أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: بوح قلب "الجنوبي"!

الحركة الثقافية مائجة دائماً بما أعرف أن مصر شديدة الغني به.. أقلام المبدعين..

ليست تلك الحركة في العاصمة القاهرة وتخومها، بل في كل ركن وشارع ومدينة لشعب تغذي وشرب الإبداع حضارةً ونيلاً وأمواج بحرَين وامتداد صحراوَين. فالإبداع في دمنا إرث وروح ومذاق نعيشه ونحياه ليل نهار..

 من قلب الصعيد وعروسها المنيا قلم من أقلام المبدعين الكبار هو "علاء الدين أبو العزايم". ديوانه المسمي: "أوراق الجنوبي الأخيرة" كإصدار إقليمي من إصدارات هيئة قصور الثقافة.. ديواناً تتسلل كلماته إلى بحر الإبداع المصري وتغوص في منتصفه محدثةً موجات أو أصداء ترصدها آذان القراء وقلوبهم. والراصد لحركة الإبداع التي تتقاطر يوماً بعد يوم من دواوين وروايات يرسخ في ضميره يقينٌ بأن مصر لا تعدم المبدعين كما لا يعدم النيل مجراه الخالد..

 تصدّر الديوان عرفانٌ وإهداء. والحق أن الديوان كله وكأنه إهداء كبير لمجموعة ممن عرفهم الشاعر. وكأن حافزه الأول الإنسان، حتى عندما ارتقي لمرحلة الوطن نظر من فوق تلك القمة إلى السفح يرصد الشعب في ضآلة حجمه يتأسف لهذه الضآلة ويمقتها، ويتمني أن تلتقي القمة بسفحها لقاء الارتقاء.

 القصائد والأبيات تتواتر لتحمل في طياتها تداعيات معاني متعددة الرؤي والنكهات.. وأول معانيها "البوح والاعتراف"، وهو ليس اعترافاً مباشراً سهل الانسياب، بل غامض غموض الشعراء، وعسير الاصطياد، لن تحصل عليه إلا بفك رموز شفرته الموزعة في سائر الكلمات والمختفية بين الأبيات وخلف عناوين القصائد..

 وأول الاعترافات وأشدها إلحاحاً على قلم الشاعر، اعتراف الوحدة..  يقول في قصيدته: (قراءة ليست أخيرة في أوراق شاعر): " لا شيء خلفك.. أنت وحدك.. والأنامل تستجير.." ويمضي في قصيدته ينظر من "ثقب باب" إلى الوطن، ومن نافذة التاريخ إلى جوهر القصيدة، وقلبه يرنو من ضلوع صدره إلى حلم مستحيل!

 إننا نكتشف من خلال أبياته وكلماته أن الجدران التي رسمها قلمه حول معاني كلماته سابحة في فضاء حلم هائل متسع اتساع الخيال. ورغم أن الكلمات والألفاظ تئن وتتوجع: (أواه يا وجع الصديق- لذت في زمن النخاسة بالعبيد الخائنين- أعتاد في غسق الصباح خريف بحرك يا بلادي- تعانق الوطن الجريح) إلا أنها تصدر عن قلب حالم راغب في الحياة: " يعزف أغنية الصباح، ويعدو نحو الياسمين، ويصلي من أجل المعلم والوطن".

 واعتراف ثانٍ بأن كآبة القلب مصدرها يأتي من "لوعة الفقدان". فيكتب الشاعر قصيدة عنوانها: "دمعٌ عليّ" يرثي فيها ابنته ويصدرها بإهداء لها: " إلى ابنتي نهال التي كفنتني قبل أن تموت". والقصيدة تنزف بكلمات يقطر منها الألم وينبض فيها الحرف نبض اللوعة والحزن. ومثل تلك القصائد تجعلنا نتساءل عن سر الشعر، وعن تكوين الشعراء..

 الشاعر نوع مختلف من الأدباء، عاطفته متأججة ملتهبة، وقد تكون مطفأة لكنها انطفاءة الثورة والأسي. كلمات الشعراء حتى لو تغشاها الأنين والحزن والكآبة فهي تنبض بمشاعر ملتهبة، لكنها منكفئة انكفاءة الكتوم على سر لا يصرح به، ولكنه يتأوه به شعراً، ويخفيه في طيات لفظ غامض يحمل مفتاحاً من مفاتيح شفرته النفسية وحالته العاطفية. تلك الحالة التي تنكشف شيئاً فشيئاً من خلال مجموع قصائده..

 قصائد الديوان تتحدث دوماً عن صديق أو صديقة، لا يمكنك أن تتبين إن كانوا أصدقاء قدامَي أو حاليين. لكن الصداقة في حياة الشاعر هي أمر ضروري يعيش به ويتأثر تأثراً عميقاً لفقده أو الاقتراب منه. إننا طوال الوقت في حاجة إلى يد تربت على أكتافنا تشجيعاً أو مواساةً. قد نبوح بهذه الحاجة أو نكتمها، في ظل عصر مادي لاهث ذابت فيه القيم والمبادئ والعواطف وتحولت المثاليات إلى حلم بعيد المنال.

 أغلب القصائد تتميز بعناوين جانبية مثل: (رحيل، دهشة، بداية، سؤال، هامش) وهو نوع من الانتقال الذهني والعاطفي يتحول فيه الشاعر من حالة فكرية أو عاطفية إلى حالة جانبية متصلة بموضوع القصيدة ولو اتصالاً واهياً. القصيدة الحديثة بطبيعتها تحمل هذه السمة: أنها تتشكل من مجموع البقع اللونية في القصيدة، فهي ليست كالقصائد الكلاسيكية القديمة ذات البرواز المذهب المترب والحدود اللونية الحادة الواضحة، بل هي "انطباع" عام يتشكل بيتاً بيتاً كأنها ضربات ريشة ثائرة في اتجاهات مختلفة، تتكون من تأثيراتها المتباينة صورة اللوحة التشكيلية التي هي القصيدة.

 (أوراق الجنوبي الأخيرة) ديوان متميز لواحد من أبرز شعراء محافظة المنيا هو (علاء الدين أبو العزايم). وأرجو ألا تكون أوراقه الأخيرة، وأن يواصل عطاءه، وأن يكون ولده يوسف الذي أهدي له الكتاب، هو خير تعويض له عن ابنته التي رثاها في قصيدته الحزينة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم