيدني عن الحياة، لعلها تأتي بالحلول، وتُسكن الأوجاع..

ولمَ لا؟

فإنني أثق بها لهذه الدرجة، وهي تؤكد لي أنها تستحق الثقة كلما عرفتها عن قرب أكثر.

لعلك تتساءل الآن: كيف يكون حواري مع نفسي؟

تنصت باهتمام، تسبق عمرها بأعمار من الفصاحة، لا تمل من بعثرتي ولغتي المضطربة، متواضعة بحق، لا تشغلها بساطتي الأقل من هيبة اللقاء، ولا تغضب من دموع مزاجي المتقلب.. باختصار، يأسرني صدقها وفيها تكمن إنسانيتي.

كم أتلذذ بالرجوع إليها في أموري الخاصة جدًا!

أتذكر أنني أسألها كثيرًا عن رأيها بحميمية الأصدقاء:

نفعل كذا؟

هل أحسنت اختيار فستاني الجديد؟

ماذا عن سهرة الليلة؟

وبصراحة، أهتم بالإجابة كل مرة ولو خالفت المعقول!

إن الحوار مع النفس فيه متعة لا تُقارن بالتسوق بميزانية مفتوحة أو بتذكرة سينما "ميد نايت"، حتى وإن لم أخرج منه بنصيحة أو فائدة ملموسة، يكفي أنها تقبلني في كل الأحوال، وإنه لشرف كبير أن تنتشلني بنعومة في أيام أبغض فيها سماع اسمي!

لقد لجأت إليها اليوم بشأن أمر يخطف النوم من عيني، تشتت قراري بين الكلام والسكوت، بين أن أتحرر منه لأرتاح من ثقله، وهُنا مجازفة، فقد لا أتمكن من صياغة غلياني كما يجب، أو أن أنشغل عنه باللاشيء، وهو أيضًا إنذار خطر، فربما لا أطيق الكتمان أكثر.. وأنفجر!

بعد تفكير طويل، اخترتها، اخترت "نورا" للمهمة الصعبة، أو "نوارة" كما تُحب أن يُقال عنها، سألتها بألم:

كيف وصلنا لهذا الحد؟!

هل أنا بحاجة إلى استراحة أبدية، أم أنها مرحلة مؤقتة وسأعود بعدها إلى رشدي؟

ما العمل؟!

أنا على المنعطف الآن، أتوسل إليكِ افعلي أي شيء!

واستجابت كالعادة.

المدهش أنها عملية تواصل توحي بالهذيان في نظر البعض.. "مجنونة!".. هكذا تقول، أليس كذلك؟

ولكنها عين العقل..

فأنا قبلها ثائرة وبعدها مطمئنة، وأصبحت لا أشعر بالتحسن إلا بتلك الأوقات الملهمة، أو بتعبير أدق فلا أظلم أوقاتي الهانئة الأخرى، إنها واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا بالإيجاب على حالتي الفكرية، وإليكم الدليل، فأنا أكتب الآن بمفعولها السحري، بعد أسابيع من عقوق الورقة والقلم.

غريب أن تواجه نفسك بكامل إرادتك!

أنت أمامك، تخيل!

مخلوق يسعى ويحزن ويعشق ويُقاوم أمام مرآة لا تُجمل الواقع، إنها محاكمة طارئة أقف أمامها عارية من المجاملات الاجتماعية وآفة النفاق التي يتلون بها أهل الأرض.. أنا فحسب.

والجميل أنني أُرحب بأحكام العدالة، لا إنكار، لا هروب من المسؤولية، الجاني مصيره قفص الاتهام، والبريء يغتسل بشعاع الحرية.. هكذا أكون..

لحظة.. لعلك تتساءل من جديد من ملاحظة صائبة: "أنا، هي، عني، معها".. لماذا تصفها كأنها إنسان آخر غيرها وهي ونفسها واحد؟!

اطمئنوا، ليس انفصام حاد بالشخصية، إنما هي طريقتي للإبحار في الأعماق، أعاملني بهذه الطريقة وأجدها فعالة حقًا، أنشق عني ليتجسد كياني أمامي، فأراني بوضوح وأتمكن من إجراء حوار ناجح معي، أعمل على متطلبات الأيام القادمة، وأبحث عن إجابة لو عرفتها يموت الجهل..

من "أنا"؟

ما هي احتياجاتي؟

هل مشاعري على ما يرام؟

وأفكاري تسير على الطريق الصحيح؟

وأخيرًا.. هل نبضي حي يُرزق؟

إنه وببساطة امتحان مفاجئ للوعي، وكما يُعلم الأب ابنه، وتُهذب الأم صغارها، أُطبق المبدأ معي ولا أشعر بأي حرج، بالعكس، أحمد الله على صداقتنا الاستثنائية، نعم، أنا صديقة نفسي، ألا تراه الوفاء بعينه؟

يا صاحبة النص..

لقد تنازعنا مرارًا، والسبب أفعال غير محسوبة ندمت عليها أشد الندم، وطال الخصام بيننا انتقامًا وتأديبًا حتى خمدت نيراني وعطفت عليكِ مجددًا، وفي النهاية أتأملني بكل المنحنيات: الجنون، العصبية، الشجاعة، طقوس الكتابة، الانسجام مع الموسيقى الهندية وقراءة الكتب على ضوء القمر، فأجدني أُحبكِ كثيرًا يا مشاغبة!

إن غلظتي ليست من طباعي وتعرفين مدى رقة إحساسي، والمعضلة تكمن في شخصيتي المتمردة، آهٍ وكم متمردة!

وعليه فيلزمني ممارسة الحزم كي لا أحيد عن المنطق.. وإلا فهي المصيبة!

لا تحزني من قسوتي، والحرمان من آن لآخر هو ببساطة تربية وتقويم في زمن يحتضر، وللحفاظ على الخير فينا لا بد من دفع ضريبة، فلا مفر من إعادة النظر يا نفسي، تأملي أكثر، فالعالم يتوحش كل يوم، والإنسانية على المحك، والتغيير يبدأ أولًا من الداخل، صحيح؟

لذا ساعديني على الثبات، أنتِ أمانة تُكلفني الكثير.

عزيزتي "آخر العنقود"..

هذه قُبلة امتنان وتقدير على الصبر والكرم حتى الأخطاء التي هي أساس وجودي.. أرجو أن تسامحيني.. وسأنفذ ما اتفقنا عليه.

***

بقلم: نورا حنفي

في المثقف اليوم