أقلام ثقافية

زهير ياسين شليبه: رسائل من زمن الحصار لكاتب مجهول (6)

الى صديقي العزيز يونس!

الحب هالحرفين

***

كما وعدتك، أكتبُ لك عن بعض المظاهر بصراحة محاولاً أن أمسك العصا من وسطها!

في الصباحات الباكرة الشتوية القارسة البرد ترى الشابات والشباب من طلبة الجامعات والثانويات وتلاميذ المدارس وأغلب الناس هنا يقودون درّاجاتهم متجهين صوب مؤسساتهم التعليمية وأماكن عملهم، الأمهات والآباء يضعون أطفالهم في المقاعد الخلفية، يسوقونها في ممراتها المخصصة لها بسرعة لامبالين بالسيارات طالما أنهم يلتزمون بقوانين المرور، يتوقفون عند اشتعال الضوء الأحمر رافعين أياديهم اليسرى إلى الأعلى، وينطلقون عند الأخضر، يحركون أكفّهم اليمنى إلى اليمين إذا أرادوا الاستدارة نحو هذه الوجهة وإلى اليسار إن رغبوا ذلك، لكن مع ذلك تحصل حوادث دهس الشاحنات للدرّاجين، وبالذات التلاميذ الصغار وبخاصة إذا قادوها عكس الاتجاه. ليس هناك أجمل من رؤية الأطفال الصغار يقودون دراجاتهم معتمرين خُوَذَهم على رؤوسهم، متجهين نحو مدارسهم أو أماكن اللعب والرياضة.

وأحب أن أقول لك إن للدراجات هنا سوقها الرائج، هناك العديد من محلات خاصة ببيعها وتصليحها، منها المحلي والمستورد والغالي والرخيص والمناسب والماركات الأصلية والتقليدية، والخ. "كل واحد يمد رجله على قد لحافه".

في كل مرة أرى فيها جارَتَنا العجوزة هَينه، يعني مثل اسم هناء، تقود دراجتها مرتدية ألطف الملابس، متعطرة بأعبق العطور ووجهها مطلي بدهون الزينة أو ما يسمى الميك أب أو الميكياج، أتذكّر العراقيات المسكينات يتسارعن نحو حتوفهن وهن لايزلن في مقتبل أعمارهن.

أتذكر والدتي، أصبحت تشكو من الشيخوخة قبل الخمسين. وجارتنا أم حسين، بقيت أرملة تتشح بالسواد منذ وفاة زوجها عندما كانت في منتصف الثلاثينات منشغلة بتربية أطفالها الأربعة. هنا، حتى بعض العجائز الوحدانيات يبحثن عن أزواج أو أصحاب وأصدقاء أو رفاق أو عشاق أو أحباء وخلان، سَمّهم ما شئت، هذا غير مهم بالنسبة لهنَّ هنا، المهم إنهن لا يُردن ولا يرغبن العيش لوحدهن بل الاستمتاع مع الآخر في هذه الدنيا، المهم العِشرة، وإلا فسيكفنَّ عن الوجود وينشدن الكفن والموت والخلاص من الحياة إن تحولت إلى جحيم. الناس هنا يبحثون عن الجنة في الحياة وليس الممات، ومفاهيم الشرف والأخلاق مختلفة.

لو حدثَ هذا الأمر عندنا في العُرااااق كان كلهن "راحن سبعة ماي!" غسلاً للعار!

وطبعا عندهم الغانيات و"الدونيّات" و"الموزينات" اللي فيهن العيب، يعني الدعارة، "عُذَه، عُذَه!" العياذُ بالله، أقصد بائعات الهوى! أستغفر الله، أستغفر الله، موجودة كما في كل مكان، وقد تكون رسمية، وقد يدفعن الضرائب، وهناك من يرى أنهن يؤدين وظيفة اجتماعية مهمة وضرورية ويقدمن خدمات لبعض الناس بطريقة قانونية مضمونة صحيًا! المنطق هنا يقول: "ليش لا إذا كان بعضهم يريد ذلك؟ دَعهم يقومون به قانونيًا تحت المراقبة والسيطرة، أفضل من الخفاء".

انتبه يا يونس، أنا شخصيًا لم أقل هذا، ولا علاقة لي بهذا الرأي! أرجوكم لا تقوّلوني ولا تحمّلوني مسؤوليته! وغيرمقتنع بالفكرة ابدًا!

فهل تعيش يا ترى نساؤنا، حسب قِيم الأوروبيين، في جحيم دانتي يا صديقي؟ لكن هل تتصور أن بعض هذه المظاهر مختفية عندنا؟ صدّقني، حسب ما يقال ويُشاع والله أعلم ما في الخفايا والصدور، إنها أيضًا موجودة، هناك نساء كبيرات في السن يتزوجن مع احبائهن في الخفاء وبشكل مستور وغير معلن للجميع تجنبًا لمفاهيم رقابة المجتمع. وهناك زواج الصيغة أو المتعة، صرنا نسمع عنه عندما أقمنا في الخارج، ولم يكن منتشرًا في العراق كما يُروّجُ له في بعض الأماكن، و"المستَجعَدات" المساكنات وبنات "الكاوليه" الغجريات وهناك في بعض المدن القوّادات "المعلّمات"، أم فلان وفلان، الشهيرات باستقبال الرجال في بيوتهن البغدادية، وطبعاً العُرفي والمسيار في بلدان أخرى. يَمعوّد، كلشي عندنا جوّه العباء ومدستَر، بس من نريد نحكي بالتدين والشرف ماكو أطول من لسانننا!

هذه كلها أساليب "احتيال" أو "تساهل" أمام التشدد ضمن سياسة غض النظر والتسامح، أو شىء من "المدنية" من قبل الحاكم، الدين يُسر لا عسر، ولم نسمع برجم الزانيات ولا العاشقات، اللهم إلا غسل العار.

العنف ضد النساء في الغرب له تاريخ و"فنون" قاسية لا تقل عن الشرق! إي والله "مفيش حد أحسن من حد"!

هنا، في الخارج، تُرتَكب أيضًا جرائم غسل العار بين بعض جاليات المغتربين واللاجئين، هذا هو حال الدنيا منذ الأزل. والعرب، طبعًا أكيد ليس كلهم، بل بعضهم، كان لديهم قبل الإسلام تقبّل لوجود متحررات، مسافحات ومخادنات، بل حتى بائعات هوى معروفات ممن نصبن الرايات الحُمر على خيامهن، ومنهن ظهرن إلى العلن على قارعة الطريق شبه عاريات الجيوب والأثداء، يلبسن ملابسَ أو دروعًا  وقمصانًا شفافةً، بلا أزرار، فتصور! وهل تعتقد أن هذه الظاهرة اختفت لمجرد نزول الآية الكريمة "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان..."، طبعا لا، مثل اي مجتمع آخر، "خلّي الطبق مستور!" وأنا لا اريد أن أدسَّ أنفي في هذه الأمور! بس ... مرات يصعب السكوت.

أجل يا صديقي لم يكن المجتمع العربي قبل الإسلام شموليًا، بل متعدد الألوان والأطياف والأديان: اليهوديه والنصرانيه والصابئة والوثنيه، وكانوا قبل نزول سورة الأعراف على نبينا الأكرم يطوفون حول الكعبة عرايا، والنساء يردّدن: "اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه"، وهناك أنواع متعددة للنكاح،  مثل الزواج المؤقت والمقت حيث تورث الزوجة بعد موت بعلها، ونكاح البدل، أي تبادل الزوجات، ومن يقدم زوجته للضيف، ونكاح الاستبضاع، ويقال إنَّ هناك حتى الآن جماعات هنا وهناك تسمى "عَبَدة الفروج"، والعهدة على الرواة، وقد تكون مبالغات. اقرأ عنها وستجد معلوماتٍ كثيرةً عن هذه الملل والنِحَل. هذه هي اعتقاداتهم، ماذا سيفعلون لهم؟ هل يكفرونهم ويعزرونهم ويقتلونهم رغم أنهم آمنوا بالإسلام، لكنهم حافظوا على رواسب تقاليدهم القديمة.

