أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

تلعب السحر الأسود والتعويذات دورا مهما في ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضا باسم ألف ليلة وليلة، وهي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط تم تجميعها خلال العصر الذهبي الإسلامي. طوال القصص، نتعرف على السحرة والساحرات والجن الذين يمتلكون قدرات سحرية قوية تشكل حياة الشخصيات. تهدف هذه المقالة إلى التعمق في تصوير السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة والآثار المترتبة عليها على الشخصيات والسرد ككل.

في ألف ليلة وليلة، غالبا ما يرتبط السحر الأسود بالقوى المظلمة والشريرة التي تسعى إلى إيذاء الآخرين. يتم تصوير السحرة والساحرات وهم يستخدمون قواهم للتلاعب بالأفراد والسيطرة عليهم لتحقيق مكاسبهم الخاصة. على سبيل المثال، في قصة علاء الدين والمصباح العجيب، يخدع الساحر علاء الدين لاستعادة مصباح سحري من كهف، فقط لمحاولة سرقته لنفسه لاحقًا. تسلط هذه الخيانة الضوء على الطبيعة الخادعة للسحر الأسود وإمكاناته في التسبب في ضرر لأولئك الذين يقعون ضحية لسحره.

من ناحية أخرى، يتم تصوير التعويذات كأشياء أو تعويذات لها القدرة على التأثير على سلوك أو رغبات الآخرين. في ألف ليلة وليلة، غالبًا ما تُستخدم التعويذات لجلب الحب أو الحظ السعيد أو الحماية للشخصيات. على سبيل المثال، في قصة الصياد والجني، يستخدم الصياد تعويذة لاستدعاء جني يمنحه ثلاث أمنيات. يمنح هذا التعويذ الصياد القدرة على تغيير ظروفه وتحسين حياته، مما يُظهر الجانب الإيجابي للقدرات السحرية.

يعكس استخدام السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة ووجود عالم خارج عالمنا. طوال القصص، يواجه الشخصيات الجن والشياطين والكائنات الصوفية الأخرى التي تمتلك قوى تتجاوز الفهم البشري. تضيف هذه العناصر السحرية عنصرا من الغموض والعجب إلى الحكايات، فتأسر القراء بحكايات المغامرة والسحر.

كما يعمل السحر الأسود والتعويذات كوسيلة لاختبار سلامة الشخصيات الأخلاقية وقدرتها على الصمود. في العديد من القصص، يواجه الشخصيات إغراءات وتحديات تختبر قوة شخصيتهم وقدرتهم على مقاومة إغراءات السحر الأسود. على سبيل المثال، في قصة الحصان الأسود، يجب على الأمير مقاومة إغراءات الساحرة التي تسعى لإغوائه بتعاويذها السحرية. إن قدرته على البقاء وفياً لقيمه ورفض تقدم الساحرة تؤدي في النهاية إلى انتصاره على الشر.

وعلاوة على ذلك، فإن استخدام السحر الأسود والتعاويذ في ألف ليلة وليلة يسلط الضوء على ديناميكيات القوة التي تلعب دورا في القصص. غالبًا ما يشغل الشخصيات الذين يمتلكون قدرات سحرية منصب سلطة أو نفوذ على الآخرين، باستخدام قواهم للسيطرة على من حولهم أو التلاعب بهم. يخلق هذا الخلل في القوة التوتر والصراع داخل السرد، مما يدفع الحبكة إلى الأمام ويضيف تعقيدا إلى علاقات الشخصيات.

في الوقت نفسه، يرمز استخدام التعويذات والأشياء السحرية في ألف ليلة وليلة أيضًا إلى رغبة الشخصيات في التحول والتغيير. يبحث العديد من الشخصيات عن أشياء أو تعويذات سحرية على أمل تغيير ظروفهم أو تحقيق رغباتهم. سواء كان الأمر يتعلق بالحب أو الثروة أو السلطة، فإن الشخصيات مدفوعة بشوق إلى شيء يتجاوز واقعهم الحالي، مما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة القوى الصوفية.

بشكل عام، يضيف تصوير السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة عمقا وتعقيدا إلى القصص، مما يثري السرد بموضوعات القوة والإغراء والتحول. من خلال استخدام العناصر السحرية، تستكشف القصص الحدود بين الخير والشر، والخارق للطبيعة والدنيوي، والرغبة البشرية في التغيير والتسامي. في النهاية، يعمل وجود السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة على جعل القصص أكثر جاذبية وفتنة، ويجذب القراء إلى عالم من السحر والعجب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تتصادم الصور المختلفة والأحداث، تولد هستيريا تتشابك فيها الخيوط وتنفعل العبارات. الأيام لا ترغب في ولادة حملها الثقيل، باقية حبلى بالأخبار وسوء الطالع. البعض يعلق على شماعة فهمه كل التفسيرات فالضلوع بالتفسير والمبررات مهنة متداولة يمتهنها كل لحظة عدد كبير، ماضيه متناقض مع حاضره كتناقض المشرقين. فسحة هناك وأخرى هنا تشغل الذاكرة وتبعدها من تصادم المتناقضات.. ميزانية الدولة كفيلة بملاعق الذهب الممتلئة شهدا، لكنها عاجزة أن توفر كسرة تعليم لرمق الأمية المتفشي وغسيل الأدمغة المنظم.. التناقض سمة فيزيائية تجيز للمرء أن يلعن سيده إن انتهت سيادته وتسمح بقتل أصحاب الجلالة.. صراخ صامت مختبئ تحت قبة التفكير لا يتحمله ما يدور في الأفلاك الهائمة بنظام صارم هو الوحيد الذي لا يخالف الطقوس، دوران الساعة يرفض العودة الى الوراء، والى قبل قليل، لا يأبه بما نريد، لكن الذاكرة تجبرنا أن نغازل البعد بكل شوقنا اليه، يغادروننا معفرين بلون الوطن وبعضهم بلون عسعسة الليل ممتزجا بحمرة مختلطة بغبار الانفجار. نعود للمكان نحمل ذاكرتنا ودموعنا التي نشحنها كل يوم متأهبة لحدث جديد. إنها سرياليتنا وسريالية الوطن الذي خالف الطبيعة.

***

وداد فرحان

 

"في ألف ليلة وليلة" هي مجموعة من الحكايات الشعبية القديمة في الشرق الأوسط والتي تناقلتها الأجيال. تروي هذه الحكايات شهرزاد، الملكة الشابة التي يجب أن تحافظ على اهتمام زوجها القاتل الملك شهريار، من خلال سرد قصة جديدة له كل ليلة. وبذلك تنقذ حياتها وتفوز في النهاية بقلب الملك. القصص نفسها متنوعة وآسرة، تتراوح من المغامرات الملحمية إلى المآسي الرومانسية إلى الأمثال الأخلاقية.

من أشهر القصص في "في ألف ليلة وليلة" قصة علاء الدين ومصباحه السحري. تتبع هذه الحكاية مغامرات شاب فقير يكتشف مصباحًا يحتوي على جني قوي يمنحه أمنياته. ومن خلال المكر والشجاعة، يتمكن علاء الدين من التغلب على خصومه والفوز بقلب الأميرة. القصة هي مثال كلاسيكي لقوة المثابرة والحيلة.

من القصص الشعبية الأخرى في المجموعة قصة علي بابا والأربعين لصًا. تدور أحداث هذه القصة حول مغامرات حطاب متواضع يكتشف كهفًا مليئًا بالكنوز التي تخص عصابة من اللصوص. ومن خلال التفكير السريع والشجاعة، يتمكن علي بابا من التغلب على اللصوص والاستيلاء على الكنوز لنفسه. القصة هي شهادة على قوة الذكاء والشجاعة في مواجهة الخطر.

تنتشر موضوعات الأخلاق والعدالة في جميع القصص في "في ألف ليلة وليلة". تتميز العديد من القصص بشخصيات يجب أن تواجه معضلات أخلاقية وتتخذ خيارات صعبة من أجل التغلب على الشدائد. من خلال أفعالهم، يوضح الشخصيات أهمية الصدق والولاء والرحمة. يتم نسج هذه الموضوعات في جميع القصص وتعمل كدروس قيمة للقراء من جميع الأعمار.

بالإضافة إلى الدروس الأخلاقية، فإن القصص في "في ألف ليلة وليلة" مليئة أيضًا بعناصر خيالية ومخلوقات سحرية. تملأ الجن والسجاد الطائر والسحرة الأقوياء القصص، مما يخلق شعورًا بالدهشة والسحر للقارئ. وتضيف هذه العناصر إلى ثراء وعمق القصص، فتخلق عالمًا نابضًا بالحياة وجذابًا للقراء لاستكشافه.

ومن أكثر الجوانب المقنعة في "في ألف ليلة وليلة" تصوير الشخصيات النسائية القوية والمستقلة. ففي جميع القصص، تُصوَّر النساء كأفراد أذكياء وذوي حيلة وشجاعة وقادرات على التغلب على الشدائد والتفوق على نظرائهن من الذكور. وشهرزاد نفسها هي مثال رئيسي لشخصية أنثوية قوية تستخدم ذكائها وذكائها للبقاء على قيد الحياة وتغيير قلب الملك في نهاية المطاف.

كما تعرض القصص في "في ألف ليلة وليلة" نسيجًا غنيًا من التأثيرات الثقافية والتاريخية. وتستمد القصص من مجموعة متنوعة من الثقافات والتقاليد الشرق أوسطية، وتدمج عناصر من الفولكلور الإسلامي والأساطير الفارسية والأساطير العربية. ومن خلال هذه التأثيرات، تقدم القصص للقراء لمحة عن عالم الشرق الأوسط النابض بالحياة والمتنوع.

بشكل عام، "في ألف ليلة وليلة" عبارة عن مجموعة خالدة من القصص التي لا تزال تجذب خيال القراء في جميع أنحاء العالم. من خلال شخصياتها الجذابة وقصصها الجذابة وتأثيراتها الثقافية الغنية، تقدم القصص للقراء نافذة على عالم خيالي مليء بالمغامرة والسحر والدروس الأخلاقية. تظل المجموعة شهادة على قوة سرد القصص والجاذبية الدائمة للخيال البشري.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قد كانت العطور جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية لعدة قرون، حيث تأسر حواسنا وتثير العواطف، وهي تحمل عميقة في حياتنا، وهي الأكاسير الجذابة المعبأة في زجاجات رائعة، كانت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية لعدة قرون. في الحضارات القديمة مثل مصر واليونان وروما، ارتبطت العطور بالطقوس والاحتفالات الإلهية وبعيدًا عن مجرد الروائح، تجسد العطور نسيجًا ثقافيًا غنيًا، وتقدم العديد من المزايا وتمارس تأثيرًا نفسيًا عميقًا على الأفراد. وتُعتبر صناعة العطور صناعة ضخمة وذات قيمة اقتصادية كبيرة، فوفقًا لتقديرات احدى شركات العطور، كانت قيمة سوق العطور العالمية في عام 2020 تقدر بنحو 70 مليار دولار أميركي،ومن المتوقع أن تستمر في النمو، حيث يشهد سوق العطور نموًا مستدامًا، وذلك بفضل الزيادة المستمرة في الطلب في مختلف أنحاء العالم، ويسهم التوسع في الثقافات المتعددة وتزايد الوعي بالعطور وتأثيرها في زيادة الطلب على المنتجات العطرية، وتشهد صناعة العطور التجارة العالمية الواسعة، حيث تستورد وتصدر البلدان العطور والمكونات العطرية بكميات كبيرة، وتعتبر مصدرًا مهمًا للتوظيف وخلق فرص عمل، كما تسهم العطور في القيمة المضافة للعديد من الصناعات الأخرى مثل السياحة

يقول كريستيان ديورمصمم الأزياء الفرنسي الشهير العطور هي الصمت الذي يتحدث إلينا، حتى لو كنا لا نسمعها، والتأثيرات النفسية للعطور تعتمد على الروائح المحددة وتركيبتها الكيميائية، والذكريات والتجارب الشخصية المرتبطة بتلك الروائح، والثقافة والتراث الاجتماعي الذي يؤثر على تفسير العطور واستخدامها، فيمكن أن تكون لها تأثير قوي على الإحساس بالانتماء والمشاركة في الحدث، يقولون ــ ان العطور هي الأصوات الصامتة للغة الجمال، فهي تتحدث بلا كلمات وتروي قصصًا بلا حروف، وتترك أثرًا لا يمحى في ذاكرتنا، فعندما تشم عطرًا مميزًا، فتأكد أنه يحمل قصة فريدة وينبض بأناقة لا تضاهى،؛ للعطور أيضًا تأثيرات نفسية عميقة على الإنسان، فرائحة معينة قادرة على إحداث تأثيرات مختلفة على المزاج والعواطف وزيادة الإيجابية العاطفية، فبعض الروائح المنعشة والحيوية مثل الحمضيات تساعد في تحسين المزاج وتعزيز النشاط والانتعاش، واللافندر والبخور يعرف بتأثيرها التهدئة والاسترخاء، وتستخدم في العلاج العطري وفنون الاسترخاء لتهدئة العقل وتخفيف التوتر والقلق، والروزماري والنعناع التي يقال إنها تعزز التركيز وتحسن الذاكرة، ويتم استخدامها في بعض الأحيان في الدراسة والعمل لتعزيز الأداء العقلي، والزهور البيضاء والسوسن تعتبر مهدئة ويمكن أن تساعد في تحسين المزاج والتخلص من الاكتئاب الخفيف

والعطر يعبر عن ثقافة الانسان، ولها تأأأثير كبير عليه وتعكس تاريخ حياته في احيان كثيرة، حيث تعود الجذور إلى العصور القديمة، فكانت تستخدم في الاحتفالات المتعددة، ومنذ ذلك الحين تطور استخدامها ليشمل مختلف جوانب الحياة اليومية، فهي تختلف استخداماتها بين الشعوب، ففي الثقافة اليابانية يفضل الكثير من الناس استخدام العطور الخفيفة والرقيقة والتي تتميز بالانتعاش، بينما في الثقافة العربية يفضل استخدام العطور الثقيلة والعميقة والتي تدوم طويلاً، ويُعتبر استخدام العود والعنبر عند الشرقيين رمزًا للتقاليد والفخامة، بينما يُعتبر استخدام اللافندر والورود في الثقافة الغربية رمزًا للرومانسية والأناقة،وفي بعض الثقافات يُعتقد أن العطور تحمل قوى سحرية وروحية وتستخدم في الطقوس الدينية والشفاء، في حين تُعتبر في ثقافات أخرى مجرد وسيلة للتجمل والتعبير الشخصي، وهناك اختلافات جينية بين الأفراد تؤثر على استجابتهم للروائح، وقد يتسبب ذلك في تفضيل بعض الروائح عن غيرها وتوجهات ذوقية شخصية في استخدام العطور، العطور هي الرمز الأقوى للذكريات فهي الأحاسيس المرئية، وهي الشعور بالجمال الذي لا يستطيع الكلام وصفه، وهي حكاية لا تُروى بالكلمات، بل تُشم وتُعيش، تحمل في طياتها الأحاسيس والأحلام والحب، وتجعل الحياة أكثر سحرًا وإثارة، وهي لغة الأنوف، وكل منا له قصته الخاصة معها، فهي التي تُطلق عواطف الإنسان وتعزز جماله الداخلي، وهي الذاكرة التي تستمر في البقاء معنا لفترة طويلة.

تحتل العطور مكانة مهمة في الثقافة الإنسانية، حيث تقدم العديد من المزايا وتؤثر على حياتنا على مختلف المستويات. إنها تعزز جاذبيتنا الشخصية، وتعزز ثقتنا، وتوفر وسيلة للتعبير عن الذات. تساهم العطور في النسيج الثقافي للمجتمعات ولها تأثير عميق على رفاهيتنا ونفسيتنا. لذلك، في المرة القادمة التي تبحث فيها عن زجاجة العطر الرائعة تلك، تذكر العالم المعقد الذي تمثله والتأثير التحويلي الذي يمكن أن يحدثه على حياتك، تتمتع بعض العطور بخصائص علاجية ويمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على صحتنا فهي، معروفة بتأثيراته المهدئة كأداة للاسترخاء وتقليل التوتر وتحسين حالتنا العقلية والعاطفية بشكل عام، ويمكن  لرائحة العطر الآسرة أن تثير الفرح والإثارة والسرور، مما يضيف طبقة من الثراء الحسي لحياتنا

تحتل العطور مكانة خاصة في العديد من الطقوس والاحتفالات الثقافية. يتم استخدامها في الممارسات الدينية، مثل طقوس المسحة والتطهير، وكذلك المناسبات الاجتماعية، بما في ذلك حفلات الزفاف والاحتفالات والتجمعات الرسمية. أصبح فن صناعة العطور جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية، حيث يعرض الإبداع والحرفية لمجتمع معين

***

نهاد الحديثي

 

عندما قرأت رواية سبعون "لميخائيل نعيمة" حلقت روحي عاليا، وشعرت بخفة وتسامي وبهجة ملئت سماء قلبي. أبهرني بأسلوبه الرشيق العذب، لمست عبق صدقه وتواضعه، مراقبته المستمرة لنفسه تأملاته صلته بالكون والطبيعة، تفرده ونضاله وصبره، اختياره للأدب ومواصلة الكتابة رغم حصوله على بكالوريوس حقوق من جامعة واشنطن، مسايرته لشغفه في فك طلاسم النفس، وخبايا الروح، وغموض الفؤاد الهمتني. فعندما ينتابني الشوق والتوق لمسك القيم العليا في زمن تهالكت فيه المنظومة الأخلاقية حيث اشعر أحيانا بالغربة، وأحيانا ثانية ينتابني بعض الشك والتساؤل هل انا غير واقعية؟ هل ان الصدق والطيبة والانفتاح على خلق الله ومحبة الناس وتجسيد الذات بلا اقنعة ضعف وقلة مهارة في فن عيش الحياة؟ فجاءت رواية سبعون وهي سيرة ذاتية لتمد لي يد ممتلئة بالطمأنينة والتسامي ولون لحياة حرة كريمة كان صاحبها هو بقدسيته وقوته وضعفه وحيرته وتساؤلاته، وتيهانه، وطريقه، ورشده.4303 ميخائيل نعيمة

سحرتني هذه العبارات "ستكون لي خلوتي، وستكون لي فيها سياحتي بعيدة في العالم اللامتناهي، وسأعود من سياحتي باليقين الذي تطمئن اليه النفس من حيث وجودها والغاية من وجودها. وذلك لن يتم لي الا بغربلة النفس من شوائبها. واذ انا احسنت الغربلة تناثرت عن كاهلي اعباء كثيرة. فانجلت باصرتي وبصيرتي، وأصبح في امكاني ان اعكف على تنظيف بيتي الروحي وترتيبه وان اتبين هدفي من وجودي، ثم ان امضي في شق طريقي الي ذلك الهدف".

هذه الرواية صاحبتها وصاحبتني بأجزائها الثلاثة لمدة أكثر من شهر، وحين انتهيت منها شعرت بحزن يشبه الحزن الذي يحل لحظة وداع صديق صدوق دافئ قريب للقلب، مؤنس، خفيف الظل مر الوقت برفقته بسرعة البرق، وظلت الروح بتوق وترقب للقاء اخر هكذا كان حالي مع سيرة "ميخائيل نعيمة".

أقف بصمت وتدبر وتامل امام مقاربته لمكنون الانسان بالبحر وطبقاته وابعاده واعماقه، وارتعاشاته وانتفاضاته، وتبخراته وتجمداته، وما ينطلق منه ليعود اليه من ينابيع وجداول وانهار.

اشعر بروحي كفراشة تتنقل بين موضوعات الرواية وكأنها حزمة ورد انهل من رحيقها غذاء لروحي. وانا اقرأ اشعر إنني اتنقل بين لوحات فنية يكمن فيها الكثير من الجمال، ما ان انتقل من لوحة الا وشعور الغبطة والنشوة يغمر قلبي، لجمال النصوص طعم يفتح شهية القلب والذهن لالتهام المزيد، أقف بكل اجلال امام هذه اللوحة التي يصف فيها وجود وشعور الام بأبهي وصف فيقول "يا لقلب الام! انه من غير هذا العالم، ومن عنصر ابقي وانقي وأشرف بما لا يقاس من اللحم والدم. انها النفحة العجيبة التي بها تحيي الاكوان وتتماسك، والمحور الازلي، الابدي الذي عليه تدور، وانه لأوسع من الزمان والمكان، والأقوى من الانحلال والزوال".

في رواية سبعون التقط الكثير من العبارات والجمل كأني التقط درر متناثرة هنا وهناك يدهشني ظاهرها وباطنها ومن هذه الدرر تلك العبارة التي لامست روحي " الفرح ليس وقفا على الأغنياء. والكدر ليس منحصرا في الفقراء. انهما في الفكر والقلب أولا، والحياة عادلة في توزيعها الفرح والترح على بنيها. وقد لا تكون المدنية اجمالا غير ارهاق للإنسان وانحرف به عن طبيعته وطريقه القويم". وهذه العبارة التي تتوافق وتنسجم مع مآلات روحي " أنى لأ وثر القلة مع صفاء الذهن والقلب على الوفرة مع اضطراب العقل والقلب معا. وان يكون لي هدف نبيل فأدب اليه دبيب النملة وأدركه لخير عندي من ان اطير بجناحي نسر من هدف خسيس الى هدف اخس".

في نهاية سياحتي في عالم ميخائيل نعيمة وجولاتي في تفاصيل الاحداث وتنقلاتي بين مواقف الأيام والمها وافراحها اربت على كتف روحي برويه وهدوء لأطمئنها أني عائدة لها.

***

د. حميدة القحطاني

كان أدريان هنري شاعرا وفنانا وموسيقيا إنجليزيا مشهورا ارتبط بمشهد الشعر النابض بالحياة في ليفربول في الستينيات. يتميز عمله بطبيعته التجريبية، حيث يجمع بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي. كان هنري جزءا من المجموعة المعروفة باسم "مشهد ليفربول"، والتي ضمت زملائه الشعراء روجر ماكجوف وبريان باتن. معًا، أحدثوا ثورة في مشهد الشعر بنهجهم الجديد غير التقليدي.

غالبا ما يستكشف شعر هنري موضوعات الحب والسياسة والتجربة الإنسانية. يُعرف عمله باستخدامه للصور الحية ولعب الكلمات والشعور بالعفوية. كان هنري مهتمًا بشكل خاص بجسر الفجوة بين الثقافة العالية والمنخفضة، مستوحى من مصادر متنوعة مثل الموسيقى الشعبية والشعارات الإعلانية والأدب الكلاسيكي. جعل هذا النهج الانتقائي للشعر هنري رائدا في حركة الطليعة البريطانية.

واحدة من أشهر قصائد هنري هي "الحب هو ...". في هذه القصيدة، يستكشف هنري الجوانب المختلفة للحب، مستخدما عبارات بسيطة وتصريحية لالتقاط تعقيد وجمال العاطفة. القصيدة مرحة وعميقة، وتُظهِر قدرة هنري على نقل المشاعر العميقة باقتصاد اللغة. "الحب هو..." تم جمعها على نطاق واسع ولا تزال كلاسيكية محبوبة للشعر الحديث.

بالإضافة إلى شعره، كان هنري أيضا فنانا تشكيليا موهوبا. كان شخصية رئيسية في حركة فن البوب البريطانية، حيث أدرج عناصر الكولاج والرسم والنحت في عمله. غالبًا ما عكس الإنتاج الفني لهنري شعره، حيث استكشفت كلتا الوسيلتين موضوعات ثقافة المستهلك ووسائل الإعلام وتقاطع الفن والحياة اليومية. كان فن هنري وشعره لا ينفصلان، حيث كان كل منهما يعلم ويثري الآخر.

لا يمكن المبالغة في تأثير هنري على مشهد الشعر البريطاني. كان رائدًا دفع حدود الشكل الشعري التقليدي والموضوع. ألهم عمل هنري جيلا من الشعراء لتجربة اللغة والصور والبنية بطرق جديدة ومثيرة. لا يزال إرثه باقيا في أعمال الشعراء المعاصرين الذين يواصلون استكشاف إمكانيات الكلمة المكتوبة.

على الرغم من وفاته في وقت غير مناسب في عام 2000، فإن تأثير أدريان هنري على عالم الشعر لا يزال قائما. لا يزال عمله وثيق الصلة وجذابًا كما كان دائما، ويستمر في أسر القراء بذكائه وبصيرته وأصالته الصرفة. يتجاوز شعر هنري الزمان والمكان، ويتحدث عن الحقائق والعواطف العالمية التي تتردد صداها لدى الجماهير من جميع الأعمار. إن تأثيره الدائم على مشهد الشعر البريطاني هو شهادة على موهبته ورؤيته.

كان أدريان هنري شاعرا يتمتع بموهبة وإبداع هائلين، ولا يزال عمله يلهم القراء ويسحرهم حتى اليوم. إن نهجه الانتقائي في الشعر، الذي يمزج بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي، يميزه كصوت فريد ومبتكر في الشعر البريطاني. لا يزال إرث هنري قائما في شعره وفنه والتأثير الدائم الذي أحدثه على عالم الأدب. يذكرنا عمل هنري بقوة اللغة في التقاط تعقيدات التجربة الإنسانية وإثارة الفكر والعاطفة والتأمل. إن شعر أدريان هنري هو شهادة على القوة الدائمة للإبداع والإمكانيات اللامحدودة للكلمة المكتوبة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في عالم الشعر الحديث، يعتبر عزرا باوند وتي إس إليوت شخصيتين بارزتين لا يزال عملهما الإبداعي يتردد صداه بين القراء والعلماء على حد سواء. وبينما نتطلع إلى المستقبل، من المهم أن نفكر في كيفية استقبال وفهم شعرهما من قبل الأجيال الجديدة من القراء.

كان عزرا باوند من أشد المؤيدين للحركة الحداثية، وكثيرا ما دفع عمله حدود الأشكال الشعرية التقليدية. يستكشف عمله المبكر، مثل "الأناشيد"، موضوعات التاريخ والأساطير والسياسة بأسلوب تجريبي ومجزأ للغاية. كما أثر افتتان باوند بالثقافات واللغات القديمة على شعره، مما أدى إلى مزيج فريد من الشكل الكلاسيكي والحساسية الحداثية.

من ناحية أخرى، كان تي إس إليوت معروفا بشعره الفلسفي العميق والاستبطاني. غالبا ما يُنظر إلى عمله البارز "الأرض الخراب" على أنه أحد أعظم قصائد القرن العشرين، حيث تعكس بنيته المجزأة ولغته التلميحية خيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. استمرت أعمال إليوت اللاحقة، مثل "الرباعيات الأربع"، في استكشاف موضوعات الروحانية والوقت بطريقة أكثر تأملا واستبطانا.

تأثر كل من باوند وإليوت بشدة بتجاربهما في العيش في أوروبا ولقاءاتهما مع شخصيات أدبية بارزة أخرى في عصرهما. ساعدت مشاركة باوند في حركة التصوير وتعاونه مع فنانين مثل تي إس إليوت وويليام كارلوس ويليامز في تشكيل مسار الشعر الحديث. من ناحية أخرى، تأثر إليوت بشدة بصداقته مع باوند وانغماسه في الوسط الأدبي والثقافي في باريس.

بالنظر إلى المستقبل، من الواضح أن شعر باوند وإليوت سيستمر في الدراسة والتقدير لعمقه وتعقيده وإبداعه. لقد كان لأساليبهم الشعرية الفريدة واهتماماتهم الموضوعية تأثير دائم على تطور الشعر الحديث وما زالت تلهم أجيالاً جديدة من الشعراء والقراء.

وعلى وجه الخصوص، من المرجح أن يستمر تأكيد باوند على دور الشاعر كناقد ثقافي وتجربته مع الشكل واللغة في التأثير في السنوات القادمة. وعلى نحو مماثل، فإن استكشاف إليوت للموضوعات الروحية والوجودية في شعره سيظل ذا صلة مع استمرار القراء في التعامل مع أسئلة الهوية والمعنى والوجود.

ومع ذلك، من المهم أيضًا النظر في الانتقادات والجدالات المحيطة بباوند وإليوت، وخاصة فيما يتعلق بمعتقداتهم السياسية وارتباطاتهم الشخصية. لقد أدت آراء باوند المعادية للسامية والفاشية، فضلا عن مواقف إليوت الإشكالية تجاه العرق والجنس، إلى تعقيد إرثهما وإثارة تساؤلات حول الآثار الأخلاقية لعملهما.

مع تقدمنا، سيكون من الضروري للقراء والعلماء والمعلمين الانخراط بشكل نقدي في شعر باوند وإليوت، مع مراعاة كل من الإبداعات الجمالية والتعقيدات الأخلاقية لعملهما. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا ضمان استمرار تقدير وفهم شعرهما في سياقه التاريخي والثقافي الكامل، مع الاعتراف أيضا بالقيود والتناقضات في وجهات نظرهما للعالم.

وفي الختام، من المرجح أن يتميز مستقبل شعر عزرا باوند وتي إس إليوت بالاهتمام العلمي المستمر، وإعادة التفسير الإبداعي، والمشاركة النقدية. لقد تركت مساهماتهما الرائدة في الشعر الحديث علامة لا تمحى على المشهد الأدبي، ولا شك أن عملهما سيستمر في تحدي وإلهام القراء للأجيال القادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الخيانة الزوجية أو الزنا موضوع شائع في العديد من القصص الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، والمعروفة أيضا باسم "الليالي العربية". وقد انتقلت هذه القصص، التي نشأت في الشرق الأوسط، عبر الأجيال وتم ترجمتها إلى العديد من اللغات، حيث أسرت القراء بخلفياتها الغريبة والغامضة. غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل محرم يؤدي إلى عواقب على المتورطين فيه، مما يعكس المعايير والقيم المجتمعية في ذلك الوقت.

من أشهر القصص التي تتضمن الزنا في ألف ليلة وليلة حكاية شهرزاد، العروس الشابة التي تحكي القصص لزوجها الملك شهريار لتأخير إعدامها. كان لدى الملك شهريار عادة الزواج من زوجة جديدة كل ليلة وقتلها في صباح اليوم التالي، بسبب اعتقاده بأن جميع النساء خائنات. تستخدم شهرزاد براعتها في سرد القصص لأسر الملك وإبقائه مهتمًا بقصصها، وبالتالي تأجيل وفاتها الحتمية.

في قصة "الحصان الأسود"، الزنا هو أيضا موضوع بارز. يقع البطل الأمير أحمد في حب الأميرة باري بانو ويشرع في سلسلة من المغامرات للفوز بيدها للزواج. ومع ذلك، فإن الأميرة باري بانو متزوجة بالفعل من ملك قوي، مما يؤدي إلى مثلث حب يؤدي في النهاية إلى مأساة وحزن لكل من شارك. يتم تصوير عواقب الزنا في هذه القصة على أنها مدمرة، مع الخيانة والخسارة في المقدمة.

قصة أخرى تستكشف موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة هي "حكاية نور الدين علي وابنه". في هذه القصة، يقع شاب يدعى نور الدين علي في حب امرأة جميلة تدعى قمر الزمان، فقط ليكتشف أنها متزوجة بالفعل من رجل آخر. يؤدي مطاردة نور الدين لقمر الزمان إلى سلسلة من سوء الفهم والصراعات، مما يسلط الضوء على عواقب الخيانة والألم الذي يمكن أن تسببه لمن شاركوا فيها.

غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل معقد وغامض أخلاقيا، حيث تواجه الشخصيات خيارات صعبة وتواجه عواقب أفعالها. في العديد من هذه القصص، تؤدي الخيانة إلى الخيانة، وانكسار القلب، والخسارة، مما يؤكد على أهمية الولاء والإخلاص في العلاقات. تعمل القصص في ألف ليلة وليلة كحكايات تحذيرية، تحذر القراء من مخاطر الانحراف عن مسار البر والعواقب المحتملة للاستسلام للإغراء.

