أقلام ثقافية

علي الجنابي: تَأمُّلاتٌ خَارِجُ أَسوَارِ البَصَر

غَدَوتُ حينَ فجرٍ من مَسجدِ الحيِّ تَوَّاقَاً لمَا في فِراشي مِن لفائِفَ دَفيئة، ولم أنسَ مَكثي هُنيهَةً حَذوَ البابِ مُتَأمِّلاً مَا في خَدِّ الشَّمسِ مِن إشراقَاتٍ مُضِيئة. ثُمَّ هَجعتُ ولَسْتُ بنائِمٍ، فما عادَ جَفني مَيَّالاً للتَّثاؤبِ ولا كَيَّالاً لِما في النَّومِ من لَطائفَ خَبيئَة، بل حَادَ الجفنُ عن وطئِ الفراشِ بمُراوَدةٍ عن نفسِهِ دَنيئة. وكأنَّ الجَفنَ قدِ ارتَقى عن خَواطِرَ مُؤَطَّرَةٍ بخَطيئَةٍ مُسِيئَة، فانتَقى نوادِرَ مليئةً مُعَطَّرةً بأَوَاطِرَ بريئَة. وإذاً، فسوفَ أغادرُ النومَ في مَحبسِ الحُجُراتِ، وسَأبادرُ لشُجيراتي لأرتويَ وإيّاها مِن خَدِّ الشَّمسِ بتأمُّلاتي، قبلَ أن يَبعُدَ الخدُّ ويَقعُدَ فوقَ نواصيَ سُحُبٍ سابحاتِ.

أخَذَ كَفّي بدَكَّةٍ من خَشبٍ جَنبَ جِذعِ نَخلتي ذي التُّميرات، واتَّخَذَ ظَهْري من جِذعِها مُتَّكأً وما إنفكَّ يَإنُّ من آلامٍ وعِلّات. ثمَّ هاهُما ساقايَ تَحَلحَلا بارتياحٍ حَذوَ زهورٍ ناعِسات، وعينايَ تَغلغَلا بانشراحٍ في نَظَراتي نحوَ خُدود شَمسِيَ الآسرات، وإذ بَدَأتِ الشَّمسُ رويداً تخلعُ ثوبَ حنانِها رُويداً في ذي فلاةِ، رُويداً رُويداً بأناةٍ كلّما ارتقَت شاهِقاً في منازلِ الرَّحلات. وثَمَّةَ سُعَيفاتُ نَخلتي من فوقيَ يَتَحَسَّسنَ تأمُّلاتي وكأنَّهُنَ قد عَدَدنَ عَبَراتي، وها هُنَّ قد وَدَدنَ النُّزولَ في سوحِ المنافسةِ لرَوحِ تأمِّلاتِي، فشَدَدنَ بتمايلٍ مأمولٍ مِنهُنَّ لالتِفاتةٍ من لَفَتاتي، وبجَلَبةٍ مِنهُنَّ عن شمالٍ ذَاهبٍ وعن يَمينٍ آتٍ، بينماً بَصري ما إنفكَّ شاخصاً يَتبَعُ خُدودِ فتاتي، فتاتيَ الشَّمسُ وقدِ استَحوَذت على خَلَجاتي. وأجنحةُ شَتَاتِي كأنَّها في غفلةٍ من تخايلِ نخلتي ومن تمايلِ سُعيفاتي، وإذ كانَت تَتَحَلِّقُ رحَّالَةً فيما وراء رداءِ السَّمَوات، فتَتَعَلَّقُ بتَدَبُّرٍ وتَتَألَّقُ بِتَفَكّرٍ..

في طباقِ سبعِ سَموات، رُفِعْنَ بِغَيْرِ عَمَدٍ ثابتاتِ

في سِياقِ طيورٍ سائحاتٍ، يقبضْنَ وصافَّات

في سِباقِ سُحُبٍ سائراتٍ، يَنبضْنَ ومُسَخرات

في وِفاقِ مجرَّاتٍ دائراتٍ، يلمضْنَ وخافتات

فيا لِجلالِ مَن كَوَّرَ خُدودِ شُموسِ في مَجرّات. ويا لِكمالِ مَن صَوَّرَ زنودَ سعفاتٍ في فلوات.

ثمَّ تنازَعنَ سَعفاتي بينَهُنَّ أمرَ غفلَتي عن جَمالِهُنَّ وجفواتي. قالَت إحداهُنَّ بمُباهَلَةٍ وبمُباهاةِ:

«دَعوا الأمرَ لي وسأُكفيكُمُوهُ بخِصلَةٍ من ضُفيراتي، بينَ فَخِذَيهِ أقصِفُهُ بها ومُفلِحَةٌ دوماً كانت رِهاناتي،  بل أُقسِمُ لكم على فلاحي فيما مَرَّ مِن نِزالاتي».

ولقد وَصَفَتْ سُعيفتي ثُمَّ اصطَفَّتْ ثمَّ لَصَفَتْ فعَصَفَتْ فقَصَفَتْ فانتصَفَتْ خِصلتُها بين ساقيَّ المُمَدَّدات، فأكرِمْ بها مِن سَيّدَةِ الرِّماحِ في سوحِ الرُّماةِ. فقد حَلفَت وما حَنِثَت، وأوفَت وما أَخْلفَت فقَطَفَت رهانَ المُباراةِ. فانعَطفتُ أنا إليهِنَّ مُلاطِفاً مُتَعاطِفاً أتمايلُ معهُنَّ بالمُحاكاةِ، وصَفَفتُ أستَوصِفُ مُتدبِّراً بانبهارٍ بديعَ إنشائِهُنَّ بتؤدةٍ وبأناة..