استغربَ أحدُ المبشرين الأميركان من هذه القصص، وفوجيء عندما أخبرته أن الدول العربية يعيش فيها ناس غير مسلمين لم يتم "اجتثاثهم" منذ ظهور الإسلام، قال لي هذا الأميركي الطيب بنبرةٍ مستهجنةٍ: ألا تعتقد أنه أمر جميل أن المسلمين لم يقوموا بالتطهير العرقي والديني كما فعلنا نحن مع الهنود الحمر حيث أبدناهم و"طهرنا" أميركا منهم!

اندهش الاميركي لحسن ضيافتنا له، بدأ ينظر للإسلام بإيجابيةٍ!

قبل يومين قال لي أحد معارفي، التقيتُه صدفةً في شارع كوبنهاجن، كان عصبيًا يتحدث بصوتٍ عالٍ كعادته معاتبًا إياي كأنما أنا المسؤول عن مأساته، فتح الموضوع معي بدون إحم ولا دستور، يعني بلا مقدمات ولا مقبلات، وكان الدنمركيون الهادئون يتطلعون علينا، وهُم يمشون في نفس ممر المشاة، أعتقدُ أنهم تصورونا نتخاصم، حاولت أن أبتسم لهم قدر الإمكان عسى أن أغير انطباعهم عنّا، منشغلاً بمسح رذاذه المتطايرعلى وجهي: "يا أخي نحن أصلاً لا نتحدث بصراحة عن التابوهات، أقصد المحرمات، وهذا هو الخطأ، أصبحنا نفهم الأمور أما أسود أو أبيض، وكل شيء له علاقة بالحب ممنوع، مسموح الغناء عنه، كتابة الشعر عنه مباحة، وهل هناك أكثر شعرية ورومانسية من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أو ألف ليلة وليلة أو نزار قباني؟

أغانينا كلها شجن، هيام، غرام، ولع، وَلَه وشغف، لكن لا علاقة حب معلنة، قبل الزواج! أو لا تجاهر بها، الحب ممنوع والعتب مرفوع!

وديع الصافي يطربنا في أغنيته: "الحب هالحرفين، مش أكثر، الله يرضى عليك يا ابني، خذ ليلى بنت ضيعتنا، ترتاح معها ولا تتعبني"!

وتابعَ يقول: أنا شخصيًا لم أرَ يومًا والدي يمسك يد أمي، فتصور! ولهذا نستغرب ونتعجب اليوم، بل نستهجن عندما نقرأ عن طقوس الاحتفالات بالأعضاء التناسلية مثلاً في الدول المتحررة مثل أوروبا واليابان، حتى في الحضارات الفرعونية والسومرية لا نأتي على ذكرها!".

حاولتُ أن أبدي رأيًا موضوعيًا لأهدّأ من روعه وابدّد أحزانَه، العمر قصير، ويمكن أن يُصاب المرءُ بجلطة أو ذبحة أو سكتة دماغية لا سَمح الله، لكن هيهات، منعني ماسكًا يدي قائلاً: "أرجوك لا تقاطعني، خلّني أكمل فكرتي، والله العظيم أنا اتذكر أن أحد زملائي عندما كنا في الثانية عشرة من عمرنا لم يستوعب العلاقة الجنسية بين والديه قائلاً: "مستحيل، هذا حرام، اشدَتحكون؟ سرسريّه!" وصرنا نضحك عليه بينما توردت وجنتاه كأنه فتاة عذراء تأتيها الدورة الشهرية لأول مرة في حياتها! سبحان الله!".

أردتُ التعليقَ على فورته، لم يسمح لي، ودّعني مستعجلاً كعادته، قال ضاحكًا: "المهم أفرغتُ ما في جعبتي! فوّخت قلبي! فشّيت خلقي! مثل ما يقول الشوام". إلى اللقاء يا صديقي.

تركني راكضًا نحو الحافلة! ابتسمتُ وضحكتُ متمتمًا بين نفسي: مجنون!

مخبّل أو مسودَن! كويلات! كما يقول العراقيون! هذا هو حال الدنيا!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

في المثقف اليوم