يتشابك موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة أيضا مع قضايا مجتمعية أكبر، مثل الأدوار والتوقعات الجنسانية. في العديد من القصص، غالبا ما يتم تصوير النساء على أنهن ضحايا الخيانة الزوجية، ويعانين من عواقب الخيانة والخداع على أيدي أزواجهن أو عشاقهن. تسلط هذه الروايات الضوء على ديناميكيات القوة في العلاقات والمعاملة غير المتساوية للمرأة في المجتمع، وتسلط الضوء على الظلم الذي يمكن أن ينتج عن الزنا والخيانة الزوجية.

وعلى الرغم من النبرة الأخلاقية التي تتسم بها العديد من القصص في ألف ليلة وليلة، فهناك أيضا حالات يتم فيها تصوير الزنا في ضوء أكثر تعاطفاً. ففي حكاية "الحمّال وثلاث سيدات بغداد"، على سبيل المثال، تتم دعوة حمال شاب إلى منزل ثلاث نساء ثريات ويتورط في علاقاتهن الرومانسية. وتتحدث النساء إلى الحمال عن علاقاتهن وأسرارهن، الأمر الذي يكشف عن فهم أكثر دقة وتعقيدا للزنا وتأثيره على العلاقات.

يعمل الزنا في ألف ليلة وليلة كأداة سردية مقنعة تستكشف تعقيدات العلاقات الإنسانية والمعضلات الأخلاقية التي يواجهها الشخصيات. ومن خلال هذه القصص، تتم دعوة القراء إلى التفكير في عواقب الخيانة الزوجية والطرق التي يمكن أن تشكل بها مسار حياة المرء. وتقدم القصص في ألف ليلة وليلة نافذة على المعايير الثقافية والقيم في المجتمعات التي كتبت فيها، وتسلط الضوء على تعقيدات الحب والولاء والخيانة التي لا تزال تتردد صداها بين القراء اليوم.

إن الزنا في ألف ليلة وليلة هو موضوع متكرر يلعب دورا محوريا في العديد من القصص الموجودة في هذه المجموعة. ومن خلال حكايات الحب والخيانة وألم القلب، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة استكشافا دقيقا ومعقدا للخيانة وعواقبها. من العواقب المأساوية للخيانة إلى تعقيدات التشابكات الرومانسية، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة نسيجا غنيا من السرديات التي تستمر في أسر القراء بموضوعاتها الخالدة وحقائقها العالمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يتعمق وليم بتلر ييتس، أحد أشهر الشعراء في القرن العشرين، في موضوع الحب في شعره. فمن خلال أعماله الواسعة، يستكشف ييتس التعقيدات والفروق الدقيقة للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. تعكس قصائده تجاربه الشخصية مع الحب، فضلا عن تأملاته الفلسفية حول الطبيعة القوية والمحولة لهذا الشعور العالمي.

في العديد من قصائد الحب التي كتبها ييتس، يشكل الحب الرومانسي موضوعا مركزيا. تتحدث إحدى أشهر قصائد الحب التي كتبها، "عندما تكبر"، عن الطبيعة الدائمة للحب وقدرته على تجاوز الزمان والمكان. يلتقط ييتس جوهر الحب غير المتبادل والشوق الذي يصاحبه، حيث يتوسل إلى موضوع عواطفه أن يتذكره في سن الشيخوخة. تعكس هذه القصيدة تجارب ييتس الشخصية مع الحب والخسارة، حيث تصارع مع الحب غير المتبادل طوال حياته.

كما يستكشف ييتس موضوع الحب في سياق العلاقات الأسرية. في قصائد مثل "صلاة من أجل ابنتي"، يعبر ييتس عن حبه العميق واهتمامه بابنته، وهو يتأمل التحديات التي ستواجهها في الحياة. ومن خلال شعره، يتأمل ييتس تعقيدات العلاقات بين الوالدين والطفل والحب الدائم الذي يوجد بين أفراد الأسرة.

بالإضافة إلى الحب الرومانسي والعائلي، يستكشف ييتس أيضا موضوع الحب الروحي في شعره. في قصائد مثل "البجع البري في كول" و"أغنية أنجوس المتجول"، يستكشف ييتس فكرة الحب الروحي المتسامي الذي يوجد خارج العالم المادي. من خلال هذه القصائد، يتصارع ييتس مع فكرة الحب الأبدي والبحث عن التنوير الروحي.

غالبا ما يتشابك استكشاف ييتس للحب في شعره مع موضوعات الطبيعة والتصوف. في قصائد مثل "جزيرة بحيرة إينيسفري" و"الطفل المسروق"، يصور ييتس الحب كقوة تتأثر بالعالم الطبيعي والعناصر الغامضة التي تحيط بنا. ومن خلال لغته الغنائية وصوره الحية، ينقل ييتس القوة التحويلية للحب وقدرته على ربطنا بالعالم من حولنا.

إن أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في شعر الحب لدى ييتس هو قدرته على التقاط تعقيد وعمق المشاعر الإنسانية. في قصائد مثل "يتمنى الحصول على أثواب السماء" و"القبعة والأجراس"، يستكشف ييتس الطبيعة الصاخبة للحب والعواطف المتضاربة التي تنشأ عنه. ومن خلال شعره، يتصارع ييتس مع الرغبات والعواطف المتضاربة التي يمكن أن يثيرها الحب، حيث يتعمق في تعقيدات القلب البشري.

لا يقتصر استكشاف ييتس للحب في شعره على التجارب الشخصية، بل يمتد أيضا إلى تأملات فلسفية أوسع حول طبيعة الحب نفسه. في قصائد مثل "لعنة آدم" و"حماقة التعزية"، يتأمل ييتس التأثير العميق الذي يمكن أن يخلفه الحب على حياتنا والطبيعة الدائمة لهذا الشعور القوي. ومن خلال شعره، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وقدرته على تشكيل هوياتنا وعلاقاتنا.

من خلال شعره، ينقل ييتس فهما عميقا لتعقيدات الحب وتناقضاته. من شدة الحب الرومانسي العاطفي إلى الروابط الدائمة للعلاقات الأسرية، يستكشف ييتس الجوانب العديدة للحب في جميع أشكاله. من خلال لغته البليغة وصوره الحية، يلتقط ييتس جوهر الحب وقوته التحويلية في حياتنا.

في الختام، فإن شعر وليم بتلر ييتس هو استكشاف مؤثر للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. من خلال لغته الغنائية وصوره الحية، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وفروقه الدقيقة، ويلتقط جوهر هذه العاطفة العالمية ببصيرة عميقة وحساسية. تعكس أشعاره فهما عميقا للقلب البشري والقوة السامية للحب في تشكيل حياتنا وعلاقاتنا. إن استكشاف ييتس للحب في شعره هو شهادة على الطبيعة الدائمة لهذه العاطفة القوية وقدرتها على ربطنا ببعضنا البعض وبالعالم من حولنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ثقافة الشباب والدين والاندماج والمظاهر العنصريه في الدنمرك:

الشباب أكثر تأقلماً في زمننا الحالي حيث صار العالم حقاً قريةً صغيرةً، نلاحظ أنهم يتشابهون في أزيائهم ومظاهرهم وأساليبهم الحياتية في مختلف أصقاع العالم بحكم انتشار السلع من نفس الماركات المعروفة عالميا، في آسيا وأفريقيا يحبون الأزياء الأوروبية ويبدون كأنهم يقلدون الأوروبيين، لدرجة أن بعضهم يرتدي أحذيةً أوروبية شتويةً! لهذا لا يعني هذا أن أغلبهم مندمج بالثقافة الغربية، هذا موضوع آخر، قد يكون العكس صحيحاً في أوساط شبابية معينة بسبب القضية الفلسطينية ومضايقة العرب والمسلمين المقيمين في الغرب، على الأقل إعلامياً.

إذن نحن نلاحظ ثقافة عامة يتميز بها قسم من الجيل الجديد، لكن هذا لا يمنع أيضاً من وجود مجاميع أخرى منهم ينتمون إلى ثقافاتهم الفرعية الخاصة، قد تكون دينية تبرز اثناء ممارساتهم لشعائرهم الدينية مثل الحج أو زيارة الكنائس وبوذا ومعابد الهندوس واحتفالات الصوفيين في مصر والمغرب، والتشابيه السنوية لمقتل الحسين سبط الرسول محمد واللطم عليه منذ نحره قبل ألف وأربعمائة سنة تقريبًا! إنها نوع من تطهير الروح أو الكَثارسيس katharsis! وجلد الذات والشعور بتأنيب الضمير! ويريدون أن يطلع الآخرون في أوروبا على ثقافتهم وطقوسهم بغض النظر عن تسييس الدين وتجييشه من قبل بعض الأحزاب الدينية، ولهذا يرى السياسيون الغربيون من الأفضل السماح لهم بممارستها علناً إذا كانت غير عنيفة، وضمن القانون كي يشعروا بانتمائهم لمجتمعهم الجديد وبالتالي يندمجوا فيه. على الثقافات الكبيرة أن تحترم نظيراتها الفرعية الخاصة وتتقبل الناس كما هم منعاً للشعور بالتهميش والعنف والتطرف وعدم الانتماء للمجتمع والولاء له.

كل هذه المراسيم والطقوس صارت فضاءاً ثقافياً وروحياً يحقق البشر فيه ذواتهم ويعبرون عن مشاعرهم وراحتهم النفسية بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بها من قبل الآخرين. في الدنمرك توجد ايضاً كنائس مختلفة لها نشاطات وطقوس متنوعة، ومدارس دينية وجمعيات خاصة لليهود والمسيحيين والمورمونيين وغيرهم.

الدين هنا يلعب دوراً كبيراً في حياة البشر بغض النظر عن ممارستهم لتعاليم اديانهم من عدمها أو إيمانهم بها من عدمه، لكن الثقافة الدينية بكل حذافيرها تكون أوضح في السلوك اليومي وتفاصيل الحياة اليومية في كل صغيرة وكبيرة لدى الأصوليين والمتزمتين والمنغلقين.

قد يشعر بعضُ هذا النوع من البشر بصعوبة الاندماج الحقيقي في المجتمع ويعترض على ممارسات مجتمعية كثيرة، ولهذا يحاول تجنبها ويفضل إرسال أطفاله مثلًا إلى مؤسسات تعليمية متزمتة خاصة ومغلقة.

هذه الحالة تشمل كل الأديان التي نعرفها، بل حتى التيارات السياسية والفكرية أحياناً، التي أصبح مريدوها ملتزمين بها مثل اي دين، ويعتبرون أنفسهم الوحيدين على حق، و"باقي الناس كلهم تراباً". 

كل هذه العوامل تلعب دوراً في التأقلم ضمن المجتمعات الديمقراطية العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة.

لكن هناك العامل الاقتصادي، ففي العالم الثالث، في آسيا وافريقيا توجد فوارق طبقية بين الناس، وبين سكان المدن الكبيرة والريف والمتعلمين وغير المتعلمين، ولكل فئة ومجموعة من هؤلاء البشر ثقافتها حسب ظروفها الخاصة التي تعكس اسلوب حياتهم، فالسكن في الأكواخ والخيام وبيوت الطين والصفيح ليس كالمنازل العادية أو القصور.

المناطق السكنية الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية مثل الثورة في بغداد والعمرانية في إسطنبول وإمبابا في القاهرة لها ثقافتها الخاصة بها وأسلوب حياة اجتماعي يميّز سكّانها، فَهُم أكثر تواصلًا مع بعضهم بعضاً، واختلاطاً، وتعاوناً، وتعاطفاً.4277 زهير شبيله

الدنمركيون ورُهاب الغرباء:

العمل ضروري للإنسان، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره!

عندما يهرب الناس من بلدانهم مضطرين نتيجة الحروب أو الملاحقات بسبب معتقداتهم ليس كَمَن يُهاجر طوعاً لغرض العمل، أو ليس حتى مثل أولئك الذين يسافرون بشكل رسمي وعلني بفيزة لم الشمل وبدون المغامرات.

كل هذه الفئات تعاني في البداية من صعوبات التكيّف والاندماج في المجتمع الدنمركي العلماني الديمقراطي، بسبب عدم معرفتهم باللغة وفهمهم "البسيط" لأديانهم بما فيها الإسلام، وثقافتهم الريفية المختلفة عن مجتمع "النصارى" الغربي كما يسمّونه، وخوفهم منه بغض النظر عن تفاوت الاختلافات نسبيا بين هذه الفئات سواءًا كانوا لاجئين أم وافدين مغتربين قدموا للعمل هنا من قرى وأرياف وجبال "الدول الدافئة".

بالنسبة للعرب والمسلمين مثلاً فإنهم قدموا إلى الدنمرك بأعداد قليلة جداً في الستينات، لكن أكثرهم جاؤوا إليه بسبب الحروب من لبنان وفلسطين وإيران والعراق والصومال وأخيراً سوريا وليبيا وتونس والخ، وبالذات في فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، وظهور الإسلام "كعدو" جديد بدلاً عن هذه الدولة الكبرى الساقطة.

انشغل الإعلام الغربي بالذات بالحركات الإسلامية وتم تصوير الأمر أحيانًا كأن كل المسلمين تربوا على العنف وكره الآخر، متطرفون وإرهابيون وأُصوليون ومتشددون ومنغلقون، وصار قسم منهم يشعرون أنهم مرفوضون من المجتمع، مقبولون فيه قانونياً فحسب. وكل شيء هنا نسبي ومتوقّف حسب قدرات الشخص المغترب أو اللاجىء وطرق تعامله مع أهل البلد، الذين هم أيضاً متنوعون ولهم انتماءات سياسية مختلفة، ومنهم يساريون متعاطفون جداً مع الغرباء، لكن اغلبهم يحترم القانون. 

وقد أكد لي المستشرق الدنمركي الدكتور يورجين بيك سيمونسن المتخصص بالإسلام، في مقابلة أجريتها معه في بداية التسعينات أنّ الإعلام الغربي يثبت قناعات الخوف من المهاجرين ويعطي صورة سيئة عنه.

لم يكن سوق العمل الدنمركي  مستعداً ولا راغباً حقاً كما يجب، في استيعاب مئات المتعلمين والأساتذة الجامعيين من الأجانب القادمين من "البلدان الدافئة" أو "غير الغربية"، وأصبح ليس من السهل عليهم الحصول على العمل باختصاصاتهم الدقيقة وشهاداتهم الجامعية العليا، بمن فيهم أحياناً الأطباء واطباء الأسنان الذين اضطروا لبذل جهود ٍ كبيرةٍ ولعدة سنوات كي يحصلوا على عملٍ وتستوعبهم المؤسسات. على العكس من ذلك لاحظتُ من خلال عملي مع الأوكرانيات والأوكرانيين أن الأمر يختلف تمامًا حيث تحركت مؤسسات الدولة كلها من الحكومة حتى أصغر دائرة فيها من أجل استيعابهن (هم) في سوق العمل، وقبل تعلّمهن لغة البلد الدنمركية!

كنّا نكرّرُ الحديث عن دور العمل في تأقلم الغرباء في المجتمع، ولكي يشعروا أنهم جزء فاعل منه. وإلا فكيف تحصل هذه العملية بشكل إيجابي في مجتمع يخذلهم! العمل حق وواجب وضروري لمن يريد ذلك، كالهواء ومَن لا يعمل لا يأكل. نقصدُ هنا طبعًا أولئك القادرين على العمل وليس الذين يعانون من إعاقات وأمراض عضوية ونفسية تمنعهم عن الدخول في سوق العمل.

هذه الصعوبات أو العراقيل تعيق اندماج هؤلاء البشر، فالعمل ضروري للمتعلم بالذات، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره ويحرمه من أهم شيء لدى الإنسان.

ومع ذلك هناك أمثلة إيجابية رائعة وساطعة تبين نجاحات حققها اللاجئون العصاميون أصحاب الشهادات العليا من الجيل الأول، حيث تعلموا اللغة وعادلوا شهاداتِهم واستخدموها، بالذات الأطباء، حتى وإن لم تُفدهم من حيث تحديد الراتب الشهري في التوظيف، ومنهم من أضطر إلى تغيير مهنهم حسب فرص العمل في هذا البلد. ولهم دور كبير في عملية الاندماج والدفاع عن ثقافة المجتمع الديمقراطية.

بالنسبة للحرفيين من الميكانيكيين والعمال والطباخين والمنظفين، فالأمر أسهل بكثير من الخريجين الجامعيين لتوفر فرص عمل لهم في السوق الرسمي أو الموازي "الأسود".

بل إن أغلب هؤلاء اندمج في المجتمع بأقل خسارة شخصية معنوية، ويمكن أن نقول إنهم حققوا أمنياتهم وأحلامهم في ورشاتهم ومطاعمهم التي تمثل طموحاتهم، وإنهم أحياناً أكثر انفتاحاً على المجتمع الدنمركي من بعض اصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل، بحكم تواجدهم في سوق العمل وتواصلهم مع زبائنهم الدنمركيين وغيرهم الذين يتعاملون معهم بلطافة وأريحية طالما أنهم يقدمون لهم خدماتٍ جيدةٍ مقابل أجورٍ أقل من الآخرين.

وَهُم في حقيقة الأمر مرتاحون نفسياً حيث حصلوا على العمل الذي يطمحون له ولديهم جواز سفر يمكنهم من دخول اغلب بلدان العالم، وربّوا أبناءَهم وبناتهم في ظروف ماديّة أفضل تختلف كثيراً عن ماضيهم وطفولتهم القاسية. 

إنهم ممتنون للدنمرك الذي وفر لهم كل هذه الظروف! وفي النهاية تبين التجربة أن اغلبهم اندمج وتأقلمَ بهذا الشكل أو ذاك بمرور الزمن في المجتمع الدنمركي.

الاندماج هنا لا يعني تخلّي الشخص عن ثقافته ودينه وتقاليده، فهناك أصوليّون متزمتون لكنهم متأقلمون في بعض البلدان الغربية، والأمثلة كثيرة. من الضروري هنا التمييز بين التأقلم والتكيّف، والاندماج، والتماهي، والانحلال.

أما ابناء الجيل الثاني أو الثالث من اللاجئين فأصبحَ من السهل أن نجدَ بينهم الأطباء والمهندسين والعمال والميكانيكيين والبنائين، وفيهم الأخيار وقليل من الأشرار بالتأكيد.

لكن تبقى الخلفية الاجتماعية وثقافة الشخص هي التي تعكس طبيعة انطباعات كل إنسان عن بلدهم الجميل الجديد الذي اسمه الدنمرك.

مرة من المرات سألتُ أحد اللاجئين الشباب البسطاء للغاية من المعوقين قليلاً القادم من بلد مليء بالحروب والصعوبات:

-  ما رأيك بالدنمرك؟

أجابني مبتسماً على الفور وبمنتهى السعادة:

-  الدنمرك بلد يجنّن! شمعه وكأس وحبيبه!

هكذا لخص رأيه بكل بساطة بالدنمرك الجميل! هذه هي مشاعره عن الدنمرك، إنه سعيد للعيش فيه! لِمَ لا ؟ إنها بالنسبة له هبة من ربِّ العالمين!

نعم، لِمَ لا؟ إنه إنسان ضعيف، يُعامل كطفل مدلّل هنا في بلد الرفاهية، يحصل على كل الامتيازات الضرورية ويلقى أرقى معاملة لم يحلم بها طوال حياته في بلده حيث الحروب والفوضى، بينما في نفس الوقت، يمكن أن نجد شخصًا آخر من نفس بلاده من حملة الشهادات العليا، يعاني من البطالة طوال حياته  ويشعر بالكآبة والإحباط، وقد يعتبر الدنمرك "سجناً كبيراً مرفهاً" بالنسبة له.

نعم، النظام الاجتماعي هنا يهتم بالضعفاء، ويوفر لهم كل الرعاية بينما قد يصعب أحياناً دعم المتعلمين المؤهلين. 

الدَنْمَرك بلد صغير وجميل، قوانينه علمانية، لكن الشعب يحتفل بأعياد مسيحية دينية، ثقافته مسيحية، شعب طيب وصل إلى مستوى عالٍ من التطور، ولهذا هناك من يرى أنه مِن "حقه" أن يخاف من الآخر القادم من بلدان العنف ويتحفظ.

وهنا اتذكر قصة "اضطراب في الضواحي" للكاتب الدنمركي الراحل لايف باندورا، كيف يصور الخوف من الغريب في المجتمع الدنمركي.

نقرأ في هذه القصة نهاية ساخرة مؤلمة عن رجل غريب (أفريقي المظهر) يسكن في قرية مع الدنمركيين، يقولون عنه: "ها قد أيقظناه وقلنا له، بأننا كنا بالتأكيد نعرف بأنه من آكلة لحوم البشر- لا يمكنه أن يخدعنا. عرفنا ذلك منذ اليوم الأول عندما جلس في قطارنا. وهكذا فقد قتلناه وأكلناه".

  Lief Pandura, Uro i forstæderne, 1962

المجتمع الدنمركي لم يعد منسجماً كالسابق، فقد تغيّر وتطوّرَ كأي تكوين بشري آخر، وكوبنهاجن مثلاً بالذات صارت مدينة ترى فيها شباباً يتكلمون الدنمركية بدون لكنة، لكن بشراتهم مختلفة الألوان: فيهم الهجين الخليط، والشقر والبيض والسمر، والسود والصُفر، فيهم الأخيار والأشرار، المتدينون والملحدون واللادينيون وغير المتدينيين مثل بعض المسلمين الشباب في العراق مثلاً، الذين كانوا يقولون في السبعينات مازحين: "مسلم بالجنسية"، فيهم المتفتحون والمنغلقون، اليمينيون، والمحافظون والعنصريون واليساريون.

في الدنمرك كان أيضاً عندهم صراع بين اليمينيين المحافظين والشيوعيين واليساريين المتعصبين الأشداء مثلما في البلدان الأخرى، عندهم "مكسيم غوركي الدنمرك"، الكاتب الواقعي الاشتراكي مارتِن اندرسن نيكسو  Martin Andersen Niksø، وهانس شارفي Hans Scherfig  الذي يقولون عنه مازحين: "إنه كاتب وفنان وشيوعي"! 

لكن مع ذلك صار قسم منهم ( على الأقل حتّى حربي اوكرانيا وغزّه) متفتحين، يتقبلون الآخر، أو على الأقل يتظاهرون بذلك، لا أحد هنا يريد أن يُتّهم بالعنصرية، ومقولَبين مبرمَجين، ومرَّتبين بيتوتيين مشغولين بأعمالهم وحدائقهم وعلاقاتهم العائلية والخاصة ومواعيدهم والاحتفال بأعياد ميلادهم والمناسبات الكثيرة الأخرى، يعشقون المواعيد. وهُم حسب تجربتي الشخصية اجتماعيون جداً لكن طريقتهم في الحياة منظمة للغاية، وتظهر عندهم التلقائية وبعض "الفوضى" و"الانفلات" بالذات عندما تشرق الشمس، أو عندما يكون الصيف ساحراً جميلاً.

وعندما حاولت أن أفهم معنى الدَنْمَركَه أو "الدانسكهذ" قبل اكثر من ثلاثة عقود، فهمتُ أنها: تعني فيما تعني الاهتمام بالجمعيات والاتحادات وكل ما يشمل منظمات المجتمع المدني، والمدارس الشعبية العليا التي أسّسها جروندفي حيث يلتقي مختلف الناس فيها كنوع من تغيير الجو، ويتعلمون الأمور بطريقة الاسترخاء، قد تشبه أحياناً مقاهي الشرق الأوسط الأدبية والديوانيات والمضايف، وأمر آخر هو: أن الدنمركيين "يُطلعون أو يَعرضون" منازلَهم الجديدة على ضيوفهم المقربين الذين يدخلونها لأول مرة. وهو أمر غير غريب تماماً على الناس في البلدان الأخرى، حيث يقومون أيضاً بالأمر نفسه عندما يزورهم المقربون كلما ينتقلون إلى منزل جديد.

فثقافات الشعوب عمومًا إنسانية ومتشابهة لكنها متنوعة ببفي الوقت ذاته، وهنا تكمن أهميتها وثراؤها.

غالباً ما نسمع بعض المغتربين ممن يقولون مثلاً "نأحذ من الثقافة الغربية ما يناسبنا ونهمل ما لا يعجبنا" كأنهم في سوبرماركت يختارون السلع التي يحتاجونها، لكن هذا الأسلوب قد يمكن استخدامه بالنسبة للجيل الأول أو أولياء الأمور، وسيكون صعباً على الأطفال حيث سيندمجون مع اترابهم من أبناء البلد الأصليين مع بعض الاختلافات.  

ولا يمكن أن أنهي هذا المقال بدون أن أتذكر أني قرأت في التسعينات بعد احتلال الكويت رسالة مواطن دنمركي، يقول عن نفسه بأنه أقام في الكويت 19 سنة، وإنه الآن عاد إلى وطنه الأصلي الدنمرك ويعاني من الصعوبات في "إعادة اندماجه" او تأقلمه به، فقد اعتاد على حياته السابقة في الكويت رغم سخونة الجو هناك.

وإذا تحدثنا عن العنصرية هنا فلا يسعني إلا أن أتذكر قصيدة شاعر الشعب الدنمركي الساخر الإنسان الرائع والصديق عازف البيانو الراحل بني اندرسن "بلاد هانس كريستيان أندرسن"، الذي حدثني شخصياً عن معاناته وزوجته الباربيديسيه سينثيا من سلوك العنصريين العدواني تجاههما، وقد كتب رسالة في الصحف بعد أن تسلّم تهديدات من الحزب العنصري.

يصف بني أندرسن العنصريين كمجموعة كانت صغيرة ومنبوذة، لكنها تكاثرت بالتدريج ونظمت نفسها في حزب خطير. وأنا أقول هنا إن هذا الحزب وُجدَ أيضاً كرد فعل للمتطرفين والمتزمتين من ثقافات أخرى، ولهذا أكّدَ الشاعر على أننا كلنا بشر ولدينا ثقافاتنا التي نحبها ونعتز بها، وما علينا إلا الاحترام المتبادل والعمل من أجل ازدهار الدنمرك ومساعدة الدول الفقيرة ونبذ الكراهية والتعالي على الآخرين، وأورد مقطعاً منها. يستخدم الشاعر هنا في نهاية القصيدة عبارة gør vores skam til skamme

التي تعني هنا: اجعل عارَنا بلا أساس أو سبب وذريعة، أقضوا على أي تبرير وأساس لهذا الخزي من خلال القيام بأفعال مشرفه، خلّصنا من خزينا من خلال الأعمال الإيجابية! لنبرهن بأننا ليس لدينا ما نخجل منه! بأننا لسنا عنصريين!

Benny Andersen, H. C. Andersens land

-  بلاد هانس كريستان أندرسِن

-  الدَنمَرك

-  أُحتلَّ مرةً من قبل جرمانٍ مجانين

-  ويُحتلُّ قريباً من قِبَل المسكونين الدَنمَركيين*

-  بلدي تسكنه الظهور**

-  بلدي الذي دائما

-  يتهافتون فيه على

-  أحذية صغيرةٍ جداً***

-  تم الخلط بين بلدي ذي الأفق المنكمش

-  فتصوروه صُرّةَ العالم  

*

-  أيها الدنمَرك

-  بلدي المتَجَهّم

-  كُن راشداً وكبيراً

-  افتحْ عينيك

-  افتحْ ذراعيك

-  حتى نستطيع أن نرفع رؤوسنا

-  بانتمائنا لكَ.

*

-  أيها الدنمرك

-  لا تقللْ من شأنك

-  كُنْ  نموذجاً

-  قُمْ بواجبك في العالم

-  خلّصنا من عارنا

-  بحيث يمكننا أن نجدد سمعتكَ.

من ديوان: الزمان واللقلق، المجموعة الكاملة، 1998

.............

* يستخدم الشاعر نفس الفعل: المحتلون، لكن بمعنى المسكونين هم بالجن، أي المختلون وهنا يلعب بالكلمات ويقدم صوراً مختلفة.

** تسكنه الظهور، يعني الناس الذين يديرون ظهورهم للآخرين ازدراءً لهم.

*** التهافت على حذاء ضيّق وصغير جداً، وأنيق ونادر، تعبير مجازي إشارة للإسراع في الحصول على شيء ما قبل أن ينفذ، ويشير عموما إلى ضِيق الأفق والاهتمام بأمور تافهة.

***

د. زهير ياسين شليبه

 

ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضًا باسم الليالي العربية، هي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط التي جُمعت خلال العصر الذهبي الإسلامي. وقد انتقلت القصص عبر الأجيال، وتشمل حكايات عن السحر والمغامرة والحب والخيانة. وفي هذه القصص، يسود موضوع الدكتاتورية، مع العديد من الأمثلة على الحكام المستبدين الذين يضطهدون شعوبهم ويستغلون سلطتهم.

ومن أشهر الأمثلة على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك شهريار، الذي يتزوج عروسًا جديدة كل ليلة ثم يقتلها في صباح اليوم التالي لضمان عدم خيانتها له. وهذا السلوك القاسي والاستبدادي هو مثال واضح على الحاكم الذي يحكم من خلال الخوف والترهيب، بدلاً من العدالة والرحمة. وفي النهاية، تؤدي دكتاتورية شهريار إلى سقوطه، حيث أطاحت به زوجته الذكية والحاذقة شهرزاد.

ومن الأمثلة الأخرى على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك يونان، الذي أصبح مهووسًا بفتاة جميلة جارية، واحتجزها في قصره. ويتحرك سلوك يونان الدكتاتوري بدافع من شهوته ورغبته في التملك، حيث يستخدم قوته للسيطرة على الفتاة والتلاعب بها لتحقيق رغباته الأنانية. وتسلط هذه العلاقة المسيئة والقمعية الضوء على التأثير المدمر للدكتاتورية على الحاكم والمحكوم على حد سواء.

في قصة علاء الدين، استولى الساحر الشرير جعفر على السلطة في المملكة من خلال استغلال القدرات السحرية للبطل الشاب. وتتميز دكتاتورية جعفر بملاحقته القاسية للثروة والسلطة، حيث يستغل مواهب علاء الدين لتحقيق مكاسبه الخاصة. ومن خلال التلاعب والخداع، يثبت جعفر نفسه كحاكم طاغية يفرض إرادته من خلال الخوف والترهيب.

تتناول قصة علي بابا والأربعين لصًا أيضًا موضوع الدكتاتورية، حيث يمارس الزعيم القاسي لعصابة اللصوص سيطرته على أتباعه من خلال الخوف والعنف. يحكم زعيم اللصوص بقبضة من حديد، مستخدمًا قوته لقمع واستغلال أهل المدينة. تؤدي تصرفات علي بابا الشجاعة لتحدي الدكتاتور في النهاية إلى سقوطه، لأنه غير قادر على الصمود أمام انتقام الطاغية.

في جميع أنحاء ألف ليلة وليلة، يتم استخدام موضوع الدكتاتورية لاستكشاف العواقب المدمرة للسلطة غير المقيدة والطغيان. تصور القصص الحكام الذين يسيئون استخدام سلطتهم، ويضطهدون رعيتهم، ويستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. غالبًا ما يتم تصوير الشخصيات التي تقاوم الدكتاتوريات وتتحداها في هذه الحكايات على أنها أبطال يجسدون قيم العدالة والحرية والرحمة.

على النقيض من الحكام المستبدين في ألف ليلة وليلة، هناك أيضًا أمثلة على الملوك الخيرين والعادلين الذين يحكمون بالحكمة والإنصاف. إن هؤلاء الحكام يدافعون عن مبادئ العدالة والمساواة، ويعملون من أجل تحسين أحوال شعوبهم بدلاً من خدمة رغباتهم الأنانية. ويسلط التباين بين هذين النوعين من الحكام الضوء على أهمية الحكم الرشيد وعواقب الدكتاتورية.

وفي الختام، فإن موضوع الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة المطلقة والطغيان. وتصور القصص التأثير المدمر للحكم الدكتاتوري على الأفراد والمجتمعات، وتسلط الضوء على الحاجة إلى العدالة والرحمة والمساءلة في الحكم. ومن خلال استكشاف عواقب الدكتاتورية في هذه القصص، تقدم ألف ليلة وليلة رؤى قيمة حول طبيعة القوة والسلطة، وأهمية مقاومة الظلم والطغيان.

***

محمد عبد الكريم يوسف

كان دائم التحليق لا يتوقف في اجوائه الراقصة الا ليستأنف تحليقاته اللافتة، وكان ينتقل من زمان إلى مكان وكأنما هو يُشهد احدهما على وجود الآخر، وذلك في رحلة شك قصدت اليقين منذ خطواتها المبكرة الاولى في سديم غير مرئي وعالم اوضح ما يكون فيه مضببٌ خفيّ. بقي يتابع هوايته هذه في تحليقه الزمانيّ.. المكانيّ حتى اللحظات الاخيرة عندما شعر بوخز في وجوده.. في البداية لم يعر وخزه هذا اهتمامًا يذكر.. وبقي محافظا على عدم اكتراثه ذاك حتى لاحظ ما هو فيه احد مرافقيه في رحلته التحليقية اليومية، فهمس في اذنه طالبًا منه ان يتوجه إلى طبيبه.. فالأمر على ما يبدو ليس عاديًا كما خيل إليه.. عندها غامت الدنيا في عينيه وتفاقم وخزه.. ولم يكن امامه سوى ان يتوجه إلى طبيبه لتبدأ رحلته نحو النهاية. اربعة اشهر من المعاناة اليومية، اختتمها بالكتابة عبر الفيسبوك إلى احد اصدقائه الشعراء قائلًا: انني اعاني كل لحظة. اطلب من الله ان يضع حدًا لآلامي هذه.. لارتاح قليلًا.. لا اعرف ما اذا كان صديقه قد استجاب له وطلب له ما اراده.. غير ان ما حدث هو ان قلبه الخفاق توقف عن نبضه الدافئ.. وجاءت إليه النهاية ذات لحظة مؤلمة واضعةً حدًا لما عاناه من مواجع.

تعرد علاقتي بالفنان زياد ابو السعود الظاهر (1946- السبت 16/ 7/ 2021)، إلى سنوات بعيدة موغلة في البعد، الامر الذي يُصعّب عليّ تذكر بداياتها الاولى.. منذ كان شارع شهاب الدين في بلدتنا الحبيبة المشتركة، كانت هذه العلاقة. لا اعلم ربما ابتدأت بهزة راس من احدنا هو المهندس الفنان، عاشق التاريخ والوارث الامين لأجداده.. الشيخ ظاهر العمر واحفاده، ومستحضرًا اياه من اعماق التخييل والواقع، ليرسمه كما استمع من الآباء والاجداد وكما قرأ عنه في هذا الكتاب ذي الاوراق الصفراء المهترئة او ذاك، لقد لحقت فتنة الماضي وروعة الارث به فراح يضع الرسمة تلو الاخرى لجده العظيم وباعث الروح القومية ابان الاستعمار التركي لبلادنا، الشيخ ظاهر العمر، وزعيم عائلته، فسعى طوال ايام حياته المديدة نوعا ما ( عاش زياد 75 عاما)، لتثبيت الذاكرة عبر ادوات الرسم من قماش " كنفس".. ريش والوان، وقد لفت صنيعُه هذا انظار كل من همه الامر.. ابتداء من الكاتب ابراهيم نصرالله صاحب "قناديل ملك الجليل"، انتهاء بالعديد من الباحثين والدارسين المعنيين، مرورًا بأهال من بلدته والبلاد عامة، فسرت في شوارع الحاضر همسة تنبئ الجميع بما سعى اليه وقام به، الامر الذي ملاه بالنشوة ودفعه للمواصلة حد الزهو.. فهل هناك في العالم اروع من ان ترى رد فعل ما قُمتَ وتقوم به اولًا بأول؟

رسوماته هذه شجّعته على المضي في طريق البحث والاكتشاف وحضّته على التعمق في تاريخ اهالي بلدته مَنْ هُم من اين جاؤوا وما هي اسرارهم وانتماءاتهم، وما إلى هذه من اسئلة، ابتدأ بوضعها طيب الذكر القس اسعد منصور في كتابه المرجع الشهير عن الناصرة وعائلاتها، ولم يتوقف هنا وعند هذا وانما تجاوزه مستثمرًا مسطرته الهندسية وريشته الفنية، ليقوم بفعلٍ لافتٍ هو رسم شجرة العائلة لهذه العائلة او تلك، وهكذا انفتح باب آخر من ابواب الوجود واسراره في مغائر بلدته المقدسة ودهاليزها المغلقة.. فبعد ان فتح باب التركة الرائعة للظاهر عمر، ها هو يفتح باب الانساب العائلية في البلدة المقدّسة، وها هو يجمع المجد من اطرافه كما رأى مهيار الديلمي في قصيدته الخالدة، فيؤصل لوجوده وينتقل بعد ذلك ليؤصل لوجود ابناء بلدته مصرًا على عمق الوجود واصالة المحتد. وكنتَ انت صديقه الكاتب ترقبه اولًا من بعيد وبعد ذلك من قريب، متنقلًا من معرض فني إلى آخر ومن محاضرة عن العائلات واصولها، اشجارًا وفروعًا، يتنقل تنقل طائر محكي من بلدة إلى أخرى ومن قاعة إلى سواها، عارضًا وراويًا وكلُّ دينه وديدنه ان يقدّم شيئًا للرواية العربية الفلسطينية المهددة بالغياب والاندثار ما لم يكن هناك حول اسوارها خفر وحراس.

انك ترقبه في هذا كله تتابعه بصمت المحب وامل العاشق، فتسعى وراءه " ع الدعسة"، تشاهد ما يعرضه من صور لجدّه الاول الشيخ ظاهر العمر الزيداني، ولكل الاماكن التي ابتناها في طول البلاد وعرضها، مثل الناصرة شفاعمرو وعرابة البطوف.. ها انت تكتشف انك صرت شاهدًا على ولادة تاريخ وتراث من نوعين اخرين، فتسعى إليه لتكتب عنه ماجدًا وسليلًا لتاريخ تليد. كتابتك هذه عنه تثلج صدره ويرى فيها تتمةً لما ابتغاه من ردة فعل على ما قام به عطاء ثرٍّ غني.. وتندمج تلك الكتابةُ بغيرها من الكتابات المماثلة عنه وعن رحلته مع التاريخ تركةً وعائلةً، وتتوطد العلاقة بينك وبينه لتشمل العديد من النقرات على بابه المغلق دائمًا وابدًا، ولينفتح ذلك الباب لتستأنفا معًا رحلة ابتدأت ولم تنتهِ..

الآن وقد انطوت هذه الصفحة المعبّرة والمؤثرة في حياتك الخاصة وحياة بلدتك العامة، بإمكانك ان تقول ذهب زياد.. مضى في طريقه الابدي وانك لن تلتقي به بعد.. لا في شارع شهاب الدين ولا في غيره من شوارع بلدتك الدافئة.. لا في هذا المعرض ولا في تلك المحاضرة وانك حتى لو دققت على بابه المغلق الفَ دقةٍ ودقة فإنه لن يفتح لاستقبالك الرائع الماتع.. وسوف يبقى صامتًا.. اصمَ واخرسَ.. عندها ستتوجّه إلى ما خلّفه صديقك الراحل زياد ابو السعود الظاهر.. من اثر توزّع على اللوحة والكلمة.. لتتأكد من ان مَن ترك وراءه اثرًا.. كما ترك هو.. لا يموت..

***

كتب: ناجي ظاهر

 

المدينة تطورُ الإنسان، اللغة، لا للأحكام النمطية!

المدينة تُطوّرُ الإنسان: هنا يجب أن يُلقى اللوم بالذات على المجتمع نفسه في عدم تطور أفراده بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والإثنية، مثل اللاجئين الجدد، فمقولة "المدينة تطورُ الإنسان" يجب أن تعطي ثمارها ونتائجها الإيجابية وإلا فالخلل ليس بالغرباء فحسب إن لم "يندمجوا" أو يتكيّفوا للبلدان الجديدة التي انتقلوا إليها لاجئين هاربين من "أوطانهم" أو مغتربين بتأشيرات رسمية لغرض العمل.

هنا تتحمل مؤسسات المجتمع مسؤوليتها تجاه مواطنيها "الجُدد" كما تسمّيهم في القواميس والقوانين، ورعاية أبنائهم  من الصغر وتأمين تربيتهم وتعليمهم، ولا يجدي التشهير بهم في الإعلام بحجة "ثقافتهم الأخرى". صحيح هناك قلّة صغيرة من اللاجئين القادمين من الأرياف ممّن كانوا يقولون في بداية قدومهم إلى بلدان اللجوء قبل أكثر من ثلاثة عقود: "كيف نربي أطفالنا بدون الضرب؟"، لكن الحال تغير نحو الأفضل بالتدريج بازدياد الوعي، لا سيما أنهم صاروا يعرفون أن الضرب ممنوع قانونياً، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. 

وصارت وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي والإنترنيت ذات حدّين، المفروض أن تلعب دوراً كبيراً للغاية في نشر الثقافات والاطلاع  على الآخر وبالتالي تقارب الشعوب، لكنها مع الأسف عملت عكس ذلك في عدة حالات.

هنا شَعرَ العربُ والمسلمون أنهم مستهدفون من قبل وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي منذ سقوط الشيوعية حتى اليوم، وانتشرت القاعدة والمنظمات المسلحة الإسلامية الأصولية والمتشددة والمتطرفة كردِّ فعل على الشعور بالظلم، وطبعاً ظهرت الإسلامفوبيا كنتيجة لتسميم الأجواء.

إن هذه الظروف غير المستقرة المتميزة بالانقلابات العسكرية والحروب الخارجية والعنف وفتاوى الجهاد في أفغانستان ومن ثم في العراق بعد احتلاله من قبل الأميركان، ثم ظهور الدولة الإسلامية أدت بالتأكيد إلى انخراط أعداد كبيرة من الشباب في الإسلام السياسي.

وصُوّرتْ الثقافة العربية على أنها سلبية إرهابية أو عدوانية و"عنفية" بسبب سلوك بعض اللاجئين العرب هنا وهناك، وطرق حل الخلافات العائلية، وتعدد الزوجات وامتهان المرأة، وختان الإناث وضرب الأطفال، في حين أن العرب يقولون عن تربية الأطفال: "لاعبهم سبعاً، علمهم سبعاً، وصاحبهم سبعاً". بغض النظر عمّن هو قائل هذا الكلام الحكيم، مع ذلك أنه جزء من ثقافة العرب والمسلمين منذ قرون، ورغم أن اولياء الأمور يحبّون اطفالهم بالفطرة، لكن ليس بالضرورة أنهم جميعاً يأخذون به، إذ إنَّ هذا السلوك يعتمد على ظروف الإنسان، بالذات اللاجىء أو المغترب ومستواه الثقافي وفئته الاجتماعية التي ينحدر منها.

وهناك تعميمات "غربية" عن الثقافة العربية، مثل: التزمّت الديني والمحرمات و"رقابة المجتمع على الفرد" سوشيال كونترول، حيث تتناقص حريته في المجتمع كلما كبر في السن. وإن الثقافة العربية لا تهتم بالتواصل البصري مع الرُضّع ولا تشجع الأطفال على "التواصل  بالعين"، والعرب يمشون مطأطئين رؤوسهم يغضون نظرهم عن الناس بسبب تربيتهم  الاجتماعية والدينية (حسب فهمهم) كما ورد في القرآن: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. النور: الآية 30 - 31. 

هذه أمور نسبية ولا تخلو من المبالغات، فمن الصعب تصنيف البشر بهذه الطريقة، إضافة إلى أنها تفسّر بطريقة إيجابية عند العرب والشرقيين عموماً، فلكل مجموعة إثنية ثقافتها الخاصة بها.

وإن العرب والمسلمين يقتلون المثليين، ويمارسون "غسل العار" هنا وهناك أحياناً، قد يكون هذا صحيحاً مع الأسف الشديد، لكن مع ذلك ليس دائماً، والمثليون موجودون منذ القدم في المجتمعات العربية وثقافتهم، ولا يمكن إنكار ظاهرتهم، وهناك شِعر "الغزل بالغلمان"، لكن ثقافة العرب لا تتقبّل فكرة الاعتراف بهم قانونياً وإعطائهم حقوقهم كما حدثَ في الغرب، لكن بعد فترة طويلة من القهر والقتل، ولا يشجعونهم على تغيير جنسهم.

الشيء نفسه يقال عن الحديث عن الأمور الجنسية مع الأطفال مثلاً، ولا اعتقد كل هذه القضايا التربوية تطورت في الثقافة العربية الآن، بل تحتاج إلى  تغييرات مجتمعية.

أنا شخصياً التقيتُ بآباء غربيين لا يستطيعون الحديث مع أبنائهم عن الجنس، ولا أريد هنا ان أبدو كأني مدافع عن الثقافة العربية بأي ثمن، أو أرسم صورةً ورديةً عنها، لكن يجب أن لا نأخذ هذه الأمور بشكل حرفي وبمعزل عن البيئة الاجتماعية فالريف يختلف عن المدينة ومستوى تعليم الأفراد يحدّد أحياناً تنوع ثقافاتهم ومستوياتهم ويميّزهم عن الآخرين.

أغلب ما ذكرته أعلاه ليس مقتصراً على الثقافة العربية فحسب، بل يشمل ايضاً بعض الثقافات الأخرى ففي النيبال مثلاً هناك تعدد الأزواج الأشقاء لزوجة واحدة، تتزوج المرأة شقيقين لحفظ الميراث، أو لجميع أشقّاء الزوج الأول كما معمول به في بعض القرى الهندوسية، وهو ما يرفضه اليهود والنصارى والمسلمون. وفي أعرق الديمقراطيات الغربية يُمارَس العنف والاستغلال الجنسي ضد النساء والأطفال حتى في بعض مراكز المطلّقات المغلقة رغم الحداثة والعولمة والقوانين المدنية.

وقد اشارت الكاتبة والروائية الفرنسية الهندية كينيزي مراد Kenizé Mourad إلى التصوير النمطي بالأسود والأبيض من قبل الإعلام الغربي للمجتمعات الشرقية والمسلمة، والتركيز على مظاهر العنف في ثقافتها أكثر من الإيجابية.

ولا بد من القول إن الثقافة العربية مثلاً مليئة بأغاني الحب والغرام وقصص شهرزاد لشهريار في ألف ليلة وليلة وأقوال المحبة ومفردات العفو والتسامح والصدق، ومع ذلك هناك أخيار وأشرار وعنف وقسوة كما هو الحال في الثقافات الأخرى.

ويكفي هنا أن أذكّر بشاعر الحكمة قبل الإسلام زهير بن أبي سلمى الذي نبذ الحرب:

وما الحرب إلا ما علمتم وذُقتمُ  

 وماهو عنها بالحديث المرجّمِ

*

متى تبعوثها تبعثوها ذميمةً 

      وتضرَ إذا ضرّيتموها فتُضرمِ

إن طريقة ضرب الأطفال أستُخدِمتْ سابقاً في مختلف الثقافات بما فيها الدنمركية، ويكفينا أن نشاهد الأفلام الدنمركية القديمة لنجد أوجه شبه مشتركة مع بعض الأفلام العربية والثقافة العربية. نفس الأمر يُقال عن تعامل مختلف الثقافات مع المرأة، ومع ذلك فإن الثقافة العربية تتميز باقوال تراثية إيجابية ورائعة عن المرأة، "الجنة تحت أقدام الأمهات، و"أمهات الكتب"، وكتابات التنويري المسلم الشيخ رفاعه الطهطاوي، وكتاب "تحرير المرأة" للكاتب العلماني المشهور قاسم أمين، وقول شاعر النيل العربي الحديث حافظ إبراهيم:

الأم مدرسة إن أعددتها   

  أعددت شعباً طيب الأعراق

وقد يكون من المفيد هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى مجلة "المعلم الجديد" العراقية كانت منذ الستينات والسبعينات تدعو إلى نبذ العنف وضرب التلاميذ والثقافة القديمة، لكن عدم الاستقرار السياسي في البلد أعاق ويعيق التطور الثقافي.

المشكلة أن التنويرية العربية (اليقظة) كانت "عرجاء" كونها لم تكن نتيجة التطور الاقتصادي ولم تشمل المجتمع كله، بل اقتصرت على المتعلمين والمتنورين، ولا تُطبق في دولها  العربية القوانين المدنية بسبب المحسوبية والمنسوبية وهشاشة المؤسسات القضائية بالذات في الريف، وانعدام منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة ودَمَقرَطَةِ المجتمع. هذه هي عملياً الفوارق الجوهرية بين الثقافة العربية والغربية.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق أصبح الحكم بيد الأحزاب الدينية والطائفية منها بالذات، أو بالأحرى المتاجِرة بالدين، وتأسست جمعيات كثيرة باسم  المجتمع المدني، لكن أغلبها وهمية أو مستَغَلَّة من قبل أحزاب السلطات، وشاعت ثقافة الفساد، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية مثل ألبانيا وبولونيا وحتى تركيا كما ترى الباحثة جيني وايت.

White. Jenny B. Civil Culture and Islam. London 1996

هذا ما توصلتُ له في بحثي المكرس ل "منطمات المجتمع المدني في العراق بعد الاحتلال الأميركي"، ضمن مادة "فهم المجتمع ثقافياً"، في جامعة كوبنهاجن. السبب في هذا الخلل يكمن طبعاً في أن التطورلم يحصل بشكل طبيعي وبدون تدخل خارجي أو احتلال.

وإن العرب والمسلمين يقيمون في بقعة جغرافية مليئة بالصراعات والحروب، ولهذا لم يحصل فيها أي استقرار من شأنه أن يؤدي إلى تطور اقتصادي وبناء مؤسسات دولة مستقرة دائمة التطور كما هو الحال في اوروبا.

 وهنا قد يظهر تساؤل: لماذا إذن هذه الحروب المتعددة بين بعض البلدان والشعوب بحيث تظهر كأنها تجسد سمفونية العداوات والاحقاد بين قوميات واديان وطوائف وثقافات مختلفة كثرت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حتى يومنا الحاضر، والإجابة على ذلك طبعاً هو أنها لم تكن لتحدث لولا المصالح الاقتصادية وصراع الدول القوية وتدخلها في شؤون الآخرين حسب أطماعها.

فمن المؤسف أن موطن العرب الجغرافي يقع ضمن مناطق مهمة فخضعوا لسيطرة إمبراطوريات الفرس والروم، ولم يكن ظهور الإسلام بدون خلافات وحروب بين العرب أنفسهم، ثم مع الأديان والدول الأخرى، بمن فيها الأوربية فحدثت الحروب الصليبية،  والشرق الأوسط  اليوم بؤرة خلافات وصراعات عالمية بسبب موقعه وثرواته النفطية.

من الضروري أن نذكر هنا الباحث الاجتماعي الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز المعروف بكتبه "تأويل الثقافات" و"الإسلام ملاحَظاً" قدم تحليلاً دقيقاً لدور الإسلام في ثقافة دول مثل اندينوسيا وجاوه والمغرب، واختلافه في هذه البلدان عن غيرها تبعاً لثقافاتها القديمة قبل الإسلام.

Islam Observed. Clifford Geertz

كانت هناك حالة عداء تاريخي بين المسلمين والأوروبيين تُوجتْ بالحروب الصليبية، وتكونت في الغرب أحكام نمطية سلبية عن ثقافة العرب والمسلمين، ومع ذلك سنحت لي الفرصة لألتقي بالعديد من الدنمركيين المتعلمين ممن لهم نظرة إيجابية عنها، أتذكر على سبيل المثال لا الحصر عازف الجاز الدنمركي جون تشيكاي، فاجئني بإعجابه الشديد بالغناء الشرقي وبالذات بسيدة الشرق أم كلثوم، وعندما أبديت "استغرابي" مستفزّاً له، وأنه قد يجاملني؟ أكد لي صدق أحاسيسه وتذوق غنائها، وأنه مستعد لسماعها لفترة طويلة رغم أنه لا يفهم العربية.

اللغة:

اللغة مظهر مهم من مظاهر الثقافة، فالكويتيون، مثلاً، يتكلمون نفس اللغة مع العراقيين وبلهجة قريبة ولهم نفس طريقة السخرية والمزاح وكانت شاعرتهم المشهورة الأميرة سعاد الصباح تكرس قصائدها الغزلية "لبطلها" صدام حسين أثناء حكمه وحرب السنوات الثماني العجاف، بينما كان العراقيون يموتون في هذه المحرقة، لكنه احتلَّ بلادَها وأحدث شرخاً كبيراً بين الشعبين بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر، ولولا ثقافتهما المشتركة رغم الفوارق لكان من الصعب جداً، بل المستحيل رأب الصدع تماماً بينهما.

لكن ما تبقى من "الاحترام" المتبادل بين الشعبين الكويتي والعراقي من خلال الفهم الثقافي للمجتمعين والابتعاد عن العنجهية  واحتقار الآخر، يمكن أن يعوض الخسارة الكبيرة وإزالة سوء الفهم بينهما بسبب الاحتلال. وتلعب هنا اللهجة المشتركة بين الشعبين وطرق السخرية والفعاليات الثقافية والنتاجات الأدبية والمسرحية وبالذات الكوميدية والفنية المشتركة دوراً كبيراً في إبراز التقارب الثقافي ولمنع تكرار الحرب.

أكتب هذه السطور وافكر الآن بالحرب القائمة هذه الأيام بين الشعبين الأوكراني والروسي اللذين يتكلمان بلغتين سلافيتين متشابهتين جداً باستثناء غرب اوكرانيا، وبالذات مدينة "الفوف"، التي يلفظها الأوكرانيون بفخر "الفيف"!

اللغة تقرب الشعوب وتوسع معارف الإنسان ومداركه وتجعله أكثر انفتاحاً على ثقافات الشعوب، "الكلمة الطيبة صدقة" كما يقول الرسول محمد والعرب عامّةً، فهي جزء من ثقافة المجاملات والمعاملات التجارية أيضاً عند كل الشعوب، وأسلوب التخاطب مع الآخرين باحترام.

وكذلك يقول الشاعر الدنمركي أووفه هاردرUffe Harder :  في قصيدته "استرجعوا الكلمة، استرجعوا اللغةَ":

باللغة يستطيع المرء أن يرسلَ إشارات إلى مسافات بعيدة،

اللغةُ هي ايضاً الطريقة التي يفكر المرء بها.

عندما تنكمش اللغة ينكمش الواقع.

وعندما "ينكمش الواقع" بالنسبة للعنصريين، أو لضيّقي الأفق من الطرفين، وعابسي الوجوه، يحصل خلل في فهم الآخر وينتهي أو يتوقف الحوار، ويؤثّر سلباً على المهمشين حتى من أهل البلد الأصليين، وطبعاً بالذات من اللاجئين والمغتربين في المجتمع لأنهم الفئة الأضعف في بداية إقامتهم في بلد اللجوء الجديد، فإن لغتهم يقل استخدامها وتضيق فرصهم فيه. فتعلّمُ لغاتِ الآخرين تقرب البشر بعضهم بعضا (من المواطنين الأصليين واللاجئين) وتسهل اندماجهم معاً وتزيد التعرف على ثقافاتهم المتنوعة والاطلاع عليها عن قرب والتخلّي عن النظرة الفوقية، وبالتالي يتحقق التفاهم بين الناس من مختلف الثقافات.

وقد قالت العرب "من تعلّمَ لغة قوم أمِنَ مكرَهم!".

ويقول الشاعر العربي صفي الدين الحلي:

تهافت على حفظ اللغات مجاهداً       

  فكل لسان في الحقيقة إنسانُ

الغرباء لا يُقبلون على تعلم لغة الموطن الجديد بدون حوافز مادية ومعنوية وشعورهم بالمقبولية والترحيب في المجتمع الجديد وسوق العمل. هذا من شأنه ان يقلص الفجوة بين مواطني البلد الواحد، "الأكثرية" تتخلّى عن أحكامها المسبقة النمطية كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، وتنفتح على "ثقافة الأقلية" ولا تخاف منها، وبهذا يتم التخلص من ظاهرة "نحنُ" و "هُمْ" من خلال الاندماج بثقافة مجتمع ديمقراطي يحترم الجميع. وهنا يجب التركيز على الاندماج وليس التماهي أو الذوبان والانحلال! فالاختلاف في الرأي ثروة وغنى للمجتمع وليس خلافاً!

السفر يلعب دورا كبيراً في التعرف على الشعوب، تحضرني هنا قصة طريفه ذكرها لي أحد المغتربين، حدثت معه في ايام شبابه، كما يقول، في محطة قطارات صوفيا عاصمة بلغاريا، حيث كان يسأل الناس فيما إذا كان  القطار الواقف سيتجه إلى روما التي رغب السفر إليها، فكان جوابهم محيراً له، يهزون رؤوسهم يميناً ويساراً كأنهم يعنون "لا"!

في النهاية أنقذته لغته الروسية التي يفهونها، وقالوا له: نعم!

ففهمَ فيما بعد أنهم بالعكس يقصدون بهذه الحركة "نعم"، بينما طأطأة الرأس تعني "لا"!  هذه الإيماءة والإشارة بتحريك الرأس بهذا الشكل جزءٌ من الثقافة البلغارية.

حتى حركاتِ الناس والإيماءات والنبرات أثناء الحديث جزءٌ من ثقافة الشعوب! 

وقد تُسبّبُ سوء الفهم، ونفس الشيء يقال عن بعض المفردات ضمن نفس اللغة أو عدة لغات، فقد تكون عادية عند بعضهم لكنها قد تُستعمل كشتيمة في لغة أخرى!

والعياذ بالله من الشتائم وسوء الفهم والتفاهم!

***

د. زهير ياسين شليبه

القسم الأول: الطعام والثقافات، شيء عن مصطلح الثقافة

الطعام والثقافات: الثقافة هي السلوك والعادات والطقوس وطريقة التعامل مع الآخرين، وطبعاً الطعام، العراقيون مشهورون بقطع السمكة من ظهرها وشواء السمك المسقوف، ويعرّضون باطنها إلى النار حتى تستوي وتكون لذيذة، وفخورون طبعاً بها، منهم من يعتبرها مستمدة من حضاراتهم القديمة.

كانت بغداد مشهورةً منذ السبعينات بمطاعم متخصصة بشواء السمك الطازج "المسقوف"، وباراتها وحاناتها ومقاهيها على شارع أبي نواس الكائن على شاطئ دجله. هذه المشهد كان جزءاً من ثقاقة بعض البغداديين وسكان المدن الكبيرة بالذات.

لكن الصورة تغيرت بسبب الحروب والحصار الذي تعرض له العراق لأكثر من عقد من السنوات، وأخيرا الاحتلال الأميركي عام  2003 وسيطرة قوى سياسية دينية، والحرب الأهلية والإرهاب، وعادت تقريباً في الآونة الأخيرة بسبب تحسن الأوضاع الأمنية.

العراقيون يتغنون بأسماك الأنهار، في حين أنها مبذولة ورخيصة لا قيمة لها في بلدان أخرى مثل المغرب لأن الناس هناك لا يستطعمونها، يسمونها "سمك الواد"، يعني النهري ويفضلون البحري عليها. ثقافة اكلات السمك مختلفة عند الشعبين المغربي والعراقي، الأول بحري والثاني نهري رغم انتمائهما إلى ثقافة عامة: عرب وبربر مسلمين.

قال لي أحد العراقيين المغتربين المخضرمين:

أنا حالياً أفضل السلمون على الأسماك النهرية العراقية، التي تذكرني بطفولتي وثقافتي، لكن الآن تغيّرت الأذواق ولم أعد أميل لها بعد سنين طويلة من الغربة، يجب أن أكون جائعاً جداً حتى أستذوقها.

قلت ذلك لأحد العراقيين الجدد من الذين كنت أترجم له، فاجأني، قال مازحاً "أنت مو عراقي، انت خائن!"، لكنه أُصيب هو ايضا بنفس "الداء" بعد عقد من السنين قضاها في بلده الجديد الدنمرك، وصار "يموت" على السلمون! يبدو أن السلمون دخل في ثقافته واندمجَ في المجتمع الدنمركي!

لكنه "برّرَ" هذا الأمر قائلاً : "إن السمك النهري العراقي مثل "البُنّي"، ليس بالضبط نفس "الكارب" الذي نحصل عليه هنا في الدنمرك، وأن أغلبه سمك أحواض! في الحقيقة حتى في العراق تغير طعمه، ساءت جودته مقارنةً بأيام زمان، يقولون لأن نهر دجلة امتلأ بجثث القتلى في الحرب الأهلية! كل شيء صار خراباً عندنا!".

لكني أقول، (والكلام لحد الآن للمغترب المخضرم): إنه التنوع والتغير والتطور الثقافي الذي طرأ على هذا اللاجئ العراقي، فتأقلم مع ثقافة بلده الجديد، الدنمرك. العراقيون يتناولون طعاماً تقليديا منتشراً إلى حد ما في مناطق جغرافية بعيدة عنه تصل حتى القوقاز مثلاً: الرز يومياً وينوّعون المرق: الباميا أو الفاصوليا والخ، إضافة إلى الأسماك والدجاج، قد تكون مرة أو مرتين اسبوعياً، ولا أتذكر أن والدتي كانت تطبخ لعائلتنا الكبيرة أكلات "شبابية" مثل اللازانية، أو أنواع السلاطات الجديدة، فهذا النوع من الطعام الجديد قد تعدّه الفتيات الشابات بعد الاطلاع عليها بفضل مجلات مصرية أو لبنانية مثل "حواء" وغيرها التي كانت تصدر في الستينات والسبعينات. هذه هي ثقافة العراقيين، لا يحبون تغيير وجباتهم بسهولة!

حتى الأكلات الشعبية المعروفة عالمياً الآن مثل "حمص بطحينه" أو "الفلافل" لم تكن منتشرة في المطابخ العراقية المنزلية في الخمسينات، فقد بدأت تنتشر في المطاعم أولا ثم أخذت الأمهات الشابات "المثقفات" التعرف عليها وإعدادها في المنازل.

الآن تنوعت الأكلات في العراق يوميا وليس في الأعياد وشهر رمضان والحفلات فحسب، وتغيرت ثقافة الطعام.

هذا هو دور الاطلاع لتذوق والتعلم والمعرفة، الذي يؤدي إلى الاندماج مع ثقافة الآخر، لكن برغبة وليس تحت الضغط أو التهديد والوعيد!

الأكل العراقي كان تقليديا يعتمد على الرز والمرق، يعكس ثقافة متأثرة بالوضع الاقتصادي والمحيط الجغرافي. لكن دائماً هناك استثناءات واختلافات، فأكلة الدولمة المشهورة يتم إعدادها بمختلف الطرق والإضافات من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى اخرى، بل من بيت إلى آخر، كانت تقتصر على اللهانة والسلق، اصبحت فيما بعد تشمل أوراق العنب.

والشيء نفسه يقال بالنسبة لأكلة "الكبة"، هناك كبة الموصل، وكبة حلب، وكبة البرغل، أنواع الأكلات العراقية تعكس ايضاً تنوع عدة ثقافات وتواصلها مع الآخر.

اللاجؤون والمغتربون العراقيون أينما كانوا متعلقون بأكلاتهم وتراثهم ولهجاتهم وطرق كلامهم القديمة "الجاركون، والسلانك"، الأمر نفسه يقال عن المغتربين الدنمركيين في أحيائهم المغلقة ومستعمراتهم: نيكوشيا تانديل أرّويس Nicochea-Tandil arroys في الأرجنتين، وفي سولفانح في كاليفورنيا.

فالعراق خليط من إثنيات مختلفة ومُحاط بسوريا والسعودية والأردن والترك والفرس وفيه حضارات وأديان قديمة مثل السومرية والأكدية والآشورية وعاش فيه اليهود والنصارى والمسلمون جنباً إلى جنب "بسلام" لقرون حتى تأسيس إسرائيل وبدأ الصراع في الشرق الأوسط مع الأسف.

هؤلاء ثقافتهم العامة عراقية: اللغة، اللهجة، الملبس، المأكل، الغناء، الموسيقى، الرقص، المقاهي والخ

لهذا لا يزال الإسرائيليون العراقيون، بالذات من الجيل الأول يحتفظون بجزء كبير من بعض عراقيتهم مثل الطبخ، ويؤدون أشهر الأغاني العراقية القديمة في حفلاتهم الخاصة والعامة. ومن المفترض أن يكون هذا مصدر قوة لهم من حيث المساهمة بتكوين ثقافة مجتمعية ديمقراطية.