يا لجلالِ خَلْقٍ فارِقٍ في تضفيرِ سعفاتِ نخلتي مِن فَلْقِ قِطْمِير لنواة

ويا لكمالِ أَلَقٍ بارِقٍ في تدويرِ أكمامِ التَّمراتِ، وفي تكويرِ قوامِ السُّلحفاة

ويا لِجلالِ فَلَقٍ خَارِقٍ في تصويرِ بُؤْبُؤِ ريمِ الفلاة، وفي تَصييرِ جُؤْجُؤِ صَدرِ القَطاة

وإن هي إلّا هُنيهاتٌ من تَمايلٍ معَهُنَّ بتَسهيدٍ وبتَنهيد، حتَّى رأيتُني أعُودُ لسِياحَتي مع خَدِّ الشَّمسِ السَّعيد، هنالكَ فيما وراءَ عالَمِ السّعفِ النّضِرِ الرّغيد، والقعيدِ على جِذعِ نَخلتي ليُظَلَّهُ وإيّايَ من فَيحِ ظهيرةٍ شَديد، وعادَ بَصري وَحيداً يندفعُ فيرتَفِعُ بتَهوِّرٍ عَنيد، هارِباً منَ المُعتادِ العتيدِ في ذا فَضاءٍ مَشيد، وسَارباً في مُنطادِ  فضاءٍ بَعيدٍ جَديدٍ مَجيد.

آه، كم أتَمنَّى سَفَرَاً في سِفْرٍ بَعيد، هنالِكَ وراءَ أسوارِ البَصرِ بِتَمديد. فما هامَ في رهابِ السَّماءِ الرَّهيبِ ولا حامَ بين شهابِ ذاكَ الفَضاءِ الرَّحيبِ إلّا ذو وَجدٍ رشيد. ذاكَ أنَّهُ فضاءٌ تَتَبَطَّلُ فيهِ نَقلاتُ القَدَمِ ولا يستَعطِفُ أكتَافَ الأحقافِ وآفاقَ المَكان. وتَتَعَطَّلُ فيهِ خَفَقَاتُ القِدَمِ ولا يَستلطِفُ عُقودَ الإشراقِ وعُنقودَ الزّمان. وآه، لو أنَّكَ أيُّها البَصرُ كنتَ بَصراً من حَديد.

إنَّ أمرَ السَّماءِ لهوَ أمرٌ جَليلٌ فَريد، لمَن تَرَنَّى انعِتاقاَ مِن مَجاجَةِ الرَّذائِلِ ولهَا يُبيد، وتَمَنَّى انغلاقاً عن عَجاجَةِ الدَّخائلِ وعنها يَحيد، وتَهَنَّى باعتِناقٍ لِبَهيجِ الفَضائلِ ولها يُريد، وتَغنَّى بانفتاقِ لِأريجِ الدَّلائلِ وبها يُشيدُ.

ذلكَ فضاءٌ مُنهَمِرٌ بخَلْقٍ مُتَمَدِّدٍ مُتجَدِّدٍ وَليد.

ذلكَ فضاءٌ مُنبَهرٌ من أُسٍّ للخَلقِ واحِدٍ سَديد.

فسُبحانَ الوَاحدِ الوَاجدِ للمُنهَمرِ المُنبَهرِ، وسُبحانَ الذي هوَ على كلِّ شيءٍ شَهيد، في سماءٍ إشْراقَةُ أنجمِها بأنوارِها مُحتَفِلةٌ بتَجديد، واهراقةُ غَيبِها بأسرارِها مُقفَلَة بتَوكيد، فلا مالِكَ لمَفاتِحَ ذلكَ الغَيبِ إلّا أحدٌ صَمدٌ مَجيد. ولا تُفتَّحُ أبوابَ الغيبِ كلّا، ولن تُفتَحَ إلّا في يومٍ تكونُ فيهِ السَّمَاءُ وَرْدَةً كدِهَانٍ فلا أخَادِيدَ فيها ولا جَلامِيدَ.

ألا وإنَّ الأقلامَ من ذلكَ الفضاءِ قد رُفِعَت بَعدَما رَبَطَت فضَبَطتْ جباهَ الحَياةِ بأوَّاهِ الممات، وإنَّ الصُّحفَ قد جَفَّت بعدما حَطَّتْ فحَفَّت شفاهُ الوفاةِ بجِباهِ الولاةِ الطُّغاةِ، كما أطَّت بهِا على اتجاهِ الرُّعاةِ الحُفاةِ، ولن يَدفعَ الوفاةَ عن الولاةِ حَميُ الحُماةِ، ولن يَرفعَ المماتِ عن الرعاةِ نَعيُ النّعاةِ.

ألا وإنَّ الأمرَ قد تَمَّ فيما كانَ مِن عائنٍ في فَوَات، وما يكونُ من بائنٍ في مواساةٍ وفي مَسَرّاتِ، وفيما سيكونُ من كائنٍ آتٍ مِن هُداةٍ بناة، أو شائنٍ مِن عصاةٍ بغاة.

أجل، قُضيَ الأمرُ فلا طائلَ من مواساةٍ، ولا نائِلَ من مناداةٍ لولا فسحة من هَمْسٍ على أرضٍ رَمْس في ليلٍ دَمْسٍ تنبجسُ مُسَعَّرَةً من شُجونِ المُناجاة لربِّ الخلْقِ والأمرِ في الحَيَوات.

(...هيّا بُنَيَّ، إنهضْ وأطفئْ المُوَلِّدةَ، فقد عادتِ كهرباءُ الحكومة تتحايلُ بعدَ انقطاع، كمثلِ طفلٍ يتمايلُ من بعدِ رضاع).

***

علي الجنابي

.........................

* قطفٌ  من سطور كتابي «حواري مع صديقتيَ النملة».

 

في المثقف اليوم