أقلام ثقافية
قاسم حسين صالح: فيلم اخفاء صدام حسين.. الضيف والدخيل.. بلوه!(1)
في (20 تموز 24) دعيت لمشاهدة عرض فلم (اخفاء صدام حسين) يحكي قصة اختفاء صدام حسين من يوم هروبه من بغداد الى يوم القاء القبض عليه.
يبدأ الفيلم بظهور فلاح جالس على الارض بكامل اناقته الفلاحية يروي لنا بطلاقة وسلاسه وكأنه (يسولف سالفه) للجالسين في ديوانه، ظننته ممثلا لأجادته السرد والنطق السليم وصدق الأنفعالات، فيما كان هو الفلاح (علاء نامق) الذي اخفى صدام 235 يوما حاسما في حياة صدام، وخطرا رهيبا على حياة علاء واسرته من 150 ألف جندي أمريكي يبحثون عن صدام ورصدوا 25 مليون دولارا مكافأة لمن يدّلهم عليه.
علاء نامق
وكنت تساءلت: من اين جاءت الفكرة؟وهل ان الفلم وثائقي ام سياسي؟ وهل سيتصف بالمصداقية؟.. وأخرى، فعرفت ان المخرج شاب كردي اسمه (هلكوت مصطفى) كان قد هرب زمن النظام السابق الى النرويج، وقدحت الفكرة لديه فقصد العراق عائدا ليلتقى الفلاح (علاء نامق).
كان علاء هذا قد رفض المشاركة في افلام او برامج تحكي قصة اخفائه لصدام خوفا على نفسه وعائلته، وحرصا على تبرئة عشيرته من مزاعم واتهامات باطلة، واخرى روجت لأمور غير حقيقية تخص استضافته لصدام، كما قال. وحين التقى به المخرج عام 2012 .. اتفقا على تقديم القصة في قالب انساني بعيدا عن السياسة، واستغرق العمل على الفيلم أكثر من عشر سنوات، وأنتج بالشراكة بين شركة (هني) والحكومة النرويجية وشبكة رووداو الإعلامية. وكان أول عرض دولي له في تشرين الثاني 2023 في أمستردام، وأول عرض له في العالم العربي كان في جدة بالمملكة العربية السعودية، ودخل في مسابقة الأفلام الطويلة في النسخة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي عُقد في الفترة من 30 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023.
دراما .. بفلم وثائقي
وصف فيلم (اخفاء صدام حسين) بانه وثائقي، لكنني وجدته انه تجاوز التوثيق الى دراما تحكي محنة رجل مطارد.. يهرب متخفيا من مكان الى آخر.. ليستقر في مكان وجد فيه وفي صاحبه ما يشعره بالأمان، ما يعني انه يطرح قضية أنسانية خالصة.. في بيئة عشائرية عراقية لها تقاليدها في التعامل مع الضيف.
يبدأ المشهد الأول بمنظر لمزارع في منطقة (الدور).. وفلاّح(هو علاء) يرعى غنمه فيها.. يأتيه اخوه يخبره بمجيء ضيوف الى بيته، ويفاجأ ويندهش ويخاف حين يرى ان الضيف هو صدام حسين!. وهنا يكون علاء في (ورطة) بين أن يخفي صدام عنده وبين خطر ان يقتل هو وعائلته واطفاله الثلاثة. ويلخص لنا (علاء) حل الورطة بأن تقاليدنا العربية الأصيلة توجب ان نحمي الضيف رغم أن (الضيف والدخيل.. بلوه!) فكيف اذا كان الضيف صدام حسين الذي يبحث عنه 150 الف جندي امريكي! ما يعني ان العشيرة العراقية تحمي ضيفها والدخيل عليها، وحقق ذلك بأن بنى له غرفة ومطبخا خاصا به، وحفر له خندقا على شكل حرف ( T) ساواه بالارض وغطاه بالزهور، وجعل الاغنام تمر عليه كأي ارض في المزرعة.