لكن العنف صار سيد الموقف بعد "تحرير" الأميركيين للعراق لعدة سنين، ورغم ذلك يتعايش فيه الآن المسلمون وماتبقى من النصارى والمندائيين الصابئة وطوائف مختلفة بسلام حذر.

في فترة الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 سكن في العراق العديد من المصريين المشهورين بأكلتهم المفضلة "الملوخية"، والمفروض ان تنتشر في العراق، لكن مع ذلك لم يتعود العراقيون عليها. وهي موضوعة تستحق الدراسة والبحث الإنثوربولوجي الثقافي. أنا عراقي وأحب هذه الطبخة لم استسغها في البداية، لكني بالتأكيد اضطررت لتناولها بسبب "الجوع" اثناء الدراسة خارج العراق بعيداً عن والدتي، قبل أن أتعود عليها، والآن أعتبرها من اطيب الأكلات، وأصبحت جزءاً من ثقافتي التي تعني طريقة الحياة بالنسبة لي.

شيء عن مصطلح الثقافة:

الاختلاط  بالآخرين يلعب دوراً كبيراً في التعلم والتثقف واكتساب العادات الجديدة، هذا ما حصل في عصر الأنوار فاصبح للثقافة معنى في أوروبا أوسع بكثير مما كانت تعنيه كلمة "كولتورا" اللاتينية الأصل، فصارت مفهوماً واسعاً يشمل كل ماله علاقة بالسلوك والعناية بتطوير الذات الأنا والآخر والبيئة والمأكل والملبس والمشرب، أو "الإتيكيت"، فظهرت مصطلحات عديدة مثل "الثقافة الفرنسية" ومن ثم "الألمانية" و"الثقافة الشعبية" والخ.

يمكن أن نورد هنا تعريفات مختلفة للثقافة، لكني أريد أن اقتصر بالذات على سرد انطباعاتي الشخصية لهذا الأمر وأهميته في الاختلاط والاندماج مع الشعوب الأخرى.

في اللغة العربية لم يكن لكلمة "ثقافة" بالضبط نفس معنى "كولتورا Cultura"، التي تعني في الأصل "حالة" الاهتمام بالزراعة والحقول والرعي، وصارت تعني التهذيب. عندنا أن تقول عن شخص "مثقف" يعني بالدرجة الأولى أنه مطلع على معلومات ومعارف مختلفة، وليس لها علاقة مباشرة بسلوكه اليومي وطريقة حياته، أو بالتهذيب مثلاً، لكن أصلَ معناها القديم يعني أيضاً "الصقل والاحتراف"، ويقال عنها في المعاجم: ثقف الرمح إذا قوّمه وسوّاه، ويقال "ثقف الولد، إذا صار حاذقا"… وثقف الكلام: حذقه وفهمه بسرعة". ووردت في سورة الأنفال، الآية رقم 57 في القرآن بمعنى الظفر بالشيء وتقويم الرماح والخ.

أعتقد أن كلا المصطلحين يعبر عن حالة، فعل يؤدي إلى تغييرات وتِقانات ومهارات وبالتالي سلوك وعادات وتقاليد أخرى، فمثلاً ظهرت ثقافة غناء الرعاة والصيادين والريف والمزارعين وظهر منذ غابر الأزمان الشعر الرعوي، مثل كتاب "بوكوليكا" لمؤلف الإنياذه فرجيل (يوليوس فيرجيليوس ماريو، ولد عام 70 قبل الميلاد).

Publius Vergilius Maro

وتَطوّر الرقص في أوروبا بفضل الحريات حتى وصل إلى رقصات القصور"البال" التي صورتها الروايات الكلاسيكية، وفيما بعد الباليه والخ، بينما لا يزال الرقص الشرقي شائعاً في الثقافة العربية رغم التشدد الديني، وظهرت "ثقافة الفنون" التي عكست إبداعات فئات معينة من المجتمعات.

في عصر الأنوار اهتمت طبقة النبلاء وحاشيات الملوك بتقليد الثقافات الجديدة، بالذات الفرنسية وكانوا يدربون الخدم والحاشية والمنظفين والطباخين على سلوكيات معينة مثل اللياقة والأناقة واللباقة، أُصطُلحَ عليها ب "إتيكيت"، من الألف إلى الياء: كيفية الطبخ والملابس والرقص وتناول الطعام. ظهر فيما بعد دَور الثقافة الألمانية وبدأت تنافس الفرنسية، وظهرت تعريفات كثيرة للثقافة، أقربها إليً: ماقاله عنها المسيو هيريوت  Edouard Herriot "الثقافة هي ما يتبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء".

Culture is what remains after we have forgotten everything else” /

واستخدم ألبرت اينشتاين Albert Einstein هذا التعريف، ويقال إنه إستعاظ بكلمة التعليم بدلاً من كولتورا في مناسبة معينة:

Education is that which remains, if one has forgotten everything he learned in school.

فالثقافة في المفاهيم المعاصرة ايضاً لها علاقة بتعلّم المرء، ولهذا يبدو الإنسان المثقف الحقيقي أحياناً كمتعلم، ومتمرس ومتحضر ومتمدن، وإذا كان على حظ من الموهبة فقد يصقلها، أو لديه شبكة علاقات عامة واسعة أو "واسطة" قد يصبح فناناً وصحفياً لامعاً إذا عرف كيف يجامل أصحاب القرار، قد يرفضها بعضهم ويعدّوها "مسح كتافات"، ويسمّوها  ثقافة التملق.

أجل، هذه سلوكيات بحد ذاتها تعكس ثقافة منتشرة في أوساط مهن معينة مثل الصحافة ووسائل الإعلام والفنون وفي دوائر الدول والوزارات، عادة ما تكون لها مسميات. بل اصبحنا نسمع كثيراً بتعدد الثقافات حتى ضمن المؤسسات، قد يحددها مدراؤها ومالكوها، ولكل بيت ثقافته. واليوم كلما تعمقنا بدراسة مفاهيم الثقافة وجدنا صعوبة الإحاطة بها كونها مفهوماً واسعاً مرناً.

صحيح أن كل مجتمع يتميز بثقافته الخاصة به، لكنها اصبحت متقاربة نسبياً، بالذات في المدن الكبيرة وفي أوساط المثقفين والمتعلمين أينما وجدوا بفعل تاثير العولمة.

هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع البريطاني أنثوني جيدينس في كتابه "لطريق الثالث" الذي أكد على تأثير التحديث والعولمة على الحياة الاجتماعية والخاصة. فصارت اليوم الكتب الجديدة وكراسات المعلومات عن ثقافات العالم في متناول اليد بمختلف اللغات بفعل انظمة الترجمة السريعة المنتشرة.

The Third Way  . Anthony Giddens

***

د. زهير ياسين شليبه

 

فقدت الحركة الادبية المحلية في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، احد اعمدتها البارزين، وودعته في اليوم التالي، الى مرقده الاخير بأكاليل الورد والرياحين التي طالما احبها وتغنى بها فيما تركه من ارث ادبي قصصيّ لامس العديد منه حفاف الخلود وكرّسه منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد، واحدًا من رواد القصة القصيرة الفلسطينية بعد قيام اسرائيل، وقد حظي الكاتب محمد نفاع (14 ايار من عام 1939- 15 تموز 2021) باهتمام واسع محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، فاقبل القراء على مطالعة ما خلّفه من ارث قصصي غني، اقبال المدرك المحب لأهميته الادبية الثقافية، كما حظي باهتمام عربي واجنبي، تمثل في اعادة نشر قصصه وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، كما تمثل في الدراسات اللافتة التي كتبها عنه دارسون ذوو اهمية ومجلّون في مجال الدراسة الادبية السردية خاصة.

محمد نفاع من مواليد قرية بيت جن الواقعة في منطقة الجليل الاعلى، وقد عُرفت قريته هذه بطبيعتها ذات المناظر الفتانة الخلّابة. تلقى تعلمه الاول في مدارس قريته بعدها تلقى تعلمه الثانوي في قرية الرامة. درس الادبين العربي والعبري في جامعة القدس العبرية. تنقل بين اعمال متنوعة ومتعددة مما اكسبه تجربة وخبرة حياتية واسعة، وجعله بالتالي ذا معرفة متعمقة في مواقع قريته وتضاريسها، وقد اغتنت قصصه بأدق التفاصيل المتعلقة بقريته، مما جعله كاتبًا مكانيًا، لا سيما في قصصه الاولى والمتوسطة، حتى انطبق عليه ما قيل عن الكثيرين من الكتاب في العالم، مثل العربي المصري نجيب محفوظ الذي لم يخرج من مدينته القاهرة الا ليعود اليها. مكانية نفاع هذه منحته عمقًا موغلًا في ارض قريته وما احتوته من نبات وامكنة تحمل الاسماء الفارقة، وما عاش فيها ودب على ارضها من كائنات مختلفة. زاد في هذا العمق اطلاع واسع على العديد من النماذج الادبية العالمية لا سيما الروسية. شغل نفاع خلال حياته المديدة العديد من المواقع السياسية والثقافية، وقف في مقدمتها منصبه عضو كنيست في البرلمان الاسرائيلي خلفًا للشاعر الراحل توفيق زياد، ورئاسته لتحرير صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية العريقة، الا انني لن اتحدث عن هذا الجانب من حياته وآرائه السياسية وافضل ان اتحدث عن الجانب الادبي في حياته، هذا الجانب الباقي منه كما ارى.

الارض حبيبته

ابتدأ محمد نفاع الكتابة عام 1964، وكانت بدايته هذه مع الشعر إلا انه ما لبث ان انصرف عنه لفشله في كتابته كما صرح في احد الحوارات معه. انصرف عن الشعر ليتخصص في كتابة القصص القصيرة، وقد ترك في مجال السرد القصصي والروائي عددا من الاعمال الادبية منها:

1. العودة إلى الأرض (قصص)، 1964.

2. الأصيلة (قصص)، دار عربسك، 1975.

3. ودية (قصص)، الأسوار، عكا، 1976.

4. ريح الشمال (قصص)، الأسوار، 1878.

5. كوشان (قصص)، عكا، 1980، القاهرة، 1980.

6. الذئاب (قصص)، مرج الغزلان (رواية)، عكا، 1982.

7. وادي اليمام (قصص).

8. خفاش على اللون الأبيض.

9. أنفاس الجليل (قصص)، 1988.

10. فاطمة (رواية)، منشورات راية. حيفا،2015.

بذور قصصه

البدايات القصصية الاولى لكاتبنا الراحل، تمت كما سبق في اواسط الستينيات، وقد تزامنت مع طلائع هامة في كتابة القصة القصيرة المحلية، في مقدمتها الكاتبان محمد علي طه وزكي درويش، وقد لفت نفاع النظر منذ البداية مع ان لكل من هؤلاء الكتاب الثلاثة طعمه، رائحته ولونه، وكانت الميزة التي ستتجلى فيما تركه محمد نفاع من انتاج قصصي، هو ذلك التعلق بالأرض والالتصاق بها عُمق التماهي معها، والفريد ان كاتبنا عاش قريته المعروفية بكل عمق وصدق منطلقًا من روح شعبية وتراث اسطوري خصب، وهو ما انتشر في قصصه حد المبالغة احيانًا، وقد دفعت خصوبة فقيدنا هذه الشاعر الصديق الراحل ايضًا سميح القاسم إلى أن يمتدحه وهو يستقبل عام 1968 احدى قصصه ابان عمله محررًا لمجلة "الجديد" الحيفاوية، بقوله لكاتب هذه السطور: هذا كاتب هام جدًا. انظر إليه كيف يصف عزف الراعي الفلسطيني على شبابته بانه راح ينجر عليها. هذه المواصفات التي ميّزت كاتبنا دفعت الشاعر القاسم لان يطبع ضمن منشورات "عربسك" الخاصة به، المجموعة القصصية الهامة لكاتبنا الرحل وهي "الاصيلة" . ولم يكن القاسم هو المفتون الاول بقصص فقيدنا وانما امتدت هذه الفتنة لتشمل قطاعات شعبية واكاديمية واسعة النطاق كما سلفت الاشارة.

اليوم وانا اعود بالذاكرة إلى النتاج الادبي القصصي لفقيدنا اتذكر قصصه: خفق السنديان، الاصيلة، ودية والداغ علاماتٍ فارقةً في قصتنا العربية المحلية، وارى فيها روحًا ادبية شعبية تستمد نسغ حياتها وكينونتها من اعماق بلادنا وانسانها المتطلع الى الحرية والمحبة، روحًا وصلت إلى آماد بعيدة الغور وذات اعماق سحيقة في اليومي والاسطوري ايضًا، وهو الامر الذي جعلني اعيد نشرها في اكثر من كتاب ومجلة ادبية على اعتبار انها من روائع قصصنا المحلية.

محمد نفاع.. باق في الوجدان والذاكرة..

***

ناجي ظاهر

المتفق عليه أن الفنون الجميلة هي منار العقل ومصباح النفس والباعثة على الاطمئنان إلى الصفاء الروحي، وهي الصحيفة النقية الصافية في حياة الإنسان المتطلع إلى المثل العليا .

يخطئ من ينبري عند البحث والدراسة عن بدايات تأسيس الحركة التشكيلية أن يجرؤ على استبعاد جيل الروّاد الأوائل صنّاع الفن الحديث الذين فتحوا المجال أمام اسهامات مؤسسات رسمية ونقاد لمواكبة إبداعاتهم الفنية ونشرها ، إن تعظيم جيل الروّاد هو اعتراف بجميل جهودهم وتقدير عميق لفضل تحملهم عناء المبادرة ، إنه تعظيم تفرضه مبررات واقعية تسعى كل الدول من أجل ترسيخ تقاليده والاحتفاء به لبعث مشاعر الاعتزاز ، ولضمان تنميته ووجوده في إطار الوعي به، وإثراء الحركة الفنية بالقراءات والتحاليل لتأريخ الفن التشكيلي في مختلف الدول فتتوارثه الأجيال، لقد كانت جهودهم محطة مفصلية لنقل الشعوب إلى زمن جديد من رقة الاحساس ورقي التفكير وارتقاء الإبداع، من خلال البراعة في رسم لوحات خالدة ، ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها وثرائها البيئي المميز، هي رسومات للحب وللوطن وللمرأة تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليهاعلى طريقته إذ هناك من يستعمل الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي.

لقد كان الفضل السبق التاريخي في هذا المجال أثره في تنمية الحس الجمالي ونشره للارتقاء بالذوق الفني ، إنه فضل يضع كل من ينكره في إطار التطاول القميء والنكران القبيح لرموز أسست  بعرقها ودمها وروحها الحركة التشكيلية الرائدة ونشرت الثقافة الفنية وساهمت في إنشاء أقسام الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات وأثرت المكتبات بالكتب المتخصصة واستقبلت كثير ممن هم اليوم يجحدون!!

قيمة الفنون الجميلة تنبع من ذاتها،إنها البحث عن الطريق الجمالي لإيصال المعلومة للمجتمع ،لذلك فهي تنشأ بطابع محلي عفوي ، صافي، معبرة بصدق عن واقع حي وعيش قائم وحياة تدب في الأرجاء. وروح الفنان الموهوب يعكسهاحجم الإبداع المستغرق في عمله الفني  صدقا ووحيا وإلهاما، وقد نعجب للشخصية القوية المؤثرة للفنان ذو المزاج الأكثر حساسية ، المتمتع بدراسة أكاديمية جادة للطبيعة تخلق لديه ذلك الميل الفطري للبحث عن صيغة جديدة لموروثاته الفكرية وكلما كان الفنان منفتحا على حقول معرفية أخرى اتسع أفق تجربته الفنية  لذلك فهو يأبى الجمود في رؤيته لأنه يجعله لا يأبه بتغير الواقع من حوله، ولكن هذا الجمود في حد ذاته قد يعكس أيضا رغبة أكيدة وتصميم الواثق على الاستمرار في تكرار ظاهر العالم القديم في نوع من الحنين الدائم إلى زمن ما . والعمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، والأمم المصابة بقصور في حركتها التشكيلية تعاني من الأنيميا الفنية ومع ذلك فعندما تريد الخوض في مجال لا تعرفه بل وتهدف إلى تشتيته وتغييره فإنها تعرض نفسها للانتحار الفني لأنها تريد القفز نحو المجهول حيث لا يوجد امتداد لها فيه.

إن من ينبري لتسويف ماضي الروّاد يريد أن يبادر بالمقاومة الفكرية لظاهرة التعمق في الحركة الإبداعية التي فاته أن يرافقها فعمد إلى أن يقوم بتقليص أدوار صناع الفن الحديث ومساحات حركاتهم ومجال تأثير إبداعاتهم ، أنها محاولة بعيدة كل البعد عن إي ادعاء بتفحص شتى التعبيرات الفنية التي يعبر بها الوعي عن نفسه ويشتق منها السلوك ، بل تخفي سوء نية وقصور تفكير وعقدة نقص بعيدة عن الغرض الحضاري التفاعلي لحسن تصور المعاني ولاستخراج أجمل ما في الأعمال الفنية من مشاعر وتلمس أنبل ما تتضمنه من مواقف.

الفنون الجميلة أرقى ينابيع النهر الإبداعي، إنها فضاء راقي متعدد الألوان بين حالات الفرح والحزن، إنها ترسم صورة المشاعر وتلونها. والتاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان ولكل مبدع ، والفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش، والفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، والفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الحوادث كما يشاء بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية، على أن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه لأنها تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال، وهذه هي القيمة الحقيقة للفنون الجميلة.

***

صبحة بغورة

تظل العتابة من أروع ألوان الأدب الشعبي، واوسعها انتشارا، وتداولا بين الأجيال في ريف الديرة، ليس فقط باعتبارها جزءاً من هويّة الموروث الشعبي وحسب؛ بل لأنها تعبير شاعري مرهف، عن وجدانيات مجتمع متوهج العاطفة، بكل تفاعلاتها الإنسانية، والزمانية، والمكانية، الشجية منها، والسارة.

ولذلك لا زال الوجدان الشعبي الريفي لمجتمع الديرة، يحفل بثراء زاخر في موروثه منها، نظما واداء على الربابة .. بسبب عراقتها الضاربة في وجدانه، واستجابتها الجامحة للتعبير عن أوجاع هذا الوجدان المرهف، كلما سعرها في أعماقه لهيب عاديات الزمن.

واليوم، كعادته، اتحفنا أديب عتابة الوجع، بيج الماجد، بعتابة إبداعية في غاية الروعة والجمال، نظما وتوظيفا للمفردة الشعبية (ولف) بمختلف دلالاتها الشعبية،تعبيرا عن وجعه وحزنه الغائر في أعماق وجدانه.. الذي استعصى على النسيان بمرور الزمان، ولم يعد، بعد من فقدهم.. قابلا للمواساة .. حيث يقول فيها:

 آني وساري العبدالله ولف هم..

حزن وفراگ والضاعوا ولفهم..

تعالوا يهل المروّه والفهام..

عگبهم لا يواسينا حدى..

واذا ما تم غض النظر عن عطائه في ابداعه المتواصل في نظم العتابة،حيث يفاجئ قراءه كل يوم بجديد ..فإن إبداعه في انتقاء المفردة الأكثر دلالة في التعبير عن مراده منها لأوجاعه .. وقدرته على توظيفها ببلاغة مدهشة في عتابته، تجعل منه اديبا متميزا .. وناظما بليغا، يتجاوز بموهبته وبلاغته كل الألقاب المتداولة.. التي قد تخطر على البال، لتعطيه حقه في الوصف، الذي يعبر عن مكانته الحقيقية.. ولعل أقرب لقب يمكن إطلاقه عليه بما يقترب من وصفه حاله،معاناة وإبداعا واشجانا..هو (أديب عتابة الوجع) .. ليكون بهكذا وصف.. سليلا طبيعيا،وبكل جدارة،لأسطورة العتابة فطيم البشر ..

***

نايف عبوش

لمناسبة ذكرى استشهاد أبي الفضل العباس الأخ المناصر للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أقدم هذا النص!

يا أيها الليل المشع بلغة الصبر وآلام الثكالى.

أيها الجانب المشرق من العالم،

أيها الفارس الذي امتطى جراح الموت ليحمل عنوان الشهادة

يا شهامة إليها ننصت،  ندعو لعيون الصبح نردد الكلمات

أيها العطش الذي امتد ليحمل سيف الفرات

أيها الدرب الذي يمنح الصبر أوسمة الحياة

أيها النهج الذي يحمل أشرعة الألم، يتحدى خطوات الليل، يواجه طريق الحرب، ينزف بالجرح، أوسمة الكرامة!

***

عقيل عبود - سان دييغو

13/07/2024

...................

Champion of Dignity!

Akeel Abboud

On the occasion of the martyrdom anniversary of Abu al-Fadl al-Abbas, the supported brother of Imam Hussein bin Ali bin Abi Talib, peace be upon him, I present this text!

Oh radiant night with the language of the patience and pains of the bereaved.

O bright side of the world,

O knight, who rides the wounds of death to carry the meaning of martyrdom

O chivalry, we listen to it, we pray for the eyes of the morning, we chant the words

O thirst that extended to carry the sword of the Euphrates

O path that gives patience the medals of life

O approach that carries the sails of pain,

Challenges the steps of the night, faces the path of war, bleeds with wounds, the medals of dignity!

***

Akeel Abboud

San Diego,

7/13/2024

 

إيهٍ صَاحُ...

إنِّي رأيتُ الوَجدَ قد حَبِّذَ واستَطعِمَ ما في الزُّبرِ من بيانٍ بتَمام، حينَ نَبَذَ التَّهتُرَ وانفَصَمَ مِن اللغوِ ومن طَيْشَ الكَلام. وإنَّما ضبطُ ما يَلفِظُ اللسانُ يا صاحُ وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، لهوَ السَّبيلُ الحميدُ الوحيدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام، وَلَئِنْ فَعَلَها الوَجدُ لَيَكُونَنَّ إذاً وافِرَ اللِّبِّ نافِرَ الجُّبِّ هُمَام.

وإذ لَمحتُ في وسائلِ التَّواصلِ تساؤلاً لطيفاً باهتِمام، وإذ كانَ موجَّهاً لضَليعٍ في الضَّادِ ورُبَما في سوحِهِ عَلًّام، إذ سألهُ سَائلٌ باستِعلامٍ واستِفهام؛ "لمَ قالَ النَّبيُّ القَسيمُ الوَسيمُ ﷺ؛ "بَاعَ مِن أخِيهِ بَيعًا" بإكرَام، ولمْ يقلْ ﷺ "باع لأخيهِ بيعاً"، رُغمَ أنَّهُ ﷺ الفَصيحُ المليحُ، وهوَ خيرُ الأنام. فأجابَ الضَّليعُ السَّائلَ بما قد سَطَّرتهُ في المَعاجمِ الأقلامُ، بيدَ انِّي لم أستلذّ الإجابةَ باستِجمام، وشَعرتُ كأنَّها إجابةُ تلميذٍ حفظَ ما في المنهَاج من أقسام، حفظاً غيرَ ذي فَهمٍ باستِلهامٍ وإحكام، فكتبتُ ردِّي مِن فوري للمتسائِل باحْتِدَام، ثم رحْتُ مِن بَعدُ أبحَثُ عن شَرحٍ شَافٍ للحَديثِ الشَّريفِ باستِهمَام، مُتَصَفّحاً ما في سِجلاتِ آبائيَ الأولينَ باستِلهام، فما وجدتُ ما يشفي الغَليلَ مِن أحكام، رُبَما لأنَّ فهمَ ذا التَّعبيرِ هوَ لدَى الآباءِ بَدِيهةٌ بالهام. وَلَمَّا ٱسۡتَیۡـَٔسْتُ مِنَ البحثِ سَمَحتُ لخَافِقي أن يقعدَ بينَ القَاعدينَ بانضِمام، لحظةَ نُطقِ النَّبيِّ ﷺ بكلمتِهِ الشَّريفةٍ بانسِجام، كي يَعيشَ النَّبضُ في جَوِّ البَيان حينئذٍ باستِسلام، وأحسبُ أنِّي قد فَهِمتُ الحديثَ فهماً لَطيفاً بلا جهالةٍ وبلا أوهام، وهاكَ ما استَلهمتُهُ وفَهِمتُهُ بلا ابهام؛

"إنَّ ثَمَّةَ عروةٌ وثقى تَأْصِرُ المُسلمَ على المُسلمِ هي الإسلام، قد جَعَلَتْ منَ المُحال أن يتسلَّلَ الغِشُّ لسُوقِهم في خضمِّ البيعِ وسطَ الزَّحام، أو أن يتَخَلَّلَ تجارَتَهُمُ مراءٌ وحلفٌ باختصام. وعلى البَائعِ أن يُعطيَ أخَاهُ مِمَّا لدَيهِ مِن بضاعةٍ طلبَها بوِئام، (يُعطيهُ) إيَّاهَا باسترحامٍ وليس (يبيعُهُ) إيَّاها بتفذلكٍ والتِحام، فآصرةُ العُروةِ الوُثقى تأبى وقدِ ارتقَت بهما حتى جَعلت لسانَيهما يَستَحيانِ لفظَتي "البَيعِ والشِّراءِ" بإلجام، فأبدَلَتهُما بالعَطاءِ تزكيةً للذَّاتِ وتودُّداً فيما فيهِ يَتَداولانِ بانتظام، رَغمَ أنَّ لفظَتَي "البَيعِ والشِّراءِ" لا رَيبَ فيهما ولا زَللَ، ولا فيهما عَيبٌ ولا خَللٌ ولا استِعجام، لكنِ الأمرُ ههُنا لمَّا كانَ رَهيناً بتَجَنبِ الغِشِّ في التِّجارةِ بإلزامٍ وإلجام، فقد أتَى الفَصيحُ المَليحُ ﷺ بحَرفِ الجَرِّ "مِن" لِتَضمينِ الفعلِ "باعَ" مَعنَيي "الأخذ والعَطاء" في البيعِ والشِّراءِ مَعاً بالتقاءٍ، وسَويةً باستواءِ واتِّسام، وكأنِّي بالحَديثِ يشبهُ مَعنى الآيةِ المُباركةِ "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا" وليس "على القَومِ" أي: أنجيناهُ مِنَ الْقَوْمِ وَنَصَرْنَاهُ عليهم "نجاةً ونصراً" بإكرام، وذلكَ ليُعَلِّمَ النبيُّ ﷺ البائِعَ المُسلمَ ويُشعرُهُ أنَّهُ لا يَبيعُ لأخيهِ بل يُعطيه بابتِسام، وأنَّ أخاهُ المُسلمَ لا يشتَري منهُ بل يأخذُ باحترام، ثُمَّ يُناوِلُهُ ثَمناً مُقدَّراً كي يتمكنَ البائعُ من مُواصلةِ مِهنتهِ في السُّوقِ على الدَّوام، فلا يُفلسُ فيقعدُ على رصيفِ فَقرٍ مٌنقَعِرٍ، ولنَصيفِ درهمٍ مُفتقِرٍ بإيلام.

وها قدِ انتهى رَدِّي على ذاكَ السائِلِ باستِعلام. رُبَما كانَ صواباً، رَبَّما كانَ الرَّدُ حُطاماً من حطام؟ غيرَ أنَّهُ لأمرٌ لطيفٌ أن يُعيدَ أُسْتَاذُ اللغةِ نَشرَ رَدِّي على صفحَتِهِ الشَّخصيةِ باحترام، وبلا اعتراضٍ منهُ ولا إحجامٍ بلِ باهتِمام، وذلك هو شأنُ أهلِ العِلمِ الحَقِّ وليسَ العِلمُ الزَّقُّ بانصِرَام، فاطْمَأَنَّ قلبي لمَا أجبتُ وكتَبتُ ردَّاً بانسجام، وما زَادَني نَشْرُ إجابَتي مِعشارَ فَخْرٍ لأنِّي عليمٌ بجهالَتي في علومِ الضَّادِ بإضرَام. جَهالةٍ لمْ تزلْ قائِمةً ولن تزولَ بانفصامٍ ولا انهزام، وإنَّما النَّشرُ قد زادَني يقيناً أنَّ ضبطَ ما يَلفِظُ لساني وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، وأنَّ سَمعَ ما تَنفضُ بهِ ألسنةُ الأنامِ وما تَشتَبِكُ بهِ برِقَّةٍ واهتِمام، لهوَ السَّبيلُ الوحيدُ والحميدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام.

فحَذارِ حَذارِ ياصاحُ مِن الهَذَرِ المَذَرِ، وحَذارِ من طَيشِ الكَلام، وخُذْ آيةَ "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" بقوةٍ واهتمام وهيام، واربطِ التَّصريحَ في لسَانِكَ، واضبطِ التَّلميحَ في وجدَانِكَ بينَ الأنَام، وتَذَكَّرْ أنَّ التَذَوَّقَ لثَمَراتِ رَحْو المَعانيَ في الكلامِ لا يَسْتَلْزِمُ التَّفوّقَ في غَمَراتِ نَحْوِ المَباني أحكامِ بتَمام.

دَعْكَ يا ذا عزٍّ مِن طَيْشِ الكَلام ..

دَعكَ منه!

***

علي الجنابي

قبل البرتغاليين ب 2000 عام، أبحر الفينيقيون وطافوا حول أفريقيا مجتازين مضيق ال مليكارت (وهو إسم وضعوه هم بانفسهم)، وقد أسماه الاغريقيون لاحقا بمضيق هرقل، وأسماه العرب جبل طارق، ومنه تابعوا دورانهم حول رأس الرجاء الصالح، حتى بلغوا البحر الاحمر، وداروا كذلك حول مايسمى ب (الخليج الفارسي) وأسسوا مدنا تحمل الاسماء ذاتها ك اوتاد وتيرو (صور أو ثور) وسيدون (صيدا)، مما يؤكد ان الفينيقيين لم يكونوا الامة البحرية الاولى في التاريخ فحسب، بل أنهم أول امة هاجرت في البر وفي البحر.

سفنهم المكونة من طبقتين: الطبقة العليا منها مخصصة للركاب والسفلى للمجذفين، كانت تتميز بسعة أقبيتها وبمؤخرتها التي تشبه هيأة هلال، وبمقدمة فوهة خرطوم، وكانوا يعتمدون على شراع واحد يبسطونه عندما ترسو السفينة في الاجواء السيئة ويفترض على حسب صور الأواني المقارنة، أن الاغريقيين نسخوا هذا النوع من السفن وعلى الاسلوب نفسه، كان أسطول سفن الملك سليمان التي شيدها أولئك البحارة العارفون بالبحر، في إشارة للفينيقيين إذ بعث ملكهم حيران ملك صور الى سليمان بجزء من أسطول سفنهم.

ومن غير طموح سياسي كبير، بنى الفينقيون وأسسوا مستوطناتهم التي وصلوا اليها بصمت ومن غير إثارة لأية شكوك، كانوا يتكيفون مع أي مناخ جديد، وهم إذ يدخلون أبجديتهم وبضاعتهم وعوامل حضارتهم في العديد من الافاق التي كانوا يكشفونها فإنهم يربطون من خلال جذورهم البحرية، المستوطنات الجديدة بالمدن الأم المنتشرة على السواحل الشرقية للبحر المتوسط.

وبهذا وبعد إقامة ومدن في دلتا مصر وسواحل سيليسيا واليونان وقبرص وصقلية وسردينيا إضافة الى شمال افريقيا وأسبانيا فأنهم يشكلون من هذا البحر بحرا حقيقيا هو (البحر المتوسط).

وثمة دلائل مدونة في الكتاب المقدس (التوراة) تؤكد أن الفينيقيون يستوردون فضلا عن الذهب والرصاص، القصديرعن طريق المقايضة بالفخار والملح والبخور والقماش والفاكهة والزجاج وأواني البرونز وصولا إلى المكان الوحيد لوجود القصدير: جزر سيلي الواقعة في المحيط الهادي على بعد 40 كيلومترا من أنجلترا وشبه جزيرة كورونوول الواقعة أقصى الجنوب الغربي من هذا البلد بين قناة بريستول وبحر المانش ، وصولا الى سواحل غروند لانديا التي تعد نهاية العالم كما يراه القدماء ، مما يؤكد الدخول العميق للفينيقيين – كما لم يحدث لأي من شعوب العصور القديمة – في المحيط الذي أسماه العرب لاحقا (بحر الظلمات).

***

رنا فخري جاسم

 

"الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت عمل رائد في الشعر الحديث يعكس التفتت وخيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. القصيدة عبارة عن نسيج معقد من الأصوات والصور والإشارات التي ترسم صورة قاتمة لعالم في حالة انحدار. وفي حين يُنظر إلى القصيدة غالبا على أنها نقد للحاضر، إلا أنها تحتوي أيضا على عناصر تشير إلى رؤية للمستقبل.

أحد الموضوعات الرئيسية في الأرض الخراب هو فقدان التقاليد وتفتت الثقافة. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الأعمال الكلاسيكية والأدبية، والتي غالبا ما يتم وضعها جنبا إلى جنب مع صور الاضمحلال والدمار. يشير هذا التجاور إلى مستقبل تم فيه نسيان الماضي أو التخلي عنه، ولم يتبق سوى حاضر مجزأ وفارغ. يمكن اعتبار السطر الافتتاحي الشهير للقصيدة، "نيسان هو الشهر الأكثر قسوة"، تعليقا على فقدان التقاليد وتآكل القيم التي كانت تربط المجتمع معا ذات يوم.

من الموضوعات المهمة الأخرى في قصيدة الأرض الخراب البحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الغرض. القصيدة مليئة بمجموعة من الشخصيات الضائعة والمربكة والخاوية روحيا. ينعكس البحث عن المعنى في الأصوات المتعددة التي تتحدث طوال القصيدة، كل منها يبحث عن نوع من الاتصال أو الفداء. يشير هذا الشعور بالفراغ الروحي إلى مستقبل حيث تنجرف البشرية، دون بوصلة أخلاقية إرشادية.

تحتوي الأرض الخراب أيضا على عناصر من النبوءة والصور الكارثية. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الدمار والموت والبعث، مما يشير إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. يحتوي القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، على سلسلة من النبوءات الغامضة والغامضة التي تلمح إلى مستقبل حيث يكون الفداء ممكنا، ولكن فقط من خلال عملية التدمير والتجديد.

من نواح كثيرة، يمكن النظر إلى قصيدة "الأرض الخراب" باعتبارها حكاية تحذيرية حول عواقب إهمال الماضي والفشل في إيجاد المعنى في الحاضر. تعكس البنية المجزأة للقصيدة الحالة المجزأة للمجتمع، حيث يكون الأفراد معزولين ومنفصلين عن بعضهم البعض. المستقبل الذي يتصوره إليوت هو المستقبل الذي فقدت فيه البشرية طريقها، ويجب أن تخضع لعملية تجديد روحي من أجل العثور على الخلاص.

على الرغم من نبرتها القاتمة واليائسة، تقدم قصيدة "الأرض الخراب" أيضا بصيصا من الأمل للمستقبل. تنتهي القصيدة بصورة الملك الصياد، وهي شخصية من أسطورة الملك آرثر جريح ولكنه ليس ميتا. تشير هذه الصورة إلى أن الخلاص لا يزال ممكنا، حتى في عالم يبدو خاليا من المعنى. يمكن النظر إلى السطور الأخيرة من القصيدة، "شانتيه شانتيه شانتيه"، كصلاة من أجل السلام والمصالحة، ودعوة لمستقبل يمكن للبشرية أن تجد فيه الوحدة والانسجام.

تقدم قصيدة "الأرض الخراب" رؤية معقدة ومتعددة الطبقات للمستقبل قاتمة ومفعمة بالأمل. تعكس القصيدة تفكك المجتمع والبحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الهدف. وعلى الرغم من تصويرها القاتم لعالم في حالة انحدار، فإن قصيدة الأرض الخراب تشير أيضا إلى أن الخلاص ممكن، إذا كانت البشرية على استعداد للخضوع لعملية التجديد الروحي. تشير صور القصيدة للدمار والبعث إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. في النهاية، تعد قصيدة الأرض الخراب تأملا قويا في تحديات وإمكانيات العالم الحديث، وتذكيرا بأنه حتى في أحلك الأوقات، هناك دائما أمل في مستقبل أكثر إشراقا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صادف أن نزلتُ في مناسبة من المناسبات بفندق صنف أربع نجوم وعندما دلفت إلى صالة المطعم الفسيحة لتناول فطور الصباح قابلتني الأطباق على يميني وشمالي من كل لون وصنف ومَذاق ولست أدري كيف وقعت عيناي على إحدى الزّوايا فإذا بي أرى صانع فطائر يُديرها بإتقان ثم يلقيها واحدة تلو واحدة في الطاجن ويتعهّدها بعد ذلك بالسّفود فتقدّمت إليه وبعد التحية والملاطفة سألته هل هو من بلد غمراسن المعروف بصناعة الفطائر والزّلابية والمخارق فقال إنّه حذق أمرها لدى أحد صنائعي غمراسن ثم سألني هل أنا من أهاليها فقلت نعم فزاد في الحديث معي وسألني كالمختبر قائلا لابدّ أنك تعرف قَلي الفطائر فأجبته باِعتزاز نعم فتعجّب من أمري وأراد أن يمتحنني فقال إذن خُذ هذه العجينة من يدي وأدِرْ فطيرتك بنفسك إن كنت من غمراسن حقا !

ووجدت نفسي أمام اِمتحان عظيم لم أتهيّأ له طيلة حياتي ويجب أن أنجح وأفوز بالتحدّي وفي تلك اللحظة تذكرت صباي عندما كنت أذهب صباح كل يوم أحد إلى والدي فكنت أراقب تفاصيل حركاته وهو يقلي الفطائر في دكان جدي بشارع الحرية في العاصمة تونس .

قبل أن أهُمّ بتناول العجينة من صاحبي غمستُ أصابعي في طسْت الماء بجانبه كي لا تلتصق العجينة بأناملي فاِبتهج صاحبي وقال يبدو حقّا أنّك عارف بهذه الحرفة وهو لا يدري أن هذه أوّل مرة ألمس فيها عجينةَ فطيرةٍ فأخذتها منه بأنامل يدي اليمنى وسُرعان ما ملّستها بضربة لطيفة على كفّي اليسرى ثم أدرتها بعناية حتى اِستدارت واِستوت  حينذاك ألقيتها بحركة دائرية وسط زيت الطاجن فاِستقرت في وسطه فطيرة كأشهى ما تكون !

حينذاك لاح سرور صاحبي وقال الآن أشهد أنك من غمراسن فقلت هات السّفود إذن لأقلِب فطيرتي على وجهها الآخر ثم لأرفعها تستقطر من الزيت بجانب  الطاجن !

كانت ألذّ فطيرة في حياتي

وكان أصعبَ اِمتحان

رحم الله والدي !

ــــــــ الفطيرة ـــــــــ

تحيّة إلى الكرام من ـ غمراسن ـ بالجنوب التونسي الذين عُرفوا منذ القديم بصناعة الفطائر والمخارق والزلابية ونشروها في جميع أرجاء تونس وفي سائر بلدان العالم وقد كانوا رمز الصّدق والشّهامة والوفاء والتّضحية وبكسبهم الشّريف تمكّن أبناؤهم وبناتهم من التقدّم في سُبل العلم والمعرفة وفي مختلف الوظائف والمهن والأعمال.

فالأمل أن لا ينسى الجيل القديم وأن يحافظ الجيل الجديد على القبم ـ الغمراسنية ـ الأصيلة بما فيها من عرّة وإباء وصبر وحبّ للخير لجميع النّاس.

تَوَكَّلْ عَلَى اللّه خُذْ بِالـلُّجَـيْـنِ

أَدِرْهُ بِلَمْسٍ يَصـيرُ فَـطِيـرَهْ

*

أَنَامِلُكَ السِّـحْـرُ مِنْهَا اَلْحَـــلَالُ

بِـفَـنٍّ تَـلُوحُ كَتَـاجِ الأمِـيـرَهْ

*

بِزيْتٍ وَقَمْحٍ وَعَزْمٍ عَـجَــنْــتَ

جِـبَالا وَجُبْــتَ بِلَادًا كَـــثِيـرَهْ

*

إِلَى الرِّزْقِ تَسْعَى بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ

 تَطُوفُ بِهَا وَنِعْمَ اَلسَّفِيرَهْ

*

لَكَمْ جَاءَكَ اَلْجَائِعُ وَاِشْـتَـهَـاهَا

هَنيئًا مَريئًا ـ مَلَاوِي ـ كَبِيــرَهْ

*

وَشَــهْـدُ اَلْمَخَارقِ مِثلُ الـزَّلَابِي

كَلَمْعِ الكَواكبِ تَبْدُو مُنِيرَهْ

*

تَرَى اَلنّاسَ فِي كُلّ شَكْلٍ وَلَوْنٍ

وَوَاحِدٌ أَنْـتَ فِي كُلّ سِيـرَهْ

*

لَـئِنْ طَوَّحَتْـنَا اَلـدُّرُوبُ فَنَحْـنُ

نَحِنُّ جَمِيعًا لِتِلْكَ اَلْـعَشِـيـرَهْ

***

سوف عبيد - تونس

 

في رواية "سيدة التوابل" للكاتبة شيترا بانيرجي ديفاكاروني، تجسد شخصية تيلو، وهي امرأة شابة تدربت على فنون التوابل الصوفية، مفهوم الحكمة بعدة طرق. تعمل تيلو كشخصية حكيمة وعطوفة لأولئك الذين يطلبون مساعدتها في متجرها للتوابل في أوكلاند، كاليفورنيا. من خلال تفاعلاتها مع شخصيات مختلفة وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسا قيمة حول الحب والتضحية وعواقب التدخل في القدر.

أحد الموضوعات الرئيسية في الرواية هو فكرة الإيثار والتضحية. يجب على تيلو، بصفتها سيدة التوابل، أن تتخلى عن رغباتها وعواطفها من أجل خدمة عملائها والوفاء بواجبها تجاه التوابل. يوضح هذا العمل من التضحية حكمة وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجات المرء وأهمية خدمة غرض أكبر.

تنقل تيلو أيضا الحكمة حول طبيعة الحب والعلاقات. من خلال ملاحظاتها على علاقات عملائها وشوقها للحب، تعلمت تيلو أن الحب لا يمكن فرضه أو التلاعب به. تدرك أن الحب الحقيقي يأتي من اتصال حقيقي واحترام متبادل بين الأفراد، وليس من استخدام السحر أو الخداع.

علاوة على ذلك، تعلمت تيلو من تجاربها مع التوابل أهمية احترام النظام الطبيعي للأشياء وعدم التدخل في القدر. التوابل لها قواعدها وحدودها الخاصة، ويجب على تيلو الالتزام بها من أجل الحفاظ على قوتها وتوازنها. هذا الدرس في التواضع وقبول النظام الطبيعي للكون هو جانب أساسي من حكمة تيلو.

إن تفاعلات تيلو مع الشخصيات المختلفة التي تزور متجر التوابل الخاص بها تعمل أيضًا كفرص لها لنقل الحكمة والتوجيه. من خلال محادثاتها مع هؤلاء الأفراد، تعلمهم تيلو دروسًا قيمة حول القبول والتسامح وقوة الشفاء. تساعدهم على اكتشاف الحقائق المخفية عن أنفسهم وعلاقاتهم، مما يقودهم إلى إجراء تغييرات إيجابية في حياتهم.

جانب آخر من حكمة تيلو هو فهمها لقوة الكلمات ورواية القصص. بصفتها سيدة توابل، تستخدم تيلو لغة التوابل للتواصل مع عملائها والتأثير على عواطفهم وأفعالهم. إن هذه القدرة على سرد القصص ونقل الرسائل من خلال لغة التوابل توضح فهم تيلو العميق لقوة السرد وأهمية سرد القصص في تشكيل التجربة الإنسانية.

إن حكمة تيلو واضحة أيضا في قدرتها على رؤية ما وراء السطح وفهم الدوافع والعواطف العميقة لمن حولها. لديها حدس حاد وتعاطف يسمح لها بالتواصل مع الآخرين على مستوى عميق وتقديم التوجيه والدعم لهم. إن نظرة تيلو الثاقبة للطبيعة البشرية وقدرتها على رؤية الخير في الناس حتى في أحلك لحظاتهم تظهر حكمتها وتعاطفها.

وفي الختام، تجسد تيلو، سيدة التوابل، الحكمة في رواية "سيدة التوابل" من خلال إيثارها وتضحيتها وفهمها للحب والعلاقات وقبول القدر والتوجيه للآخرين وقوة سرد القصص والحدس والتعاطف. ومن خلال تفاعلاتها مع الشخصيات في الرواية وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسًا قيمة حول التجربة الإنسانية وأهمية عيش حياة ذات معنى ومرضية. تشكل حكمة تيلو نورا هاديا لأولئك الذين يطلبون مساعدتها ومصدر إلهام للقراء للتفكير في حياتهم وخياراتهم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

وأنت تكتب قصة او رواية او مقالا يصادف أن تهرب بك الذاكرة فتخونك وتورّطك في نقل جملة أو طرادة أو فكرة وتوهمك بأنك قائلها. تقنعك بأنّ الحافر قد وقع على الحافر وبأنّك بريء من كل سرقة لا موصوفة ولا مصادفة. وقد ينزاح بك القلم أو يزل ّفتصطدم بمثل شعبي أو مقولة فلسفية شاردة لم يذكرها كثيرون لكنّها ترسّخت في ذهنك حتى خلت أنها من بنات افكارك.

لا أحد من الكتّاب يضمن لنفسه البراءة من التناص إذا   لم يسجّل أفكاره في دفاتر محرّكات البحث التي أخذت دور الملكية العقارية ففاقتها في الخدمة والأمانة والصراحة.

وفي اعتقادي أن محركات البحث (وأشهرها الغوغل) صارت شاهدة علينا، نحن الكتاب، إذ بإمكانها تكذيبنا وفضحنا إن نحن ادعينا الاتيان بما لم يستطع أحد الاتيان به بل وهي قادرة على أن تفصل بين الأنا المتواضع الذي يكتب كلاما وينشره بين النّاس وبين الأنا النرجسي الذي يتشبث بحقّه في التّفاخر والتّنكّر لما قال سابقا. وبما أنني، مثلكم، أزداد حكمة وتعقّلا مع تقدّمي في العمر فقد أقدمت على اجراء مناظرة بين الأناءين من خلال ما كتبت في روايتين تفصل بين نشرهما سنوات. هي مناظرة افتراضية كتلك التي تنظم بين المتنافسين على مركز القرار. كان الأنا النرجسي هو المبادر بإبداء الرّأي قال: 

 النرجسي: أنا الحلم أعرف متى أهبط على الانسان. أنزل أحيانا كابوسا على الرؤِوس. أنا أجزاء متناثرة في الكل، أستولي عليه ولا أتركه الا بعد أن اترك فيه أوجاعا.

 المتواضع: أما أنا فكل لا يتجزّأ لأنني الأمل الذي يقود الحياة. أنبت في الأنفس التي ترعاني فأداويها من الأوجاع التي يسببها الحلم.

 النرجسي: أنا الحلم، أخطر على الشعوب من حمل السّلاح، أولد في الظّلام وأكبر في السّرّية، لذلك يعتبر بعض الحكّام أن إشاعة فكرة الحلم جريمة ترتقي الى مرتبة الخيانة العظمى.

المتواضع: أنا الأمل الذي يقود الشعوب الى الإطاحة بمن يمنعهم من تحقيق أحلامهم بحياة أفضل.

النرجسي: سأظل أرتفع عن العامّة التي تصرّ على القناعة والصبر ولعب دور الضّحية وأضطّر الى منعك ومنعها من الفوضى حتى لا تصنع منك بطلا.

المتواضع: تنتصر الضحية على الظالم بالصّبر فالصبر عند المظلوم كزيت الفتيل ينتصر دائما على الظلام. والفوضى تصنع من الجبناء أناسا شجعانا.

النرجسي: أنا لا أنافق بل أقول صراحة إننا نطمح الى العلوّ والسّمو فلماذا نخون أنفسنا وأوطاننا التي تسكننا؟ نحن نتوق الى العلياء بالفطرة والغاية تبرّر الوسيلة.

المتواضع: أمّا أنا فأوفي للوطن الذي يحملني ولا أخونه فخائن الوطن كمجنون يلهو بمقْود السيارة. لقد رضعت منه حليب الوفاء.

النّرجسي: لا حاجة لي بثدي لا يعلمني العناد والشجاعة.

المتواضع: لا تنس أن القهر يفعل ما لا تفعله الشجاعة.

النرجسي: نحن في الوطن نفسه وحكوماته المتعاقبة تأكل من نفسها وترتشي من أعوانها كالنار التي تدور على احطابها.

المتواضع: من واجبنا ألا نترك الحكومة توقظ الطوفان ثم تطلب منه ألا يجرفها.

النرجسي: أتريدني أن أحمل النّار دون أن أحترق أو أن اوقدها من رمادها بعد أن تخبو، هذه الحكومات التي تتباهى بالحفاظ على الانسان انما تأكل من لحمنا كلما جاعت وتشرب من دمنا اذا عطشت

المتواضع: الوطن وردة والوطنية عطرها والنضال من اجله شوك هذه المبادئ التي عليك ان تعرفها.

النرجسي: الوطن قوانين لا غير ونحن كالأطفال نظل نطيع القوانين و لا نثور عليها الا اذا احسسنا بظلمها الكبير.

المتواضع: البسطاء الحفاة الذين يرفعون الحاكم على اعناقهم هم قادرون على رفع اقدامهم الحافية لتدوس اعناقه إذا ما تمادى في ظلمهم

النرجسي: ثلاثة أدوار لا يمكنني لعبها: دور المجنون الذي يلهو بمقود السيارة ودور الطفل الذي يلعب بالسلاح ودور البحار الذي يرى ثقبا في السفينة ويسكت.

المتواضع: القانون الذي لا يحظى بموافقة كل الناس لا يسمى قانونا بل حكما ينفذه القوي على الضعيف.

النرجسي: ستعيش كالأحمق مطيعا مهادنا لذيذا كالحلم لا يمكن ان نحدّد له متعة ان كانت قبل النّوم أو بعده أو أثناءه وذلك سرّه الغامض.

المتواضع: بل سأظل الأمل الذي يترجم الحلم في داخل الأنا الى واقع أعيشه وأحياه.

وظل الأنا النرجسي متشبّثا بتعاليه وظل المتواضع يشقى بعقله. لذلك سأظل أحمل المتناقضين لألعب دور الحكم بينهما.

***

المولدي فرّوج / تونس

غيّب الموت فجر يوم امس الاثنين، الأول من تموز الجاري 2024، الكاتب الالباني البارز، الشاعر، المسرحي، الروائي إسماعيل كاداريه، وذلك عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، امضى جله في الكتابة وفي المواجهات الجريئة حينا والحيية أحيانا، علما ان كاداريه عاش فترة ابداعاته الأولى وما تلاها حتى اعوام التسعينيات، تحت حكم أنور خوجة المتسم بصفة متطرفة من الشيوعية الستالينية ذات القبضة الحديدية واكاد أقول النارية خاصة فيما يتعلق بالأدب وأهله.

الكاتب الراحل من مواليد عام 1936، ولد لعائلة البانية مُسلمة مثقفة، جذبه عالم الكتابة والابداع بعد قراءته مسرحية "ماكبث" للكاتب الإنجليزي البارز وليام شكسبير، وهو لما يزل في الثانية او الثالثة عشرة من عمره، وبعد انجذابه هذا قرر ولوج عالم الكتابة والابداع الادبي، وقد درس الادب بين عامي 59 و60 في معهد غوركي الموسكوفي. ابتدأ الكتابة في أواسط الخمسينيات واوائل الستينيات، وقد أنتج في هذه الفترة العديد من الاعمال الشعرية والقصصية، وصدرت روايته الهامة " "جنرال البحر الميت" عام 1963، لتلفت اليه الأنظار بشدة ولتكرّسه كاتبا من ابرز كتاب أبناء جيله، ولتطبق بالتالي شهرته الافاق، وقد نشرت هذه الرواية في القاهرة مترجمة عن الألبانية عام 83، كما نشرت مترجمة عن الإنجليزية عام 2001. وتحكي هذه الرواية قصة جنرال إيطالي يزور ساحة القتال برفقة رجل دين للبحث عن جنود جيشه الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية.

مما يذكر فيما يتعلّق بالقارئ العربي، حول الكاتب الراحل، هذا القارئ تعرف عليه عبر تقديم دار الآداب اللبنانية اعماله الروائية مترجمة الى العربية، وقد يسّرت هذه الترجمات لكاتب هذه السطور قراءة ابرز اعمال كاداريه الروائية مثل: مدينة الحجر، طبول المطر، الوحش، ومن أعاد دورانتين، قصر الاحلام، الجسر غيرها من الروايات التي صدرت عن دور نشر عربية أخرى مثل رواية الحصن التي صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال العربية المصرية العريقة.

بعد معايشة تواصلت عبر العشرات من السنوات، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية على النتاجات الروائية والشعرية عامة لهذا الكاتب المهم.

* كما سلف عاش كاداريه ضمن ظروف سياسية غير مريحة في ظل حكم أنور خوجة الديكتاتوري المعروف بقسوته وقبضته الستالينية المتشددة، وكان من الطبيعي ان يتأثر بهذه الأوضاع وان تترك اثارها على ما انتجه من اعمال روائية، مسرحية وشعرية أيضا، غير أن تأثره هذا لم يوقعه في بوتقة المباشرة والتقريرية الممجوجة في الادب والفن، وعلى العكس فان من يقرأ اعماله او بعضا منها، يدهش لما اتصفت به من قدرات وطاقات أدبية إبداعية، لا تتنازل عمّا يفترض ان يحافظ عليه أي ابداع ادبي يريد ان يُقرأ وأن يعيش طويلًا لا سيما فيما يتعلّق بما اتفق على توفره في الاعمال الأدبية من وجدانيات، أفكار،  خيال وأسلوب.

* من هذا المنطلق يمكن للقارئ ملاحظة ان كاداريه تغلغل في تاريخ بلاده، خاصة خلال وقوعها ماضيًا تحت نير الاحتلال العثماني، وقام بأكثر من استعادة لهذا التاريخ ضمن محاولة لإسقاط ما حدث فيه على الواقع اليومي المعيش للبلاد، وذلك بهدف تعلُّم الدروس والعبر من الماضي، والاتعاظ به، ضمن تأكيد قوي على ما تضمنه ذلك التاريخ من اشراقات وطاقات تعزّز الانتماء وتؤصل الوجود، ولعلّ رواية "الحصن"، المذكورة انفا، تقدم مثالا ناصعا لما نذهب اليه.

* الى هذا يتعمّق كاداريه في العديد من نتاجاته الأدبية الروائية تحديدا، في الاساطير الشعبية، ضمن محاولة تتقاطع مع تغلغله في تاريخ بلاده، حدّ التوازي، ولعل روايته القصيرة "مَن أعاد دورنتين"، تقدّم مثالًا ساطعًا على هذا التغلغل في الأسطورة الشعبية الألبانية، وذلك عبر الموازاة بين اسطورة انبعاث الأخ للوفاء بعهده لأخته، وبين الاطار التاريخي – القروسطي- المتخيّل الحافل بالدسائس والمؤامرات، وكل  هذا يفتح افق الرواية على العديد من التأويلات التي تتطلبها الاعمال الأدبية العظيمة في العادة، كونها ترفض القراءة أحادية البُعد، وتحثّ على القراءات المتعددة عبر الوفير من التأويلات كما سلف.

تنطوي برحيل كاداريه صفحة ناصعة البياض في الادب الروائي العالمي، صفحة منحت صاحبها أملًا وجعلت لحياته معنى، كما صّرح في اخريات أيامه، ومما يذكر عنه بعد رحيله امران احدهما يتعلّق بترجمة اعماله الى العشرات من اللغات، منها العربية بالطبع، والآخر ما حظي به من اهتمام واسع النطاق وفي اكثر من لغة، بالنسبة للأمر الأول، اعتقد ان قطاعات وفيرة من القراء في بقاع واسعة من عالمنا قرات اعماله الروائية المذكور وغير المذكورة كما قرات اشعاره خاصة حصان طروادة، وعرفته كاتبا مثريًا مثقفا ومؤثرا، اما بالنسبة للأمر الاخر فمن المعروف ان كاداريه رُشح اكثر من مرة للحصول على جائزة نوبل الأدبية غير انه لم يحظ بها لأسباب يمكن لكل مجتهد التكهن بها، لكنه لم يحصل عليها، واعتقد انه اكتفى وتعزّى باهتمام القراء بما انتجه من اعمال أدبية خلال عمره المديد.

***

ناجي ظاهر

ما خطته أقلام لغة الضاد الجميلة من أيقونات إبداعية أدبية عبر العصور فيها من الجمال الأخاذ، ما لا يُضاهى بلاغيا وروعة  في التعبير والتصوير والإختصار.

تحف فنية خالدة مرسومة بحروف اللغة العربية!!

ومهما حاول المنقطعون عن جوهر الأمة وأنوارها الإبداعية الأصيلة الخالدة، فأنهم لن يصلوا إلى مقامات ما سطرته من جزيل الخرائد الفنية النثرية السامية البهاء.

فأقلام العرب سطرت ما يعجز عن قوله الشعر، وتفوقت بآياتها الجمالية على أقوى القصائد، وحتى فاقت المعلقات بإطلاقها لمكنونات الجمال الإنساني الخارق.

فلماذا يتحدثون عن النثر الشعري، ويدّعون ما يدّعون؟

قطعة نثرية عربية مكتوبة بمداد الإلهام الإبداعي، والتوافق المعرفي مع فضاءات علوية نقية، لا يمكن مقارنتها باي (قصيدة نثر)، مهما أراد أصحابها تبرير وتمرير ما يكتبونه على أنه شعر معاصر، فالمعاصرة لا تسحق جوهر الكينونة الإبداعية الوارفة العطاء والرقاء.

فهل من أصالة إبداع؟!!

***

د. صادق السامرائي

26\6\2024

بصمتٍ مُرعب مفزع، صمت رهيب يشبه شجرة تنتصب في عتمة ليلٍ داجٍ، رحل عن عالمنا الصديق، سوري المولد، فلسطيني الهوى، الكاتب السارد المبدع خالد صالح علي، رحل قبل أيام (يوم الاحد 23/6/2024)، تاركًا اسمًا طيبا وتراثا يستحق البقاء، ويدخل بعض منه الى ديوان النثر الفلسطيني متخذا له صفحة خاصة به، رحل كاتبنا العزيز الغالي بالضبط مثلما رحل قبله الكاتب الصديق حسين فاعور الساعدي ابن قرية الحسينية قبل ثلاثة أعوام ومثلما رحل الصديق الناقد الاديب نور عامر ابن قرية حرفيش في الجليل الأعلى في العام الماضي، لقد مضى صالح خالد علي عن عمر لم يزد عن الثمانين الا بسنة واحدة.

من سوريا الى فلسطين

خالد علي وهذا هو الاسم الذي وقّع به كل كتاباته وانتاجاته الأدبية، من مواليد القطر العربي السوري عام 1943، قذفت به الاحداث السياسية والاجتماعية القاسية الى بلادنا فأقام مع أبناء اسرته بداية في بلدتي الحبيبة الناصرة مدة ثلاثة أعوام، بعدها انتقل للإقامة في منشية عكا. في عام النكبة انتقل مع أبناء اسرته للإقامة في بلدة كفر ياسيف، في هذه البلدة تلقى تعلمه حتى الثانوي، اما دراسته العليا فقد تمت في مدينة بيت المقدس، وقد اهّلته للعمل في مجال التربية الاجتماعية، فالتحق بمعهد الجليل في عكا وفيه تسنّم وظيفة مرشد اجتماعي وقد عمل في هذه الوظيفة مدة نافت على الثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن. قبل نحو العقد ونصف العقد حلّت به واخترقت صحته جلطة دماغية حدّت من حركته، لكنها لم تحدد من نشاطاته ومشاركاته الأدبية، وقد التقى به كاتب هذه السطور في العديد من المناسبات الأدبية الثقافية وأعرب له عن الكثير من الاعتزاز والتقدير لإرادته القوية التي تحدت المرض وتحلّت بالصوت الهامس القوى رغم المرض وآثاره.

تعود علاقتي بالكاتب الراحل، الى نحو ربع القرن، وكان لقائي الأول به عبر صفحات مجلة كانت تصدر ابان الثمانينات، أتذكر انها مجلة الشرق المحتجبة حاليا، وقد تكرر هذا اللقاء في مجموعته القصصية الأولى" ذات الانفاس"، الصادرة عام 1996، اما اللقاء الشخصي الأول لي به فقد تمّ خلال زيارة شخصية له الى مكاتب صحيفة" الصنارة" النصراوية، واذكر انه دخل غرفتي في الصحيفة، غرفة المحرر الادبي، وقدّم لي روايته " مذكرات الأمير"، الصادرة عام 2001، وهو يسرد لي قصة تلك الرواية، ويقول انه كتبها تحدّيا لكاتب مثقف مصري كاد يعايره بان الفلسطينيين لم ينتجوا ما يُذكر في موضوع الرواية التاريخية. وقد اعجبتني ثقة زائري ذاك بنفسه، لتبدأ علاقة ودّية حتى يومه الأخير، وما زلت اذكر بكثير من الدفء والمحبة، انني كتبت عن روايته تلك بعضًا من الكلم الادبي، ما أثلج صدره وما عزّز بالتالي علاقة المودة والتفاهم المضمر فيما بيننا.

ملامح وسمات أدبية

واضح مما تقدم ان راحلنا الكريم، كان مثقفا عصاميا، آثر الطحين على الجعجعة، وعمل في الظل حالمًا بان تكون اعماله الأدبية، على قلتها، كما سيرى الأخ القارئ، هي سقيره الى قارئه المتوقع المتخفّي، ورافضًا ان يكون هو ذاته سفيرَ اعماله كما يحصل في فترتنا المرتبكة الجارية.

صدر له خلال حياته الأدبية الحافلة بالهدوء وشبه الصامتة عدد قليل من المؤلفات، نشير فيما يلي، إضافة الى ما ذكرناه منها، الى أهمها وهو: *سبيل الطاسات (مقالات) سنة   1996*مدينة الرواية (قصص قصيرة) سنة 2009*دائرة وثلاث سيقان (رواية) سنة 2019.

اتصفت كتابات كاتبنا الراحل بالعديد من الصفات التي نفتقدها ونتوق اليها في الفترة الجارية فترة وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي التحول في الكثير من المسلمات والمفاهيم السابقة، خاصة فيما يتعلّق بالنشر، الامر الذي خلط الحابل بالنابل، ودفع بالكثيرين من المبدعين المجوّدين الى ايثار الصمت، وفي الوقت ذاته دفع في المقابل الكثيرين.. الكثيرين.. الى رفع العقيرة عاليا.. عاليا.. دون أي رصيد ثقافي ومعرفي طالما طالبت به ونشدته الفترة السابقة. هذا لا يعني أنني متشائم من الفترة الراهنة، بالعكس من هذا.. ها نحن نعبّر عن تفاؤلنا الذي طالما عبّرنا عنه وعن مثله في هذا المنبر او تلك الأمسية، وهو اننا انما نمرّ في الفترة الجارية في مرحلة من التطور الكمّي ونقترب من عالم الحرية في كل مناحي الحياة واولها الأدبية، بالضبط كما نقترب من فترة التطور الكمي.

مجمل القول ان كاتبنا الراحل، كان مقلًّا في انتاجه الادبي السردي، اذ ان عدد مؤلفاته لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة الا بالقليل، واعتقد ان السبب في هذا يعود الى امرين أحدهما الانهماك في الحياة اليومية وهمومها الضاغطة علينا جميعا، والآخر هو انه اخذ موضوع الابداع الادبي بكلّ جدية فلم يكتب الا ما داعب خياله وظنه، ووجّهه الى محبته الغامرة لكلّ ما هو جميل انساني واصيل في الحياة. وهذا كله ما اهله للحصول على جائزة الابداع الادبي الوزارية عام 2009.