صدام وعلاء.. صارا أصدقاء
تتوثق العلاقة بين رئيس جمهورية العراق.. صدام حسين، والفلاح البسيط علاء، الذي يدفعه فضوله الى أن يسأله: سيدي.. ليش انت اختاريتنه بالذات؟ فيجيبه صدام بأنه تنقل كثيرا من بيت الى بيت، وانه حلم بأن قال له احدهم: روح لبيت (نامق) بالدور.. فقصدتكم. فيجيبه علاء بأنه سيفديه بروحه.. فصار حارسه وطباخه وامين سرّه.. ويأنسه، فيأخذه الى المزرعه ويشاركه برعاية اغنامه، واصطحبه مرة الى جبل حمرين، بل انه عرض عليه أن يزوجه قائلا له( سيدي، بتقاليدنه لازم الرجال يتزوج.. شتكول نزوجك مرة من عشيرتنه!)
ومن المشاهد المؤلمة انسانيا، ان صدام طلب ذات يوم من علاء ان يأتيه بخروف.. فجائه به وذبحه وعلقه واخذ يقطّعه. وقال لعلاء.. اليوم يجون اولادي.. عدي وقصي، وهذا الخروف ذبحته لهم. وجاءا فكان لقاءا يثير انفعال التعاطف الأنساني وينسي المشاهد انهما مجرمان ايضا!.
وفي حوار لطيف بينهما يقول له علاء: سيدي.. الأمريكان نطوا 25 مليون دولار مكافأة للي يدليهم عليك.. شتكول.. نستلمها هسه لو ننتظر يزيدوها!.وكان صدام، رغم خبرته الاستثنائية بمعرفة نفوس من حوله.. على (يقين)انهم مهما زادوا فأن (علاء) لن يبوح بسرّه.
اشكاليات
واجه الفلم اشكاليات تتصدرها شخصية صدام حسين بوصفه رئيس الجمهورية العراقية. فهو بنظر معظم العراقيين.. دكتاتور، طاغية، مجرم بحق الشعب الكوردي ومرتكب جرائم بشعة ضد الشيعة توثقها مقابرجماعية، فضلا عن جرائم بقتل معارضين له من الطائفة السنية.. وبالتالي فانه لا يستحق أن(يجمّل) وجه طاغية و يعمل من اجله فيلم. والأشكالية الأكبر، أن المشاهد لأحداث الفلم تجعله يتعاطف مع محنة انسان مهدد بالتصفية، فكيف اذا كان هذا الأنسان هو (صدام حسين) الذي يعد بطلا بنظر العرب، وقف بوجه امريكا، وقاوم معتدين غزاة احتلوا العراق؟
فيما رأى آخرون أن المخرج الكردي (لمّع) صورة دكتاتور قتل الالاف من شعبه الكوردي ودمر العراق، وان (علاء) اساء للفلم بسعيه الى فرض رأيه على المشاهد بأن صدام رجل طيب.
والاشكالية الثانية، ان الفلاح (علاء) قدم صورة جميلة لشخصية صدام حسين كأنسان وليس كرئيس دولة. فبعد ان كسبه صديقا وجده انسانا طيبا يحمل مشاعر انسانية، متواضعا لدرجة أنه قام في الحمام بجلف ظهر علاء بالليفة والصابون ردا على قيام علاء بجلف ظهر صدام، فيما الفكرة الشعبية(العراقية) المأخوذة عنه أنه مجرم لا يمتلك أية مشاعر انسانية.
واذا جمعنا هاتين الأشكاليتين فأن الشعب الكردي وملايين الشيعة في العراق لن يقبلوا بعمل فني يجمّل صورة طاغية قتل عشرات ان لم يكن مئات الآلاف منهم.
والأشكالية الأخيرة: هل كان ما رواه الفلاح (علاء ) من احداث في اخفائه لصدام 235 يوما.. يتمتع كله بالمصداقية؟. وهل كان(علاء) فعلا فلاحا بسيطا كما وصف، أم انه يتملك مواصفات جعلت الفضائيات العربية التي اجرت معه لقاءات تكتب أمام اسمه (الفنان)؟!.
***
أ.د. قاسم حسين صالح