***

ناجي ظاهر

في قصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" للشاعر ت. إس. إليوت، يلعب موضوع الطموح دورا مهما في تشكيل شخصية البطل. الطموح هو القوة الدافعة وراء أفعال وأفكار بروفروك طوال القصيدة. بينما يتصارع مع مشاعر عدم الكفاءة والخوف من الفشل، يدفعه طموح بروفروك إلى البحث عن المصادقة والقبول من الآخرين. ومع ذلك، فإن صراعاته الداخلية تعيقه في النهاية عن تحقيق طموحاته، مما يجعله يشعر بأنه محاصر في حالة من الشلل.

منذ بداية القصيدة، يظهر طموح بروفروك بوضوح وهو يفكر في الدخول الكبير في حفلة. إنه يرغب في ترك انطباع دائم على من حوله ويسعى إلى تأكيد وجوده في المجال الاجتماعي. ومع ذلك، سرعان ما طغى الشك الذاتي وانعدام الأمان على طموحه، مما جعله يشكك في قيمته وقدراته.

إن طموح بروفروك واضح أيضا في مساعيه الرومانسية، حيث يتوق إلى ارتباط عميق بشخصية تحبه. إنه مستهلك بأفكار حول كيفية إثارة إعجابها وكسب عواطفها، ومع ذلك فإن خوفه من الرفض والفشل يمنعه من التعبير عن مشاعره الحقيقية. إن طموح بروفروك في العثور على الحب والرفقة يفشل في النهاية بسبب حواجزه الداخلية، مما يجعله يشعر بالعزلة والانفصال عن من حوله.

بينما يتنقل بروفروك عبر المشهد الاجتماعي لمجتمع أوائل القرن العشرين، فإن طموحه يتحدى باستمرار مشاعر عدم الكفاءة والاغتراب. إنه يدرك تماما أوجه القصور والضعف لديه، والتي تعمل كحواجز أمام تحقيق أهدافه وتطلعاته. تعكس الاضطرابات الداخلية لبروفروك الأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يكافح الأفراد لإيجاد المعنى والغرض في عالم سريع التغير.

وعلى الرغم من طموحاته، فإن بروفروك غير قادر على التحرر من قيود عقله وتوقعات المجتمع. يطارده الخوف من الفشل والرفض، مما يمنعه من المخاطرة وملاحقة أحلامه. في النهاية، تقوضت طموحات بروفروك بسبب انعدام الأمان والقلق، مما جعله يشعر بخيبة الأمل والإحباط.

في المقاطع الأخيرة من القصيدة، يتأمل بروفروك في موته وعبثية طموحاته. يواجه الواقع القاسي لقيوده الخاصة وطبيعة الحياة العابرة، مما دفعه إلى التشكيك في صحة رغباته وتطلعاته. يتضاءل طموح بروفروك في النهاية بسبب إدراكه أن جهوده قد تذهب سدى، مما دفعه إلى مواجهة فراغ وجوده.

يستكشف تي إس إليوت "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" موضوع الطموح من خلال شخصية البطل. إن سعي بروفروك الدؤوب إلى التحقق والقبول هو ما يحرك أفعاله وأفكاره طوال القصيدة، إلا أن صراعاته الداخلية تمنعه في النهاية من تحقيق أهدافه. ومن خلال تجارب بروفروك، يسلط إليوت الضوء على تعقيدات الطموح والتحديات المتأصلة في الإبحار عبر عالم مليء بعدم اليقين والغموض. وفي النهاية، يعمل طموح بروفروك كانعكاس للأزمة الوجودية الأكبر في الحداثة، حيث يتصارع الأفراد مع مشاعر الاغتراب وخيبة الأمل في سعيهم وراء المعنى والغرض.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اعلن صباح اليوم الاثنين عن رحيل  الروائي الألباني الكبير إسماعيل كاداريه في أحد مستشفيات العاصمة تيرانا، إثر نوبة قلبية، عن 88 عاماً. كاداريه يعد من كبار الروائيين في ألبانيا وأوروبا، أعاد في رواياته كتابة التاريخ الألباني القديم والحديث، وترجمت العديد من أعماله إلى العربية.

كان كاداريه على قوائم جائزة نوبل ، وكان يتوقع ان يحصل عليها بعد ان  فاز بجوائز  بريطانية وفرنسية ، لكنها خاصمته كما خاصمت الكثير من الكتاب الكبار .  كاداريه يعد  واحد من أبرز الروائيين الألبان والأوروبيين، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عدة ولقيت رواجاً، كونها  رواياته  تتميز بطابع كلاسيكي ونفس سردي تاريخي وملحمي. فهو عمد طوال مسيرته الأدبية، إلى تفكيك تاريخ بلاده، دامجاً بين الأساطير والقضايا السياسية والتجارب الإنسانية.

ولد كاداريه في مدينة جيروكاسترا في جنوب ألبانيا عام 1936، وهي مدينة الرئيس الألباني أنور خوجا الذي كان يوصف بالديكتاتور. درس في جامعة تيرانا، ثم سافر إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للأدب العالمي. وعندما عاد إلى بلده عام 1960 وجد أن خوجا قطع علاقاته مع موسكو وأقام حلفاً مع الصين البلد الشيوعي المناوئ عقائدياً للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

استهل كاداريه مساره في الصحافة، ونشر بعضاً من أشعاره. ولكن ما كرسه كاتباً وأطلق اسمه في الأدب الألباني كان عمله الروائي الشهير "جنرال الجيش الميت" وقد صدر عام 1963. ثم ما لبث أن تفرغ للكتابة فتتابعت أعماله وأصدر روايات مهمة لقيت صدى لدى القراء والنقاد.

بدأ الكتابة في منتصف الخمسينيات ونشر بعض القصص القصيرة في الستينيات حتى نشر أولى رواياته بعنوان " جنرال الجيش الميت"  عام 1963. وتعد أشهر رواياته التي منحته شهرة دولية خارج ألبانيا. وتحكي قصة جنرال إيطالي في مهمة قاسية يحاول خلالها العثور على رفات جنود بلاده الذين لقوا حتفهم في ألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية وإعادتهم إلى إيطاليا.

من بين روايات كاداريه الأخرى التي تتناول التاريخ الألباني؛ رواية " القلعة"  أو " الحصار" ، الصادرة عام 1970، وتروي قصة المقاومة المسلحة للشعب الألباني ضد الأتراك العثمانيين في القرن الـ15. وكذلك رواية " الشتاء العظيم " ، الصادرة عام 1977 وتصور الأحداث التي أدت إلى الانفصال بين ألبانيا والاتحاد السوفياتي عام 1961.

في عام 1996 مُنح كاداريه عضوية أكاديمية العلوم السياسية والأخلاقية الفرنسية، ثم أصبح لاحقاً ضابطاً في جوقة الشرف الفرنسية. وفاز بجائزة بوكر الأدبية عام 2005، وجائزة أمير أستورياس عام 2009، وجائزة  نويستات  الأدبية الأميركية عام 2020. وحصل أيضاً على جائزة «مونديال تشينو ديل دوكا» عام 1992، وجائزة  هيردر  عام 1998. ورُشِح أكثر من مرة لجائزة نوبل في الآداب. كما تُرجِمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة، فيما تجاوزت أعماله 100 عمل تنوعت ما بين روايات ودواوين شعرية ونصوص مسرحية وسيناريوهات.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

تكادُ تكونُ الطَّائرةُ وحَسْب هي الموضِعُ الذي يَهربُ بي، صوبَ خَلَجَاتٍ مُخجلةٍ في الفكرِ أراها جليَّاً تَشهبُ بي. فما إن أقعدُ ببَطنِها مُنبَهراً، وبلعابٍ سيّالٍ لتقنيةٍ فيها تَحلِبُ بي، حتى أرى تيكَ الخَلَجاتِ تنهمرُ مُجَلجِلةً وتندبُ بي. ثُمَّ ما إن تَقلعُ من مَدرجِها حتى تَختمرُ رُغمَ أنفي تُصَرِّحُ بأنِّي مِن أمَّةٍ عالةٌ على أممٍ، وذيكَ خَلجَةٌ ما فتأت تثلبُ بي. وثَمَّ كلمَّا تصَّاعدتِ الطَّائرةُ في جوِّ السماء تَصَّاعدَت تيكَ الخلجاتُ وتصَاعدَ عويلُها يهتفُ بي، بأنَّه ليسَ لي يدٌ في صنعِ سلكٍ أو جُزءٍ من ذي طائرةٍ وذاكَ عويلٌ بمَعَرَّةٍ تضربُ بي. ثُمَّ تأتيَ خَلجةٌ أمرُّ وأدهى بأنَّ كلَّ أجزائِها صُنِعَت بأيادٍ هي بربِّ السَّماءِ كافرةٌ، وهذا عارٌ يَذهبُ بي، الى خَلجةٍ أخرى هي أعتى وأخزَى بأنَّهُ حتى جهاز ملاحةٍ جَويةٍ في برجِ المَطار قد خَلقَتهُ أيدٍ هيَ كذلكَ مِن ربِّ السَّماءِ نافرة، وذاكَ شَنارٌ يلهبُ بي.

ثُمَّ أرانيَ أتأمَّلُ وُجوهَ بني قومي من مسافرينَ على مَتنِها وذلكَ فضولٌ صبيانيٌّ مَعيبٌ ما فتِأ يلعبُ بي، فأرَى بعضَها وجوهاً تحتَ شَلالِ شَخيرِها غَافيةً، وتيارُ نَومِها يكادُ يَسحبُ بي، وبعضَها وجوهاً جافيةً ورسوماتِ انتفَاخِها بتَنَطُّعٍ وخُيلاءَ يَقطبُ بي، وكأنَّ أحدَهُم هوَ الصَّانعُ لمنظومةِ (هَيدروليك) الطَّائرة وتلكَ خَيلاءُ جوفاءُ الى السَّأمِ تغرُبُ بي، بينَما هوَ في حقيقِ الأمرِ لا يَعلمُ مِن ذي دُنيا دائِرةٍ، سوى الثّريدَ وهزَّ العُرجونِ بعُودٍ من جريد لينالَ تُمَيراتٍ بائِرة، وذاكَ خطبٌ سقيمٌ يَخطبُ بي.

ثمَّ أرانيَ أنظرُ من نافذةِ الطَّائرة بهوسٍ غريبٍ يرغَبُ بي، فأرى مَيادينَ أمتي خربةً وخرابُها بوَجعٍ شديدٍ يقلِبُ بي، وأرَى فَدَادِينَها ثَاويةً وتَثُجُّ بالتَّلافحِ بين مِللِ دينٍ خاطئةٍ ومذاهبَ دَجَلٍ واطِئَةٍ، وجائرةٍ كاذِبةٍ كُلِّها وتحزبُ بي، ماخلا ملَّةَ أبينا إبراهيمَ وتلكَ مِلَّةٌ بمحجَّةٍ بيضاءَ زكيَّةٌ غالبةٌ تَشهبُ بي. وأرى بَساتِينَها خاويةً وتَعُجُّ بالتَّناطحِ بين ثيرانٍ قَبَليةٍ وعُجولٍ عَشائرية ترَاها لأهلِ السَّذاجةِ نَادبَة. ذاكَ تناطِحٌ مجٌّ يصخبُ بي. ثمَّ أرى سَلَاطِينَها عَاويَةً وتأجُّ بالتَّباطحِ بين أحزابِ صَعلكةٍ سِياسيَّةٍ مِن سبلِ الأصالةِ هَارِبَة، ولأهلِ السَّفاهَةِ جَاذِبة، وذاكَ تصعلكٌ يَعصِبُ بي. ثمَّ جَفَلتُ فُجأةً من جليسٍ هولنديٍّ بالجَنبِ في ذيكَ الطَّائرةِ السَّاربةِ، يقولُ وهوَ يَجذبُ بي:

"أظنُّكَ لن تَرى في فَدَادِينَ أمَّتِكَ طَوَاحِينَ، أبداً ولا مَوَازِينَ تَزنُ رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ بمَهابَةٍ". قولُ هذا الهولنديِّ ما إنفكَّ يعشُبُ بي. لكنِ الحقُّ معَه رُغمَ أنَّ قيلَهُ ثقيلٌ ويَقشِبُ بي، لأنِّيَ أبداً لن أجدَ في دروبنا رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ أفخرُ بهِ ويشهبُ بي، فأذنابُ السَّلاطينَ: إمَّا صَلبوهُ في سَاعةٍ غَاربةٍ، إمَّا حَبسُوهُ في خَرابةٍ غَاضِبةٍ، وإمَّا صَيَّرُوهُ خَبَلاً طَوَّافًاً في الدُّروبِ كمثلِ كَلبةٍ من سَكارى الحَيِّ في لَيلٍ شتويٍّ مَذعورةٍ هَاربَة، فويلٌ لي في أمَّةٍ عالِمُها خَبَلٌ يَحُكُّ استَهُ في الدُّروبِ، ويلٌ لم يزلْ يُكَبْكِبُ بي. فهلّا بحَثْنا معاً بعُيونٍ هيَ للدَّمعِ ساكبةٍ، عنِ كلِّ كَلْبَةٍ عَلّامةٍ لكنَّها مذعورةٌ وهَاربة، فلا نَجاةَ لنا من كُلْبَةِ الدَّهرِ ولا قيمةَ لنا فيهِ إلّا في احترامِ وتقديرِ الكَلبةِ الهَاربةِ.

(ومعنى الكَلْبَةِ؛ الشّدَّةُ مِن كلِّ شيءٍ)، وكانتِ الكُلْبَاتُ في دروبِ أمتي مِن كلِّ حَدبٍ تضربُ بي.

عَوْ ! عَوُوُو!

***

علي الجنابي

 

علوية صبح كاتبة ومسرحية لبنانية شهيرة قدمت مساهمات كبيرة لعالم الأدب بقصصها الآسرة. ولدت علوية في لبنان، وغالبا ما تدور أعمالها حول تعقيدات المشاعر الإنسانية والعلاقات والأعراف المجتمعية في الثقافة اللبنانية. من خلال أسلوبها الفريد في سرد القصص، تمكنت علوية من جذب قلوب القراء في جميع أنحاء العالم.

واحدة من أبرز قصص علوية صبح هي "خشب الصندل". تستكشف هذه القصة موضوع الخسارة والحزن حيث تتبع رحلة امرأة حزينة على وفاة زوجها. تصور علوية بشكل جميل الاضطراب العاطفي الذي تمر به بطلة الرواية وتسلط الضوء على الطرق التي تتعامل بها مع حزنها. من خلال الصور الحية واللغة المؤثرة، تنقل علوية بفعالية شدة مشاعر بطلة الرواية، مما يجعل "خشب الصندل" قصة قوية ومؤثرة.

في "الأرجوحة"، تتعمق علوية في تعقيدات العلاقات بين الأم وابنتها. تدور أحداث القصة حول أم تكافح للتواصل مع ابنتها المتمردة، مما يؤدي إلى توتر العلاقة بينهما. تستكشف صبح ببراعة الانقسام بين الأجيال وتحديات التواصل داخل الأسرة، مما يخلق سردًا مثيرًا للتفكير يتردد صداه لدى القراء من جميع الخلفيات.

تدور أحداث قصة "أشجار البرتقال في بيروت" لصبح حول مفهوم الذاكرة والحنين. تدور أحداث القصة على خلفية بيروت التي مزقتها الحرب، وتتتبع مجموعة من الأصدقاء الذين يجدون العزاء في أشجار البرتقال التي كانت تزين ملعب طفولتهم. من خلال عدسة ذكريات هذه الشخصيات، ترسم صبح صورة حية لعصر مضى وتلتقط المشاعر المريرة المرتبطة بتذكر الماضي.

قصة أخرى آسرة لصبح هي "طعم الملح". تتبع هذه القصة امرأة شابة تكافح من أجل التحرر من قيود نشأتها المحافظة وملاحقة أحلامها في أن تصبح طاهية. تنسج صبح بشكل معقد موضوعات التقاليد والتمرد واكتشاف الذات، مما يخلق سردا مقنعا يتحدى المعايير والتوقعات المجتمعية.

في "صانعة العطور"، تستكشف صبح فن صناعة العطور وارتباطه بالذاكرة والهوية. تتبع القصة صانعة العطور التي تشرع في رحلة لخلق رائحة مميزة تجسد جوهر تجارب حياتها الخاصة. من خلال العملية الإبداعية للبطلة، تصنع صبح بمهارة قصة تحتفي بقوة الرائحة في استحضار الذكريات والعواطف.

"البيت في شارع مونو" هي قصة جميلة ومؤثرة من تأليف صبح تستكشف موضوع النزوح والشوق. تدور أحداث القصة في بيروت التي مزقتها الحرب، وتتبع مجموعة من الأفراد الذين يجدون أنفسهم يعيشون في منزل مهجور في شارع مونو، كل منهم يتصارع مع شعوره الخاص بالخسارة وعدم اليقين. من خلال نثرها المثير، تلتقط صبح يأس وشوق شخصياتها وهم يتنقلون بين عدم اليقين الناجم عن الحرب والنزوح.

في "بيت الطيور"، تحكي صبح قصة فتاة صغيرة تجد العزاء في رعاية الطيور المصابة في قفص مؤقت في حديقتها الخلفية. وبينما ترعى الفتاة الطيور حتى تستعيد عافيتها، تبدأ أيضا في التعافي من الألم والصدمة التي تحملتها في ماضيها. إن تصوير صبح المؤثر للصمود والشفاء يجعل "بيت الطيور" قصة مؤثرة ومبهجة تتردد صداها لدى القراء من جميع الأعمار.

"صباحات في بيروت" هي قصة غنائية جميلة من تأليف صبح تجسد جوهر المشهد النابض بالحياة والصاخب في بيروت. من خلال عيون فتاة صغيرة تستكشف شوارع المدينة عند الفجر، ترسم صبح صورة حية لماضي بيروت وحاضرها ومستقبلها، وتنسج معًا موضوعات الأمل والصمود والروح الدائمة لسكانها.

في "زهرة الياسمين"، تستكشف صبح موضوع الحب المحرم والتوقعات المجتمعية. وتدور أحداث القصة حول زوجين شابين يجب عليهما التغلب على تحديات رفض أسرتيهما وإيجاد طريقة للبقاء معا على الرغم من العقبات التي تعترض طريقهما. إن تصوير صبح الحساس للحب والتضحية في "زهرة الياسمين" يجعلها قصة مؤثرة ومؤثرة تظل في قلوب القراء لفترة طويلة بعد الصفحة الأخيرة.

لم تتخل الكاتبة في روايتها الثالثة "اسمه الغرام" ، عن مجهرها في رؤية الواقع، لتبرز تفاصيل الموضوع الذي تتناوله، والتي تشكّل أهمية قصوى على درب معرفة الحقائق، وتعرية النفوس من ما يعتمل فيها، وكشف المستور الذي يبرع الآخرون في إخفائه، وحتى التشدق بعكسه. لم تتخل أيضا عن دفاعاتها المسبقة، فلم تنس الإعلان أن “الكتابة دايما ناقصة”، وأنها لا تتعدى على مسيرة حياة أبطالها ولا تتحكم بهم، ولا تفرض رؤيتها عليهم، فتعلن أن “نهلا تلكزني كي أكتب حكايتها”، “المليئة بالحب والحياة..”، فالبطلة نهلا اختفت وقد تكون ضحية من ضحايا حرب تموز على لبنان عام 2006، وهي الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، فأنا ـ”إن لم أكتب حياتها، ألن أجعلها تتحول إلى مجرد اسم مكتوب على كيس نايلون مثل مصير وحيوات أولئك الأطفال والضحايا الأبرياء”. لكنها تعود للشك في مصداقية الكتابة نفسها: ” لم أعد أدرك إن كنت أعرف امرأة اسمها “نهلا” حَكت لي حكايتها لأكتبها، أم أني أتخيّل حياة امرأة من بين الذين رأيتهم ينتشلونهم من تحت أنقاض منازلهم”. كما أنها لا تنفي وجود المبرر الذاتي والهدف الشخصي: “لم يكن أمامي سوى أن أطاوع نهلا لأقاوم موتي بالكتابة”.

"اسمه الغرام" رواية غنية بالقصص المتعددة والمصائر المتنوعة، وبشخصيات نسائية مركبّة بين الواقع وبين خيال التركيب الروائي. نهلا وسعاد وعزيزة ومنى ونادين وميرنا، كلهن سيعبّرن وسيكنّ إطارا للحديث عن الأهم وهو الموضوع. ألا تنتهي حياة الشخصيات والأفراد والأسماء وتبقى المواضيع…وهذه المرة كان “الغرام” هو الموضوع الأهم الذي اختارته الكاتبة. “ما اسم هذا الغرام الذي يفتك بي ويحييني في آن”؟! تقول البطلة التي تعود إلى غرامها الأول هاني، بعد أن انفصلا وبنى كل منهما حياته بعيداً عن الآخر، فتزوج وانجب. فحبهما “جمر بقي متوقدا”، وبحسب تعبيرها: “كنت مختبئة فيه، وهو يختبئ فيّ طوال الوقت الذي لم نر فيه واحدنا الآخر. ومن أجل ذلك، لم أنسه، لأن الأشياء التي نختبئ فيها لا تُنسى أبداً”.

يفيض الكلام بمشاعر الحب ويختلف باختلاف حدّتها. فالحب أنواع :”الحب هو اللي ما فيكي تقمعيه وتحديه متل النهر”، وحب الودّ والمحبة، و”الحب اللي فيه ولع وتيه ومفردات كثيرة”.

في جولتها وبحثها عن كشف حقيقة ما “اسمه الغرام”، لن تبخل الكاتبة في عرض محتوياته على أرض الميدان، ومصطلحاته المستعملة، ومفاهيمه المطبّقة، وكل ما يدور حوله: الزواج والتقاليد، والحب والعلاقة المختلفة التي تربط بين قطبيه، والرغبة الجنسية واكتشاف الجسد، وعدم الاكتفاء والحرمان، والتعويض عن هذا الحرمان..

تتخذ الكاتبة موقعا واقعيا كاشفا في طريقة تناولها لهذا الموضوع المتشعب والشديد الخصوصية. لكنها حتى في تدّخلها الذاتي ورؤيتها الخاصة، لا تدين ولا تحلل ولا تطرح حلولا، بل هي تقدم تفاصيل واقع تزج نفسها به، لتخرج بحصيلة رؤى ومشاهد، تسجل أحداثها وظواهرها وتدون تعابيرها، وتدع للقارئ المهام الأخرى من الاستنتاج والتحليل.

من جانب  آخر تتعمق الرواية في تعقيدات الحب والعلاقات، وتستكشف مواضيع الرغبة والشوق والخيانة. تدور أحداث القصة في بيروت، وتتتبع حياة العديد من الشخصيات المتشابكة وهم يبحرون في مياه الحب والانكسار.

تبدأ الرواية بتعريف نهلا، وهي شابة تكافح لإيجاد معنى لحياتها بعد سلسلة من العلاقات الفاشلة. تنجذب إلى الشاب الغامض، الفنان الكئيب الذي يبدو أنه يقدم لها الحب والاستقرار الذي تتوق إليه. ومع تعمق علاقتهما، تبدأ نهلا في التشكيك في نوايا علي الحقيقية وتتساءل عما إذا كان حبهما مبنيا على أساس من الأكاذيب.

مع تطور القصة، يتم تعريف القارئ بمجموعة ملونة من الشخصيات التي يجلب كل منها وجهات نظره الفريدة حول الحب والعلاقات. من الفنان العاطفي إلى سيدة الأعمال البراجماتية، تقدم كل شخصية عدسة مختلفة يمكن من خلالها رؤية تعقيدات المشاعر والرغبات البشرية.

في جميع أنحاء الرواية، تنسج صبح نسيجا غنيا من المشاعر، وتستكشف صعود وهبوط الحب في جميع أشكاله. من الاندفاع المسكر للحب الجديد إلى الألم المدمر لكسر القلب، تختبر الشخصيات في "اسمه الغرام" مجموعة واسعة من المشاعر التي ستتردد صداها مع القراء من جميع الخلفيات.

تتمثل إحدى نقاط قوة كتابات صبح في قدرتها على التقاط الفروق الدقيقة للعلاقات الإنسانية بصدق وحساسية. إنها لا تخجل من الجوانب الفوضوية والمؤلمة غالبا للحب، بل تختار بدلاً من ذلك مواجهتها بشكل مباشر بطريقة صريحة وحازمة.

بينما تتصارع الشخصيات في الرواية مع شياطينهم ورغباتهم، يضطر القارئ إلى التفكير في تجاربهم الخاصة مع الحب والعلاقات. كتابات صبح هي استبطانية ومثيرة للتفكير، وتتحدى القراء للنظر في تعقيدات الحب في حياتهم الخاصة.

في جوهرها، "اسمه الغرام" هي رواية عن البحث عن الاتصال والتفاهم في عالم يمكن أن يشعر غالبا بالبرودة واللامبالاة. من خلال رحلة نور والشخصيات الأخرى، يستكشف صبح الطرق التي يمكن للحب من خلالها أن يرفع ويدمر في الوقت نفسه، فيجلب الفرح والألم على حد سواء.

في النهاية، "اسمه الغرام" هي تأمل قوي ومؤثر في طبيعة الحب والعلاقات. كتابات صبح غنائية ومؤثرة، تجذب القارئ إلى عالم حيث يسود العاطفة والرغبة، وحيث لا ينتهي البحث عن الحب.

تشكل رواية علوية صبح "اسمه الغرام" استكشاف مكتوب بشكل جميل ومؤثر للغاية لتعقيدات العلاقات الإنسانية. من خلال شخصياتها الحية ونثرها المثير، تقدم الرواية تأملا قويا في طبيعة الحب وتأثيره على حياتنا. إنها قراءة لا بد منها لأي شخص تعامل مع أفراح وآلام الحب، ويسعى إلى فهم أعمق للقلب البشري.

تقدم قصص علوية صبح نسيجا غنيا من المشاعر والموضوعات والشخصيات التي تسلط الضوء على تعقيدات التجربة الإنسانية في المجتمع اللبناني. ومن خلال نثرها المثير ورواياتها المقنعة، تدعو صبح القراء لاستكشاف أعماق الحزن والشوق والحب والمرونة بطريقة تتردد صداها على مستوى عالمي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: أليس ماكديرموت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

مثلما قال إيمرسون ل ويتمان: "أحييكم في بداية مسيرة مهنية عظيمة، والتي لا بد أنها كانت لها خلفية طويلة في مكان ما، لمثل هذه البداية". نفس الكلمات التي قالها لي محرري عندما نشرت روايتي الأولى عام 1982 – يا إلهي! على الرغم من أنني يجب أن أعترف - بقطع النظر عن إيمرسون وويتمان - فقد صدمني هذا الشعور حتى في ذلك الوقت باعتباره مبالغًا فيه إلى حد ما.

يبدو لي الآن أنه جاء في توقيت سيء. وبعد مرور أربعين عامًا، أنا متأكدة تمامًا من أنني ما زلت في بداية هذه المهنة، وما إذا كانت مهنة رائعة أم لا لم يتحدد بعد.

هذا لأنه، كما اكتشفت بالفعل بلا شك، فإن مهنتنا، وحياة الكاتب، تسمح لنا بالاعتقاد بأننا دائمًا في بداية الأشياء، لأن كل قصة جديدة نكتبها، وكل رواية جديدة، وكل جملة جديدة، هذا الأمر المهم، يحولنا مرة أخرى إلى مبتدئين، وطلاب جدد، ومسافرين وحيدين في أراضي مجهولة، ومبتدئين - جدد إلى الأبد في هذا، يحاولون دائمًا سرد قصة لم تُسرد من قبل.

ليس هذا بالأمر السيء، حقًا.

*

ومع ذلك، فإن هذه المناسبة، وهذا الاحتفال بظهورك الأول، يتطلب كلمات حكيمة ومشورة حكيمة من أحد شيوخ القبيلة، أو على الأقل من شخص ليس جديدا في هذه الوظيفة .

ولذا كنت أحاول أن أتذكر النصيحة التي ربما تلقيتها في وقت مبكر، النصيحة التي ربما ساعدتني خلال هذه السنوات من البدء.

ولقد تذكرت هذا: حفل عشاء جوائز الكتاب الوطني في فندق بيير عام 1987. وكانت روايتي الثانية واحدة من بين خمس روايات وصلت إلى التصفيات النهائية في ذلك العام (كان هذا قبل وقت طويل من ذلك الشيء الخبيث الذي يسمى القائمة الطويلة)، ولكن كذلك كانت رواية توني موريسون الرائعة. الحبيب. الأمر الذي خفف الضغط عنا نحن البشر الأقل شأنًا - كان الجميع يعلم أن الحبيب سيفوز.

(على الرغم من أننا، بالطبع، لنواجه الأمر، لم نكن لنكون كتابًا إذا لم نكن أيضًا حالمين ورومانسيين... لذا أعترف أنني تخيلت لفترة وجيزة لحظة سندريلا عندما ظهرت روايتي الثانية الصغيرة، على نحو مفاجئ، باعتبارها رواية فائزة ، خيال الحصان الأسود الذي استغرق روايتين أخريين وعقدًا آخر ليؤتي ثماره فيما يسمى أحيانًا "الحياة الحقيقية")

على أية حال: في فندق بيير، كنت أنا وزوجي على طاولة الناشر مع متأهل آخر للتصفيات النهائية - لاري هاينمان، الذي كتب رواية مدمرة عن فيتنام، "قصة باكو - وزوجة لاري". كان هناك أيضًا محرري ووكيلي ورئيس قسم الدعاية، لكنني كنت جالسة بجوار روجر شتراوس نفسه، أحد مؤسسي فارار وستراوس وجيرو، وهو شخصية أدبية كبيرة: أرستقراطية النشر، أرستقراطية مانهاتن؛ - أسطورة كبيرة، وسيم، ذات شعر فضي، اشتهر بارتداء الأسكوت، وملء محادثته المضحكة بألفاظ نابية مذهلة..

تأتي جائزة القص دائمًا في المرتبة الأخيرة في حفل توزيع جوائز الكتاب الوطني - وهي أفضل لحظة مصورة - وعندما تم الإعلان عن ذلك، فازت قصة باكو بالجائزة. حدثت ثلاثة أشياء في وقت واحد: شهق الجمهور، وانفجرت زوجة لاري هاينمان في البكاء، وربت روجر شتراوس على ركبتي مثل عم متعاطف. بينما كان لاري يشق طريقه إلى المنصة، انحنى روجر ليهمس في أذني... قال: "آه، عليهم اللعنة ".

وبعد عشرين دقيقة، بينما كنا نرتدي معاطفنا، أمسكت توني موريسون بيدي وقالت لي نفس الشيء بكل سرور.

إنها نصيحة حكيمة، وشعار كاتب، استفدت منها جيدًا على مر السنين، وها أنا الآن أنقلها إليك: آه، عليهم اللعنة.

استخدمه عندما يقترح شخص ما أن كتابة القصص ليست وظيفة حقيقية.

أو عندما تسمع أن الطباعة قد ماتت. والكتب عفا عليها الزمن. وسوف يحل الذكاء الاصطناعي محلنا جميعًا.

آه، عليهم اللعنة!

أهمس بها كلما قيل لك: لا يمكنك قول ذلك. لا يمكنك كتابة ذلك. لا يمكنك بيع ذلك.

قل ذلك عندما يحاول شخص ما أن يقترح أن هناك محظورات لفننا: أنه لا يُسمح لك بتخيل نفسك في عوالم معينة، أو شخصيات معينة، أو ثقافات معينة. أنك ممنوع من خلق مواقف لم تعيشها بالفعل. أنك ممنوع من اقتراض الكثير مما يسمى "الحياة الحقيقية".

قلها عندما يُقال لك إنك تأخرت كثيرًا في فكرتك الخيالية، فقد تم إنجازها من قبل. أو مبكرًا جدًا – لم يتم القيام بذلك من قبل.

"آه، عليهم اللعنة."

قلها بضحكة. أو بهزة كتف .

قل ذلك بلطف، بنفس الطريقة التي قد تتمتم بها، "أيها الأحمق المسكين"، أو "أوه، حسنًا"، أو مثل سيدة جنوبية مستهترة، "لماذا، ليبارك قلبك". أو قلها بصبر وأسى كما قد يقول الأيرلنديون: "فليساعدنا الله".

القراء، وقراء الروايات على وجه الخصوص، هم أشخاص رائعون، وكرماء، وضروريون، وأفضل الناس، حقًا، ولكنهم يمكن أن يكونوا أيضًا، حسنًا، مزعجين.

لذلك قل ذلك بلطف عندما يسألك عزيزي القارئ: "لماذا قصتك حزينة جدًا؟ " أو "هل كان من المفترض أن تكون قصتك مضحكة؟" أو "هل كنت تنوي وضع تلك التفاصيل المحورية الذكية هناك أم أن ذلك حدث للتو؟" قل ذلك بأقل قدر من السخط عندما يقترح قارئ متحمس أن عملك سيجد جمهورًا أوسع إذا كانت قصصك أقل تعقيدًا.

آه، عليهم اللعنة.

سألني كاتب من أكثر الكتب مبيعًا بشكل يبعث على السخرية ذات مرة. قال:

- هل تحبين الكليشيهات؟  أنا أحبها .

يعرف الناس بالضبط ما تعنيه عندما تستخدم عبارة مبتذلة. عبارات مبتذلة. شخصيات مبتذلة. ليس عليهم أن يفكروا في الأمر.  أكد لي:

- يجب عليك استخدام المزيد من الكليشيهات. القراء يقدرون ذلك.

فكرت: آه، عليهم اللعنة.

*

في إحدى جلسات الأسئلة والإجابة السريعة التي أجريت مؤخرًا، تم سؤالي عن شعوري تجاه المراجعات عبر الإنترنت. أعترف أنني كنت متعبًا بعض الشيء، لقد كان يومًا طويلًا، وربما كنت غريب الأطوار إلى حد ما. أخبرت السائل أنني لم أقرأ مثل هذه المراجعات - لعملي أو لأعمال الآخرين - لأن الكثير منها يعادل سؤال شخص ما "لماذا لست أطول؟"

*

يقول لك القارئ العابس: "لم تكن قصتك تدور حول ما اعتقدت أنها ستكون حوله". يقترح عليك أحد القراء المفيدين أن تقوم بمراجعة رواية تشبه روايتك - في الحقيقة لن تكون مثل روايتك - لأنها أنتجت سلسلة شعبية. يقول أحد القراء القلقين: "لقد استمعت إلى كتابك بينما كنت أقوم بإعداد عشاء من ثمانية أطباق لعشرين شخصًا في مطبخ مزدحم ولم أفهم النهاية تمامًا. ربما تركت شيئًا ما." يقول القارئ قليل الكلام: "لقد قرأت قصتك"، ثم لا شيء آخر.

يجب أن تبتسم. يجب أن نكون دائما لطفاء مع القراء.

ولكن يجب أن تفكر، مع ذلك، آه، عليهم اللعنة.

*

كاتب عظيم، لم يعد معنا، كان في منزله الريفي، يكافح من أجل تأليف روايته الألف، عندما توقفت سيارة ليموزين طويلة في ممر منزله وخرجت منه وأسقطت كاتبًا أصغر سنًا كان قد دافع عنه قبل عقد من الزمن، أعقبها ضباب من دخان الحشيش. ومن ثم النجم السينمائي الشهير جدًا الذي كان على وشك الظهور في النسخة السينمائية من الكتاب الكبير الحالي للكاتب الأصغر سنًا. قالا إنهما جاءا لتكريم هذا الكاتب العظيم، كاتب كانا يعشقانه، كاتب رثياه أثناء تناول المشروبات، والذي كانت رواياته، للأسف، غير قابلة للتصوير السينمائي.

عندما انطلق الاثنان بسيارتهما الليموزين، اتصل الكاتب العظيم بوكيله - الذي روى لي القصة - ليأسف لعدم عرض أي من كتبه الحائزة على العديد من الجوائز على الشاشة. ماذا كان يفعل خطأ؟ هل كان منفصلا عن الواقع؟ هل كان عمله يشيخ بشكل سيء؟

فقالت وكيله: بالله عليك اذهب واكتب.

ما كانت تقصده، بالطبع، هو: آه، عليهم اللعنة.

قلها عندما تبدأ يومك في الكتابة، بينما تدير ظهرك لكل الأشخاص والأصوات التي لا تنتمي إلى غرفة الكتابة الخاصة بك: الآباء، والأشقاء، والأزواج، والنقاد - عبر الإنترنت أو غيرهم - والأصدقاء والجيران ذوي الرأي، أحدث كتاب كبير، والمؤلف الجديد الأكثر إثارة، وبعض الأشياء التي على  تيك توك، وزميل الدراسة الذي حصل للتو على صفقة بقيمة مليار دولار مع Netflix.

آه، عليهم اللعنة.

و كما قال فوكنر، لا تترك مكانًا في ورشتك لأي شيء آخر غير أحكام وحقائق القلب البشري.

وبعد أن أمضيت لحظة "ليلة الموتى الأحياء"، أغلق الباب على الأيدي المتلمسة والوجوه الكئيبة لكل ما يمنعنا من مواجهة تلك السلطات والحقائق بلا قيود- وبدونها، كما قال فولكنر، تصبح أي قصة سريعة الزوال ومحكوم عليها بالفشل - انظر إلى المرآة المجازية وقلها لنفسك.

قل ذلك لشكوكك، وترددك، ومخاوفك بشأن الحصول على وظيفة حقيقية.

آه، عليهم اللعنة.

قل ذلك لمخاوفك بشأن كتابة الشيء الخطأ: العبارة الخاطئة، أو الشخصية الخاطئة، أو النوع الخطأ، أو الموضوع أو المشاعر الخاطئة. القصة التي تموت على الكرمة.

أعني، اللعنة على تلك المخاوف.

قلها لكل فكرة معقولة، محبطة، وجبانة تزور عقلك المضطرب، لكل الأشياء التي تشل حريتك في الكتابة.

آه، عليهم اللعنة

وينطبق الشيء نفسه على خيالات سندريلا الخاصة بك بالفوز بجائزة أدبية كبيرة، بالإضافة إلى يقينك على غرار إيور بأن عملك لن يرى النور أبدًا.

اللعنة على كليهما.

سوف تفشل، بالطبع سوف تفشل. سوف ترتكب أخطاء. ستكتب جملًا فظيعة، ومشاهد غير ضرورية، وقصصًا تفقد قوتها، وروايات ربما لا تكون أفضل أعمالك.

أصدقائي، إن المخاطر المهنية الكامنة في اختيار مهنة - مهنة سرد القصص - هي التي تبقيك، بغض النظر عن عدد السنوات التي عملت فيها، إلى الأبد مبتدئًا، ، ومستكشفًا وحيدًا ينطلق لبناء عالم جديد.

مهنة تبقيك في البداية، مجرد بداية مسيرتك المهنية العظيمة، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لتكتبها، وجملة جديدة لتؤلفها، وصوت مصنوع من الكلمات وحدها، لم يُسمع بعد، والذي فقط يمكنك اكتشافه.

قمت بإعادة قراءة إيريس مردوخ في الآونة الأخيرة، لأنني لا أزال أكتشف كيفية القيام بذلك، والكتاب الجيدون هم، في النهاية، أفضل المرشدين. (على الرغم من أن المحررين العظماء مثل باتريك وهانا وماريبيث وويل سيساعدون أيضًا بالطبع).

تستخدم مردوخ مصطلحًا أصبحت مولعة به كثيرًا: "نكران الذات".

كلمة جميلة لمقاومة ثقافة "الأنانية" لدينا. طريقة رائعة لتحديد ما نفعله عندما نواجه مخاوفنا الكتابية ونقول: آه. . . جيد أنك علمت . . .

نكران الذات. في عالم مردوخ، يعد هذا مفهومًا معقدًا -أفضل المفاهيم كذلك- لأن مردوخ كانت فيلسوفة وروائية، كما أعتقد، مثل أفضل الكتاب.

وتؤكد أن نكران الذات هو الهدية العظيمة لكل من الفن والطبيعة. إنها القدرة على التخلص، ولو للحظات فقط، مما تصفه بـ "الأنا السمينة التي لا هوادة فيها". إنها القدرة على ترك الذات، ولو للحظات، من أجل الرؤية بوضوح.

وتقول إن الفن العظيم يمنحنا متعة خالصة في الوجود المستقل لما هو ممتاز. سواء في نشأتها (التي ستكون وظيفة الكاتب) أو استمتاعها (وظيفة القارئ) فهي شيء يتعارض تمامًا مع الهوس الأناني. إنه ينشط أفضل قدراتنا، وباستخدام اللغة الأفلاطونية، يلهم الحب في أعلى جزء من الروح.

وتقول إن (الفن العظيم) قادر على القيام بذلك تقريبا بفضل شيء يشترك فيه مع الطبيعة: كمال الشكل الذي يدعو إلى التأمل الحر ويقاوم الانغماس في حياة الحلم الأنانية للوعي.

*

من قبيل الصدفة، أم لا، هناك صدى لإيمرسون في هذا:

إن الشاعر الذي يستخدم الطبيعة كخط هيروغليفي يجب أن يكون لديه رسالة كافية لينقلها.

صدى لويتمان أيضا: الذي قد تبدو "أغنيته لنفسي" متناقضة تماما مع نكران الذات، إلا عندما تفكر: لأن كل ذرة تنتمي لي هي ملك لك.

لذا، هذا هو الشيء الذي يجب أن نتذكره: نحن الذين نعمل في الفنون الأدبية نسعى لنحصل، لبعضنا البعض، ولنا جميعًا، على متعة خالصة - فرحة بالوجود المستقل لما هو ممتاز، فرحة بكمال الشكل. لقد خرجنا لنلتقط، من خلال قصصنا، التأمل المجرد الذي يحررنا جميعًا من غرورنا الذي لا هوادة فيه، ويحررنا من الهواجس الأنانية التي تحد من حياتنا، والتي تجعلنا تافهين ومشتتين ووحيدين.

نكتب لنتخلص من كل التشوهات الذاتية للتعصب والأحادية والاستياء والرأي، حتى نتمكن من التعرف وتحديد وتوضيح سلطات وحقائق القلب البشري التي توحدنا، السلطات والحقائق التي يجب على كل راوي أن يسعى إليها.

أعرف أعرف. هذا كله مبالغ فيه جدًا. ساذج جدًا أيضًا. ألا نريد جميعًا بيع بعض الكتب وكسب عيش كريم؟ ربما توقع هذه الصفقة مع Netflix؟

أنا أعلم، أسمع ذلك.

على الرغم من أنني كنت روائية لأكثر من أربعة عقود، فقد أمضيت أيضًا بعض الوقت في العالم الحقيقي، وبالطبع سمعت كل شيء:

كل تلك الأصوات الذكية المدمرة التي تقول إن ثقافتنا قد تجاوزت منذ فترة طويلة أي تملق طموح للرجال البيض الموتى مثل إيمرسون وويتمان وفولكنر.

الجوقة الهادئة والثاقبة التي تنص بقوة على أن فترات انتباهنا المختصرة جعلت الانطباع شبه ميت. لقد أصبحت المفاهيم المعقدة التي طرحها الروائيون الفلسفيون قديمة تمامًا.

أعرف ضجيج الحشود الصاخبة التي تتنبأ بأن الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى إفلاسنا جميعًا. ويُبْعد رواة القصص الأصلاء والمبتكرون عن الإنتاج.

لقد سمعت كل الاعتراضات الواضحة على مفاهيم تخصصي في اللغة الإنجليزية حول أهمية الأدب للروح.

لقد سمعت هذه الحجة، وقلبتها في ذهني. احتضان كل واحد منهم. لقد شعرت في أوقات مختلفة بالرعب والرعب والاكتئاب والراحة بسبب المعرفة الجيدة التي لديهم.

وفي هذه المناسبة الرائعة في بداية مسيرتكم المهنية العظيمة، أنصحكم أن تفعلوا الشيء نفسه: استمعوا بعناية لجميع التحذيرات المعقولة حول سعينا العقيم والمضلل الذي عفا عليه الزمن. تعجب بمنطق العالم الحقيقي لكل تنبؤ رهيب بأن الفنون الأدبية قد ماتت. قلّب هذه الأصوات الذكية في قلبك وعقلك.

وبعد ذلك، لأن هناك دائمًا قصة جديدة لنرويها، قل: آه، عليهم اللعنة.

وابدأ من جديد.

***

...........................

الكاتبة: أليس ماكديرموت: Alice McDermott  مؤلفة تسع روايات، نشرتها جميعها FSG، بما في ذلك تشارمينغ بيلي، الحائزة على جائزة الكتاب الوطني، وتلك الليلة، وفي حفلات الزفاف والاستيقاظ، وبعد هذا، والتي وصلت إلى التصفيات النهائية لجائزة بوليتزر. وهي أيضًا مؤلفة مجموعة المقالات ماذا عن الطفل؟: بعض الأفكار حول فن الخيال. ظهرت قصصها ومقالاتها في نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ونيويوركر، ومجلة هاربر، ومنشورات أخرى. تعيش خارج واشنطن العاصمة.

 

الثقافة التراثية الشعبية ثقافة نقلية.. ينقلها العوارف والرواة من السلف إلى الخلف في حديث المجالس.. وهي شانها شأن الثقافة العربية طللية.. بما تتميز به من انجذاب عاطفي نحو الماضي، بكل ما يحمله ذلك الماضي من أصالة القيم والتقاليد والشعر والادب والفروسية ومكارم الأخلاق..

 وقد تميز بين القوم.. عدد من الرواة.. قيض لنا ان نعاصر البعض منهم.. ونستمع إلى مروياتهم في التراث.. ففي خمسينات القرن الماضي.. فقد كان الراوية النابغة كندير يرتاد مضايف الديرة.. حتى اواخر ستينيات القرن الماضي، ويقضي ليلته ضيفاً فيها.. حيث كان يسترسل بالسرد في مجالسها، إلى وقت متأخر من الليل.. وبطريقة جذابة لا يمل منها الحضور، بل ويلحون عليه في كثير من الأحيان، طالبين منه سرد المزيد من حكايات التراث عليهم...

وتجدر الإشارة إلى أن الملا ضيف الأحميد المصطفى.. كان ايضا من فحول الرواة ومن اعلام النسابة... حيث كان يسرد مروياته بطريقة سلسة، وبأسلوب قص سردي بليغ، يأسر المتلقين.. فكان مصدراً لكثير من الباحثين في الأنساب والتراث.. كما ان الأديب إشعموط كان هو الاخر، راوية متمكنا يجمع بين الفكاهة، وحكايات التراث بشكل محبب... بحيث لا يمل السامع حديثه..في حين كان الأديب محمد العبيد الضاحي، نسابة تراثيات متميزا، في سرديادته، التي تجذب المتلقي اليه برغبة جامحة،كي لا يفوته من حديثه شيء منها..

 لقد كان لأولئك الرواة الأفذاذ، وغيرهم.. فضل ولمسة واضحة، في تكوين الثقافة التراثية الجمعية لجمهور ريف الديرة.. ولأن وسائل التوثيق لم تكن متاحة يوم ذاك.. بالشكل الذي هي عليه اليوم لتدوين مروياتهم.. فقد فات الكثير مما رووه وجادت به قريحتهم.. وبذلك فقد ترك رحيلهم فراغا واضحاً في الساحة التراثية.. بما تميزوا به من مواهب فطرية إبداعية، استظهارا، وسردا نقليا.. مما بات يتطلب من الكتاب والأدباء المهتمين بالتراث،المبادرة على عجل، لتدوين ما تركوه من مرويات،في التراث والموروث الشعبي في كافة مجالاته وتوثيقها، وجمعها في كتاب.. للحفاظ عليها من الضياع بمرور الوقت.. لتكون وسيلة لاطلاع الأجيال القادمة، ومرجعا متاحا للباحثين، والمهتمين بالتراث مستقبلا..

ولعل التوكيد على موضوعة الموروث الريفي الشعبي التقليدي، والنهوض بثقافة توثيقه، يظل هاجسا مشروعا، وأمرا مطلوبا باعتبار الموروث الشعبي، نتاج هوية أصالة، وينبغي الحفاظ عليه من المسخ والتشويه،بتداعيات العصرنة الصاخبة بجوانبها السلبية..الأمر الذي يؤرق المهتمين بالتراث خاصة، ويجعله موضع قلقهم، لاسيما وأن تداعيات العولمة جارفة، وفي طريقها لكنسه، لتتركنا مستلبين بلا ملامح..

***

نايف عبوش

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

*** 

كامل فرحان

قراءة الومضة:

صاحب هذه الكلمات شاعر من طراز فريد، الإلهام الشعري يأتي له بغته ويختفي تماما كمن يضع مصبحا ليضئ طريقاً للعابرين وهذا يتناسب مع الومضة الشعرية كصورة واحدة مركبة ليزداد عنصر التكثيف مع خرق اللغة.

قال نيتشة: إن مرماي أن أكتب في عشر جمل ما يكتبه غيري في كتاب.وهذا ما حققه الشاعر كامل فرحان، حيث استخدم الإيجاز والتكثيف  والبناء الدرامي الدائري حيث انتهى من حيث أبتدأ/ نار الغضا /  ثم انتهى بنار الموقد. والموقد  أيضا غضا لتكتمل الدائرة: نار - حطب  - حب - موقد نار:

أنتِ كنار الغضّا

وهذا الحب يحتطب

أغصاني  برفق

ليقدمها بسخاء لنار موقدك.  

ليفوح شذاه.

وما أدراك وحركة الجفون بسهد الأحبة.. شعور لا يمكن تمثيله بكلمات.

وانظر الى أركان صورة فرحان وتشكيلها وحتى بروازها المفتوح الذي يعيدنا تارة إلى الصوفية والمفردات التي كان يذكرها عمر ابن الفارض في أشعاره بكثرة حيث تدل على الفناء في المحبوب وتدل على مداعبة الروحانيات

وكذلك الحلاج...

الاركان أو العناصر الثابتة على الورق المتحركة في المُخيلة والمشاعر

نار الغضا / (حركة تقترب فيها الجفون ككناية عن السهد) 

الحب وحطبه / وانسنته

الموقد/ وهو ماعون النار التي تلهب قلب المحب بسبب غضاضة الجفون.

هذالحب يحتطب اغضاني

فالاغصان هي اجمل شئ واهم شئ في الشجرة لينزاح الشاعر إلى أن الحب يأخذ اجمل ما فيه برفق ثم يهديها لجفونه (بسخاء) حين يغلقها فتشب نيران الحب وتخرج دخان بشذى عطر تلك الأغصان وهي مشاعر المحب.

***

زين المعبدي

 

بسمة الخطيب هي كاتبة لبنانية غزيرة الإنتاج، وقد أسرت قصصها القراء في جميع أنحاء العالم. ولدت الخطيب ونشأت في لبنان، وتستمد الإلهام من التقاليد الثقافية الغنية لوطنها، وتنسج قصصا خالدة ومعاصرة. غالبا ما تستكشف كتاباتها موضوعات الحب والخسارة وتعقيدات العلاقات الإنسانية، وتقدم للقراء لمحة عن تعقيدات الحياة في الشرق الأوسط.

إحدى أشهر قصص الخطيب هي "طريق الحرير"، التي تحكي قصة امرأة شابة تشرع في رحلة للعثور على ذاتها الحقيقية. تدور أحداث القصة على خلفية طريق الحرير التجاري القديم، وهي تأمل في قوة اكتشاف الذات وأهمية اتباع المرء لمساره الخاص في الحياة. من خلال نضالات البطل وانتصاراته، تستكشف الخطيب موضوعات الهوية والتمكين، وتتحدى القراء للتفكير في رحلاتهم الخاصة في اكتشاف الذات.

ومن بين قصص الخطيب الشهيرة الأخرى "شجرة الأرز"، وهي حكاية مؤثرة عن الحب والخسارة في ظل غابات الأرز المهيبة في لبنان. وتحكي القصة قصة زوجين شابين وهما يواجهان تحديات علاقتهما، ويتعمقان في تعقيدات عواطفهما ورغباتهما. ومن خلال النثر الغنائي والصور الحية، يلتقط الخطيب جمال الحب ومأساته، ويدعو القراء إلى التأمل في الطبيعة العابرة للعلاقات الإنسانية.

في "بستان الزيتون"، يستكشف الخطيب تأثير الحرب والصراع على الناس العاديين، ويروي قصة عائلة مزقتها العنف والمأساة. تدور أحداث القصة في قرية صغيرة في جنوب لبنان، وتقدم لمحة عن الحقائق القاسية للحياة في منطقة مزقتها الحرب، حيث يتم اختبار روابط الأسرة والمجتمع إلى أقصى حدودها. ومن خلال عدسة نضالات البطل، يلقي الخطيب الضوء على مرونة وشجاعة الروح البشرية، ويذكر القراء بقوة الحب والأمل في مواجهة الشدائد.

وتستمد قصص الخطيب جذورها العميقة من تقاليد وفولكلور لبنان، وتستمد من تاريخ البلاد الغني وتراثها الثقافي لخلق سرديات غامرة ومثيرة. على سبيل المثال، تحكي الخطيب في "زهر اللوز" قصة امرأة شابة تكتشف سرا عائليا مفقودا منذ فترة طويلة مخفيًا بين أغصان شجرة لوز قديمة. ومن خلال رحلة البطلة في اكتشاف الذات، تستكشف الخطيب موضوعات الأسرة والتراث والقوة الدائمة لسرد القصص، وتنسج نسيجا من التاريخ والأساطير يتردد صداه لدى القراء من جميع الأعمار.

ومن أكثر قصص الخطيب المؤثرة "زهرة الياسمين"، وهي قصة مؤثرة عن الحب والخيانة تدور أحداثها في شوارع بيروت المترامية الأطراف. تتبع القصة امرأة شابة وهي تتنقل بين تعقيدات علاقتها برجل كاريزمي ولكنه معيب، وتتعمق في تعقيدات الرغبة والشوق والخيانة. من خلال النثر الغنائي والصور الحية التي تستخدمها الخطيب، ينتقل القراء إلى عالم بيروت النابض بالحياة والصاخب، حيث يتعايش الشغف وألم القلب في توازن دقيق.

في "شجرة الرمان"، تروي الخطيب قصة فتاة صغيرة تشرع في رحلة اكتشاف الذات بعد تدمير بستان عائلتها بسبب الحرب. ومن خلال نضالات البطلة وانتصاراتها، تستكشف الخطيب موضوعات الخسارة والمرونة والقوة الدائمة للطبيعة للشفاء والتجديد. وعلى خلفية المناظر الطبيعية الخصبة والتقاليد القديمة في لبنان، تشكل القصة تحية مؤثرة لمرونة الروح البشرية في مواجهة الشدائد.

لقد اكتسبت قصص الخطيب قراء مخلصين في جميع أنحاء العالم، حيث تُرجمت أعمالها إلى لغات متعددة ونُشرت في مجلات أدبية مرموقة ومختارات. وقد نالت نثرها المثير وروايتها الحية استحسان النقاد والعديد من الجوائز، مما عزز سمعتها كواحدة من أكثر المؤلفين موهبة وإقناعًا في لبنان. من خلال قصصها، تدعو الخطيب القراء لاستكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية، وتقدم نافذة على النسيج الغني للثقافة والمجتمع اللبناني.

تعد الكاتبة بسمة الخطيب راوية موهوبة، وقد أسرت حكايات الحب والخسارة والتجربة الإنسانية القراء في جميع أنحاء العالم. وبالاستفادة من التقاليد والفولكلور الغني في لبنان، تنسج الخطيب سرديات عالمية ومتجذرة بعمق في التراث الثقافي لوطنها. ومن خلال نثرها المثير وصورها الحية، تروي بسمة الخطيب قصصا عن الحب والخسارة والتجربة الإنسانية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

عندما ماتت "أمي" لم أبكي، كان الحزن أكبر من تصريفه عبر الدموع، فثمة أحزان لا تبكي حتى وإن بكيناها لا نبكيها كما تستحق. ثمة خسارات ونكبات في حياتنا لو أردنا أن نبكيها كما يليق بها لبكيناها دَمًا لَا دُموعًا. ثمة خيبات لا شيئ قادر على أعادة الثقة الينا بعدها. ثمة إنكسارات تعجز الدنيا كلها عن ترميمها،، في لحظة صفاء مع النفس والتأمل وذاكرة قطعت المسافات بسرعة البرق ونحن اطفال وبين الحقول، والغربة،والقراءة والأدب والفلسفة والجغرافيا والتاريخ ودولة ما بعد حرب اكتوبر والحداثة، والعولمة وعري الشوارع والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية والرواية الجديدة وجسور الآنهار في اوروبا، وقطارات وصالات وأندية أوروبا، لتعود في النهاية الى زمن (الطفولة) في قريتنا، اكتشفت وانا أقرأ للكاتب والفيلسوف { ميلان كونديرا} وهو يتحدث عن الموت بلا شهود ولا استعراض هو موت ورقي مارسه (الشيخ محمد) من قريتنا وهو لا يقرأ ولا يكتب..؟ عندما شعر بدنو الأجل ذهب الى الحقل كي يموت في عزلة، عاش سنوات وسط الحقول في إنتظار موت لا يأتي. لم يكن يخاف من الموت بل من الضعف. كان يخجل ان يراه احد مُنهكًا أمام الموت. الحياء من قدر كوني كبير. الحياء من أن يُرى.مكشُوفًا لذلك ذهب الى الموت كما لو كان علي موعد مع الموت بلا شهود ولا استعراض.، كيف انتهيت بعد طواف ورحلة في دول الى" صومعة الشيخ محمد" وكوخه في (الجرن) وفي الحقل وليالي الضباع والصلاة النقية في الحقل عند الدخول والخروج منها؟

عندما تهاوى كثيرون أمام إغواء الغرب، عدت أنت للجذور ليس بدافع الحنين وحده، بل بدافع الاكتشاف وغواية النقاء البري..؟

لم يكن "الشيخ محمد " شخصاً فحسب، كان زمناً ومجتمعاً ومبادئ حياة، حيث الطبيعة هي الأصل والثقافة ثانوية، كان الضمير هو القانون. يكفي ان تترك أبواب المنزل بدون اقفال وتسافر. حتى لصوص ذلك الزمان كانت لهم مبادئ وقواعد شرف: لا تسرق مال يتيم او أرملة أو غريب . ليس من الرجولة، ولا يُختزل به الشيخ محمد بل هو كل الزمن المنقرض خارج نجاسات العهر السياسي والاجتماعي وعصر الوحوش من رأس المال،

يوم كان الحلف (بالماء والملح وربعت الشيخ صيام) هو القانون،يوم كانت المصافحة وعد ووفاء والضحكة قسماً.

ورغيف الخبز المتبادل عهد شرف والكلمة وثيقة شرف. يوم كانت صحون الطعام تدور في المساء للمحتاجين تحت جنح الظلام للعفة، يوم كان المناخل والغرابيل على الحائط هو صمام أمان ودستوراً، يوم كان اللص يبكي من السرقة ولعنة العوز.

كان زمن "الشيخ محمد" خارج كل نظم الحكم، زمن مرجعية تتداخل فيها الطبيعة مع العرف تداخل سبيكة الذهب، لم يكن سلطة ولا يفرق بين ملك ورئيس، لا بين جمهورية ولا ملكية، لكنه يعرف موسم الأمطار وزهور الربيع، والغيوم البيض علامة الخريف:

ظلال شهر اكتوبر علامة نهاية الصيف، وسخونة تراب شهر مايو وبزوغ نجمة الفجر،لماذا أتذكر [الشيخ محمد] في زمن الموت العاري، وخيبة البشر بنظام العالم، زمن صارت فيه الشطارة ثقافة والحيلة ذكاءً، والخيانة وجهة نظر..؟ آنا من عشاق فن المطربة (فيروز) احتفظت علي صفحتها بهذا التعليق علقت قارئة بذكاء على أغنية لفيروز، قائلة إن فيروز ليست مغنية فحسب بل هي مؤرخ لزمن الحارة وشادي والثلج ومواسم العنب والعصافير وفوانيس الشوارع، وشايف البحر شو كبير وقهوة الصباح وطير الوروار، وجايبلي سلام من عصفور ينفض جناحه عند شباك الدار، وأين ذهب شادي الذي كان يأتي من الأحراش ونلعب أنا وياه..؟ احتفظت في مذكراتي عن تعليق يحكي حقبة تاريخية، ابحث مع فيروز عن شخصية شادي هذا العصر اين ذهب ..؟

لا أحد يعرف أين راح، في جبهة ممزقة من ميلشيات أم في قوارب الموت في البحر، أم صار زعيماً في حزب او عصابة؟من يوم مات الشيخ محمد وإختفى شادي، اختفى الجانب النظيف وانطفأت فوانيس القرية والكفر والعزبة والنجع والضيعة، ونحن ننطر عالطريق، ماذا ننطر..؟

لا أحد يخرج من هذه الصحراء الميتة، صحراء الداخل والخارج، ولا خيار لنا أمام جنون العالم غير الجلوس "وانتظار أحد ما يأتي من مكان" أغنية ميج جيفر: الأ غنية الأخيرة التي سمعها الفيلسوف والآديب { صموئيل بيكيت } في انتظار جودو وحامل جائزة نوبل في دار المسنين في سريره الأخير وطلب من الفريق الطبي مغادرة الغرفة وعندما عادوا وجدوا كل شيء انتهى.

لم يشارك في جنازته سوى الفريق الطبي ونزلاء دار المسنين. لم يَأْتِ أَحَد. لم يذهب أحد. هذا فظيع كما قال يوماً.

عندما شعر الشيخ محمد راعي الأغنام بقرب الأجل قال لزوجته:

" أنا ذاهب للحقل لكي أموت إياك أن تخبري أحداً".

إرتدى أفضل ملابسة واخذ حمام دش في حمام المسجد، وقال لها:

"هذا الخاتم لك".

كل ما يملك وغادر المنزل بعصاه التي ما فارقته يوماً. ذاهب للموت كما لو الى حفل وعلى موعد، تابعته زوجته في الشارع في المساء حتى إختفي.عندما أقارن بين شخصية هاري في رواية "ثلوج كليمنجارو" للروائي (همنجواي) الذي يصاب برحلة بغرغرينا فوق الجبل الأفريقي ويهذي عن ماضيه ويشرب بإفراط، أجد أن "الشيخ محمد" أعظم من :

هاري يستسلم هو الآخر للموت حتى لا ينتظر طائرة الإنقاذ لكنه يحكي بصدق وفي واحدة من هذياناته يقول لزوجته: أنا لا أحبك، وتصاب بالذعر.

لكن الشيخ قال لها:

" كسرت ظهري. ستبقين وحيدة".

كان هاري المستلقي تحت شجرة ميموزا فوق سرير من الحبال فوق قمة جبل كليمنجارو الأفريقي يرنو الى السهل في الأسفل: السهل ضاج بالحياة ومتوهج. طيور كاسرة. ظلال متحركة. عشب حي. كل ما يتنافر مع رجل يموت. هاري يتكلم مع زوجته.

سلطة اللغة في مواجهة سلطة الموت. هو الآخر يعرف كل شيء إنتهى ولا ينتظر أحداً.الشيخ محمد أعزل ووحيد في عتمة الحقول لا يتكلم مع أحد، هو من قبل لا يتكلم مع أحد إلا في حالات نادرة، سيد الحقل والبراري، مروره في المكان يعطره من الدنس لكن فاطمة قالت لي بعد سنوات:

" مرة واحدة سمعته في الفجر يتكلم، وإختبأت في الجرن، وكان يردد مع نفسه:

" كلمات لم اسمعها من قبل وهو رافع وجهه الي السماء . في العتمة الفجرية هو في انتظار موت لا يأتي. في عزلة باردة وموت متردد، كان يتفسخ حياً في المرة الأخيرة التي زارته فيها فاطمة، لم يأت الموت وعندما يأتي سيرى عينيه في عتمة الحقل.لكنها لم تتحمل في ظهيرة ربيعية دافئة ومشرقة، فجاءت هلعة للحقل لتقول الحقيقة للرجال:

" تعالوا، الشيخ محمد يتعفن".هرع الجميع نحو تلك البقعة المنزوية في الحقل. نظرة عتاب محرقة نحو زوجته، كانت كافية لجعلها تتداعى.

المرة الأخيرة التي زرتها فيها بعد غياب فترة في الغربة " وقد هرمت وتعيش وحيدة قالت لي:

" لم أخنه يوماً إلا تلك المرة يوم فضحت سره، ونظرة عتابه القاسية لم تغب أبداً".مرة واحدة فقط، فاطمة، خنته بكشف سر موته..؟ من حسن حظ فاطمة انها ماتت قبل قدوم زمن مختلف. وداعًا

زمن سنقول عنه يوماً:

نحن سعداء لأننا عشنا في زمن يسمى زمن الشيخ محمد وفاطمة.

***

التوقيع الأخير لزمن نظيف من يوميات كاتب في الأرياف ..!!

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

بقلم: جوليا فيليبس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لافتة تحذر الناس من الدببة في ويسلر، كندا. انتشر مقطع فيديو على الإنترنت يسأل النساء عما إذا كن يفضلن مواجهة رجل أو دب أثناء وجودهن بمفردهن في الغابة، حيث اختارت النساء الدب بأغلبية ساحقة.

إذا كنت وحية في الغابة، فمن الذي تفضلين أن تقابليه: رجل لا تعرفيه أم دب؟ هذا السؤال، الذي طُرح على العديد من النساء في مقطع فيديو على تطبيق TikTok الشهر الماضي، أدى إلى انتشار مسألة الرجل والدب. و تكاد تجمع النساء على الإنترنت على تفضيل النموذج السمين المشعر الذي ينام خلال فصل الشتاء.

اسمحوا لي أن أوضح إذا كنت تعرف أشخاصًا ينطبق عليهم هذا الوصف: الدب. الجميع يختار الدب.

السؤال هو فرصة للنساء لمقارنة المخاوف، لمعرفة الخطر الأكبر الذي يلوح في الأفق. في مقطع الفيديو الذي أطلق هذا الاتجاه، طرحت سبع من النساء الثماني اللاتي أجابن بكلمة "دب" نفس المنطق: فالدب جذاب، كما يقلن، على وجه التحديد لأنه ليس رجلاً. تقول إحداهن: "الرجال مخيفون".

وبالنظر إلى البيانات، فإن هذه الإجابات معقولة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من ثلث النساء في جميع أنحاء العالم تعرضن للعنف الجسدي و/أو الجنسي، "ومعظمه على يد الرجال".(تخبرنا الإحصائيات أيضًا أن الرجل الذي لا تعرفه لا يمثل في الواقع أكبر تهديد قد تصادفه في الغابة. بل إن الرجل الذي تعرفه - شريكك الحميم، في معظم الحالات - هو الذي يشكل الخطر الأكبر). وفي الوقت نفسه، لا يتعرض سوى عدد قليل من الأشخاص على مستوى العالم للأذى من الدببة في عام معين.

ومع ذلك، فإن تقييم المخاطر ليس هو الطريقة الوحيدة للإجابة على هذا السؤال. من الواضح ما هو المخلوق الذي تخاف منه النساء أكثر. ولكن ماذا عن أي مخلوق نحبه أكثر؟ هل هناك من هي مهووسة بالحصول على الدب؟4160 الدب

هذه الفكرة ليست جديدة، فقد اختار الناس صحبة الحيوانات المفترسة من قبل. منذ أكثر من 30 ألف عام، بدأ الصيادون وجامعو الثمار في تدجين الذئاب.  لقد اختاروا حيوانًا آكلًا للحم كبيرًا ليكون شريكًا لهم في الصيد وحارسًا في المنزل ورفيقًا مخلصًا بشكل عام. وفي آلاف السنين منذ ذلك الحين، ذهبنا إلى أبعد من ذلك حيث  يسبح الناس مع أسماك القرش، ويحتفظون بأفعى البواء في خزانات في غرف معيشتهم وينشرون صورًا شخصية ملتقطة مع النمور في ملفاتهم الشخصية على Tinder.

لقد لاحقت النساء الحيوانات الخطرة لنفس الأسباب التي دفعتهن إلى إقامة علاقات مع الرجال. للترفيه والصداقة والدعم. من أجل الحب. من أجل .... المزيد ؟ إن فكرة دخول امرأة في علاقة غرامية مع دب هي فكرة جامحة، لكنها مدعومة بقصص عن العلاقات بين الإنسان والحيوان التي تم سردها عبر التاريخ.

من المحتمل أنك كبرت وأنت تسمع قصصًا قبل النوم عن نساء متورطات عاطفيًا مع مخلوقات. الأساطير اليونانية مثل ليدا والبجعة ويوروبا والثور؛ القصص الخيالية مثل "الجميلة والوحش" و"الأمير الضفدع". في الواقع، هناك العديد من الحكايات التي تناسب الوصف الرومانسي للمرأة والحيوان، لدرجة أن علماء الفولكلور يصنفونها في فئة "الحيوان كعريس". في الآونة الأخيرة، ربما تكون قد شاهدت الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار "The Shape of Water"، والذي تدور أحداثه حول امرأة تقع في حب حيوان برمائي، أو قرأت رواية راشيل إنجالز القصيرة "Mrs. Caliban، وهو نفس الشيء تقريبًا، لكنه نُشر قبل 35 عامًا من ظهور الفيلم.

تختار النساء في هذه القصص حيواناتهن بسعادة، وعن طيب خاطر، لأن اختيار الحيوانات يعني ترك المجتمع وراءهن. في مثل هذه القصص، غالبًا ما تقع النساء في فخ الأعمال المنزلية. إذا كنا شركاء، فهن ربات بيوت وأمهات في المنزل، مكلفات بأعمال منزلية لا نهاية لها؛ إذا كن عازبات، فهن أمناء مكتبات وحيدات أو طالبات دراسات عليا مثقلات بالديون عالقات في مكاتبهن عالمهن من صنع الإنسان، ويتضمن مزيج الكعك والعمل العاطفي. إنهن لا يخافن من الرجال، لقد سئمن من العيش في ظل النظام الأبوي.

لذلك قررن الابتعاد عن عالم الرجال تمامًا. يذهبن للدب. ولعل المثال الأفضل والأكثر إثارة للصدمة في فئة الحيوان كعريس هو رواية "الدب" التي صدرت عام 1976 للكاتبة الكندية ماريان إنجل. في نهاية علاقة شخصيتها الرئيسية الساخنة مع هذا الحيوان، كتبت إنجل: "  أو للحظة حادة وغريبة يمكن أن تشعر بها في مسامها وطعم فمها الذي عرفت من أجله العالم. لم تشعر أنها أصبحت إنسانًا في النهاية، لكنها أصبحت نظيفة في النهاية. نظيفة وبسيطة وفخورة."

بالتأكيد لا ينبغي عليك السير على خطى هؤلاء النساء الخياليات، ولكن عليك أن تأخذ وجهة نظرهن بعين الاعتبار. هناك عالم، ولو في الخيال فقط، حيث وجدت النساء وجودًا أكثر نظافة وبساطة وأكثر حرية. من الغريب أنه يأتي مع محبي الحيوانات، لكن ماذا يمكنني أن أقول؟ الخرافات والحكايات الخرافية غريبة.

إن القصص التي نرويها لبعضنا البعض عن الجمال والوحوش تعيد تعريف مسألة الرجل مقابل الدب. وبدلاً من مقارنة خوف بآخر، فإننا نزن رغباتنا. هل تختار أقل شرا أو المزيد من المغامرة في حياتك؟ فكر في سؤال TikTok بهذه الطريقة: إذا كنت وحدك في الغابة، فهل ستركز على الخروج، أم تريد أن ترى ما هو ممكن عندما تتعمق أكثر؟

***

....................

* جوليا فيليبس /  Julia Phillips زميلة جوجنهايم ومؤلفة الكتب الأكثر مبيعًا. ومن المقرر أن يصدر كتابها القادم "Bear" في 25 يونيو.

https://www.latimes.com/opinion/story/2024-05-08/man-versus-bear-tiktok-meme

نحنُ أبناءُ الغُيُومِ الذِينَ وُلِدنَا فِي يَومٍ مَجهُولٍ وسنوَاتٍ مَجهُولَةٍ كَأَزهَارِ البَريةِ، مِن أُمهَاتٍ بِلَا تَارِيخٍ مِيلَادٍ ومِن آبَاءٍ هَبَطُوا مِن الغُيُومِ، وماتُوا دُونَ أَنْ يَعرِفُوا متَى عَاشُوا، انطفَأُوا كَنيازِكَ فِي الظلَامِ، كَمَا سنَنطفِي يَومًا .سكَنا فِي وطنٍ لَا نعرِفُ لِمَن، وحَاربنَا دُونَ أَنْ نَعرِف لِماذَا، وقَتلنَا دُونَ انْ نَعرِفُ السببَ وأحببنَا بِبرَاءَةٍ بِلَا أَهدَافٍ، ومَشينَا فِي شوَارِعِنَا الضيقةِ المُلتوِيةِ كَمَا يَمشِي الغُربَاء، وجلَدنَا لِأَننَا حاوَلنَا أَنْ نَكُونَ كَمَا نُرِيدُ لَا كَمَا يُرَادُ، وسكنَا فِي غُرفٍ بِجِوَارِ حظائِرِ الموَاشِي وَالطيُورِ ومعَ العصَافِيرِ علَي شبَابِيكُ غُرَفَ النوْمِ ، وخرجنَا منْ المدَارسِ نَهتِفُ يَوْمَ رَحِيلِ الرئِيسِ أي رئيس، وهتفنَا مثلَ العصَافِيرِ  لِلْمَطَرِ:

" يَا مَطَرُ رَخِي رَخِي عَلَي ارْعَتْ إِبْنَ أُخْتِي" نَحْنُ الّذِينَ نُبَاعُ فِي الِانتِخَابَاتِ ونُبَاعُ مِنْ نِظَامٍ الَى آخَرَ كمَا تُبَاعُ الْقَطِيعُ مِنْ الأغنَامِ، أَبْنَاءُ العتمَةِ والغِيَابِ والصمتِ والغُرُوبِ ، كُنا نُمَزقُ صُور الزُّعماءِ بَعد رَحِيلهمْ أَيْ كَانَ الرحيلُ..؟ فِي الصباحِ نَعْرِفُ انْ انقِلَابًا حَدَثَ وقتْلَ رَئِيسٍ وَجَاءَ آخَرُ ومَناهِجُ جَدِيدَةٌ ونَشِيدٌ وطنِيٌّ جدِيدٌ وصُوَرُ وقوانِينَ جَدِيدةٍ ،،كَيْفَ يَتَوَازَنُ الطفْلُ علَى قِيَمٍ ومبَادِئ وتقالِيدَ ومنَاهِج مُتَغيرةٍ كُلَّ مرَّةٍ..؟

فِي المَسَاءِ، قَبْلَ العِشَاءِ ، علِمنَا مِنْ نَشرةِ الأخبَار أَن جيشَنَا دَخَلَ فِي حَرْبٍ وَصَارَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، ونَحنُ اصبحنَا جُنُوداً ونَحنُ اطفَالٌ بِدَعوَةِ الإِحتِيَاطِ قَبْلَ نَزْعِ سَرَاوِيلِ النومِ، لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ لِمَاذَا ثُمَّ عَلِمْنَا انْ جَيْشَنَا سُحِقَ فِي الْحَرْبِ وَنِصْفِ جُنُودِنَا لَمْ يَعُودُوا وَلَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا انْتَصَرْنَا وَلِمَاذَا هَزَمنَا وَحَوْصِرَا رُبْعَ جَيْشِنَا فِي سَيْنَاء وَلَا لِمَاذَا لَمْ يَعُدْ جُنُودُنَا وَلَا أَيْنَ ذَهَبُوا، وَطَلَبُوا مِنَّا الذَّهَابَ لِلْإِحْتِفَالِ بِالْهَزِيمَةِ بِثِيَابِ النَّصْرِ،لَمْ نَعْرِفْ لِمَاذَا حَوْصِرْنَا فِي الدِّفَرْسُوَارِ وَلِمَاذَا نَتَسَاقَطُ فِي الشَّوَارِعِ مِنْ الْامْرَاضِ فِي الْقَتْلِ الْأَبْيَضِ بِلَا دَمٍ؟

حَرِمْنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَمِنَ الْآجُوبَةِ وَمِنَ الصَّمْتِ وَمِنَ الْكَلَامِ وَمِنَ الْحُلْمِ، وَمِنْ النَّوَايَا" السَّيِّئَةِ" وَحَتَّى مِنْ الْأَحْلَامِ الْمُعَادِيَةُ". وَتَحَوَّلَتْ أَجْسَادُنَا الَى حَاوِيَةِ نُفَايَاتٍ مِنْ الِاحْلَامِ الْمُجْتَرَّةِ وَالْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَتَجَوَّلُ فِي شَوَارِعِ كَهَايْكِلْ صَامِتَةً رَغْمَ ضَجِيجٍ وَفَوْضِيٍّ عَارِمَةٍ فِي شَوَارِعَ مُبَاحٍ فِيهِ كُلُّ أَنْوَاعِ الْفَوْضِيِّ، ثُمَّ قَالُوا لَنَا فِي التِّلْفَازِ إِنَّ "التَّتَارَ الْجُدُدَ" قَادِمُونَ مِنْ خَلْفِ الْحُدُودِ وَعَلَيْنَا الْإِسْتِعْدَادُ لِحَرْبٍ لَا نَعْرِفُ عَنْهَا شَيْئًاً، وَأَهْدَافٌ لَا نَفْهَمُهَا وَأَنْ نُدَافِعَ عَنْ وَطَنٍ كُنَّا حَشَرَاتٍ فِيهِ تَزْحِفُ، بِلَا كَرَامَةِ الْحَشَرَاتِ وَلَا هَيْبَةِ الْجُدْرَانِ الْعَالِيَةِ وَلَا لِمَعَانِ السَّكَاكِينِ.

نَحْنُ جَمِيعًاً مَشْرُوعُ قَتْلَى أَوْ مَوْتًى يَوْمًا بِالتَّقْسِيطِ كَخَرَّافٍ تَرْعَى مُطْمَئِنَّةً فِي حَقْلٍ لِلْمَسْلَخِ، بِالرَّصَاصِ اوْ الْأَمْرَاضِ اوْ التَّلَوُّثِ أَوْ الْإِنْهِيَارَاتِ النَّفْسِيَّةِ.نَحْنُ يَتَامَى التَّارِيخَ وَالْآوِطَانَ وَالسِّيَاسَةَ وَالْأَرْضَ وَالثَّرْوَةَ وَالْمُسْتَقْبَلَ، رُكَّابٌ قِطَارٌ مَاتَ سَائِقُهُ وَلَا نَنْتَظِرُ سِوَى الْإِرْتِطَامِ الْأَخِيرِ، مَتَى يَأْتِيَ الْإِرْتِطَامُ الْأَخِيرُ كَيْ تَنْتَهِيَ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الْمُمِلَّةُ..؟

كُنَّا مَحْرُومِينَ مِنْ السُّؤَالِ وَمَحْرُومِينَ مِنْ الْجَوَابِ، لِأَنَّنَا قَبْلَ زَمَنِ الْآلَاتِ الْحَدِيثَةِ ، بُرْمَجِنَا عَلَى الصَّمْتِ وَعَلَى النِّسْيَانِ، نِسْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مَنْ نَكُونَ وَلِمَاذَا نَكُونُ لِأَنَّنَا أَشْيَاءُ، لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُفَكِّرُ وَيُخَطِّطُ وَيَحْلُمُ وَيُتَوَهَّمُ بِالْإِنَابَةِ عَنَّا.نَحْنُ الْهَامِشُ الْفَائِضُ عَنْ الْحَاجَةِ وَالرَّقْمِ فِي بَلَاغَاتِ الْقَتْلَى،الْمَدَنِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَفِي خِطَابَاتِ الْآحْزَابِ الْوَهْمِيَّةِ وَفِي احْتِفَالَاتِ الْقَادَةِ:

" نَحْنُ حِزْبُ الضَّحَايَا "، لَمْ نَسْقُطْ فِي مَعْرَكَةٍ حُرِّيَّةٍ وَلَمْ نُقْتَلْ وَنَحْنُ فِي الطَّرِيقِ الَى تَارِيخٍ مُخْتَلِفٍ، وَلَا وِلَادَةَ حِكَايَةِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ تَبْزُغُ غَدًا، بَلْ قُتِلْنَا تَحْتَ الْأَحْذِيَةِ فِي السَّرَادِيبِ وَالْأَقْبِيَةِ دُونَ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدُنَا سِرَّ ثَوْرَةٍ .

نَحْنُ أَبْنَاءُ الْغُيُومِ نَجْلِدُ كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ عِصِيِّ التَّارِيخِ وَالْخُطَبَاءِ وَالْقَادَةِ وَالدُّوَلِ الشَّقِيقَةِ وَالصَّدِيقَةِ، وَالْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ وَالْغَنِيَّةِ وَالْفَقِيرَةِ، وَالْأَحْلَامِ الْمُتَفَسِّخَةِ، وَالشَّرِكَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ وَالْبَرَامِجِ وَالْآوْهَامِ وَالْعِصَابَاتِ وَالْمَرَضِ ، وَتَمُصُّ شَرَايِينَا بِكَامِلِ الصَّحْوِ وَالْعَلَنِيَّةِ وَأَطْفَالُنَا يَبْحَثُونَ فِي الْمَزَابِلِ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ لَنْ نُشَارِكَ فِي صُنْعِهِ وَحَيَاةٍ لَا عَلَاقَةَ لَنَا بِهَا، وَأَرْضٌ لَمْ يَعُدْ يَرْبِطُنَا بِهَا سِوَى الْحِذَاءِ.

نَحْنُ الْأَمْطَارُ الْحَجَرِيَّةُ وَالْعَوَاصِفُ الْحَمْرَاءُ الْمُغَبَّرَةُ، نَحْنُ الشَّوْقُ الرَّاعِشُ لِلْحَنِينِ وَالْمَسَرَّةِ وَالرَّغِيفُ الْحَارُّ مِنْ الْآفْرَانِ الْبَلَدِيِّ وَالْآمَالِ الْخَائِفَةِ وَنَوْمِ الْعَافِيَةِ.

كُنَّا نَذْهَبُ الَى حَفْلُ الْعُرْسِ بِكُلِّ صَفَاءٍ وَنَذْهَبُ فِي مَوْكِبِ الْجِنَازَاتِ بِكُلِّ صِدْقٍ، نَتَأَلَّمُ مَعَ كُلِّ حَالَةٍ وَلِآدَةٍ مُتَعَثِّرَةٍ وَنُطْلِقُ الْآهَااَاتِ مَعَ الطَّلْقِ، وَنَمْشِي فِي جِنَازَاتِ الْغُرَبَاءِ بَاكِينَ.حُزْنُ الْغُرَبَاءِ. نَحْنُ الْوَجَعُ الْمَخْفِيُّ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالدُّمُوعِ الْحَبِيسَةِ وَالْخَوْفِ الْمُزْمِنِ. نَحْنُ الْأَلْقُ الْمُضِيءُ فِي الظَّلَامِ الْمُهْمَلِ وَالْآشِيَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي الطُّرُقَاتِ، نَحْنُ أَبْنَاءُ الرِّيحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالْغُرُوبِ.فِي لَيْلَةِ ظَلَامٍ دَامِسٍ ،،بِلَا كَهْرَبَاءِ ،مِصْرَ الْجَمِيلَةِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانِ وَالْعَبْقَرِيَّةِ الْمُضِيئَةِ، الْغَنِيَّةِ الثَّرِيَّةِ، السَّخِيَّةِ، الْبَهِيَّةِ، الشَّقِيَّةِ، النِّيلِيَّةِ وَالْمَنَارَةِ لِطُرُقِ الْعَتَمَةِ عَبْرَ التَّارِيخِ.حَرَامٌ وَأَلْفٌ حَرَامٌ أَنْ نَعِيشَ بِدُونِ أَنوارٍ.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

الطموح هو موضوع متكرر في العديد من مسرحيات شكسبير، حيث يستكشف عواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. في جميع أعماله، يتعمق شكسبير في تعقيدات الطموح، سواء كان مثيرا للإعجاب أو خطيرًا، وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. في هذا المقال، سوف ندرس كيف يتم تصوير الطموح في مسرحيات مختلفة لشكسبير والنتائج المختلفة التي يؤدي إليها لشخصياته.

أحد أشهر تصويرات شكسبير للطموح هو في مسرحيته ماكبث. يقود البطل، ماكبث، طموحه ليصبح ملكا وهو على استعداد لارتكاب جريمة قتل لتحقيق أهدافه. يقوده طموحه إلى طريق مظلم ودموي، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطه وموته. يستخدم شكسبير طموح ماكبث لاستكشاف موضوعات القوة والشعور بالذنب والمصير، مسلطا الضوء على الطبيعة المدمرة للطموح غير المقيد.

في مسرحية أخرى، يوليوس قيصر، يفحص شكسبير طموح الشخصية الرئيسية وعواقبه على نفسه وعلى من حوله. يؤدي طموح قيصر إلى السلطة في النهاية إلى اغتياله على يد صديقه الموثوق به، بروتوس. يصور شكسبير طموح قيصر على أنه مثير للإعجاب وخطير، ويسلط الضوء على الخط الرفيع بين الطموح والطغيان. تعمل المسرحية كقصة تحذيرية حول مخاطر الطموح والحاجة إلى التوازن في السعي وراء السلطة.

يستكشف شكسبير أيضا موضوع الطموح في مسرحيته عطيل، مع التركيز على شخصية ياجو. طموح أياجو لتدمير عطيل والتلاعب بمن حوله هو المحرك للأحداث المأساوية في المسرحية. يؤدي طموحه غير المقيد إلى الخداع والخيانة وفي النهاية الموت. من خلال أياجو، يكشف شكسبير عن الجانب المظلم للطموح وقدرته على إفساد الأفراد وتدمير العلاقات.

في مسرحية أخرى، ريتشارد الثالث، يصور شكسبير طموح الشخصية الرئيسية القاسي ليصبح ملكا بأي ثمن. إن طموح ريتشارد يدفعه إلى ارتكاب أفعال شنيعة، بما في ذلك القتل والخداع. يستخدم شكسبير ريتشارد الثالث لاستكشاف عواقب الطموح الجامح والمدى الذي سيذهب إليه الأفراد لتحقيق أهدافهم. يعمل سقوط ريتشارد كتحذير من مخاطر الطموح بدون أخلاق أو ضمير.

يفحص شكسبير أيضا موضوع الطموح في كوميديته الليلة الثانية عشرة، من خلال شخصية مالفوليو. يؤدي طموح مالفوليو للثروة والمكانة إلى إذلاله وسقوطه. يستخدم شكسبير مالفوليو لتسليط الضوء على عواقب الطموح الأعمى وأهمية التواضع والوعي الذاتي. تعمل المسرحية كتذكير بأن الطموح يجب أن يكون معتدلاً بالحكمة والأخلاق لتجنب النتائج السلبية.

في هاملت، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية كلوديوس. يقود طموح كلوديوس إلى السلطة إلى قتل شقيقه الملك هاملت والزواج من أرملته جيرترود. يصور شكسبير كلوديوس كشخصية متلاعبة ومخادعة يؤدي طموحها غير المقيد في النهاية إلى سقوطه. من خلال كلوديوس، يفحص شكسبير عواقب الطموح والطبيعة المدمرة للجشع والسلطة.

في هنري الرابع، الجزء الأول، يستكشف شكسبير موضوع الطموح من خلال شخصية الأمير هال. يدفع طموح هال ليصبح ملكا إلى التمرد ضد والده الملك هنري الرابع، وإثبات نفسه كخليفة جدير. يصور شكسبير هال كشخصية معقدة طموحها مثير للإعجاب وأنانية. تعمل المسرحية كقصة بلوغ سن الرشد حول تحديات الطموح والحاجة إلى النضج والمسؤولية في السعي وراء السلطة.

يعد الطموح موضوعا متكررا في مسرحيات شكسبير، حيث يفحص تعقيدات وعواقب الطموح غير المقيد على الشخصيات والمجتمعات. من خلال شخصيات مثل ماكبث، ويوليوس قيصر، وأياغو، وريتشارد الثالث، ومالفوليو، وكلاوديوس، والأمير هال، يتعمق شكسبير في الطبيعة المظلمة والمدمرة للطموح وتأثيره على الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين. إن استكشاف شكسبير للطموح يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة والجشع، ويذكر الجماهير بأهمية التواضع والأخلاق والوعي الذاتي في السعي وراء الطموح.

***

محمد عبد الكريم

 

إلى روح خالي الغالي "غسان محمد المجذوب"

الموت.. تلك الرسالة المجهولة التي لا يأتيك بها ساعي بريد، ولا وسيلة أطرف حداثة، تحس به حولك، ومع ذلك تنسحب باطمئنان إلى مساعيك اليومية، تدعه، وأنت تراه قد جثم فوق عزيز لك، ولست تملك نحوه سوى النظر، والتمتمة بالدعاء، وطلب التخفيف عن المصاب به.

أهو داء تبتلى به، أم أنه الذي تعجزك أشرس الأسلحة عن مقاومته، أم هو شيء لذيذ يتجوّل كالخدر، وهو يكشف أمامك ما سرد لك في الكتب دينية، وغير دينية، متخيلة، أو مستنسخة من وادي عبقر.

لم يكن من إشارة اليوم لطفل يبتسم مداعبا، أو لحمامة حول الشباك ترفع رأسها تبشر بالسلام كما نُسب إلى.. أو أخبر بعض من عادوا بعد أن انصبّوا عبر النفق الطويل يتلمسون ضوءا شاحبا ينوء في نهايته فتيل شاحب.. ليس من شيء سوى المصاب به، هادئ هو، متلاشي الحضور إلا من أنفاس تلهث في صدره المنخور عجزا، ونحولا.. حوله من يبكي، ومن يتلو، من يدعو، ومن يفكر متى ستنقضي الساعة، ومن يفكر بأشياء أخرى لا يخاصرها عالم اللحظة الشائك..4145 امان السيد

ولعلي أنا الذي بصمت كان يتابع، وبالتمنيات الطيبة يتمتم أن يعبر بسلام، وقد استذكر أصناف الموت كلها التي تلقفها، وأسرَتْ فيه هدوءا لا مثيل له إزاء هذا المشهد الجليل، لينتشل نفسه بلأيٍ، ويفلتها لفضائه..

هناك حيث لا كلمات، ولا تلفاز، لا شيء سوى أفكاري أنضددها، وأنا أرتب ما تسوقته من متاع الغرور.

الموت رديف الصمت المحرض على الصمت، تسكت الأجراس المعتادة في رأسي الذي لا يملّ من الطنين، لأتقبل خبر الوفاة بتريث الحكيم، الذي تلبّسه العقل مبكرا جدا.

أرنو من وراء ستارة خلبية، وقد سحبه إليه بجناحين تطويان حكاية وطؤها ثقيل، لكن عينيه الزرقاوين لم تلبثا أن أومضتا لي غزيرتين.. باقتان من نجوم وديعة..

" يباشر.. الموت"

*

و.. أتراك تعلم أن الموت لا ينتهي سريعا، إذ ليس روحا تغادر، ولا جسدا ينطفئ، ولا عيونا تنسدل على الكتمان.. إنه سلسلة تسلم قيادها لعاقل، يتمرّس به التدبر، والتقليب.. وتختلف الطرق، فما بين أن تنهال الجرّافات هنا بالتراب على جسد استغنى عنك، وما بين فؤوس هناك في وطنك الأم يفتقد الدفن شفافيته، ويتشظى به حنينه.

هنا حيث تصلي النساء مع الرجال، وراءهم، على بعد خطوات، بحماية جدار، في مبنى منفصل.. ليس مهما، المهم أنهن يحصلن على حق لهثن حوله مذ خلقن، يصلين على الفقيد، ويتجمعن في بيت من بيوت الله لتطييب الخاطر، أما المغسل، فلقد فررت منه، دون أن أعلم بوقته، فررت، وحتى لو علمته، فإني سأفرّ منه، ومن الطقوس الشبيهة كلها سأفرّ..

هنا في المقبرة التي تحمل مسمى أجنبيا، غريبا عنك، تختلف عنه مقبرة "المَغربي" التي تقابل بيتك في الوطن شلفَ حجر، أو كيلومترا، ولكنك لا بد أن توقّع بامتنان وتقدير لروعة التنظيم، والاحتفاء البشري، ولسكائب حقول الزهور الثرية الألوان والفوح التي شتلت فوق القبور، ولمشاعر أخرى تنبثق فيك معها..

قد تشتهي فنجان قهوة، وأنت تجالس في تداعياتك مقعدا من مقاعد حديقة " البَطرني" ومثيلاتها من الحدائق العامة التي تجولت فيها هناك أيضا، وأنت تراقب من بينك وبينهم خطوات، وتبتسم وأنت تتساءل: أهم الأموات، أم أنت أيها الغريب الذي دعوت يوما على نفسك أن تموت ملفوظا، وهل سيستجيب الله لك دعاءا مريرا رجوته تحت ضغطة قيد، وفتكة معصم؟!

أهم الأحياء، أم أنت الذي عندما تشتهي فنجان قهوة، سترتشفه على الفور.. وهل هم نسوا رائحة قهوة الصباحات، أم مجّوها، لأن هناك طيورا ألزمت بها أعناقهم قد حان الوقت لهبوطها، ولفتح الدفاتر، ولتجريدها من اللحم حتى العظم، ثم في كفتين وزنها...

أيها المسكين، وماذا لو مالت إحدى الدفتين قيد شعرة؟!..

هل في تلك اللحظات سيقدّر للميت أن يستقوي بحكاية المجرم المذنب الذي اجتمعت ملائكة الموت لتحصد أعماله، وعندما اختلفت قيست خطواته إلى أي اتجاه كانت الأقرب، إلى رقعة الشر، أم إلى رقعة الخير، ليفوز حصانه بقصب السبق؟!

" يوم يلي الموت"

*

ها هم يتنادون فرادى، وجماعات في ذلك المنأى الذي لن يصل إليه أحدهم راغبا لو أراد الاكتشاف، أو شاعرا لو أنه أراد قصيدة، نفرت منه حيث الشمس والقمر يتشقلبان بمحبة وتساق، وبتناغم لا يرتقي إليه الغائبون، مكرها سيستقبله، مصرُورا كسجادة فارسية، شامية، يتساوى انتماؤها، نفضت عنها زخارفها، فالتزمت الصمت تجاه اشتهاء الدنيا، وغرائزها العصية على الشجب، أو على الإخراس..

من الذي أخبرهم بالمستجدّ، أمن جواب غير أن البصر اليوم حديد، وأن التحية سُنّة، والواجب أن يُحيّا الوافد بأفضلها، هم الذين لطالما تنازعوا فحرثوا الأرض أنانية، وكرها  ينفضون غبار الكدر، ويتشافون بمعين الصفاء والسلام في العالم الجواني، لبّ الجواني، أعماقه، دخائله العصية على الإدراك، والرضية قبولا، بل استسلاما..

في العالم الأثيري ستطفو الأرواح عزيزة رغم ما سبق منها، أوليست من نفخ روح الله تسلسلا، وهناك ستنطلق النفس بحرية بعيدا عن ملاكها الحافظ، إذ آن أوان الانفلات من كل قيد دنيوي، وسيُستعذب تطواف، وسيتعثر آخر..

أيها الوافد ستلتحق بالركب حثيثا، وسيعمر بك المقام، ولكن ماذا بشأنك، أنت الذي تذوقت لذة الاعتزال، وانتأيت بك حين استمطار الأرواح أصابك بالعناء...

رغم استثناءاتك كلها، لا مفر، ففي التراب استُودعت عجنا طريا لن يلبث أن يعتدّ به اليباس لخلود حقيقي، وحاذر التمرد، فالوجوه التي تُعرّى لا تستر أبدا...

".. وبعده.. الفراغ"

***

أمان السيد - كاتبة سورية / أستراليا

 

في المثقف اليوم